824

الغلاف

توحيد العبادة




تأليف

العلامة المُصلح آية الله ﺷﺮيعت سنكلجي

مقدمة المشروع

الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الإسلام، واختار منهم أفضل عباده وأطهرهم لإبلاغ رسالة الحرية والتحرُّر من كل عبودية سوى عبودية الله، والصلاة والسلام على أهل بيتِ نبي المحبة والرحمة الكرام الأطهار، وعلى صحبه الأجلاء الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن الدينَ الذي نفخر به اليوم ثمرةٌ لجهاد رجال الله وتضحياتهم؛ أولئك الذين كانت قلوبهم مُتَيَّمةً بحب الله، وألسنتهم لَـهِجَةً بذكر الله، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ رسالات الله ونشرها، واضعين أرواحهم وأموالهم وأعراضهم على أكفهم ليقدِّموها رخيصةً في سبيل صون كلمة الله سبحانه و سنة نبيه الكريم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.

أجل، هكذا قامت شجرةُ الإِسْلاَمُ العزيز واسْتَقَرَّت ضاربةً بجذورِها أعماق الأرض، بالغةً بفروعها وثمارها عنان السماء، مُعْليةً كلمة التوحيد والمساواة.

ولكن في أثناء ذلك، تطاولت على قامة الإسلام يد أعدائه الألدَّاء، وظلم علماء السوء وتحريف المتعبِّدين الجَهَلة، فَشَوَّهُوا صورة الإسلام الناصعة بشركهم وغلوهم وخرافاتهم وأكاذيبهم، إلى درجة أن تلك الأكاذيب التي كان ينشرها المتاجرون بالدين غطَّت وجه الإسلام الناصع. وقد اشتدَّ هذا المنحى من الابتعاد عن حقائق الدين وعن سنة رسول الله الحسنة، بمجيء الصفويين إلى حكم إيران في القرن التاسع الهجري ثم بقيام الجمهورية الإسلامية في العصر الحاضر، حتى أصبحت المساجد اليوم محلاً لِـلَطْمِ الصدور وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحلَّت الأحاديث الموضوعة المكذوبة محل سنة النبيص، وأصبح المدَّاحون الجهلاء الخدّاعون للعوام، هم الناطقون الرسميون باسم الدين؛ وأصبح التفسير بالرأي المذموم والروايات الموضوعة المختَلَقة مستمسكاً للتفرقة بين الشيعة والسنة، ولم يدروا للأسف من الذي سينتفع ويستفيد من هذه التفرقة المقيتة؟

إن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تُرْفع اليوم في إيران، ليست سوى ضجَّة إعلامية ودعاية سياسية واسعة، القصد منها جذب الأنظار وإعطاء صورة جيدة عن حكومة إيران الشيعية في العالم. إن نظرةً إلى قادة الشيعة في إيران وزعماءهم الدينيين ومراجعهم تدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والأخوَّة والمحبَّة الدينية بين المسلمين، على منهج حُكَّام إيران الحاليين، ليست سوى رؤيا وخيالٍ وشعارات برَّاقة لا حقيقة لها على أرض الواقع.

في هذا الخِضَمّ نهض أفراد مؤمنون موحِّدون من وسط مجتمع الشيعة الإمامية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، ونبذ البدع الطارئة والخرافات الدخيلة، وإصلاح مذهب العترة النبوية بإزالة ما تراكم فوق وجهه الناصع منذ العصور القديمة من طبقات كثيفة من غبار العقائد الغالية والأعمال الشركية والبدعية، والأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة، والعودة به إلى نقائه الأصلي الذي يتجلى في منابع الإسلام الأصيلة: القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة على صاحبها آلاف التحية والسلام وما أيَّدهما من صحيح هدي أئمّة العترة الطاهرة وسيرتهم؛ وشمَّر هؤلاء عن ساعد الجِدّ وأطلقوا العِنان لأقلامهم وخطبهم و محاضراتهم لإزالة صدأ الشرك عن معدن التوحيد الخالص، ولسان حالهم يقول: «انهض أيها المسلم وامحُ هذه الخرافات والخزعبلات عن وجه الدين، واقضِ على هذا الشرك الذي يتظاهر باسم التقوى، وأعلن التوحيد وحطِّم الأصنام».

لقد اعتبر «حيدر علي قلمداران القمِّي» - وهو أحد أفراد تلك المجموعة من الموحِّدين المصلحين - في كتابه «طريق الاتحاد»، أن سبب هذه التفرقة هو جهل المسلمين بكتاب الله وسيرة نبيه، وسعى من خلال كشف الجذور الأخرى لتفرُّق الفرق الإسلامية، إلى التقدّم خطوات مؤثرة نحو التقريب الحقيقي بين المذاهب. ولا ريب أن جهود علماء الإسلام الآخرين مثل آية الله السيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي، و السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، وآية الله شريعت سنكلجي، ويوسف شعار وكثيرين آخرين من أمثال هؤلاء المجاهدين في سبيل الحق، أسوة ونبراس لكل باحث عن الحق ومتطلِّعٍ إلى جوهر الدين، كي يخطوا هم بدورهم أيضاً خطوات مؤثرة في طريق البحث والتحقيق التوحيدي، مُتَّبِعين في ذلك أسلوب التحقيق الديني وتمحيص الادِّعاءات الدينية على ضوء التعاليم الأصيلة للقرآن والسنة، ليعينوا ويرشدوا من ضلوا الطريق وتقاذفتهم أمواج الشرك والخرافات والأباطيل، ليصلوا بهم إلى بر أمان التوحيد والدين الحق.

إن المساعي الحثيثة التي لم تعرف الكلل لِرُوَّاد التوحيد هؤلاء لَهِيَ رسالةٌ تقع مسؤوليتها على عاتق الآخرين أيضاً، الذين يشاهدون المشاكل الدينية لمجتمعنا، ويرون ابتعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام الحيَّة، لاسيما في إيران.

هذا ولا يفوتنا أن نُذَكِّر هنا بأن هؤلاء المصلحين الذين نقوم بنشر كتبهم اليوم قد مرُّوا خلال تحوُّلهم عن مذهبهم الإمامي القديم بمراحل متعددة، واكتشفوا بطلان العقائد الشيعية الإمامية الخاصة - كالإمامة بمفهومها الشيعي والعصمة والرجعة والغيبة و... وكالموقف مما شجر بين الصحابة وغير ذلك - بشكل متدرِّج وعلى مراحل، لذا فلا عجب أن نجد في بعض كتبهم التي ألفوها في بداية تحولهم بعض الآثار والرسوبات من تلك العقائد القديمة لكن كتبهم التالية تخلَّصت بل نقدت بشدة كل تلك العقائد المغالية واقتربوا للغاية بل عانقوا العقيدة الإسلامية الصافية والتوحيدية الخالصة.

***

الأهداف

تُمثِّلُ الكتبُ التي بين أيديكم اليوم سعياً لنشر معارف الدين وتقديراً لمجاهدات رجال الله التي لم تعرف الكَلَل. إن الهدف من نشر هذه المجموعة من الكتب هو:

1- إمكانية تنظيم ونشر آثار الموحِّدين بصورة إلكترونية على صفحات الإنترنت، وضمن أقراص مضغوطة، و بصورة كتب مطبوعة، لتهيئة الأرضية اللازمة لتعرُّف المجتمع على أفكارهم التوحيدية وآرائهم الإصلاحية، لتأمين نقل قِيَم الدين الأصيلة إلى الأجيال اللاحقة.

2- التعريف بآثار هؤلاء العلماء الموحِّدين وأفكارهم يشكِّل مشعلاً يهدي الأبحاث التوحيدية و ينير الدرب لطلاب الحقيقة ويقدِّم نموذجاً يُحْتَذَى لمجتمع علماء إيران.

3- هذه الكتب تحث المجتمع الديني في إيران الذي اعتاد التقليد المحض، وتصديق كل ما يقوله رجال الدين دون تفكير، والذي يتمحور حول المراجع ويحب المدَّاحين، إلى التفكير في أفكارهم الدينية، ويدعوهم إلى استبدال ثقافة التقليد بثقافة التوحيد، ويريهم كيف نهض من بطن الشيعة الغلاة الخرافيين ، رجال أدركوا نور التوحيد اعتماداً على كتاب الله وسنة رسوله.

4- إن نشر آثار هؤلاء الموحِّدين الأطهار وأفكارهم، ينقذ ثمرات أبحاثهم الخالصة من مقصِّ الرقيب ومن تغييب قادة الدين والثقافة في إيران لهذه الآثار القَيِّمة والتعتيم عليها، كما أن ترجمة هذه الآثار القَيِّمة لسائر اللغات يُعَرِّف الأمّة الإسلامية بآراء الموحدين المسلمين في إيران وبأفكارهم النيِّرة.

***

آفاق المستقبل

لا شك أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ تماماً من الخرافات والبدع وإلى المدينة الفاضلة التي تتحقق فيها الطمأنينة في ظلِّ رضا الله سبحانه وتعالى، إلا باتِّباع التعاليم النقيَّة الأصيلة للقرآن الكريم وسنة نبي الرحمة والرأفة ص. إن هدف القائمين على نشر مجموعة آثار الموحِّدين هو التعريف بآثار هؤلاء المجاهدين العلميين الكبار، كي تكون معرفة الفضائل الدينية والعلمية لهؤلاء الأعزاء، أرضية مناسبةً لنموّ المجتمع التوحيدي والقرآني في إيران وقوّته، وذلك لنيل رضا الخالق وسعادة المخلوق.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لعلوّ درجات أولئك الأعزاء، وأن يمنّ علينا بالعفو.

a

مقدمة الناشر

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة العبودية له، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وآخر رسل الله محمد المصطفى وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.

وبعد، فقد كان المسلمون طول القرون المنصرمة سبَّاقين للآخرين في تحصيل العلم والمعرفة وتعلُّم العلوم المختلفة، وذلك ببركة تعاليم الإسلام العزيز واتِّباعاً منهم لكلام رسول‌اللهص، حتى صار العلماء المسلمون في أواخر فترة الخلافة العباسية سادة العلوم في عصرهم، وتحول بيت الحكمة الذي تأسس في بغداد في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني في عهد خلافة هارون الرشيد العباسي، إلى أكبر مؤسسة علمية وبحثية في العالم، ولا يزال بيت الحكمة يُعتَبر مظهراً من مظاهر الحضارة الإسلامية وذلك بفضل نشاطاته الثقافية والعلمية في المجالات المختلفة من تأليف وترجمة واستنساخ وأبحاث متنوعة في المجالات العملية المختلفة سواء الطب والهندسة أم العلوم الإنسانية.

ولا شك أن هذه القوة العلمية للمسلمين كانت بمثابة شوكة في أعين أعداء الإسلام، لذلك سعوا من خلال بثِّ أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين إلى تحطيم عَظَمَة الإسلام هذه وسؤدده الذي يعود الفضل فيه إلى وحدة المسلمين وتماسكهم والأخوة السائدة بينهم، فأثار أعداء الإسلام عواصف النزاعات والتفرقة بين المسلمين كي يحجبوا جمال الحق عن أبصارهم، ويخفوا شمس الدين المشعة خلف غيوم البدع والخرافات. وكما يقول الشيخ سعدي الشيرازي: الحقيقــة مكـان مُزَيَّنٌ ألا ترى أن كل مكان اعتلاه الغبار لكن الهوى والرغبات أثارا الغبار فوقه لا يقع عليه النظر ولو كان الرجل بصيراً إن المساعي المخطط لها وعلى المدى الطويل لأعداء الإسلام، لأجل إغلاق أعين المسلمين عن حقيقة الدين وإضعاف المسلمين عن تعلُّم معارف الدين ونشرها، وإبعادهم عن سنة النبي الأصيلة الهادية، أدت إلى حدوث فجوة عميقة واختلاف كبير في أمة الإسلام وأصبح أبناء الإسلام اليوم يعانون بشدَّة من تبعات هذه الفجوة وآثارها المشؤومة.

وبموازاة مساعي أعداء نبي الإسلام ص العِدائية الرامية إلى تحريف تعاليم الإسلام وتشويهها وإدخال البدع المختلفة في الدين، أدرك أشخاصٌ مؤمنون أطهار شفيقون هذا الخطر، ونهضوا مشمِّرين عن ساعد الجِد والجهاد المتواصل لإحياء معالم الإسلام والسنة النبوية الأصيلة، وتناولوا بأيديهم -بشجاعة منقطعة النظير- أقلامهم وأخذوا يكتبون ويؤلفون في نشر ثقافة الإسلام الأصيلة والعقائد الإسلامية الصحيحة النقية بين أوساط الشيعة عُبَّاد الخرافات، وصدحوا بينهم بنداء التوحيد بصوت عال أيقظ المتاجرين بالدين والبدع من نوم غفلتهم مذعورين! لقد ضحى هؤلاء الموحدون الطالبون للحق والحقيقة بمصالحهم الشخصية فداء للحقيقة، وقدموا أرواحهم في هذا السبيل هديةً رخيصةً للحق تعالى، وصاروا عن حق مصداقاً لقوله تعالى:﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[يونس/62].

إن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى غيضٍ من فيض المعارف الإلـهية، ومُنْتَخَبٍ من آثار الموحدين الطالبين لله تعالى الذين كانوا ينتمون في بداية أمرهم لطائفة الشيعة. لقد أشرق نور الله في صدورهم، وصار التوحيد نبراس حياتهم المباركة. لقد تم تحرك هؤلاء الأفراد الذين كانوا جميعاً في بداية أمرهم من الطراز الأول من علماء الشيعة في إيران، في مسيرتهم التحولية من مذهبهم القديم، خطوةً خطوةً؛ بمعنى أن نظرتهم إلى المسائل العقائدية لم تتحول بشكل فجائي مرةً واحدةً، بل حَصَل هذا التحول بمرور الزمان وعلى إثر المطالعة والدراسة المتأنية والتواصل مع من يوافقهم في أفكارهم، لذا من الطبيعي أن لا تنطبق بعض رؤى وأفكار هؤلاء الإصلاحيين في بعض مراحل حياتهم وكتاباتهم، مع عقائد أهل السنة والجماعة واتجاهاتهم الفكرية بشكل كامل؛ لكن رغم ذلك قمنا بنشر هذه المؤلفات كما هي نظراً لأهميتها في هداية شيعة إيران وغيرهم من الناطقين باللغة الفارسية. كما أنه من الجدير بالذكر أن الرؤى والمواقف الفكرية المطروحة في هذه الكتب، لا تنطبق بالضرورة مع رؤى الناشر والقائمين على نشر هذه المجموعة من الكتب، هذا على الرغم من أن هذه الكتب تمثل بلا ريب نفحةً من نفحات الحق و نوراً من جانب الله لهداية طالبي الحقيقة البعيدين عن العصبيات والظنون التاريخية الطائفية.

إن النقطة الجديرة بالتأمّل هي أنه للوقوف بشكل صحيح على رؤى وأفكار هؤلاء الأفراد، لا يمكن الاكتفاء بقراءة مجلد واحد من آثارهم؛ بل لا بد من قراءة حياتهم بشكل كامل، كي يتم التعرُّف بشكل كامل على كيفية تحولهم الفكري، ودوافعه وعوامله. فعلى سبيل المثال، ألف آية الله السيد أبو الفضل البرقعي في الفترة الأولى من بداية تحوله الفكري كتاباً بعنوان «درسى از ولايت» أي «درسٌ حول الولاية»، بحث فيه موضوع الأئمة وادعاء الشيعة حول ولايتهم وإمامتهم ورئاستهم المباشرة للمسلمين بعد نبي الله ص. واعتبر أن عدد الأئمة 12 إماماً، مصحِّحاً بذلك الاعتقاد بوجود محمد بن الحسن العسكري وحياته حتى الآن، بوصفه الإمام الثاني عشر. لكن المؤلِّف نفسه ألف بعد عدة سنوات كتاباً باسم «تحقيق جدي في أحاديث المهدي» ووضع تحت تصرف القراء نتائج بحثه التي توصل إليها في هذا المجال، وهي أن جميع الأخبار والروايات التاريخية المتعلِّقة بولادة ووجود المهدي إمام الزمان، روايات وأخبار موضوعة وكاذبة. من هذا المثال ومن أمثلة مشابهة أخرى يتبيَّن أن أفضل طريق لمعرفة المسيرة التحولية لأفكار هؤلاء الموحدين وآثارهم هي قراءة مجموعة كتاباتهم بشكل كامل، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم كل مؤلَّف من مؤلَّفاتهم أو تأخّره زمنياً.

نأمل أن تكون آثار هؤلاء المؤلّفين الكبار ومساعي القائمين على نشرها، سبباً للعودة إلى مسيرة الأمن الإلـهية وعبادة الحق سبحانه وتعالى الخالصة.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لغفران ذنوبنا وأن يسامحنا إذا وقعنا في خطأ أو زلل، وأن يرحم أرواح أولئك المؤلفين الأعزَّاء ويجعلهم في جوار رحمته، إنه رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.

ترجمة المؤلف

اسمه: شريعت بن محمد حسن سنگلجي[1].

مولده: وُلد في مدينة طهران عاصمة إيران عام 1310هـ (الموافق لعام 1271 هجرية شمسية و 1892م) [2].

نشأته وتعلمه: والده هو الحاج الشيخ «حسن شريعت» وجدّه الحاج «رضا قلي»، كلاهما من علماء الدين وفقهاء الشرع المعروفين في عصرهم؛ وكان الشيخ المشهور فضل الله نوري[3] ابن عم والده. درس «شريعت سنگلجي» منذ نعومة أظفاره مقدّمات العلوم الشرعية عند والده الشيخ «حسن شريعت»، ثم دخل مدرسة الميرزا زكي -وهي من المدارس المعروفة بكثرة طلابها في طهران العاصمة في حي (سنگلج)-، تتلمذ على يد العلماء في بلدته، درس علوم الفقه عند الحاج الشيخ عبد النبي النوري (ت: 1344هـ)، والحكمة والفلسفة عند الميرزا حسن الكرمانشاهي (ت 1334) وأخذ علوم الباطن والعرفان (أي التصوف الفلسفي) على يد الميرزا هاشم الإشكوري (1332هـ)، كما تتلمذ على الشيخ علي النوري والشيخ فضل الله النوري (ت1330هـ).

في عام 1326هـ، رحل العلامة شريعت سنگلجي مع أخيه الشيخ محمد سنگلجي إلى النجف لإكمال دراسته الدينية، وتتلمذ هناك على كبارعلماء الحوزة العلمية في النجف مثل السيد ضياء الدين العراقي(ت 1361هـ)، وآية الله العلامة أبي الحسن الأصفهاني (ت 1365هـ).

بعد أن قضى حوالي أربع عشرة سنة في تحصيل العلوم الشرعية في النجف، عاد سنگلجي إلى طهران عام (1340هـ)، واشتغل بالوعظ والخطابة الدينية وهو في الثلاثين من عمره، فكان يلقي دروساً في ليالي الجمعة في مسجد والده الحاج الشيخ حسن سنگلجي، وفي الوقت ذاته كان يحضر مجلس دروس التفسير لآية الله العلامة السيد أسد الله الخرقاني (ت 1355هـ) وقد تأثر بمنهجه الإصلاحي التوحيدي.

اتسعت مجالس تدريس وخطابة الشيخ سنگلجي يوماً بعد يوم ولم يعد يتّسع لها مسجد حي «سنگلج» الصغير الذي أصبح مركزاً لتجمُّع الشباب المتدين والمثقف، واتخذ عنوان «دار التبليغ الإسلامي» وتحول إلى قاعة كبيرة، ثم انتقل نشاط دار التبليغ هذه إلى مكان يقع في شارع «فرهنگ» جنوب طهران.

نحى الشيخ «شريعت سنگلجي» منحى إصلاحي تجديدي في دروسه حتى يمكن اعتباره – كما يرى بعض الباحثين[4]- «مؤسّس المدرسة السلفية القرآنية الشيعية الحديثة» في إيران، فقد أكّد على أن التوحيد هو أساس الدين وركيزته، وأنه لا بد من العودة بالدين إلى نقائه الأول. ويمكن أن نستـنبط من خلال ما ذكره في مقدمة كتابه هذا الذي نقدم له - كتاب «توحيد العبادة» - أنه تأثر في هذا المجال بما رآه وقرأه من كتب عن التوحيد الخالص أثناء أدائه فريضة الحج مما يوزّع عادة في الحرمين في ذلك الموسم، فأثَّر ذلك في روحه تأثيراً عميقاً إلى درجة جعلته يرمي الخاتم - الذي كان يضعه في يده ليحفظه في البيادي والبحار! – في الصحراء وهو في الحافلة في طريقه من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ويستغفر الله عما كان مبتلى به مما رآه متنافياً مع التوحيد النقي الخالص، وأصبح لدى عودته إلى إيران من دعاة التوحيد الناصع، ونبذ كل شكل من أشكال الشرك والغلوّ والخرافات التي رأى أنها منتشرة بشكل كبير بين العوام والجهلة من أبناء قومه.

وقد كان للعلامة شريعت سنگلجي نشاط ثقافي بارز في عهد رضا خان البهلوي، وكانت جهوده منصبة على تجديد الدين في حياة الناس، وأما الجمهور الذي هلل لأفكار العلامة شريعت سنگلجي فهم المثقفون المتدينون الذين لم تعجبهم الخرافات السائدة في المذهب الشيعي الاثني عشري، وكانوا يتطلعون إلى صيغة دينية بعيدة عن الأساطير[5].

وقد تميز العلامة شريعت سنگلجي في وقته بتركيزه على تفسير القرآن الكريم وبيان ثوابته، وقد أحدث هذا الاتجاه أثراً حتى في أوساط بعض الرموز العلمية البارزة عند الشيعة الإمامية، ومن هؤلاء آية الله الطالقاني الذي اقترب كثيراً إلى القرآن، وهذا ما أكّده رسول جعفريان بقوله: (إن توجه آية الله الطالقاني كان من طريق سنگلجي وخرقاني وليس كما يقول البعض أنه متأثر بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده)[6].

[1] حرف (گ) هو الحرف السابع والعشرون من الألفباء الفارسية، ويلفظ كالجيم المصرية، ولا يوجد هذا الحرف في اللغة العربية. (المعجم الذهبي490) [2] وقيل: 1308هـ (الموافق لعام 1269هـجرية شمسية و 1890م). [3] كان الشيخ فضل الله نوري من علماء الشيعة البارزين والمناضلين في إيران وكان في بداية الأمر من أنصار الثورة الدستورية فيها في مطلع القرن العشرين، لكنه لما رأى ما آلت إليه تلك الثورة من تنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بالقوانين الوضعية أصبح من أشد المعارضين لها والمخالفين للديمقراطية الغربية، والمطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية في البلاد، وقد قبض عليه وحوكم بتهمة الخيانة ثم أعدم عام 1909م. انظر تذكرة الغافل وارشاد الجاهل تأليف فضل الله نوري. [4] انظر: حيدر حب الله، «نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي، التَكَوُّن والصيرورة»، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2006م، ص 612 فما بعد. [5] انظر كتاب (جريان‌ها وسازمان هاي مذهبي سياسي ايران/أي: الحركات المذهبية والسياسية في إيران). تأليف: رسول جعفريان. من منشورات (مركز اسنا انقلاب اسلامي) صفحة 625-628. [6] انظر كتاب جريان‌ها وسازمان هاي مذهبي سياسي ايران 628.

أبرز معالم منهج العلامة شريعت سنكلجي

أولا: محاربة الخرافات، وتنقية التوحيد

يقول الكاتب الشيعي المعاصر رسول جعفريان عن العلامة شريعت سنگلجي: (كان يناضل من أجل إزالة الخرافات..) ويذكر جعفريان أن سنگلجي كان يريد إبعاد الخرافات عن الدين لأنها في نظره ليس لها جذور في مذهب الأئمة[7].

ويقول شريعت سنگلجي رحمه الله: «في اعتقادي إن هذه الفضائح والتهم التي يرميني بها الجهلة وأدعياء الباطل بسبب الإصلاحات التي أقوم بها قليلة لا تساوي شيئاً، لأنني في هذا الكتاب وسائر كتاباتي ومحاضراتي، أعرِّف فيها بإسلام السلف الصحيح، فتكون نتيجته اجتثاث الخرافات من جذورها وهدم المعابد الوثنية فوق رؤوس أصحابها؛ فالذين أَنِسُوا بتلك المقالات وتدبروا القرآن وأدركوا توحيد الإسلام لن يلقوا بالاً بأدعياء الباطل وأنصار الخرافات، ولن يعودوا إلى الأوهام والأباطيل من جديد)[8].

[7] انظر كتاب (جريان‌ها وسازمان هاي مذهبي سياسي ايران/أي: الحركات المذهبية والسياسية في إيران). صفحة 625-628. [8] انظر: ص 30.

ثانياً: نقض فكرة عدم فهم القرآن بدون تفسير الإمام، وبيان أن القرآن سهل ميسر للفهم.

يقول رسول جعفريان: (وكان شريعت يقول: ليس هناك أي آية أو كلمة في القرآن لا يمكن أن يفهمها البشر، وبطن القرآن هو نفس التفسير والتأويل وهو نفس ظاهر القرآن)[9]. وقد حذر المؤلف في هذا الكتاب وغيره من الأصوات التي تدعي أن القرآن لا يمكن فهمه، أو أنه محرف وكشف مقاصد أصحاب هذه الأقوال.

[9] انظر كتاب (جريان ها وسازمان هاي مذهبي سياسي إيران/أي: الحركات المذهبية والسياسية في إيران). صفحة 625-628.

ثالثاً: الاعتماد على منهج الاستدلال بروايات وكتب أهل السنة والجماعة مع مصادر الشيعة، وهذا ما يتضح من خلال هذا الكتاب.

رابعاً: التجديد في الدين الشيعي الإمامي

سعى المؤلف رحمه الله إلى تقديم رؤية حضارية للدين، تقوم على التمسك بالإسلام الصحيح وتطوير طرق تعلمه وتعليمه مع الأخذ بكل سبل التطور والرقي الدنيوي، وهذا ما أقر به الكاتب الشيعي المعاصر رسول جعفريان حيث قال عن العلامة سنگلجي: (كانت نظرته إلى الإسلام نظرة يمكن أن نجعلها في إطار الإسلام الحضاري المتقدم)[10].

[10] انظر كتاب (جريان ها وسازمان هاي مذهبي سياسي إيران/أي: الحركات المذهبية والسياسية في إيران). صفحة 625-628.

خامساً: الاستقلال في المنهج

حيث لا يمكن للمطلع على هذا الكتاب أن يصنف المؤلف من الشيعة الإمامية، كما أنه لا يمكن لأحد أن يزعم على أنه من أهل السنة والجماعة، والحقيقة أن المؤلف لا يفصله عن منهج أهل السنة إلا الاسم فقط، وبيان ذلك أن العلامة شريعت سنگلجي انتهى إلى ترك القول بالإمامة مع الاحترام والولاء لأهل البيت والصحابة رضي الله عنهم ويقدّر للجميع جهدهم وجهادهم في نشر التوحيد، وهذا هو مذهب أهل السنة، خلافاً للتيار الغالب على الشيعة الإمامية والذي يتبنى نظرية العداء بين الآل والأصحاب وغيرها من البدع والمحدثات.

وهكذا أصبح الشيخ «شريعت سنگلجي» من أعلام حركة التنوير والتجديد والإصلاح الديني في إيران التي يطلق عليها المؤرخون بالفارسية لقب «نوگرايي دينى» والتي كان أهم ما يميزها المناداة بالعودة إلى القرآن ونبذ الغلو الخرافات الكثيرة التي علقت بالدين عبر الأزمنة وتراكمت عليه كالغبار الكثيف فذهبت بجماله ونضارته ونقائه ونفَّرت المثقفين منه. وككل مصلح مجدِّد وُوجهت دعوة الشيخ «سنگلجي» بالرفض من جانب المؤسسة الدينية التقليدية الرسمية، ومورست عليه ضغوط كثيرة، حتى أنه يذكر في أحد كتبه أنه قد جرت محاولتان لاغتياله، بيد أنهما باءتا بالفشل[11].

[11]«كليد فهم قرآن»، شريعت سنگلجي، ص 5-7.

نظرة إلى حياة المؤلف من خلال كلماته

بذل الجهد في تحصيل العلم رجاء أن يوفقه الله، فالنتيجة كانت هدايته إلى الصراط المستقيم

يقول عن نفسه: (هذا العبد الضعيف [شريعت سنگلجي] قضيت سنوات طويلة في دراسة العلوم الإسلامية والتبحّر فيها بعمق، وبذلت قصارى جهدي بقدر الطاقة البشرية في تعلّم التفسير والحديث والكلام والفلسفة والفقه والأصول والتاريخ واجتهدت فيها، وقمت بمطالعات وافية في الملل والنحل والأديان، واهتديت إلى القرآن طبقاً لمفاد قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا... [العنكبوت: 69]. وحقّقت في دين الإسلام الحنيف وبحثت فيه وميّزت بقدر طاقتي بين الحقّ والباطل وألقيت عن نفسي أثقال الشرك والأوهام وكسّرت سلاسل الخرافات وأغلال الأباطيل، ونهلت من معين القرآن الزلال واهتديت بنوره...)[12].

[12] نهاية المقدمة الأولى لهذا الكتاب.

بداية المواجهة

بدأ شريعت سنگلجي بيان آرائه الاصلاحية ودعوة الناس إلى ترك البدع والخرافات عام (1345هـ)، أي أن عمره كان آنذاك حوالي (35عاماً). يقول رحمه الله: (إن الكلام بما يخالف عقائد جماهير الناس وآراء العوام وأوهامهم أمرٌ صعب جداً وخطير للغاية، وقد ابتليت بذلك منذ خمسة عشر عاماً)[13].

[13] كتب المؤلف هذه السطور في مقدمة الطبعة الأولى أي سنة 1361هـ- مما يعني أنه بدأ دعوته عام 1345هـ-.

لحظة في غاية الأهمية في حياة المؤلف

يقول رحمه الله: (أنا شخصياً كان لي خاتم [فصه] من حجر الحديد الصيني، قرأت في بعض الكتب أن له خواصاً، منها أنه يحفظ مَن يضعه في يده في الصحاري والبحار من الآفات. لذا لما عزمت السفر إلى حج بيت الله الحرام أخذت معي ذلك الخاتم، ولما كنت في طريقي من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة؛ بدأت بقراءة كتاب في الحديث وأنا في الحافلة، وإذ بي أُفاجأ برؤية هذه الأخبار التي نقلتُها [في هذا الفصل]، فلما دققت النظر فيها؛ قلت: يا ويح نفسي! كم أنا جاهل بتوحيد الإسلام! أنا مُحْرِم وحاج إلى بيت الله وفي يدي صنم! لماذا لا أعتبر اللهَ رب العالمين حافظي فقط؟ كيف أعتبر حجراً يحفظني مع أنني أنا الذي أحفظه؟! لقد أحدث هذا الأمر انقلاباً في نفسي يستحيل عليَّ شرحه. فشرعت بالاستغفار ونزعت الخاتم من يدي، ورميته في الصحراء، وأرجعته إلى عالمه، عالم أحجار البادية وحصاها)[14].

[14] ص 75 من هذا الكتاب.

يصدع بالحق خوفاً من لعنة الله

يقول رحمه الله: (ولما رأيت أن الأمور التي فهمتها قد شهد على صحتها وحقيقتها شاهدا عدل: العقل والشرع، وأنني إذا لم أظهر الحقيقة للمتعطّشين لها لانطبق عليّ هذا الحديث الشريف: «إِذا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي الدِّينِ فَعَلَى الْعَالِمِ أَن يُظْهِرَ عِلْمَهُ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»[15]، فاستحققت ذلك اللعن الذي أخبر عنه رسول الله ص. لذلك شمّرت عن ساعد الجد وبدأت بما هو الأهم، وهو توحيد الإسلام الذي هو ركن الدين الركين ومحور سعادة الدنيا والآخرة...)[16].

[15] ورد في الكافي للكليني (1/54)، عن النبي ص: «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله». وانظر الوسائل (16/ 269، 271). [16] ص 40 من هذا الكتاب.

المواجهة والابتلاء

يقول رحمه الله: (... رغم أن تأليف ونشر هذا الكتاب وكتاب «كليد فهم قرآن= مفتاح فهم القرآن» ومحاضرات مساء الخميس، قد كلفني الكثير من المتاعب إذْ قام عددٌ من الأراذل والجهلة الذين لم يشمُّوا رائحة التوحيد بشنّ حملات مسعورةٍ ضدّي ولم يتوانوا عن كل ما أمرتْهم به أنفسهم الأمّارة بالسوء من الافتراء والبهتانٍ بحقِّي)[17].

[17] ص 29 من هذا الكتاب.

أسباب الهجوم عليه

1- حسد الأقران. كما يقول: (إنه الحسد الذي يكنّه بعض الأقران والأمثال تجاهي، فالحاسد إذا لم يستطع أن يبلغ مرتبة محسوده، فإنه يسعى ليحط من شأن المحسود في أنظار الناس)[18].

2- آراؤه الاصلاحية التي تهدد مصادر أرزاق خصومه: يقول رحمه الله: (ولنعلم أن حرب هؤلاء ضدنا ليست حرباً دينية بل هي حرب مادية اقتصادية)[19].

3- تأثير آراء المؤلف وكتبه على المجتمع. يقول: (لِما أحدثت كتاباتنا ومحاضراتنا -بحول الله وقوته- تأثيراً كبيراً في المثقفين، وساهمت في تعريف الناس بتعاليم القرآن؛ فمن المؤكد أن الذي تعرّف على حقائق القرآن فسينفكّ عن أهل الدعاوى الباطلة، ولن يطيع بعد ذلك الدجالين وشياطين الإنس، ومن هنا أدرك الحُسَّاد أن مصالحهم أصبحت في خطر، فلجؤوا إلى كل وسيلةٍ للحفاظ عليها...)[20].

- تهديده بالقتل: يقول رحمه الله: (فهددوني أحياناً بالقتل، وأثاروا عامة الناس ضدي..)[21].

[18] ص 31 من هذا الكتاب. [19] ص 30 من هذا الكتاب. [20] ص 31 من هذا الكتاب. [21] ص 31 من هذا الكتاب.

يمضي في دعوته ولا يبالي بالتهديد

يقول رحمه الله: (لا يظنَّنَّ الأعداء أن الأمرَ سيبقى على هذه الحالة دائماً، أو أن بإمكانهم أن يطفئوا نور حقائق القرآن أو يحجبوا كلام الله عن الناس بأكاذيبهم ومفترياتهم، وليعلموا أن الله معنا وأننا سنواصل -بحول الله وقوته- بيان الحقائق وكتابتها، ولن تأخذنا في ذلك لومة لائم ولن ترعبنا هجمات الأراذل والسفلة، سائلين العون والتأييد من الله تعالى)[22].

[22] ص 32 من هذا الكتاب.

متفائل بالمستقبل ويأمل بالشباب خيراً

يقول رحمه الله: (لا شكَّ أن هذه البذرة التي نزرعها اليوم ستؤتي ثمارها يوماً ما، فنأمل الهداية للشباب المتعلّم المثقّف الذين أَمَلِي فيهم كبير، عسى الله تعالى أن يُسعدهم في المجتمع القادم تحت لواء التوحيد ويوفّقهم لإنشاء المدينة الفاضلة)[23].

[23] ص 33 من هذا الكتاب.

مؤلفاته

لقد ألّف الشيخ «شريعت سنگلجي» كتباً عديدةً، من أهمّها ما يلي:

1- «كليد فهم قرآن» أي (مفتاح فهم القرآن)

يعد هذا الكتاب من الكتب المهمة له، وقد كشف فيه بوضوح عن منهجه الإصلاحي، حيث رأى فيه أن المسلمين هجروا القرآن، فكان نصيبهم الفشل والخسران، وأن الحلّ الوحيد يكمن في الرجوع إلى الكتاب الكريم. إلاّ أنّ السؤال كيف يمكن فهم القرآن؟ هذا ما يجيب عنه «شريعت سنگلجي» بأخذ الدين عن السلف لا عن الخلف، أولئك ـ أي الخلف ـ الذين جاؤوا مع الفلسفة والتصوّف والاعتزال[24]. ولكي يؤسّس لمرجعية القرآن ودور السنّة الشريفة طرح في كتابه أفكاراً أساسيةً هامَّةً حول القرآن الكريم، منها أن النص القرآني غير محرّف، ويذكر سنگلجي أدلّته على ذلك، وأن القرآن قابلٌ للفهم تماماً، لا يحتاج إلى غيره، وأن القرآن مستوعب لجميع قضايا الدين الأساسية، دون أن يعني ذلك التخلي عن السنة النبوية بل ينتقد سنگلجي تلك الحركة التي حاولت رفض السنّة الشريفة رفضاً مطلقاً، ويرى أنّ الحاجة قائمة لها، لكن القبول بمبدأ حجية السنّة، لا يعني تدخّلها في شؤون الدين كافّة، من هنا يطرح سنگلجي تفصيلاً في دور السنّة يتمثّل -حسب رأيه- في الحاجة إلى السنّة في مجال الشرعيات، لأنّها تفصّل أمر الكتاب الكريم، أما العقائد الأساسية التي عليها مدار النجاة والهلاك فالقرآن تكفَّل ببيانها ولا حاجة ـ عند سنگلجي ـ للسنّة فيها[25].

[24] «كليد فهم قرآن»، شريعت سنگلجي، ص 3- 4-5. [25] المصدر السابق، ص 39-41.

2- «توحيد عبادت» أي (توحيد العبادة)

هو هذا الكتاب الذي بين أيديكم إذ نقدم ترجمته باللغة العربية. لقد نقد فيه كثيراً من العقائد والممارسات التي أصبحت رائجة بين بعض المسلمين لا سيما بين الشيعة الإمامية عند مراقد أئمة أهل البيت وذراريهم من تعظيمٍ للقبور وغلوٍّ بالأئمة وطوافٍ حول أضرحتهم وقبور ذراريهم المنتشرة في كل حدب وصوب ونَذْر النذور لها وذبح القرابين باسمها والاستغاثة بأصحابها لقضاء الحاجات وكشف الكُرَب والتوسل بالأحجار والأشجار والاعتقاد بالتنجيم والخرافات، فبين أنها أعمال شركية تتنافى مع توحيد العبادة الذي هو أساس الإسلام، مما جعله يُحسب على التيار المناصر للحركة الوهابيّة في إيران آنذاك.

3- محو الموهوم

يقع هذا الكتاب في أكثر من 41 صفحة، نشره أحد تلامذته يدعى «حسين قلي مستعان» بعد عام من وفاة الشيخ رحمه الله، وأثبت فيه وفاة الخضر وإلياس عليهما السلام ووفاة جميع الأنبياء بما في ذلك عيسى بن مريم عليهما السلام ، وبحث بالتفصيل في الآيات المتعلقة برفع عيسى ورأى عدم دلالتها على بقائه حياً.

4-كتاب في رد عقيدة الرجعة

إنَّه ألَّف هذا الكتاب المهم في الرد على عقيدة الرجعة، فقام تلميذه الشيخ «عبد الوهاب فريد التنكابني» بتوسعة الموضوع وتأليف كتاب مفصل وكامل في هذا الموضوع سمّاه «الإسلام والرجعة»، نهج فيه نهج أستاذه في تفنيد هذه العقيدة من أساسها.

5- محاضرات ليلة الخميس

6-الموسيقى

***

لقد تحوّل الشيخ سنگلجي إلى تيار في إيران، إذ وقع تحت تأثيره جماعة، واستمرّ تياره في النفوذ والتنامي داخل الوسط الديني في إيران حتى نهاية الخمسينات من القرن العشرين حين طغت عليه الأحداث السياسية للثورة الإيرانية، فغاب نوعاً ما عن الواجهة بسبب الاضطهاد الشديد للنظام الإيراني الراهن. لكن عديداً من المثـقَّفين المتنوِّرين لا يزالون يهتمّون بكتاباته وكتابات المجدِّدين ودعاة تصحيح العقائد أمثاله وينشرونها خاصّة في العقدين الأخيرين.

أولاده: أنجب «شريعت سنگلجي» ولدين هما «محمد باقر» و«عبد الله».

وفاته

توفي الشيخ شريعت سنگلجي عام 1362هـ (الموافق لـ و1943م) عن عمر لم يتجاوز الـ53 عاماً، فرحمه الله وغفر له[26].

[26] مصادر الترجمة: - زندگي نامه، رجال ومشاهير إيران (ج 4 / 69 - 70). - تفسير وتفاسير جديدة (ص 36). - مفسران شيعة (ص 189 - 190). - مؤلفين كتب چاپي (ج 2 - 560). - دانشنامه قرآن وقرآن پژوهي به كوشش بهاء الدين خرمشاهي (چاپ 1377 ص 1300 - 1301). - (جريان ها وسازمان هاي مذهبي سياسي إيران 1320ه‍- ش- 1357ه‍- ش/أي: الحركات المذهبية والسياسية في إيران). تأليف: رسول جعفريان. من منشورات (مركز اسناد انقلاب إسلامي).) - مقدمة الأستاذ سعد رستم لهذا الكتاب (كتاب توحيد العبادة).

عملنا في الكتاب

تمت ترجمة النص من الفارسية إلى اللغة العربية (نقل معنى النص الفارسي إلى معنى النص العربي).

كما قمت بتخريج الأحاديث التي ذكرها المؤلف من كتب الشيعة وكتب أهل السنة، وسجلت بعض الإحالات لبعض المواضع المهمة، وبخصوص الأشعار التي وضعها المؤلف في الأصل فقد نقلت معناها مترجمة في نص نثري، مع ذكر الأصل الفارسي في الهامش.

وما يوجد في المتن ما بين معكوفتين [ ] فهو من وضعي للتوضيح سواء كان عنواناً أو في وسط النص.

ونظراً لأن المؤلف في الأصل لم يكثر من الحواشي، فالأصل في النص الـمُتَرْجَم أن الحواشي من المحقق أو المترجم أو الـمُصحح، وما كان من المؤلف فسيُكتب في نهايته (شريعت)، وما كان من المترجم فسيُكتب في نهايته (المترجم)، وهكذا يُكتب في نهاية حواشي المصحح [الـمُصحح]. وأما الحواشي التي لم يُكتب في نهايتها شيء فهي للمحقق.

كما قمنا بتقديم ترجمة للمؤلف وعرض للكتاب.

وأسأل الله تعالى التوفيق في الدارين.

عرض للكتاب

مقدمة الطبعة الثانية

تحدث فيها المؤلف عن انتشار الطبعة الأولى ونفاد نسخها حتى بيعت النسخة بعشرة أضعاف سعرها ما دعاه إلى إصدار الطبعة الثانية، كما ذكر أنه أضاف في هذه الطبعة مسائل وتوضيحات لبعض الفصول كالحديث عن مسائل الاستغاثة بغير الله.

كما تعرض المؤلف لذكر المصاعب التي واجهته في تأليف ونشر آرائه وكتبه، ومنها هذا الكتاب، ومن هذه المتاعب تهديده بالقتل، وبيّن أن كل ذلك بسبب طرحه آراء تخالف العقائد الخرافية التي يروج لها أناس تقوم مصالحهم المادية والاقتصادية في بقاء الخرافة.

مقدمة الطبعة الأولى

خصّصّها المؤلف لشرح حديث (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ...) الحديث، حيث بين المؤلف حقيقة الغربة الأولى التي عاشها الإسلام، وأنها نفس الغربة التي ألقت بظلالها على المسلمين في العصور المتأخرة، ولخّص معالم هذه الغربة بإعراض الناس عن توحيد الله تعالى وعدم إفراده بالعبادة، ولم يُخْف المؤلف شدة أسفه على تخلي المسلمين عن حقائق دينهم وقبولهم للخرافات والبدع الباطلة إلى درجة صارت فيها أسواق التوحيد كاسدة ومتاجر الشرك مكتظة، الأمر الذي دفعه لتأليف هذا الكتاب.

الجزء الأول من الكتاب: حقائق حول توحيد العبادة

تحدث المؤلف في هذا الجزء عن مقدمات في توحيد العبادة، وهي ضرورة الإيمان بأن القرآن حق لا يأتيه الباطل، وأن الغاية التي بُعث بها الأنبياء -كما في القرآن- دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة وترك عبادة من سواه، كما بين المؤلف أن التوحيد نوعان هما الربوبية والألوهية أو التوحيد العلمي القولي والتوحيد العملي الإرادي، ثم وضّح المؤلف معنى العبادة وأن أكمل المراتب التي يصل إلى الإنسان هي مرتبة العبودية، وأن عبادة الله واجب لا يسقط إلا بالموت، ثم تحدث المؤلف عن اختلاف العلماء في أفضل مراتب العبادة وبيّن أن أحسن الأقوال هو أن أفضلها ما كان خالصاً لله وكان موافقا لمقتضى حال كل شخص.

الجزء الثاني من الكتاب: الشرك وأنواعه

تحدث المؤلف عن الشرك فبين أنه قسمان الأكبر وهو عند المؤلف شرك التسوية بين الخالق والمخلوق من كل وجه، والأصغر وهو صرف شيء من الأفعال الخاصة بالله لغيره، ثم تحدث عن بعض أنواع الشرك وصُوره ومنها: الاعتقاد بالتأثير الغيبي للأحجار والحِلَقة والخواتم والتبرك بها أو بالأشجار، وكذلك الذبح أو النذر لغير الله، ودعاء غير الله والاستغاثة بغيره تعالى، وكذلك الاعتقاد بتأثير النجوم (التنجيم)- وهنا استطرد المؤلف فبيّن مذاهب الصابئة ومناظرة إبراهيم الخليل لهم.

كما بيّن المؤلف أن من أنواع الشرك الأصغر التطيّر والتشاؤم وفي مقابل هذا وضّح المؤلف منهج الإسلام في الحث على التفاؤل.

كما أن من أهم الموضوعات التي تطرق لها المؤلف بيان أن الغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم، وكما وضح حقائق مهمة حول التوسل والوسيلة بين العبد وربه.

ثم تحدث المؤلف عن نوع من أنواع الشرك الأصغر وهو الرياء، ثم عاد إلى موضوع الشفاعة فعرفها وذكر أنواعها في القرآن، وشروط حصول العبد على شفاعة الشافعين، وأخطاء الناس في التعامل مع الأسباب.

ثم تحدث المؤلف عن كيفية نشأة عبادة الأوثان وعبادة الأموات مبيناً أهم الأحكام التي وضعها الإسلام لسد الطرق التي قد توصل الناس إلى عبادة القبور، ثم بيّن المؤلف الزيارة المشروعة للقبور وفوائدها، ثم تطرق إلى سبب نشأة عبادة الأوثان والأحجار والأشجار؛ وأشار إلى تحريم الإسلام لصنع التماثيل والصور والمجسمّات حماية للتوحيد وسدّاً لذرائع عبادة الأوثان.

ثم ختم المؤلف كتابه ببيان أن التوحيد هو أساس الفضائل، ثم الحديث عن كيفية ظهور الشرك والخرافات بين أهل الإسلام.

أخيراًَ: ذكر المؤلف قائمة بالمراجع التي استفاد منها في تأليفه للكتاب وهي57 مرجعاًً.

محقق الكتاب

خالد بن محمد البديوي

[مقدمة نجل المؤلف للطبعة الثالثة]

بسم الله الرحمن الرحيم

مضت خمس سنوات على نشر الطبعة الثانية من كتاب «توحيد العبادة»، تأليف المرحوم الوالد الماجد؛ ومنذ أربع سنوات، أصبحت نسخ تلك الطبعة نادرة جدًا، حتى صار طلاب الحق وعشاق الحقيقة يبحثون عنه في كل مكان؛ وحصل عليه البعض بسعر باهظ، ويأس البعض من أن يجده وحُرِم من مطالعته؛ لذا طلب مني الأصدقاء من أنحاء طهران المختلفة ومن سائر المدن أن أقوم بطبعة ثالثة للكتاب ليستفيد منها الباحثون عن الحق والحقيقة. فتشاورت مع السيد حسين دانش صاحب ومؤسس مكتبة «دانش» للنشر والتوزيع حول الأمر، فاستقبله بصدر رحب وأخذ على عاتقه طباعته من جديد مع تحمله لجميع النفقات.

لذا انطلاقاً من مقولة «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْـمَخْلُوقَ لَمْ يَشْكُرْ الْـخَالِقَ»، أجد من الواجب عليّ أن أقدم له أصالة عن نفسي ونيابة عن إخوتي في الإيمان، الشكرَ والامتنان، متمنياً له ولأسرته الكريمة التوفيق والفلاح من الله عز وجل وحسن الختام، وسائلاً المولى عزوجل أن يهدي مجتمعنا إلى صراط التوحيد المستقيم. كما أشكر من جهود السيد إبراهيم الحاج إبراهيمي.

محمد باقر سنگلجي

شهاب الدين

مقدمة الطبعة الثانية

﴿إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (هود:٨٨)

﴿ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٣٩ (يوسف: ٣٩)

﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ ءَآللَّهُ خَيۡرٌ أَمَّا يُشۡرِكُونَ. [النمل: 59] ﴿إِنۡ هِيَ إِلَّآ أَسۡمَآءٞ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰٓ ٢٣ [النجم: ٢٣] ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦ [الأحزاب : ٥٦].

لما خرجت الطبعة الأولى من هذا الكتاب حَظِيَت باستقبال واسع من قبل أولي الألباب، واعتنى بها كثيراً رجالٌ موحِّدون وعلماء أجلاَّء، وقلّت النُّسخ في الأسواق حتى صارت النسخة تُباع بعَشْر أضعاف سعرها، فرأيت أن ذلك إجحاف بأموال العقلاء، وكما أنني تلقيت طلبات كثيرة لهذا الكتاب من بلدان أخرى؛ فقررت أن أقوم - بحول الله وقوته - بطبع الكتاب من جديد.

[تنبيهات]

أولاً: يجد القارئ الكريم في هذه الطبعة زيادات مهمة في الحديث عن مسألة الاستغاثة بغير الله، وكيفية نشأة الأضاحي بين البشر وسبب عبادة الأوثان، والحديث عن أهمية التوحيد وأنه أساس الفضائل، ونحو ذلك.

ثانياً: قمنا في هذه الطبعة بتشكيل الآيات والأحاديث، خلافاً للطبعة الأولى، تسهيلاً للقارئ لا سيما الذي لا يُحسِن العربية.

1وقد قمت بهذا، رغم أن تأليف ونشر هذا الكتاب وكتاب «كليد فهم قرآن= مفتاح فهم القرآن» ومحاضرات مساء الخميس، قد كلفني الكثير من المتاعب إذْ قام عددٌ من الأراذل والجهلة الذين لم يشمُّوا رائحة التوحيد بشنّ حملات مسعورةٍ ضدّي ولم يتوانوا عن كل ما أمرتْهم به أنفسهم الأمّارة بالسوء من الافتراء والبهتان بحقِّي.

نعم؛ إن الكلام بما يخالف عقائد جماهير الناس وآراء العوام وأوهامهم أمرٌ صعب جداً وخطير للغاية، وقد ابتليت بذلك منذ خمسة عشر عاماً، ولا أدَّعي بأنني بِدعاً من الناس في هذا الأمر، ففي كل عصر وزمان عندما يظهر شخصٌ قد أكرمه الله بشيء من التميُّز على أقرانه، ويفهم أكثر من غيره، فإذا بيّن للناس ذلك، واجهه أهل البدعة والضلال بالنفور والكراهية؛ فلا ينبغي أن يتوقع من جميع الناس أن يدركوا كلامه ويفهموه، ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ [النحل: 75]. لأن الجّهال في الغالب هم الأكثرية، ولو كانوا يفهمون لما صاروا إلى هذا الشقاء الذي هم فيه ولما بقوا في مستنقع الجهل كلّ هذا الوقت.

2في اعتقادي إن هذه الفضائح والتهم التي يرميني بها الجهلة وأدعياء الباطل بسبب الإصلاحات التي أقوم بها قليلة لا تساوي شيئاً، لأنني في هذا الكتاب وسائر كتاباتي ومحاضراتي، أعرِّف فيها بإسلام السلف الصحيح، فتكون نتيجته اجتثاث الخرافات من جذورها وهدم المعابد الوثنية فوق رؤوس أصحابها؛ فالذين أَنِسُوا بتلك المقالات وتدبروا القرآن وأدركوا توحيد الإسلام لن يلقوا بالاً بأدعياء الباطل وأنصار الخرافات، ولن يعودوا إلى الأوهام والأباطيل من جديد، فلا عجب أن ترتفع أصوات المرتزقة من تلك الأوهام عندما يرون أن منافعهم مهدَّدةٌ بالخطر، لذا تجدهم يستخدمون كل سلاح ممكن لمحاربة هذه الدعوة التوحيدية. ولنعلم أن حرب هؤلاء ضدنا ليست حرباً دينية بل هي حرب مادية اقتصادية. فيا ليتهم كانوا يعتقدون فعلاً بما يقولون لأن الدفاع عن العقيدة أمرٌ محمود، ولو كانوا متدينين حقيقةً ويعملون لخدمة الدين، فلماذا يهاجمونني باستمرار مع أنني لا أقوم إلا بدعوة الناس إلى الله الواحد رب العالمين وإلى ختم نبوة سيد المرسلين وإلى اليوم الآخر وإلى العلم والتقوى؟!

وقد شاع في مجتمعنا آلاف المنكرات والبدع، وهناك فئات من الناس يحاربون القرآن والإسلام تحت عناوين مختلفة ويقومون بأعمال تهدم الأخلاق والقيَم وتعاليم الدين، فلماذا لا يتصدى لهم أولئك الذين ينكرون علينا؟! ولماذا لا يقومون بمنع من يذهب إلى المراقص والخمارات ويمارسون أكل الربا والاحتكار وأمثالهم؟! ولماذا لا يعملون لمنع الكتب الضالّة والمقالات الضارّة التي تؤدي إلى زوال الدين من أساسه وإلى القضاء على أعراض المسلمين ونواميسهم؟ ولماذا نجد أن كلَّ همِّهم هو منع الناس من قراءة كتابي هذا وكتاب «مفتاح فهم القرآن» ومن سماع دروسي ومحاضراتي؟!

[أسباب الهجوم]

إن أسباب ذلك واضحةٌ:

3أولاً: إنه الحسد الذي يكنّه بعض الأقران والأمثال تجاهي، فالحاسد إذا لم يستطع أن يبلغ مرتبة محسوده، فإنه يسعى ليحط من شأن المحسود في أنظار الناس، ولكن ليعلم الحاسد «أن الحسود لا يسود»، وأن الشخص طالما يعمل ابتغاء مرضاة الله فلن يؤثر فيه حسد الحُسَّاد.

قيل لشيخه: أريد أن أنهى عن المنكر في الأرض ولكنني أخاف من أهل الحسد أن يصيبوني بأذى في معيشتي، فقال له الشيخ: إن عملت ذلك ابتضاء مرضاة الله، فأنت مأمون من بلايا الدنيا والآخرة [27].

4ثانياً: لِما أحدثت كتاباتنا ومحاضراتنا -بحول الله وقوته- تأثيراً كبيراً في المثقفين، وساهمت في تعريف الناس بتعاليم القرآن؛ فمن المؤكد أن الذي تعرّف على حقائق القرآن فسينفكّ عن أهل الدعاوى الباطلة، ولن يطيع بعد ذلك الدجالين وشياطين الإنس، ومن هنا أدرك الحُسَّاد أن مصالحهم أصبحت في خطر، فلجؤوا إلى كل وسيلةٍ للحفاظ عليها، فهددوني أحياناً بالقتل، وأثاروا عامة الناس ضدي؛ ﴿أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ [غافر: 28]. إن أولئك الذين يثيرون الشبهات على آرائي ويحاولون زوراً وافتراءً أن يلبّسوها بالباطل، لا يعلمون أن ما كان لله يبقى وينمو، وأن الله عزوجل ينمي ما كان لمرضاته سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤ [إبراهیم: 24]. وليعلموا أنهم لا يستطيعون أن يهزموا كلمة الحق بالجَلَبَة والضوضاء، لأن الغلبة والدولة تكون في نهاية المطاف للحق، وأن جولة الباطل أيام وإلى الزوال.

يستغل أراذل الناس دائماً الأوضاع المضطربة في المجتمعات، ويظنّون أن الدنيا ستبقى على منوال واحد، لكن الواقع أنه لا بد أن يأتي يوم تنطفئ فيه نيران هذه الحروب الدموية المخربة، وعندئذٍ سيكون ذلك اليوم يوم شقاء وندم للمفسدين.

5إن جميع حوادث العالم وخاصة الحوادث التي نشهدها في هذا العصر -حيث لم يشهد التاريخ مثل هذه الثورات والاضطرابات- امتحانٌ إلهي للناس، فَلْنحذر من اجتياز الامتحان بصورة سيئة. ولكن مع الأسف فإن معظم أهل زماننا يجتازون الامتحان بشكل سيِّء جداً، وكأنَّ شيطان الجهل والرذائل الأخلاقية قد أحكمت سيطرتها عليهم، فأصبحوا لا يتورعون عن ارتكاب أي رذيلة وكأنه ليس في قاموسهم شيء اسمه الفضيلة والتقوى! لقد شاع - كما نرى - النفاق والقتل والسرقة وهتك الأعراض والاحتكار وانعدام الرحمة والظلم والشتم والافتراء وأمثالها إلى درجة تُوجب على الإنسان أن يفر إلى الله. ولكن لا يظنَّنَّ الأعداء أن الأمرَ سيبقى على هذه الحالة دائماً، أو أن بإمكانهم أن يطفئوا نور حقائق القرآن أو يحجبوا كلام الله عن الناس بأكاذيبهم ومفترياتهم، وليعلموا أن الله معنا وأننا سنواصل -بحول الله وقوته- بيان الحقائق وكتابتها، ولن تأخذنا في ذلك لومة لائم ولن ترعبنا هجمات الأراذل والسفلة، سائلين العون والتأييد من الله تعالى.

إن الخوف من الناس يكون لأحد سببين: إما بسبب الطمع في أموالهم، أو مخافة ضررهم وآذاهم، وقد وجدنا علاج هذين المرضين في مستشفى أمير المؤمنين [علي ÷] الذي يقول: «وإِنَّ الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ»[28]. فلن يمنَعَنَا أبداً هَمّ الرزق أو الخوف على أرواحنا من إظهار غيرتنا الإيمانية.

يقول سعدي[29]: «إن الأجدر بنصيحة الملوك هو الذي لا يخاف قطع رأسه ولا يطمع في أموالهم»[30].

غاية الأمر، أنه يجب علينا أن نقتنع بالطعام قليل الدسم، وأن نقطع أُلفتنا بالفجرة اللئام؛ لأن كل من قطع آفة الطمع وأزال من نفسه علة الحاجة أصبح أسداً في الشجاعة وباسلاً في إقامة الدين.

إن هذه المشقَّات والمتاعب التي نتحمَّلُها نعدُّها ذخيرةً لنا ليومٍ تُبلى فيه السرائر، وسوف يحكم الله بيننا في ذلك اليوم في حضور خاتم الأنبياء في محكمة عدله الإلهية، وعندئذٍ سيُدان هؤلاء الأعداء وسنكلهم للمنتقم الحقيقي.

6لا شكَّ أن هذه البذرة التي نزرعها اليوم ستؤتي ثمارها يوماً ما، فنأمل الهداية للشباب المتعلّم المثقّف الذين أَمَلِي فيهم كبير، عسى الله تعالى أن يُسعدهم في المجتمع القادم تحت لواء التوحيد ويوفّقهم لإنشاء المدينة الفاضلة.

وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّـهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ، وَصَلَّى اللَّـهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

شريعت سنگلجي

1362 هـ ق.

[27] آن یکی با شیخ خود گفتا که من ‫لیک می‌‌ترسم‌که از اهل‬ ‫حسد گفت اگر این‌کار بهر حق‬ ‫کنی نهی منکر اندر‬ ‫زمن فتی بر روزگار من رسد از بلاهای دو عالم ایمنی [28] نهج البلاغة / الحكمة 374. [29] هو مشرف بن مصلح المشهور بـ(سعدي شيرازي) ولد في أوائل القرن السابع الهجري (الثالث عشر ميلادي) في مدينة شيراز، وهو ينتمي لعائلة اشتهرت بالعلم والفضل. وفي شبابه الباكر سافر إلى بغداد لتلقي العلم حيث التحق بالمدرسة النظامية الشهيرة، التي بناها الوزير السلجوقي المعروف خواجة نظام الملك، وأهم كتابي سعدي، هما معلمتاه الشهيرتان (كتاب گلستان)-أي حديقة الورود وهو نصوص نثرية، و(كتاب بوستان)- يعني الحديقة، وهو نصوص شعرية-. توفي عام 694هـ الموافق 1294م. [30] «نصیحت پادشاهان کسی را مسلّم است که بیم سَر ندارد و امید زَر».

مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

سُبْحَانَ مَنْ دَانَتْ لَهُ السَّمٰوَاتُ وَالْأَرْضُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَحْمَدُ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ جَمِيْعُ الْخَلاَئِقِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَلْسِنَتِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْـمُجْتَبٰى، أَشْرَفُ الْـمَخْلُوقَاتِ وَأَفْضَلُ الْبَرِيَّةِ، وَأُصَلِّيْ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَمَا صَلّٰى عَلَيْهِ هُوَ وَمَلاَئِكَتُهُ أَفْضَلَ صَلاَةٍ وَأَكْمَلَ تَحِيَّةٍ.

قال رسول الله ص: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيْبًا وَسَيَعُودُ غَرِيْبًا كَمَـا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِینَ یُصْلِحُونَ ما أفَسَدَهُ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»[31].

«بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيْبًا»[32]: أي أن الإسلام عند ظهوره كان غريباً ومستغرباً لدى أهل ذلك الزمن الذين لم يسمعوا بمثل ذلك الكلام من قبل، فمقاصد الإسلام وتعاليمه المقدّسة كانت جديدة بالنسبة إلى العرب بل جديدةً بالنسبة لجميع البشر ومخالفة لما كانوا عليه من عقائد وعادات، فقد كانوا جميعاً منهمكين في عبادة الأصنام والأحجار والنار أو عبادة الأنبياء والملائكة. قال تعالى: ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠.[آل عمران: ٨٠]

كما أنّ النصارى كانوا يعبدون عيسى ÷، والصدوقية[33] من اليهود كانت تعتقد أن عزيراً ابن الله. باختصار، أن كل شيء كان يُعبد سوى الله رب العالمين؛ وكان المقصد من بعثة خاتم المرسلينص دعوة الناس إلى عبادة الله وحده. ولما كانت هذه الدعوة، أي الدعوة لِـعبادة الله الواحد الأحد ولتحطيم الأصنام وإبطالها، مخالفةً لعقائد المشركين وعاداتهم، اعتبروا كلام النبيص ودعوته أمراً عجيباً، كما حكى الله ذلك عن المشركين الذين قالوا: ﴿أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥ [ص: 5].

ولمّا قال لهم الرسولص: «قُولُوْا: لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوْا»، تعجب المشركون وقالوا: كيف يمكن أن نعبد إلهاً واحداً؟! إن هذا الشخص يريد أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا ويحصر العبادة بخالق العالم وحده!.

«وَسَیعُودُ غَرِیبَاً»: أي أن الإسلام كما بدأ غريباً أول ظهوره، فسيعود غريباً فيما بعد، أي أن التوحيد الحقيقي والفضائل الأخلاقية والسنة النبوية القطعية ستُمحى من بين المسلمين وسيحل محلها الشرك والرذائل والبدع، حتى لو قام رجلٌ يدعو إلى التوحيد الحقيقي كان كلامه عجيباً وغريباً بالنسبة إلى الناس.

سبحان‌ الله! لقد ضاعت تعاليم الإسلام ومقاصد خاتم الأنبياءص من بين المسلمين، ولم يعد بالإمكان وجدانها ولو بواسطة مشعل أو مصباح؛ وأحاطتْ ظلمات الجهل والوثنية بالعالم الإسلامي، وتراكم غبار البدعة فوق القرآن، فلم يعد من الممكن غسله بأيّ ماء ولا بيان مقاصد القرآن المقدسة بأي لسانٍ، واستغل دعاةُ الباطل والضالون المُضلّون جهْلَ الناس بالقرآن والدين وضياع مقاصد سيد المرسلين ص، فانقضوا على بعض المسلمين الغافلين وجعلوا أنفسهم هداةً مُرشدين، وأوقعوا النفاق والبغضاء بين المسلمين وقادوا أولئك الغافلين إلى أودية الظلمات وبيادي الضلالات، فأوصلوهم في النهاية إلى مصير هلاك الدنيا والآخرة.

﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٤٦ [الزمر: 46].

لمثل هذا فلنبكِ دماً! لقد حُرِّف الإسلام وحلَّت الخرافات والأباطيل محل حقائق الدِّين إلى درجة أنه إذا قام شخص بتعريف الناس بالدين الحقيقي، سارع الذين لم يقرؤوا سطراً من علوم الدين ولا علم لهم بالقرآن ولا بسنة النبي ص ولا بآثار أئمة الدين عليهم السلام ، والذين هم أبعد الناس عن علوم الإسلام الحقة اليقينية وعن تعاليم خاتم المرسلين ص، وهم مقيدون بسلاسل الكفر وأغلال الخرافات، بل هم خارجون حقيقةً عن الدين وكافرون بشريعة سيد المرسلين ص، سارعوا إلى تكفير هذا الذي عَرَفَ حقيقة الدين؛ ثم يظن ذلك العامي الجاهل أن أولئك حَمَلَة الدين ودعاة شريعة سيد المرسلين ص!! (ويلٌ لنا إذا كان لهذا اليوم غدٌ).

وأما الذين نسوا التعاليم السماوية وهجروا القرآن، وافتروا عليه آلاف الافتراءات، ويقولون إنه محرَّف، وغير قابل للفهم، ويزعمون أن للآية سبعون معنى، أقول كيف يمكن لأمثال هؤلاء أن يهتدوا إلى الحق؟

لماذا يخربون دينك يا الله؟! ولماذا يتلاعبون بتعاليمك يا رب؟!

افتحوا أعينكم أيها المسلمون! ولا يغرنَّكم مثل تلك الكلمات، ولا يبعدنَّكم عن القرآن، واستعيذوا بالله تعالى من شرِّ هؤلاء الشياطين! وإنها مقالات الزنادقة الذين يزعمون بأن القرآن محرَّف أو غير قابل للفهم، فهؤلاء يريدون بذلك أن يسلبوا منكم مصدر الإسلام الأساسي ويُحلوا محله البِدَع والخرافات. أين تاج فخر التوحيد الذي وضعه إياه خاتم المرسلينص على رأس أُمَّته؟ لقد تعرض ذلك التاج إلى ركلات الأوهام والخرافات؛ وازدهرت الوثنيات باسم دين الإسلام!

لقد أصبح الإسلام اليوم أشد غُربةً من يوم ظهوره، وهكذا أصبح المسلم الحقيقي اليوم غريباً وحيداً بين الناس، وكيف لا يكون غريبًا بين أناس افترقوا في عقائدهم وعاداتهم إلى اثنين وسبعين فرقة، بل إلى أكثر من ذلك، وأصبح كل فرقة تابعة لشخصٍ أحدث مذهباً، وأضاف بدعةً إلى البدع الأخرى. وكل واحد من أدعياء الباطل ألبسوا جسد الإسلام المقدس ألبسةً مختلفةً، وأصبحنا نسمع من كل حدبٍ لحناً ومن كل صوبٍ نغمةً مرتفعةً؛ أحدهم يدعي الألوهية وآخر يدعي النبوة وثالث مسكين يدعي الولاية والإمامة، ولكل منهم مريدون وأتباع يضيِّعون عمر العامة من الناس في تقبيل الأيادي والأرجل والسجود لغير الله. ولا يزدهر سوق أحدهم إلا بمخالفة الله ورسوله، لأن القرآن يخالف مقاصدهم وهواهم، وهدف القرآن هو دعوة الناس إلى طاعة الله عزوجل وإلى تزكية النفس واصلاحها وإلى التقوى والفضيلة؛ ولهذا كان عليهم – كي يتمكنوا من ترويج مقاصدهم وتسويق بضاعتهم- أن يسقطوا القرآن من الحُجِّيَّة حتى يفتح لهم الطريق أمام نشر بدعهم وضلالاتهم وأوهامهم وخرافاتهم بين الناس. هؤلاء هم الذين سيشتكي منهم الرسول الأكرمص يوم القيامة أمام العدل الإلهي: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا ٣٠[الفرقان: 30].

إذا أنعم الله تعالى على شخصٍ بمفاد قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ[البقرة: 213 والنور: ٤٦]، فمنحه بصيرةً في الدين وعِلماً بسنة سيد المرسلين وفهماً وتدبراً للقرآن المبين، وعرَّفه بالبدع والخرافات، فعليه أن ينهض -بحول الله وقوته- إلى السير إلى صراط الله المستقيم، صراط القرآن الكريم، وليُعدَّ نفسَه لنفور الناس عنه، ولطعن الجاهلين وإهانة المبتدعة والضالين. فلا شك أن هذا الشخص سيكون غريباً في دينه لأنه لا يتماشى مع دين الناس الباطل؛ وغريباً في التمسك بالسنة لأن البدعة حلتْ محل السنة؛ وغريباً في عقيدته لأن حوله الشرك والخرافات؛ وغريباً في مجتمعه ومعاشرته لأنه لا يتماشى مع الناس في أهوائهم. سوقُهُ كاسدة لأن متاعه التوحيد والأخلاق وليس لهذا المتاع من يشتريه: عُشّاقك لا يريدون إلا مُقْلةً دامية يا أتباع الهوى ابتعدوا عني المسكين ولا يريدون إلا قلباً متألماً بالأفكار رجال طريق الله لا يريدون الدنيا ومتاعها[34] وليعلم مثل هذا الشخص أن لا أنيس له إلا الله، وأن لا يبالي بالناس [وليتذكر دائماً أن مَن أرضى الناس بسخط الله وكّله اللهُ إلى الناس وَمن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس]، وليفر إلى الله وينزع خوف الخلق من قلبه، لأن الله وحده كافيه، وليصبر على أذاهم. إن الموحد لو نثرْتَ الذهبَ عليه لم يرجُ ولم يَخَـفْ أحدًا [إلا الله] ولو وضعْتَ السيف الهندي على رأسه هـذا هو أسـاس التـوحيـد ومبناه[35] نعم، قد يكون في الظاهر وحيداً في هذا الدرب، بلا مساعد من الناس، ولكن ليعلم أنه ليس وحده، لأنه يمشي في طريق قد سلكه من قبله أكابر البشر وساداتهم؛ فهذا الطريق طريق نُوحٍ نجِيِّ الله(÷)، وحامل مشعله شيخ الأنبياء إبراهيم خليل الله(÷)؛ إنه الطريق الذي سلكه موسى وعيسى( عليهما السلام ). ورئيس القافلة في هذا الطريق هو أشرف المخلوقات خاتم النبيين (ص). إنه الطريق الذي استشهد فيه المرتضى(÷) وأوذي فيه المجتبى(÷)، وقدّم فيه الحسين المظلوم(÷) تضحيات باهظة. إنه الطريق الذي أُسر فيه زين العابدين(÷) وحُبِس لأجله موسى بن جعفر(÷)؛ وبذل الحكماء والعلماء أرواحهم رخيصة في هذا الطريق.

قال علي (÷): «لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِیقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ»[36]. إن الأنبياء هم روّاد القافلة وسيدنا (محمدص) هو إمام الأنبياء وختم الله به أمر النبوة والرسالة وهو الإمام وجميع القلوب يقتدي به وهم هداتها وهو الأول والآخر في هذا الدرب وأنزل عليه اُدع إلى الله وهو الذي يتمسك به الجميع[37] مادام أن الأنبياء معه في هذا الطريق وأن قائد القافلة هو خاتم النبيّـين (محمدص)، [فليطمئن السالك في هذا الدرب] وينزع عن قلبه الخوف، لأن الله معه وهو المرافق للرسل الكرام، فلن يستطيع الشياطين أن يتعرض له أبداً. ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓ [الطلاق: 3]، ﴿كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓ [الـمجادلة: 21].

«فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِینَ یُصْلِحُونَ ما أفَسَدَهُ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»: أي فطوبى للغرباء الذين يفهمون الدين ومقاصده، ويستطيعون أن يميّزوا بين التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، ويُصلحون ما أفسده الناس من سنة النبيص.

7هذا العبد الضعيف [شريعت سنگلجي] قضيت سنوات طويلة في دراسة العلوم الإسلامية والتبحّر فيها بعمق، وبذلت قصارى جهدي بقدر الطاقة البشرية في تعلّم التفسير والحديث والكلام والفلسفة والفقه والأصول والتاريخ واجتهدت فيها، وقمت بمطالعات وافية في الملل والنحل والأديان، واهتديت إلى القرآن طبقاً لمفاد قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا... [العنكبوت: 69]. وحقّقت في دين الإسلام الحنيف وبحثت فيه وميّزت بقدر طاقتي بين الحقّ والباطل وألقيت عن نفسي أثقال الشرك والأوهام وكسّرت سلاسل الخرافات وأغلال الأباطيل، ونهلت من معين القرآن الزلال واهتديت بنوره؛ ولما رأيت أن الأمور التي فهمتها قد شهد على صحتها وحقيقتها شاهدا عدل: العقل والشرع، وأنني إذا لم أظهر الحقيقة للمتعطّشين لها لانطبق عليّ هذا الحديث الشريف: «إِذا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي الدِّينِ فَعَلَى الْعَالِمِ أَن يُظْهِرَ عِلْمَهُ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»[38]، فاستحققت ذلك اللعن الذي أخبر عنه رسول‌اللهص. لذلك شمّرت عن ساعد الجد وبدأت بما هو الأهم، وهو توحيد الإسلام الذي هو ركن الدين الركين ومحور سعادة الدنيا والآخرة؛ ولكن مع الأسف أصابه التحريف والتبديل وتحوَّل لدى الناس إلى معنىً آخر، إذ انتشر باسمه ألف شركٍ وشرك. أسأل الله تعالى أن يوفِّقني لبيان هذا الأمر الهام والمقصد الأسنى الذي تستند إليه دعوة الرسل في بضع كلمات، لإخوتي من أبناء اللغة الفارسية؛ آملاً أن يكون عملي ذلك ذخراً لي في الآخرة.

شريعت سنگلجي

شوال المكرم/ (1361هـ).

[31] عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال: «الإِسْلاَمُ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَـا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». (انظر: بحار الأنوار ج13ص194). ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف أن رسول الله ص قال: «إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي». (جامع الترمذي/كتاب الإيمان، ح2630). ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، ح145، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ص: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». [32] قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن (ص 361): «وقيل لكل متباعد غريب، ولكل شيء فيما بين جنسه عديم النظير غريب، وعلى هذا قوله علیه الصلاة والسلام: «بدأ الإسلامُ غریباً». وقیل: العلمـاء غرباء لقلتهم فیما بین الجهال». (شريعت) [33] الصدوقيون: فرقة يهودية قديمة سميت بهذا الاسم نسبة إلى رجل يقال له صدوق وهو كاهن كبير على عهد سليمان عليه السلام وكانت في ذريته رئاسة الكهنوت حتى سنة 160هـ- وهذه الفرقة حلوليّة أقرب ما تكون إلى الوثنية، انتهى أمرهم إلى إنكار الآخرة وإنكار ووجود الملائكة والشياطين وإنكار القضاء والقدر المسبق. (راجع موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للمسيري وكتاب دراسات في اليهودية والمسيحية للأعظمي وكتاب الفرق والمذاهب اليهودية منذ البدايات لعبد المجيد همو). [34] عشاق تو جز دیده‌ی خونبار نخواهند ای بولهوسان دور شوید از من مسكین غیر از دل آزرده‌ی افكار نخواهند مردان رهش رونق بازار نخواهند [35] موحد چه زر ریزی اندر‬ ‫‫برش امید و هراسش نباشد‬ ز کس چه شمیشیر هندی نهی برسرش بر اینست مبنای توحید و‬ ‫بس [36] نهج البلاغة2/181، «الغارات» لإبراهيم بن هلال الثقفي، ج2/ص398. [37] در این راه انبیاء چون‬ ساربانند وز ایشان سید ما گشته‬ ‫سالار بر او ختم آمده پایان این‬ ‫راه شده او پیش دل‌ها جمله‬ ‫در پی دلیل و رهنمای کاروانند هم او اول هم او آخر در‬ ‫این‌کار بدو منزل شده ادعو‬ ‫الی ‌الله گرفته دست جان‌ها دامن‬ ‫وی [38] ورد في الكافي للكليني (1/54)، عن النبي (ص): «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ». وانظر الوسائل (16/ 269، 271).

(1) تفسـير التوحيـد وإفراد الله بالعبادة وأن «توحيد العبادة» قطب رحى القرآن

إن القرآن الكريم يدعو الذين ضلّوا عن الطريق وتعطشوا في مستنقعات الشرك والوثنية إلى كوثر التوحيد، وإلى منزلة التفريد[39]، وينقذ الذين سقطوا في حُفَر الوثنية والثَّنَوِيَّة[40] بحبل التوحيد القويم.

تمسك بحبل القرآن بيديك لتتخلص من بئر هذا العالم الأجاج

يا يوسف! ما أُنزل هذا الدلو في البئر إلا لانقاذك[41]

يعتمد الفهم الدقيق لـ«توحيد العبادة»، الذي هو قطب رحى القرآن، على التمهيد بعدة أصولٍ وقواعد:

[39] يستعمل التفريد عند الصوفية بمعانٍ عديدة، منها: ا- أن يكون وصفا للعبد، وهو حال يصل إليه السالك بعد وصوله إلى التجريد، ويعرِّف الكلاباذى التفريد بهذا المعنى بأنه هو "أن يتفرد عن الأشكال، وينفرد فى الأحوال، ويتوحد فى الأفعال، وهو أن تكون أفعاله لله وحده، فلا يكون فيها رؤية نفس، ولا مراعاة خلق ولا مطالعة عوض...". 2- أن يكون التفريد مختصاً بالرب- جل جلاله- وهو معنى من معانى توحده بإفراده عن المحدثات، إذ لا مجانسة بينه وبينها. فهو واحد أحد، فرد صمد، متفرد فى ذاته وصفاته وأفعاله. (انظر: المعجم الصوفى، د/ سعاد الحكيم- طبع دندرة للطباعة والنشر- لبنان، ط 1، سنة 1981م). [المُصحح] [40]الثَّنَوِيَّة: المانوية، وَهُوَ مَذْهَب يَقُول بإلهين اثْنَيْنِ إِلَه للخير وإله للشر ويرمز لَهما بِالنورِ والظلام. المعجم الوسيط، ص122(ط. دار الدعوة). [المُصحح] [41] از چاه شور این جهان بر حبل‬ ‫قرآن زن دو دست ای یوسف، آخر بَهْرِ توست این‬ دَلو در چاه آمده

الأصل الأول:

أن من ضروريات الإسلام أن كل ما أنزله الله في القرآن حق وصدق محض، لا يأتيه الباطل، ولا يتطرق إليه الكذب، فهو حقيقة الهداية وجوهر العلم والدراية، ولب لباب اليقين، وأنه العروة الوثقى المتينة. ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦ [فصلت: 42]. ولا يتحقق إسلام المرء إلاّ بالاعتراف بهذا الأصل والتصديق به.

الأصل الثاني:

أن الهدف من بعْث الأنبياء والرسل دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، فقد جاء الأنبياء ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده، ويُذكِّرهم بإفراد الله بها، لأن البشر رغم إيمانهم بالفطرة أن للعالم خالق، ورغم عبادتهم له، إلا أنهم بسبب من الأسباب كتقليدهم للآباء والأجداد، وغيره من الأسباب ينحرفون عن هذه الفطرة، فيتوهمون أن هناك آلهة أخرى تستحق العبادة مع الله الخالق، فيصنعون لهذه الآلهة تماثيل ويعبدونها، «كُلُّ مَوْلُودٍ یولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ یهَوِّدَانِهِ أو یمَجِّسَانِهِ أو ینَصِّرَانِهِ»[42].

وما بُعث الأنبياء والرسل إلا ليعيدوا الناس إلى فطرتهم الأولى ويدعوهم إلى التوحيد في العبادة وإفراد الله بها.

وأول ما كان يدعو إليه كل نبي قومه، هو قوله: ﴿يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ [الأعراف: 59].

قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاریات: 56].

﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ[43] [النحل: 36].

﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ [الإسراء: 23].

﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا [النساء: 36].

﴿أَن لَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَ [هود: 26].

﴿أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ٣ [نوح: 3].

في الحقيقة، كل هذه الآيات تدعو إلى حقيقة «لا إله إلا الله» وجوهرها، وإلى تحقق حقيقة عبادة الواحد القيوم، وهذا لا يكون بمجرد الكلام ولقلقة اللسان، بل إن معنى «لا إله إلا الله» إفراد الله بالألوهية والعبادة ونفيها عن سواه، والبراءة من عبادة غير الله. ليس في قلب الدرويش إلا جمال قامته البيت ضيقٌ لا يتسع إلا لواحد[44] إن المسلم العالم بكتاب الله وسنة نبيه وآثار الأئمة الطاهرين عليهم السلام لا يشك في هذا الأصل أبداً.

[42] من لا يحضره الفقيه، (2/ 50)، وسائل الشيعة، (11/ 96)، وبحار الأنوار، (3/ 22، 100 ص65). وصحيح البخاري (2/97)، وصحيح مسلم، (8/ 52). [43] يقول الراغب في «المفردات» [ص308]: «الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ولهذا سُمِّي الساحر والكاهن والصارف عن طريق الخير طاغوتاً». ويقول السيوطي في الإتقان [1/294]: «الطاغوت الكاهن بلغة الحبشة». [شريعت] [44] جز الف قامتش در دل‬ درویش نیست خانه‌ی تنگ است دل جای یکی بیش نیست

الأصل الثالث: التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

توحيد الربوبية: هو الإقرار والاعتراف بأن الله خالق جميع الموجودات وهو رب العالمين. وقد كان المشركون مُقرين تماماً بهذا التوحيد، كما قال الله تعالى في كتابه المجيد حكاية عن المشركين: ﴿وَلَئِن سأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ [لقمان: 25].

﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦ [یوسف: 106].

﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ ٩ [الزخرف: 9].

وكذلك كان المشركون يقرون ويعترفون بأن الله تعالى هو الرازق والمحيي والمميت، ومدبر السماوات والأرض، وهو الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، كما قال تعالى:

﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣١[یونس: 31].

﴿قُل لِّمَنِ ٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٤ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٨٥[المؤمنون: 84-85].

﴿قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبۡعِ وَرَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٨٧ [المؤمنون: 87].

﴿قُلۡ مَنۢ بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ فَأَنَّىٰ تُسۡحَرُونَ ٨٩ [المؤمنون: 88-89].

فكل مشرك مُقرّ بأنّ الله تعالى هو خالقه وخالق العالم كله، وكما يُقّر بأن الله رازقه ومحييه ومميته. ولذلك كان الأنبياء والرسل يستدلون على المشركين بما كانوا يعتقدون به. ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُ [النحل: 17].

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥ [الحج: 73].

توحيد الألوهية والعبادة: وهو عبادة الذات الإلهية المقدسة بجميع أنواع العبادات -كما سيأتي تفصيله لاحقاً-، وهذا النوع من التوحيد هو الذي وقع فيه الشرك بين البشر؛ ولفظ الشريك بحد ذاته يدل على أن المشركين يعترفون بأنّ الله هو الخالق لجميع الموجودات.

إن الأنبياء والرسل كانوا مأمورين بتقرير وإثبات التوحيد بالمعنى الأول، أي توحيد الربوبية، وفي القرآن الكريم أدلة متقنة في تقريره وإثباته؛ ولكن التوحيد بالمعنى الثاني، أي توحيد العبادة كان موضع اهتمام الأنبياء بشكل عام واعتناء القرآن الكريم بشكل خاص، وهو قطب الرحى وأساس دعوة القرآن، والمحور الذي تدور عليه آياته، وهو معنى وحقيقة «لا إله إلا الله». قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ [النحل: 36].

فالغرض من بعثة الأنبياء والرسل إلى جميع الأمم هو الدعوة إلى عبادة الله وحده. كما تدل عليه عبارة: ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٖ بصراحة على أن بعثة الرسل إلى جميع الأمم كانت بهدف الدعوة إلى توحيد العبادة، لا لإثبات وجود خالق العالم، لأن المشركين كانوا يقرون بذلك.

وبسبب اعتراف المشركين بخالق العالم، نجد أن بعض آيات القرآن تحدَّثَتْ عن خالق العالم بصيغة الاستفهام التقريري[45]، كقوله تعالى:

﴿هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ [فاطر: 3].

﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُ [النحل: 17].

﴿أَفِي ٱللَّهِ شَكّٞ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ [إبراهیم: 10].

﴿قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ[الأنعام: 14].

﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ[فاطر: 40].

فمن هذه البيانات يتّضح تماماً أنّ المشركين لم يجعلوا الأصنام شركاء لِـلَّهِ في خلق السموات والأرض، وهكذا النصارى بالنسبة إلى المسيح وأمّه مريم، وكذلك عُبَّاد النجوم والكواكب والملائكة لم يكونوا يعتبرون هذه المعبودات خالقةً رازقةً لهم ولا مُحْيِيَةً مُمِيْتَةً بل أشركوها مع الله في عبادتهم، واتخذوها شفعاء، وقالوا: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ [یونس: 18].

[45] ولكن الآيات التي ذكرها المؤلف هي استفهامات إنكارية وليست تقريرية. [المصحح]

[أنواع توحيد العبادة]

وهذا التوحيد قسمان:

1- توحيد في القول والعمل

وهو الاعتقاد بأن الله تعالى بسيط الحقيقة، ومنزّه عن التركيب الخارجي الذي هو المادة والصورة، ومنزه عن التركيب العقلي الذي هو الماهية والوجود[46]. والخلاصة، تنزيهه تعالى عن كل صفات الممكن، كما قال تعالى: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞ [الشورى: 11].

وسورة التوحيد [الإخلاص] تثبت غاية التنزيه ومطلق التقديس للذات الربوبية: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ ٢ لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ٣ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ ٤ [الإخلاص: 1-4]. أيها المنزه من الصاحبة والولد والزوج أنَّى لي أن أشكر نِعَمَك؟[47]

[46] المؤلف رحمه الله جرى على طريقة تنزيه الله بنفي التركيب، ونهاية هذه الطريقة تؤول إلى نفي أي صفة تجعل لله وجوداً خارج الذهن وخارج التصور العقلي، والقائلون بهذا تصوروا أن إثبات صفات حقيقية يؤدي إلى وصف الله بالأعراض وهو يخالف البساطة عندهم، ولهذا عمدوا إلى جميع الصفات وأرجعوها إلى معنى العلم والإدراك وجعلوا صفاته هي عين ذاته، ويكفي لبيان مخالفة هذا القول للصواب ما يلي: أ. اعتبار تعدد الصفات الحقيقية للموصوف تركيباً اصطلاح محدث يخالف الشرع والعرف، لأن الشرع أثبت صفات كثيرة للرب الواحد والنظر إنما هو في المعاني العقلية، والعرف يثبت للموجود صفات متعددة. ب. أن المركب لا يعقل إلا فيما ركبه مُرَكِّبٌ وهذا ممتنع في حق الموجود بنفسه (الله) الغني عن كل ما سواه بل هو الفاعل لكل ما سواه، فإذا قُدّر أنه متصف بصفات متعددة، لم يكن أحد ركبه ولا ركبها فيه. ج. هذا التركيب أمر اعتباري ذهني، ليس له وجود في الخارج، كما أن ذات النوع من حيث هي عامة، ليس لها ثبوت في الخارج. [47] ای منزه از زن و فرزند و جفت کَی توانم شکر نعمت‌هات گفت

2- التوحيد في الإدارة والعمل

وهو أن لا يريد الشخص سوى الذات الأحدية المقدسة، ولا يقصد سوى الحقيقة القيوميّة [أي أن لا يتوجه الشخص إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده ولا يقصد غيره]: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ٦ [الانشقاق: 6]. وسورة الجحد المثبت (الكافرون) تثبت توحيد الإرادة وتحققه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ ١ لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ ٢ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ ٤ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٥ لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦ [الكافرون: 1-6] [48].

إن أساس دعوة القرآن هو بيان توحيد الإرادة ووحدة المراد، لأن سبب اختلاف البشر هو اختلاف المراد وتشتت الإرادة، حيث جعل كل شخص لنفسه مراداً، يطلب حوائجه منه، ويدعو الناس إليه [معتقداً أن مراده الخاص له هو الحق]، وأن مراد غيره باطل.

وعندما تتعدَّد المُرادات يقع الاختلاف والنزاع بين المريدين، وسيبقى هذا النزاع ولن يزول ولن يصل الناس إلى الصلح والسداد طالما بقيت هذه المرادات مختلفة، لأن سعادة البشر رهينة اتحاد مُرادهم وتوحيد مَرَامهم وإرادتهم.

ومع الأسف، فإن اختلاف المُرادات الذي يستنتج اختلاف الإرادات، هو السائد بين الناس، بدءاً من الوثنيين الذين جعل كل فرقة منهم صنماً مراداً لهم واخترعوا لأنفسهم رباً: فالتاميليون اتخذ فريق منهم «بوذا» مراده، وآخرون «براهما»؛ واتخذ آخرون موسى[49]، وغيرهم عيسى معبوداً ومُراداً. ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم ِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠ [آل‌عمران: 80].

إن دعوة خاتم النبيين ص، إضافة إلى الإطاحة بجميع الأصنام والأوثان والآلهة، كانت قائمة على وحدة البشر واتحاد مرامهم ومرادهم. لقد دعا النبيص الأممَ المختلفةَ إلى إلهٍ واحدٍ ومراد (معبود) واحدٍ، وجعل الفضيلة والعلم والتقوى قبلة آمال البشر لينالوا السعادة الكبرى. قال تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ... [آل‌عمران: 64].

فهذه الكلمة التي دعا إليها تشتمل على ثلاثة أمور:

أولاً: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وهذا تعريض باليهود الذين عبدوا عُزَيْراً وبالنصارى الذين عبدوا عيسى.

ثانياً: ﴿وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا أي لا نشرك مع الله معبوداً آخر بأي قسم من أقسام [العبادة] والشرك.

ثالثاً: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ، وصورة اتخاذ الأرباب عند النصارى، أنهم كانوا يسجدون لأحبارهم، ويعتقدون أنه بفضل ممارسة الرياضة الروحية ظهر فيهم أثر حلول اللاهوت؛ وأما اتخاذ الأرباب عند اليهود، فإنهم كانوا يطيعون أحبارهم في التحليل والتحريم[50].

لماذا يجب أن يكون مراد البشر مراداً واحداً، وهي الذات الربوبية تبارك وتعالى؟ لأنه لو كان مراد البشر كائناً ممكناً وحادثاً، فإن هذا الكائن الحادث لا بقاء له بل سيؤول بالضرورة إلى الزوال والفناء، فإذا فني المراد وانعدم ماتت الإرادة وانهارت. والإرادة التي تتجه كل يوم إلى مراد جديد لن تكون قوية أبداً. هذا في حين أن سعادة الدنيا والآخرة هي نصيب أصحاب الإرادات القوية.

إن الإسلام والقرآن يحثان على تحصيل العلم وتقوية الإرادة، ولا سبيل لتقوية الإرادة إلا أن يكون مراد الإنسان موجوداً حياً لا يموت، لا يَفنى ولا يزول، [وهو الله جلّ جلاله]. ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ [البقرة: 255].

لقد مدح الله تعالى الرجال الذين يقصدون الحيَّ الذي لا يموت، فقال: ﴿وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥ [الأنعام: 52].

وقال تعالى في حق النبي ص في مقام آخر: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٖ تُجۡزَىٰٓ[51] ١٩ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٢٠ وَلَسَوۡفَ يَرۡضَىٰ ٢١ [اللیل: 19-21].

وخلاصة الكلام، أن الإرادة إذا تعلقت بالمراد الحقيقي الذي هو الله تعالى الباقي الذي لا يزول، بحيث لا يكون للإنسان مقصودٌ سواه، فإن هذه الإرادة تستطيع أن تقتلع الجبال، وصاحبها ينعم بالسعادة الدائمة والهناء، ولازم هذه الإرادة هو إخلاص الدين لله رب العالمين. ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ [البینة: 5].

[48] قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير هذه الآية: «إن المقصود من الأولين: المعبود، و(ما) بمعنى (الذي)، فكأنه قال: لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله، وأما في الأخيرين فـ(ما) مع الفعل في تأويل المصدر، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين». (شريعت) [49] لم يُعْرَف عن قوم موسى أنهم عبدوه أو ألَّهُوه، كما فعل النصارى بحق عيسى، نعم عبد بعض قوم موسى العجل، وانحرف بعضهم عن التوحيد وقالوا عزير ابن الله. [المصحح] [50] المروي في كتب التفسير والحديث هو تفسير النبي ص لاتخاذ النصارى بعضهم أرباباً أنهم كانوا يطيعون أحبارهم طاعة الأرباب. عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ص.... فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ... [التوبة: 31]. قَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ. قَالَ: «أَجَلْ، وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ، فَيُحَرِّمُونَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ». [رواه الترمذي في سننه (3095) والبيهقي في سننه الكبرى (20847)]. ويقول الطبرسي مثلا في تفسيره «مجمع البيان» مفسِّراً الآية المذكورة: «ورُوي عن أبي عبد الله أنه قال: ما عبدوهم من دون الله ولكن حرَّموا لهم حلالاً وأحلُّوا لهم حراماً، فكان ذلك اتخاذهم أرباباً من دون الله». [المُصحح] [51] أي ليس لأحد حق عليه حتى يكون قصده من إعطاء المال أداء حق الناس. (شريعت)

الأصل الرابع: في بيان حقيقة العبادة ومعنى العبودية

يقول الزمخشري في (الكشاف): «العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل... ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع للَّـهِ تعالى»[52].

ويقول محققو السلف: «العبادة هي غاية الحب مع شدَّة الخضوع وغاية التذلل والانقياد لله تعالى».

ولكن هذا المعنى [قد يكون] موجوداً أيضاً لدى العاشق المجازي تجاه معشوقه، الذي يَكِنُّ له غاية الحب ويبدي له شدة التذلل والخضوع. لذا فإن ما يقتضيه التحقيق، كما ذهب إليه بعض المحقِّقين، هو أن حقيقة العبادة هي غاية الحب ونهاية التذلُّل والخضوع أمام الرب جل وعلى، مع الاعتقاد والشعور بأن لهذا المعبود الحقيقي سلطان غيبيٌّ وحُكْمٌ نافذ فوق العلل والأسباب، فهو بسلطانه وقدرته التامة قادر على النَّفْع والضُرِّ، وعلى تغيير الأسباب وخلق أسباب أخرى، فهو مسبِّب الأسباب وميسِّر كلِّ الصعاب، وأنه المحيي والمميت والرزَّاق والشافي والكافي، وهو غياث المستغيثين ورحمةٌ للعالمين.

وعلى هذا، فإن كل دعاء وثناء يكون مصحوباً بهذا الاعتقاد والشعور بالمعنى الذي ذكرناه، فإنه عبادة.

وخلاصة الكلام، أن حقيقة العبادة هي الحب والذل، مع الاعتقاد بأن المحبوب هو خالق الأسباب، وأنه فوق الأسباب، وصاحب القدرة الكاملة. ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٦٢ [النمل: 62]

كلمة «لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» هي رأس العبادة، وأساس التوحيد. ولما قال الرسول الأكرم ص: «قُوْلُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوا»، فإن المشركين -بوصفهم أهل اللغة [يدركون حقيقة معاني الكلمات ومراميها]-، لما سمعوا هذه الكلمة، علموا أنهم إذا قبلوا هذا الكلام فيلزمهم أن يتبرؤوا من كل معبود من دون الله، وأن لا يخضعوا ولا يتذللوا لأحد غير الله، وأن لا يسألوا حوائجهم من غيره تعالى، وعندها ارتفعت أصواتهم قائلين: ﴿أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥ وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ ٦ مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ ٧ [ص: 5-7]

النتيجة:

أنك إذا عَلِمْتَ هذه الأصول الأربعة، فاعلم أن الأنبياء والرسل إنما بُعِثوا لدعوة العباد إلى إفراد الحق تعالى وحده بالعبادة، وليس من أجل أن يُثبتوا أن الله خالق الموجودات، لأن جميع المشركين كانوا يعترفون بذلك.

أن للعالم صانع اسمه الله، هو الذي أسكن أمواج البحار الهائجة [53]

ولهذا كان المشركون يقولون: ﴿أَجِئۡتَنَا لِنَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَحۡدَهُۥ [الأعراف: 70]. فلم يكونوا ينكرون الله وعبادته أبداً، بل كانوا يعتقدون أنه يستحق العبادة، ولكنهم كانوا يعتقدون شركاء له في العبادة، يقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ [البقرة: 22].

كان المشركون يقولون في تلبية الحج: (لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إِلا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ)، لما سمع رسول الله ص هذه التلبية من المشركين قال: لو أنهم تركوا قولهم «إِلا شَرِيكًا هُوَ لَكَ» لكانوا موحدين[54].

فإذن من لوازم الشرك، أن يكون المشرك معترفاً بالله ومقراً بوجوده. ويقول الله تعالى أيضاً: ﴿أَيۡنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ[الأنعام: 22]. ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ[الأعراف: 195].

والحاصل، أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام بخشوع وخضوع، وينذرون وينحرون ويذبحون لها معتقدين بأنها تقربهم إلى الله زُلفى، وأنها ستشفع لهم يوم القيامة[55]: ﴿وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ [یونس: 18].

يُفهم من هذا كله، أن التوحيد الذي جاء به الأنبياء والرسل هو توحيد العبادة.

ولقد كان المشركون على أنواع: منهم من كان يعبد الملائكة، ومنهم من كان يسأل حوائجهم من النجوم والكواكب والشمس، وبعضهم يعبدون الأصنام، وبعضهم يقدسون الأحجار؛ وجميعهم يلجؤون إلى هذه المعبودات في الشدائد والمصائب. فبعث الله تعالى خاتم النبيين ص، ليقول لهم إن كنتم تؤمنون بأن الله واحد في ربوبيته [أي أنه وحده الرب والخالق والرازق والمدبر]، فاعبدوه وحده، ولا تعبدوا غيره ولا تسألوا حوائجكم من غيره، وأذعنوا لحقيقة (لا إله إلا الله)، واعملوا بمقتضاها. ﴿لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم [الرعد: 14]. ﴿وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [المائدة: 23]‬. لأن العز والذل والغنى والفقر والرفعة والملك، كلها بيد الله. ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٦ [آل‌عمران: 26].

وأمر اللهُ العبادَ أن يقولوا: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥ [الفاتحة: 5]. وبهذا نعلم أن من يستعين بغير الله فهو مشرك بلا شك.

ولا يتحقَّق إفراد الله تعالى بالعبادة إلا إذا توجَّه العبد بالدعاء و[كل أشكال] العبودية لله تعالى وحده، بحيث لا يدعو العبد في الشدة والرخاء إلا الله وحده، ولا يلجأ إلا إليه، ولا ينذر النذور ولا يذبح القرابين إلا لله وحده؛ فينبغي أن يكون جميع أنواع العبادات من الركوع والسجود والقيام تذللاً والطواف وغيره لذات الحق الدائم سبحانه فقط. وكل من قدم شيئاً من هذه الأعمال لمخلوقٍ حي أو ميّت، صنم أو مَلَك، أو جن أو حجر أو شجر أو قبر أو غيرها فهو مشرك. فكما أن إقرار المشركين بأن الله رب العالمين [وخالق الكائنات] لم ينقذهم عن الشرك، فكذلك مجرّد الاعتراف بالله سبحانه وتعالى وبخاتم النبيينص وبالأئمة الطاهرين عليهم السلام لا يُخرج الشخصَ عن الشرك إذا كان يقدم تلك العبادات لغير الله تعالى. قال رسول الله ص «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. لاَ یَقْبَلُ اللهُ عَمَلاً شُورِكَ فِیْهِ غَیْرُهُ. وَلاَ یُؤْمِنُ بِهِ مَنْ عَبِدَ مَعَهُ غَیْرَهُ»[56].

وعليه، فالذي يعبد غير الله لا ينفعه اعترافه بوجود الله، لأنه قد ساوى بين المخلوق والخالق في الحب والعبادة وغيره، كما قال الله تعالى عن قول المشركين: ﴿تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ٩٧ إِذۡ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٨[الشعراء: 97-98]. رغم أن المشركين لم يساووا الرب بالخَلْق من جميع الجهات والحيثيَّات، ولم يعتقدوا أن الأصنام خالقةٌ للعالم، بل عبدوها فقط، واتخذوها شفعاء [تشفع لهم عند الله]، وسجدوا لها ونذروا لها النذور ونحروا لها القرابين، راجين منها الشفاعة والبركة، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦ [یوسف: 106]. والمراد بهم في هذه الآية، مشركو مكة، الذين كانوا يقولون: ربنا الله، ثم جعلوا الملائكةَ بنات الله؛ ويدخل في الآية اليهود الذين كانوا يؤمنون بالله ولكنهم يقولون إن عُزَيْر ابن الله، والنصارى الذين آمنوا بالله ولكنهم جعلوا المسيح ابن الله.

لقد جعل الله تعالى الرياء في الطاعات شركاً، وسمّى المرائي مشركاً [57]، مع أن المرائي لا يعبد غير الله، ولكنه يريد بطاعته وعمله أن ينال منزلة ومكانة في قلوب الناس، بأن يقولوا فلان متديِّن. فخلط العبادات بقصد تحصيل الجاه والمنزلة في قلوب الناس شركٌ. قال تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥ ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦[الماعون: 4-6].

إن دلالة القرآن الكريم على أهمية التوحيد وخلو العبادة من الرياء واضح، ولكن نتعجب أشد العجب ونأسف كثيراً أن نرى جهّال ملة الإسلام وأمة التوحيد يروّجون جميع مظاهر الشرك باسم الإسلام؛ فهم اسماً موحدون مسلمون، وحقيقةً مشركون وثنيون. سبحان ربي! لهم أعين ترى وآذان تسمع ورغم ذلك فقد عميت قلوبهم؟ أنا في حيرة من الغشاوة التي جعلها الله على هذه الأعين[58] سبحان الله! ماذا حلَّ بعناء وجهود النبي ص وأئمة الدين (ع)؟ أين ذهبت تعاليم سيدالمرسلين؟ لقد أريقت دماء كثيرة حتى استقر التوحيد الخالص، فلماذا لا يهتم المسلمون بالحفاظ عليه؟ ولماذا لا يقرؤون كتاب الله وسيرة الرسول ص؟! إن الشرك الذي نهى عنه القرآن والسنة [وحارباه] قد انتشر بشكل بارز بين كثيرٍ من المسلمين: عبادة القبور، عبادة الأحجار، عبادة الأشجار، عبادة الشيوخ والمرشدين، التبرك بحجر موضع القدم والتبرك بمراكز السقاية والسبيل، والآلاف من أمثال هذه الأمور... يا أيها النبي، يا رحمةً للعالمين! يا أهل لا إلـه إلا الله! أيها البدريون! أيها الأُحديون! يا شهداء التوحيد! يا أئمة الدين ويا حملة القرآن! ارفعوا رؤوسكم من قبوركم وانظروا إلى حال المسلمين! انظروا مدى الانحطاط الذي وقع فيه العالم الإسلامي اليوم وأين وصل أمر التوحيد فيه! لقد أثَّر الجهل وانحطاط الأخلاق ونشأة البدع وانتشار الخرافات فيه تأثيراً أصبح من الصعب أن تتعرّفوا عليه إنْ رأيتموه!

﴿رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ [الأعراف: 89].

[52] أبو القاسم جار الله محمود بن عمرو الزمخشري المعتزلي (المتوفى سنة 538هـ)، تفسير «الكشاف»، ذيل تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥ [الفاتحة: ٥]. [المُصحح] [53] جهان‌را صانعى باشد خدا نام كز او آشفته دریا گیرد آرام [54] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ ص: «وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ» فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ. [صحيح مسلم، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، ح(1185)]. [المُصحح] [55] الواقع أن المشركين لم يكونوا يؤمنون بيوم القيامة وإنما كانوا يرجون شفاعة أصنامهم لتيسير أمورهم وقضاء حاجاتهم الدنيوية. وإنكار المشركين للقيامة أمر معروف وتدل عليه عشرات آيات القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿أَيَعِدُكُمۡ أَنَّكُمۡ إِذَا مِتُّمۡ وَكُنتُمۡ تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَنَّكُم مُّخۡرَجُونَ ٣٥ ۞هَيۡهَاتَ هَيۡهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ٣٦ إِنۡ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا نَحۡنُ بِمَبۡعُوثِينَ ٣٧ [المؤمنون : ٣٥-٣٧]، وقوله سبحانه: ﴿قَالُوٓاْ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ٨٢ لَقَدۡ وُعِدۡنَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا هَٰذَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٨٣ [المؤمنون: 82-83]، وقوله تعالى: ﴿بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ ٢ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗاۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيدٞ ٣ [ق: ٢- ٣] وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ ٧٩ [يس: ٧٨- ٧٩] ونحوها من الآيات الكثيرة. [المُصحح] [56] الحديث المشهور لدى الفريقين هو «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِي‏ءٌ فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ». رواه المجلسيُّ في «بحار الأنوار» (ج69/ ص 282)، والطبرسي وغيره من المفـسرين الشيعة. وهو في مصادر السنة؛ في صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، ح (2985)، بلفظ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ». وكذلك في سنن الترمذي (3154)، وسنن ابن ماجه (4202) وغيرها. أما ما ذكره المؤلف في المتن فلم أجده بهذا السياق، لا في مصادر السنة ولا في مصادر الشيعة. علماً أن الجزء الثاني منه: «لا يقبل الله عملاً شورك فيه غيره...»، ذكره الواحدي في كتابه أسباب النزول، وبعض المفسرين بغير سند، بلفظ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ». وإن كان ما ذكره المؤلف، معناه صحيح. والله أعلم. [المُصحح] [57] روى الكُلَيْنِيّ في «الكافي» عن الإمام الصادق (÷) قوله: «كُلُّ رِيَاءٍ شِرْكٌ إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ ومَنْ عَمِلَ لِلَّهِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ». وروى عَنْ جَرَّاحٍ الْـمَدَائِنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (÷) فِي قَوْلِ‏ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ١١٠، قَالَ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ لا يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللَّـهِ إِنَّمَا يَطْلُبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ يَشْتَهِي أَنْ يُسْمِعَ بِهِ النَّاسَ فَهَذَا الَّذِي أَشْرَكَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ». [الكافي، باب الرياء، ح (3) و(4)، ج2/ص 293-294]. وفي مصادر أهل السنة، روى الإمام أحمد في المسند (4/125) بسنده عن شداد بن أوس (س) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ»، فَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عِنْدَ ذَلِكَ: أَفَلا يَعْمِدُ إِلَى مَا ابْتُغِيَ فِيهِ وَجْهُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ كُلِّهِ فَيَقْبَلَ مَا خَلَصَ لَهُ وَيَدَعَ مَا يُشْرَكُ بِهِ؟؟ فَقَالَ شَدَّادٌ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ حَشْدَهُ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ وَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ». علق عليه شعيب الأرنؤوط قائلاً: إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب. قلتُ: وقد أخرجه الحاكم النيسابوري (405هـ) مختصراً في «المستدرك على الصحيحين»، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي، ح (7938)، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. [المُصحح] [58] چشم باز و گوش باز و این عمی حیرتم از چشم‌بندی خدا

(2) الحقُّ تعالى جعل العبوديّة له، صفةً لأكمل خلقه وأفضل عباده

كما قال تعالى في شأن المسيح ÷: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ١٧٢[النساء: 172]. وقال في آية أخرى تصريحاً وتعظيماً بكمال عبوديته: ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَيۡهِ [الزخرف: 59].

وقال أيضاً في حق الملائكة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩ ٢٠٦ [الأعراف: 206].

وقال في شأن المؤمنين: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا [الفرقان: 63]، وقال أيضاً: ﴿عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا ٦ [الإنسان: 6].

وقال عن الأنبياء: ﴿وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ﴿وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ ﴿وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ. في هذه الآيات مدح الله الأنبياء عليهم السلام بأشرف صفة لهم وهي العبودية لله سبحانه وتعالى، وقال عن سليمان ÷: ﴿نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٣٠ [ص: 30].

وقد وصف الله تعالى أفضل عباده، خاتم النبيين ص في أشرف المقامات وأرفع المنازل بصفة «العبودية» له سبحانه: ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا [البقرة: 23] ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ [الملك: 1] ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ [الكهف: 1]. ولما ذكر الله تعالى قيام النبي ص بدعوة الناس، شرّفه بوصفه بصفة العبودية، فقال: ﴿وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا ١٩ [الجن: 19]، كما أنه عز وجل لما ذكر قصة الإسراء، شرّف رسولهص بشرف العبودية له سبحانه، فقال: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا [الإسراء: 1].

وفي الحديث الصحيح عن النبيص أنه قال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسِيْحَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[59]. وفي حديث آخر أنه ص قال: «إنَّمَـا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا یَأْكُلُ الْعَبِيْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا یجْلِسُ الْعَبِيْدُ»[60].

وكذلك جعل الله تعالى الأمن المطلق خاصاً بعباده المخلصين: ﴿يَٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَآ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ ٦٨ [الزخرف: 68] كما أن الله نزع سلطة الشيطان عن قلوب عباده: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ ٤٢ [الحجر: 42].

[59] انظر: «خلاصة عبقات الأنوار» للسيد حامد النقوي (ت 1306 هـ)، (قم: مؤسسة البعثة، 1405هـ)، ج3/ص 301. والحديث في مصادر أهل السنة؛ في صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، ح (3261)، ومسند أحمد (1/124) كلاهما عن عمر بن الخطاب رفعه. [المُصحح] وقد روى محمد بن محمد بن الأشعث (قرن 4 هـ) في كتابه «الأشعثيات» [ويُسَمَّى أيضاً «الجعفريات»] (ص 181): «بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ص: «لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ حَقِّي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَنِي عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيّاً». ورواه القطب الراوندي (573هـ) في النوادر (ص 16). ونقله المجلسي في بحار الأنوار، ج 25/ ص 265. [60] «دعائم الإسلام»، للقاضي أبو حنيفة النعمان التميمي (ت 363هـ)، 2/118، وبحار الأنوار للمجلسي، 16/242، ومستدرك الوسائل، لميرزا حسين النوري الطبرسي (ت 1320هـ) ج16 ص228 ح19674. وفي مصادر أهل السنَّة: أخرجه أبو داود ح(3769)، والترمذي ح(1830)، وابن ماجه (3262)، والدارمي (2077) في سننهم، وأحمد في مسنده (4/308 و309). [المُصحح]

[أنواع العبودية]

العبودية على نوعين: عبودية عامة، وعبودية خاصة.

فالعبودية العامة: هي عبودية جميع أهل السماوات والأرض، سواء كان صالحاً أو طالحاً، مؤمناً أو كافراً، وتُسمَّى هذه العبودية بالعبودية القهرية. قال الله تعالى: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا ٨٨ لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡ‍ًٔا إِدّٗا ٨٩ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا ٩٠ أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا ٩١ وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ٩٢ [مريم: 88-92].

فهذه العبودية تشمل المؤمن والكافر والصالح والطالح جميعاً. ﴿وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِي هَٰٓؤُلَآءِ [الفرقان: 18]. ففي هذه الآية المباركة، اعتبر الحق تعالى الضالين المشركين عباداً له أيضاً، ومثل ذلك ما جاء في موضع آخر من الذكر الحكيم بشأن العصاة والمذنبين حيث خاطبهم الله بعباده، فقال: ﴿۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِ [الزمر: 54].

العبودية الخاصة: هي عبارة عن الطاعة والمحبة الإرادية للحق تعالى، واتباع أوامره، وقال تعالى في شأن أهل هذه العبودية: ﴿يَٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَآ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ ٦٨ [الزخرف: 68]، وقال تعالى عنهم أيضاً على لسان إبليس: ﴿لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٨٢ إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٨٣ [ص: 85].

وفي آية أخرى، اختص الله تعالى عباده المخلصين العقلاء بالبشارة التامة: ﴿فَبَشِّرۡ عِبَادِ ١٧ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ [الزمر: 20].

والخلاصة، أن جميعُ المخلوقات عبيد مقهورون لربوبية الحق تعالى، أما أهل الله وأهل الطاعة فهم عبيد ألوهيته تعالى.

وسبب تقسيم العبودية إلى العامة والخاصة، أو القهرية والإرادية، هو أن أصل لفظ العبادة معناه الذل والخضوع. تقول العرب: «طريق مُعَبَّد»، إذا أصبح الطريق مذلّلاً، ومستوياً ممهداً تحت أقدام الناس. وتقول أيضاً: «فلان عبَّده الحب»، إذا كان المحب ذليلاً وخاضعاً لحبيبه؛ وهذا المعنى يشمل التذلل والخضوع الإراديين وغير الإراديين، غير أن أولياء الله تعالى يخضعون لله تعالى ويتذللون له باختيارهم وإرادتهم، ويطيعونه في جميع أوامره إطاعة كاملة، في حين أن خضوع أعداء الله وذلهّم له تعالى قهري، يتم خلافاً لميلهم وإرادتهم.

عبادة الحقِّ تعالى واجبة حتى الموت ولا تسقط أبداً

العبادة واجبة حتى الموت ولا يرتفع التكليف بها عن العباد [المكلفين] بأي وجه، والنص القرآني شاهد صريح على ذلك الأمر، قال تعالى: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99]، واليقين هنا بمعنى الموت بإجماع المسلمين، وبدليل قوله تعالى على لسان أهل النار: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤٦ حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ ٤٧ [المدثر: 46-47]. كما يدل على ذلك أيضا الحديث الشريف المروي عن الرسول الكريم صحين قال عند موت عثمان بن مظعون: «أَمَّا عُثمان، فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ»[61].

وحتى بعد الموت، هناك عبودية أخرى في البرزخ - حين يسأل الملكان عن عقيدة الميت- فالشخص مكلف بالإجابة عنها.

وهناك عبودية أخرى يوم القيامة، حيث يأمر الله تعالى الخلائق بالسجود، فيسجد المؤمنون ولا يقدر الكفار أن يسجدوا. ﴿يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ ٤٢ خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ وَقَدۡ كَانُواْ يُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمۡ سَٰلِمُونَ ٤٣ [القلم: 42]. أي أن الكفار لما فَوَّتُوا على أنفسهم فرصة الطاعة في الدنيا لم يعودوا أهلاً للسجود لِـلَّهِ ولم ينالوا في ذلك اليوم إلا الحسرة والندامة.

لكن إذا دخل عباد الله الصالحون دار الثواب، ودخل الكفار دار العقاب سقط التكليف، فتكون عبودية أهل الثواب هنالك هو التسبيح والتقديس بأنفاسهم، ولا يجدون عناءً ولا تعباً.

إذا علمنا ذلك، فإنه إذا ظنّ أحد أنه وصل إلى مقام سقط عنه التعبد والعبودية لله تعالى فقد كفر [بهذا الظن الفاسد] يقيناً! نعم، يمكن أن يُقال: إنه وصل في الحقيقة إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ عن الإنسانية فيسقط عنه التكليف، نعوذ بالله من غضب الله.

[61] انظر: صحيح البخاري: 29- كتاب الجنائز/3- باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، ح (1186). وَمسند أحمد، 6/436.

(3) في بيان أفضل العبادات واختلاف الناس فيها

[اختلف الناس في تعيين أفضل الأعمال والعبادات]، فقال جماعة: إن أفضل الأعمال والعبادات وأنفعها هي التي تكون المشقة فيها أكثر، بدليل أن هوى النفس في الأعمال الشاقة يكون أقل، ولأن الأجر على قدر المشقة، فلهذا أيّ عمل تكون مشقته أكثر يكون أجره أكبر، وقد استدلوا لرأيهم بحديث لا يوجد له أصل صحيح، وهو: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أحْمَزُهَا»[62]. وهذه الطائفة هم أهل المجاهدة والجور على النفس، وقالوا: إن النفوس بطبيعتها ميّالة إلى الخمول والكسل، ولا يصل الإنسان إلى الكمال إلا بتحمل الشدائد والمشقات، فلهذا كلما زادت مشقة العمل كانت فضيلته أكثر.

وقال جماعة آخرون: إن أفضل الأعمال والعبادات التجرد والزهد في الدنيا، ولذا ينبغي أن لا يلتفت العبد إلى الدنيا ولا يغترّ بها ولا ينخدع بزخارفها.

وهؤلاء الجماعة ينقسمون إلى قسمين:

[أولاً] العوام أو جُهّال هذه الجماعة، وهم الذين ظنوا أن غاية العبادة ومقصد خلق الإنسان هو الزهد في الدنيا والإعراض عنها، فشمّروا عن ساعد الهمة لسلوك هذا المسلك، وعملوا على هذا المنوال، ودعوا الناس إلى هذا الطريق، وقالوا إن الزهد والتجرد عن الدنيا أفضل من تحصيل العلم والعبادة وأعظم شأناً منهما، وجعلوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة وعلم.

[ثانياً] علماء هذه الجماعة، قالوا إن الزهد في الدنيا ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود هو التوجه بالقلب إلى الله والإنابة إليه والتوكل عليه، ورأوا أن أفضل العبادة الحضور مع الحق تعالى والجمع معه، فاهتموا بدوام ذكره بالقلب واللسان، والابتعاد عن كل شيء يمنع السالك عن الحضور مع الله.

وهذا الفريق أيضاً على قسمين:

قسم عارف متبع للرسولص، وهم الذين يتنافسون إلى فعل ما أمر الله به ويجتنبون ويبتعدون عن النواهي والمنكرات.

وقسم آخر منحرفون، وهم الذين يقولون: لما كان المقصود من الزهد هوحضور القلب مع الله، فينبغي أن لا يُعتنى بأي شيء يكون سبباً لتشتت الخاطر واضطراب الهمة، حتى ولو كان واجباً من الواجبات الشرعية. وهذا الشعر لهذه الطائفة: يُطالَبُ بِالْأَورَادِ مَنْ كَانَ غَافِلاً فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوقاتِهِ وِرْد وقال جماعة آخرون (أي جماعة ثالثة): إن أفضل العبادات وأنفع الأعمال ما كان يتعدى نفعه إلى الغير، فرأوا أن النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر. وقالوا إن الاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه أفضل العبادات وأشرف القربات، واستدلوا بقول الرسول الكريمص أنه قال: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيه أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ»[63]. وكما استدلوا أيضاً بأن عمل العابد نفعه قاصر على نفسه، ومفيد لروحه فحسب، وأما صاحب النفع والعالِم فيستفيد منه هو والآخرون أيضاً، فالإحسان إلى الغير أفضل من الإحسان إلى النفس، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب[64]. كما قال النبي الكريمص لأميرالمؤمنين (÷): «لِأنْ یَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَیرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم[65]»[66]. وقال أيضاً: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[67]. وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ»[68]، وقال الرسول الكريم ص أيضاً: «إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وحَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا»[69].

والدليل الآخر الذي ذكروه على ادعائهم هذا، أن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، بخلاف عمل صاحب النفع، فإن أجره لا ينقطع ما دام الناس ينتفعون من عمله.

وذكروا أيضاً دليلاً آخر: وهو أن الغاية من بعثة الرسل هو الإحسان إلى الخلق وهداية الناس إلى طريق الخير وإرشادهم إلى أمور معاشهم ومعادهم، وليس دعوتهم إلى الاعتزال والخلوة والانقطاع عن الخلق والرهبانية. لذلك، لاَم الرسول الأكرم ص قوماً اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادات البدنية من الصلاة والصوم.

إلى هنا كان البحث عن الطرق المختلفة [حول أفضل العبادات]، والآن سنذكر الطريق الحق في ذلك. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

[62] قال الزبيدي في تاج العروس (15/17): «وأَحْمَزُ الأعمالِ: أَمْتَنُها وأَقْوَاها وأَشُدَّها، وقيل: أمَضُّها وأشَقُّها، وهو من حديث ابن عبّاسٍ ب: سُئِلَ رسولُ الله ص: أي الأعمالِ أَفْضَلُ؟ فقال: أَحْمَزُها، وهو مَجاز». [المُصحح] [63] «وسائل الشيعة» للحُرّ العاملي، نقلاً عن عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ فِي قُرْبِ الإسْنَادِ بسنده عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِص.. الحديث، ج 16/ ص 345. وفي مصادر أهل السنة: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن أنس (13706) وعزاه إلى أبي يعلى والبزار في مسنديهما، وعن عبد الله بن مسعود (13707) وعزاه إلى الطبراني في معجميه الكبير والأوسط، وضعَّف الهيثمي الروايتين بأن في سند كل منهما متروك. [المُصحح] [64] الجملة جزء من حديث يقول: «وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ». رواه الكُلَيْنِيّ في «الكافي»، بَابُ ثَوَابِ الْعَالِمِ وَالْـمُتَعَلِّمِ، 1/34. وفي مصادر أهل السنة: أخرجه أبو داود (3643) وابن ماجه (223)، والدارمي (342) في سننهم. [المُصحح] [65] قال الراغب الأصفهاني [في المفردات في غريب القرآن (ص 499)]: «والنَّعَمُ مختصٌّ بالإبل، وجمْعُه: أَنْعَامٌ، وتسميتُهُ بذلك لكون الإبل عندهم أَعْظَمَ نِعْمةٍ، لكِنِ الأَنْعَامُ تقال للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها أَنْعَامٌ حتى يكون في جملتها الإبل». (شريعت) [66] انظر: بحار الأنوار للمجلسي ج 21/ ص 3، وَج 39/ ص 12. [67] منية المريد في أدب المفيد وَالمستفيد، للشهيد الثاني، ص 102. وهو بألفاظ قريبة في مصادر أهل السنة في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي ومسند أحمد. [68] عوالي ‏اللآلي، لابن أبي جمهور الإحسائي (910هـ)، ج 1/ص 359، ومنية المريد في أدب المفيد والمستفيد، للشهيد الثاني، ص 101، ولفظه: «فضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ». وهو في مصادر أهل السنة في سنن الترمذي (2685) عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ، وقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [المُصحح] [69] منية المريد في أدب المفيد والمستفيد، للشهيد الثاني، ص 107، دون جملة «حتى النملة في جحرها». وقد روى نحوه محمد بن حسن الصفار في «بصائر الدرجات» (ص4) بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إِنَّ جَمِيعَ دَوَابِّ الأرْضِ لَتُصَلِّي عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْر». وهو في مصادر أهل السنة بلفظ مغاير قليلاً لدى لطبراني في الأوسط وأبو الشيخ ابن حبان فى كتاب الثواب. وإسناده ليس بالقوي. [المُصحح]

طريقة محققي الإسلام في تعيين أفضل الأعمال والعبادات، هي الطريقة الإبراهيمية المحمدية

وأفضل الأعمال والعبادات عند المحققين من الموحدين في الإسلام، هي التي تتوفر فيها ثلاثة شروط:

1- أن يكون القصد بالعمل رضى الله.

2- أن تُراعى مقتضيات ومناسبات كل زمن.

3- تعيين العامل واجبه تجاه العمل.

إذا تحقق هذه الشروط، فيكون عمل العامل وعبادته أفضل الأعمال والعبادات، فمثلاً: أفضل الأعمال والعبادات عند هجوم العدو هو الدفاع، حتى ولو أفضى ذلك إلى ترك بعض الواجبات.

وعند قدوم الضيف، القيام بحقوق الضيف وإكرامه أفضل من الأعمال المستحبة.

وأداء حق الزوج والأولاد من حقوق الزوجية والتربية والإنفاق أفضل من بعض العبادات الأخرى.

وأفضل الأعمال في وقت السحر، الاستغفار وقراءة القرآن.

وإذا أتى جاهل إلى العالم يسأله في بيان المعارف ومسائل الحلال والحرام، فإن قيام العالم بتعليم الجاهل في ذلك الوقت أفضل من قيامه ببعض الأعمال الأخرى.

وفي وقت حضور الصلوات الخمس، أفضل الأعمال وأكمل القُربات أداء تلك الصلوات.

وعند ما يأتي إليك محتاجٌ ويطلب منك أن تقضي حاجته المادية أو المعنوية، فإن أفضل الأعمال أن تقوم بذلك.

وأفضل الأعمال عند قراءة القرآن، حضور القلب والذهن والتدبر في آياته.

والأفضل عند الوقوف في عرفة، هو الاجتهاد في التضرع والخشوع في مناجاة رب العالمين، ولا يجوز الصوم في ذلك اليوم.

والأفضل في العشر الأول من ذي الحجة، كثرة التهليل والتكبير والتمجيد.

والأفضل في العشر الأخير من رمضان، الاعتكاف في المسجد.

وعند مرض الأخ المؤمن، أفضل العبادات مساعدته.

وأفضل العبادات عند موت الأخ المؤمن، تشييع جنازته وتعزية أهله.

وعند ثَوَرَان الناس عليك وإساءتهم الكلام بحقك، وإهانتهم لك، فإن أفضل الأعمال الحلم والصبر، وعدم ترك مخالطتهم، لأن مخالطتهم والصبر عليهم أفضل من ترك معاشرتهم والفرار منهم.

فاتضح بما ذكرنا أن أفضل الأعمال في كل وقت، هو ما يلاحظ فيه رضا الله سبحانه وتعالى، ويراعى فيه الأوقات والظروف مع تعيين العامل واجبه من العمل.

والقائلون بهذا التفصيل لتعيين أفضل الأعمال والعبادات، هم محققو الإسلام، وهم أهل التعبد المطلق والتوحيد الخالص، لأنهم يلاحظون رضا الله سبحانه في كل وقت، ويوفقون دائماً لأفضل الأعمال.

أما الأصناف التي سبق ذكرها فهم أهل التعبد المقيد؛ لأن فريقًا منهم عبّاد وقت الزهد، فإنه بمجرد خروجهم عن الزهد يخرجون من أفضل الأعمال. وأما الفريق الذي يرى أن أفضل الأعمال أحمزها (يعني أشقها)، فإنه يكون مقصراً وناقص العمل إذا قام بعمل لا مشقة فيه. والذين يرون أن خدمة الخلق هي أفضل الأعمال، فإنهم يرون أعمالهم ناقصة إذا قاموا بأعمال لا نفع فيها للخلق. فكل هؤلاء يعبدون الله على وجه أو من ناحية واحدة.

أما صاحب العبادة المطلقة، المتبع للطريقة الإبراهيمية المحمدية، فيعبد الله دائماً في جميع أحواله، فهو دائماً مُتنَقِّل من منزل تعبدُّي إلى منزل تعبدي آخر، [ومن عبادة إلى عبادة أخرى]؛ فتراه مع العلماء في مجالسهم، ومع المجاهدين في وقت الجهاد، ومع الذاكرين في وقت الذكر، وتراه عند عيادة المريض من العائدين وعند تشييع الجنازة مع المشيعين. والحاصل أنك تجده حاضراً في كل مشهد من مشاهد العبادة، وفي كل محطة من محطات الطاعة يؤدي واجبه الذي عليه.

فالعبد المطلق لله هو صاحب هذه العبادة، وهو المتبع لشيخ الأنبياء [إبراهيم] ÷، وهو من أمة محمدص، فهو صاحب الفضيلة، وهو الموحد الحقيقي الذي لا تقيده القيود ولا تملكه الرسوم. وهذا الشخص هو المتحقق بحقيقة ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥ [الفاتحة: 4].

وَصَلَّى اللَّـهُ عَلَى سَیدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّیبِینَ الطَّاهِرِینَ.

(4) الشرك نوعان: الأكبر، والأصغر

الشرك الأكبر هو أن يعبد مخلوقٌ مخلوقاً آخر، والشرك الأصغر هو إثبات الأفعال الخاصة بذات الله وحده لغير الله، كأن يعتبر غير الله شافياً رازقاً أو أن يتصور أنَّ غير الله تعالى يدفع البلاء ويرفع الشقاء والضراء.

وأما الشرك الأكبر، فكما ذكرنا مراراً: أن يشرك مع الله أحداً في العبادة، ويُحب ذلك المعبود الباطل كما يحب المعبود الحق أو أشد، وهذا هو تسوية الخلق برب العالمين. كما يخاطب المشركون يوم القيامة في نار جهنم آلهتهم: ﴿تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ٩٧ إِذۡ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٨ [الشعراء: 98].

مع أن أولئك المشركين كانوا يعترفون بأن خالق العالم والكائنات هو الله تعالى وحده، ويقرون بأن آلهتهم الوهمية لا يرزقون ولا يُحيون ولا يُميتون، فما المراد بالتسوية في الآية إذن؟

المقصود بتسوية آلهتهم بالله رب العالمين هو التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، فقد كان المشركون يحبون آلهتهم كحب الله أو أشد. ﴿يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ [البقرة: 165] يصرح الله تعالى في هذه الآية أن المشركين يحبون آلهتهم الباطلة مثل حب الله رب العالمين. و [في آية أخرى يذكر الله تعالى] أن المشركين يفرحون ويستبشرون عند ذكر معبوداتهم أكثر من فرحهم بذكر الله وحده، بل يشمئزون عند ذكر الله تعالى. ﴿وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ٤٥ [الزمر: 45].

كما أنهم إذا سمعوا من موحد يذكر آلهتهم بأدنى سوء، ويقلل أدنى تقليل من شأن مشايخهم وأوليائهم من دون الله يهجمون عليه كالكلاب المسعورة ويريدون أن يقتلوا ذلك الموحد. أما إذا أُهينت حرمات الله أو بُدلت أحكامه وتشريعاته فلا تجد أحداً منهم ينتفض ولا يحرك ساكناً، لاسيما إذا كان ذلك الشخص الذي انتهك أحكام الدين وغيّر سنة خير المرسلين ص ممن يرجون منه شيئاً من المال أو الجاه.

يا للعجب! لو قلت لهم إن الأولياء من دون الله لا يقضون الحاجات، ولا هم أبواب الحوائج ولا تحصيل الشفاء، وبيّنت لهم أن الله وحده هو قاضي الحاجات، وقابل التوب، وغافر الذنب، وهو النافع وهو الضارّ، وهو القادر، وأنه لا ينبغي أن تطلب الحاجات من البشر، فتراهم يضربون الخدود ويشقون الجيوب، ويصيحون «واديناه»! وقام الدجالون المتاجرون بالدين، باختلاق تأويلات ومحامل وتبريرات للعقائد الشركية، تماماً كما كان يفعله الكهنة ورؤساء المشركين. ولا شك أنه بمثل هذه التبريرات والتأويلات التي يذكرها هؤلاء الدجالون مع جهل الناس بالقرآن، لن تفتح أبواب الفلاح وسيزداد عدد المشركين يوماً بعد يوم: ﴿ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 3].

وإذا قلت بأن «إمام زاده» (أي الصالح من أبناء أحد الأئمة أو من أحفادهم وذريتهم) لا يشفي الأعمى، و«السيدة شهر بانو» لا تعمي أبصار زائري قبرها، وقِدْر سمنو (نوع طعام) لا يقضي الحاجات، فسيقولون: نعم [أنهم لا يستقلون بفعل ذلك] ولكنهم شفعاء ووسطاء لنا عند الله. وهذا الجواب هو عين جواب المشركين لرسول الله ص حين قالوا: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ [يونس: 18]، وقد رد الله تعالى عليهم جوابهم هذا بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ [الزمر: 2]، وقال تعالى في مقام آخر: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتٗاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٤١ [العنكبوت: 41]، ﴿أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا ١٠٢ [الكهف: 102].

ونحن بدورنا سنبيّن ونرشد إخواننا المسلمين إلى صور الشرك وحالاته ونماذجه، لعل الله يهدي بذلك ضالاً ويرشده إلى قواعد الدين وأحكامه الصحيحة.

من أنواع الشرك الأصغر: اتخاذ الحلقة أو الخاتم أو الحبل أو أمثالها لرفع البلاء ودفعه

قال الله تعالى: ﴿قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ ٣٨ [الزمر: 40].

هذه الآية الكريمة تبين بوضوح أنه لا أحد يستطيع أن يضر أحداً أو ينفع أحداً إلا بإذن الله. فمن اعتقد أن أحداً سوى رب العالمين يضرّ أو ينفع كان مشركاً محضاً.

عن عمران بن حصين أَنَّ النَّبِيَّص رَأَى رَجُلاً فِيْ یَدِهِ حَلْقَةٌ[70] مِنْ صُفْرٍ[71] (وَفِيْ رِوَایِةٍ: وَفِيْ یَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ صُفْرٍ). فَقَالَ: «مَا هَذِهِ». قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ. قَالَ: «انْزَعْهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَزِیدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَیْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَداً»[72].

الْوَاهِنَةُ: عِرْقٌ (أي ألم) يصيب المَنْكِب والعضد، ورُبَّما عُلِّق عَلى مَوضع الألم، جِنْسٌ مِنَ الخَرَز، يُقال لَها خَرَزُ الوَاهِنَةِ.

الحَلْقة: كان من عادات المشركين أنهم يعلّقون حلقة من صُفْر أو غيره على العضد، ويعتقدون أنها تحفظهم من العين أو الجن.

وروي في حديث صريح صحيح عن النبي ص أنه قال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِیمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ»[73].

التميمة: خرزات تنظم في سلك أو خيط، تُعلق على أعناق الأولاد ويعتقد أنها تحفظ من العين.

والودعة: شيء أبيض يخرجونه من البحر، شَقُّها كشَقة نواة التمر، ويقال له بالفارسية (مورچه) (بثلاث نقاط تحت الجيم)[74]، ويعلقونه على أعناق الأطفال لدفع العين.

فمعنى الحديث: أن من علَّق على بدنه تميمةً فلا أتم الله له لأنهم كانوا يعتقدون أن التميمية تشتمل على جميع الأدوية وتُؤَمِّن جميع أنواع الشفاء. وكذلك من علق خرز «الودعة» فإن الله لن يجعله في دعةٍ أي هناء وسكون. أو فلا يزيل الله عنه ما علق «الودعة» لأجل دفعه.

وروى ابن أبي حاتم عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى، فَقَطَعَهُ وَتَلاَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦ [يوسف: 106][75].

وفي الحديث الصحيح عن أبي بشير الأنصاري س«أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَرْسَلَ رَسُولاً أَنْ لا یُبْقَینَّ فِی رَقَبَةِ بَعِیرٍ قِلادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلادَةٌ إِلا قُطِعَتْ»[76].

الوَتَر: كان من عادة أهل الجاهلية أنه إذا بلي وتر القوس يبدِّلُونه ويعلِّقُون الوَتَر القديم على أعناق الإبل والخيل والبقر والضأن، ويعتقدون أن هذه الأوتار تحفظ أنعامهم من المكاره ومن العين.

وعن ابن مسعود أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِص یقُولُ: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمـَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»[77].

الرقى: جمع رُقية بالضم، وهي العُوذة التي يُرْقى بها المريض وغيره.

التِوَلة[78]: -بكسر التاء وفتح الواو- نوع من السحر، يحبب النساء لأزواجهن.

وَعَن عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عُكَيْمٍ مرفوعاً: «مَنْ تَعَلَّقَ شَیْئًا وُكِلَ إِلَیهِ»[79].

ورُوي عن رُوَيْفع أنه قال: قَالَ رَسولُ اللهِ ص: «یا رُوَیفِعُ! لَعَلَّ الْحَیاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْیَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا [80] أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِیعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ»[81].

عَقَدَ لِحْيَتَهُ: ذُكر في شرحه مَعْنَيَان: الأول: قِيلَ: هُوَ فتل اللحية ومُعَالَجَتهَا حَتَّى تَنْعَقِد وَتَتَجَعَّد. والثاني: أنهم كَانُوا يَعْقِدُونَ لحاهم فِي الْحُرُوب تَكَبُّرًا وَعُجْبًا، فَأَمَرَهم النبي الكريمص بِإِرْسَالِهَا.

وعن سعيد بن جبير أنه قال: «مَنْ قَطَعَ تَمِيْمَةً مِنْ إِنْسَانِ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ»[82].

يتضح من هذه الأخبار الصحيحة، ومن نص الآية المباركة أن الاستمداد الغيبي والاستعانة المعنوية من الخاتَم أو الحلقة أو الخيط لدفع الحمى، وأمثالها من قبيل تعليق نعل الفرس في المحلات، أو السيارات والحافلات، أو البيوت، شرك محض، وخرافة بحتة، ولا يجوز التبرك بها، أو طلب رفع الفاقة والفقر ودفع الآفات والبلايا منها.

فإن قالوا: وردت أخبار أن النبي ص وأئمة الدين بأنهم كانوا يلبسون الخاتم، ووردت أخبار أخرى في ذكر خواصّ بعض الفصوص والأحجار، بأن الفص الفلاني مفيد في دفع الفقر أو أن الفص الفلاني يتضاعف معه أجر الصلوات، أو أن الفص الفلاني يحفظ الإنسان من البلاء وغيره.

قلنا: في الجواب عنه:

أولاً: بناءً على الرواية الصحيحة التي نقلها صاحب «الوسائل» عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «مَا تَخَتَّمَ رَسُولُ اللَّهِ إِلا یسِیراً حَتَّى تَرَكَه»[83].

ثانياً: الخاتم الذي تختّم به رسول الله ص في السنوات الأخيرة من عمره لم يكن لأجل التبرك أو الغلبة على العدو، أو لرفع الفقر والفاقة، بل لما أراد النبي ص أن يبعث برسائل إلى ملوك العالم يدعوهم إلى الإسلام، قيل له: لا اعتبار للرسالة التي ليس عليها ختم، ولا يقرأها أحد [من الملوك]، فأمر رسول الله ص أن يُصنع له خاتم من فضة، وجعلوا نقشه في ثلاثة أسطر: السطر الأول: الله، والسطر الثاني: رسول، والسطر الثالث: محمد. ليُقرأ من الأسفل إلى الأعلى (محمد رسول الله). وهذا الخاتم كان في يده الشريفة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، وبعد وفاة رسول‌اللهص وضعه أبو بكر في يده، ثم عمر من بعده، ثم عثمان؛ وفي العام الذي قُتل فيه عثمان سقط في بئر «أريس»، فبحثوا عنه ثلاثة أيام فلم يجدوه.

ومن خلال ما سبق، يتبين لنا أن خاتم النبي ص كان خاتماً لتوثيق اسمه [في الرسائل]، لا أنّ الرسول الكريم ص كان يتبرك بفصّ الخاتم.

وهكذا الأئمة الطاهرون عليهم السلام لم يكونوا يتبركون بالأحجار الكريمة، بل كانوا يتيمنون بأسماء الله الحسنى؛ وكان نقش خواتمهم تدل على شدة توسلهم بالحق سبحانه وأسمائه الحسنى. فكان نقش خاتم أمير المؤمنين علي (ع): «الْـمُلْكُ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»[84]، وكان نقش خاتم السيدة الزهراء(ع): «اللَّـهُ وَلِيُّ عِصْمَتِي»، وكان نقش خاتم [الحسن] المجتبى (ع): «الْعِزَّةُ لِلَّـهِ»، وكان نَقْشُ خَاتَمِ الحسين الشهيد (ع): «إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِه»[85]، وكان نقش خاتم السيد السجاد (ع): «لِكُلِّ غمٍّ حَسْبِيَ اللَّـهُ»، وكان نقش خاتم باقر العلوم (ع): «أَمَلِيْ بِاللهِ»[86]، وكان نقش خاتم الصادق (ع): «اللَّـهُ وَلِيُّ عِصْمَتِي مِنْ خَلْقِهِ»[87]، وكان نقش خاتم موسى بن جعفر(ع): «حَسْبِيَ اللَّـه»، وكان نقش خاتم الإمام الرضا (ع): «مَا شَاءَ اللَّـهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّـهِ»، وَنَقْشُ خَاتَمِ الإمام محمد التقي (ع): «حَسْبِيَ اللَّـهُ‏ حافظي»، وكان نقش خاتم الإمام محمد النقي (ع) «الْـمُلْكُ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار»، وكان نقش خاتم الإمام الحسن العسكري (ع): الغِنى لِـلَّهِ».

من خلال هذه المقدمات يتبين أن التّبرك بالأحجار لم يكن من عمل الرسول ص، ولا من هدي الأئمة الأطهار، ولم يكونوا يستخدمون الخواتم لدفع البلايا أو رفع المصائب، أو شفاء الأمراض، بل الذي يظهر من خلال نص القرآن الكريم والأخبار الصحيحة أن التبرك بالأحجار شرك بالله.

عجباً.. لماذا أعرض الناس عن كتاب الله وسنة رسول الله ص؟ لماذا لا يعلم المسلمون عنهما شيئاً؟ لماذا لا يفكرون بأن التبرك بالحجر لا معنى له؟ يا ربّ! لماذا أصبح دينك ألعوبةً بيد الجهال... يا ربّ! لماذا نُسِيَت سنة نبيك عليه الصلاة والسلام؟

سبحان الله! يتختم المتدينون [من المشيعة] بالخواتم ويقولون إن خاصية الفصّ الفلاني، أنه يقرب الإنسان إلى الله، وأن حجرَ كذا يُضاعَف معه أجر الصلاة أضعافًا[88]! أليس هذا عبادة للأحجار؟ ما الفرق بين أن يعبد الإنسان حجراً كبيراً ويتبرك به وبين أن يفعل ذلك بحجر صغير؟[89].

إن تقديس الأحجار والتبرك بها من بقايا العصور البدائيّة وأزمنة الجهل والهمجية التي كان الإنسان يقدِّس فيها الأحجار؛ ولكن المفتضَح في الأمر، أنهم يرون أن الشرع هو الذي أمر بالتبرك بالأحجار! في حين أن الأخبار الواردة فيه كلّها موضوعة، لا أصل لها، وهي -كما رأينا- تعارض القرآن، وسنة الرسول ص، وسيرة الأئمة عليهم السلام ، بل هذه الأخبار مخالفة لأصول التوحيد وروح الإسلام. فينبغي أن تُطرح تلك الأخبار جانباً، لأننا أُمرنا أن نفعل ذلك بكل خبر يخالف القرآن الكريم.

8أنا شخصياً كان لي خاتم [فصه] من حجر الحديد الصيني، قرأت في بعض الكتب أن له خواصاً، منها أنه يحفظ مَن يضعه في يده في الصحاري والبحار من الآفات. لذا لما عزمت السفر إلى حج بيت الله الحرام أخذت معي ذلك الخاتم، ولما كنت في طريقي من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة؛ بدأت بقراءة كتاب في الحديث وأنا في الحافلة، وإذ بي أُفاجأ برؤية هذه الأخبار التي نقلتُها [في هذا الفصل]، فلما دققت النظر فيها؛ قلت: يا ويح نفسي! كم أنا جاهل بتوحيد الإسلام! أنا مُحْرِم وحاج إلى بيت الله وفي يدي صنم! لماذا لا أعتبر اللهَ رب العالمين حافظي فقط؟ كيف أعتبر حجراً يحفظني مع أنني أنا الذي أحفظه؟! لقد أحدث هذا الأمر انقلاباً في نفسي يستحيل عليَّ شرحه. فشرعت بالاستغفار ونزعت الخاتم من يدي، ورميته في الصحراء، وأرجعته إلى عالمه، عالم أحجار البادية وحصاها، وقرأت في نفسي هذا المصرع من البيت:

ليس من شأن العاشق أن يكون له معشوقان في قلبه[90].

فطهَّرتُ كعبة قلبي من صنم الخاتم. والحمد لله رب العالمين.

هنا نقطة مهمة لا بد من توضيحها، وهي أننا لا ننكر الخواص الطبيعية للأحجار، نعم يوجد لكل حجر خاصيته مثل العقيق والفيروز وغيرهما. ومجال بحث خواص الأحجار ودراستها هو العلوم الطبيعية، والإسلام ينكر خواصها الروحية والغيبية ولا ينكر خواصها الطبيعية. فمثلاً إذا قيل لنا: لا يُغرق من كان في يده خاتم من حجر (الفيروز). قلنا: فَلْنُجرب ذلك، ونختبر صحته بأن نرمي شخصاً لا يجيد السباحة في حوض ماء كبير، وبيده خاتم من الفيروز، فإذا لم يغرق فذلك صحيح، [وتكون هذه خاصية طبيعية لحجر الفيروز][91].

لقد ذكرنا في بحث العبادة على أنك إذا طلبت من شيء أمراً غيبياً أو سلطة معنوية، فعملك هذا يعتبر عبادة لذلك الشيء. فلا ينبغي أن ننسى هذه القاعدة: إذا سألتَ أيَّ موجود غير الحق تعالى أن يقوم بأمر معنوي، من قبيل: حفظ الحياة والرزق ودفع البلاء ورفع الشقاء والهداية والغفران والنجاة فأنت مشرك، لأن هذه الأفعال مما انفرد بها الله تعالى وحده.

فإن قيل: ورد عن الإمام أنه قال: علامات الإيمان خمس: [منها] التختم باليمين[92].

نقول في الجواب عنه: إن المراد بالمؤمن في هذه الرواية هو الشيعة، وكان التختم باليمين من شعائر الشيعة التي تميزهم عن سائر الناس، لأن غير الشيعة في ذلك العصر كانوا يتختّمون باليد اليسرى. وسبب ذلك، أن الشيعة كان عددهم قليلاً مقارنة بغيرهم وكانوا يعيشون في التقية، ولا يعرف بعضهم بعضاً، ولهذا استقر شعار التختم باليمين حتى يعرفوا بعضهم. وهذا الحديث لا يدل على التبرك بالخاتم بل كل ما يقوله إن الخاتم الذي هو من الزينة ينبغي على الشيعي أن ينزعه من اليد اليسرى ويضعه في اليد اليمنى. ومن الشواهد على ذلك، ما جاء في وضع ذؤابة العمامة تحت الحنك، وذلك بهدف تمييز الموحدين عن المشركين، لأن لباس المشركين والموحدين في صدر الإسلام كان متماثلاً، وكانوا يضعون العمائم على رؤوسهم على شكل واحد. ولذا استقر الأمر في أن يضع المسلم ذؤابة العمامة تحت حنكه مخالفةً للمشركين، كما قال المحقق الثاني في كتاب «جامع المقاصد» في باب لباس المصلي: قال النبي ص: «الْفَرْقُ بَینَ الْـمُسْلِمِینَ وَالْـمُشْرِكِینَ التَّلَحِّي»[93].

اللهم إني أقسمت عليك برحمتك أن تحفظ عبادك الموحدين من شر المشركين.

اللهم إن المسلمين قد انحرفوا عن نهج القرآن والسنة، فاهدهم، وباعد بينهم وبين الشرك برحمتك يا أرحم الراحمين، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّـهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ.

[70] الحَلْقَةُ: كلُّ شي‏ءٍ مستدير، كحَلْقةِ الحديد والفِضّة والذهب‏، ومنها حَلْقَةُ القُرْطِ أَو الحَلْقَةُ الصَّغيرَةُ منَ الحُلِيِّ كهَيْئَةِ القُرْطِ. (ويُقال لها اليوم سُنَّارة). [71] الصُّـفْر: النحاس الأصفر الجيد. (المعجم الوسيط ص516). [72] بحار الأنوار للمجلسي 59/121، نقله عن النهاية لابن الأثير. وفي مصادر أهل السنة: سنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب تعليق التمائم (3531) وقال الألباني: ضعيف، ومسند أحمد (4/445) وقال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن وهذا إسناد ضعيف لجهالة خالد بن عبيد المعافري. [73] لم أجده في مصادر الحديث الشيعية، وأقرب ما يوجد له ما رواه القاضي أبو حنيفة النعمان التميمي الشيعي (363هـ) في كتابه «دعائم الإسلام»، 2/142 مرسلاً، ونقله عنه المجلسي في بحار الأنوار، ج 60/ ص 18، والنوري الطبرسي في «مستدرك الوسائل» ج4/ ص317، ح (4664) ولفظه: «وعن رسول‌اللهص أنه نهى عن التمائم والتول - فالتمائم ما يعلق من الكتب والخرز وغير ذلك والتول ما يتحبب به النساء إلى أزواجهن كالكهانة وأشباهها- ونهى عن السحر. قال جعفر بن محمد (ع): ولا بأس بتعليق ما كان من القرآن». أما المتن الذي ذكره المؤلف فهو بلفظه في مصادر أهل السنة في: مسند أحمد (4/154) وقال محققه شعيب الأرنؤوط: حديث حسن. وضعَّفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1266). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 9/350، ح (20090). [المصحح] [74] وهو أحد حروف اللغة الفارسية، ويُنطق كما ينطق حرف (ch) بالإنجليزية. [75] تفسير ابن أبي حاتم (7/2208، ط. أسعد الطيب)، بلفظ: عَنْ عَزْرَةَ، قَالَ: «دَخَلَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَرِيضٍ فَرَأَى فِي عَضُدِهِ سَيْرًا فَقَطَعَهُ أَوِ انْتَزَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦ [يوسف: ١٠٥]. [76] لم أجده في مصادر الحديث الشيعية، أما في مصادر أهل السنة فهو حديث صحيح متفق عليه رواه الإمام مالك في الموطأ (1677) والشيخان البخاري (2843) ومسلم (2115) في صحيحيهما. [المُصحح] [77] روى الحر العاملي، في «وسائل الشيعة» ج6/ص237، ح (7824): «وَعَنْ (أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ) قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) أَنَتَعَوَّذُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّقَى؟ قَالَ: لا، إِلا مِنَ الْقُرْآنِ. إِنَّ عَلِيّاً (ع) كَانَ يَقُولُ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ مِنَ الإشْرَاكِ»، ورواه المجلسيُّ، «بحار الأنوار»، (ج92/ص5). ونقل النوري الطبرسي في مستدرك الوسائل عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: «كثير من الرقى وتعليق التمائم شعبة من الشرك». (مستدرك الوسائل4/318، 13/110). أما المتن الذي ذكره المؤلف فهو في مصادر السنة، أخرجه أبو داود (3885) وابن ماجه (3530) في سننهما، وقال الألباني: صحيح. [المُصحح] [78] قال المجلسي: التولة-بكسر التاء وفتح الواو- ما يجبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. (بحار الأنوار65/18). [79] سنن الترمذي (2072)، ومسند أحمد: (4/310) وعلق عليه شعيب الأرنؤوط بقوله: حسن لغيره. كما رواه البيهقي في السنن الكبرى (20096). [80] تَقَلَّدَ وَتَرًا: هُوَ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَرَ الْقَوْس أَوْ مُطْلَق الْحَبْل. قِيلَ: الْـمُرَاد بِهِ مَا كَانُوا يُعَلِّقُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَوْذ وَالتَّمَائِم الَّتِي يَشُدُّونَهَا بِتِلْكَ الأوْتَار وَيَرَوْنَ أَنَّهَا تَعْصِم مِنْ الآفَات وَالْعَيْن. وقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأشْبَه أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَقْلِيد الْخَيْل أَوْتَار الْقِسِيّ، نُهُوا عَنْ ذَلِكَ إِمَّا لاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ تَقْلِيدهَا بِذَلِكَ يَدْفَع عَنْهَا الْعَيْن، أو مَخَافَة اِخْتِنَاقهَا بِهِ، لا سِيَّمَا عِنْد شِدَّة الرَّكْض، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ ص أَمَرَ بِقَطْعِ الأوْتَار عَنْ أَعْنَاق الْخَيْل. [المُصحح] [81] سنن أبي داود (36)، وسنن النسائي (5067)، وقال الألباني عن كليهما: صحيح. ومسند أحمد (4/108) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيفٌ. [82] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ج5، ص 36، ح (23473). [83] انظر: وسائل الشيعة ج76 ص 77، «الكافي» للكليني، بَابُ الْخَوَاتِيمِ، ح (10)، ج6/ص469، بحار الأنوار 16/123. [84] انظر: وسائل الشيعة 5/78. [85] انظر: بحار الأنوار: 43/242. [86] وقيل: كان الإمام الباقر يتختم بخاتم جده الإمام الحسين الذي كان نقشه: «إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِه». وقيل: «الْعِزَّةُ لِلَّـهِ جَمِيْعًا». انظر: أعيان الشيعة ج4 ص169، حلية الأولياء ج3 ص186، التهذيب ج1 ص32 والاستبصار ج1ص48. [87] انظر: أمالي الصدوق ص 458. [88] وعنه عليه السلام قال: «صلاة ركعتين بفص عقيق تعدل ألف ركعة بغيره». (عدة الداعي ص 119). عن الحسين بن علي عليهما السلام قال: قال لي رسول الله ص:«يا بني! تختم باليواقيت والعقيق فإنه ميمون مبارك وكلما نظر الرجل فيه الى وجهه يزيد نورا ً والصلاة فيه سبعون صلاة». (دعائم الاسلام ج 2 ص 164). [89] عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله ص: «تختموا بالعقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام ذلك عليه». (عيون أخبار الرضا ج2 ص 47) عن النبي ص أنه قال: «تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر واليمنى أحق بالزين». (جامع الأخبار ص 156) شكى رجل إلى النبي ص أنه قطع عليه الطريق، فقال: «هلا تختمت بالعقيق فإنه يحرس من كل سوء». (الكافي ج6 ص 471). فلا شك -كما ذكر المؤلف – أن هذه الروايات كلها باطلة ومخالفة لتعاليم الدين الحنيف، ورسول اللهص والأئمة عنها بُراء، وهي من أكاذيب الرواة الضالين. [المصحح] [90] «رسم عاشق نیست با یکدل دو دلبر داشتن». [91] يقصد المؤلف أنه إذا ثبت بالتجربة أن الفيروز يطفو على الماء فهذه خاصية طبيعية ليست شرعية. [المترجم] [92] يشير المؤلف رحمه الله إلى رواية ذكرها الشيخ الطوسي في «تهذيب الأحكام» (ج6/ص52) قال: «وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ (ع) أَنَّهُ قَالَ: عَلامَاتُ الْـمُؤْمِنِ خَمْسٌ: صَلاةُ الْخَمْسِينَ وَزِيَارَةُ الأَرْبَعِينَ وَالتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ وَتَعْفِيرُ الْجَبِينِ وَالْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». وهي رواية ضعيفة، وينقضها ما رواه الكليني في الكافي (ج6/ ص469) بسنده عَنْ أَبَانٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْعَلاءِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ، وَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ بَنِي هَاشِمٍ يَتَخَتَّمُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ؟ فَقَالَ: «كَانَ أَبِي يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ وَكَانَ أَفْضَلَهُمْ وَأَفْقَهَهُمْ». [الـمُصحح] [93] «من‏ لا يحضره ‏الفقيه» للشيخ الصدوق، ج 1/ص 266. [الـمُصحح]

من أنواع الشرك: التبرك بالشجر والحجر ونحوهما

قال الله تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ ١٩ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ ٢٠ [النجم: 19- 20]. (وكلمة ﴿ٱلۡأُخۡرَىٰٓ هنا صفة ذمٍّ، أي مناة المتأخرة والسافلة).

(اللاَّت)[94]: -كما يقول ابن كثير- كانت صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، أمر رسول الله ص المغيرة بن شعبة فحطم الصنم وأحرق معبدها [وجعل مكانه مسجد الطائف][95].

(العزى): وكانت شجرة عليها بناء وأستار بمنطقة نخلة، وهي بين مكة والطائف، [كانت قريش يعظمونها]، فبعث رسول الله ص خالد بن الوليد، قاقتلع تلك الشجرة وأحرقها. وقال البعض: كانت العزى على ثلاث سمُرات [أي نخلات][96].

(مناة): كانت صنماً بين مكة والمدينة، فبعث رسول الله ص عام الفتح علياً(ع) فحطّمها وهدم معبدها[97].

يقول أبو واقد الليثي: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ[98]، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ[99]، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ص: اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَـا قَالَتْ بنو إِسْرَائِيلَ: ﴿ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ ١٣٨[الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»[100].

نبّه الرسول الكريم ص أمَّته في هذا الحديث إلى أنهم سيتَّبعون سَنَن من كان قبلهم؛ ولو دققنا النظر فسنرى بوضوح تبعية المسلمين لسنن من كان قبلهم، بحيث أصبح في كل مدينة أو قرية أو حيّ، حجرة أو شجرة أو بيت للسقاية أو مئات من أمثالها، يطلب منها الناس حوائجهم.

فهل يمكننا أن نطلق وصف الإسلام والتوحيد على أناس يعتقدون بمثل هذه الأوهام ويطلبون منها حوائجهم؟ أليس هؤلاء مشركين؟

والعجيب أنهم يقولون إن الشجرة أو الحجرة أو بيت السقاية أو موضع القدم أو قِدْر «سمنو» (نوع طعام) وغيرها التي نطلب منها حوائجنا ليست إلا بسبب أن الصالح من «ذرية الإمام» نظر إليها. وهذا لعمري عذر أقبح من ذنب، فهم بكلامهم الجاهل هذا يريدون أن يلبّسوا شركاً بشركٍ آخر!! فهل هذا الصالح من «ذرية الإمام» قاضي الحاجات حتى تصبح شجرة بسبب نظره شجرةً قاضيةً للحاجات؟!

ولقد رأيت بنفسي شجرة تسمى بـ«ملا جغندر» التي كانت خلف مدرسة سيد ناصر الدين، وقد اجتمعت حولها النساء، وكان هناك رجل يقرأ مرثية، وكانت النساء يطلبن حوائجهن من تلك الشجرة، وقد عُلِّق عليها من الخرق والأقمشة ما لا يعدّ ولا يحصى، وجُعلت لها عيوناً من فضة، ولكثرة ما وُضع عليها من شموع مشتعلة قد تحوّلت هذه الشجرة إلى خشبةٍ جافَّةٍ محترقةٍ متعفِّنةٍ. والأعجب من ذلك، أن هذا الصنم كان خلف مدرسة دينية يدرس فيها حوالى مائة طالب للعلوم الشرعية، فلم يكن أحد منهم يتجرأ على نهي ذلك المنكر. ونحمد الله تعالى أن حوادث الزمن أدت إلى شق طريق في موضع تلك الشجرة مما أدى إلى إزالتها، ولكن للأسف الشديد تمت إزالة تلك المدرسة الجميلة معها أيضاً.

وكذلك كانت هناك «شجرة دُلب» في القصر الملكي، يُقال لها: «شجرة دُلب عباس علي»، وكان سكان هذه المنطقة يتوجهون إليها ويتبركون بها، فنحمد الله، أنها اقتُلِعَت من جذورها.

وقد بلّغ خاتم الأنبياء ص الرسالةَ، وأبعد المسلمين عن مظاهر الشرك، إلى حد أن «عمر» مع تعصبه الشديد في الجاهلية لعبادة الأصنام إلا أنه لما تشرف في خلافته بزيارة الكعبة، لما وصل إلى الحجر الأسود، خاطبه قائلاً: «أيها الحجر، لست إلا جماداً، ولولا أني رأيت رسول‌اللهص يستلمك ويحترمك لما اهتممت بك أبداً»[101]. فانظر الاختلاف الكبير بين ذلك الزمن وهذا الزمن!

جدير بالذكر، أنه لا ينبغي أن يُعبد الحجر الأسود، بل يُستحب استلامه فقط. وقد وُضع هذا الحجر، لتحديد نقطة بدء الطواف، أو أنه حجر لتعيين عدد الطواف. وبعبارة أوضح، فإن الحاج يبدأ الطواف بمحاذاة الحجر الأسود، لأن الطائفين ينبغي لهم أن يتحركوا باتجاه واحد، فلو ابتدؤوا الطواف من جهات مختلفة [وتحرك كل منهم في جهة مخالفة للآخر] لاصطدموا ببعضهم، وسيصعب الطواف في هذه الحالة، ولهذا شُرع لهم أن ينووا بمحاذاة الحجر، ويبدؤوا الطواف من عنده.

هذه هي تربية الرسول ص، ولكن مع الأسف الشديد! بعد فترة يسيرة من رحيله، وقع كثير من الأمة في الشرك، وانغمسوا فيه إلى حدّ أن بعض العادات الشركية لديهم صارت من ضروريات الدين، ومسلّمات شريعة سيد المرسلين ص.

انظروا كيف رجعوا إلى الجاهلية من جديد! كم اختلقوا من رؤيا كاذبة! وكم علّقوا من خِرَق على الأشجار! وكم اخترعوا من مواضع للأقدام! وكم أشعلوا من شموع على بيوت السقاية ونحوها حتى في وسط النهار!.

لِكَثرة ما ألصقوا به من أمور وأشياء فإنك لو جئت ورأيته لم تعْرِفْه[102].

[94] قال ابن عباس: «هو رجل كان يلت السويق للحجاج فمات فعكفوا على قبره». وقال هشام بن الكلبي: «اللات ليست صنما على هيئة إنسان أو حيوان بل صخرة مربعة ذات لون أبيض... بَنتْ ثقيفٌ عليها بيتاً وله كسوة وحَجَبَة ويضاهون به الكعبة». (كتاب الأصنام ص16) [المترجم] ويوضح سبب تقديسهم لهذه الصخرة الرواية التي نقلت عن ابن عباس: «أن اللات (رجل) لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل صخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً». (فتح الباري8/478). [المترجم] [95] انظر: تفسير ابن كثير 6/453. [المترجم] [96] اختلف المتقدمون في وصف هذه الصنم، فبعضهم قال: هو صنم منحوت على شكل امرأة، وقال آخرون: ثلاث شجرات من سمر. وقال آخرون: هي شيطانه. (انظر: معجم الأوثان والأصنام عند العرب 66-67). [المترجم] [97] قال ابن جرير: سميت بذلك لأن دم الذبائح يمنى عندها. (انظر: جامع البيان27/35). [المترجم] [98]ذات أنواط: قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: «هِيَ اِسْمُ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ يَنُوطُونَ بِهَا سِلاحَهُمْ أَيْ يُعَلِّقُونَهُ بِهَا وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مِثْلَهَا فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ». [المُصحح] [99] سدرة: قال ابن الأثير في النِّهَايَةِ: «السِدْر: شجرُ النبِق». [المصحح] [100] نقله الشيخ الطوسي في تفسيره «التبيان»، ج1/ص400، والشيخ الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان»، ج3/ص351، كلاهما لدى تفسيرهما لقوله تعالى: ﴿أَمۡ تُرِيدُونَ أَن تَسۡ‍َٔلُواْ رَسُولَكُمۡ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ١٠٨ [البقرة: ١٠٨]. أما في مصادر أهل السنة، فقد أخرجه - بهذا اللفظ - الطبراني في المعجم الكبير، ح (3291)، ج3/ص 244. وبلفظ قريب جداً: أحمد في مسنده (5/218)، وقال شعيب الأرنؤوط: (إسناده صحيح على شرط الشيخين). وهو في سنن النسائي الكبرى (11185) ومسند الطيالسي (1346) وَصحيح ابن حبان (6702). وأخرجه الترمذي في سننه (2180) بلفظ فيه اختلاف يسير وذكر أن الخروج كان إلى خيبر، وقَالَ بعده: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ... وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ». [المُصحح] [101] الخبر مرويٌ في مصادر أهل السنة؛ إذ رواه الشيخان: البخاري (1520) ومسلم (1270) في صحيحيهما وغيرهما عن عُمَر بن الخطاب س أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّلَهُ وقال: «وَاللَّـهِ إِنِّي لأقَبِّلُكَ، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَأَنَّكَ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّـهِ ص قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ». [102] بس‌که ببستند بر او برگ و ساز گر تو بیائی نشناسیش باز!

من أنواع الشرك: الذبح وتقديم القرابين لغير الله

والمقصود بالقربان، هو كل ما يتقرب به الإنسان إلى الله، سواء كان دماً أم غيره. وفي العرف هو اسم للذبيحة التي تُقدم قرباناً. كما ذُكر في تاريخ بني إسرائيل أن قربان قابيل كان من ثمار الحقل، وكان قربان هابيل من الحيوانات.

وفي زمن نوح÷، بنى الناس مذبحاً يذبحون عنده الحيوانات ويُحرقونها. وفي زمن إبراهيم÷، كانت قرابين الناس إلى أصنامهم من الخبز والخمر والبشر. وقد مَنَع إبراهيم÷ ذبح البشر وتقديمه كالقربان؛ (وهو ما تشير إليه قصة ذبح إسماعيل ÷ ومجيء الفدية بدلاً عنه).

وفي عصر موسى÷، كانت القرابين على نوعين: الدموية وغير الدموية، فكانوا يذبحون القرابين الدموية و يتركون غير الدموية في الصحراء. وقد تعلّم العرب في الجاهلية هذه العادة من قوم موسى فكانوا يسيبون الحيوانات تقرّباً للأصنام؛ وهي ما يسميها القرآن بــ«البحيرة» و«السائبة»، كما قال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ١٠٣[المائدة: 103].

البحيرة: كان من عادة العرب أنه إذا نتجت الناقة خمسة أبطن، فإذا كان الخامس ذكراً بحروا (أي شقوا) أذنها، وخلوا سبيلها، وكانوا يمتنعون عن نحرها وركوبها، ولا تُمنع عن ماء ولا كلاء[103].

السائبة: كانت العرب في الجاهلية ينذرون أنه إذا رجع مسافرهم [سالماً) أو شُفي مريضهم أن يسيبوا [أي يحرروا] ناقة من ملكه كمن يعتق رقبة[104].

الوصيلة: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان بطنها السابع جدياً ذبحوه قرباناً لأصنامهم، وإن ولدت في البطن السابع جدياً وعناقاً كانوا يقولون: وصلت أخاها، فلا يذبحون الجدي لأجل أخته[105].

الحام: وهو الفحل [الذكر من الإبل] إذا نتج من صلبه سبعة أبطن[106]، كل واحد منها يصلح للركوب. وقيل: إذا رُكب ولد ولده، كانوا يقولون: حمى ظهره من الركوب، فخلوا سبيله، ولا يُمنع من كلاء ولا ماء [107].

وهذه العادة لدى المشركين قد أصبحت سائدة لدى بعض المسلمين، حيث يطلقون عنزة أو خروفاً أو جملاً لبيت السقاية أو لقبر أحد الصالحين. ومن الأمثال السائرة أنهم يقولون: إن عِجْل الإمام الرضا لا يؤكل في الضحى؛ وأن أمر العجل يرجع إلى زمن الشاه السلطان حسين الصفوي، فإنهم كانوا يزينونه بالذهب والمرايا، ثم تركوه طليقاً في الأزقَّة والأسواق، فكان الناس يتبرّكون به. ولقد رأيت بنفسي أنهم أطلقوا عنزةً تقرّباً إلى بيت السقاية وجعلوا قرنها من ذهب وكانوا يتبرّكون بها!

وبنو إسرائيل كانوا يقسمون الذبائح الدموية على ثلاثة أقسام: الذبيحة المحرقة، وذبيحة كفارة الذنوب، ذبيحة السلامة. فكانوا يحرقون الذبيحة الأولى ما عدا جلدها؛ وأما الذبيحة الثانية، فيقسمونها على نصفين، فيعطون النصف الأول للكاهن، ويحرقون النصف الثاني. وكانوا يأكلون الذبائح من القسم الثالث.

وأما قرابين المسيحيين، فكانت منحصرة بالخبز والخمر ويعتبرونهما لحم المسيح ودمه.

وكان بعض الأمم السابقين كالمصريين والرومان والفينيقيين والكنعانيين يبالغون في أمر القرابين إلى درجة أنهم كانوا يضحون بالبشر؛ وقد استمرت هذه العادة المشئومة في أوروبا إلى القرن السابع الميلادي.

وأما في سبب نشأة قرابين الحيوانات؛ فقيل: إن أصلها كان ضيافة يقدمها بعض تلك الأمم لآلهتهم، فكانوا يجتمعون في معابد الأوثان ويذبحون الحيوانات ثم يأكلون لحومها؛ وكذلك كانوا يذبحون أسرى الحروب قرباناً للأصنام.

وقال بعضهم: اُتخذت القرابين لسببن: 1- الإهداء للآلهة تعظيماً وتشريفاً لها [كما سبق]. 2- لتكفير الذنوب وإرضاء الآلهة وتسكين غضبها.

وأما الأمم المتوحشة، فكانت تقدم القرابين لثلاثة أسباب:

1- لروح الميت، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الميت يجوع في قبره، ويحتاج إلى غذاء، حتى أنهم كانوا يذبحون فرس الميت وغلمانه ليخدموه في قبره.

2- إرضاء للآلهة، فيقدمون لها القرابين حتى ترضى عنهم.

3- لتكفير ذنوبهم وذنوب قبيلتهم. والأصل في هذا القربان، أنهم كانوا يعتقدون أنهم بذبحهم لحيوان قرباناً ينتقل المرض من الإنسان المريض إلى الحيوان المذبوح، ثم تطور هذا الاعتقاد فنشأ عنه اعتقاد آخر، وهي انتقال إثم الأمة إلى الحيوان المذبوح؛ كما أن بعض القبائل الأفريقية تضحي كل سنة برجل وامرأة، وتعتقد أن آثام القبيلة تنتقل إلى هذين الشخصين، وبذبحهما تتطهّر القبيلة من ذنوبها. وكان الأثينيون يضحون بإنسان في أوقات انتشار الأوبئة العامة أو الكوارث الطبيعية مثل القحط والغلاء ويعتقدون أن البلاء يرتفع عنهم وتنجو أمتهم بالتضحية بذلك الشخص.

وإن هذه العقيدة هي الأساس لنشأة عقيدة الفداء لدى النصارى الذين يدعون أن المسيح فدى البشر بنفسه [بموته على الصليب] كي يطهِّر الناس من ذنوبهم، وتوجد مثل هذه العقيدة لدى أراذل الشيعة وجهلتهم الذين يرون أن الحسين بن علي (ع) استشهد ليطهِّرَ الشيعة بذلك من ذنبوهم.

[103] تفسير «مجمع البيان»، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، ج3، ذيل تفسيره الآية المذكورة (103) من سورة المائدة. [المصحح] [104] المصدر السابق. «فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر، أو البرء من علة، أو ما أشبه ذلك، قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، وأن لا تخلى عن ماء، ولا تمنع من مرعى، وقيل: هي التي تسيب للأصنام أي: تُعْتَقُ لها». [المصحح] [105] المصدر السابق ملخصاً. [المصحح] [106] هكذا ذكره المؤلف، والذي في كتب التفسير كتفسير الطبرسي وغيره عشرة أبطن وليس سبعة. [المصحح] [107] المصدر السابق.

تقديم القرابين والأضاحي في الإسلام

لقد أزال الإسلام عن البشر جميع تلك الأوهام والخرافات المتعلقة بالقرابين، وأقرّ الأضحية بالأنعام، ونهى بشدة عن تضحية البشر. فقد كان المصريون يقومون مرَّةً في كل عام بإغراق فتاة جميلة في نهر النيل ويسمونها عروس النيل، وبقي ذلك الأمر حتى زمن الفتح الإسلامي وحكم «عمرو بن العاص» لمصر حيث توقفت هذه العادة الفظيعة الشنيعة ببركة الإسلام.

لقد أقرّ الإسلام الأضحية بالحيوانات، وبيّن الحكمة من ذلك، على أنها ليست إرضاء للأصنام، ولا تغذية للأموات ولا تفدية للأحياء، بل هي هدية من الأغنياء للفقراء؛ فالمقصود من الأضاحي إطعام الجائعين والفقراء والبؤساء، كما يقول تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٣٧ [الحج: 36].

ينبغي أن يقول المضحِّي عند الذبح: «اللهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهِ إِلاَّ‬ ‫اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، اَللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَیْكَ»[108].

﴿ٱلۡقَانِعَ: هو الفقير الذي يقتنع بما يُعطى له، وأما ﴿ٱلۡمُعۡتَرَّ، فهو الفقير المحتاج الذي يتعفف عن السؤال. وقال بعضهم: ﴿ٱلۡقَانِعَ فقير مكة، و﴿ٱلۡمُعۡتَرَّ الفقير الآفاقي (أي القادم من خارج مكة).

لقد صرَّحت الآية الكريمة أن الأضاحي ليست مقصودة لذاتها، كما أنها لا تفيد ذات الحق تعالى، فـــ﴿إِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ [آل‌عمران: 97]، كما أنها ليست ركناً من أركان الدين، ولكنها اعْتبِرَتْ صدقة للتوسعة على الفقراء والمحتاجين.

وينبغي أن يكون الذبح والقرابين لله تعالى وحده، ولا يذُكر اسم غير الله عند الذبح والنحر، كما قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ [الأنعام: 162].

قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك في قوله: ﴿وَنُسُكِي: النُسك: الذبح في الحج والعمرة[109].

وصرحت هذه الآية المباركة أن القرابين تقدم لله تعالى فقط، لا ينبغي أن يشاركهُ فيها أحد.

ويقول تعالى أيضاً: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2].

ويقول تعالى أيضا: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ [البقرة: 173].

والمراد من قوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ هو ما كان يُذبح باسم الأصنام والآلهة دون الله، فيقول أحدهم عند الذبح: أيها الصنم، أقدم لك هذه الشاة متقرِّباً بك إلى الله.

قال أمير المؤمنين علي ÷: حدّثني رسول الله ص بأربع كلمات: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَیرِ الله، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَیهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ الله مَنْ غَیَّرَ مَنَارَ الأرْضِ»[110]. وروى أبو عبيد في كتاب الأموال والبيهقي عن الزهري عن خاتم النبيين ص أنه: «نَهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْجِنِّ، وَقَالَ: وَذَبَائِحُ الْجِنِّ أَنْ یشْتَرِي الرَّجُلُ الدَّارَ أَوْ یسْتَخْرِجَ الْعَینَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَیذْبَحَ لَهَا ذَبِیحَةً لِلطِّیَرَةِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَنْ يَضُرَّ أَهْلَهَا الْجِنُّ، فَأَبْطَلَ ص ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ»[111].

فاتضح من هذه الآيات المباركة والأحاديث النبوية أن تقديم القرابين لغير الله شرك، وأن لحمها حرام.

يقول الفقهاء رضوان الله عليهم: كل ذبيحة ذُكر عليها اسم غير الله فلحمها حرام، ولو ضُمَّ اسم الله عزوجل إلى ذلك الاسم عند الذبح، بل إن هذا العمل شرك[112].

ومن هذا القبيل، ما يُذبح اليوم باسم صالح من ذرية الأئمة أو باسم أبي الفضل (ع) أو أئمة الهدى (ع). فيقول الشخص العامي: يا ابن الإمام، ذبحت هذه الشاة في سبيلك، أو يقول: يا أبا الفضل! أذبح باسمك هذا الخروف، كي تشفي لي مريضي.

يا ربّ! لقد ساد الشرك باسم التوحيد، وصار أكثر الناس يرتكبون أعمالاً شركيةً باسم الإسلام، واختلط الحابل بالنابل، [فاهدنا وإياهم إلى سواء الصراط].

حقّاً إنها مشكلة غريبة! ولا شكّ أن إثم ذلك يقع على عاتق الدجّالين الذين يبرّرون أفعال العوام الشركية بألف تبرير حتى يرتزقوا من وراء ذلك. وفي الواقع، أن هؤلاء هم المُقَلِّدون للعوام وليس العوام مُقلِّدين لهم، فحيثما ذهب العوام فهم يسيرون كالأنعام وراءهم. ولما كان أولئك الدجالون الذين يبيعون دينهم بعرض زائل من الدنيا يتحدثون بما يوافق أهواء ورغبات العوام الجهلة، فإن العوام الجهلة الذين لا يملكون القدرة على تشخيص الصواب من الخطأ والحق من الباطل يظنون أن أولئك الشيوخ مطاعون في الدين، فيطيعونهم طاعة تامة؛ فيدخل التابع والمتبوع كلاهما في النار! ﴿يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠ ٦٦ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧ رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٦٨ [الأحزاب: 67].

ولو كانوا مؤمنين بالله والرسول حقاً، ويخافون يوم القيامة لردعتهم هذه الآية وحدها! ولكن مع الأسف ﴿إِنَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّمۡعِ لَمَعۡزُولُونَ ٢١٢ [الشعراء: 212].

[108] المراد من جملة «منك وإليك» أن هذه الأضحية عطاء من عندك ونحن نتقرب بهذا القربان إليك. (شريعت) [109] انظر: تفسير جامع البيان في تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، ج12، ص 284. [المصحح] [110] لم أجده في أيٍ من مصادر الحديث الإمامية، أما في مصادر أهل السنة، فقد أخرجه مسلم في صحيحه بتقديم وتأخير: 35-كتاب الأضاحي/8-باب تحريم الذبح لغير الله تعالى، رقم (1978). [المصحح]. [111] السنن الكبرى للبيهقي، ج9، ص527، ذكره أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ) في كتابه غريب الحديث، ج2، ص221، ولم أجده في كتابه الأموال. وكما ذكره الحرالعاملي، في وسائل الشيعة، ح (15386)، ج 11 / ص 507. [المصحح]. [112] انظر الانتصار للشريف المرتضى403.

من أنواع الشرك: النذر لغير الله

يقول الله تعالى في مادحاً عباده المُخْلَصين: ﴿يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ‬ [الإنسان: 7]. هذه الآية المباركة تدل على وجوب وفاء النذر وتمدح الذين يوفون بالنذر. فالنذر من جملة العبادات، والعبادة يجب أن تكون خالصةً لِـلَّهِ لا يُتَوَجَّهُ بها لأحدٍ غيره، كما أن الصلاة والصوم لا يكونان إلا لله تعالى وحده، ولو أُدِّيا لغير الله كانا باطلين، فكذلك النذر بما أنه عبادة فإن أُدِّي لغير الله كان باطلاً. ولهذا يقول الفقهاء رضوان الله عليهم: لا ينعقد نذر الكافر.

يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥ [البقرة: 270]. أخبر الله تعالى في هذه الآية المباركة بأنه عليم بأعمال العباد، سواء أكانت نفقةً أو نذراً، وقد تعهد الله تعالى بأن يجزي المحسنين خيراً.

ورد في الكافي عن جعفر بن محمد ÷ أنه قال: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: عَليَّ الْـمَشْيُ إِلَى بَیتِ اللهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ أَوْ عَليَّ هَدْيُ كَذَا وَكَذَا فَلَیسَ بِشَي‏ءٍ حَتَّى یقُولَ: لِلَّهِ عَليَّ الْـمَشْيُ إِلَى بَیتِهِ أَوْ یقُولَ: لِلَّهِ عَليَّ أَنْ أُحْرِمَ بِحَجَّةٍ أَوْ یقُولَ: لِلَّهِ عَليَّ هَدْيُ كَذَا وَكَذَا إِنْ لَـمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا»[113]. أي: أنه إذا قال شخص: عليَّ عمل كذا، لا يقع إلا أن يقول: عليّ لله كذا.

وفي الكافي عن الْكِنَانِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: عَليَّ نَذْرٌ؟ قَالَ: لَیسَ النَّذْرُ بِشَيْ‏ءٍ حَتَّى یُسَـمِّيَ شَیْئًا لِـلَّهِ صِیَامًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ هَدْیًا أَوْ حَجًّا»[114].

رُوِي في الكافي عن أبي عبد الله «عَنِ الرَّجُلِ یَحْلِفُ بِالنَّذْرِ وَنِیَّتُهُ فِيْ یَمِیْنِهِ الَّتِيْ حَلَفَ عَلَیْهَا دِرْهَمٌ أَوْ أَقَلُّ. قَالَ: إِذَا لَـمْ یَجْعَلْ لِلَّهِ فَلَیسَ بِشَيْءٍ»[115]. (يعني باطل).

فبناءً على هذه المقدمات من الآيات والأحاديث وإجماع العلماء، يتضح على أن النذر لغير الله لا يجوز، وأنه باطل، كالنذور التي ينذرونها لقبور الصالحين، كقولهم: نذرنا لك يا ابن الإمام، هذه السجادة أو هذا المصباح أو الشمعدان، أو هذا الخروف؛ فكل هذه النذور باطلة. وإذا طالب الناذر من صاحب القبر أن يقضي حوائجه، فعمله هذا شرك بلاريب. يقول الله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَاۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمۡ فَلَا يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمۡۗ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ١٣٦ [الأنعام: 136].‬

كان لقبيلة بني خَولان صنمٌ يُقال له: عُمْيَانِس[116]، وكان من عادة هذه القبيلة، أنهم كانوا يقسمون ما لديهم من الزرع والحرث والأنعام على نصفين، فيجعلون نصفها لله ونصفها الآخر لأصنامهم، فما كان لله أطعموه الضيوف والفقراء، وما كان لأوثانهم قسموه بين سدنة الأصنام، وإذا تبين أن نصيب الله أحسن، فكانوا يبدلونه بنصيب الأصنام، وإذا سقط شيء من نصيب الله في نصيب الأصنام فلا يأخذونه، ويقولون إن الله غني[117]. وقد أشار الحق تعالى إلى هذا الأمر في الآية المذكورة.

وبهذا يتضح أن النذر لغير الله باطل ومحرم، سواء كان ذلك لقبر أو لشخص حيّ، لأسباب عدة، هي:

أولاً: أن النذر لغير الله كالصلاة لغير الله، فكلاهما عبادة، وينبغي أن تكون العبادة لله.

ثانياً: لا يُتصوَّر النذر للميت، لأن الميت بإجماع أمة محمد ص، وضرورة العقل لا يملك شيئًا.

إن الشخص الذي ينذر لصحاب القبر يفترض أن صاحب القبر مستقل في التصرف بالأمور في مقابل الله وهذا شرك وكفر صريح.

ثالثاً: إن الشخص الذي ينذر لصاحب القبر يفترض أن صاحب القبر مستقلّ في تسيير الأمور من دون الله تعالى، وهذا كفر وشرك صريح.

وبعد فهم هذه المطالب، متى ما تنبه أحد إلى شِرْكه، وأدرك أنه بسبب الجهل والغفلة، عاش فترة من عمره في الشرك، فعليه أن يتوب. ثم إذا أراد بعد ذلك أن ينذر، فليقل: اللهم إني نذرت لك هذه الذبيحة، وأهدي ثواب عملي هذا إلى روح سيد الشهداء(ع)، أو الأئمة أو الأولياء الآخرين، وجعلت مصرفها للفقراء ومحبي الأئمة الهدى. أو يقول: يا رب! نذرتُ لك هذه السجادة أو هذا المصباح أو هذه الآنية، وجعلتُ مصرفها للحرم أو المسجد. فإذا نذر بهذه الطريقة المذكورة فنذره صحيح، وهو مأجور[118].

ولا شك بأن معظم الضلالات التي يرتكبها الناس، سببها الجهل بالأحكام الشرعية، فإذا تمَّت توعيتهم بها فإنهم سيعملون بها بلا شك.

[113] الكافي للكليني، باب النذور، الحديث رقم 1، ج 7/ ص 454. [المترجم] [114] المصدر السابق، نفس الباب، ح رقم 2، ج 7/ص455. [المترجم] [115] المصدرالسابق، نفس الباب، ح رقم 22، ج 7/ص 458. [المترجم] [116] انظر: كتاب الأصنام للكلبي، ص 43، ومعجم الأوثان والأصنام عند العرب لموفق الجبر، ص69. (المترجم) [117] تفسير مجمع البيان للطبرسي، ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَا... الآية. انظر: السيرة النبوية لابن هشام، ج1/ص53، ومعجم البلدان للحموي، ج 4/ص158. [المصحح] [118] لا بد من التنبيه في هذا الأمر، على أنه لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله، لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلب الإنسان نية سيئة، فيعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر. عن ثَابِتِ بْن الضَّحَّاكِ، قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ص أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ فَأَتَى النَّبِيَّ ص، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ص: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». (رواه أبوداود في سننه، ج3/ ص 238، وصححه الألباني). [المصحح]

من أنواع الشرك: دعاء غير الله والاستغاثة بغيره

الاستغاثة: طلب الغوث لإزالة الشدة، وطلب العون.

وقال بعضهم: الاستغاثة تكون من المكروب، والمصاب بالغم، والدعاء غير الاستغاثة وهو أعم منها، فالنسبة بين الدعاء والاستغاثة نسبة عموم وخصوص مطلق، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة.

والدعاء على نوعين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة والطلب.

فدعاء المسألة هو أن يطلب الداعي ما ينفعه من جلب منفعة أو دفع مضرة؛ وقد خطّأ الله تعالى في القرآن الكريم مَنْ دعا غير الله في جلب النفع أو كشف الضر، فقال سبحانه: ﴿قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٧٦ [المائدة: 79]، وقال: ﴿قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰٓ أَعۡقَابِنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰنَا [الأنعام: 71]، وقال أيضاً: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106].

وإن كل دعاء العبادة يستلزم دعاء المسألة، كما أن كل دعاء المسألة يستلزم دعاء العبادة، كما قال الله تعالى: ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٥٥ [الأعراف: 55]

﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠ بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ ٤١ [الأنعام: 40-41] ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨ [الجن: 18].

وأمثال هذه الآيات كثيرة في القرآن وكلها تدل على أن دعاء المسألة يستلزم دعاء العبادة، فعلى السائل أن يكون سؤاله خالصاً لله سبحانه وتعالى.

والاستغاثة جائزة في الأسباب الطبيعية والأمور الحسية [التي يقدر عليها الإنسان]، كأن تقول في القتال: يا فلان! أغثني؛ أو إذا هاجمك حيوان مفترس فتقول: يا فلان، أدركني؛ أو واجهتك مصيبة كأن يحترق بيتك أو هجم عليك عدو، فتصرخ وتستغيث وتقول: يا مسلمون! أغيثوني، أدركوني؛ فكل هذه الاستغاثات ليست شركاً بإجماع أمةسيد المرسلينص.

أما الاستغاثة بالقوة والتأثير بالأمور المعنوية، والأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى مثل شفاء المريض ووفاء الدين من غير الأخذ بالأسباب الطبيعية، أو طلب الرزق والهداية وغفران الذنوب وطلب دخول الجنة، والنجاح في الدراسة، ونحو ذلك، فهذا النوع من الاستغاثة مختصة بالذات الربوبية، فطلبه من غيره شرك. فلا يجوز أن تستغيث بالنبي أو الولي كأن تقول: اشفني، أو اغفر لي، أو تقول: أستغيث بك يا فلان، أو أغثني يا فلان، بل يجب أن تقول: أغثني يا غياث المستغيثين.

روى الطبراني أنه كان في زمن النبي ص منافقٌ يؤذي المؤمنين، فقال بعضُهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله ص من هذا المنافق، فقال النبي ص: «إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، إِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ»[119].

لا حظوا أن رسول الله ص نهى عن الاستغاثة به في الأمور الحسية، مع أنها جائزة؛ وسبب النهي هو صيانة التوحيد والتحذير عن الشرك، وقطع الطريق الموصل إلى التوسل بغير الحق تعالى حتى لا يتعوّد الناس على الاستغاثة بغير الله.

وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّـهِ الْعَلِيِّ الْعَظِیمِ، وَصَلِّى اللهُ عَلَى سَیدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِینَ.

[119] لم أجده في مصادر الحديث الشيعية، وفي مصادر أهل السنة، روى نحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ج10/ص159، ح(17276)، وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث».

من أنواع الشرك: التنجيم

لما كان الاعتقاد بالتنجيم والتأثير الوهمي للكواكب والشمس والقمر في هذا العالم من العقائد القديمة لفرقة الصابئة، وعن طريقهم تسرّب هذا الاعتقاد إلى عقائد المسلمين، فلهذا لابد أن نبيّن نبذة مختصرة عن أحوال هذه الفرقة (الصابئة) قبل الدخول في الموضوع:

الصابئة:

يرى بعض العلماء أن هذه الفرقة كانت من أتباع صاب بن شيث، ولهذا سموا بالصابئة. ومما يؤيد هذا الرأي كلامهم أنفسهم إذ يقولون إن معلمهم في هذا المذهب، هو عاذيمون يعني شيث وهرمس يعني إدريس. ويقول صاحب الصحاح: «صبأ الرجل صبوءًا، إذا خرج من دينٍ إلى دين آخر»[120]. كانت العرب الجاهليون يطلقون لفظ «الصابئ» على رسول الله ص، لأنه ص خرج من دين قريش الذي هو عبادة الأصنام؛ وكذلك كانوا كلما أسلم شخص يقولون عنه صبأ الرجل، ويسمون المسلمين بالصابئين.

ويقابل الصابئة دين الحنفاء، و«الحنف» في اللغة الإعراض عن الضلال والميل إلى الهداية، [والحَنِيف عند العرب: من كان على دين إبراهيم ÷]. فإمام الحنفاء -كما سيأتي بالتفصيل- هو شيخ الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن ÷، وخاتم الحنفاء هو سيد الأنبياء خاتم المرسلين محمدص.

لما بنى إبراهيم÷ الكعبة بمكة وجعلها مركز الحنيفية، وكان أجداد وسلف أهل مكة تابعين لإبراهيم÷، وكانوا يسمَّون بالحنفاء، وكانوا من أشد المخالفين للصابئة، ولكن خَلَفَهم وأبناءهم المعاصرين لخاتم النبيين ص كانوا رغم عبادتهم للأصنام يرون أنفسهم أنهم على طريقة الحنفاء وكانوا يظنّون معاداة الأصنام خروجاً عن دين إبراهيم الحنيف! لذا كانوا يطلقون على الرسول الأكرم ص وعلى المسلمين لقب الصابئين.

كما أن سلفنا وآباءنا كانوا أيضاً مسلمين وأصحاب عقائد صحيحة وتوحيد خالص، ثم بسبب بعد العهد والتأثر بالأمم الأخرى استبدلوا عقيدتهم السابقة بعقائد غير إسلامية وبأنواع من الشرك تحت مسمى التوحيد والإسلام، وشاعت بينهم كثير من الأعمال والاعتقادات المخالفة للإسلام، وأصبح المسلمون بسبب جهلهم بحقيقة الإسلام يظنون أن هذه الاعتقادات والأعمال التي يمارسونها هي الإسلام الصحيح، وكلما قام شخص يدعو إلى الإسلام الحقيقي وطريقة السلف الصالح كفَّروه.

وأساس دين الصابئة قائم على عبادة الروحانيات والملائكة، بينما أساس دين الحنفاء قائم على عبادة الله وحده، كما سيأتي توضيحه فيما بعد.

تدعي الصابئة بأن دينهم هو الاكتساب، والحنفاء يقولون: ديننا مبني على الفطرة. والمراد بالاكتساب هنا: أن يُعرف الدين بالدليل، فمثلاً: في مسألة المبدأ والمعاد والفضيلة، ترى الصابئة أنه إذا قام الدليل على صحة هذه الأمور، قبلناها، وإلا فهي فاسدة مرفوضة؛ ويقول الحنفاء إن الدين قائم على الفطرة، والعقائد الدينية يجب أن تصدقها الفطرة، فكلما خرج عن الفطرة لا يمكن اعتباره ديناً، يقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٠ [الروم: 30].

والفِطْرة وزناً ومعنىً هي الخِلْقة، والمقصود من الفطرة الاستعداد للتوحيد وإدارك الحقائق دون امتناع أو إنكار، فالفطرة التي بهذه الصفة هي التي فُطر الناس عليها. وحرف «لا» في قوله: ﴿لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِ نهي بصورة نفيٍ، أي لا تبدِّلوا خلق الله الذي هو الدين الذي خلق الله تعالى الناس بفطرتهم عليه، وهذا الدين الذي هو دين الفطرة دين صحيح مستقيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الآية صريحة في أن الإنسان خُلِق مفطوراً على التوحيد وإدراك الحقائق، وأن الإنسان خلق في نهاية الحسن، والاستقامة. ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤ [التين: 4].

وإنما يخرج الإنسان عن الفطرة لأسباب عديدة، مثل تربية المعلمين وتقليد الآباء وتأثير البيئة وأمثالها؛ فهذه العوامل هي التي أخرجت الناس عن الفطرة وشريعة الإنسانية، فبعث الله تعالى الرسل ليعيدوا الناس إلى فطرتهم الأولى ويزيلوا الموانع التي عرضت لفطرة البشر.

يقول بعض العلماء: لكل إنسان ثلاثة أديان:

الأول: دين والديه وعامة أهل مدينته.

والثاني: دين ملك البلاد، فإن كان الملك عادلاً صار أكثر أهل البلاد عادلين، وإذا كان ظالماً صاروا ظلمة، وإذا كان زاهداً صاروا زهاداً، وإذا كان حكيماً صاروا حكماء، وإذا كان سنياً صاروا سُنة، وإذا كان شيعياً صاروا شيعة، لأن كل واحد يريد التقرب من الملك ويسعى لنيل محبة الملك له، فهذا معنى مقولة: (النَّاسُ عَلَى دِينْ مُلُوكِهِمْ».

الثالث: دين الصديق والصاحب، فكل من صادق شخصاً تأثر بدينه، وهذا معنى قول القائل: «شرط الصحبة المشابهة الظاهرية والموافقة الباطنية»، وهذا أيضاً معنى: «الْمَرْءُ عَلَى دِيْنِ خَلِيلِهِ»[121]. عَنِ الْـمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِيْنَهُ فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْـمُقَارِنِ يَقْتَدِيْ النفس تأخذ عن نظيرها الأخلاق والطباع فاحذر من لقـاء ومصـاحبة الخبيث

إذا مـرَّت الريـح في جـوِّ سـيِّئٍ أخذت الرائحة المنتنة من الجو الخبيث[122]

الصابئة أربع فرق[123]:

الفرقة الأولى: أصحاب الروحانيات. تقول هذه الفرقة: إن مبدأ العالم هو الذات الربوبية وَالحقيقة القيومية المقدسة عن الحدوث والزوال.

[ويقولون] هذه الذات أعلى وأجل من أن نعبدها مباشرة. وبعبارة أخرى، الله بعيد عن عباده، ولا يمكن للعباد بسبب انغماسهم في عالم الطبيعة وفي الشهوات أن يتقربوا إليه، لذا لا بد من وسائط بين الرب والخلق. وهذه الوسائط هم الروحانيون في العالم العلوي مقدّسون عن الموادّ الجِرمانيَّة والقوى الجسمانيَّة، والحركات المكانيَّة والتغيُّرات الزمانيَّة، في جوار ربِّ العالمين، مجبولون على تقديسه وتمجيده وتعظيمه دائمًا وسرمدًا. (وهذه الوسائط – كما سنبين لاحقاً - غير الواسائط التي يقول بها الحنفاء، حيث يعتبر الحنفاءُ الأنبياءَ واسطةً في الهداية).

وقالوا أيضا: والروحانيات آلهتنا وأربابنا، وهي رسائلنا ووسائط بيننا وبين إله العالمين. وبها يُتقرَّب إلى الله، ويُطلب منها الرزق والصحة والحياة وسائر الأمور. وهي المُدبرة للكواكب الفلكيَّة على التناسب المخصوص، فهي مصدر خلق النباتات والجمادات والحيوانات. وزعموا أنَّ الكواكب الفلكيَّة هي هياكل هذه الروحانيَّات، وأنَّ نسبة الروحانيّات إليها نسبة الأنفس الإنسانيَّة إلى أبدانها. وإنَّ لكلِّ روحانيّ هيكلاً يخصُّه، ولكلِّ هيكل فلكًا يكون فيه. وزعموا أنَّ المعرِّف لهم «عازيمون» و«هَرمس»، هما اللذان وضعا أساس علم الهيئة وأسماء الكواكب السيارة وتقسيم الأبراج.

الفرقة الثانية: أصحاب الهياكل: تقول هذه الفرقة أنه لا بد للإنسان من متوسط (واسطة)، ولما كان الملائكة والروحانيون لا يُرَوْن بالعين حتى يمكن التوجه إليهم، فإننا بحاجة إلى وسائط نراها بعيوننا حتى نستطيع أن نتوجه إليها ونحصّل أسباب التقرب بها إلى المبدأ، ففزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، وقالوا إنها تُشاهد بالعين فنجعلها وسيلتنا ونعبدها.

ولأجل عبادة الكواكب السيارة لابد أولا من معرفة بيوتها ومنازلها، وثانياً: معرفة مطالعها ومغاربها، وثالثاً: اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتبة على طبائعها، ورابعاً: تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، وخامساً: تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها. ثم عملوا الخواتيم وتعلموا العزائم والدعوات، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم السبت وراعوا فيه ساعته الأولى وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وهيئته وصنعته ولبسوا اللباس الخاص به وتبخروا ببخوره الخاص ودعوا بدعواته الخاصة به، وسألوا حاجتهم منه الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به. وهكذا سائر الكواكب كان لكل واحد يوم معين وساعة معينة وبخور ولباس وخاتم خاص وعمل محدد.

أقول: إذا فتح المسلم عينيه [وتأمل فيما مضى] أدرك أن التبرك بالخواتم من بقايا عباد الكواكب، وقد صار هذا التبرك مع الأسف من شعار أهل التقوى!!

ولما كانت هذه الفرقة تصل إلى طلباتها بواسطة تلك الوسائط [أي الكواكب]، فكانوا يسمونها أربابا وآلهة، ويقولون أن الله تعالى هو رب الأرباب وإله الآلهة؛ ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب.

وكانوا يقولون: إن التقرب إلى الهياكل تقرب إلى الروحانيات، والتقرب إلى الروحانيات تقرب إلى الباري تعالى، لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا. فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات. وهي تتصرف في أبدانها تدبيراً، وتصريفاً، وتحريكاً، كما نتصرف في أبداننا. ولاشك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه. وكانوا يترتبون آثاراً على هذه العقائد. وهذه الطلسمات[124]، والكهانة، والتنجيم، والتعزيم، والخواتيم، نماذج من علومهم التي لا تزال باقية وموجودة وقد أصبحت جزءاً من عقائد بعض المسلمين.

ومن هذا الأمر، نعلم أن العقول العشرة التي ذهب إليها متفلسفة الإسلام واعتقدوا بها هي عين الروحانيات التي يقول بها الصابئة؛ وهذه العقيدة الشركية إنما دخلت إلى الفلسفة من الصابئة، وللأسف فإن المتفلسفين في الإسلام قبلوا هذه العقيدة الشركية وظنوا أن هذه هي عبادة الله والتوحيد. والآيات الواردة في القرآن الكريم في نفي شفاعة الملائكة تشير إلى بطلان عقيدة عباد الكواكب، كما قال تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ‍ًٔا [النجم: 27].

الفرقة الثالثة: أصحاب الأشخاص. وهذه الفرقة تقول: [إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به وشفيع يتشفع إليه والروحانيات - وإن كانت هي الوسائل - لكنا إذا لم نرها بالأبصار ولم نخاطبها بالألسن لم يتحقق التقرب إليها إلا بهياكلها] ولكن الهياكل قد تُرى في وقت ولا تُرى في وقت لأن لها طلوعاً وأفولاً وظهوراً بالليل وخفاءً بالنهار، فلم يَصْفُ لنا التقرُّب بها والتوجُّه إليها، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا نعكف عليها ونتوسل بها إلى الهياكل فنتقرب بها إلى الروحانيات ونتقرب بالروحانيات إلى الباري سبحانه وتعالى فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، وهذه الآية تشير إلى هذا المعنى ﴿مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ [الزمر: 3]، ﴿هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ [يونس: 20].

وبناءً على هذه العقيدة، بنوا معبداً للأصنام واتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابلة هيكل، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة الخاصة لكل هيكل، وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ولبسوا لباسه وعزموا بعزائمه المناسبة له.

وأما الهياكل التي بنوها، فكانت على أسماء الجواهر العقلية الروحانية وأشكال الكواكب السماوية، مثل هيكل العلة الأولى وهيكل العقل [وهيكل السياسة] وهيكل الضرورة وهيكل النفس؛ كلها كانت مدورات الشكل. وكان هيكل زحل: مسدسٌ، وهيكل المشتري: مثلثٌ، وهيكل المريخ: مربع مستطيل، وهيكل الشمس: مربَّعٌ، وهيكل الزهرة: مثلث في جوف مربَّعٌ، وهيكل عطارد: مثلَّثٌ في جوفه مربع مستطيل، وهيكل القمر: مثمَّنٌ.

الفرقة الرابعة: الحلولية. سماهم ابن بطوطة وسائر المؤرخين بـ«الحرّانية». زعمت هذه الفرقة أنَّ الإله المعبود واحد في ذاته، وأنَّه أبدع أجرام الأفلاك وما فيها من الكواكب. وجعل الكواكب مُدبِّرًات لما في العالم السفليّ. فالكواكب آباءٌ أحياء ناطقة، وأنها آباء للمواليد الثلاثة: الجمادات والنباتات والحيوانات، وأن العناصر الأربعة: الماء والتراب والنار والهواء هي أمهات المواليد الثلاثة. زعموا أن الإله تعالى يظهر في الكواكب السبعة ويتشخَّص بأشخاصها -من غير تعدُّد في ذاته-. وقد يظهر أيضًا في الأشخاص الأرضيَّة الخيَّرة الفاضلة. وزعموا أنَّ الله يتعالى عن خلق الشرور والقبائح والأشياء الخسيسة الدنيئة كالحشرات الأرضيَّة ونحوها، بل هي واقعة ضرورة اتِّصالات الكواكب سعادةً ونحوسة واجتماعات العناصر صفوةً وكدورة.

تلك كانت خلاصة عقائد الصابئة الذين يعبدون الكواكب وَالأصنام، ويعتبرون الكواكب مؤثرة بشكل كامل، ويعتقدون السَّعْد والنَّحْس للأيام، كما يعتقدون أن للفصوص والأحجار الكريمة خواص وتأثيرات روحية ومعنوية، ويعتبرونها مؤثرةً في الأمور غير المادية (ما وراء الطبيعية)، ولقد بعث الله تعالى شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل ÷ لهداية قومه الذين كانوا من الصابئة، فكانت له ÷ مناظرات ومناقشات مع عُبِّاد الهياكل وعُبَّاد الأصنام، وسنذكر فيما يلي خلاصة عن مناظرة إبراهيم ÷ مع الصابئين في عصره:

[120] الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393هـ)، (ط. دار العلم للملايين – بيروت)، ج1، ص59. [121] هو متن حديث ذكره شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385-460 هـ) في الأمالي، قم، انتشارات دار الثقافة، 1414هـ، ص 518. وفي مصادر أهل السنة، رواه الترمذي في سننه (2378) وقال: هذا حديث حسن غريب، وأبو داود في سننه (4835) وقال الألباني: حسنٌ، وأحمد في مسنده (2/303 و334) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد. وقد أخرجوه جميعاً بسندهم عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». [المصحح] [122] نفس از همنفس بگیرد خوی بر حذر باش از لقای خبیث باد چون بر فضای بد گذرد بوی بد گیرد از هوای‬ ‫خبیث [123] انظر: «الملل والنحل»، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (548هـ)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، بيروت، دار المعرفة، 1404هـ، ج2/ ص 4-8، والمؤلف فيما ذكره عن فرق السابئة قد تصرَّف في الاقتباس تقديماً وتأخيراً وتلخيصاً واختصاراً. [المصحح] [124] الطِّلَسْم والطِّلَّسِم: (في علم السحر) خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية لجلب محبوب أو دفع أذى، وهو لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم كالألغاز والأحاجي. (المعجم الوسيط ص 562)

مناظرة إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام للصابئة:

قال تعالى: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ ٨٣ [الأنعام: 84].

في البداية أقام إبراهيم ÷ الحجة على أصحاب الأشخاص. كان أبوه – وعلى قولٍ: عمُّه - «آزر» أعلم هذه الفرقة، وكانت آداب وطقوس عبادة الأصنام وشؤون معبد الأصنام، كلها بيده. لذلك كان إبراهيم ÷يناظره في أغلب الأوقات: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٧٤ [الأنعام: 75]. ويقول تعالى في سورة مريم: ﴿إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡ‍ٔٗا ٤٢ [مريم: 42].

يخاطب إبراهيم÷ أباه قائلاً له: يا أبي، لم لا تنظر ببصيرتك إلى خِلْقتك، كيف جُعلْتَ من أشرف المخلوقات، وكيف صُرت معتدلاً في خلِقتك، وفطرتك، وقد ظهرت فيك الآثار السماوية، والأنوار العلوية والأسرار الملكوتية، وكيف خُلقت سميعاً بصيراً، نافعاً، ضاراً، في حين أن هذا الذي صنَعْتَه بيدك لا يسمع ولا يبصر، فكيف يستطيع أن يتصرف فيك، ينفعك أو يضرك، أو يغني عنك شيئاً؟! ﴿أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ ٩٥ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٩٦ [الصافات: 95-96]. فاقد الشيء لا يعطيه.

الذات التي لم تنل نصيباً من الوجود = كيف يمكنها أن تصبح مانحةً للوجود؟

السحابة القديمة التي غدت خاليةً من الماء = لا يمكنها أن تملك صفة إعطاء الماء [125]

وبعد أن بيَّن إبراهيم ÷ لأبيه بالدلائل الواضحة والحجج الساطعة أن هذه الأصنام التي يصنعها بيديه لا يمكنها أن تكون واسطته وشفيعه عند رب الأرباب، قال له: ﴿يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا ٤٣ يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا ٤٤ [مريم: 43-44].

لم يقبل «آزر» أبداً هذه البراهين الساطعة، وقال: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا ٤٦ [مريم: 48].

ولما لم تؤثر الحجة العلمية في آزر وأتباعه، شرع إبراهيم ÷ بإقامة برهان علميّ، فقام بكسر الأصنام، يقول تعالى: ﴿قَالُوٓاْ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بِ‍َٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ٦٢ قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡ‍َٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ ٦٣ [الأنبیاء: 62-63].

بهذا العمل ألزم إبراهيم÷ جماعةَ «آزر» الحجَّةَ، فأُفحِموا وانقلبوا أذلاء صاغرين، وعجزوا عن الإجابة على دليله، فلجؤوا إلى التعدي والتهديد، وهي سنة الجاهلين، فإنهم عندما يعجزون أمام حجة الخصم يسلكون طريقة «آزر» صانع الأصنام الذي لما لم يجد جواباً لحجة ابنه، شرع بمعاداته، فقال: ﴿لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَ [مريم: 48].

إبراهيم÷ الذي أطلعه الله على ملكوت الكونَين وأسرار العالمين كما يقول تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ ٧٥ [الأنعام: 75]، قام أيضاً بمناظرة أصحاب الهياكل ومجادلتهم، لكن بطريق الإلزام ومماشاة الخصم، والمجادلة بالتي هي أحسن وأتم، فقال في البداية إن هذا الكوكب معبودي: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ ٧٦ [الأنعام: 76]، أي كل ما هو عرضة للتغيير والانتقال لا يستحق أن تُطْلق عليه صفة الربوبية، لأنه لما كان متغيراً احتاج إلى مُغيِّر، كما لا يصح أن يكون شفيعاً لأن الأفول والزوال يخرجه أيضاً عن حدّ الكمال.

ونظراً إلى أن جماعة من الصابئة كانوا يعتقدون أن عبادة الكواكب ممتنعة في حال أفولها، لذا أقاموا أشخاصاً مقام الهياكل -كما مرَّ شرحه-، لذا استدلَّ إبراهيم ÷ عليهم بما يعترف به بعضهم بالجملة؛ وذلك أبلغ في الاحتجاج أن يستند المناظر إلى مسلمات الخصم ويُدينهُ بها.

ولمَّا صرف إبراهيم÷ نظره عن الكوكب ورأى القمر القمر بازغاً مضيئاً في غاية الضوء، قال هذا ربي. ﴿فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغٗا قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمۡ يَهۡدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّآلِّينَ ٧٧ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتۡ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ ٧٨[الأنعام: ٧٧- ٧٨].

وفي آخر الأمر أغلق أمامهم جميع أبواب العذر وقال:

آخر الأمر، لما أغلق إبراهيم ÷ أمامهم جميع أبواب العذر وقال: ﴿إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٧٩ [الأنعام: 79]. والمحدود فانٍ أمام لا حد له، إنكم تعبدون شمس الفلك، إن الشمس (تقوم لنا بعمل) الطباخ بأمر الحق، وماذا تصنع إذا أصاب الكسوف شمسك؟! ألست تصـرخ على الأعتاب الإلهية داعياً: وإذا هم أحد بقتلك في منتصف الليل، فأين الشمس وأغلب الحادثات إنما تقع بليل، وكل شيء غير وجه الله إلى الفناء وأرخصتم الروح التي هي غالية الثمن ومن البله أن نقول إنها الإله وكيف تطرد عنها ذلك السواد؟ اكشف السواد (يا إلهي) وأعد الشعاع لكي تجأر إليها بالشكوى أو تطلب منها الغوث؟! وفي ذلك الزمان يكون معبودك غائباً

وإنك إذا انحنيت بصدق أمام الله، لتخلصت من (عبادة) الكوكب وصرت من المسموحين لهم (بالسـر)[126] وهكذا قرر إبراهيم الخليل÷ التوحيد الحقيقي، [وأبطل مذهب الصابئة]، وبيَّن أن الفطرة هي الحنيفية، وأن الكائنات السماوية والأرضية ليست فاعلاً حقيقياً، وأن واهب الوجود (الله) هو الحق ولا مُؤثِّر في الخلق سواه.

ولما كان «حبّ الشيء يُعمي ويُصمّ»، فإن قوم إبراهيم÷ رغم عجزهم عن الجواب، وإقرارهم بعدم نطق أصنامهم لم يستطيعوا أن يقلعوا عن عاداتهم المذمومة التي مارسوها سنين طوال: ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَٰٓؤُلَآءِ يَنطِقُونَ ٦٥ [الأنبياء: 65]. قالوا: فلماذا تأمرنا بالسؤال؟ فقال لهم إبراهيم ÷: ﴿قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَضُرُّكُمۡ ٦٦ أُفّٖ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٦٧ [الأنبياء: 66-67]،

ولما لم يبق لهم مجال للكلام، رجعوا إلى شيمة الجاهلين، فحكم علماء الدين الجاهلين بتكفير إبراهيم÷ وحَرْقه كي لا يكتشف المريدون السِرَّ، ويخرجوا عن اتِّباعهم. ﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ ٦٨ [الأنبياء: 68].

وأقر نمرود حكم القضاة، فأُوقدتْ النار ووأُلقي نبيُّ الله فيها، ولكن الله المنان لم يدع نبيه أن يحترق بها بل جعلها برداً وسلاماً عليه. قال تعالى: ﴿قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ ٦٩ وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ ٧٠ وَنَجَّيۡنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا لِلۡعَٰلَمِينَ ٧١ [البقرة: 69-71] إن النار لم تمس إبراهيم ÷ بأسنانها، وألم تكن النار حصناً لإبراهيم فالنار لا تكون خطراً على إبراهيم فلا بد من روح إبراهيم، لكي يبصـر ويرقى درجة درجة إلى القمر ثم الشمس، ثم يتجاوز السماء السابعة مثل الخليل، أيها الخليل، لا شرر هناك ولا دخان، إذا كنت أريباً ذكياً كخليل الله، إنه مختار من الحق، فكيف تعضه؟ حتى حطمت قلب النمرود تحطيماً؟ أما كل من كان تابعاً للنمرود، فادعه إلى أن يحذرها المرءُ بنورها الفردوسَ والقصورَ في صميم النار! ولا يبقى مثل الحلقة أسير الباب قائلاً: ﴿لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ ليس ما تراه هنا إلا سحر النمرود وخداعه فالنار ماء بالنسبة لك، وأنت فراشة تلك النار[127]

[125] ذات نایافته از هستی بخش چون تواند که شود‬ ‬ ‫هستی بخش کهنه ابری‌که شد از آب‬ ‫تهی ناید از وی صفت آب ‌‬ ‫دهی! [126] پیش بی‌حد هر چه محدود‬ ‫است لاست کل شیء غیر وجه‌الله‬ ‫فناست * * * می‌پرستید آفتاب چرخ‬ ‫را خوار کرده جان عالی نرخ را‬ آفتاب، از امر حق طباخ‬ ‫ماست ‫ابلهی باشد، که گوئیم او خداست آفتابت گر بگیرد چون‬ ‫کنی ‫آن سیاهی زو، تو چون‬ ‫بیرون کنی؟ نی به درگاه خدا آری‬ ‫صداع؟ که سیاهی را ببر، واده‬ ‫شعاع گر کُشندت نیمه شب،‬ ‫خورشید کو؟ ‫‫تا بنالی، یا امان خواهی از‬ ‫او حادثات اغلب به شب‬ ‫واقع شود و آن زمان معبود تو‬ ‫غائب بود!‬ سوی حق، گر ز آستانه‬ ‫خم شوی وا رهی از اختران مَحرم‬ ‫شوی أبيات من كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي، المجلد الرابع. [المصحح] [127] آتش ابراهیم را دندان نزد چون گزیده حق بود چونش گزد آتش ابراهیم را نی قلعه‬ ‫بود تا برآورد از دل نمرود‬ ‫دود؟‬ آتش ابراهیم را نبود‬ ‫زيان هر که نمرودیست‬ گو میترس از آن جان ابراهیم باید تا بنور بیند اندر نار فردوس و‬ ‫قصور پایه پایه بر رود بر ماه و‬ ‫خور تا نماند همچو حلقه بند‬ ‫در‬ چون خلیل از آسمان‬ ‫هفتمین بگذرد که ﴿لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ ای خلیل اینجا شرار و ‬‫دود نیست جز که سحر و خدعه‌ی‬ ‫نمرود نیست چون خلیل حق اگر‬ ‫فرزانه‌ای آتش آب توست و، تو‬ ‫پروانه‌ای أبيات متفرقة من كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي. [المصحح]

نقاط يجب ذكرها في قضية مناظرة إبراهيم÷

أولاً: قول إبراهيم ÷: ﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡ‍َٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ ٦٣ [الأنبياء: 63]، ظاهر هذا الكلام كَذِب، لأن تكسير الأصنام لم يكن من فعل الصنم الكبير، ولا يليق بمقام إبراهيم÷ الذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا ٤١ [مريم: 41].

والجواب: أن إبراهيم÷ كان قد قال: ﴿وَتَٱللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصۡنَٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّواْ مُدۡبِرِينَ ٥٧ [الأنبياء: 57]، وبعد هذا التهديد لم يكن هناك مجال للإنكار. كما قال القوم: ﴿قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِ‍َٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥٩ قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ ٦٠ قَالُواْ فَأۡتُواْ بِهِۦ عَلَىٰٓ أَعۡيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡهَدُونَ ٦١ [الأنبياء: 59-61]. أي: لعل الناس يشهدون أنه كان يذم الأصنام. فلما أحضروا إبراهيم للاعتراف بذلك، سألوه بصيغة الاستفهام التقريري: ﴿قَالُوٓاْ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بِ‍َٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ٦٢ [الأنبياء: 62]. فرد عليهم إتماماً للحجة وتنبيهاً لهم: ﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡ‍َٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ ٦٣ [الأنبياء: 63]. فألقى مسؤولية تحطيم الأصنام الصغيرة على عاتق الصنم الكبير بشرط نُطْقِهَا، ولقد أثَّر هذا الكلام في نفوس القوم كما قال تعالى: ﴿فَرَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٦٤ [الأنبياء: 66].

الأمر الثاني: أن إبراهيم ÷ قال في المواضع الثلاثة: ﴿هَٰذَا رَبِّي، إذا كان قد قال هذا عن حقيقة واعتقاد، لزم من ذلك أن يكون معتقداً بمذهب الصابئة، وإن كان لا يزال في مرحلة البحث والاجتهاد، ولم يصل بعد إلى مقام التوحيد واليقين؛ وعندئذ كيف يمكن أن يكون رسولاً هادياً لقومه، وإن كان قالها لا عن اعتقادٍ حقيقيٍّ بمضمونها فإن هذا يوهم الكذب.

والتحقيق أن يقال إنه قال ذلك من باب المماشاة مع قومه والتظاهر بالدخول في دينهم، واستدل بعد ذلك بأفول الكواكب كي يكون أقرب إلى الإنصاف معهم، كما قال تعالى:

ونجيب عن هذا الإشكال: إن كلام إبراهيم ÷ كان على سبيل الاستفهام الإنكاري، حيث أنكر كون النجوم ربًّا حقيقياً. والتحقيق في ذلك أن يقال: إنه قال ذلك من باب المماشاة مع قومه والتظاهر بالدخول في دينهم، واستدل بعد ذلك بأفول الكواكب حتى يكون أقرب للاستجابة، كما قال الله تعالى: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ [الأنعام: 83]. "والدليل إنما هو للسائر في الطريق، الذي أما الواصلون فليس لهم سوى العين والسـراج، فلو أن رجلاً من الواصلين ذكر أحد الأدلة، إن الأب يصطنع أصوات الطفولة لوليده الجديد، فمن اللازم للشيخ في وقت النصح هو -في كل لحظة- عرضة للضلال في البيداء وقد استراحوا من (هم) الدليل والطريق فإنه يفعل ذلك ليفهم أصحاب الجدال مع أن عقله قد يبدع هندسة الدنيا! أن يعتبر جميع الخلق مثل أطفاله"[128] ممَّا تقدَّم من المقدِّمات تبيَّن أن القول بتأثير الكواكب في سعد ونحس الأيام مأخوذٌ من ديانة الصابئة، ولذلك لما كان خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الحنفاء فإنه نهى بشدة عن هذه العقيدة واعتبر أن الإيمان بالتنجيم حرام وشرك بالله تعالى. يتضح من تلك المقدمات، أن الاعتقاد بتأثير الكواكب في سعد الأيام ونحسها مأخوذٌ من ديانة الصابئة، ولذلك لما كان خاتم النبيين ص خاتم الحنفاء فإنه نهى بشدة عن هذه العقيدة واعتبر أن الإيمان بالتنجيم حرام وشرك بالله تعالى. روى [الْـمُحَقِّقُ الحلي] فِي «الْـمُعْتَبَرِ» عن النبي الأكرمص قال: «مَنْ صَدَّقَ كَاهِناً أَوْ مُنَجِّماً فَقَد كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»[129].

وروى نضر بن قابوس عن الإمام الصادق ÷: «الْـمُنَجِّمُ مَلْعُونٌ وَالْكَاهِنُ مَلْعُونٌ وَالسَّاحِرُ مَلْعُونٌ...»[130].

وفي نهج البلاغة: «ومن كلام له ÷ قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، وقد قال له: إن سرت يا أمير المؤمنين، في هذا الوقت، خشيت ألا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم، فقال ÷: أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِيْ مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ وَتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ، فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَتَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ لأنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ وَأَمِنَ الضُّرَّ.

ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال: أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَتَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلاَّ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ وَالْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ وَالْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ وَالسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ وَالْكَافِرُ فِي النَّارِ، سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ»[131].

وقريب من هذا الحديث ما وقع بعينه بين الإمام علي ÷ وبين منجم آخر نهى عن المسير، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْـمُؤْمِنِينَ عليه السلام: «أَتَدْرِي مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الدَّابَّةِ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ قَالَ: إِنْ حَسَبْتُ عَلِمْتُ! قَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ÷: مَنْ صَدَّقَكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ ٣٤ [لقمان: 34]. مَا كَانَ مُحَمَّدٌ ص يَدَّعِي مَا ادَّعَيْتَ، أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ وَالسَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ؟؟ مَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا اسْتَغْنَى بِقَوْلِكَ عَنِ الاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَكَانَ أَحْوَجَ إِلَى الرَّغْبَةِ إِلَيْكَ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ...»[132].

وكما رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْـمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللَّـهِ ÷: «إِنِّي قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْعِلْمِ فَأُرِيدُ الْحَاجَةَ، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى الطَّالِعِ وَرَأَيْتُ الطَّالِعَ الشَّرَّ جَلَسْتُ وَلَمْ أَذْهَبْ فِيهَا وَإِذَا رَأَيْتُ الطَّالِعَ الْخَيْرَ ذَهَبْتُ فِي الْحَاجَةِ. فَقَالَ لِي: تَقْضِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: أَحْرِقْ كُتُبَك‏»[133].

هذه الأحاديث الصحيحة تُبيِّن أن الاعتقاد بالتنجيم شرك وكفر؛ ولما كان هذا الموضوع في غاية الدقة، وابتلى الناس بهذا الشرك، وهذه العقيدة هي سبب للشقاء واليأس والخوف من غير الله والرجاء بغير الحق سبحانه، كان لا بد من أن نفصَّل الكلام عن هذا الشرك كي يتضح الموضوع أكثر.

النجوم على أقسام: الطبيعيات، الحسابيات، والوهميات.

التأثيرات الطبيعية للنجوم: وهي عبارة عن التأثير الطبيعي للشمس والكواكب على وجه الأرض وعلى مواليد هذا العالَم، وهذا أمر لا يمكن إنكاره أبداً، فكما هو مشاهد أن للشمس تأثيراً في إنبات النبات وحياة الحيوان وفي المدن وطبيعة أهاليها؛ فإذا كان تعرضها على ناحية قليلاً كان مزاج أهلها ضعيفاً ولون بشرتهم أسود أو أصفر مثل أهل النوبة والحبشة؛ وإذا كان تعرضها على الناحية كثيراً كان لون بشرة أهالي تلك النواحي أبيضَ وشعرهم أشقرَ كأهالي تركستان. فتأثير الشمس والقمر والنجوم الطبيعي أمر محقق، وهذا لا علاقة له أبداً ببحثنا، والاعتقاد به ليس شركاً.

الحساب الفلكي (الحسابيات): والتأثيرات الحسابية للنجوم هي قيام المنجم بحسابات فلكية لتحديد وقت الكسوف والخسوف، وفي غالب الأحيان يكون تحديده صحيحاً، والاعتقاد والإيمان بهذه الحسابات لا يوجب شركاً.

التأثيرات الوهمية للنجوم (الوهميات): هو الاعتقاد بالتأثير الوهمي للنجوم، مثل قول المنجم: بحسب النجوم الفلانية أن عمر الشخص الفلاني كذا، أو أن ثروته ستزداد أو سيفقر، أو سيصبح وزيراً، أو أن الجنين الذي في بطن هذه المرأة سيكون سعيداً أو شقياً، أو يصير عالماً أو جاهلاً، أو أن اليوم كذا جيد للقاء الملك، أو الساعة الفلانية مباركةٌ بالنسبة للزواج، أو أن اليوم الفلاني مناسبٌ لتناول الدواء أو للسفر أو للخضاب أو للاستحمام أو لوضع الكرسي وتغيير المنزل، أو أمثال هذه الأوهام، أو يحدد بحكم النجوم يوم السفر أو يوم البناء؛ فكل هذا مما نُهي عنه وحُرِّم في شرع خاتم النبيين ص، واعتُبِر شركاً. وهذا النوع الأخير من التأثيرات الوهمية للنجوم، هو المراد لما ذُكر في الأخبار الصحيحة.

والعقل أيضاً يؤيد هذا المعنى بشكل كامل، لأنه من الممتنع أن يستطيع البشر أن يطلع على أحوال جميع النجوم وتأثيراتها، لأن النجوم لا حد لها والعلم بغير المحدود ممتنع. ورغم وجود المراصد الفلكية القوية اليوم، يقول علماء الفلك إن فوق مجرتنا المشاهدة هذه، هناك مجرات عديدة لا يمكن رؤيتها بشكل جيد بأدواتنا البصريّة الحاليّة. فعجباً، كيف يمكن للبشر رغم عدم اطلاعهم على أحوال جميع النجوم، أن يحكموا بشأن مستقبل العالم والأفراد الموجودين فيه من خلال رؤيتهم ورصدهم لبضعة نجوم؟ مَا هَذَا إلاَّ ضَلالٌ مُبِينٌ.

ومن جهة ثانية، يشتمل علم التنجيم على أصول يضحك منها العقل. فالبداهة العقلية تحكم أنه لا يوجد في السماء حمل وثور وحيّة وعقرب ودب وكلب وتنين. والقدماء لما قسّموا الفلك إلى اثني عشر قسماً، وأرادوا وضع علامة معيَّنة لكل قسم، شبهوها بحيوانات مع أن التشبيه بعيدٌ جداً، ولكن علماء النجوم فرَّعوا عن هذه الأسماء والعلامات الوهمية تفريعات، وقالوا: إن الصور السفلية مطيعة للصور العلوية، فالعقارب تابعة لصورة العقرب الفلكي والأفاعي مطيعة لصورة التنين الفلكي والأسد تابع للأسد الفلكي الموهوم. فالذي يعرف كيف وُضعت هذه الأسماء يضحك من هذه الأحكام ويتبيّن له كذب كذب المنجِّمين.

إضافة إلى ذلك، ليس لهذا العلم منهج خاص بل هو مبني على التقليد المحض، وهذا التقليد أيضاً غير متّسق: فلكل طائفة مقالة تختلف عن مقالة الطوائف الأخرى، فللبابليين مذهب خاص بهم وللفرس مذهب آخر، وللهنود أحكام للنجوم من نوع ثالث، وتوجد مذاهب عديدة أخرى غيرها أيضاً.

ولو رجعنا إلى التاريخ، لرأينا أن المنجِّمين قد تنبؤوا في حوادث، ثم انكشف كذبهم سريعاً:

- في سنة 37 هجرية، تحرك أمير المؤمنين ÷ لمحاربة أهل الشام، فتنبأ جميع المنجمين أن علياً سيُقتل في هذه الحرب، وسيتعرض لهزيمة كبيرة. فاتضح كذبهم حيث انتصر جيش علي÷ على أهل الشام، ولم ينجُ أهل الشام إلا بحيلة عمرو بن العاص، عندما حملوا القرآن على أسنَّة الحراب.

- وكذلك عندما أراد عليٌّ ÷ الخروج لحرب الخوارج قال له المنجمون: إذا انطلقت يا أميرالمؤمنين في هذا الوقت ستُهزَم لأن القمر الآن في برج العقرب. فقال الإمام: سأنطلق متوكلاً على الله، وانطلق فكان نصيبه الفتح والنصر الكامل.

- وفي سنة 67 هجرية، قال المنجمون لعبيد الله بن زياد إذا حاربت المختار انتصرت عليه، فانطلق عبيد الله بن زياد بثمانين ألف رجل، وتقدم إبراهيم بن مالك أيضاً بألف محارب من طرف المختار، والتقى الجيشان في أرض «نُصَيْبين»، وقُتل من أصحاب عُبَيد الله ثلاثة وسبعون ألف شخص، ولم يتجاوز من قُتِل من جند إبراهيم بن مالك مائة شخص، وَقَـتَلَ «ابنُ مالك» «عبيدَ الله» في تلك المعركة.

- وفي سنة 146 هجرية، عندما انتهى بناء بغداد اتفق المنجمون على أن طالع هذا البناء يحكم أنه لن يموت في هذه المدينة أي خليفة، وشاعت هذه العقيدة إلى درجة أن الشعراء هنؤوا بها «المنصور» -باني بغداد- وباركوا له. ولما مات «المنصور» في طريق مكة و«المهدي» في «ماسبدان»[134] والهادي في «عيساباذ» والرشيد في «طوس»، تأكدت تلك العقيدة وزاد نفوذها شيئاً فشيئاً، ولكن عندما قُتل «الأمين» في بغداد على يد «طاهر بن الحسين» تبين بطلان ذلك الأصل وظهر كَذِب النجوم، ومات بعد ذلك جماعة من الخلفاء في بغداد مثل الواثق والمتوكل والمعتضد والمكتفي والناصر.

وهناك الكثير من مثل هذه الدلائل والشواهد على كذب المنجمين.

فإن قيل: إن أهل التنجيم استدلوا على صحة عملهم بالآية الكريمة: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِي يَوۡمِ نَحۡسٖ مُّسۡتَمِرّٖ ١٩ [القمر: 19]، والآية الشريفة: ﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ [فصلت: 16]. فقالوا: في هاتين الآيتين إشارة إلى يوم نحس، فيُعلم أن في الأيام سعد ونحس.

قلنا في الجواب:

أولاً: ﴿يَوۡمِ نَحۡسٖ يعني: يوم شديد البرد، كما صرح بذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته، حيث قال: ﴿أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ يعني: شديداتِ البَرْد[135].

ثانياً: الزمان معلول للحركة، وهو موجود، أُخِذَ في ذاته التصرُّم والانقضاء، وبعبارة أوضح: الزمان موجود سيّال غير باق، وقد افتُرِض وجود قطع من الزمن في هذا الموجود غير الباقي مثل الدقيقة والساعة والنهار والليل والأسبوع والشهر والسنة والقرن والدهر، وكل قطعة من الزمن لن توجد بعد ذهابها ولن تعود بعد انقضائها:

ما فاتَ مضى وما سيأتيك فَأَيْن قُمْ فاغْتنم الفرصةَ بين العَدَمَين[136]

وما لم تنعدم القطعة الأولى من الزمان لن توجد القطعة الثانية، مثلا ما لم ينعدم يوم السبت لن يوجد يوم الأحد، ففي ذات الزمان الذي هو حقيقة سيالة لا يتصوّر فيه النحس والسعد بأن نقول هذه القطعة نحس وهذه القطعة سعد أو مباركة أو غير مباركة. ولكن أجزاء الزمان تصبح سعداً ونحساً بسبب الحوادث التي تقع فيها، فمثلاً أن شهر رمضان أصبح مباركاً وسعداً بسبب نزول القرآن فيه.

والحاصل، أن الموجودات والحوادث تكون أحياناً سعداً وأحياناً نحساً، والموجودات الزمانية تقع في أفق الزمان، ولهذا السبب ينسبون سعدها ونحسها إلى الزمان، مع أن الزمان ذاته ليس علة للسعد أو النحس [أو للخير أو الشر]، ولا يمكن أن يُقال: إن اليوم الفلاني نحس أو اليوم الفلاني سعد، أو أن الأيام لها تأثير في الحوادث. [فمن قال به،] فمَا هَذَا [القول] إلاَّ ضَلالٌ مُبِينٌ.

ومعنى الآية الكريمة: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِي يَوۡمِ نَحۡسٖ مُّسۡتَمِرّٖ ١٩ [القمر: 19] أي إنا أرسلنا عليهم العذاب في يوم نحس؛ وهذا النحس أمر ملازم دائم لمكذِّبي الرسل، فكلمة مستمر صفة للنحس لا لليوم. ومن يظن أن النحس صفة لليوم، وأن ذلك اليوم يوم الأربعاء من آخر شهر صفر، وأنه نحس دائماً، فقد أخطأ في فهم القرآن.

فسعد الأيام ونحسها سببه سعادة الأعمال ونحسها، فأعمال السعيدة هي موافقة الرسل، والأعمال المنحوسة هي مخالفة الرسل، فاليوم الذي يصدر فيه عن الإنسان عمل صالح فذلك يومُ سعدٍ، وإذا صدرت فيه عنه أعمال رذيلة فهو يوم نحسٍ، كما أن يوم بدر كان سعداً للمؤمنين ونحساً للمشركين. فأي يوم يصدر فيه عن الإنسان عمل صالح فهو سعد ولو كان يوم الثالث عشر أو يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر. وكما أن أي يوم صدر فيه عن الإنسان عمل سيِّئ فذاك يوم نحس، حتى لو كان يوم عيد النيروز. أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ شُرُوْرِ‬ ‫أَنْفُسِنَا.

[128] این دلیل راه، رهرو را بود کو بهر دم در بیابان گم شود واصلان‌را نیست جز‬ ‫چشم و چراغ ج از دلیل و راهشان باشد‬ ‫فراغ گر دلیلی گفت آن مرد‬ ‫وصال گفت بهر فهم اصحاب‬ ‫جدال بهر طفلی نو، پدر تی تی ‬ ‫کند گرچه فهمش هندسه‬ ‫گیتی کند پس همه خلقان چو‬ ‫طفلان ویند لازمست این پیر را در‬ ‫وقت پند أبيات من كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي. [المصحح] [129] المعتبر في شرح المختصر للمحق الحلي 2/688، وسائل الشيعة للحر العاملي، بَابُ عَدَمِ جَوَازِ تَعَلُّمِ النُّجُومِ وَالْعَمَلِ بِه، 17/144، ح (22205) رواه عن صاحب المعتبر. وفي مصادر أهل السنة: مسند أحمد 2/429، البيهقي في السنن الكبرى، 8/135. [المصحح] [130] وسائل الشيعة، 17/ 143، ح (22201)، ومنهاج الفقهاهة لمحمد صادق الروحاني 1/315. [المصحح] [131] نهج البلاغة، الخطبة رقم 79، ص202 (ط: مؤسسة المعارف). [المصحح] [132] «الأمالي»، للشيخ الصدوق، الرواية رقم 16، ص 415. ونقله الحرّ في «الوسائل»، 11/371-372، ح (15044). [المصحح] [133] «من لا يحضره الفقيه»، الشيخ الصدوق، 2/ 267، ح (2402)؛ وسائل الشيعة، 11/370. [المصحح] [134] قرية قريبة هيت من توابع الكوفة. [135] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، ص794، (ط. دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت 1412هـ). [المصحح] [136] انظر: نهج السعادة للشيخ سعدي 3/17. وقد نسب المظاهري هذا البيت إلى علي بن أبي طالب س. (انظر: الفضائل والرذائل 71). [المترجم]

من أنواع الشرك الأصغر: التطير والتشاؤم

يقول ابن الأثير في «النهاية»: «الطِّيَرَة بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء. وهو مصدر تطير. يقال: تطير طيرة، وتخير خيرة»[137].

أصل «التطيُّر»، أن العرب في الجاهلية، إذا أراد أحدهم سفراً أو تجارةً أو أي أمر آخر، زَجَر طيراً أو حيواناً وحشيًّا من منزله، فإذا ذهب إلى جهة اليمين سمّاه سانحاً، وإذا ذهب إلى جهة الشمال سمّاه بارحاً، وإذا جاء من قُدَّامه فهو النَّطِيحُ، وإذا جاء من وَرَائِهِ فهو القَعِيدُ، فكان بعضهم يتشاءم بالبارح ويتبرك بالسانح، وكان بعضهم يتفاءل ويتشاءم بعكس ذلك. واليوم يوجد بيننا أناس يتفاءلون بقهقهة البوم، ويتشاءمون من بكائه. والتطيُّر وضع في أول استعماله للتشاؤم من حركة الطير، ثم استعمل فيما بعد في كل الحوادث التي يُتشاءَمُ منها.

وكما أن الرسول الأكرم ص عالج الأمراض الاجتماعية والأخلاقية للبشر، فقد عالج أيضاً هذا المرض الخطير، أي مرض «التطيُّر»، الذي ابتُلِيَ به كثير من الناس، ويزداد رسوخاً وانتشاراً بينهم يوماً بعد يوم، كما قال ص عندما سُئل عن «التطيُّر»: «ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ»[138]. وفي حديث آخر أنه ص قال: «إَذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَلاَ يَرُدَنَّكُمْ تَطَيِّرُكُمْ عَنْ عَمَلِكُمْ»[139].

وينبغي أن نعلم أن «التطيُّر» لا يضرُّ إلا من خاف منه، أما من لم يُعِرْهُ أي اهتمام ولم يأبه له فإنه لا يضرُّهُ، لاسيما إذا دعا بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلا طَيْرُكَ، وَلا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُك، وَلاَ إِلِهَ غَيْرُك[140]. اللَّهُمَّ لا يَأْتِى بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلا أَنْتَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ»[141].

الطيرة والتشاؤم من صور الشرك، ومن الأمور التي يلقيها الشيطان ويوسوس بها للإنسان، ومهما اهتم بها الإنسان أكثر كان تأثُّرُه بها أكثر، وكَبُر وهمُها في نظره، أما إذا لم يهتم بها، فإنها تفقد تأثيرها عليه وتضمحلّ، فمادام القلب لم ينشغل بالتطيُّر والتفكير به، فلن يكون مؤثراً به على الإطلاق[142].

مَنْ كان متشائماً في حياته، هجمت عليه المصائب كالسَيل وفُتحت عليه أبواب الوساوس، فهو يتشاءم بكل ما يرى أو يسمع، مثلاً إذا خرج من بيته صباحاً فصادف أعمى أو مفلوجاً أو صاحب آفةٍ تشاءم من ذلك، أو إذا سمع كلمةً سيئةً وغير مناسبة تشاءم منها وظن نفسه شقيّاً. فحاله كحال المُوَسْوِس الذي لا يصغي إلى عِلم ولا نُصْح، ولا يتوكل أبداً على الحق سبحانه، بل هو فاقد للثقة بخالق العالم وعديم التوكل عليه، ومتمسكٌ دائماً بالأسباب الوهمية والضعيفة. فكلُّ من كان هذا حاله، أحاطت به المصائب والبلايا من كل جانب، [لأنه لا يعالج المصائب والنقم بالطرق الصحيحة بل يزيد الطين بِلَّة، فيواجهها بالتشاؤم والتطير]، فهو كصاحب الدمّل الذي لا يعالجه بالمرهم بل يرش عليه الملح. فالشخص المتشائم والمتطيِّر دائم الحزن والغم والحيرة، فهو يعيش في ضيق وضنك، يبتعد عن كل أمر، ولديه وسواس في كل عمل. ويعتبر كل موهوم مؤثراً، وكم من حظوظ ومنافع يَحْرِم منها نفسَه بسبب التشاؤم.

إن «التطيُّر» و«التشاؤم» عمل أعداء الأنبياء والرسل، يقول الله تعالى في القرآن الكريم عن منكري رسله: ﴿إِنَّا تَطَيَّرۡنَا بِكُمۡۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهُواْ لَنَرۡجُمَنَّكُمۡ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٨ قَالُواْ طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ ١٩ [يس: 18-19].

كذلك وصف لنا حال فرعون وقومه، فقال: ﴿فَإِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِۦۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓۗ أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٣١ [الأعراف: 130].

كما يقول عن أعداء رسول الله ص: ﴿وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ [النساء: 81].

ففي هذه المواضع الثلاثة من القرآن، ينسب الله تعالى «التطيُّر» إلى أعداء الرسل؛ يقول في جوابه عن تطيرهم بموسى ÷ وقومه: ﴿أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ، وفي جوابه عن تطيرهم بالرسول الأكرم ص: ﴿قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ [النساء: 78]، ويقول في جواب تطيرهم بالرسل: ﴿طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ [يس: 19]. وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ [الأعراف: 131] طَائِرُهُمْ: مَا قَضَى اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَقَدَّرَ لَهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: شُؤْمُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَمِنْ قِبَلِ اللهِ. أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله وتكذيبهم بآياته ورسله، فنتيجة عملهم هذا التي هي شؤم وشقاء إنما هي من عند الله، وهذا الشؤم الذي حلَّ بهم في الدنيا بسبب أعمالِهم السيِّئَة.

ونظير هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ[143] [الإسراء: 15]

تقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الخير والشر، قال أبو عبيدة: الطائر عندهم الحظ، وهو الذي يُقال له بالفارسية: «بَخْتْ»، والعرب تقول: هذا يطير لفلان.

وقال بعضهم: ﴿أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ يعني: أن سبب شؤمهم عند الله، وهو أفعالهم المكتوبة في صحيفة أعمالهم التي سيجزيهم الله عليها.

وهذا المعنى لا يتناقض مع قول الرُسُل: ﴿طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ [يس: 19]، لأن معناه أن حظكم وما يصيبكم من خير أو شر هو من عند أنفسكم، أي بسبب أعمالكم وكفركم ومخالفتكم لنصح الناصحين، وما يصيبكم من مصائب ليس من جهتنا نحن معاشر الأنبياء والرسل ولا نحن سببها، بل سببها عنادكم وعداوتكم لأنبياء الله ورسله. وطائر الظالم معه، وهذا أيضًا مكتوب عند الله، كما يقول سبحانه: ﴿وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا ٧٨ [النساء: 78]. أي: أنهم لو تفقَّهوا وفهموا ما أتيتَ به من عند الله لم يتطيَّروا بك. لأن ما جاء به الرسول ص خيرٌ محضٌ، ولا يُتَصَوَّر بحقه الشر على الإطلاق، بل هو ما فيه صلاح الأمة ولا يتطرق إليه الفساد، فهو حقيقة الحكمة والعقل، وليس فيه عبث ولا لغو، بل كله رحمةٌ خالصةٌ لا جور فيه. فلو كان هؤلاء القوم أهل دراية وفهم لما تطيروا بالخير المحض، والرحمة المهداة (ص)؛ لأن الشاؤم من ذات البشر فقط بسبب كفرهم وظلمهم وشركهم وأعمالهم الشركية وأفعالهم القبيحة التي ترسخت فيهم، وكلها مُسجَّلة عليهم، محفوظة عند ربهم ومليكهم، مثل كل الحظوظ الأخرى التي أعدوها بأعمالهم.

وقد رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أن رسول الله ص قال: «لاَ غُولَ وَلا طِيَرَةَ وَلاَ شُؤْمَ»[144].

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ»[145].

وفي رواية أخرى: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ فَقَدْ قَارَنَ الشِرْكَ»[146].

وفي رواية أخرى: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ وَلا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ»[147].

إذن تبيَّن على ضوء ما تقدم من نصوص الآيات والأحاديث أن «التطيُّر» أو «التشاؤم» عمل المشركين، وليس علَّة لشيءٍ ولا يؤثِّر بأي أمر على الإطلاق.

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.

[137] النهاية في غريب الحديث والأثر 3/152. [المصحح] [138] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، 1/381، ح (537)، وأحمد في مسنده، 39/181، بهذا اللفظ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ؛ وهناك حديث بمعناه، رواه المجلسي في بحار الأنوار ج55/ص 320، مرسلاً ولفظه: «ثَلاثٌ لا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ الطِّيَرَةُ وَالْحَسَدُ وَالظَّنُّ. قِيلَ: فَمَا نَصْنَعُ؟ قَالَ إِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ وَإِذَا حَسَدْتَ فَلا تَبْغِ وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلا تُحَقِّقْ». [المُصحح] [139] لم أجده بهذا اللفظ. ويوجد ما هو قريب من معناه في حديث رواه الحر العاملي في أَبْوَابُ آدَابِ السَّفَرِ من كتاب «الوسائل»، (8) بَابُ اسْتِحْبَابِ تَرْكِ التَّطَيُّرِ وَالْخُرُوجِ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ وَنَحْوِهِ خِلافاً عَلَى أَهْلِ الطِّيَرَةِ وَتَوَكُّلا عَلَى اللَّهِ، ح (15023): عن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةَ فِي «تُحَفِ الْعُقُولِ» عَنِ النَّبِيِّ ص قَالَ: «إِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلا تَقْضِ». أما في مصادر أهل السنة، فروي ضمن حديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير ضمن حديث طويل عن جابرس مرفوعاً: «إذا ظننتم فلا تحققوا وإذا حسدتم فلا تبغوا وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا وإذا وزنتم فأرجحوا». وعزاه إلى ابن ماجه في سننه مع أنه لا يوجد فيه سوى الجملة الأخيرة، وقال الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته (588): (ضعيف). [المُصحح]. [140] رواه الشيخ الصدوق علي بن بابويه القمي في «الأمالي»، ص 416، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه دعا بهذا الدعاء في آخر ردّه على المنجّم الذي خوّفه من المسير إلى النهروان ولفظه: «ثم قَالَ ِ عليه السلام: اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إِلا طَيْرُكَ وَلا ضَيْرَ إِلا ضَيْرُكَ وَلا خَيْرَ إِلا خَيْرُكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُك‏». أما في مصادر أهل السنة، فقد رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في المصنف (29872) عن ابن عباس أنه كان يدعو بهذا الدعاء إذا نعق الغراب. ورواه أحمد في مسنده (2/220) عن عبد الله بن عمرو عن النبي ص أنه قَالَ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُكَ وَلا طَيْرَ إِلا طَيْرُكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ». [المصحح] [141] «بحار الأنوار» 91/302، ضمن دعاء طويل، و92/2- 3، نقلا عن «مكارم الأخلاق» للطبرسي. وذكره ابن أبي الحديد مرسلاً في شرح نهج البلاغة، 19/374. ورواه عبد الرزاق بن همام الصنعاني في «المصنف»، ح(19512)، والبيهقي في «السنن الكبرى»، ح(16962)، بسندهما عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ مرفوعاً. [المصحح] [142] روى الكُلَيْنِيّ في «الكافي» (8/187-198) بسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّـهِ ÷: «الطِّيَرَةُ عَلَى مَا تَجْعَلُهَا إِنْ هَوَّنْتَهَا تَهَوَّنَتْ وَإِنْ شَدَّدْتَهَا تَشَدَّدَتْ، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهَا شَيْئاً لَمْ تَكُنْ شَيْئاً». [المصحح] [143] قال بعضهم في ﴿أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ [الأعراف: 131]: إن الطائر بمعنى العمل، وخُصّ العنق بإطلاق العمل عليه، لأن العنق هو الموضع الذي يوضع عليه الطوق، فلا يستطيع الإنسان عندئذٍ أن يرفعه، كما يقولون: إثم فلان برقبة فلان، أو يقولون: افعل هذا واجعل إثمه في رقبتي. (شريعت) [144] «الكافي» للكُلَيْنِيّ، باب حديث قوم صالح، ح (234)، 8/196، ولفظه – ضمن حديث أطول: «ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ص: لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا شُؤْمَ وَلا صَفَر... الحديث». أما في مصادر أهل السنة فأخرجه مسلم في صحيحه [39- كتاب السلام/ 33- باب لا عدوى ولا طيرة، ح (2222)]، وأحمد في مسنده (3/293) بسندهما عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا غُولَ». [المصحح] [145] روى الكُلَيْنِيّ في «الكافي» في باب حديث قوم صالح، ح (236)، ج8/ص198 بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: «كَفَّارَةُ الطِّيَرَةِ التَّوَكُّل‏». أما في مصادر أهل السنة، فرواه أبو داود في سننه (3912)، وابن ماجه في سننه (3538) بلفظ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلا وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ». ورواه أحمد في مسنده (1/440) وفيه تكرار لجملة «الطيرة شرك» مرتين. [المُصحح] [146] لم أجده بهذا اللفظ في أي مصدر معتبر. ولعله خطأ مطبعي، والصحيح هكذا: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ قَارَفَ الشِّرْكَ». أخرجه البزار في مسنده 6/300، عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ س، وأبوبكر بن الخلال في السنة 4/116، ح(1300)، وابن وهب في الجامع، ص743، ح(656) عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّس. صححه الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» ح(1065). [المُصحح] [147] رواه أحمد في مسنده (2/220) ح (7045) عن عبد الله بن عمرو رفعه. وعلق عليه شعيب الأرنؤوط قائلا: حسنٌ. وميزان الحكمة للريشهري2/1760.

ومما كان أهل الجاهلية يتشاءمون منه، العطاس

كان أهل الجاهلية يتطيَّرون من العطاس، فإذا سمعوا عطسةً ردَّهم ذلك عما عزموا على فعله، وكانوا إذا أرادوا الخروج إلى الصيد بكَّروا في الخروج قبل أن يستيقظ الناس خوفاً من أن يعطس أحدهم فيمنعهم ذلك من الذهاب!. وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له : «عُمْراً وشبَاباً»، وإذا عطس من يكرهونه، قالوا له: «وَرْياً وقُحَاباً». (والوري كالرمي، داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب كالسعال وزنًا ومعنى). فكأنَّ الرجلَ إذا سمع عطاسًا فتشاءم به، يقول: بك لا بي، أي أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي. وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد.

ولما أشرقت شمس النبوة في سماء الجزيرة العربية، أبطل الله تعالى برسوله ص هذه الأوهام الجاهلية، فنهى ص أمته عن التشاؤم، والتطيُّر بالعطسة، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه، الدعاء له بالرحمة، كما أمر العائن أن يدعو بالتبريك للمعين، ولما كان الدعاء على العاطس نوعًا من الظلم والبغي، جعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم، وأمر العاطس عمداً أن يدعو لسامعه، ويُشَمِّتَه بالمغفرة، والهداية وإصلاح البال[148]. والمراد من تشميت العاطس أن يقال له: «يرحمك الله». (قرأ بعضهم: «التسميت» بالسين المهملة، يعني: التكريم والاحترام)[149].

وخلاصة الأمر، فإن التشاؤم من العطس الذي شائع اليوم بين الناس، من أمور الجاهلية، وقد أبطله الإسلام.

قال النبيُّ الأكرم ص: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ. فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتُرَه مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّهُ إِنْ فَتَحَ فَاهُ فَقَالَ: آه آه، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ»[150]. وعلَّةُ ذلك، أن العطسة تبعث على النشاط، وأما التثاؤب فعلامةٌ على الكسل والفتور.

[148] روى الكُلَيْنِيّ في «الكافي» (2/654) بسنده عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) فَأَحْصَيْتُ فِي الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلا فَعَطَسَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) فَمَا تَكَلَّمَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ. فَقَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (ع): «أَلا تُسَمِّتُونَ أَلا تُسَمِّتُونَ؟! مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَشْهَدَ جَنَازَتَهُ وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُسَمِّتَهُ أَوْ قَالَ يُشَمِّتَهُ وَإِذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَه‏». وروى الحرّ العاملي في «وسائل الشيعة» (58- بَابُ كَيْفِيَّةِ التَّسْمِيتِ وَالرَّد، 12/ 88) بسنده عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ ÷ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. قَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَيَرْحَمُكُمْ، وَإِذَا عَطَسَ عِنْدَهُ إِنْسَانٌ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل‏». وبسنده عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: «إِذَا عَطَسَ الرَّجُلُ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ لا شَرِيكَ لَهُ، وَإِذَا سَمَّيْتَ الرَّجُلَ فَلْيَقُلْ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَإِذَا رَدَّ فَلْيَقُلْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ وَلَنَا». وفي مصادر أهل السنة ورد في الصحيحين: البخاري (1182) ومسلم (2066) بسندهما عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ س قال: «أَمَرَنَا النَّبِىُّ ص بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.... الحديث». [المصحح] [149] انظر: كتاب مفتاح دار السعادة للإمام ابن قيم الجوزية، (2/262). [المُصحح] [150] روى النوري الطبرسي في «مستدرك الوسائل» [50- بَابُ اسْتِحْبَابِ الْعُطَاسِ وَكَرَاهِيَةِ الْعَطْسَةِ الْقَبِيحَةِ وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلاث‏، ح (9746)، 8/ 384] الجملتين الأوليين منه فقط نقلاً عن كتاب «الجعفريات» ولفظه: «حَدَّثَنِي مُوسَى حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ (ع) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُب». وهو بتمامه في مصادر أهل السنة بألفاظ قريبة جداً مما ذكره المؤلف. انظر: صحيح البخاري (5869) وسنن أبي داود (5030) وسنن الترمذي (2746)، وصحيح ابن خزيمة 2/62، كلهم بأسانيدهم عن أبي‌هريرةس. [المصحح]

التفاؤلُ ممدوحٌ ومُسْتَحسَن:

ينبغي للإنسان أن يكون متفائلاً في حياته، ويتوكل على الله في مستقبل حياته.

يقول الرسول الأكرم ص: «لا طِيَرَةَ، وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ‏»[151]. فَلَا ريب أَن النَّبِيص كَانَ يُعجبهُ الفأل الْحسن، وَقد قرن مدح ذَلِك بِإِبْطَال الطَّيرَة، كما حديث صحيح آخر: «لا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ». قَالَوا: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ»[152].

فابتدأهم النَّبِيُّ ص بإبطال التشاؤم والطَّيرَة لِئَلَّا يتوهموا الطيرة عَلَيْهِ فِي إعجابه بالفأل الصَّالح، ثم امتدح الفَأْلَ الحسن.

ولا يتصور الشرك أبداً فِي الإِعجَابِ بالفأل الحسن والتفأل به، بل ذَلِك إبانة عَن مُقْتَضى الطبيعة البشرية وَمُوجب الْفِطْرَة الإنسانية التي تميل إلى مايلائمها ويوافقها مِمَّا ينفعها، كما فِي بعض الْآثَار أَنه ص كَانَ يُعجبهُ الفاغية -وهي نور الْحِنَّاء- وكان يحب الحْواء والعسل وكان يحب الشرابَ البارِد الحلو، ويحب حسن الصَّوْت بالقرآنِ ويستمعُ إليه، ويُحب معالي الْأخلاق ومكارم الشيم. وبالجملة، يحب كل كَمَال وَخير وما يُفْضِي إِليْهما.

والله سبحانه قد جعل في غرائز النَّاس الْإِعْجَاب بِسَمَاع الاسم الْحسن وميل نُفُوسهم إِليه، وَكَذَلِكَ جعل فيها الارتياح والاستبشار وَالسُّرُور باسم السَّلَام والفلاح والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر والغنم والربح والفرح والغنى وأمثالها، فإِذا قرَعتْ هذه الأسماءُ الأسماعَ استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أحزنها ذلك وأثار لها خوفًا وطيرة وانكماشًا وانقباضًا ويمتنع عن العمل. وبالتالي فإن التشاؤم والتطيُّر مليء بالضرر الدنيوي وسبب نقصان الإيمان بالله، وموجب للشرك بالله سبحانه.

وهذا الذي في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة، وهو نظير ما في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة والرياض المنورة والمياه الصافية والألوان الحسنة والروائح الطيبة والمطاعم المستلذة، وذلك أمر لا يمكن دفعه، ولا يحد القلب عنه انصرافًا فهو ينفع المؤمنَ ويسر نفسه، وينشطها، ولا يضر التوحيد.

الفأل والطيرة وإن كان مأخذهما سواء، فإنهما يختلفان بالمقاصد والفرق بينهما: فما كان محبوبًا مستحسنًا تفاءلوا به، وأحبوه واستحسنوه، وما كان مكروهًا قبيحًا مُنفِّرا تشاءموا به، وكرهوه.

وقد كانت العرب تقلِّب الأسماءَ ويستبدلون الاسم السيئ بالاسم الحسن ويتفاؤلون به. فمثلاً يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً بالسلامة، ويسمون العطشان ناهلاً أي سينهل، والنهل الشرب تفاؤلا باسم الري، ويسمون الفلاة مفازة أي منجاة تفاؤلا بالفوز والنجاة[153].

فاتّضح من هذا أن التفاؤل والتيمُّن من العناصر المهمة في تكوين الشخصية الإنسانية، وعلى الإنسان أن يكون متفائلا حسن الظن في حياته وينظر إلى الدنيا بعين مباركة. إنني مبتهجٌ بالعالم، لأن العالم المبتهج من خلقته أنا عاشق لکل العالم، لأن العالَم كلُّهُ منه[154] إن الدنيا مثل المرآة إذا نظرت إليها بعبوس انعكست لك بالعبوس وإذا نظرت إليها بسرور وابتهاج انعكست لك بالنضارة والابتهاج.

إن المرآة في مواجهة التركي جميلة اللون، وهي أيضاً زنجية في مواجهة الزنجي[155].

علينا أن نتفاءل بكل ما نستقبله من حوادث الحياة، وأن نعوّد أنفسنا على النظر إلى جميع الأمور بعين الأمل والرحمة لا بعين اليأس والإحباط. وأن الشخص المتفائل هو الذي يرضى بما مضى من حياته، ويفرح بكل ما قُدّر له، سواء كان خيراً أو شراً، وهو واثق الصلة بالله، ويأمل بمستقبله، ويؤدي واجبه ويسعى وراء عمله، ويأخذ بالأسباب ثم يطلب حسن العاقبة من الله تعالى.

إن التشاؤم ناشيء عن ضعف الإرادة والنشاط وضعف القوة العصبية والعقلية، فالإنسان المتشائم يتحرك في أرض منخفضة، ويعيش بين جبال الأوهام ووديان الخرافات، ويجول في ظلمات الوساوس، إلى أن تغطي سماء عقله سُحب مظلمة، ويتراكم عليه دخان التطير والتشاؤم وسوء الظن الذي يُضعف روحه ويبث في نفسه الكسل والخمول، ويُوهن إرادته ويقلب أفكاره رأساً على عقب.

وبعكس ذلك، فإن التفاؤل يوقظ العقل ويُنشّط الإنسان ويُشجّعه على العمل، وينقذ النفس من الشقاوة ويحرر الروح من أغلال الوساوس والظنون السيئة.

وفي الختام، أصلي وأسلم على روح خاتم النبيين الطاهرة، الذي أنقذ الأمة المرحومة من صنوف الشقاء، وألبسهم لباس السعادة والهناء، واستأصل الخرافات وأخرج الأوهام من أدمغة الناس.

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

[151] رواه الشيخ رضي الدين الفضل بن الحسن الطبرسي في كتابه «مكارم الأخلاق»، (ط4، قم، انتشارات شريف رضي، 1312هـ)، ص 350، وعنه المجلسيُّ في «بحار الأنوار» (92/ 2- 3). وأصله في مصادر أهل السنة، فقد أخرجه مسلمٌ في صحيحه برقم (5936) وأحمد في مسنده، برقم (507) عن أبي هريرة مرفوعاً. [المصحح] [152] صحيح البخاري، ح (5422) وصحيح مسلم، ح(2223). [المصحح] [153] انظر: مفتاح السعادة لابن قيم الجوزية 2/244- 246. [المصحح] [154] ترجمة للبيت التالي، من الشاعرسعدي الشيرازي الذي ذكره المؤلف في الأصل: [المصحح] به جهان خُرَّم از آنم كه جهان خُرَّم از اوست عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست [155] ترجمة للبيت التالي، من المثنوي لجلال الدين الرومي، الذي ذكره المؤلف في الأصل: [المصحح] پیش ترک آئینه را خوش رنگی است پیش زنگی آینه هم زنگی است

(5) في أن سبب كفر بني آدم، الغلوّ في الأنبياء والصالحين

قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ [النساء: 171].

الغلوّ: معناه مجاوزة الحدّ، مثلاً: غلا السعر يغلو غُلُوَّاً أي ارتفع سعر البضاعة وتجاوز الحدّ.

لقد نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية المباركة أهل الكتاب عن الغلو؛ ولقد كان غلوّ النصارى أشد من غلوّ جميع الملل، إذ رفعوا عيسى ÷ عن مرتبة العبودية والنبوَّة إلى مرتبة الألوهية والربوبية وعبدوه، بل وقع منهم الغلوّ بحق بعض أتباع عيسى÷ من العلماء والأحبار أيضاً، فقالوا بعصمتهم وأطاعوهم في كل ما قالوه حقاً كان أم باطلاً، وصدقاً كان أم كذباً، قال تعالى:: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ [التوبة: 31]. كما غلا الصدوقيون من اليهود في عُزير واعتقدوا ألوهيته.

يقول النبي الأكرم ص: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى المَسِيْحَ بْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»[156].

لقد غلا بعض الناس في النبيص في زمانه، وقالوا له: يا رسول الله! ائذن لنا أن نسجد لك، فمنع الرسول الأكرم ص من هذا الأمر أشد المنع، وقال حينها الحديث السابق[157]، لأن السجود لا يجوز إلا للذات الربوبية، قال تعالى: ﴿وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ [فصلت: 37]، فالسجود لغير الله شرك، سواء أكان لشخص أو لقبر، ولكن العجب أن الجهال إذا وصلوا إلى قبور الأولياء يسجدون، كما أن بعض جهلة الصوفية يسجدون لشيوخهم أيضاً [158].

يقول ابن عباس: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ص: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»[159].

عن ابن مسعود أن رسول الله ص قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. قَالَهَا ثَلاثًا»[160].

وقد رُوِيَ في كتاب «عيون أخبار الرضا ÷»: «قَالَ الْمَأْمُونُ للرضَّا: بَلَغَنِي أَنَّ قَوْماً يَغْلُونَ فِيكُمْ وَيَتَجَاوَزُونَ فِيكُمُ الْحَدَّ؟! فَقَالَ الرِّضَا ÷: حَدَّثَنِي أَبِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ÷ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ حَقِّي فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ‏ وَتَعَالَى اتَّخَذَنِي عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيّاً. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّ‍ۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩ وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠ [آل عمران: 79-80] وَقَالَ عَلِيٌّ ÷: «يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ وَلا ذَنْبَ لِي، مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ، وَإِنَّا لَنَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَغْلُو فِينَا فَيَرْفَعُنَا فَوْقَ حَدِّنَا كَبَرَاءَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ÷ مِنَ النَّصَارَى». قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ ١١٦ مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧ [المائدة: 115-116] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ [النساء: 172]، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَ [المائدة: 75]. –أَيْ: أَنَّهُمَا كَانَا يَتَغَوَّطَانِ-. فَمَنِ ادَّعَى لِلأنْبِيَاءِ رُبُوبِيَّةً أَوِ ادَّعَى لِلأئِمَّةِ رُبُوبِيَّةً أَوْ نُبُوَّةً أَوْ لِغَيْرِ الأئِمَّةِ إِمَامَةً فَنَحْنُ مِنْهُ بِرَاءٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ!...»[161].

وَصَلَّى اللَّـهُ عَلَى سَیدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِینَ.

[156] انظر: «خلاصة عبقات الأنوار»، للسيد حامد النقوي (1306 هـ)، (قم: مؤسسة البعثة، 1405 هـ)، 3/301. وأصله من مصادر أهل السنة، كما في صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، ح (3261)، ومسند أحمد (1/124) عن عمر بن الخطابس مرفوعاً. قلت: وقد روى محمد بن محمد بن الأشعث في كتابه «الأشعثيات» [ويُسَمَّى أيضاً «الجعفريات»] (ص 181): «بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ حَقِّي فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَنِي عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيّاً». ورواه القطب الراوندي في النوادر (ص16). ونقله المجلسي، بحار الأنوار، ج25/ص 265. وانظر: موسوعة الإمام علي للريشهري3/76. [المصحح] [157] ورد في الكافي وغيره، عن أبي عبد الله الصادق أنه قال: إن قوماً أتوا رسول الله ص فقالوا: يا رسول الله! إنا رأينا أناساً يسجد بعضهم لبعض فقال رسول الله ص: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا». انظر: الكافي 5/507-508، ومن لا يحضره الفقيه 3/439، وبحار الأنوار 17/377. وأما في مصادر أهل السنة والجماعة، فقد ورد استئذان بعض الصحابة السجود للنبي ص بروايات متعددة، منها: 1- ما رواه أبوداود وغيره عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ، قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ». (سنن أبي داوود ج 6 ص 177، سنن الدارمي، 2/917). 2- ما رواه الدارمي (سنن الدارمي 2/918) وغيره: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فَلِأَسْجُدَ لَكَ، قَالَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ، لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا». 3- ما رواه أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ بَعِيرٌ، فَسَجَدَ لَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَسْجُدُ لَكَ الْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ، فَقَالَ: «اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَأَكْرِمُوا أَخَاكُمْ، وَلَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا، أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا...». 4- وما رواه أحمد في المسند (32/145) والطبراني في المعجم الكبير (5/208)، والحاكم في المستدرك (4/190) وغيرهم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الْكِتَابِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ، أَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا....». وغيرها من الروايات الكثيرة في هذا المعنى. [المصحح] [158] حكى النوويُ والشوكاني الإجماع على كفر من سجد لغير الله بنية العبادة. انظر: (نيل الأوطار 7/168، البحر الزخار5/205. ونقل سعدي حبيب قول النووي في المجموع2/73 (موسوعة الاجماع2/548)، ولهذا لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما وقصد التحية والإكرام فقد وقع في محرّم خطير وإن قلنا بأنه لم يشرك، وأما إن قصد الخضوع والذل والتقرب فهذا من الشرك، لكن لو سجد لشمس أو قمر، فمثل هذا السجود لا يأتي إلا عن عبادة وخضوع وتقرب فهو سجود شركي لعدم تصور وقوع التحية لمثل هذه الأجناس من المسلم. (انظر نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز آل عبد اللطيف 278-279). [159] ذكر المجلسي في بحار الأنوار (4/303) عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): «لا تَتَجَاوَزُوا بِنَا الْعُبُودِيَّةَ ثُمَّ قُولُوا مَا شِئْتُمْ وَلا تَغْلُوا وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ كَغُلُوِّ النَّصَارَى فَإِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنَ الْغَالِين..»‏. وفي مصادر أهل السنة، أخرج نحوه ابن ماجه في سننه 2/1008، ح(3029) وأحمد في مسنده (1/347) ولفظه: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ «الْقُطْ لِى حَصًى»... (إلى قوله:) ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِى الدِّينِ». [المصحح] [160] صحيح مسلم (2670) وسنن أبي داود (4610) ومسند أحمد (1/386). [المصحح] [161] عيون أخبار الرضا، للشيخ الصدوق، 2/200 – 201، بحار الأنوار للمجلسي 25/135. وقد جاء في المستدرك للحاكم: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَجَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ أَحِبُّونَا حُبَّ الْإِسْلَامِ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَرْفَعُونِي فَوْقَ قِدْرِي، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيًّا». وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (المستدرك 3/179). [المترجم]

(6) في بيان حقيقة الواسطة والوسيلة بين الحقِّ والخَلْقِ

مِنْ مُسَلَّمات العقل وضروريات الدين، أن الأنبياء والرسل سلام الله عليهم وسائط بين الخلق والحقّ، وأنه لا بد للبشر من وجود هذه الوسائط، وإلا فسدت دنياهم وأُخراهم.

ولما كان هذا الموضوع من المسائل الدقيقة الصعبة، إذ إنه يتخذ أحياناً ذريعةً للشرك، وقد يقع كثير من المسلمين في الشرك بسبب عدم دقتهم في هذا المعنى، لذا فإننا بحاجة ماسة إلى التحقيق في هذه المسألة، حتى نبيّن لإخوتنا في الإيمان ما يرشد إليه كتاب الله وسنة الرسول الأكرم ص في هذا الموضوع:

إن أريد بالواسطة أنه لا بد أن يُبعث شخص من قبل الله تعالى لهداية العباد وإرشادهم [إلى طريق الصواب والحق]، فهذا أمر حق وعين الحقيقة، لأن الناس لا يعلمون ما يحبه الله من أعمال، وما لا يُحبه، كما لا يعلمون ما الذي يأمر به وما الذي ينهى عنه، وكذلك لا يدرك الناس أي أعمال وأقوال توصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وأي أعمال تسبب شقاوتهم في الدارين. كما أن العقل البشري عاجز عن وصف الله تعالى ولا يدري أي صفة تليق بجلاله، ولا الأسماء التي ينبغي أن يدعوه بها، كما ليس للعقل البشري طريقٌ لمعرفة كيفية المعاد وحشر الأجساد. فمن المُسلَّم به أن الإنسان يحتاج إلى واسطة تهديه إلى الطريق المستقيم، وتبيِّن له الأمور التي ذكرناها. وإذا كان الله غيباً لا يظهر للعيان، فإن هؤلاء الأنبياء هم نوّاب الحق[162] فإذا ثبتت الحاجة إلى الرسل لزم أن يبعث رب العالمين هُداةً ومُرشدين إلى الناس.

إن الإيمان بالرسل هو جوهر الهداية وحقيقة الفلاح، وعصيانهم أصل الضلال وبعد عن الحق، ولا يمكن لإنسان أن ينال الفوز والنجاة دون طاعتهم واتِّباع أوامرهم. وقد قيل: إن لم تكن نبيّا فكن من أمته، قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ [آل عمران: 31]. فالأنبياء والرسل واسطة للهداية ووسيلة لها والإعراض عن أوامرهم سبب للضلالة والشقاوة.

يقول الله تعالى: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ إِمَّا يَأۡتِيَنَّكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٣٥ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٣٦ [الأعراف: 35-36].

ويقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا ١٢٥ قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ ١٢٦ [طه: 123-126].

وقال سبحانه على لسان أهل النار: ﴿كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِيرٞ ٨ قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ ٩ [الملك: 8-9].

وقال تعالى أيضاً: ﴿وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَتۡلُونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ رَبِّكُمۡ وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنۡ حَقَّتۡ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧١ [الزمر: 71].

ويقول الله تعالى أيضاً: ﴿وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۖ فَمَنۡ ءَامَنَ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٤٨ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلۡعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ ٤٩ [الأنعام: 48-49]

وكما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ [النساء: 163-165].

ونظير هذه الآيات في القرآن كثير، حيث يبين الله تعالى حال مكذبي الرسل الذين أُهلكوا بسبب تكذبيهم لرسل الله، كما أن هناك آيات أخرى تدل على أن الله ولي أنبيائه وناصر رسله، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٧١ إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ ١٧٢ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ١٧٣ [الصافات: 171-173]. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١ [المؤمن: 51].

وقد أمر الله تعالى في آيات أخرى أمراً صريحاً بطاعة الرسل، فقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [النساء: 64]. ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَ [النساء: 80]. ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ [آل‌عمران: 31]. ﴿فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 157] ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١ [الأحزاب: 21].

وأما إذا أريد بالواسطة، أن يكون الأنبياء والرسل وسطاء ووسائل لجلب النفع أو دفع الضُرّ كأن تقول: إن الأنبياء وسطاء في جلب الرزق ومنح الحياة وشفاء المرضى، ثم تطلب منهم حوائجك أو تعتبرهم أبواب حوائجك، فإن هذا الاعتقاد من أكبر أنواع الشرك، لأنك قد جعلت غير الله ولياً وطلبت عنه جلب النفع ودفع الضُرّ. يقول الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ٤ [السجدة: 4]. وقال تعالى أيضاً: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا ٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا ٥٧ [الإسراء: 56-57]، وقال سبحانه أيضاً: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا لَهُمۡ فِيهِمَا مِن شِرۡكٖ وَمَا لَهُۥ مِنۡهُم مِّن ظَهِيرٖ ٢٢ وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ [سبأ: 22-23]. سبب نزول هذه الآية، أن ناساً كانوا يدعون المسيح والملائكة لكشف الكربات ودفع البليّات ويستغيثون بهم، فرد الله تعالى عليهم أن الملائكة والأنبياء غير قادرين على إزالة الضرر وتغييره.

وقال تعالى أيضاً: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّ‍ۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩ وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠ [آل عمران: 79-80].

فكل من جعل الأنبياء والملائكة وأئمة الهدى واسطة يطلب منهم الرزق والحياة ويتوكل عليهم ويسألهم جلب النفع ودفع الضرّ، كغفران الذنوب ورفع الشقاء وسد الحاجات ودفع الفقر والفاقة، فهو كافرٌ بنص القرآن الكريم وإجماع أمة سيد المرسلين ص.

يقول الله تعالى: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨ ۞وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ ٢٩ [الأنبياء: 26-29].

وقال تعالى أيضاً: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ١٧٢ [النساء: 172].

وأيضاً قال سبحانه: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا ٨٨ لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡ‍ًٔا إِدّٗا ٨٩ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا ٩٠ أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا ٩١ وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ٩٢ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا ٩٣ لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا ٩٤ وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا ٩٥ [مريم: 88-95].

ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّ‍ُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨ [يونس: 18].

وقال تعالى أيضاً: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ‍ًٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن يَأۡذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرۡضَىٰٓ ٢٦ [النجم: 26]. ويقول أيضاً: ﴿وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦ [يونس: 107]، وأيضاً يقول: ﴿مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ [فاطر: 2].

***

وقد يقول قائل: إننا نجعل الأنبياء والأولياء وسطاء، كما يكون الوزراء وسطاء بين المَلِكِ والرعية؟ فكما أن الوزراء يعرضون حوائج الناس على المَلِكِ ويطلبون منه قضاءها، فكذلك الأنبياء والأولياء يعرضون حوائج العباد على الله؛ والله يرزق ويحيي ويشفي ويعين ويمنح المال والجاه للعباد بوسيلة الأنبياء، لأن الأنبياء والأولياء أقرب إلى الله تعالى بخلاف عامة العباد، كما أن الوزراء أقرب للمَلِكِ بخلاف عامة الناس الذين هم بعيدون عنه، فعلى الناس أن يطلبوا حاجاتهم بكل أدب وتواضع من الوزراء وحجّاب المَلِك، وهذا أنفع لهم من السؤال مباشرةً من الملِك.

فأقول: إن جعل الأنبياء والأولياء واسطة بين الرب والخلق على هذا النحو، كفر وشرك محض، ولا يمكن للإنسان أن يُطِّهر نفسَه من رجسها إلا بماء التوبة!

أيها المسكين الجاهل!... إن المَلِكَ لا يعلم الجزئيات، ويجهل ما يحدث في أطراف مملكته وأكنافها، ولا يعرف تفاصيل أحوال الرعية، فلا بدَّ له من أشخاص يخبرونه بأحوالهم ويوصلون إليه عرائضهم. ولكن أليس الله بعالم بجميع الجزئيات وخبير بقلوب الناس: ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ [البقرة: 255]، ﴿وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا [الأنعام: 95].

إن الناس بعيدون عن المَلِك وهو بعيد عنهم، ولكن الله تعالى أقرب إلى العباد من حبل وريدهم ﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ ١٦ [ق: 16] ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦ [البقرة: 186].

[162] ترجمة لبيت شعر نقله المؤلف من كتاب المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي. [المصحح] چون‌که حق غیب است و ناید در عیان نایب حق اند این‬ پیغمبران

وساطة الوزراء لدى المَلِكِ لا تخرج عن ثلاثة أقسام:

الأول: لما كان المَلِكُ غير مطلع على جزئيات أحوال الرعية، فإن الوزراء يخبرونه عن هذه الجزئيات، فإذا اطلع الملك على ذلك، قام بإصلاح حال الرعية وتلبية حاجاتهم.

فإذا تصورت للأنبياء وساطة من هذا النوع فقد جَعَلْتَ الله تعالى -نعوذ بالله- جاهلاً بأحوال العباد. ولا ريب أن هذه العقيدة تخالف أصول التوحيد، وهي كفر صريح.

الثاني: أن المَلِكُ لا يستطيع أن يباشر أمور الرعية بنفسه مباشرةً، وكما لا يستطيع دفع العدو بنفسه، لذا فهو بحاجة إلى وسائط وأعوان ليساعدوه في إدارة شؤون المُلْك.

فلا ريب أن مَنْ جَعَلَ الأنبياء واسطة على هذا النحو، فقد وقع في كفر وشرك محض، لأن الله تعالى غنيٌّ عن المعين والظهير: ﴿وَمَا لَهُمۡ فِيهِمَا مِن شِرۡكٖ وَمَا لَهُۥ مِنۡهُم مِّن ظَهِيرٖ ٢٢ [سبأ: 22]، ويقول الله تعالى: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا ١١١ [الإسراء: 111].

كل ما يُشاهد من الأسباب في عالم الوجود، فإن الله تعالى خالقه وربّه ومالكه، فالحق تعالى غنيٌّ صمدٌ وما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك، فإنهم محتاجون إلى الخَدَم والجنود والحشم ،وإذا دقَّقت في الأمر، رأيت أن الجنود والخَدَم والوزراء شركاء للسلاطين في ملكهم وحكمهم، وأما الحق تعالى، فهو كما قال: ﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ١ [التغابن: 1]

الثالث: أن يُتصور أن الملك لا يُحسن إلى الرعية ولا يرحمهم إلا بمحرك خارجي لينصحه ويعظه، فينشأ لدى الملك بفضل هذا الوعظ، الخوف من الظلم والرغبة بالإحسان، فيقوم بالاعتناء الخاص بالمشفوع له، والإحسان إليه.

إن بطلان تصور وساطة الأنبياء على هذا النحو أوضح من أن يحتاج إلى برهان، ولا شك أن مثل هذا الاعتقاد في الله كفرٌ وشركٌ صريح، لأن الحق تعالى رب الموجودات وأرحم بعباده من الأم بطفلها، وكل شيء تابع لمشيئته الإلهية: ما شَاءَ اللهُ كان وما لم يشأ لم يكن، فكيف يمكن أن يكون رب العالمين غير مشفق ورحيم بعباده ويحتاج إلى واعظ يعظه وناصح ينصحه.

﴿سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا ٤٣ [الإسراء: 43].

اللهم إلا أن تطلب وتَلتمس الدعاء لك من الرسل والأئمة، وتقول عند مقام الرسل والأئمة: أيها النبي، أو أيها الإمام، أسألك أن تدعو لي اللهَ، وتسأله أن يشفي لي مريضي أو يغنيني من فضله أو يوفقني في دراستي، أو غير ذلك، فهذا النحو من السؤال لن يكون شركاً بل هو طريق مستقيم وصحيح. ولما كان الأنبياء والأئمة مستجابي الدعوة ودعواتهم مقبولة عند الله، فلا شك أن الله تعالى سيلبِّي حاجتك[163].

أسأل الله تعالى أن يوفِّق الأمة المرحومة للتوحيد، وأن يستجيب دعاء النبيِّ والأئمّة في حق الجميع.

فحاصل ما ذُكر، أن مَنْ جعل الأنبياء والأولياء وسائط بين الله وخلقه مثل الوسائط بين الملك ورعيته، كان مشركاً وخارجاً عن دين الإسلام الحنيف.

وقد ذم الله تبارك وتعالى النصارى لممارستهم هذا النحو من الشرك فقال: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣١ [التوبة: 31].

وقال تعالى أيضاً: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ [النمل: 62].

وقال سبحانه: ﴿يَسۡ‍َٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ٢٩ [الرحمن: 29].

ولقد وضع القرآن الكريم تاج التوحيد على رؤوس المسلمين واقتلع الشرك والوثنية من جذورهما كي لا يخاف العباد إلا من رب العباد، ولا يتوكلوا إلا عليه.

قال تعالى: ﴿فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا [المائدة: 44].

وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥ [آل عمران: 175].

وقال تعالى أيضاً: ﴿إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَ [التوبة: 18].

ويقول سبحانه أيضاً: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَخۡشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقۡهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٥٢ [النور: 52].

وأيضاً يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ [التوبة: 59]

وقالى أيضاً: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ ١٧٣ [آل عمران: 168].

***

فإن قلتَ: يجوز التوسل بالأنبياء والأولياء في غير أمور الهداية بل في الأمور التكوينية، مثل الرزق والحياة والشفاء وغيرها، واستدللت بالآية المباركة ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣٥ [المائدة: 35]، وقُلْتَ: إننا عندما نجعل الأنبياء والأولياء وسيلة لحاجاتنا، فإننا نطيع أمر الله، لأن الله أمرنا في هذه الآية المباركة باتخاذ الوسيلة إليه، فالاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين والتوسل بهم أي جعلهم واسطة بين الخلق والحق في الأمور التكوينية مشروع وصحيح.

نقول في الجواب على ذلك: إن المراد من ابتغاء الوسيلة إلى الله، التوسل إليه بالعلم والعمل الصالح لأن حقيقة التقرّب إلى الله الزلفى إنما تكون بتحلي العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة، فيجب إذن التوسل إلى الله بالعلم والعمل. وأما ذوات الرسل، -كما ذكرنا- فما هم إلا واسطة في الهداية، وأن طاعتهم وسيلة للقرب من الله تعالى، فكل من أطاع الأنبياء وعلم وعمل عملاً صالحاً كان قريباً من الله، وكلما زاد علماً وعملاً بالشريعة زاد قرباً إلى الله، فكما أن قرب المتعلم من المعلم، هو أن تتجلى فيه كمالات المعلم، وكلما كان التلميذ أكثر فضلاً وعلماً واستفاد من الأستاذ أكثر اقترب منه أكثر. [أي كلما أخذ الطالب من علم معلمه وتخلق بأخلاقه كان أقرب إلى قلب معلمه. فالحاصل، أن الوسيلة هنا معناها الطاعة والعمل الصالح].

وفيما يلي بعض الشواهد أن «الوسيلة» هي الطاعة والعمل الصالح:

أولاً: لقد نصَّ المفسرون واللغويون على أن الوسيلة بمعنى ما يُتوسَّل به من الطاعات والعلم، وهذا ما صرح به الراغب الأصفهاني في كتاب المفردات.

ثانياً: نص الكتاب الكريم، حيث قال تعالى: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا ٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا ٥٧ [الإسراء: 56-57].

لقد ابتُلِيتْ قريش بالقحط والغلاء، فأنزل الله تعالى هذه الآية على رسوله ص، ليقول لهم: ادعوا هؤلاء الذين زعمتم أنهم آلهة وأنهم يقضون حاجاتكم!.. [ليرفعوا عنكم القحط والغلاء، فإنكم إن فعلتم ذلك]، فإنهم غير قادرين على إزالته عنكم، كما لا يستطيعون أن يغيِّروا حالكم، وإن هذه الآلهة التي تعبدونها (أي عيسى ومريم وعزير والملائكة والجن) هم أنفسهم يبتغون وسيلةً يتقرّبون بها إلى الله أيهم يكون أقرب إليه، ويأملون رحمته ويخافون من عذابه. أي أن هؤلاء الذين تدعونهم بحجة أنهم من المقربين إلى الله كالمسيح والملائكة والجن هم أنفسهم يتوسلون إلى الحق سبحانه ويرجون عطاءه.

إذن فهؤلاء المدعوُّون هم كسائر العباد يعيشون بين الخوف والرجاء، فلا ينبغي أن يُطلب منهم كشف الضر وقضاء الحاجات. فالحاصل، أنه لا يمكن أن يكون المراد من الوسيلة -في الآية الكريمة- الأنبياء والأولياء، لأن الله تعالى سلب عنهم في هذه الآية الأخيرة هذه الصفة (بالاستدلال الذي مَرَّ).

كان من دعاء سيد الساجدين الإمام زين العابدين سلام الله عليه في دَفْع كَيْدِ الأعْدَاءِ وَرَدِّ بَأْسِهِمْ – كما في الصحيفة السجادية-: «وَوَسِيلَتِي إِلَيْكَ التَّوْحِيدُ، وَذَرِيعَتِيْ أَنِّي لَمْ أُشْرِكْ بِكَ شَيْئاً، وَلَمْ أَتَّخِذْ مَعَكَ إِلَهاً...»[164].

فاتضح من الآية الكريمة ودعاء الصحيفة السجادية وتحقيق المفسرين، أن الوسيلة ليس معناها ذات النبي أو الولي، وأنه لا يجوز أن يجعل الإنسان شخصاً بذاته وسيلةً، بل الوسيلة إلى الله منحصرة في العلم والعمل الصالح وطاعة الرسول ص، وأن العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة هي التي تقرب العبد إلى ربه سبحانه.

إن من مصائب المسلمين وشقاوتهم، جهلهم بأسس دينهم؛ لقد كان في عصر النبي ص وفي عصر كل واحد من الأئمة الهداة -سلام الله عليهم أجمعين- جماعة من الكذابين والزنادقة يَكْذبون عليهم وينسبون إلى النبي ص وإلى الأولياء صفات الله تعالى، ويدَّعون النبوة، وكان أولئك الأجلاء الكرام يتبرؤون من أولئك الكذابين ويلعنونهم.

الغلاة في الأصل تسع فرق، كلهم يقولون ببطلان الشرائع. ففرقة منهم تقول: إن الله تعالى يظهر في صورة بعض الخلق وينتقل من صورة إلى صورة، ويزعمون أن معرفة مثل هذا الشخص (الذي يتجلى الله بصورته) يوجب سقوط التكليف! وفرقة أخرى تقول: إن الأئمة خالقون ورازقون ومحيون ومميتون، وأن المراد من الصلاة والصوم والزكاة أشخاص صالحون، والمقصود من الخمر والميسر والزنا رجال طالحون، وكل من عرفهم سقط عنه التكليف.

[163] إن طلب الدعاء من الأنبياء والصالحين يجب أن يكون في حياتهم لا بعد موتهم وفي مغيبهم؛ ومَنْ دَعى نبيًّا من الأنبياء أو صالحاً من الصالحين بأن يقول: يا نبي الله، يا رسول الله، يا إمام، يا ولي الله... ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله لي أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يعافيني وغير ذلك... فإن عمله هذا بدعة محرمة ومخالف لشرع الله، وذريعة إلى الشرك، لعدة أدلة، منها: 1- أنه دين لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولاً، ولا أنزل به كتاباً، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين. 2- أن الدعاء عبادة، ولا يُعبد الله تعالى إلا بما شرعه في كتابه أو على لسان رسوله ص، لم يرد ذلك لا في الكتاب ولا في السنة. 3- وكان الصحابة والتابعون والصالحون من بعدهم يُبتلون بأنواع البلاء بعد موت النبي ص، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر النبي ص ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، فيقول: نشكو إليك جدب الزمان، أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم، أو ينصرهم، أو يغفر لهم. 4- أن هذا الفعل وسيلة وذريعة إلى الشرك، وهو دعاء الميت مباشرة وطلب الحاجات منه التي لا يقدر عليها إلا الله، وأصل الشرك في البشرية لم تنشأ إلا عن ذلك، فإنهم فقد أسقطوا الله في هذا الدعاء ودعوا الأموات مباشرة. ثم إن القلوب تتعلق بهم دون الله، فإذا تعلقتْ القلوب بدعائهم وشفاعتهم أفضى ذلك إلى الشرك أيضاً، ويقصد الداعي دائماً أماكن قبورهم أو تماثيلهم أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين، فإن عبادتهم لهم لم تنشأ إلا عن اتخاذهم وسائل أو وسائط في الدعاء بأن يدعو لهم عند الله تعالى. 5- أن الميت قد انقطع عمله، كما فقال ص: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». [صحيح مسلم، 3/1255، ح(1631)]، فتبيّن من الحديث أن الميت هو المحتاج لمن يدعو الله له ويستغفر له، وليس الحي هو الذي بحاجة إلى دعاء الميت، وإذا كان الحديث يقرر انقطاع عمل ابن آدم بعد موته، فكيف نعتقد أن الميت حي في قبره حياة تمكنه من الدعاء لغيره. 6- أن هذا النوع من الدعاء يتعارض مع الآيات القرآنية التي تذكر أن الأموات لا يسمعون، كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ. [النمل: 80]. وقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ. [فاطر: ٢٢]. 7- وعقلياً، وإذا دعا الناس النبيَّ أو إماماً من الأئمَّة الميت أو الغائب أن يدعو اللهَ لهم، هل بإمكانهم أن يستمعوا إليهم جميعاً؟ وهل هم حاضرون في كل مكان؟ ألا تختلط عليهم الأصوات؟ هل هم يتمتعون بصفات الله أو هم شركاء له في كونهم مثله، لا يشغلهم شأن عن شأن ولا صوت عن صوت؟ ثم هل الرسول أو الأئمة مُجبرون على سماع كل من ناداهم وتلبية ندائه على الفور وأن يتوسطوا لكل أحد؟ لهذا وذاك، فإن دعاء الصالحين الأموات من البدع المحدثة التي لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولاً، ولا أنزل به كتاباً، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، بل هو ذريعة إلى الشرك، وما الشرك الموجود في البشرية إلا مصدره ومنشأه من هذا النوع من الدعاء. [المُصحح] [164] الصحيفة السجادية، ص 288.

لاحظوا كيف راج الغلو بين المسلمين!...

والذي دفع العوام والجُهَّال إلى ذلك الغلوّ، تلك الصفات الرفيعة والخصال العالية والعلم الوافر التي كان النبي ص والأئمة الطاهرون يتمتعون بها.

ومن بشاعة الغلاة، أنهم غالوا في حق ذراري الأئمة أيضاً، بل إن بعض أراذل الخلق قالوا بمثل ذلك الغلو في حق مرشديهم الجهلة من رأسهم إلى أخمص أقدامهم! فنسبوا إليهم صفات الربوبية والخالقية وقضاء الحوائج وتفريج الكُرَب؛ ووصل الجهل والشرك بهؤلاء الأراذل إلى قولهم بوجوب تصوُّر صورة المرشد عند ذكر الله وعبادته! وقالوا: يجب أن يكون المخاطب بجملة ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ المرشد! بل وصل الأمر بهم إلى السجود للمرشد وعبادته. نعوذ بالله من الضلال ومن حماقة الأراذل والجهَّال.

وتتميماً للكلام وَتبصرةً للأنام ننقل فيما يلي عدداً من الأحاديث التي رواها الكشي [في رجاله]، وهو من أبرز علماء الإمامية:

عن أبي حمزة الثماليّ، قال: قال علي بن الحسين سلام الله عليه: «لَعَنَ اللهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيْنَا، إِنِّيْ ذَكَرْتُ عَبْدَ اللهِ بْنِ سَبَأ، فَقَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِيْ جَسَدِيْ، لَقَدْ ادَّعَى أَمْراً عَظِيْماً [مَا لَهُ لَعَنَهُ اللهُ؟]، كَانَ عَلِيٌّ÷ وَاللهِ عَبْداً للهِ صَالِحاً، أَخُو رَسولِ اللهِ، مَا نَالَ الْكَرَامَةَ مِنَ اللهِ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ للهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا نَالَ رَسُولُ اللهِ ص الْكَرَامَةَ مِنَ اللهِ إلاَّ بِطَاعَتِهِ»[165].

عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله ÷ يقول: «كَانَ الْمُغِيْرُةُ بْنِ سعيدٍ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ عَلى أبي، وَيأْخذُ كتبَ أَصْحابِه، وَكان أصحابُه المستترونَ بِأَصحابِ أبي يَأْخُذونَ الكتبَ مِن أصحابِ أبي فَيَدْفَعُونَها إلى المُغيرة، فَكان يدُسُّ فيها الكفرَ والزندقةَ، [ويَسنِدُها إلى أبي] ثم يَدْفعُها إلى أصحابِه، فَيَأْمُرُهم أن يَبَثُّوهَا في الشيعةِ، فَكُلَّمَا كان في كُتُبِ أصحابِ أبي من الغُلُوِّ فذاكَ مما دَسَّهُ المغيرةُ بن سعيد في كُتبِهِم»[166].

عن عبد الرحمن بن كثير، قال: قال أبو عبد الله ÷ يوماً لأصحابه: «لعنَ اللهُ المغيرةَ بن سعيدٍ ولعن يهوديةً كان يختلف إليها، يتعلم منها السحرَ والشعبذةَ والمخاريقَ، إنَّ المغيرةَ كذبَ على أبي÷ فَسَلَبَهُ اللهُ الإيمانَ، وإن قوماً كذبوا عليَّ [ما لهم؟ أذاقهم اللهُ حرَّ الحديد]، فو الله ما نحن إلاَّ عبيدُ الذي خَلَقَنا واصْطفانَا ما نقدر على ضر ولا نفع، إن رَحِمَنَا فَبِرَحْمَتِهِ وإنْ عَذَّبَنَا فبذنوبنا، والله ما لنا على اللهِ من حُجَّةٍ، ولا معنا من الله براءة، وإنَّا لَمَيِّتون ومقبورون ومنشرون ومبعوثون وموقوفون ومسئولون، وَيْلَهُم مَا لَهُم لعنهم اللهُ فلقد آذَوا اللهَ وآذَوا رسولَه في قبرِه وأميرَ المؤمنين وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ وعليَّ بن الحسين ومحمدَ بن علي... إلى آخر الحديث»[167].

عن ابن المغيرة قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ [أي الإمام موسى الكاظم عليه السلام] أَنَا وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ يَحْيَى: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ؟! فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ! ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي فَوَ اللَّهِ مَا بَقِيَتْ فِي جَسَدِي شَعْرَةٌ وَلا فِي رَأْسِي إِلا قَامَتْ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلا رِوَايَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص»[168].

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللَّهِ ÷: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ [قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ] يَعْلَمُ قَطْرَ الْمَطَرِ وَعَدَدَ النُّجُومِ وَوَرَقَ الشَّجَرِ وَوَزْنَ مَا فِي الْبَحْرِ وَعَدَدَ التُّرَابِ؟ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ! فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ! لا وَاللَّهِ مَا يَعْلَمُ هَذَا إِلا اللَّه!»[169].

[165] رجال الكشي، (ص 108) (من الطبعة القديمة)، وبحار الأنوار25/287. [المصحح] [166] رجال الكشي، (ص 196) (من الطبعة القديمة) أو في (ص 225) (من طبعة مشهد الحديثة، نشر مؤسسة النشر في جامعة مشهد/إيران، 1348 هـ)، وبحار الأنوار 25/250. [المصحح] [167]رجال الكشي، ص 196، (من الطبعة القديمة)، أو في ص 225 – 226، (من طبعة مشهد الحديثة)، واختيار معرفة الرجال للطوسي 2/419. [المصحح] [168] رجال‏ الكشي، ص 298، وبحار الأنوار، 25/ 293. [المصحح] [169] رجال‏ الكشي، ص 299، وبحار الأنوار، 25/ 294، واختيار معرفة الرجال للطوسي 2/588. [المصحح]

من أنواع الشرك الأصغر: الرياء

يقول الله تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥ ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦ [الماعون: 4-6].

ويقول تعالى في ذمّ المرائين: ﴿يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا ١٤٢ [النساء: 142].

ويقول الرسول الأكرم ص: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الأصْغَرُ. قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!»[170].

كإظهار الضعف والإعياء ليفهم الناس أنه قليل الطعام قليل النوم في الليل، أو أن يمشي المرائي مشية المتماوت الفاقد للحال ويلبس الألبسة المتسخة وأمثال ذلك من الأعمال ليجعل الناس البسطاء والجهلاء يستدلون من ذلك على زهده وإعراضه عن الدنيا.

الرياء: مشتق من الرؤية، والمراد من الرياء: طلب المنزلة والجاه في قلوب الناس، بِإِيرَائِهِمْ خِصَالَ الخير، مثل العبادات والشمائل الحسنة، أو التظاهر بالآثار التي تدل على الصفات الحميدة، أي أن ما يقوم به المرائي ليس عمل خير، بل يمكن أن يُستدَلّ به على عمل خيِّرٍّ، كإظهار الضعف والتذلل والإعياء من أجل أن يفهم الناس أنه قليل الطعام وقليل النوم في الليل، أو أن يمشي المرائي مشية المتماوت الفاقد للحال، أو يلبس لباساً متسخاً، وأمثال ذلك من الأعمال التي تدل على الزهد والإعراض عن الدنيا عند العوم الجهلة.

والرياء في العبادة من كبائر الذنوب وصاحبه مغضوبٌ عليه من الله ومحرومٌ من الوصول إلى السعادة، إضافةً إلى أن رياءه يبطل عبادته سواء كان الرياء في أصل العبادة أم في صفاتها اللازمة، ولا فرق في بطلان عبادة المرائي بين أن يكون قصده منها الرياء المحض دون أي نية للتقرُّب إلى الله أو أن يكون الرياء ممتزجاً بنيَّة القربة بل حتى لو كان قصد القربة أرجح وشابه شيءٌ قليلٌ من الرياء كان ذلك كافياً في إفساد العبادة وعدم سقوط التكليف عن صاحبها بل يكون حاله أسوء من حال من ترك العبادة.

والرياء في العبادة من كبائر الذنوب، وصاحبها ممقوت عند الله، ومحروم من الوصول إلى السعادة، إضافة إلى ذلك، أنه يحبط العبادة ويبطلها سواء كان الرياء في أصل العبادة أم في صفاتها اللازمة، ولا فرق في بطلان عبادة المرائي بين أن يكون قصده منها الرياء المحض مجرد عن قصد القربة والثواب، أو أن يكون الرياء ممتزجاً بنيَّة القربة بل حتى لو كان قصد القربة أرجح وشابه شيءٌ قليلٌ من الرياء كان ذلك كافياً في إفساد العبادة وعدم خروج صاحبه عن عهدة التكليف، بل يكون أسوأ حالاً ممن ترك العبادة رأساً. تلك الصلاة التي تطيلها أمام أنظار الناس إذا اتَّجهت إلى طريق غير الله، هي مفتاحٌ لباب جهنم! فاطرح سجَّادتك (سجَّادة الصلاة) في النار![171] كما أنه لا فرق في فساد العبادة التي تُؤدَّى رياءً أن يكون الرياء في ابتداء العبادة أو يعرض أثناءها. دموع الزهاد التي تنهمر رياءً في المسجد كالطفل الذي يولد من الفاحشة في مسجد[172] هناك رياء جائز، وذلك في المعاصي، بمعنى أن يستر العاصي ذنوبه عن الناس ويكره أن يطلعوا عليها، فهذا النوع من الرياء جائز، لأن إظهار المعاصي قبيح وحرام. وأما ما قيل من أن مقتضى الإخلاص أن يكون باطن الإنسان وسريرته على نحو إذا ظهر للعيان لم يكن فيه أي قبح، وهو معنى ما قاله بعض الأكابر: «عليك بعمل العلانية»، أي اعمل عملاً إذا ظهر لم تستح منه، فلا شك أنَّه مرتبة عالية من الفضيلة ومقام رفيع لا يصل إليها إلا المعصومون، وقليل من المصطفين المقربين من رب العالمين. وأما سائر الناس، فلا يخلون من ظاهر الإثم وباطنه، لا سيما ما يختلج ببالهم من الأفكار الباطلة والوساوس الشيطانية، والأماني الكاذبة، والله مطلع عليها، إذْ لا تخفى عليه منها خافية، وهي مخفية عن الناس، فالسعي في إخفائها واجبٌ وإظهارها حرامٌ.

وقد رُوي عن الرسول الكريم ص أنه قال: «مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَات، فَلْيَسْتُرْهُ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى‏»[173].

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، وَأَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَسُلْطانِكَ الْعَظِيمِ وَعِزَّتِكَ الَّتِي لا تُرَامُ وَقُدْرَتِكَ الَّتِي لا يَمْتَنِعُ مِنْهَا شَيْ‏ءٌ مِنْ شَرِّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَشَرِّ الأوْجَاعِ كُلِّهَا[174]. وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ.

[170] بحار الأنوار، 69/266، وص303 و304، و«مستدرك ‏الوسائل»، النوري الطبرسي، 1/ 106، نقلا عن الشَّهِيدُ الثَّانِي فِي مُنْيَةِ الْـمُرِيدِ، كلهم عن النبيّ ص بدون سند. وأصله من مصادر الحديث السُّنِّيَّة كما في مسند أحمد (5/428). [المصحح] [171] ترجمة بيت شعر للشاعر سعدي الشيرازي في كتابه «بوستان». [المصحح] کلید در دوزخ اسـت آن نماز که در چشم مردم گذاری دراز اگر جز به حق می‌‌رود‬ ‫جاده‌ات در آتـش فشـانند‬ ‫سـجاده‌ات [172] اشک ریای زاهدان ریخت به‬ ‫خانه‌ی خدا قحبه به مسجد آورد طفل‬ ‫حرامزاده را‬ [173] ذكره الشيخ محمد مهدي النراقي في جامع السعادات (2/296) ولم ينسبه إلى مصدر حديثي معين، وهو في موطأ الإمام مالك (2/8258) بلفظ: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا. فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ». [المصحح] [174] ذكر المجلسي في بحار الأنوار (83 / 44) متن الدعاء نقلاً عن مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي، وليس فيه جملة: «وَسُلْطانِكَ الْعَظِيمِ». [المصحح]

في بيان أن الشفاعة لا تنفع إلا من كان اللهُ راضياً عنه

قضية الشفاعة إحدى القضايا الدينية الهامة، وهي من مسلّمات دين الإسلام المبين، إلا أن الفِرَقَ الإسلامية اختلفت في كيفيتها:

فأثبت جمهور الأشاعرة والإمامية شفاعة الرسول ص في إسقاط العقاب عمن استحق العقاب. وقالت المعتزلة: ليست شفاعة الرسول ص في إسقاط العقاب، بل هي في إيصال الثواب لأهل الثواب. وبعبارة أوضح، يرى المعتزلة أنه لا يُعفى العصاة عن ذنوبهم بشفاعة الرسول ص، بل تنال شفاعته المطيعين وأهل الثواب بعُلوِّ المرتبة وارتفاع المنزلة. وأدلة الفريقين مسطورة في الكتب الكلامية.

وتبيّن من بيان اختلاف الفرق الإسلامية، أن موضوع الشفاعة مسلَّمٌ به لدى الجميع، وإنما وقع الاختلاف في كيفيتها وحقيقتها.

[الشفاعة في القرآن الكريم]

وسنرجع قبل كل شيء إلى القرآن الكريم لنرى ماذا يقول بشأن الشفاعة؟

هناك آيات في القرآن الكريم تنفي الشفاعة بشكل مطلق وصريح، كقوله تعالى: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٥٣ [الأعراف: 53].

﴿تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ٩٧ إِذۡ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٨ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَّا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٩٩ فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ ١٠٠ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ ١٠١ [الشعراء: 97-101].

﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤٦ حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ ٤٧ فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَٰعَةُ ٱلشَّٰفِعِينَ ٤٨ [المدثر: 46-48].

﴿وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ [الأنعام: 51].

﴿وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِۦٓ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ [الأنعام: 70].

﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبۡلِسُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ١٢ وَلَمۡ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآئِهِمۡ شُفَعَٰٓؤُاْ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ كَٰفِرِينَ ١٣ [الروم: 12-13].

﴿أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَۚ قُلۡ أَوَلَوۡ كَانُواْ لَا يَمۡلِكُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَعۡقِلُونَ ٤٣ قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٤٤ [الزمر: 45-46].

﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣ [البقرة: 123].

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَٱلۡكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٥٤ [البقرة: 254].

﴿ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ ٢٣ [يس: 23].

﴿وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ‍ًٔا [النجم: 27].

وهناك آيات أخرى تثبت الشفاعة ولكن بشرط رضا الله تعالى عن المشفوع له، وإذن الله للشافع بالشفاعة، كقوله تعالى: ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ [البقرة: 255].

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ٣ [يونس: 4].

﴿يَوۡمَئِذٖ لَّا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُۥ قَوۡلٗا ١٠٩ [طه: 109].

﴿وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥ [سبأ: 23].

﴿لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا ٨٧ [مريم: 87].

﴿وَلَا يَمۡلِكُ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٨٦ [الزخرف: 86].

***

[مقدمة لبيان حقيقة الشفاعة]

إن التوصل إلى النتيجة الصحيحة من الآيات المذكورة في مسألة الشفاعة يحتاج إلى بيان المقدمة التالية:

من تعاليم الإسلام السامية المسلَّم بها أن الإنسان لا يجوز له أن يتوكَّل إلا على الله، ولا يعتقد بوجود مُؤثِّر سواه. ومن جهة ثانية، فإن سعادة الإنسان المادية والمعنوية رهينة بأعماله، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨ [المدثر: 38]، فينبغي للإنسان أن يتوكل على الله ويسعى دائماً لاكتساب الأعمال الصالحة ليرتقي بها في درجات الرقي والتكامل: اللهُ في عون العبد ومدده معه، ومن جَدَّ في طلب الشيء وجده[175]. وقال تعالى: ﴿إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَا [الإسراء: 7].

هوية الإنسان عمله؛ والعمل الصالح مع التسليم لله أصل سعادة الإنسان ونجاحه. قال تعالى: ﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١١٢ [البقرة: 112].

فالنجاة من الشقاء والمصائب والنكبات لا تكون إلا من خلال العمل الصالح، كما أن كل ما يحل بالإنسان من مصائب، سببه أعماله السيئة: «إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ إِلَيْكُم»[176].

وقال تعالى: ﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ١٢٣ [النساء: 123].

ذكروا في سبب نزول هذه الآية، أن المسلمين جادلوا أهل الكتاب واحتجوا على بعضهم، فقال أهل الكتاب للمسلمين: نبيّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيُّناسيد المرسلين وخاتم النبيين، وشرعنا ناسخ للشرائع قبله، فنزلت هذه الآية المباركة.

ومعنى الآية الكريمة، أن ما وعد الله المؤمنين به من الأجر والثواب لا يُنالُ بأمانيكم (فمجرد كوننا أمة خير المرسلين أو شيعة أمير المؤمنين غير كاف)، كما أن ذلك الأجر والثواب لا يُنالُ بأماني أهل الكتاب الذين يقولون: ﴿لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ [البقرة: 105].

والحاصل، لا يصحّ أي أمر بالأمل والتمني، بل السعادة الأخروية موكولة بالعلم والعمل الصالح.

لا يُنالُ الفلاح بالتمنِّي والتشهِّي بل بسكب الدموع وبذل المُهَج [177].

﴿مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ١٢٣.

قال الشاعر سعدي:

«إذا سابق الناس يوم القيامة بدخول الجنة، فسيفوز صاحب الأعمال الصالحة بمنازل الجنة وقصورها.

ستحصل على البضاعة بمقدار الثمن الذي معك، وإن كنت مفلساً فسترجع بالحسرة والندم.

من زاد عمله الصالح، ازداد منزلة عند الحق سبحانه»[178].

في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الصَّفَا فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ! يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وَإِنِّي شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ وَإِنَّ لِي عَمَلِي وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَمَلَهُ، لا تَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّداً مِنَّا وَسَنَدْخُلُ مَدْخَلَهُ، فَلا وَاللَّهِ مَا أَوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَلا مِنْ غَيْرِكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلا الْمُتَّقُونَ، أَلا فَلا أَعْرِفُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْتُونَ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا عَلَى ظُهُورِكُمْ وَيَأْتُونَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ الآخِرَةَ. أَلا إِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَفِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيكُمْ»[179].

فلا شك أن الذين بعثهم الله لتربية الناس كان ينبغي عليهم أن يسلكوا هذا الطريق بأن يدعوا للعمل ويجعلوا السعادة والشقاوة نتيجة مباشرة لأعمال الناس.

[175] سایه‌ی حق بر سر بنده بود عاقبت جوینده یابنده بود [176] متن حديث نبوي، كما في بحار الأنوار، ج3/ص90. وفي مصادر أهل السنة جاءت الجملة ضمن حديث قدسي معروف ولفظها: «إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا»، انظر مثلا: صحيح مسلم، (6737). [المصحح] [177] به آروز و هوس بر نیاید این معنی به آب دیده و خون جگر‬ ‬ ‫تواند بود [178] قیامت که بازار مینو نهند منازل به اعمال نیکو‬ دهند بضاعت به چندان‌که آری‬ ‫بری اگر مفلسی شرمساری‬ ‫بری کسی را که حسن عمل‬ ‫بیشتر به درگاه حق منزلت پیشتر [179] الكافي 8/182. [المترجم]

[ما هي الشفاعة؟]

إذا اتضح ذلك، فلننظر الآن ما هي الشفاعة؟ إن الشفاعة طلب العفو عن ذنب المذنب. وفي الاصطلاح الشرعي: الشفاعة عبارة عن طلب بعض الصالحين من الله تعالى أن يتجاوز عن معاقبة المذنبين ويعفوَ عنهم. وهذا الاعتقاد قد جلب أضراراً فادحة بأهل الديانات، وهي تحريف من تعاليم الكهنة الذين ابتدعوا هذا المعنى، وخصوا أنفسهم بهذا المقام كي يكون لهم منزلة بين الناس.

إن الشفاعة بهذا المعنى هي عين الشفاعة الشركية التي كان يعتقد بها المشركون، كما هو معروف لدى العامة والجهّال من الأمة، أنهم يقولون إن النبي ص والأئمة عليهم السلام قالوا – والعياذ بالله –: يا عصاة الأمة، أحبونا فقط ونحن سنشفع لكم غداً يوم القيامة![180].

وإن هذا المعنى يخالف دعوة الأنبياء ويناقض أصول الإسلام ويتنافى مع أصول التربية والتعليم ويلزم عنه أن تصبح بعثة الرسل لغواً وعبثاً. ومَثَلُ ذلك مثل من يقول لطفل: يجب عليك أن تدرس في المدرسة ولكن إذا لم تدرس فلا تخف من المعلم فأنا سآتي وأشفع لك (كي تنجح)!.

هل يمكن أن نتصور أن يأتي النبي الأكرم ص بنواهي وأوامر من عند الله ويقول لنا: عليكم الامتثال بأوامر الله والاجتناب عن نواهيه، ولكن إن لم تفعلوا ذلك، فلا حرج عليكم، فسأشفع لكم.

فلا ريب إن هذا مخالف لتربية الرسل وينافي الهدف من بعثتهم. لقد أبطل الإسلام جميع الأسباب وجعل العمل الصالح سببًا وحيدًا للفوز والفلاح. وأن الشفاعة بذلك المعنى إضافة إلى أنها تتضمَّن شركاً محضاً تجعل الناس يغترون ويتركون العمل.

أما الشفاعة التي يثبتها الكتاب والسنة، فهي الشفاعة التي تكون بعد إذن الله لمن كان مُوحِّدًا ونال رضا الله سبحانه وتعالى. وبعبارة أوضح، لا بد أن يكون المشفوع له موحداً وأن لا يعتقد بشركاء لِـلَّهِ وشفعاء بذلك المعنى الذي ذكرناه، عندئذ فقط يأذن الله لنبيه بالشفاعة لهذا الشخص.

سُئل الرسول الأكرم ص: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ص: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ»[181].

إذن فقد جعل النبيُّ ص تجريد التوحيد أكبر سبب لنيل الشفاعة، وهذا بالضبط عكس ما يقوله المشركون الذين يزعمون أنهم ينالون الشفاعة عندما يتَّخذون الأنبياء شفعاء وأولياء لهم من دون الله.

وببيان أوضح، إن العقيدة الشركية في الشفاعة، هي عين الاعتقاد الذي يعتقده العوام اليوم، الذين يعبدون الأنبياء والأولياء، ويخضعون لهم ويخشعون أمامهم، ويبكون ويتضرعون في مجالس عزائهم ويجعلون محبتهم في قلوبهم، ثم بعد ذلك يرتكبون آلاف الأعمال القبيحة ويظنون أن الأنبياء والأولياء سيشفعون لهم يوم القيامة! فهذه هي عقيدة المشركين الذين لا يعتمدون على العمل الصالح أبداً.

ومن جهل العوام أنهم يقولون: إذا أحببت النبي أو الإمام وتجعله شفيعك عند الله، فإن الله سيرحمك ويعفو عنك، كما يحدث عندما تنشئ علاقة محبَّة وارتباط بينك وبين مقرَّبي مَلِكٍ من الملوك وتجعلهم شفعاء لك عنده، فإن هذا سيجعلك موضعاً للطف الملك بك ورحمته لك! ولا يدري هؤلاء العوام الجُهَّال أن الشفاعة دون إذن من الله مستحيلة: ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ [البقرة: 255]. وأنه بعد أن يأذن الله للنبي ص والأئمة ص بالشفاعة، فإنهم لن يشفعوا إلا لمن كان الله راضياً عنه: ﴿وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ [الأنبياء: 28].

قال الشاعر سعدي:

«إذا لم يكن الله راضياً عن عَبْدٍ، فلن تنفعه شفاعة جميع الأنبياء[182].

وخلاصة الكلام، إنه لأجل التطهير من العقيدة الشركية بشأن الشفاعة لا بد من رعاية ثلاثة أصول:

أولاً: الشفاعة مستحيلة دون إذن من الله.

ثانياً: أن الله تعالى لا يأذن بالشفاعة إلا أن يكون راضياً عن قول وعمل الشخص المشفوع له.

ثالثاً: إن القول والعمل الذي يرضي الله تعالى هو التوحيد الخالص المجرد من شوائب العقائد الشركية، وكذلك متابعة الرسول ص وسنته الصحيحة.

فإذا لم تتحقق تلك الشروط الثلاثة فلن تنفع أحداً شفاعة الشافعين.

قال [مولانا جلال الدين الرومي] صاحب المثنوي:

«قال الرسولص: إذا كنت تريد الجنة من الإله، فلا تطلب شيئاً من أحد.

وعندما لا تطلب شيئاً من أحد، فأنا كفيل لك بجنة المأوى ورؤية الله»[183].

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

[180] ومن ذلك ما رووه عن الرسول ص: أنه قال لعلي: «يا علي إن شيعتك مغفور لهم على ما كان فيهم من ذنوب وعيوب». (الأمالي للصدوق 66، وبحار الأنوار65/7). [المترجم] [181] الحديث مروي من طرق أهل السنة فقط، وهو في صحيح البخاري، ح (99)، ومسند أحمد (2/373). كلهم عن أبي هريرةس. [المصحح] [182] اگر خداى نباشد ز بنده‌اى خوشنود شفاعت همه پیغمبران ندارد سود [183] گفت پیغمبر که جنت از اله چون نخواهی تو شفیعم‬ ‫مر تو را‬ گر همی‌خواهی ز کس‬ ‫ چیزی مخواه جنت المأوی و دیدار خدا‬ وهو إشارة إلى حديث ثَوْبَان س، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: «مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ أَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» . قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا»... (أخرجه ابن ماجه في سننه، 1/588، ح(1837)، وأحمد في مسنده، 37/67، وغيرهما، قال الألباني: صحيح). [المصحح]

(7) في معنى السببية وحقيقتها وخطأ الناس في الأسباب وعدم توجه المشركين إلى مسبب الأسباب

لقد خلق الله تبارك وتعالى مخلوقات العالم في غاية الحكمة والإتقان، وبمقتضى حكمته، جعل لكل موجود سبباً لا يمكن لهذا الموجود أن يوجد دون وجود سببه. والمسلم المتبع للقرآن لا ينكر الأسباب أبداً لأن القرآن صرَّح بوجود الأسباب، فقال تعالى: ﴿وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ [البقرة: 164].

فلكل شيء سبب، ولن يستقيم نظام العالم دون الأسباب: «أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الأُمُورَ إِلَّا بِأَسْبَابِها»[184]. فعمود الخليقة قائم على هذه السنة: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا ٤٣ [فاطر: 43].

[184] «الكافي»، للكُلَيْنِيّ (1/ 183)، ولفظه: «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) أَنَّهُ قَالَ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الأشْيَاءَ إِلا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً...».

[قواعد مهمة بشأن الأسباب والـمُسَبَّبات]

ولكن ثمَّة أمور مهمة ينبغي أن نعلمها بشأن الأسباب والـمُسَبَّبات:

أولاً: إن الأسباب ليست علة تامة[185] تستقل بإحداث المُسَبَّبات، ولا هي الفاعلُ الحقيقي لها، فكل ما تراه من الأسباب هو مقتضيات ومُعَدَّات؛ والفرق بين العلة والمُعدّ، أن العلة تمنح الوجود وتعطيه، أي إذا وجدت العلة يوجد المعلول بالضرورة والبداهة، كما أنه إذا انعدمت العلة انعدم المعلول تلقائياً، وأما الأمر المُـعَدُّ، فلا يوجد المعلول بوجوده كما لا ينعدم المعلول بانعدامه، وذلك مثل وجود الأب بالنسبة إلى الابن، فوجود الأب ليس علَّةً تامَّةً لوجود الابن بل لا بد أن تجتمع شروط أخرى أيضاً، مثل وجود الأم وسلامة نطفة الأب ورحم الأم وانعدام موانع أخرى ووجود ظروف ملائمة مثل الهواء والماء والمواد الغذائية التي يجب أن تأكلها الأم، فإذا وجدت هذه الشروط، وزالت الموانع، وُجِدَ الولدُ عندئذٍ. إذن الأب ليس علَّةً تامَّةً بل هو سببٌ ومُعَدٌّ وبذهاب الأب لا ينعدم الابن. قال تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ ٥٨ ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٥٩ [الواقعة: 58-59]. ﴿أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ ٦٣ ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ ٦٤ [الواقعة: 63-64]. ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ ٦٨ ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ ٦٩ [الواقعة: 68- 69]. ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ ٧١ ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِ‍ُٔونَ ٧٢ [الواقعة: 71-72].

فالعلة الحقيقية هي الله تعالى، إذا رفع عنايته عن العالم لحظةً عاد العالم فوراً إلى عدمه الأزلي. ﴿لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ [البقرة: 255].

فبناء على ما تقدم، فإن السبب المعين غير مستقل في تحصيل المطلوب، بل لا بد من ضم أسباب أخرى له، ورفع الموانع، حتى يتحقق المطلوب.

ينبغي للشخص الموحّد أن يعتقد بأن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها، كما ينبغي له أن لا يعطل الأسباب، بل مع أخذه بالأسباب وتمسكه بها يعتقد بأن مسبِّبَ الأسباب هو الفاعل الحقيقي.

هناك فرقٌ بين تعطيل الأسباب وخلع الأسباب. والموحِّدُ يخلع الأسباب ويعتبر الله تعالى وحده مسبِّبَ الأسباب، ولكنه يأخذ بالأسباب بقدر استطاعته. أما المشرك، فعينه على السبب فقط وينسى الـمُسَبِّبِ، ولقد خلق الله تعالى الأسباب بغاية الإتقان إلى درجة خفي فيها مسبِّبُ الأسباب الحقيقي عن أعين الناس.

فما جاء في القرآن الكريم من إثبات الأسباب في بعض الآيات، ونفيها في بعض الآيات الأخرى، إنما يشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه، من أن الأسباب ليست مستقلَّة.

والناس – إضافة إلى ما عندهم من الشركيات-، فقد ابتلوا أيضاً بشرك الأسباب، فأصبحوا يعتقدون أن كل سبب ضعيف قاضٍ للحاجات:

[قال جلال الدين الرومي في المثنوي:]

«وإني لحائر من قولك بالأسباب، وكما أنني كالسوفسطائية [في خيالاتي لست متحققاً شيئاً] من إلغائك للأسباب.

أريد بصيرة نفاذة فيما وراء الأسباب، حتى تقتلع تأثير الأسباب من الجذور

حتى تبصر المُسبِّبَ في اللامكان، وترى الجهد والكسب والتجارة لغواً بلا تأثير

كل خير وشرٍّ يأتي من المُسَبِّب، فليـس للأسـباب والوسـائط أي تأثير»[186].

ثانياً: هناك بين السبب والمسَبَّب مناسبةٌ وعلاقةٌ خاصةٌّ وليس كل سببٍ يصح أن يكون علَّةً لأيِّ مُسَبَّب. فينبغي أن تكون ثمة خصوصية وعلاقة بين العلة والمعلول، والسبَب والمُسبَّب، وإذا لم نقل بالخصوصية والمناسبة بين السبب والمسبَّب لزم من ذلك الهرج والمرج في نظام العلل والمعلولات فيصبح أي شيء علة لأي شيء دون مناسبة. [وهذا باطل]. فمثلاً، توجد مناسبة بين النار والإحراق، فلا يمكن أن تكون النار سبباً للبَلَل. وبفضل هذه الواسطة والعلاقة الخاصة بين الموجودات، يستطيع الإنسان أن يعلم الموجودات ويحقق الحقائق، وإذا لم تكن هناك علاقة ومناسبة بين الأشياء لامتنع التعليل والاستدلال. فلا يمكن لشيء أن يكون علة لشيء آخر دون مناسبة وخصوصية، فما لم نجد طريق المناسبة والخصوصية لا يجوز أن نحكم بالسببية.

وهناك طريقان للحكم بسببيّة شيء لشيء:

الأول: التجربة. مثلاً، إذا قمنا بتجربة إشعال النار وكررناها، فرأينا أنها تحرق غالباً، حكمنا بأن النار محرقة. وطريقة التجربة طريقة صحيحة في الإثبات، وقد حققت البشرية التقدم والرقي في الماديات من خلال هذه الطريقة.

الثاني: الوحي. أحياناً لا تؤدي التجربة إلى كشف السبب، فهنا لا بد من الاعتماد على الوحي حتى يبين وجود هذه السببية. فمثلاً، جاء الوحي ليبين أن الأعمال الصالحة سبب للسعادة الأخروية، وأن الأعمال السيئة سبب للشقاء الأخروي.

وبهذا نعلم أن لكشف السببية طريقان: التجربة والوحي.

وكثيراً ما يخطيء الإنسان في تعيين سببية بعض الأشياء لبعضها الآخر، فيجعل أمراً ما سبباً لأمر آخر مع أنه ليس سبباً له في الواقع، ولا دليل لديه على كونه سبباً لا من تجربة ولا من وحي، وذلك كأن يقول إن العطسة علامة للصبر، وأن عدد الثلاثة عشر نحس.

***

والحاصل إن هناك خطآن يقع بهما الناس في مسألة السببية:

الخطأ الأول: أن يتصور الإنسان أن شيئاً من أسباب العالم علةٌ تامةٌ، ولا ينتبه إلى أنه ما لم تتعلق مشيئة الله تعالى بذلك السبب، فلا يمكن أن يكون له أي تأثير. «يظن الإنسان أن قَرْيَتَهُ ترزقه، وينسى أن الرزَّاق هو الذي يرزقه»[187] هنا مكمن لنشأة الشك والإلحاد في الدين: فالمعلِّمون الجهلاء يقولون لأتباعهم إن الدعاء الفلاني أو النذر الفلاني علة تامة لقضاء الحاجة الفلانية، فيدعو الشخص بذلك الدعاء أو يقدم ذلك النذر ولا يحصل على النتيجة المطلوبة، فينشأ في نفسه الشك وفساد العقيدة تجاه الدين، ويتصور أن الدعاء والنذر ليست سوى أكاذيب ولا أثر لها مطلقاً، ويغفل عن أن الدعاء والنذر ليسا علة تامة بل هما «مُعَد».

الخطأ الثاني: هو في فهم السببية والتناسب بين العلة والمعلول، فيظن الناس الغافلون أن أي شيء يمكنه أن يكون علة لأي شيء.

وهذا الخطأ سبب لنشأة الخرافات، مثلاً يظن البعض أن نعل الفرس سبب لتوسعة الرزق، وأن خاتم العقيق دافعٌ للبلايا، وأن قدر سمنو (نوع طعام) شافٍ، وأن الشيء الفلاني علامة للسعد والشيء الآخر علامة للنحس. ومثل هذه العقائد، إضافة لكونها شرك بالله، سبب لانحطاط العقل وحيرة الفكر. والمسكين الذي ينطلق من هذه العقائد، يخاف من كل شيء ويتشبَّث بكل وهم ويتمسَّك دائماً بأسباب وهمية، فقد أغلق على نفسه باب الاستدلال العقلي، فهو تائه متحير، لا يدري ماذا يفعل، وأين يلتجئ، يهزُّه كل ريح ويصاحب كل باطل ويعتقد كل يوم بشخص. ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ١٨ [البقرة: 18]

[185] العلة التامة: ما يجب وجود المعلول عندها، وقيل: العلة التامة جملة ما يتوقف عليه الشيء، وقيل: هي تمام ما يتوقف عليه وجود الشيء بمعنى أنه لا يكون وراءه شيء يتوقف عليه. (انظر: التعريفات للجرجاني ص154). [المترجم] [186] از سبب سـازیت من سـودائیم و ز سبب سوزیت سوفسطائیم دیده‌ای خواهم سبب سوراخ كن تا سـبب را بركَنَد از بیخ و بُـن تا مسـبب بیـنَد اندر لا مكان هرزه بیند جهد و اكساب دكان از مسبب می‌رسد هر خیر و شـر نیست اسباب و وسایط را اثـر [187] خواجه پندارد كه روزی دِه دهد او نپندارد كه روزیده دهد

بداية عبادة الأصنام بين البشر

إن سبب عبادة الأوثان واتخاذ الأصنام أمران:

الأول: عبادة النجوم كما بيّناه في باب تحريم التنجيم.

والثاني: عبادة الأموات.

أما عبادة الأموات، فيحتاج بيانها إلى تقديم مقدمة:

يظهر من طقوس دفن الأموات لدى الأمم القديمة، أنهم كانوا يظنون أنهم عندما يدفنون ميتاً فإنهم يدفنون شيئاً حياً معه أيضاً في التراب. فمثلا كان اليونان القدامى كانوا إذا دفنوا الميت، نادوا روحه باسمه ثلاث مرات، ويدعون له بأن يعيش تحت الأرض بسعادة، ويقولون له ثلاث مرات: «ترافقك السعادة وترتاح من كل هم وحزن»، وكانوا يعتقدون ببقاء الإنسان تحت التراب إلى درجة أنهم كانوا يتصورون أن الميت يشعر باللذة والألم في قبره كالأحياء تماماً.

(أما تعاليم الإسلام فتقول إن الروح تتعذب أو تتنعم في عالم آخر غير عالم القبر، يسمى بعالم البرزخ)، وكان اليونان القدامى يكتبون على القبر «هنا مرقد أو مكان الراحة والسكون لفلان». وانتقلت إلينا هذه العبارة بعد قرون، ولا تزال متداولة بيننا اليوم، كأثر باقٍ من المعتقدات القديمة التي وصلت إلينا، هذا في حين أنه لا يوجد مسلم اليوم يعتقد أن القبر ذاته مكان لراحة المقبور الأبدي.

لقد كانت الأمم القديمة، تعتقد بحياة الإنسان تحت التراب إلى درجة أنها كانت تدفن دائماً مع الميت بعض الأغراض، مثل الألبسة والأواني وآلات الحرب، لأنها تعتقد أن الأموات يحتاجونها، حتى أنهم كانوا يصبون الخمر على قبر الميت كي لا يعاني من العطش، ويضعون على قبره الطعام كي لا يتألم من الجوع، بل كانوا يقطعون رؤوس خيول الميت وغلمانه – أي عبيده – ويدفنونها معه حتى يخدموه كأيام حياته.

وبناءً على هذه العقيدة، كانوا يعتبرون دفن الأموات واجباً لأن الروح منوطة بالجسد وعندما يوضع الجسد في مثواه الترابي فإنه يتمتَّع بحياة جديدة. أما الروح التي ليس لها قبر معيَّن فإنها تبقى تائهةً هائمةً بلا مكان، ورغم شوقها إلى الراحة والسكون الأبديين بعد مشقات الحياة وآلامها، لا تصل أبداً إلى الجسم وتبقى تائهةً على صورة شبح لا يجد الراحة ولا يتمتع بالهدايا والأغذية التي يحتاجها، وهذا ما يجعل هذه الروح في عاقبة الأمر سيئة الأخلاق وشرسة، فتبدأ بإيذاء الأحياء وترسل إليهم الأمراض المختلفة وتقوم بإهلاك زروعهم وثمارهم وتخيف الناس لعلها بذلك تدفعهم إلى دفن جسدها وتخليصها من التيه والضياع، وكانوا يعتقدون أنه ما لم يدفن الجسد فإن روحه تبقى شقيةً، فإذا دفن جسدها صارت سعيدة. وكانوا يطلقون على الروح الشريرة لقب الجن والشيطان.

وكما قلنا إن كثيراً من البشر في العصور السابقة كانوا يعتقدون بآداب وطقوس خاصة لدفن الموتى، وكان أحدهم مشغول البال دائماً في أنه هل ستقام عليه تلك الطقوس بعد موته أم لا، وكانوا يرون عدم دفن الميت في القبر أصعب من الموت بمراتب، لأن القبر في عقيدتهم كان محلاً للسعادة الأبدية.

وقد عاقب أهالي أثينا بعض قادة الحروب في المعارك البحرية الذين توانوا عن دفن القتلى واكتفوا برمي أجسادهم في الماء، فأعدموهم؛ ولا عجب في ذلك، لأن أولئك القادة العسكريين كانوا تلاميذ الفلاسفة وكانوا يعتبرون الروح منفصلة ومتميزة عن الجسم، فلما لم يكونوا يعتقدون بالارتباط بين الروح والجسد، لم يكن هناك في نظرهم فرق بين فناء الجسد في الماء أو في التراب لذا كانوا يرمون الجنود القتلى في البحر، أما أهالي اليونان حتى الذين كانوا منهم في أثينا فكانوا لا يزالون متمسكين بعقائدهم القديمة، ولذلك أعدموا مثل أولئك القادة بتهمة الكفر وانعدام الدين، هذا رغم أن فتوحات أولئك القادة حفظت أثينا من ضرر الأعداء، لذا كان أقرباء المقتولين يلبسون الحداد ويطالبون بالانتقام لقتلاهم من ديوان العدل (المحاكم).

وفي المدن القديمة، كان القانون يعاقب أحياناً المجرمين الكبار بحرمانهم من الدفن وطقوسه، وكان ذلك من أشد العقوبات لأنهم كانوا بذلك يعاقبون روح المجرم أيضاً التي كان ينتهي بها الأمر بتلك العقوبة إلى العذاب الأبدي.

كان أقدم تصور للإنسان عن الموت هو أن الإنسان يعيش من جديد تحت التراب وروحه لا تبتعد أبداً عن جسده، بل تبقى في القبر ذاته الذي دفنت فيه عظام الميت. والإنسان الذي يعيش تحت التراب لا تختلف حياته كثيراً عن حالته الأولى بأن يصبح مثلاً مستغنياً عن الطعام، بل إنه لا يزال يأكل ويشرب لذا كانوا يأخذون للأموات الطعام في أواني خاصة في أيام معينة من السنة!

عبادة الأموات

لم يمض زمن على تلك العقائد المذكورة حتى ترتبت عليها تكاليف وواجبات أخرى، فلما كان الأموات في نظرهم يحتاجون باستمرار إلى الأكل والشرب، اعتبر الأحياء أن تأمين حاجة الأموات من واجباتهم، ومن هنا ظهرت عبادة الأموات.

لقد كان الأموات من جملة المقدسات، وكان القدماء يصفون الأموات بأحسن الصفات وأعلاها، فكانوا يعتبرون الأموات صالحين ومطهرين وسعداء وكانوا يقدمون لهم كل صنوف التعظيم التي يقدمها البشر لربهم المحبوب القدير. ولم تكن تلك طقوس التبجيل والتعظيم مختصة بالشخصيات الكبيرة بل كانت تشمل جميع الأموات دون فرق.

كان اليونانيون يعتبرون الأموات آلهة تحت الأرض، وكانت معابدهم هي قبور الموتى. وكانت هذه الطريقة رائجة في الهند أيضاً كما كانت رائجةً لدى الرومان واليونانيين، حيث كان الهنود يصنعون لأمواتهم طعاماً يطلقون عليه اسم «سرادها»، وكان على كل صاحب بيت أن يصنع هذا الطعام من الأرز والحليب وجذور الأشجار والفاكهة كي تعطف الأرواح عليه. وكانت الشعوب الأفريقية البدائية مثلها مثل الشعوب القديمة في الهند واليونان، يعتقدون أن أمواتهم آلهة سعيدة ومبتهجة، ولكن سعادتها منوطة بعدم تقصير الأحياء في أعمال البر والخير، وكانوا يعتقدون أنهم إذا لم يعدوا للأموات طعام الـ«سرادها»، خرجت أرواحهم من مراقدها وتاهت وصارت سبباً لإيذاء الأحياء، وبالتالي فإله الأرواح كان مسالماً طالما كان الأحياء يؤدون طقوس الدين الرائجة تجاهها.

يبدو أن ديانة عبادة الأموات كانت أقدم أديان البشرية.

كانت معابد الناس في البداية مقتصرة على القبور التي كانوا يؤدون لها أنواع العبادات، مثل النذور وذبح وتقديم القرابين وأمثال ذلك، ويطلبون بذلك من صاحب القبر قضاءَ حوائجهم وتفريج كُرَبِهِم.

الأحكام التي وضعها الإسلام لحفظ التوحيد وسد باب عبادة القبور

91- الأمر بتسطيح القبور: ذكر الشهيد الأول[188] في كتابه «الذكرى»[189] روايةً عن أبي الهياج الأسديّ قال: قال علي (÷): «أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رسولُ اللهِ ص أَنْ لا تَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ وَلا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ»[190].

ويقول الشهيد الأول في «الذكرى»[191]: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله سطَّح قبر ابنه إبراهيم. وقال القاسم بن محمد: رأيت قبر النبي ص والشيخين عنده مسطحة... إن قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة مسطحة».

2- وعن جابرٍ «نَهَى رسولُ اللهِ ص أَنْ يُجصَّصَ القبرُ أو يُبْنَى عليهِ أو أَنْ يُقْعَدَ عليه»[192].

3- وفي «من لا يحضره الفقيه» عن الإمام الكاظم أنه قال: «إِذَا دَخَلْتَ الْمَقَابِرَ فَطَأِ الْقُبُورَ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً اسْتَرْوَحَ إِلَى ذَلِكَ وَمَنْ كَانَ مُنَافِقاً وَجَدَ أَلَمَهُ»[193].

4- روى علي بن جعفر عن موسى بن جعفر أنه قال: «لا يَصْلُحُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ»[194].

5- لا يجوز تجديد القبر إذا خرب ولا تجصيصه، كما روى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «مَنْ جَدَّدَ قَبْراً أو مَثَّلَ مِثَالاً، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإسْلامِ»[195].

عن الصادق (ع) عن النبي ص أنه قال: «لا تَبْنُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلا تُصَوِّرُوا سُقُوفَ الْبُيُوتِ»[196].

6- نهى الإسلام عن العبادة والصلاة إلى القبور، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح المحقق والمسلَّم به لدى جميع أهل الإسلام ولا يتطرق الشك إلى صحته أبداً، أن الرسول الأكرم ص قال: «لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي قِبْلَةً وَلا مَسْجِداً، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»[197].

كما نقل الشهيد الأول في «الذكرى» عن الإمام الصادق ÷[198] أنه قال: «لا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلا تُصَلُّوا إِلَيْهَا»[199].

وعَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِيهَا، فَقَالَ: «أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَلا بَأْسَ بِهَا وَلا تُبْنَى عِنْدَهَا الْمَسَاجِدُ»[200].

وقد أجمَعَ الفقهاء على أن الصلاة نحو القبر أو فوق القبر مكروهة، بل إن «ابن بابويه» يعتبر الصلاةَ إلى القبر محرَّمةً. ويقول المحقق الثاني[201] في «جامع المقاصد»: إن الشيخ المفيد والشيخ الطوسي يقولان إن الصلاة في القبور مكروهةٌ مطلقاً حتى ولو كان القبرُ قبرَ الإمام ÷[202].

[188] الشهيد الأول، هو الفقيه الشيعي الإمامي محمد بن مكى العاملي النبطي الجزينى، شمس الدين المتوفى سنة (786هـ). أصله من النبطية (في بلاد عامل)، سكن (جزين) بلبنان. ورحل إلى العراق والحجاز ومصر ودمشق وفلسطين، وأخذ عن علمائها. وصار من أبرز فقهاء الإمامية في عصره. من أشهر كتبه «اللمعة الدمشقية» و«الذكرى» و«الرسالة الألفية». [المصحح] [189] الذكرى (1/67)، ولفظه: ما رواه أبو الهيهاج قال: قال علي ( ع ): «أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله لاَ تَرَى قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ وَلا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ». [المصحح] [190] ورواه الشيخ الطوسي في «الخلاف»، (1/706 – 707)، وروى الكُلَيْنِيُّ في «الكافي» بسنده عن أبي عبدالله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): «بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة فقال: لا تدع صورةً إلا محوتها، ولا قبراً إلا سويته». انظر: «وسائل الشيعة» للحر العاملي، (3 / 209 – 210). وحديث أبي الهياج الأسدي في مصادر أهل السنة، صحيح مسلم، كتاب الجنائز/ ح (969)، وسنن الترمذي، (3/366)، ح(1049) وسنن النسائي، (4/88)، ح(2031)، ومسند أحمد (1/96). [المصحح]. [191] الذكرى (1/67)، لفظه: «وليكن مسطحا بإجماعنا نقله الشيخ [الطوسي] لأن رسول الله صلى الله عليه وآله سطح قبر ابنه ابرهيم. وقال القاسم بن محمد: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وآله والقبرين عنده مسطحة... ولأن قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة مسطحة، وهو يدل على أنه أمر متعارف». وذكر الكلام ذاته العلامة الحلي في كتابه «تذكرة الفقهاء»، (2/ 96 – 98). [المصحح] [192] رواه بلفظ قريب، النوري الطبرسي في «مستدرك الوسائل»، [الطبعة الحجرية]، (1/ص127)، وذكره الحرالعاملي في وسائل الشيعة (2/869)، وفي مصادر أهل السنة، في صحيح مسلم: 11- كتاب الجنائز/32- باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، ح (970). [المصحح] [193] من لا يحضره الفقيه للصدوق (1/115)، ذكرى الشيعة (2/37)، وسائل الشيعة (2/885). [المترجم] [194] تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، (1/461)، ح (148)، ونقله الحر العاملي في «وسائل الشيعة» /باب 44 من أبواب الدفن، ح (3426). [المترجم] [195] المحاسن، لأحمد بن محمد البرقي (ت 274 أو 280هـ)، (ط2، قم، دار الكتب الإسلامية، 1371هـ)، (2/ 612)، ح (33). «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق، (1/189)، ح (579)، ونقله الشيخ الطوسي في «تهذيب الأحكام»، (1/459)، ح (142)، والحر العاملي في «وسائل الشيعة» /باب 43 من أبواب دفن الموتى، ح (6617). [المصحح] [196] المحاسن، (2/612)، ح (32)، «تهذيب الأحكام»، للطوسي، 1/461، ح (150)، وسائل الشيعة /باب 43 من أبواب دفن الموتى، ح (3428)، مختلف الشيعة للحلي (2/315). [المصحح] [197] من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، (1/178)، ح (532). ونقله الحر العاملي في «وسائل الشيعة»، 65- بَابُ كَرَاهَةِ بِنَاءِ الْـمَسَاجِدِ عِنْدَ الْقُبُورِ، ح (3497)، (3/235). وانظر: منتهى المطلب للحلي (1/468)، وعلل الشرائع (2/358)، ومسند الشيعة (4/435) ومناهج الأحكام لميرزا القمي ص102. وقد روى ما يشبهه: الْعَلامَةُ أبو الفتح الْكَرَاجُكِيُّ (339هـ) فِي «كَنْزِ الْفَوَائِدِ»، (قم، دار الذخائر، 1410هـ، (2/ص 152)، ولفظه: «وقال حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: «قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: لا تتخذوا قبري مسجداً ولا تتخذوا قبوركم مساجد ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلواتكم تبلغني وتسليمكم يبلغني‏». وذكر نحوه العلامة المجلسي في «بحار الأنوار»، ج 34/ص 332 وج79/ص 55، بلفظ: «عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفِ بِأَبِي الدُّنْيَا الأشَجِّ الْمُعَمَّرِ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقُولُ: لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيداً، وَلا تَتَّخِذُوا قُبُورَكُمْ مَسَاجِدَ، وَلا بُيُوتَكُمْ قُبُوراً، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي وَتَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي». [المصحح] [198] هكذا قال المؤلف رحمه الله، وهو سهوٌ منه، لأن الذي جاء في كتاب «الذكرى» للشهيد الأول، نقل الحديث عن رسول الله ص، وليس عن الإمام الصادق. وبالمناسبة فإن الشهيد الأول بين أنه إنما نقل هذا الحديث من كتب حديث أهل السنة، حيث قال: «وفي صحاح العامة..» وذكره. [المصحح] [199] «الذكرى»، ص 69، ومنتهى المطلب (1/468)، وذخيرة المعاد للسبزواري (1/343)، وفي مصادر أهل السنة في صحيح مسلم، 11- كتاب الجنائز/32- باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، ح (972). وسنن أبي داود، ح (3231)، وسنن الترمذي (1050)، وسنن النسائي (760)، ومسند أحمد (4/135) كلهم بسندهم عَنْ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ مرفوعاً. [المصحح] [200] الكافي، بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، (3/228)، ح (2)، من لا يحضره الفقيه للصدوق، (1/178)، ح (531)، بحار الأنوار (79/20). [المصحح] [201] يقصد بالمحقق الثاني: الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي، العاملي، المعروف بالمحقق الثاني، وبالمحقق الكركي، وبالشيخ العلائي، مجتهد أصولي إمامي من أعلام فقهاء الشيعة الإمامية في القرن العاشر الهجري، ولد في جبل عامل (بلبنان) ورحل إلى مصر فأخذ عن علمائها، وسافر إلى العراق، ثم استقر في إيران، فأكرمه الشاه "طهماسب" الصفوي وجعل له الكلمة في إدارة ملكه، وكتب إلى جميع بلاده بامتثال ما يأمر به الشيخ، وأن أصل الملك إنما هو له لأنه نائب الإمام الغائب، فكان الشيخ يكتب إلى جميع البلدان بدستور العمل في الخراج وما ينبغي تدبيره في أمور الرعية. توفي في نجف الكوفة سنة 940 هـ وترك عدداً من المؤلفات أشهرها: «جامع المقاصد في شرح القواعد في الفقه» في ست مجلدات، و«صيغ العقود والإيقاعات». [المصحح] [202] انظر: «جامع المقاصد في شرح القواعد»، المحقق الكركي (940 هـ)، (قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408هـ)، (2/135). [المصحح]

زيارة قبور المؤمنين

تهدف الأخبار المذكورة إلى سد باب الوثنية، كي لا يعبد الناس القبور. أما زيارة قبور المؤمنين فلا حرج فيها بل الزائر مأجور عند الله، فقد وردت أحاديث كثيرة في فضل زيارة القبور، خاصة قبرَي الوالدين.

وفي مثل هذه الزيارة، فائدتان:

الأولى: فائدة تَعُمّ الميت والزائر، حيث يسلم الزائر على الميت ويسأل الله تعالى لصاحب القبر الرحمة والغفران ورفع المنزلة والدرجات. وهذا الدعاء والاستغفار بمنزلة صلاة الجنازة على الميت، فينال الداعي أجرها. وفيما يلي [بيان بعض أحكام] الزيارة الشرعية:

فقد قال رسول الله ص لأصحابه، إذا زرتم المقابر فقولوا: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ دِيَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ. يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين[203]‏، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمْ العَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ»[204].

روي عن الرسول الأكرم ص أنه قال: «ما مِنْ أحدٍ يَمُرُّ بقبرِ أخيه المُسْلمِ، كان يعرفه في الدنيا، فيُسَلِّمَ عليه، إلا ردَّ اللهُ عليهِ رُوْحَهُ، حتَّى يَرُدَّ عليه السلامَ»[205]. والله يثيب المؤمن الذي يدعو للميت كما يثيب من يصلي عليه صلاة الجنازة. ولهذا، نهى الله تعالى عن زيارة قبور المنافقين. قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨٤ [التوبة: 84].

وعلى هذا، فلا يجوز طلب الحوائج من الأموات عند زيارة قبورهم أو التوسل بهم بل يجب أن يُسأل اللهُ لهم الرحمة والمغفرة ليكون ذلك فيضاً من الزائر لصاحب القبر.

الفائدة الثانية: الذكرى والعبرة التي تحصل للزائر الذي يشاهد كيف أنه قد دُفن في هذه المقبرة من الشباب اليافع الجميل، والرجال العظماء والأغنياء البخلاء والظالمين والعلماء والفلاسفة والسلاطين الذين كان لكل واحد منهم آماله وأمانيه التي ذهبت معه في التراب؛ ويرى كيف أن التراب قد ساوى بين الغني والفقير والعالم والجاهل والملك والفقير، فعندما ينظر إلى الأموات ويفكر في وضعهم الحالي يدرك أن الدنيا العجوز التي هي عروس لآلاف البشر لا تفي لأحد، فعندئذ تقلّ همّه وغمّه، ويرتاح باله، وينسى آماله وتحصل له السكينة والصبر، ولسان حاله يقول: يا أخي! لا الحاسد يبقى ولا المحسود.

يقول الخواجة عبد الله[206]:انظر إلى المقبرة ولا تكن كالسكارى من الغافلين، كي ترى كيف ضمت المقابر والمزارات مئات الألوف من أصحاب النعم والجاه الذين اجتهدوا وسعوا وغدوا في نار الحرص والأهواء، ولبسوا القلانس المرصعة بالمجوهرات وجلسوا على موائد النعم وملؤوا الجرار من الذهب والفضة، وجمعوا المال بشتّى الحيل، ولكنهم ماتوا وذهبوا بالحسرات بعد أن ملؤوا المخازن وغرسوا بذور حُب الدنيا في قلوبهم، فتركوها في النهاية ورحلوا عنها ثم أُدخلوا من باب الموت وأُشربوا من كأسه على يد ساقي الأجل.

أيها العزيز، فكّر في الموت وجدّ بالعمل قبل أجله، وإلا ويلك من جهنم، واعلم أن أصحاب التراب يلتسمون دعاءك ويقولون بلسان حالهم: أيها الشباب الغافلون والشيوخ الذين أضاعوا عمرهم، إنكم مجانين لا تدركون أننا نائمون في التراب، قد غطت وجوهَنا الأكفان، سرعان ما نسينا أهل الدنيا، نحن أيضاً كنا قبلكم نسير على بساط الدنيا الغَرُور بكل سرور، ونِمْنا على أبهى الأسرة بالراحة والهناء، وكنا نسعى نحو الكمال بأقدام الإرادة، وفي النهاية ذقنا تلك الشربة المرّة (شربة الموت)، فلم نرَ من الدنيا وفاءً ولا للحياة بقاء، بل رأينا أنفسنا فجأة قد قذف بنا إلى الفناء وإلى في تراب المحن والعناء، فلم نر من الأهل والعيال رحمة، ولا من المال والمنال منفعة، وكنا سنقنع بهذه الندامة لو لم تكن أمامنا القيامة. والآن ليس لنا دار ولا فراش، لا مال ولا قماش، ولا وسيلة لخطاب أو نداء، ولا إمكانية لصوت أو كلام، حظنا من الدنيا الحرمان، ولحمنا وجلدنا طعمة للديدان.

واحسرتاه! عندما كانت لدينا إمكانية الفعل والاختيار لم نميز الأمور ولم ندرك الحقيقة فآل أمرنا في النهاية إلى الحيرة والضيق وأسلمنا الروح....

إن كنتم عقلاء فانظروا إلى حالنا الآن.. كل واحد منا يبكي وينوح ويسكب دموع الحسرة على ما قدمته يداه وقد غطته ظلمات، ظلمة الندامة وفوقها ظلمة القبر...

أيها الأحبة! أقبلوا إلى الطريق وانظروا حالنا، لم يعد لنا ذكر ولا لاسمنا خبر، قد تحللت أجزاء أجسامنا وفسدت أبداننا، وخربت بيوتنا وكسدت متاجرنا، وحل محلنا الآخرون وضاع أيتامنا، قد أكل التراب خدودنا، وذبلت ورود وجوهنا، واختلطت شفاهنا بالتراب، وتساقطت أسنانا في اللحد، وسكتت ألسنتنا عن النطق، وتكممت أفواهنا، وفسد نظام جميع أعضائنا، وخبت نيران حرصنا، وطار طائر روحنا من رؤوسنا، ونبتت نبتة الحسرة من تربتنا، فنحن في الأرض المظلمة وأنتم في نوم الغفلة، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَلبَاب. انتهى.

وخلاصة الكلام، أن في زيارة القبور موعظة كبيرة للإنسان، قال رسول الله ص: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ألاَ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»[207].

وكان رسول الله ص قد نهى في البداية عن زيارة القبور، سداً لذريعة عبادة القبور، وحفظاً لحريم التوحيد، فلما انتشر الوعي بين الناس وعرفوا أنه لا يجوز طلب الحوائج من القبور ولا عبادتها، وتمكن التوحيد فى قلوبهم، فعندئذ أذن لهم فى زيارتها، وبين لهم الحكمة والغاية من زيارة القبور، وهي التذكر بيوم القيامة. قال رسول الله ص: «زُورُوا القُبُورَ، فَإِنّهَا تذكرُ المَوْتَ»[208].

[203] رُويَ عن الإمام الصادق كما في «الكافي» للشيخ الكُلَيْنِيّ، (3 / 229)، وفي «من‏ لا يحضره‏ الفقيه» للشيخ الصدوق، (1 /178-179)، ح رقم (533). ولفظه: «وَسَأَلَ جَرَّاحٌ الْمَدَائِنِيُّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع): كَيْفَ التَّسْلِيمُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ؟ فَقَالَ: تَقِفُ وَتَقُولُ: السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، رَحِمَ اللَّهُ‏ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ. وقال الصدوق: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا مَرَّ عَلَى الْقُبُورِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ مِنْ دِيَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُون‏». [المصحح] [204] رواه ابن ماجه في سننه ضمن حديثين كل حديث فيه بعض الجمل المذكورة دون غيرها وهما برقم (1546) وَ(1547) وليس في أي منهما جملة (يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين)، ورويت أجزاء منه في موطأ مالك ح(58) وصحيح مسلم ح(249) وَ(974)، وسنن أبي داود (3239)، ومسند أحمد (6/71 وَ6/111) بسنده عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال نحو ذلك في زيارته لأهل البقيع. [المصحح] [205] رواه الحافظ ابن عبد البر القرطبي (463هـ) في كتابه «الاستذكار» [بيروت، دار الكتب العلمية، (1/185)] بسنده عن ابن عباس... بألفاظ مقاربة، وذكره بهذا اللفظ، الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/325) وعزاه إلى الحافظ ابن عبد البر وصححه. [المصحح] [206] هو الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، ولد بهراة أفغانستان، عام 396هـ وتوفي ودفن بها في عام 481هـ، شيخ بلاد خراسان في عصره. من كبار الحنابلة ، من ذرية أبي أيوب الانصاري. كان بارعاً في اللغة، حافظا للحديث، عارفاً بالتاريخ والأنساب. مظهراً للسنة داعياً إليها. من كتبه: «ذم الكلام وأهله- خ» و «الفاروق في الصفات» وكتاب «الأربعين» في التوحيد، و«الأربعين» في السنة، و«منازل السائرين - ط» و «سيرة الإمام أحمد بن حنبل» في مجلد. والمناجاة (بالفارسية). انظر: الأعلام للزركلي. [المصحح] [207] علل الشرائع، للشيخ الصدوق (2/439)، و وسائل الشيعة، للحر العاملي، ( 14/170)، دون الجملة الأخيرة «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»، بحار الأنوار (63/498) بجملة: «فزيارتها تذكرةٌ»، والمعتبر للحلي (1/339)، والحدائق الناضرة للبحراني (10/21). وفي مصادر السنة روى نحوه مسلم في صحيحه (1977) والترمذي في سننه (1054) وابن ماجه في سننه (1571) وغيرهم. [المصحح] [208] أخرجه مسلم في صحيحه (ح 976) مطولاً، والحاكم في «المستدرك»، كتاب الجنائز، (1/375-376). وانظر: ذكرى الشيعة 2/62. [المصحح]

زيارة قبر الرسول الأكرم والأئمة الهادين سلام الله عليهم أجمعين

قد وردت أخبار كثيرة في فضل زيارتهم في كتب الفريقين عن المعصومين، أن زيارتهم مملوءة بما ينفع في الدارين، وأن فيها أسراراً كثيرة لا تتسع لذكرها هذه الرسالة، سأختصرها بما يلي:

أولاً: إن لزيارة الرسول الأكرم والأئمة سلام الله عليهم أجمعين في حال حياتهم أجر جزيل للزائرين، فكذلك لزيارتهم بعد وفاتهم ثوابٌ جزيل، كما رُوي عن الرسول الأكرم ص أنه قال: «ما مِنْ أحدٍ يَمُرُّ بقبرِ أخيه المُسْلمِ، كان يعرفه في الدنيا، فيُسَلِّمَ عليه، إلا ردَّ اللهُ عليهِ رُوْحَهُ، حتَّى يَرُدَّ عليه السلامَ»[209]. فإذا كان الميت المؤمن يرد سلام الزائر فكيف يمكننا أن نتصور أن سلام زائر قبر النبي والأئمة الهادين يبقى بلا جواب منهم[210]. أشْهَدُ أنَّكَ تَسْمَعُ كَلامِي وَتَرُدُّ جَوَابِي.

ثانياً: أن تلك البقاع المباركة محلٌ عناية الله تعالى ونظره وموضع نـزول الرحمة، فدعاء الداعين فيها جدير بسرعة الإجابة، خاصَّة عند قبر أبي عبد الله [الحسين بن علي] فإن إجابة الدعاء تحت قبَّته[211].

الثالث: ومن أسرار زيارة قبر الرسول ص والأئمة الهداة سلام الله عليهم أجمعين أنه إذا ورد الإنسان على تلك البقاع المباركة، حلَّت في قلبه سلسلة من الفضائل ومكارم الأخلاق، لأن الشخص الزائر يتذكر في نفسه التضحيات والخدمات التي قدَّمها للبشرية أولئك الأجلاء، ويتذكر الزائر وهو إلى جوار صاحب القبر تاريخه الوضاء المليء بالفخار، ولا ريب أن هذا التذكُّر والتدبُّر في سيرة صاحب القبر يبعثان في الزائر روح التأسي به، وكأن صاحب القبر يقول لزائره: لقد كُنْتُ شخصاً موحداً.. لم أشرك بعبادة الله أحداً ولم أعتبر أحداً سوى الله قاضياً للحاجات ومفرِّجاً للكُرَبات، ولم أتوسل بأحد من عباده، وكنت عفيفاً شجاعاً تقياً مضحياً، ولم أخش في قول الحق لومة لائم، فأمرتُ بالمعروف ونهيت عن المنكر، فزيارتك مقبولة إذا تأسيت بي، وتحليت بالشمائل الكريمة والصفات الكاملة والملكات الفاضلة.

أجل، إذا دققنا في الأمر رأينا أن كل بقعة من تلك البقاع المباركة مدرسة للتربية والتعليم، وهذا هو لبّ الزيارة ومقصودها الأعظم لا كما يتصوره العوام.

وأنا شخصياً لمّا تشرفت بزيارة قبر الرسول الأكرم ص ووُفقت لزيارة تلك العتبة المقدسة، ولمّا رأيت نفسي محاذياً للضريح المقدس، هجمتْ عليَّ سلسلة من الخواطر وأخذتني عظمة رسول الله ص، وكأن تياراً كهربائياً خرج من القبر المقدس فمسّ قلبي، فكأني برسول‌الله ص يتلو كتاب الله بصوته الجميل ولحنه العذب، ومرّ أمام ناظري أحداث سيرة هذه الشخصية العظيمة مروراً سريعاً كالبرق، فتذكرتُ أيام غُربته وظلم أولئك الوحوش وآذائهم له، وعظيم صبره وحلمه وحسن خلقه، فقلّبتْ تلك الخواطر كياني وهزتني، وحاولت أن أقول: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّـهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا صَاحِبَ السَّكينَة، فانغلق لساني ولم أستطع أن أقول شيئاً، وأخذ قلبي يخفق، وغلبتني حالة لا أقدر أن أشرحها.. وفي تلك اللحظات، رأيت الشخص المسؤول عند القبر الشريف وقد انتبه إلى حالي فأخذ بيدي وأقعدني في زاوية وقال: شيخنا تفضل...

وخلاصة الكلام أن لزيارة قبور النبيّ والأئمة خواصاً قلّما يدركها الناس.

اللهُمَّ ارْزُقْنَا حَجَّ بَيْتِكَ الحَرام، وَزِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ والأئمة الطاهرين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.[212][209] سبق تخريجه. [210] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلمٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ». رواه أبو داود في سننه (1/319) وأحمد في مسنده (2/227) وقال النووي: إسناده صحيح (رياض الصاحين ح 1409) وقال الألباني في صحيح الجامع الصغير (5679): حسن. [المترجم] [211] الأصل أن لا نثبت خاصية استجابة الدعاء لأي موضع إلا بدليل شرعي صحيح، لأن هذا من الأمور التوقيفية التي لا تثبت بالعقل، وقد ثبت الدليل في تعيين بعض الأماكن وبعض الأزمان بأنها مظانّ الاستجابة، كثلث الأخير من الليل، والملتزم -بين الحجر الأسود وباب الكعبة- وغيرها، ولم يثبت دليل من القرآن والسنة الصحيحة على تعيين أي قبر بأنه موضع استجابة الدعاء. ولتوضيح الأمر أكثر، نقول: الدعاء عند قبور الصالحين قد يحصل اتفاقاً كمن يزور قبر مسلم فيسلم عليه ويدعو لنفسه وللميت، فهذا مشروع، وقد يقع بقصد وتحري بحيث يقصد الإنسان الذهاب إلى قبر معين ليدعو عنده ويطلب حاجاته اعتقاداً ببركة الموضع وأن الدعاء هناك مستجاب. فهذا لم يرد فيه أي نص شرعي معتبر، بل هو منهي عنه، لأنه ذريعة إلى عبادة صاحب القبر، كما أنه نوع من اتخاذ القبور مساجد. وعبادة القبور الآن بين أدعياء الإسلام قد نشأ وتطور عن مثل هذه الزيارة وعن ذلك الاعتقاد. [المحقق] [212] راجع الهامش الرابع، ص164.

(8) سبب ظهور الأوثان وعبادتها

سبق وأن بينا في طيات صفحات هذا الكتاب، أنّ المعابد في بداية الأمر كانت منحصرة بالمقابر ثم بعد ذلك وُجدت الأصنام، وكان الصنم في البداية، جسد الميت الذي يتم تحنيطه (وقد أطلق على تلك الجثة اسم مومياء). حيث كانت أمعاء الميت وأحشاؤه تستخرج من جسده ويملأ بطنُهُ ببعض المواد مثل الكمُّون والمسك والعنبر والكافور والقصب الهندي والصندل، ليحفظوه من التحلل والتفسخ، كما كانوا يضعون مكان عينية حجرتين لامعتين كالياقوت، ولما رأوا أن التحنيط لا يحفظ الجسة تماماً من البلي، قاموا بنحت تمثال للميت من الحجر أو الخشب، فعبدوه أو كانوا ينحتون صورته على تابوت أو على قبر الميت فيعبدونه، وقد أخبر الله تعالى في القرآن الكريم عن هذا الأمر فقال: ﴿وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا ٢٣ [نوح: 23]. أي: قال سدنة المعابد وكهنتها للعوام والسفلة: لا تتركوا عبادة آلهتكم ولا تتخلَّوْا عن وُدّ وسُوَاع ويَغُوث ويَعُوق ونَسْر.

وقد ذكر المحققون من السلف أن هذه الأسماء كانت أسماء خمسة رجال صالحين كانوا قبل نوح ÷ وكان الناس يحبونهم ويجلونهم غاية الإجلال، وبعد موتهم صنعوا تماثيل على صورهم من الأخشاب أو الأحجار فكانوا يعظِّمُونها ثم عبدوها مع مرور الزمان[213].

فتبيَّن من هذه الآية المباركة أن بداية عبادة الأصنام كان عبادة الأموات.

[213] انظر: علل الشرائع للشيخ الصدوق، ، (1/3 – 4)، وتفسير القمي لعلي بن إبراهيم القمي، (2 / 387 – 388)، «تفسير مجمع البيان» للشيخ الطبرسي (10/137– 138) . وفي صحيح البخاري (6/ 160): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «.... أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ».

عبادة الأحجار

لما لم تكن آراء وعقائد الشعوب البدائية المتوحشة مبنيةً على براهين وأسس منطقية، ولذا كانوا يدخلون في عقيدتهم كل ما يخطر في أهانم ثم يلتزمون به ردحاً من الزمن حتى يصبح بعد ذلك جزءاً من دينهم وعقيدتهم، وكانت هذه العقيدة تترسخ فيهم إلى درجة أنهم حتى لو شاهدوا ما يخالفها ويدلُّ على بطلانها ما كانوا يستطيعون أن يرجعوا عنها، ومع مرور الزمن كان تكرارهم لأعمالهم وطقوسهم تلك - المبنية على الأوهام - يتَّخذ صفة القداسة.

سبق أن بينا أن الإنسان البدائي كان يعبد الميت ويقدم له الطعام، وكثيراً ما يدفن الميت في بيته ليعبده. ولما كانوا يغطون القبر بحَجرة ويضعون فوقها الأطعمة تحول هذه الحجرة مع الزمن إلى شيء مقدس وأصبح أهل الميت يظنون أن لتلك الحجرة خصوصية ونسوا أن الحجرة إنما تقدس بسبب مجاورتها للميت، فجعلوا التقدس للحجرة ذاتها، ومن هنا نشأت عبادة الأحجار فكانت اللات ومناة حجرين يعبدهما العرب.

عبادة الأشجار

تعود عبادة الأشجار في أصلها إلى عبادة القبور، حيث أن الإنسان البدائي لم يكن يعلم الزراعة، وكان عيشه منحصراً بصيد الأسماك والحيوانات، ولا يعرفون أنَّ أصل الشجر بذرةً. ومن جهة أخرى، كانوا يعتقدون أن الميت يجوع في قبره، فكانوا يضعون له الطعام من الفواكه والحبوب، وبعد فترة، عندما كانت تنبت هذه الحبوب وتنمو كانوا يعللون ذلك بأن روح الميت قد رضيت عنهم، وأنها أثابتهم على تجليلهم لها بهذه الشجرة التي نمت على القبر وثمارها، فأخذوا يقدسون تلك الشجرة، ومن هنا وُجد في البشر تقديس الأشجار وعبادتها.

تحريم صنع التماثيل ورسم الصور حمايةً للتوحيد

من الصنايع والحِرف التي منع عنها الإسلام، نحت التماثيل ورسم صور [ذوات الأرواح]، والأحاديث التي ذكرناها في الفصل السابق خير شاهد على ذلك، مثل حديث: «... وَلا تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ..»[214]. أو حديث «مَنْ مَثَّلَ مِثَالاً فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإسْلام‏»[215]. وكذلك مثل حديث: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ»[216]. وحديث: «كلُّ مُصَوِّرٍ في النَّارِ»[217].

وسبب النهي عن هذا العمل، -كما بيّنا- أن عبادة الأصنام والأوثان كان مبدؤها عبادة الأموات، حيث كانوا يحنطون الموتى، كي تبقى أجسادهم مدَّةً من الزمن حتى يقوموا بعبادتها؛ ولما رأوا أن التحنيط لا يحفظ جسد الميت بشكل دائم، قاموا بنحت صورة الميت على حجر أو رسم صورته على صخر، ثم بعد ذلك، عبدوا تلك التماثيل أو الأحجار وتبركوا بها. وكما ذكرنا في عقائد الصابئة، أنهم كانوا ينحتون صوراً وتماثيل للروحانيات والكواكب ويعبدونها.

لذلك منع النبي ص عن صنع التماثيل ورسم الصور سداً لذريعة عبادة الأصنام والأوثان وحمايةً للتوحيد، أي فحرمة تلك الأعمال ليست ذاتها بل لحماية التوحيد [وسد ذريعة الشرك].

والعجب أننا أمة التوحيد، استقبلنا برحب جميع أعمال عباد الأصنام، ولم نلق بالاً ما بذله الإسلام من مشقات ومتاعب في هذا المجال، ونسينا فطرتنا التوحيدية، ولم نترك لأنفسنا الاعتزاز بالتوحيد، فأصبحنا نعتقد مكانة ومنزلة بالأحجار والأخشاب ونتقرب بها إلى الله، وأصبحنا نقدم النذور والقرابين لـ(النخل) – وهو صنم مصنوع على شكل جنازة مهيبة -، ولـ(العلامة)- التي هي على شكل صليب النصارى-[218]، وعظّمنا كل صورة مزوَّرة تُنسَب لأحد عظماء الدين. فبالنتيجة، أعرضنا عن حقائق الدين مع أن تعظيم صورة الرسول ص والتبرك بها أو بملامح عظماء الدين حرام، وقَصْد الشارع في تحريم هذين الأمرين هو ما ذكرناه من قبل[219].

ولكن مع الأسف أصبح كثير من الناس يتبركون بكل صورة مُتخَيَّلة مزوَّرة تُنسَب لأحد عظماء الإسلام حتى أن بعض الناس يعلقون هذه الصور في غرف بيوتهم، ويعاملونها بكل أدب وإجلال. مع أن هذا الصنيع وثنية واضحة لا تأت بخير، في حين أنهم لو علَّقوا بدلاً من تلك الصور بعض النصائح أو المواعظ القرآنية أو أقوال أئمة الإسلام لكان أنفع بكثير، إذ كل من يلقي نظرة إليها سيطلع على جوانب من الأخلاق والفضائل.

إذاً فما الفرق بيننا وبين الوثنيين والنصارى؟! الوثنيون يتبرَّكون بالأخشاب والأحجار، ونحن نتبرَّك بمجسَّمة «النخل» ومجسَّمة «موطئ القدم» وأمثالها، والنصارى يتبرَّكون بصورة المسيح ومريم ونحن نتبرَّك بالصور المزوَّرة لأئمَّة الدين!.

ومن الأمور المخزية، أن كل رسام يرسم صورة الرسول الأكرم ص وأئمة الهدى حسب تخيله، فمرة يرسمون النبي ص بصورة شاب وسيم، وأخرى بصورة درويش من دراويش الصوفية، وقد يرسمونه بصورة عربي بدوي، وأحياناً بصورة شيخ زاهد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الأئمة. والغرابة المخزية الأخرى التي تدل على الحماقة والجهل وهي فاضحة للجميع، أنهم يرسمون سيف ذي الفقار الذي بيد عليٍّ (ع) بصورة سيف ذي رأسين ولا يعرفون ما هي فائدة السيف ذي الرأسين، وهل له أثر في الحرب؟! وكيف يمكن لمثل هذا السيف أن يُدخل في غمده. (ذو الفقار كان سيف العاص بن منبِّه الذي قُتل يوم بدر، فأعطى النبي ص ذلك السيف لأميرالمؤمنين. ومعنى: «ذو الفقار» السيف الذي في شفرته حزوز[220]).

يا رب! إن هؤلاء الناس لم يعرفوا سيف علي فكيف يعرفونك ويعرفون حال نبيك وأئمة الدين، ويدركون حقائق الدين؟!

يا ربي! هل سيأتي يوم يفهم هؤلاء الجهلة معاني القرآن ومعاني سنة الرسول؟

يا رب! هؤلاء القوم الذين لا علم لهم بالتوحيد ولم يعرفوا النبي ولا عليا ولا الأئمة الهداة حق المعرفة، هل سيأتي عليهم يوم يعرفون فيه القرآن وسنَّة الرسول ويفهمون القرآن حق الفهم ويتمثلون أخلاق الإنسانية وآدابها.

يا رب! أولئك الذين لا علم لهم بالتوحيد ولم يعرفوا النبي ولا عليا ولا الأئمة الهداة حق المعرفة، ولا يفهمون القرآن، فهل نتوقع منهم أن يتحلوا بالأخلاق والآداب الإنسانية.

وخلاصة الكلام، لقد نهى خاتم النبيين عن رسم الصور على الستائر ونحت التماثيل والمجسمات التي تُعظَّم وتُبَجَّل، لأن ذلك من شأنه أن يزلزل أركان التوحيد ويبعد الناس عن طريق عبادة الله وحده.

وَصَلَّى اللَّـهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

[214]«بحار الأنوار»، ج79/ص18، سبق تخريجه مفصلاً في صفحة 157. [المصحح] [215] معاني الأخبار للصدوق 181، وسائل الشيعة 16/430، بحار الأنوار 69/220. [المصحح] [216] لم أجده في مصادر الحديث الشيعية بهذا اللفظ، وأقرب ما يوجد إليه هو ما رواه البرقي في المحاسن (2/616) عن أبي جعفر الباقر قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هُمُ الْمُصَوِّرُونَ يُكَلَّفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخُوا فِيهَا الرُّوح‏». والحديث مشهور في مصادر أهل السنة، مثل صحيح البخاري (5606) وصحيح مسلم (2109) وغيرهما عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. [المصحح] [217] بحار الأنوار 80/245. وفي مصادر أهل السنة، صحيح مسلم (3/1670)، ح(2110)، ومسند أحمد (5/23)، ح(2809). [المصحح] [218] «النخل» و«العلامة»: عبارة عن مجسمات معدنية أو من الخشب ذات شكل خاص تعلق عليها الأعلام وأسماء الأئمة وأجسام معدنية بشكل راحة اليد إشارة للخمسة، أصحاب الكساء يحملها الشيعة في مقدّمة مواكب العزاء الحسيني التي يسيرون بها يوم عاشوراء. [المصحح] [219] أي قطع الطريق الموصل إلى الشرك. [220] الفقار: هو المُفْتَقَر من السيوف الذي فيه حزوز مطمئنة عن متنه، يقال: سيف مُفَقَّر، وكل شيء حُزَّ أو أُثِّر فيه فقد فُقِّر، وفي الحديث: كان سيف النبي ص ذا الفقار.. شبهوا تلك الحزوز بالفقار، قال أبو العباس: سمي سيف رسول الله ص ذو الفقار لأنه كانت فيه حفر صغار حسان. (لسان العرب5/63).

التوحيد مبدأ الفضائل

قال الله تعالى: «كلمةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي»[221].

إذا طالعتم صفحات هذا الكتاب بدقة أدركتم أن حقيقة التوحيد هي الإعراض عن غير الله والابتعاد عما سواه، وتبين لكم أن لبّ التوحيد هو عدم طلب الحوائج وذبح القرابين أو السجود أو الركوع لغير الله تعالى، وفهمتم أيضاً أن مقصد التوحيد أن لا يعتقد الموحد أن للأيام سعداً أو نحساً وأن لا يتوسل إلى الله بأي وسيلة سوى العلم والعمل الصالح. وخلاصة الكلام، أن التوحيد هو التفطن إلى حقيقة كلمة لا إله إلا الله.

ليس هناك فرق كبير بين المسلمين في هذا العصر وبين مشركي الجاهلية، سوى أن المشركين في عصر النبي ص كانوا أهل اللغة العربية ويفهمون بقريحتهم معنى كلمة «لا إِلَهَ إِلا الله»، أما المشركين من أهل اللغة الفارسية، فإنهم لعدم معرفتهم باللغة العربية لا يفهمون معنى هذه الكلمة. والدليل على ذلك، أن النبي ص لما قال: «قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا الله تُفْلِحُوا» علم مشركوا ذلك العصر بعد ما سمعوا هذه الكلمة أن تصديقهم بهذه الكلمة يوجب عليهم أن يبتعدوا عمَّا سوى الله، وأن لا يطوفوا حول الأصنام ولا يعبدوا الملائكة، وأن لا يعتقدوا في عيسى أنه ابن الله، وأنه قاضٍ للحاجات، وأن لا يعتبروا مريم باب الحوائج، وأن يعتقدوا بأن سعد الكواكب ونحسها عقيدة باطلة، وفي النهاية أن تلك الكلمة تلزمهم أن ينبذوا الأصنام، ويحطموا تلك الأحجار التي كانوا يذبحون عندها القرابين ويقدِّسونها، وعلموا أن عليهم أن يحرقوا تلك الأشجار التي كانوا ينذرون لها النذور وينحرون لها القرابين، وأن يعرضوا عن الأحبار والرهبان الذين كانوا يعتبرون التقرب إليهم تقرباً إلى الله زلفى، وأن يكفروا بالطاغوت، أي الكهنة وسدنة معابد الأصنام. وباختصار، كان عليهم أن لا يعتبروا أحداً سوى خالق العالم مؤثراً في هذا الوجود.

ومن البديهي أنه كان لكل من تلك الأصنام والأحجار سدنة يستفيدون من عبادة الناس لها ويسترزقون مما يقدمه الناس لها من نذور وصدقات. فكانت عزتهم مرتبطة بتلك الأصنام فإذا زالت انقطع خبزهم وذهبت مكانتهم وانهدمت حياتهم وصاروا إلى عناء وشقاء، لذا لا عجب أن يرفضوا قول كلمة التوحيد تلك، وأن يكذّبوا النبي ص، رغم أن الرسول الأكرم كان يقول لهم: «أمرت أن أقاتلكم حتى تقولوا لا إله إلا الله».

في الواقع لقد كان التصديق بتلك الكلمة، معناه استئصال الخرافات وانهدام معابد الأصنام وزوال الأوهام وجميع العقائد الشركية، فلهذا لم يستطع المشركون أن يتحملوا هذا المعنى، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥ [ص: 5]

كان أهل الجاهلية فئتين:

1- الأولى: فئة العوام الذين لم يكن لهم رأي ولا تفكير بل هم همج رعاع، أتباع كل ناعق، يحرّكهم كل ريح ويلعب بهم كل كاهن ودجال.

2- الفئة الثانية: هم الكهنة وسدنة معابد الأصنام وأحبار اليهود والنصارى الذين كانوا دائماً وفي جميع العصور يستفيدون من جهل الناس وسيطرة الأوهام عليهم ويسترزقون من ضعف الجماهير وجهلهم ويعيشون على امتصاص عروقهم ودمائهم.

وقد سمى ابن رشد القرطبي هذا الفريق بـ«الجناة على العقول»، فقال: إن الناس يحصرون المجرمين بالسارقين والقتلة والسلاطين المتجبّرين مع أن جريمة هؤلاء أقل بالنسبة إلى جريمة ذلك الفريق. فهؤلاء المجرمون يجرمون بحق أموال الناس وأبدانهم في زمنهم فقط، بينما جناية علماء السوء بحق عقول الناس وأرواحهم حيث يزرعون في أدمغتهم العقائد والآراء السخيفة التي تحط من إنسانيّتهم، وإذا استحكم هذا الجهل والحمق والتيه في الناس وضربت جذورها في نفوسهم انتقلت عنهم إلى ذرياتهم وأخلافهم، فلم تنحصر جناية هؤلاء في قرنهم بل امتدت إلى قرون متمادية من بعدهم.

إن هذا الفريق من الكهنة وسدنة معابد الأصنام وقفوا في وجه الرسول الأكرم ص وعارضوه أشد المعارضة، ولم يكن ذلك عن قناعة منهم بعقيدتهم ودينهم، إذ كانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تقضي الحوائج ولا تكشف الكُرَب، ولكنهم عادوه لأنه رأوا في دعوته تهديداً لمنزلتهم وجاههم ورزقهم الذي ارتبط بهذه الأصنام والخرافات والأوهام، فكانت حربهم للرسول الأكرم ص في الواقع حرباً اقتصادية لا حرباً دينيةً.

لقد بدأ الرسول الأكرم ص بدعوة سدنة الأصنام والكهنة إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة وأقام عليهم الحجة لأنه كان يعلم أنه طالما يستفيد هذا الفريق من الكهنة من عوام الناس فإنهم لن يصدّقوا بالنبي، لأن تصديقهم بدعوته معناه تكذيبهم لأنفسهم والقضاء على حياتهم المادية ورئاستهم الروحية (الدينية)، ولهذا السبب لجأوا إلى اتِّهام النبيِّ ص والافتراء عليه.

ولما رأى الرسول الأكرم ص أنه لا يمكن أن يُبعد الكهنة وسدنة الأصنام عن عامة الناس، توجه إلى دعوة الجماهير وتربيتهم، وبذل في هذا الطريق جهوداً جبارة، واعتنى بالشباب عناية خاصة، فكان سيد الشباب أمير المؤمنين علي (ع) أول من آمن بالرسول ص. وبدأت دعوة التوحيد تؤثر في نفوس الناس شيئاً فشيئاً. وبعد جهود جبارة، تمكن الرسول الأكرمص في آخر الآمر من رفع راية التوحيد على الكعبة وحطّم الأصنام وهدم معابدها، ووضع تاج التوحيد على رأس المسلمين، وجعل قدم الموحّد على ثرى الثريا، ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا ٨١ [الإسراء: 84].

وبعد الإيمان والتصديق بكلمة «لا إِلَهَ إِلا الله»، تحول أولئك الذين كانوا يعبدون الأصنام ويعتقدون للأيام سعداً ونحساً ويخافون من كل شيء ويتوسَّلون بكل شيء، ويطلبون منها الحوائج، والذين كانت حياتهم تموج بالفوضى والاضطراب، يقاتلون بعضهم بعضاً، تحولوا إلى أمة تتمثل بجميع الفضائل الأخلاقية.

فكيف لا تكون كلمة لا إله إلا الله مبدأً للفضائل؟! إن الشخص الذي لا يعتقد بمؤثر غير الله الرحمن الرحيم سيكون بالتأكيد مسلماً شجاعاًً، لأنه لا يتوكل إلا الله خالق العالم: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ [يونس: 62]. لا يخاف الموت بل يحبه، لأنه يؤمن بأنه سينال بالموت لقاء ربه، ويصل إلى السعادة الكبرى ويرتاح من هم الدنيا وعذابها.

وكيف لا يكون التصديق بكلمة التوحيد مبدأ لسخاء النفس؟ فالذي يعبد الله القدير ويعتقد بأنه القادر المطلق فسيُنفق في سبيله ولا يخشى الفقر: ﴿ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ [البقرة: 268].

وكيف لا يكون التوحيد منشأً وسبباً للعفّة، والموحد يعتقد أن الله تعالى مطلع بكلّ خفي وظاهر، وعالم بالجزئيات والكليات: ﴿وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا [الأنعام: 59] ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ [البقرة: 255]. فالموحد عفيف لأنه يعلم أن الله عالم بضمائر القلوب وأعمال الجوارح وأنه أقرب إليه من حبل الوريد وأنه حكيم وعادل، ويؤمن أن المجازاة على الأعمال الصالحة والسيئة بيده سبحانه، وبالتالي يعيش في غاية العفة والطهارة ولا يسمح لنفسه أن يتخطى حدود الأخلاق.

وإذا تمكنت العفة والشجاعة والسخاء في نفس الموحد وترسخت فيها، استقام عقله ولزمت نفسه التقوى، فعندئذ يتمكن من تمييز الحق والباطل، كما قال سبحانه: ﴿إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا [الأنفال: 29].

فعلمنا أن كلمة «لا إِلَهَ إِلا الله» كما أنها ترتقي بالعقل وتقتلع منه أشجار الخرافات والأوهام من جذورها، كذلك تثبّت في النفس جميع الفضائل. فكلمة التوحيد الطيبة أصل الفلاح والنجاح ومبدأ التعليم والتربية وسبب الرقي للإنسان. وباختصار، أنه غير معتمد إلى أصل أصيل، ليس عنده قاعدة راسخة ولم يلبس لباس التقوى، عقله معوَج منحرف لا يمكنه أن يصدق الكلام الحق، وهو ألعوبة بيد الحوادث والدجالين لأنه لم يلجأ إلى ركن مكين ولم يتمسك بالعروة الوثقى (لا إله إلا الله)، فكل ريح تهزه وكل شيء يخيفه. ﴿وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ ٣١ [الحج: 31]. وكلمات هذه الآية من التشبيهات المركبة، أي أن كل من ينحط من أوج التوحيد إلى حضيض الشرك وعبادة غير الله، فإن أهواء النفس تجعله مضطرباً حائراً، ورياح الضلالة والوساوس الشيطانية تطيح به في أودية الشقاء والتيه والضياع وتودي به إلى الهلاك.

وبالطبع من كان فكره مشوشاً دائماً لن يكون عمله متقناً، لأن الفكر أساس العمل. ومن لم يكن له ميزان صحيح للأعمال، صدرت عنه الأعمال السيئة، حتى وإن عرف ذلك من نفسه وأراد إصلاحها، فإنه قد ضلَّ الطريق إلى ذلك فيتوسل بأسباب لا تنفعه أبداً في إصلاح عمله، فمثلاً تراه يرتكب الفاحشة، ثم يحاول إصلاحها بالتوسل بالأموات والذبح وتقديم القرابين للأوثان والسجود لغير الله؛ أو تراه إذا أكل أموال الناس بالحرام، ثم أراد التوبة من ذلك، قام بإنفاق بعض المال على الكهنة أو سدنة الوثن، وإذا أكل الربا ثم إذا أراد إصلاح ذلك أنفق صاعاً من السكر المجمد [على القبور والزيارات]، وهكذا، ويظن أن هذا سيطهره من إثمه.

إذا تأملنا حال الناس بدقة أدركنا أن سبب فسادهم هو الشرك، وأن الانحطاط الخُلُقي لمجتمعنا سببه توسل الناس بغير الله، وسبب الرذائل الحاكمة على مجتمعاتنا هو عدم معرفة الناس بالله تعالى حق المعرفة.

يقول الله تعالى [في الحديث القدسي]: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي».

خلاصة الكلام أن المعتقد بـ «لا إِلَهَ إِلا الله» يجد في نفسه آداباً عظيمة، وفي ذاته أخلاقاً فاضلة، رغم أنه لا يفهم مصطلح الفضيلة؛ وهو شجاع عفيف حكيم عادل سخي، رغم أنه لا يعرف تعريف تلك الصفات.

إن الحرية التي هي أمنية البشرية والتي يتحدث عنها الفلاسفة مختصَّةٌ بالموحِّد. لأن الموحِّد متحرِّرٌ من الغضب والشهوة لأنه عبدٌ لِـلَّهِ وهو مسيطر عليهما. والموحِّدُ متحرِّرٌ من الأوهام لأنه اجتثَّ شجرة الأوهام بفأس التوحيد. والموحِّدُ طرح عن كاهله ثقل الخرافات والاعتقاد بسعد الأيام ونحسها وعبادة الأحجار والأشجار، وعبودية العباد؛ فهو لا يسمح لأحد أن يركب على ظهره، فهو حرٌّ وليس حماراً مركوب؛ وهو –حسب اصطلاح الفلاسفة- صاحب الحكمة والحرية.

والمجتمع الذي يتشكل من أمثال هؤلاء الموحدين أو يشكل أكثريته الموحدون، هو المدينة الفاضلة ذاتها التي بُعث الأنبياء لبنائها وكانت أمنية فلاسفة العالم. ومن الواضح أن مثل هذا المجتمع لا يعرف الشقاء بل ينعم بالسعادة والهناء.

أيها المسلمون! استيقظوا من نوم الغفلة، وألقوا عن كاهلكم أثقال الشرك والخرافات، وتحرروا حتى تفلحوا. «قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا».

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

[221] رواه الصدوق في معظم مؤلفاته الروائية مثل: «الأمالي»: المجلس الحادي والأربعين، ص195، ح (8)، ورواه في «التوحيد» و«معاني الأخبار» و«إكمال الدين». ورواه الطوسي في كتابه «الأمالي»، ص 279، ح (536). وفي مصادر أهل السنة، ذكره المتقي الهندي في كنز العمال وعزاه إلى ابن عساكر في «تاريخ دمشق» وابن النجار في «تاريخ بغداد» بسندهما عن علي (ع). انظر كنز العمال ح (158) و(235) و(1769). [المصحح]

(9) في بيان سبب نشأة الشرك والخرافات بين المسلمين

لما سيطر الإسلام على معظم مناطق المعمورة بالمنطق الصحيح والبرهان القويم، ودخل كثير من الأمم تحت سلطان الإسلام وحكمه، فانمحى سلطان تلك الأمم وذهبت عظمتها أمام عظمة الإسلام، كان من الطبيعي أن تتولَّد في قلوب بعض أبناء تلك الأمم عداوة وبغضاء تجاه الإسلام، فكانوا يتحينون الفرصة للهجوم على هذا الدين، ولكن لما كان الإسلام قوياً عظيم الشوكة لم يكن في مقدورهم أن يحاربوه بالسيف، فلجؤوا إلى المكر والحيلة، فتظاهروا بالإسلام وعملوا في الباطن على تخريبه من الداخل، وشكلوا ما يُسَمَّى بحزب المنافقين، وكان على رأس المنافقين، «عبد الله بن أبي» الذي كان يعيش في عهد الرسول ص.

لقد دبَّر المنافقون حيلةً جديدة لمحاربة الإسلام، تمثلت في أن يدُسّوا في تعاليمه، أقاويل فاسدة وخرافات وأباطيل مما كان بعضها في بعض الأديان الباطلة، وبعضها اخترعوها من عند أنفسهم، ونسبوها للساحة المقدسة لشارع الإسلام.

هذا الفريق من المنافقين كانوا قد سيطروا على ثقافة الإسلام: فبدأ جماعة منهم يعملون عملهم التخريبي تحت اسم رواة الحديث مثل «كعب الأحبار»[222] اليهودي، في حين عمل آخرون منهم كمفسرين للقرآن، وآخرون باسم الوعاظ، وبعضهم باسم العالم، وبعضهم باسم المؤرخين، فتسلح الجميع بسلاح علوم التفسير والحديث والفقه والتاريخ، وحملوا على الإسلام حملةً عنيفة، ونسبوا إليه كلاماً سيئاً مخالفاً للعقل، وفعلوا ما لا ينبغي أن يفعلوه.

لقد كان الهدف الأساس للمنافقين أن يصوِّروا الإسلام بصورة منكرة غير معقولة، ونجحوا إلى حد ما في مسعاهم هذا، فتمكنوا بذلك من طمس كثير من الخصائص التي امتاز بها الإسلام على سائر الديانات.

إن الإسلام دين العقل والمنطق والفطرة، وهو دين التوحيد وعبادة الله وحده، والابتعاد جميع الأوثان والأصنام. الإسلام دين الفضيلة والأخلاق، ودين الصبر والشجاعة، ودين العلم والعمل الصالح. الإسلام شريعة الإنسانية. لقد منح الإسلام البشرية حرية النفس والعلم والعقل. لقد أنقذ الإسلام البشرية من ربقة الكهنة، ونفى الواسطة بين الخلق والخالق. وألغى الإسلام عبادة القبور والأحجار وعبودية غير الله. وحينما كان أيُّ شخصٍ يُسلم ويعتصم بالقرآن لم يكن بحاجة إلى واسطة بينه وبين الله. وحرّم الإسلام التقليد الأعمى، ونهى عن العمل بالظن.

من البديهي أن هذه التعليمات العالية الرفيعة التي جاء بها الإسلام تغلق أبواب المتاجر والحوانيت التي يتكسب بها الدجالون باسم الدين، وتسد عليهم باب الانتفاع من الدين. ولذا شمّروا عن ساعد الجد من أجل المحافظة على منزلتهم الدينية السابقة ومنافعهم القديمة، فاختلقوا في مواجهة كل مقصد من مقاصد الإسلام أحاديث تناقض تلك المقاصد ونشروها في العالم الإسلامي. ومن هذا الباب، دخلت إلى الإسلام مقالات لليهود والنصارى والصابئة والمجوس، لو أردنا الحديث عنها بالتفصيل لاحتجنا إلى كتاب ضخم.

وهكذا اختلطت مقاصد الإسلام وحقائق الدين بتعاليم المذاهب والأديان الباطلة إلى درجة فاضمحلّت الخصائص التي ميّزت الإسلام عن سائر الأديان، وتشوهت الصورة الحقيقية الناصعة لهذا الدين.

واليوم إذا تأملنا وضع المسلمين جيداً لم نجد بينهم وبين أتباع الملل والأديان الباطلة فرقاً في العقائد والأعمال.

فالصابئون يقدِّسون الكواكب ويعتقدون أنَّ للأيام سعداً ونحساً، وتوجد هذه العقيدة أيضاً بين المسلمين بشكل أشدّ، حيث يدونون كل سنة تقاويم تُعيِّن سَعْد بعض الأيام ونحْس بعضها، وينشرونها بين المسلمين، وهي إذا دقَّقْنا فيها بمثابة رسالة عملية لفرقة الصابئين[223].

والنصارى يطلبون حوائجهم من المسيح ومريم عليهما السلام . والمسلمون أيضاً يطلبون حوائجهم من النبي ص ومن الأئمة سلام الله عليهم ومن الأولياء.

واليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، والمسلمون أيضاَ اتخذوا الأولياء والشيوخ المرشدين أرباباً.

وكان المشركون يذبحون القرابين لغير الله، والمسلمون أيضاً يذبحون القرابين للصالحين من أولاد الأئمة.

المشركون عبدوا الشجر والحجر، والمسلمون أيضاً يتبركون بالأشجار والأحجار.

وعدوان آخر من المنافقين على الإسلام -والذي يستحق أن يبكي له المسلم دماً-، هو نسبتهم أحاديث وأقوال ركيكة مخالفة للعقل إلى النبي ص والأئمة الهداة عليهم السلام ، كي يخرجوا من الإسلام من له أدنى عقل. وفي هذه العداوة بلغوا مبلغاً شوَّهُوا به دين الإسلام وصوَّروه بصورة دين مليء بالخرافات والأباطيل بحيث أن من كان عنده ذرة من الرشد والتمييز سيرفض هذا الدين حتماً من أول نظرة يلقيها عليه. وذلك كنسبتهم للنبي ص أنه قال: أنا سيد الأنبياء والماء سيد المشروبات والباذنجان سيد الخضرواتَ. وذكروا في الكتب أن من خصائص النبي ص أنه كان إذا نظر إلى امرأة فأعجبته، حَرُمَت تلك المرأة على زوجها! وكتبوا في معجزات النبي ص أنه لمَّا وُلد رضع الحليب من ثدي أبي طالب لمدة سبعة أيام، فكان بذلك أخا عليٍّ من الرضاعة![224]، ونسبوا إلى النبيص أنه قال: إن الأرض على قرن ثور والثور على ظهر حوت يسبح في البحر فكلما هز الثور رأسه وقعت الزلازل في الأرض[225]. كما افتروا على الأئمة الأطهار افتراءات كثيرة، كقولهم مثلاً إن الإمام الصادق قال إن حمرة السماء في بداية الليل التي يطلق عليها اسم الشفق هي دم عليٍ الأصغر ابن الحسين.

وأبشع من هذا كله، كتاب يسمى «ضياء عيون الناظرين»، أُلِّف في عهد الصفويين، وقد وُضِعَ هذا الكتاب في مقدِّمَة بعض المصاحف المطبوعة في طهران، وكله كفر ومخالف لتعاليم القرآن ومناقض لأسس الإسلام، كما احتوى الكتاب على خواص نقش خاتم النبوة والنعل المبارك (نعل النبي ص)، وأشكال ورسوم من افتراءات اليهود، ونقل في هذا الكتاب خواصاً عجيبة وغريبة لهذه الأشكال والرسومات عن النبي ص وأئمة الدين، مما يجلب الغزي والعار للإسلام والمسلمين؛ فمن ذلك روايتهم عن أمير المؤمنين ص في بيان خواص أحد تلك النقوش أنه قال: إن كل من نظر إلى هذا النقش المكرَّم مَرَّةً غُفِرت له ذنوب سبعين عاماً، وإذا نظر إليه مَرَّتين عفا الله الكريم عن جرائم أبيه وأمه وغفرها لهما بكرمه، ومن نظر إليه ثلاث مرات غفر الله الغفار الغني ذنوب كل أمة صاحب الرسالة!

إذا تأملنا جيداً أدركنا أن من وضع هذا الحديث عدوٌّ للدين ولأمير المؤمنين، فكل من كان لديه مثقال ذرة من عقل يضحك من هذا الحديث، إذْ ما هي المناسبة بين نظر شخص ثلاث مرات إلى نقشٍ أو رسمٍ وغفران الله لذنوب الأمة كلها؟!

وفيه أيضاً طلسم ونقشٌ آخر، ذكروا في فضله خبراً عن أمير المؤمنين أنه قال: إن كل من نظر بعد صلاة الفجر إلى هذا النقش كان كمن حجَّ خمسين حجة مثل حجة آدم ومن نظر إليه بعد صلاة الظهر كان كمن حجَّ ثلاثمائة حجة حجها إبراهيم ومن نظر إليه بعد صلاة العصر كان كمن حجَّ سبعمائة حجة كحج يونس ومن نظر إليه بعد صلاة المغرب كان كمن حجَّ ألف حجة كحج موسى ومن نظر إليه بعد صلاة العشاء كان كمن حجَّ ألف حجة كحج خاتم النبيين! والكتاب مليء بأمثال هذه الترَّهات والأوهام والكفريات. سبحان الله! ما معنى أن ينظر شخص جاهل فاسق إلى شكل أو رسم فيثيبه الله ثواب ألف حجة حجها سيد الأنبياء؟!!

وهناك الكثير جداً من أمثال هذه الأخبار الموضوعة والمكذوبة التي تدل على كفر راويه (واضعه) وعداوته للإسلام، مما لو أردنا أن نتكلَّم عنها لاحتجنا إلى مجلَّدات ضخام، مما يخجل المرء من نقلها. ومن الواضح جداً بأن هدف واضعي تلك الأحاديث لم يكن سوى الاستهزاء بالقرآن وبشريعة سيد المرسلين: ﴿ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ١٥ [البقرة: 15].

لاحظوا... هل يبقى عاقل في دين الإسلام إذا رأى هذه الأخبار الخرافية والعقائد الفاسدة والأعمال الرذيلة؟

أيها المسلمون! افتحوا أعينكم واستيقظوا من نوم الغفلة؟ واعرفوا دين الإسلام الحقيقي الصحيح، وميِّزوا بين الحق والباطل كي لا يزول الإسلام ويرجع إلى صفائه الأولي ونوره الساطع.

لماذا يخرج الناس من دين الله؟ لأنه قد أصبح ديناً مليئاً بالأوهام والخرافات ولم يبقَ له من الإسلام الحقيقي إلا الاسم؟ فكيف يتوصّل الناس إلى حقيقة الإسلام؟ وكيف يتعرّف الناس على حقائق الدين وشريعة سيد المرسلين مع وجود هؤلاء الدجالين وقطاع طريق الهداية في الإسلام الذين هم من أكبر حماة الخرافات والمروجين لها؟

إن طريق النجاة هو اللجوء إلى كتاب الله وسنة خاتم النبيين ص.

إذا تمسك المسلمون بهذين المشعلين النَّـيِّرَيْن أمكنهم أن يجتازوا صحراء الطبيعة المظلمة ويصلوا إلى منازل السعادة، وإلا فسيبقون فريسةً للدجالين وستكون عاقبتهم الهلاك.

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

وأختم الكتاب بهذا الدعاء المبارك من الصحيفة الملكوتية السجادية [226]:

وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِخَوَاتِيمِ الْخَيْرِ: «يَا مَنْ ذِكْرُهُ شَرَفٌ لِلذَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ شُكْرُهُ فَوْزٌ لِلشَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ طَاعَتُهُ نَجَاةٌ لِلْمُطِيعِينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ. فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلامَةٍ لا تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلا تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ، حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا. وَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُ حَيَاتِنَا، وَتَصَرَّمَتْ مُدَدُ أَعْمَارِنَا، وَاسْتَحْضَرَتْنَا دَعْوَتُكَ الَّتِي لا بُدَّ مِنْهَا وَمِنْ إِجَابَتِهَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ خِتَامَ مَا تُحْصِي عَلَيْنَا كَتَبَةُ أَعْمَالِنَا تَوْبَةً مَقْبُولَةً لا تُوقِفُنَا بَعْدَهَا عَلَى ذَنْبٍ اجْتَرَحْنَاهُ، وَلا مَعْصِيَةٍ اقْتَرَفْنَاهَا. وَلا تَكْشِفْ عَنَّا سِتْراً سَتَرْتَهُ عَلَى رُءُوسِ الأشْهَادِ، يَوْمَ تَبْلُو أَخْبَارَ عِبَادِكَ. إِنَّكَ رَحِيمٌ بِمَنْ دَعَاكَ، وَمُسْتَجِيبٌ لِمَنْ نَادَاكَ»[227].

[222] هو كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، كان من أهل اليمن فسكن الشام. أدرك النبيص وأسلم في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر. توفي في آخر خلافة عثمان سنة:32. يرى طائفة من العلماء لاسيما من الشيعة أنه لم يخلو من كذب، وفي المقابل يزكّيه آخرون من علماء أهل السنة ويرون أن الكذابين من بعده نسبوا إليه أشياء كثيراً لم يقلها أو يرويها. وقد كان يحدث بما يعلمه من أخبار بني إسرائيل ولا حرج في ذلك، ولم يثبت عنه شيئ نسبه من ذلك إلى نبينا محمد ص. انظر: منتهى المقال 5/255، سير أعلام النبلاء 3/489. [المترجم] [223] انظر على سبيل المثال: كتاب الجامع في الطب الروحاني/ تأليف: محمود الشامي العاملي. [224] انظر الكافي 1/448. [225] انظر «لروضة من الكافي للكُلَيْنِيّ، [طهران، انتشارات علمية إسلامية]، (2/67-68 و 127). وعلل الشرائع للشيخ الصدوق، (ج1/ص 1-2). [226] كُتيِّب يضم مجموعة من الأدعية مروية عن الإمام السجاد: زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم. [المصحح]. [227] الصحيفة السجادية، ص 62، الدعاء (11).

مصادر [المؤلف في] كتاب توحيد العبادة

1. 1. تفسير روح البيان

2. تفسير الكشاف للزمخشري

3. تفسير الطبري

4. التفسير الكبير للفخر الرازي

5. تفسير روح المعاني للآلوسي

6. تفسير مجمع البيان

7. تفسير أبي الفتوح الرازي

8. تفسير الصافي

9. تفسير ملّا حسين الكاشفي

10. التفسير البيضاوي

11. تفسير ابن كثير

12. تفسير الشيخ محمد عبده

13. الإتقان للسيوطي

14. الكافي للكليني

15. الوافي للفيض الكاشاني

16. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

17. شرح نهج البلاغة للشيخ ابن ميسم

18. وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي

19. جواهر الكلام للشيخ محمد حسن

20. صحيح البخاري

21. موطأ مالك

22. مفتاح دار السعادة لابن القيم

23. ذكرى للشهيد الأول

24. من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي

25. القاموس المقدس لمستر هاكس الأمريكي

26. المثنوى لمولانا جلال الدين محمد البلخي

27. كليات سعدي

28. الصحيفة السجادية لزين العابدين (ع)

29. أسباب النـزول للواحدي

30. مقدمة تفسير فريد وجدي

31. الصابئة قديماً وحديثاً للسيد عبد الرزاق الحسني

32. بلوغ الأرب في أحوال العرب لابن الآلوسي

33. الملل والنحل للشهرستاني

34. طريق الحقايق لنائب الصدر

35. رجال الكشي

36. شتات للميرزا القمي

37. الفِصَل لابن حزم

38. سيرة ابن هشام

39. السيرة الحلبية

40. مفردات الراغب الأصفهاني

41. النهاية لابن الأثير

42. الفهرست لابن النديم

43. الفرْق بين الفرَق للبغدادي

44. إحياء علوم الدين للغزالي

45. مدارج السالكين لابن القيم

46. إعلام الموقعين لابن القيم

47. شرح المواقف لميرسيد شريف

48. سبل السلام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني

49. سنن ابن ماجه

50. سنن أبي داود

51. المكاسب للشيخ مرتضى الأنصاري

52. عيون أخبار الرضا للصدوق

53. جنات الخلود لآقا محمد رضا

54. تمدّن قديم لفونستل دوكولانژ الفرنسي، ترجمة نصر الله الفلسفي

55. دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي

56. نشوء فكرة الله لسلامة موسى

57. فتح المجيد (في شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبد الرحمن [بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب]

58. مناجات خواجه عبد الله الأنصارى.

صورة العلامة شريعت سنكلجي: