د خبر تفصیل
محمد حسين فضل الله في عيون خصومه
خالد بن محمد البديوي
أول لقاء جمعني بالمرجع الراحل محمد حسين فضل الله كان في مارس 2003، وفي أول الأمر كنت أظن أن اللقاء معه سيكون صعباً كما اعتدت على ذلك مع كثير من المبرزين الذين عرفتهم، لكنني عندما اتصلت بأحد الأرقام المدونة في موقع فضل الله الإلكتروني، تلقيت رداً مباشراً من شخص وبعد أن عرفته بنفسي وحاجتي للاتقاء بفضل الله قاطعني وطلب مني الانتظار، ثم كلمني شخص آخر أجش الصوت ومن الواضح أنه كبير السن، فأعدت له نفس الكلام، فقاطعني وقال أنا محمد حسين فضل الله ما المطلوب؟ تلعثمت أولاً.. ثم أخبرته برغبتي في الاتقاء به لأنّني سأتطرق لآرائه في بحثي لمرحلة الماجستير، الذي طبع لاحقاً بعنوان "أعلام التصحيح والاعتدال في صفوف الإمامية"، فجاء تحديد موعد اللقاء بسهولة.
أذكر أنني عندما وصلت إلى حارة حريك في بيروت حيث يسكن فضل الله، انتابني شيء من القلق لِما رأيت من الحراسة المشددة هناك، فليس بيت المرجع هو المُطَوَّق وإنما الحارة التي يسكنها كلها مطوقة بسياج حديدي ولا يُستطاع الدخول إليها إلا عبر بوابة يتم تفتيشك عندها بشكل دقيق.
لم يكن فضل الله هو المتعاون معي فحسب، بل العاملون معه أيضاً، إلى درجة أنهم لم يترددوا في تزويدي بما لديهم من مقالات أو كتب حتى لأولئك الذين ينتقدون مرجعهم محمد حسين فضل الله.
خصومه ومحاولات وأده في حياته
عندما اطلعت على أقوال منتقدي محمد حسين فضل الله أدركت شدّة الحملة عليه، فهذا وحيد الخرساني، وهو من المراجع المعاصرين، يصف آراء فضل الله بأنها "إضلال عن سبيل الله وإفساد في الطريقة الحقة" (الحوزة العلمية تدين الانحراف-القسم الثالث/وثيقة 11)، كما وصف فضل الله بأنه "ضال مضل", وصرح الخرساني في أحد مجالسه العلمية بقوله: "يجب على جميع المؤمنين، كل بحسب وسعه وقدرته إسقاط فضل الله"! وعندما سأله أحد الحضور: هل نقتله؟! أجابه: "كلا"، ثم يعقب بما يكشف بأن ذلك ليس لحرمة دمه، فيقول: "لأنه إذا قتل فستصبح أفكاره أكثر شهرة ورواجاً، والواجب هو القضاء على أفكاره ومنع انتشارها" (فتنة فضل الله/فصل الموقف من الفتنة).
وأما المرجع جواد التبريزي فقد وصف آراء فضل الله بأنّها "خلاف المسلمات بل ضروريات المذهب الحق, وقائلها خارج عن طريقة المذهب الاثني عشري, وأن فضل الله ومن يسهم في نشر أقواله يدخلون في عنوان: من يشري مرضاة أعدائنا بسخط الخالق" (الحوزة العلمية تدين الانحراف - القسم الثالث/وثيقة12).
أما المرجع محمد تقي بهجت فقد صرح "بأنّ فضل الله مشروع وهابي ينخر في كيان التشيع من داخله" (فتنة فضل الله/فصل الموقف من الفتنة).
كما اعتبر الشيخ علي السيد حسين يوسف مكي أن فضلَ الله "يشكل خطراً كبيراً على التشيع وعلى الفكر الشيعي وعلى أسسه وقواعده وعقائده وشرائعه وتاريخه" (انظر رسالته للتريزي والخرساني, الحوزة العلمية تدين الانحراف، ص 175 و176/وثيقة20 و21).
واعتبر محمد الصدر أن فضل الله يحمل "مشروعاً خطراً", حقيقته: "تغيير الشخصية الشيعية باستبدال عقيدتها الأصلية بعقيدة مزيفة" (ردود المرجع الديني السيد محمد الصدر على الشبهات البيروتية ص3/دار الملاك الأصيل-بيروت/مصور ضمن ملاحق كتاب الحوزة العلمية تدين الانحراف).
وفي بيان الحوزة في (قم) اعتبروا أقواله "ضلالاً وإضلالاً" و"إنكار لضروريات المذهب" (الحوزة العلمية تدين الانحراف - القسم الثالث 179-181).
كما أصدرت الحوزة العلمية في أصفهان بياناً جاء في عنوانه: "انحرافات الضال المضل فضل الله" (الحوزة العلمية تدين الانحراف - القسم الثالث 169).
أما محمد باقر الصافي، مؤلف كتاب فتنة فضل الله، فقد أوغل في ذم فضل الله فنعته بأنه "صاحب فتنة", وأنه صاحب "دور خبيث".
وقد فهمت وقتها أن هذه الأقوال تشير إلى شدّة الخلاف الواقع بين هذا الفريق وبين محمد حسين فضل الله وأن هؤلاء كانوا يستشعرون خطراً حقيقياً في آراء فضل الله.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الآراء التي تبناها فضل الله وجعلت هذا الفريق يتبنى هذا الموقف المعادي منه؟
لعل من أبرز مآخذ منتقدي فضل الله أنهم اعتبروه ممن يشكك في الضروريات التي يعتقدونها.
فعندما شكك فضل الله في صحة روايات كسر ضلع فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) وقتل جنينها على يد عمر (رضي الله عنه)، مستبعداً أن يحدث ذلك لأن الروايات التي تذكر الحادثة تخبر بوجود علي (رضي الله عنه) في المنزل، وليس علي (رضي الله عنه) فقط بل معهم بني هاشم كلهم، فالتسليم بهذه الرواية يؤدي لاتهام علي بالجبن وتخاذل أهل البيت عن نصرة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا ما دعا فضل الله للتشكيك دون النفي القاطع.
ومع أن هذه جزئية تاريخية إلا أن كثيراً من الذين ردّوا على فضل الله اعتبروها من الضرورات التي لا يسوغ إنكارها, فقد حكم المرجع التبريزي على محمد حسين فضل الله بالخروج من المذهب بمجرد تشكيكه في هذه القضية (الحوزة العلمية تدين الانحراف26. وانظر وثيقة ص259).
كما أن قول محمد حسين فضل الله "إن الإمامية من المتحول" وليست من ضرورات الدين التي توجب الخروج من الإسلام, ووصفه الإمامة بأنها من (المتحول) الذي يدور في فلك التوثيق والتضعيف، أقول: هذا القول أحدث ضجة كبيرة ضد المرجع فضل الله عام 1418هـ وفتح عليه باباً واسعاً لمحاولة إسقاطه، فقد اعتبره بعض خصومه ممن يشكك في القطعيات, وذهب المرجع الخرساني في ردّه إلى درجة بعيدة حينما قال في معرض ردّه على فضل الله: "إلقاء الشك فيها [يعني الإمامة] نقض للغرض من الخلقة والبعثة" (انظر الحوزة العلمية تدين الانحراف/القسم الثالث ص147/ وثيقة11).
كما أن منتقدي فضل الله أخذوا عليه قوله في الشفاعة وعدم مشروعية اتخاذ الوسطاء في الدعاء، حيث أكد فضل الله أنّ المؤمن "لا يسأل غيره [أي الله] فيما يريد سؤاله, ولا يطلب حاجته من غيره, ولا يدعو أحداً سواه, ولا يشرك أحداً معه في رجائه, ولا يتفق معه في دعائه, فهو المدعو في وحدانية الدعاء" (تفسير من وحي القرآن/تفسير الفاتحة).
وقد ردّ آية الله تقي القمي قولَ فضل الله بنفي الحاجة للوسطاء بين الله وخلقه في طلب الحاجات, وعدّ كون الأئمة وسطاء في طلب الحاجات من ضروريات الدين, فقال: "أما جعل الأنبياء والأئمة عليهم السلام والأولياء وسطاء إلى الله لقضاء الحوائج, فمما لا إشكال فيه ثبوتاً, كما أن الأدلة كافية لإثبات المُدْعَى, والسيرة بين المسلمين جارية على المنوال المذكور, وكل من ينكر هذا الأمر فقد أنكر ضرورة من ضروريات المذهب بل الدين" (الحوزة العلمية تدين الانحراف/ملحق الوثائق الجديد ص7).
وما ذكره القمي هنا غاية في الغلو؛ لأن مقتضى كلامه كفر من قال لا إله إلا الله ولو قام بجميع فرائض الإسلام, ما لم يقر بكون الأنبياء والأئمة وسطاء في طلب الحاجات، لأنه في نظره أنكر لضروري من ضروريات الدين.
ومن أبرز مواضع الخلاف بين فضل الله ومناؤيه مسألة الولاية التكوينية –أي اعتقاد تصرف الأئمة بالكون، حيث أنكرها فضل الله مبيناً أن دور الرسل والأنبياء هو دور دعوي تشريعي, وليس دوراً إدارياً للكون (تفسير من وحي القرآن – سورة المائدة- آية 48/49). ورأى فضل الله أن الرسل والأنبياء والأئمة بشر في خلقتهم وطريقة حياتهم وأساليب دعوتهم وعليه فقد حكم على القول بالولاية التكوينية بأنه انحراف عن ما يقرره القرآن (تفسير من وحي القرآن – الأنعام آية 50)، كما أن محمد حسين فضل الله استغرب ممن يؤمن بهذه العقيدة مع أن الأئمة لم يستخدموا هذه القدرة لا في حماية أنفسهم ولا في حماية رسالتهم، وكما يقول فضل الله: "ثُمَّ ما معنى هذه الولاية التي لا أثر لها في حياتهم من قريب أو من بعيد، ولا دخل لها في حماية رسالتهم، فلم يستعملوها في إذهاب الخطر عنهم، ولـم يتحرّكوا بها في الانتصار لرسالاتهم، وذلك من خلال قراءة تاريخهم الصحيح كلّه؟"، ( تفسير من وحي القرآن – سورة المائدة - آية 48/49).
وقد وُجهت آراء فضل الله حول الولاية التكوينية بالرفض من عدّة أسماء بارزة منهم محمد بهجت, ومحمد الشاهرودي, وتقي القمي (المرجع السابق/القسم الثالث/242، 249-250، ملحق الوثائق الجديدة 7-8), كما ألف هشام شري العاملي كتاباً في إثباتها والإجابة عن أدلة فضل الله سمّاه "الولاية التكوينية بين الكتاب والسنة" وغير ذلك.
لقد تبنى محمد حسين فضل الله فتح باب التصحيح بجرأة وشرّع الباب للنظر في أخطر المسائل، كما سبق وأكد أهمية هذا المنهج بقوله: "لابد من الخروج من أقبية الذات والخصوصيات والحسابات الضيقة، وعلينا أن نواجه قضايانا وأفكارنا وحتى عقيدتنا بالنقد والشجاعة والجرأة قبل أن ينقدها الآخرون، لأننا نملك كماً غير قليل من الموروث الذي تركه لنا الأقدمون، والذي ينبغي النظر إليه بعين النقد والتحليل حتى لا نكون مصداقاً للآية الكريمة: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)"، (الحياة 25-1-1999م مقال: فضل الله يقود ثورة ثقافية).
ولعل هذا المبدأ الذي طرحه فضل الله من أخطر الأمور التي تخوف منها التقليديون في مشروع محمد حسين فضل الله.
أخيراً: قبل خمس سنوات أخرجت كتابي "أعلام التصحيح والاعتدال" ومنهم محمد حسين فضل الله وكنت متردداً في الحديث عن شخص حيّ قد يغير اجتهاده، وأمّا الآن فقد رحل محمد حسين فضل الله، فالحديث عن مشروعه أنسب، فأقول: رحل محمد حسين فضل الله وهو يمثل أحد وجوه الإصلاح الداخلي في المذهب الاثني عشري، ونحن نسجل له إصلاحات أساسية هي أهم في المقاييس الشرعية من مسألة الإمامة كإصلاحاته في باب إفراد الله بالدعاء والعبادة وطلب الشفاعة من الله وأنّ الأئمة لا يشفعون إلا لمن يأذن الله لهم بالشفاعة له فيجب طلب الشفاعة من الخالق، وتأكيده على إفراد الله بالتصرف بالكون التي تعني إخلاص توحيد الربوبية لله، وكما ذكرت فإن هذه الإصلاحات من محمد حسين فضل الله أتت على أمور أساسية في مسائل تتعلق بتوحيد الربوبية والعبودية وهي أهم من مسألة الإمامة التي يؤكد فإن محمد حسين فضل الله إيمانه بها وبفروعها، وهذا القول يغنينا عن نقل آرائه حول الصحابة، لأن مقتضى قوله بالنص على الإمامة يعني ترك الصحابة لتطبيق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهي جريمة تستوجب الذم إلا أنهم ليسوا كفاراً، ولولا قول فضل الله إن الإمامة ليست من ضروريات الدين لما صدقنا عدم تكفيره للصحابة واتهامهم بما يوجب الفسق، حاشاهم رضي الله عنهم.
وفي الجملة يسجل لمحمد حسين فضل الله جرأته في طرح مراجعات أساسية ومهمة، وصموده في تبنيها حتى وفاته، مع شدّة الهجوم الذي لقيه في سبيل ذلك.
غير أن ما أصابني بالدهشة أنني قرأت لكثير ممن كتب عنه من داخل المذهب بعد وفاته فلحظت تغفلاً عن طرح أهم المسائل التي قدمها المرجع فضل الله في مراجعاته، وقصارى ما رأيت من كثير من أصحاب المقالات الحديث عن نواحٍ لا تشكل فرائد فضل الله، كالتركيز على إنكاره مسألة ولاية الفقيه وقد أنكرها قبله الخوئي، وكان رأس المرجيعة في النجف، بل إن كثيراً مما تحدث عنه أصحاب المقالات يتفق عليه فضل الله مع بعض أشد مناوئيه، فهل هي عدم الجرأة في فتح الملفات الأهم؟ أم هو السير في جنازة فضل الله مع وأد أهم آرائه الإصلاحية؟
مأخوذ من: العربية