1867

بطاقة الكتاب

الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود




عن الشيخ

الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود الشريف، رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، أحد العلماء المشهورين في الجزيرة العربية وصاحب الفتاوى التي سبق فيها عصره وسهل فيها على الناس كفتاوى الحج والطلاق والتأمين وغيرها. درس على عدد من كبار العلماء في نجد وقطر والحجاز، واستلم قضاء قطر منذ ١٣٥٩هـ الموافق١٩٤٠م. وكان خطيباً مفوهاً تجمع خطبه الحكمة والفقه والتفسير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان أديبا وصاحب قدرة بلاغية ويحفظ الشعر ويستشهد به. توفي في مدينة الدوحة ودفن فيها في رمضان ١٤١٧، الموافق فبراير ١٩٩٧.

نسبه

هو الشيخ عبدالله بن زيد بن عبدالله بن محمد بن راشد بن إبراهيم بن محمود بن منصور بن عبد القادر بن محمد بن علي بن حامد الشريف.

وآل محمود من آل حامد ـ أمراء سيح الأفلاج ـ من ذرية الإمام حامد بن ياسين الشريف أمير الوادي، ويتصل نسبهم بالحسن بن علي بن أبي طالب.

مولده ونشأته

ولد في حوطة بني تميم في جنوب نجد سنة 1329 للهجرة، ونشأ بها بين والديه، وكان والده رجلاً صالحاً محباً للعلم، فتعهَّد بتعليم ابنه الوحيد، ووجَّهه للعلم، وكان كسبه من التجارة، ولكنه توفي والشيخ صغير في بداية البلوغ، فتحمَّلت والدته رعايته وتشجيعه على الاستزادة من العلم، وكانت امرأةً صالحةً، تُكثر الدعاء له، وكانت ترجو أن تراه عالماً كبيراً.

طلبه للعلم

تلقَّى دروسه الأولى على الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، قاضي حوطة بني تميم، ثم لازم الشـيخ عبد العزيز بن محمد الشثري (أبو حبيب) ملازمةً تامةً، فكان يقرأ عليه في الليل والنهار، ويسـافر معه، وعندما انتقل الشيخ أبو حبيب قاضياً في منطقة الرين انتقل معه لملازمته والدراسة عنده، واستمر معه حتى عام 1350ﻫ (1930م).

وأفاد الشيخ من كتب أخواله الشثور الذين تربَّى بينهم؛ حيث كانوا بيت علم، ثم انتقل إلى الرياض للدراسة لدى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكان يعتبر أكبر مرجع في الإفتاء والقضاء في المملكة السعودية، واستمر معه مدةً من الزمن.

وكان الشيخ قد أتمَّ حفظ القرآن الكريم بإتقان ولما يُتم السابعة عشرة، فقدَّمه شيوخه للصلاة بالناس التراويح والقيام، وكان شغوفاً بطلب العلم، وقد ساعده على ذلك نباهته وقدرته على الحفظ، حتى بز أقرانه، وقد تفرَّغ لطلب العلم فدرس وحفظ الكثير من الكتب والمتون، والكثير من الأحاديث النبوية عن ظهر قلب.

وكان الحصول على الكتب شاقّاً في ذلك الوقت؛ حيث لم تصل الكهرباء أو المطابع، وكان الناس يشترون الكتب بأثمان غالية، أو ينسخونها بأيديهم أو بأيدي النساخ، وقد استعار الشيخ كتاباً، وكان يسهر على نسخه على مدى شهرين على ضوء السراج حتى أتمَّه.

سفره في طلب العلم

كان الشـيخ محباً للعلم شغوفاً به، وقد شجعه شيوخه على الاستزادة منه، فيمَّم وجهه شطر قطر، حيث افتتح الشيخ محمد بن مانع مدرسته التي استقطبت طلاب العلم من قطر وخارجها.

وكان لأسرة آل محمود علاقة قديمة بقطر، حيث كان عمه سـعد بن إبراهيم آل محمود مقيماً فيها منذ سنين طويلة، كما كان أعمامه وخاله يترددون عليها للغوص عن اللؤلؤ في مياهها، وقد توفي عمه محمد ودفن في الوكرة قبل وصول الشيخ بسنين.

بدأ الشيخ دراسته التي استمرت حوالي أربع سنين، وحتى انتقال الشيخ محمد بن مانع إلى مكة.

يقول بعض من عرفه في ذلك الوقت: إنه لم يكن يترك المصحف أو الكتاب من يده طوال اليوم، وكان يقضي أغلب وقته في مسجد عبلان المجاور لبيته للدراسـة والمراجعة، وقد شغل نفسه بالعلم حفظاً ودراسة بحيث فرغ نفسـه تماماً، فكان يعيش عازباً، ولم ينشغل بتجارة، وكان يذهب إلى بيت عمه سعد المجاور لتناول وجباته.

تقول زوجة عمه سعد (أم ناصر): كنا نضع للشيخ غداءه في المجلس ونغطيه، وعندما نأخذه عصراً نجد أنه لم يُمـسَّ، فقد كان انشـغال الشـيخ بالدرس والعلم ينسيه الغداء حتى يذهب وقته.

يقول رحمه الله في إحدى رسائله: ’...وكنت ممن تغرَّب عن الأهل في طلب العلم أربع سنين، ولم أجد مشقةً في الغربة ولا في العزوبة؛ لكون الاشتغال بالعلم وبالأعمال الدينية والمالية يستدعي الانصراف الكلي، على حدِّ ما قيل: [من البسيط]

قَوْمٌ إذا حارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ

عنِ النِّساءِ ولو باتَتْ بـِأَطْهارِ

ويقول ـ رحمه الله ـ عن سفرته لقطر: ’كانت سفرةً مباركةً، حظيتُ فيها بحفظ كثيرٍ من العلوم والفنون، فحفظت: ’بلوغ المرام من أدلة الأحكام‘، و’مختصـر المقنع‘، و’نظم المفردات‘، و’نظم مختصـر ابن عبـد القوي‘ إلى باب الزكاة، وعملتُ عليه شرحاً حافلاً في مجلدٍ ضخمٍ، ويمكن جعله في مجلدين، وتوقفت عن مواصلة تكميله للعوارض التي شغلتني.

كما حفظت: ’ألفية الحديث‘ للسيوطي، و’ألفية ابن مالك‘ في النحو، وكتاب ’قطر الندى وبلّ الصدى في النحو أيضاً‘.

و يقول أحمد بن الشيخ محمد بن مانع: ’كان الشيخ ابن محمود من أبرز طَلَبة الوالد رحمه الله، وكان يلتهم العلم التهاماً، وكان والدي يرى فيه مخايل النبوغ، فتعهَّده، واهتمَّ بتعليمه، وكان الشيخ ابن محمود حريصاً على العلم، سـريع الحفظ، حاضر البديهة، وطلب منه والدي التركيز على الفقه والنحو، وعندما غادر والدي إلى مكة لتسلُّم عمله بطلب الملك عبد العزيز سافر الشيخ معه‘.

ونُقل عن الشيخ ابن مانع أنه قال عندما سُئل عن الشيخ: ’ابن محمود هو الوحيد الذي يتعلم مني وأتعلم منه‘.

وفي عام 1357ﻫ (1937م) وصل الشيخ إلى الرياض، والتحق بالدراسة مرة أخرى لدى الشـيخ محمد بن إبراهيم آل الشـيخ، مفتى الديار السعودية بالرياض، وذلك لمدةٍ تقرُب من سنتين، وقد أُعجب به الشيخ محمد، واختاره ضمن ثمانيةٍ(1) من أبرز طلبته للسفر إلى مكة للوعظ والإرشـاد في الحـرم ومساجد مكة، وليكونوا جاهزين لتولِّي المناصب القضائية بناءً على طلب الملك عبد العزيز.

ثقافته العالية واطِّلاعه الواسع

كانت حياة الشيخ طلباً متصلاً للعلم منذ صغره، فقد كان منقطعاً لتلقِّي العلم، وحفظ القرآن والأحاديث والمتون المختلفة، وكان لوالدته فضلٌ كبيرٌ عليه، تجلَّى في دفعه في هذا السبيل، ودعائها الدائم له، وموافقتها على سفره إلى مناطق بعيدة لطلبه مع كونه ابنها الوحيد.

وحتى حين تولَّى القضاء، فلم يشـغله عن طلب العلم شـاغل، وكان شغوفاً بالدراسة والمطالعة، لا ينقطع عن التنقيب في بطون الكتب، والبحث في المراجـع والأمهات التي تحفِل بها مكتبته الخاصة، وإن صـادفتْه ـ أثناء قراءاته ـ فكرةٌ أو فائدةٌ استحسنها بادر بتسجيلها، حتى تبقى حيةً في ذاكرته، وتحوي أوراقه الكثير من هذه الكتابات، وهي مكتوبة على أي أوراق تكون في متناول الشيخ كظهر رسـالةٍ أو مظروفٍ أو قصاصة ورقٍ،. بل إنه قد ينهض من نومه لتسجيل فكرةٍ أو خاطرةٍ قبل أن ينساها.

وكانت للشـيخ همةٌ عاليةٌ وفهمٌ كبيرٌ، وإذا اهتمَّ بأمرٍ لا يخلد للراحة حتى ينجزه، وقد درس فضيلته الكثير من الكتب المتعلقة بالعلوم الإسلامية المختلفة، ولم يقتصر على معرفة مذهبه، بل تعدَّاه إلى دراسة جميع المذاهب، واطَّلع على مواقع الخلاف والاتفاق بينها، ودرس كتب الملل والنحل الأخرى، وهو حنبلي المذهب، سلفي العقيدة.

وقد أحاط إحاطةً واسعةً بالتفاسير المختلفة والصحاح، كما قرأ الكثير من كتب التاريخ والسير، وكان على علمٍ واسعٍ بأيام العرب وأنسابهم، وتاريخ الإسلام ورجالاته، وله ولَعٌ بالأدب والشعر، ويحفظ الكثير من القصائد وأبيات الحكمة والأمثال العربية، ويستشهد بها كثيراً في أحاديثه وكتاباته.

يقول الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن آل جبرين: ’نقوم بزيارته ونجلس معه، ونجد في مجالسه البحث العلمي والمسائل والأجوبة المفيدة، ونراه حريصاً على تلقِّي طلبة العلم وتشـجيعهم على مواصلة الطلب والاستفادة، واستغلال الوقت في التلقِّي عن العلماء، واغتنام الحياة والفراغ فيما هو مفيد وخير، وعدم إضاعة الأوقات فيما لا فائدة فيه‘.

التدريس في الحرم المكي الشريف

كان من نعم الله تعالى على الشيخ عبدالله أن شرَّفه للقيام بمهمة التدريس في أشرف بقعةٍ وأفضل مكانٍ؛ ألا وهو بيت الله الحرام، حيث اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم ضـمن ثمانيةٍ من أبـرز تلاميـذه للذهاب إلى مكة للوعـظ والتدريس بها.

يقـول الشـيخ رحمه الله: ’وفي عام 1359ﻫ صـدر الأمـر من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله بإرسالنا إلى مكة المكرمة لنشر الوعظ والإرشاد والتعليم في الحرم وفي مساجد مكة، ولنكون وقت الطلب على أهبة الاستعداد..‘.

فتوجَّه الشيخ إلى مكة، ومكث بها، وخُصص له كرسيٌّ للتدريس في المسجد الحرام.

يقول الشيخ جاسم بن علي بن عبدالله: ’سافرنا للحج عام 1359ﻫ مع الشيخ عبدالله بن جاسم رحمه الله، وسمعنا ونحن بالحرم عن شيخٍ اسمه ابن محمودٍ، له درسٌ، فبحثنا عنه، وسألنا حتى دلُّونا عليه، وكان شاباً أبيض ذا لحيةٍ خفيفةٍ، وكان يلقي درساً عن أحكام الحج، فجلسنا نستمع، وكانت هذه أول مرة أراه فيها‘.

ويقول الأستاذ عبدالله المعتاز مؤسس إدارة المساجد والأعمال الخيرية في الرياض: ’أتذكَّر دروس الشـيخ ابن محمود في الحرم، وكان رحمه الله جهير الصوت، وله قبولٌ عند جمهور الناس، وحلقته من الحلقات الكبيرة، وكان يلبس بشتاً أسود، وفي يده عصا صغيرة، ومما لفت نظري أناقته وبياض ملابسه ونظافتها على غير عادة الناس في ذلك الوقت، كما كان في درسه يتميز بالبلاغة واستخدام المحسنات اللفظية كالسجع والطباق وشواهد الشعر‘.

تولِّيه القضاء في قطر

في منتصف ذي القعدة من عام 1359ﻫ قدم الشيخ عبدالله بن قاسم آل ثاني ـ حاكم قطر ـ إلى مكة قاصداً الحج، وبصحبته ابنه وولي عهده الشيخ حمد بن عبدالله، وعددٌ من كبار أفراد الأسرة الحاكمة والأعيان.

وبعد أداء فريضـة الحج طلبا من الملك عبد العزيز آل سعود أن يبعث معهم برجلٍ يصـلح للقضاء والفتيا، حيث كانت قطر في ذلك الوقت بدون قاض، بعد أن غادرها الشيخ محمد بن مانع، الذي طلبه الملك عبد العزيز من الشيخ عبدالله بن قاسم ليتولى الإشراف على التعليم في المملكة الوليدة، وقد وقع اختيارهم على الشـيخ عبدالله بن زيد بإيعازٍ من الشيخ محمد بن مانع، الذي رشَّحه لما رآه منه من سعة العلم والاطلاع.

وقد استدعاه الملك عبد العزيز، وأمره بالسفر مع الشيخ عبدالله بن قاسم لتولِّي القضاء في قطر، فحاول الاعتذار، ولكن الملك أصرَّ عليه، فتوجَّه إلى قطر في السنة نفسها، حيث تقلَّد أمانة القضاء في 15 من ذي الحجة عام 1359ﻫ (1940م)، وكان عمره في ذلك الحين ثلاثين سنة.

كانت الفترة التي تولَّى فيها الشيخ القضاء هي في بداية تكوين الدولة، وكانت أجهزة الحكومة بسيطةً وقليلةً، وإمكانياتها محدودة، وقد مرَّ عليها ظرفٌ اقتصاديٌّ صعبٌ مع انهيار اللؤلؤ الطبيعي، الذي تسبَّب في ضررٍ كبيرٍ لاقتصاد دول الخليج.

وقد تولَّى الشيخ القضاء مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي استمرَّت سـت سنوات، والتي ضاعفت المشاكل المالية لدول الخليج حيث انقطعت المؤن التي كانت تصل عن طريق البحر، وأدى ذلك إلى ازدياد نشاط التهريب، وارتفعت أسعار السلع إلى ثلاثين ضعفاً أو أكثر، مما تسبَّب في عجز الكثيرين عن توفير لقمة العيش، وكثرت الوفيات بسبب الجوع والأمراض.

تصدَّى في بداية عمله للكثير من المشاكل المعقدة والمزمنة، وبعضها خلافاتٌ تراكمت عليها سنون لم يتم حلها، فكان موفَّقاً في حلِّ أي مشكلةٍ مستعصيةٍ، وقد استطاع في مدةٍ وجيزةٍ أن يحلَّ الكثير من الخلافات القبلية، خاصةً في مناطق الشمال، بحيث استقرت العلاقات بين القبائل هناك.

وقد اشتهر في قضائه بتحري العدل والنَّزاهة، وكان لا يفرِّق في قضائه بين كبيرٍ وصغيرٍ فالجميع أمام الحق سواء، ويتناقل الناس كثيراً من المواقف التي حكم فيها لصالح أشخاصٍ ضعافٍ ضد شيوخٍ ووجهاء.

وهو يعتبر ـ بحق ـ مؤسس القضاء الشرعي في قطر، حيث وضع نظام تسجيل الأحكام والقضايا لحفظها، ولم يكن القضاة قبله يسجلون أحكامهم في سـجلاتٍ، أو يكتبون الأحكام في صـكوك، وإنما يكتفون بكتابة ورقةٍ مختصرةٍ في يد صاحب الحق تثبت حقه، ولا يوجد مايقابلها لدى القاضي.

وذكر الشيخ زهير الشاويش أن الشيخ محمد بن مانع قال للشيخ علي ابن عبدالله ـ حاكم البلاد في حينه ـ: ’عليكم بالشيخ ابن محمود؛ فوالله إن ذهب أو ترك فلن تجدوا مثله‘.

طريقته في القضاء

كان فضيلته يبكر في الجلوس للقضاء قبل طلوع الشمس طوال العام، ما عدا أيام الجُمَع، وكان مع هذا قليل السفر خارج البلاد، ويبدأ جلسته ببحث وكتابة القضايا المعروضة أمامه في اليوم السابق، وبعد إنجازها يستدني الخصوم الذين تغصُّ بهم قاعة المحكمة في كثير من الأحيان، فيبدأ بحلِّ قضاياهم، ويجتهد في الإصـلاح بينهم ما وجد إلى ذلك سـبيلاً، ويسـاهم من ماله في الإصلاح إذا كان الخصم فقيراً.

وقد يتطاول عليه بعض الخصـوم برفع الصوت أو التجريح، فيتحمل منهم كل ذلك في صبر، وقد رفض عدة مرات وضع شرطة لتنظيم الدخول عليه؛ خوفاً من أن يردُّوا صاحب حاجة أو يمنعوا سائلاً.

وأكثر القضايا يحلُّها في جلسةٍ واحدةٍ أو جلستين، ويحرص في القضايا المتعلقة بالعقار أن يخرج بنفسـه لمعاينة مكان الخلاف، ويتأنى كثيراً قبـل إصدار حكمه حتى يتضح الحق والصواب فيقضي به..

وقد ذكر رحمه الله في إحدى رسائله منهجه في القضاء، ونصح إخوانه القضاة فقال: ’شُرع القضاء رحمةً للناس وراحةً لهم؛ لإزالة الشقاق بينهم، وقطع النِّزاع عنهم، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وردع الظالم، ونصر المظلوم.

لو أَنْصَفَ الناسُ اسْتَراحَ القاضي

وباتَ كُلٌّ عنْ أخِيْهِ راضـِي

فمن واجب القاضي أن يحتسب راحة الناس ورحمتهم في قطع النِّزاع عنهم، وأن يحتسب التبكير في الجلوس للناس، ويفتح باب المحكمة على مصراعيه، ثم يبدأ بالأول فالأول، كما نص على ذلك فقهاء الإسلام في كتبهم، ففي الحديث: ’مَنْ تَوَلَّى شيئاً مِن أَمْرِ المسلمين فاحْتَجَبَ دُوْنَ حاجَتِهِمْ وفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللهُ دُوْنَ حاجَتِهِ وفَقْرِهِ‘ [رواه أحمد والترمذي].

ولما بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ له باباً، وحُجَّاباً يمنعون دخول الناس عليه، أرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرِّق باب سعد قبل أن يكلم أحداً من الناس.

فهؤلاء القضاة الذين يغلقون أبواب المحاكم عليهم، ويتركون الناس خلف الأبواب يغشاهم الذل والصغار، والقاضي غير مكترثٍ بهم، ولا مهتمٍ بأمرهم، ويمضي أكثر وقته في الحديث في مصالح نفسه الخاصة، وشهر للحج، وشهر للعمرة، وشهر للمصيف في الطائف أو لبنان مثلاً، ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنِّزاع والخصام، لا يجدون من يقطع النِّزاع عنهم، وهو مستأجَرٌ لحلِّ مشاكلهم.. فهؤلاء بالحقيقة مخالفون لنصوص مذهبهم؛ فإن الفقه الإسـلامي يمنـع غلق الأبواب، ونصب الحُجَّاب دون القاضـي ودون الناس.

فافتحوا الأبواب، وسهِّلوا الحُجَّاب، وبكِّروا في الجلوس؛ حتى يسهل عليكم معالجة الخصام، وتنظيم الأحكام؛ فإن جلوس القاضي في محلِّ عمله لفصل القضاء بين الناس، أفضل من تطوعه بحجه وعمرته، وأفضل من صيامه بمكة؛ لأن جلوسه في محل القضاء واجب عليه، ومطلوب منه شرعاً وعرفاً، أما التطوع بالحج والعمرة فإنها ليسـت بواجبة عليه، ولا مستحبة في حقه، وقد لا تصح منه.

فلا ينبغي أن يهمل هذا الواجب المحتَّم عليه في محاولة التنفُّل الذي هو ممنوع منه شرعاً وعرفاً‘.

وكان الشيخ ذا فكرٍ ثاقبٍ وحكمةٍ ودرايةٍ بأحوال الناس، وقد وضع عدداً من الأسس والآراء الفقهية التي تيسِّر على الناس، والتي تخالف ما كان عليه عمل المحاكم في المنطقة، وذلك نتيجة لخبرته القضائية الواسعة، وتمكُّنه من الفقه، فقد كان أول من طبق في دول الخليج اعتبار الطلاق الثلاث طلقةً واحدةً، واعتبار يمين الطلاق يميناً وليس طلاقاً، وخالف رأي الجمهور حول الطلاق البدعي، حيث لم يضع له اعتباراً، وله الكثير من الآراء التي تسير عليها محاكم قطر، والتي حلَّت الكثير من المشاكل.

وجلوسه ليس للقضاء فحسب، فقد يأتيه من يستفتي في مسألة أو حكم شـرعي، كما يلجأ إليه أصحاب الحاجات الذين يطلبون معونتـه في الأمور المختلفة، فلا يبخل عليهم بالمساعدة التي يريدون.

وكان يهتم بعـدم تأخير صاحـب الحاجة، ويكرم الشاهد ولا يعطله، ويجهد نفسه لمحاولة الوصول إلى الحق، فإذا احتاج الأمر إلى وقوفه على محل النِّزاع فقد كان يواعد الخصوم، ويذهب إليهم عصراً بنفسه.

ومجلس الخصوم لديه واحد، فإذا جاءه أحد كبار القوم أمره بالجلوس مع خصمه على كرسي الخصومة أمامه.

وقد كانت له هيبةٌ لدى كبار القوم وصـغارهم، وكان له فضـل إعطاء الشرع احترامه، وإلزام الناس بحدوده وحقوقه، وكان له فضل حماية حقوق الضعفاء من تسـلط الأقوياء، خاصـة في وقت لم تكن فيه أجهزة الدولة قد تكاملت بعد..

وحكام البلاد يحترمون أحكام الشرع، وإذا كان لأحد منهم قضيةٌ حول حقوق عقاريـة أو ماليـة، ولم يتمكنوا من حلها عن طريق وكلائهم، فكانوا يحيلونها إلى الشيخ، ويلتزمون بما يحكم به.

ومما نُقل عنه أنه ذهب لنظر قضيةٍ في الشمال بين أحد الشيوخ وأحد المواطنين، وكان من عادته أن يقف بنفسـه على موضع النِّزاع قبل البتِّ في الدعوى، فلما علم الذي رُفعت الدعوى في مواجهته أن الشيخ سيأتيه أعدَّ له العشاء كالعادة، حيث إن المنطقة بعيدة عن الدوحة، فلما حضر الشيخ قال له: يا شيخ! ترى حضَّرنا لك العشاء، فقال: أنا لم آتِ للعشاء، وإنما لنظر دعواكم، وبعد أن انتهى من الدعوى ركب سيارته وعاد بدون أن يتناول العشاء؛ فقد كانت تسويته بين الخصوم تقتضي أن لا يقبل دعوة أحدهما دون الآخر.

وكان ـ يرحمه الله ـ يرفض قبول الهدايا؛ لكون القاضي يجب أن يبعد نفسه عن أي شبهة.

وطلب منه أحد حكام قطر السابقين توثيق عطاءٍ منه لأحد أبنائه، فسأله: هل أعطيت باقي أبنائك مثله؟ فقال: لا، فرفض الشـيخ توثيق هذا العطاء، وقال: أشهدْ عليه غيري.

ويقول الأستاذ محمود الرفاعي ـ مدير أوقاف الزرقاء بالأردن، والذي عمل في قطر ـ: ’إنه ـ مدَّ الله في عمره ـ رغم كبر سـنِّه فهو دؤوبٌ، لا يملُّ ولا يكلُّ، يجلس للقضاء مبكراً، وربما يسبق جميع الموظفين، ثم ينتقل ما بين حلٍّ لمشاكل المراجعين العضال، وبين القضايا الأخرى، إلى مدِّ يد العون والمساعدة للمعوزين، وجبر خاطر المكروبين، وبين القلم والقرطاس، يكتب بيده، ويملي على غيره، أضف إلى ذلك قوة الحافظة متَّعه الله بحواسه، ومدَّه بالعافية من عنده، فقد ترانا نبحث عن حديثٍ في بطون الكتب، فيكفينا المؤونة، وبهمةٍ شابةٍ تتحرك جوارحه، وما هي إلا دقائق حتى تكون البغية حاضرة.

والأهم مما مضى هو وقوفه على الحق، فإذا أيقن بالدليل والحديث، فإنه يضرب صفحاً عما كان يرد من كلامه، ويثبت ما صحَّ لنا من الرواية‘.

العدل مع الجميع

كان الشـيخ يتحـرى العدل في قضائه بدون النظر لديانةٍ أو مذهبٍ أو عرقٍ، فقد كسب احترام الجميع لنَزاهته وعدالته.

يقول جون قصـاب ـ وهو أرمنيٌّ سـوريٌّ يعمل في قطر ـ: كنت شاباً صغيراً أعمل بالنجارة، واتصل بي أحد الأرمن، وأبلغني أن أرمنياً إيرانياً قُبض عليه في قطر وأُدخل السجن، فذهبت لمركز شرطة الدوحة أسأل، فأبلغوني أن الرجل دخل البلاد بتأشـيرة مزوَّرة، فتحدثـت معه، فقال لي إنه حصل على التأشـيرة من إحدى شـركات السياحة، ولا يعلم أنها مزورة، فحاولت مقابلة مدير المركز فمُنعت من ذلك، وقيل لي إن الموضـوع يحتاج لإكمال التحقيق ثم يحال للمحاكمة.

وكانت زوجة الرجـل وابنه الصغير في الفندق، وسألت عن حلٍّ لهذه المشكلة، فقال لي أحد القطريين: اذهب إلى الشيخ ابن محمود، فقد يجد لك حلاً.

فذهبت إلى المحكمة الشرعية وأنا وجِلٌ، ولا أعرف كيف سأتمكن من مقابلة الشيخ، فلما دخلت دلُّوني على قاعةٍ كبيرةٍ، ورأيت فيها الشيخ جالساً ومعـه بعض الكَتَبَة، وهو ينظـر في القضـايا، فانتظرت حتى جـاء دوري، وأجلسوني على كرسيٍّ أمام الشيخ مباشرةً، فشرحت للشيخ مشكلة الرجل، وأن الرجل جاء إلى قطر في طريقه إلى بلدٍ آخر، ولم يكن يعلم بتزوير تأشيرته، وقلت له: أنا مسيحي، ولجأت إليك لأني لم أجد حلاً آخر، فقال لي: إذا كان كلامك صحيحاً فأنا سأنظر في الموضوع.

وطلب ـ وأنا جالسٌ ـ مدير مركز الشرطة، واستفسر منه عن القضية، وقال له في نهايتها: إن الرجل في طريقه إلى بلدٍ آخر، فأنتم أبعدوه من البلد، واعتبروا تأشيرته كأن لم تكن، ولا تزعجوا أنفسكم بتحقيقٍ ومحاكمةٍ، فوافق المدير، ولكن ليس من صلاحيته إلغاء القضية.

يقول جون: فكتب لي الشيخ كتاباً، أخذته وأنا فرح لمدير المركز، الذي قابلني فوراً، وأنهى الإجراءات بعد اسـتلام كتاب الشـيخ، وسـمح للرجل بمواصلة سفره مع عائلته في اليوم نفسه.

ويذكر الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني قصةً عن مقاولٍ لبنانيٍّ مسيحيٍّ، حدثت له مشكلة مع واحد من الشيوخ بسبب رفضه دفع الدفعات الأخيرة من حقوق المقاول، فرفع الرجل دعواه للشرع أمام الشيخ ابن محمود، الذي أمر بإعطائه إحضارية لخصمه، فحضر الطرفان أمام الشيخ، فأجلسهما أمامه.

وبعد الاستماع إلى الطرفين قال للمدعى عليه: هل تعترف بهذا المبلغ الذي يدعي به المقاول؟ فقال نعم، ولكنه ربح مني الكثير، وهذا خصمته مقابل ماربحه مني، فقال الشيخ: لقد اتفق معك على مبلغٍ معينٍ، فإذا كان الربح من ضمنه فهو حقه، وليـس لك أن تسلبه منه، فطلب يمين المقاول أن المتبقي حقه، فقال الشيخ: هو قدَّم أوراقه وبيِّنته، واليمين تتوجه إليك بأنك سلَّمته جميع حقه، عندها استعد الرجل لسداد بقية المبلغ، وأحضره في اليوم نفسه للمحكمة، واستلمه الرجل.

وقد تأثر هذا المقاول لهذا الموقف، وقال: أنا مسيحي أجنبي، وينصفني القضاء الشرعي من مواطن صاحب نفوذ، بل أحصل على حقي خلال ثلاثة أيام، أين يوجد هذا؟، ويقول الشيخ فيصل راوي القصة: إن هذا الرجل كان يصوم في رمضان مع المسلمين، ويفطر معهم وهو مسيحي.

هيبته واحترام الناس له

استطاع رحمه الله أن يكسب حبَّ الناس، عندما رأوا قوته في الحق، وجهوده لنفع البلاد وأهلها.

يقول الشيخ قاسم بن علي بن قاسم آل ثاني: ’عندما جاءنا الشيخ ابن محمود ـ وكان شاباً ـ لم نتوقع منه الكثير، ولكن بعد مدةٍ من قيامه بعمله وجدنا أنه غطَّى على من سبقه‘

وكسب الشيخ احترام الجميع من حاكمين ومحكومين، يقول الشيخ زهير الشاويش ـ وكان ممن عملوا في ديوان حاكم قطر الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني رحمه الله ـ: ’كان الشيخ علي في غير الجلسات الرسمية في العصر أو مسـاءً يجلس بدون البشـت، ويأتيه كبار الأسرة الحاكمة ووجهاء البلاد، فيتبسط معهم بالحديث، فإذا أبلغه الخدَّام أن الشيخ ابن محمود وصل، طلب البشت، ولا يستقبله إلا وهو لابسه‘.

الشجاعة الأدبية والصدع بالحق

كان قوياً في الحق لايحابي، ذكر في ردِّه على رسالة أحد الوجهاء ممن كانت له علاقة قوية معه، بعد أن حكم ضـده في قضية لصالح امرأة ضعيفة وبناتها الأيتام: ’...وإني أُشعرك بأمرٍ يعود عليك بالراحة، وهو أنَّ مدحك لي لا يحملني على الحيف لك، كما أن ذمَّك لا يستدعيني إلى ظلمك، ولو كان الأمر بالتخييـر، وأن الحكـم لا يعقبه حسـاب خبيرٍ ولا عقاب قديـرٍ، لاخترت أن يكون عندك دونهم، ولن يرهقني طغياناً عليك ما نسبتني إليه من اللَّوم والذم، وما نسبتني إليه من الجور والظلم في خصوص هذا الحكم؛ لأنه ما من أحدٍ سلم من أذى الناس، حتى كتاب الله الموصوف بالصدق والعدل لم يسلم من الطعن...‘.

وجاء عاملٌ هنديٌّ إلى الشيخ يشكو كفيله وهو أحد الوجهاء، ويقول: إن كفيلي لم يعطني راتبي من عدة شهور، وعندما طالبته ضربني بالعصا، وأثرُ ضربه واضحٌ في ظهري، وكشـف ظهره فإذا أثر الضـرب واضحٌ، فغضب الشيخ وأرسل من يطلب هذا الكفيل للحضور.

وعندما حضر أجلسه مع العامل الهندي في مجلس الخصوم، وسأله عن أثر الضرب في ظهره فلم يستطع الإنكار، فأسمعه الشيخ كلاماً شديداً، حتى اسـتعدَّ هذا لتنفيذ ما يحكم به الشـيخ، فحكم عليه بدفع مبلغٍ كتعويضٍ عن الضرب، وجميع رواتبه غير المدفوعة، وسأل العامل إن كان يرضى بذلك، فقبل وشكر.

واشتكى أحد المواطنين أن وكيل أحد حكام قطر السابقين يبني للحاكم عمارةً، وقام بفتح مكيفاتٍ مطلةٍ على عقار المشتكي، فطلب الشيخ الوكيل وسمع حجته، ووقف على الموقع، ثم أصدر حكمه بسد الفتحات لكونها تؤذي الجار، واضطر الوكيل لتنفيـذ الأمـر بعد أن راجع الحاكم فقال له: نفذْ أمر الشيخ.

شهادة البريطانيين

يقول الكاتب الأمريكي (ناثان براون) في كتابه ’القضاء في مصر والخليج، القانون لخدمة من؟‘ ـ الذي استقى معلوماته من الأرشيف البريطاني ـ: ’نجح البريطانيـون في إقرار ضـرورة أن يوجد نظام قانونـي وقضـائي في الخليـج لا يجد أساسه في الشريعة فقط، ولكنهم فشلوا في أكثر الأماكن في تشكيل ذلك النظام إلى حدٍّ كبيرٍ، خاصة في قطر، التي أثبتت فيها المحاكم الشرعية أنها أكثر قوةً، وأثَّرت هذه المحاكم بعمق، واسـتمرت في التأثير على مسار التطور القانوني والقضائي..‘.

ويضيف الكاتب أيضاً ’إن قطر أثبتت أنها تقاوم بشدة أيَّ جنوحٍ رسميٍّ عن الفقه الإسلامي، وأثبت ذلك الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس القضاء الشرعي، الذي رأى فيه البريطانيون رجلاً متزمتاً، وعقبةً في طريق الإصلاح القانوني الحقيقي، وإليه يرجع الفضل في تحويل المحاكم الشرعية من نظام غير رسمي إلى هيكلٍ منتظمٍ، وذلك عقب تعيينه في سنة 1938م‘.

برنامجه اليومي وحسن ضبط الأوقات

كان يبدأ يومه بصلاة الفجر، ويوقظ أبناءه للصلاة، ويصحبهم معه، وبعد الصلاة يقرأ من القرآن وِرْداً يومياً، ويفطر، ثم يذهب قبل طلوع الشمس بقليل إلى مكتبه في المحكمة، وإذا كان صباح جمعه فإنه يراجع خطبة الجمعة لذلك اليوم.

وقد اشتهر ـ رحمه الله ـ باحترامـه لوقت الدوام، فكان أول من يداوم في مكتبه قبل طلوع الشمس، وكان ينتقد القضاة الذين يبدؤون دوامهم بعد ارتفاع الشمس، ويبدأ بدراسة القضايا وتحرير الأحكام والردِّ على المراسلات، وكانت عادته الإمـلاء على أحد الكَتَبة من الذاكـرة، بعد أن يكون قد درس الموضوع.

وكان كبار القوم والشـيوخ يزورون الشـيخ في أول سـاعات الصباح للسلام عليه، وتناول شيءٍ من القهوة، والحديث في شؤون البلاد، ثم يبدأ المتخاصمون في التوافد وعرض قضاياهم، فيستمر لعدة ساعات في نظر القضايا، والفصل فيها، والردِّ على المستفتين، والردِّ على المتصلين بالهاتف، وإنجاز الأوراق والمعاملات الرسمية الخاصة بأعمال الرئاسة، إضافةً لمقابلة ذوي الحاجات، والصدقة على المحتاجين منهم.

وعند ما يؤذن الظهر كان يذهب مع جلسائه للصلاة في المسجد المجاور للمحكمة، ثم يذهب إلى مجلسه حيث يتغدى مع ضيوفه وعياله، ويأوي إلى بيته حتى صلاة العصر، ثم يجلس في مجلسه، فيأتيه كبار القوم ومحبوه والكثير من أهل البلاد، وقد يأتي من يسـتفتيه في مسألة فيناقشها أمام جلسائه، كما يقابل الوفـود التي تأتي من خـارج البلاد، ويأتيه بعض طلبة العلم والجيران والأقارب.

وإذا كانت هناك قضية تحتاج إلى الوقوف عليها فإنه يخرج بعد انتهاء مجلسه مع بعض مرافقيه للوقوف عليها، إضافةً إلى القيام ببعض الواجبات الاجتماعية؛ كعيادة المريض، وتعزية أهل المتوفى، وزيارة كبار السن والعجزة، وغير ذلك.

ثم يذهب الشيخ إلى المسجد المجاور قبل صلاة المغرب بنصف ساعة للتعبد والدعاء، ثم يدخل بيته بعد المغرب ويصلي النافلة ويرتاح قليلاً، ثم يخرج لمجلسـه، حيث يحرص على الاسـتماع إلى قراءةٍ من أحد المراجع والكتب المهمة ما بين المغرب والعشاء، حيث يقرأ أحد أبنائه أو أقاربه قسماً من أحد المراجع العلمية، ككتب التفاسـير والسـنة والفقه والتاريخ، ويقوم الشيخ بشرحٍ لبعض الفقرات لإفادة جلسائه، كما يردُّ على من يستفسر منهم حول ما يقرأ، ثم يدعو جلساءه للعشاء، وإذا كان لديه ضيوف فإنه يذبح لهم ويكرمهم كعادته، ثم يصلي مع جلسائه، ويأوي إلى بيته بعد الصلاة.

برنامجه في الشهر الفضيل

وفي رمضان كان يلقي بعد صلاة العصر درساً في مسجد ابن عبد الوهاب في الجسرة، يحضره كبار أهل البلاد وجمهورٌ كبيرٌ من المصلين، وكان درسه يتناول في كل يوم موضوعاً في الفقه أو الحديث أو التفسير لإفادة مستمعيه، ثم بعد ذلك يقوم بتدريس أولاده القرآن حتى ما قبل صلاة المغرب، حيث يذهب إلى منْزله، ويفطر مع جلسائه، ويشاركه في تناوله عددٌ من الضيوف والفقراء والمحتاجين الذين يقصـدونه، وكان ـ رحمه الله ـ كثير الصدقة في هذا الشهر الكريم.

وكان يؤم الناس لصلاة التراويح، حيث يصلي بهم إحدى عشرة ركعة مع الوتر، ويقرأ جزءاً كاملاً من القرآن، ثم يجلس بعد التراويح في مجلسه، حيث يقصده المهنئون بدخول الشهر المبارك، كما يقصده زواره الكثيرون في مثل هذا الوقت خلال رمضان.

وفي العشر الأواخر كان يؤم الناس لصلاة القيام، حيث يقرأ ثلاثة أجزاءٍ في اليوم في ثماني ركعات، مع ركوع وقيام وسـجود طويل، وكان يجلس للراحة بعد الأربع ركعات الأولى، حيث تدور القهوة والطيب، ويلقي موعظةً في المصلين تشـتمل على الفوائـد العديدة،وعندما كبرت سـنه اكتفى بجزء واحد.

خُطَبه في الجُمَع والأعياد

وتعتبر خطبة الجمعة ـ التي حرص فضيلته على إلقائها منذ تولِّيه القضاء ـ درساً أسبوعياً، يتناول مواضيع إسلامية عامة من الأمور التي تهم الناس في حياتهم، وتحوي خلاصةً لآراء فضيلته واجتهاداته في المسائل الشرعية.

وبعد افتتاح إذاعة قطر أصبحت الخطبة مسموعةً في البلدان المجاورة، ويحرص الكثير من الناس على الاستماع إليها وقت صلاة الجمعة وليلة السبت من كل أسبوع، وقد جمعها في كتاب ’الحِكَم الجامعة لشتى العلوم النافعة‘.

وكان لفضيلته مواقف مشهودة على المنبر، حيث جهر فيه بكلمة الحق، وأمر بالمعروف، وحارب البدع والمنكرات، وكان المسؤولون والمواطنون يحسبون لها حساباً، وكانت خطبه وسيلة لتثقيف الناس وتعليمهم أمور دينهم.

الشيخ مرجعٌ للقضاة والمستفتين

وكان رحمه الله لا يبخل على مسـتفتٍ يطلب حلَّ مسـألةٍ من المسائل الصعبة والشائكة، حتى إنه أصبح مرجعاً للكثير من القضاة في بلاد الخليج والسعودية وفارس والهند، فيرسل أحدهم ملخص القضية إلى الشيخ، فيرد عليه بحلها.

يقول الشيخ عبد الرحمن الفارس ـ قاضي المحكمة الكبرى في الرياض ـ شاكراً إجابة الشيخ له على استفتاء أرسله: ’...استلمت خطاب فضيلتكم المتضـمن للفتوى، وأحطت علماً ومعرفةً بما كان يجول في فكـري، فلقد أجدتم وأفدتم، ولازلتم موفقين لكل ملتمـس بيانٍ من العلـم، زادكم الله علماً ونوراً وبصيرة، ووفَّقكم لقول الحق بدليله؛ فإنكم لا تألون جهداً في إيضاح كلِّ مشكلة وتبيين كلِّ معضلة بدليلها...‘.

وقد اشتهر فضيلته بحلِّ القضايا الصعبة والمسائل المعقدة، حتى أصبح الناس يقصدونه من البلدان المجاورة، أو يرسلون إليه باستفساراتهم فيردُّ عليهم بما يشفي غليلهم.

ويقول أكثر من واحد من أهل قطر إنهم عندما يتوجهون للشيخ ابن باز بطلب الإفتاء في إحدى المسـائل، فإذا عرف أنهم من أهـل قطـر قال لهم: عندكم الشيخ ابن محمود، ارجعوا له.

وذكر عبد العزيز بن عزمان الذي كان يصلي في مسجد الشيخ ابن باز أمراً مماثلاً، حيث كان الشيخ ابن باز يسأل المستفتي من أي بلد هو؟ فإذا قال من قطر، قال له: عندكم الشيخ ابن محمود وتأتون إلي؟.

;

رسائله واجتهاداته

كتب الشيخ ما لا يقلُّ عن ثمانين مؤلفاً في مختلف المواضيع، تمَّ جمع أغلبها في كتاب: ’مجموعة رسائل وخطب الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود‘ الذي طُبع عدة مرات، آخرها طبعة وزارة الأوقاف القطَرية في ثمانية مجلدات، وقدم لها مفتي المملكة الشـيخ عبد العزيز بن عبدالله آل الشـيخ، وله بعض الأعمال التي لم تصدر.

وكانت أول هذه الرسائل صدوراً هي رسالة: ’إدخال الإصلاح والتعديل على معاهد الدين ومدارس التعليم‘ ثم تلتها رسالته: ’يُسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام‘ التي أفتى فيها برمي الجمار قبل الزوال وفي الليل والتي أثارت ضجة كبيرة في حينها.

يقول رحمه الله في مقدمة كتابـه ’الحكم الجامعة‘: ’إن لكلِّ إنسـان حاجة، ولكل حاجة غاية، وما حاجتي من مؤلفاتي إلا الدعوة إلى دين ربي، ونصيحة أمتي بالحكمة والموعظة الحسنة؛ ابتغاء الثواب من ربي، والدعاء من إخوانـي؛ إذ هـذه أمنيتي وغاية بغيتي ورغبتي، والله عند لسان كل قائل وقلبه‘.

كما يضـيف رحمه الله ’هذا وإنني لم أُخرج رسـالة علمية ذات أهمية إلا وأنا متحقق من حاجة المجتمع إليها، وإلى التنبيه على مدلولها، وكونها من المبتكرات التي لم يُسبق إليها، وكم ترك أولٌ لآخر‘.

وقد تنوعت رسائله بين التوجيهات والنصائح في الأمور اليومية التي تدور عليها الحياة في المجتمعات، ودعوة التوحيد الذي عليه عماد الإيمان، ومحاربة البدع والآراء المخالفة للشرع، وكان ينهج منهجاً لا يتقيد فيه بآراء المذهب فقط، بل ينظـر إلى قوة الدليـل، ويدعـم رأيـه بحصيلةٍ واسـعةٍ من الآيـات والأحاديث وأقوال الفقهاء.

كما كان لخبرته في القضاء أثرها في بعض رسائله، التي يُسهل فيها على الناس حلَّ بعض المشـاكل في الشـؤون الزوجيـة أو الطلاق أو التأمين على السيارات أو غيره.

وقد يأتيه استفتاءٌ من إحدى الجهات، فيؤلف فيه رسالة رداً على ذلك، كما فعل في رسائله: ’جواز الاقتطاف من المسجد أوالمقبرة‘، ورسالته حول إباحة السكنى في حجر ثمود، ورسالة ’اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام‘، والتي ورد الاستفسار عنها من رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة بإيعازٍ من الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وقد ألَّف في كل موضوعٍ رسالةً مستقلةً.

وقد يؤلف كتاباً لمناقشة مسألةٍ مطروحةٍ، كما حدث في فتنة المهدي في مكة المكرمة، فقد تزامن حدوثها مع عقد مؤتمر السيرة والسنة النبوية في الدوحة، وكان فضيلته قد أعدَّ بحثاً عن السنة المطهرة، وكونها شقيقة القرآن، وقصد أن تكون موضوعاً لخطبته، ولكنه غيَّر ذلك إلى الكلام حول المهدي المنتظر، وناقش مدى صحة الأحاديث الواردة فيه، وانتهى إلى ضعفها، ألقاه على الحضور في المؤتمر فنال استحسانهم، وألَّف بعد ذلك رسالته: ’لا مهدي يُنتظر بعد الرسول محمد ﷺ خير البشر‘.

وعندما رأى كثرة الأضاحي عن الأموات في مناطق نجد وما جاورها، أعدَّ رسالةً سماها ’الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية‘، وأثـارت عليه بعض الردود، فردَّ عليها بكتابه ’مباحـث التحقيق مع الصاحب الصديق‘.

كما كتب فضيلته العديد من الرسائل في التحذير من البدع والانحراف عن واجبات الدين، وكتب حول الأمور الواقعة في حياة المجتمعات الإسلامية، فحذَّر من الخمور، والربا، والتبرج، والاختـلاط والتزوج بالكتابيات وأثره على النشء، والأفلام الخليعة، والتلقيح الصناعي، وتحريم نكاح المتعة، وغيرها.

كما ألَّف في تصحيح عقائد المسـلمين، ككتابه حول بدعة الاحتفال بالمولد، والإيمان بالقضاء والقدر، وكتاب: ’عقيدة الإسـلام والمسـلمين‘، ورسالة: ’الإصلاح والتعديل لما وقع في اسم اليهود والنصارى من التبديل‘، ورسالة: ’وجوب الإيمان بكل ما أخبر به القرآن من معجزات الأنبياء‘، ورسالة: ’تحقيق البعث بعد الوفاة‘، وتحذيـره من انحراف الشـباب، ورسالته حول واجب المتعلمين والمسؤولين في المحافظة على أمور الدين، كما ناقش في بعض مؤلفاته مسـائل فقهية هامـة؛ كجواز تحويـل المقام، وحكم اللحـوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب، وحكم الطلاق السني والبدعي، وقضية تحديد الصداق، والحكم الشـرعي في إثبات رؤيـة الهلال، وكتاب الصيام وفضل شهر رمضان، والجهاد المشروع في الإسلام، وغيرها من المواضيع التي تعالج مشاكل في الحياة اليومية للفرد، وتهدف إلى تصحيح المفاهيم ورفع الحرج عن مجموع الأمة.

يقول الشيخ حسن خالد مفتي لبنان السابق رحمه الله عندما قرأ رسالة: ’الطلاق السني والبدعي‘: جزى الله ابن محمود خيراً، لقد حلَّ لنا بهذه الفتوى مسـائل عويصة في الطلاق، يعاني منها المجتمع اللبناني والمجتمع الشامي عموماً، وسـوف نقوم بتطبيقها في محاكمنا، ولا نملك جميعاً إلا أن ندعـو له الله بالسـداد والتوفيق وطول العمر، فما أحوج أمتنا إلى مثله فقيهاً متبحراً وبصيراً. (روايةً عن د. يوسف عبيدان القائم بأعمال سفارة قطر في بيروت سابقاً).

ويقول الشيخ محمد الغزالي: ’..والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رجلٌ ثاقـب الفكر، يبحث عن الحق بإخلاصٍ، ويستعين على معرفته بثروةٍ طائلةٍ من الخبرة بكتب الأولين، فإذا اهتدى إلى حكم ينفع الأمة جهر به دون وجلٍ، ودافع عنه بأصالةٍ، وقد قرأت له جملةً من المسائل التي تعرض الفقه الإسلامي عرضاً يناسب العصر، لا استرضاءً للمعاصرين، ولكنها رحابة أفق في فهم الدين‘.

ويقول الشيخ مهنا بن سلمان المهنا القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض: ’وللشـيخ أسلوبٌ متميزٌ في التأليف والكتابة؛ إذ يعنى إلى جانب المضمون بمحسِّنات اللفظ من سـجع وجناس وصـوَر وأخيلة، مع تدبيجه بالجيد من الشعر والآثار العربية، حتى يصل إلى القلوب سلساً رقراقاً، يجد القبول في النفس والانشراح في الصدر‘.

صدور رسالة ’يسر الإسلام‘ وفتوى الرمي

لقد شكَّل صدور رسالة: ’يُسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام‘، ـ وفيه التحقيق بجواز رمي الجمار قبل الزوال ـ علامةً فارقةً في تاريخ جهود الشيخ العلمية واجتهاداته الفقهية، فهو قد فتح المجال لكسر الجمود في الفتاوى الفقهية، وخاصة في الفقه الحنبلي الذي كان سائداً في أغلب أنحاء الجزيرة العربية، وكانت كتب متأخري الحنابلة: ’الإقناع، والمنتهى، والإنصـاف‘ هي أساس الإفتاء؛ نتيجةً لانتشارها والقبول الذي حظيت به.

وعندما نقيـس ردود الفعل على صـدور هذه الفتوى، يتبين لنا مـدى تأثيرها الذي وصل إلى تدخل الملوك والحكام في الأمر، واعتباره من الأهمية بحيث يقوم ملكٌ مثل الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية بمراسلة الشـيخ علي بن عبدالله آل ثاني حاكم قطـر؛ طالباً موافقته على إيفاد الشـيخ لمناظرة المشايخ في الفتوى، بل إنه كتب للشيخ ابن محمود بالمضمون نفسه.

وعندما سـافر الشيخ علي في السنة نفسها للحج، واجتمع مع الملك سـعود في منى، كان موضـوع الفتوى من ضـمن الأمور التي تباحـث فيها العاهلان، وطلب الملك سـعود من الشـيخ ابن محمود الذي كان حاجّاً مع الشيخ علي أن يتراجع عن فتواه، وكان ردُّ الشيخ بالاعتذار، الأمر الذي يوضح صعوبة وحجم التغيير الذي حدث.

ونظرة إلى رسالة الشيخ الموجهة إلى علماء الرياض()،والتي احتوت دفاعاً رائعاً عن رسالة ’يسر الإسلام‘، تعطي القارئ فكرةً عن قدرات الشيخ في المجادلة والمنافحة عن آرائه، التي اعتمد فيها على الأدلة من الكتاب والسنة، كما أورد فيها أقوال عدد من العلماء السابقين الذين رأوا الرأي نفسه.

ولقد تحمَّل الشـيخ الكثير من التحامـل عليه ومحاولة الحط من قدره وتسفيه آرائه، ولم يكن ذلك من المشايخ الذين اختلف معهم ويعرفون قدره، ولكن من تلاميذهم الذين يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً.

ولكنه كان يقول دائماً: ’إن الكثير من الناس ـ بما فيهم الفقهاء ـ يسارعون إلى إنكار مالم يألفوه، بل إن بعضهم يسارعون للرفض والإنكار، بدون أن يكلفوا أنفسـهم قراءة جميع الكتاب، أو البحث ودراسته ليعلموا نصيبه من الصحة والصواب..‘.

ونُقل عنه أنه قال لأحد العلماء الذين اعترضوا على فتواه: ’اذهب وارم بدون حرس، ثم أبدِ رأيك‘.

مناظرة الرياض

وقعت هذه المناظرة في الرياض، واجتمع لها كبار مشايخ الرياض ونجد، وتمَّ مناقشة الشيخ في رسالته: ’يسر الإسلام‘ وفتواه حول رمي الجمار، وقد ردَّ الشيخ بما فتح الله عليه، وكان موفقاً في ردوده، التي اعتمد فيها على الأدلة من الكتاب والسنة، ووزع على المشايخ قبل الاجتماع رسالته الموجهة إلى علماء الرياض، التي أورد فيها مستنده وهذه الأدلة بشكل واضح.

يقول الشيخ زهير الشاويش رئيس المكتب الإسلامي في بيروت، ـ وكان ممن حضـروا المناظرة مع الشـيخ ـ: ’كنت قريباً من الشـيخ ابن محمود، وبجواري الشـيخ (أبو حبيب) الذي كان مؤيداً لرأي الشـيخ، وكان الشـيخ يستشـهد في رأيه بالآيات والأحاديث النبوية وآراء بعض العلمـاء، وكان ردُّ علماء الرياض يعتمد على أقوال متأخري الحنابلة‘.

ويضيف الشيخ زهير: ’ولما طال الجدل في المجلس، قام عدد من المشايخ، وأحاطوا بالشيخ ابن محمود مطالبينه بالرجوع، وتلبية طلب شيخه في كتابة رسالةٍ بتراجعه، والشيخ يعتذر منهم ويقول: رُدُّوا عليَّ.

وبعد إلحاحٍ منهم وإحراجٍ سكت الشيخ، فقام أحدهم ـ ويدعى الشيخ الصالحي ـ ورفع صوته وقال: الحمد لله، لقد رجع الشيخ ابن محمود عن قوله إلى كلام العلماء، وسوف يكتب رسالةً برجوعه.

وهنا قام الشيخ محمد بن إبراهيم، وخرج منهياً الجلسة، وخرج وراءه أكثر الحضور،ولكن الشـيخ ابن محمود قام، وقال أمام الحاضرين ـ ومنهم الشيخ أبو حبيب، وابن باز، وبعض الحضور وأنا أسمع منه قوله ـ: (أنا لم أقل، ولم أرجع)‘.

وقد شهد الشيخ إبراهيم بن ضعيان ـ وكان ممن رافقوا الشيخ ـ بشهادة مماثلة، أكد فيها أن الشيخ لم ينطق بالرجوع، وإنما عندما أحرجه المشايخ، واحتراماً لشيخه محمد بن إبراهيم سكت عن المجادلة، وقال: ’سأنظر في أمري‘، ولم يزد على ذلك.

وكان الشيخ أثناء إقامته في الرياض بانتظار المناظرة يلتقي مع عددٍ من كبار العلماء، ويتحاور معهم، وقد وافقه عدد منهم، ولكنهم لم يتكلموا في الاجتماع.

يقول الشيخ في رسالةٍ منه لأحد محبيه بعد أن تكلم عن تلك الجلسة: ’..وكان أعيانٌ من البارزين يوافقونني فيما هو مثار النِّزاع، ومعرك الجدل، وفي ذلك المجلـس خلفهم الخـوف والوجـل، وأنا أعذرهـم..‘ ويضيف رحمه الله حول نتيجة المناظرة: ’وأنا أعرف أن أغلب المشـايخ يـرون أني أصبت الهدف في العلم والفهم، وأني لم أتجانف فيما قلت لعذر، وقد ألفت قبل سفري رسالةً وزعتها على المشايخ، وصارت أشد على بعض الناس من الأولى..‘.

وقد حصل الشيخ على تأييد عددٍ من أمراء العائلة المالكة، وكان أبرزهم سمو الأمير عبدالله بن عبد الرحمن آل سعود (عمّ الملك)، والذي يعتبر في حينه فقيه آل سعود، وكان لديه خلفية علمية جيدة، تجعله قادراً على محاورة المشـايخ ومناقشتهم عن علم وفهم، وقد حفظ له الشيخ موقفه ذاك، فكان يزوره في كل مرة يصل فيها إلى الرياض، وكان الأمير عبدالله يقدِّره ويعزُّه.

منهج الشيخ العلمي

كان الشـيخ رحمه الله صـاحب مدرسـة فقهية مستقلة، أشبه ما تكون بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم، فلم يكن يقبل التقيُّد بآراء علماء المذهـب دون بحـث ومناقشـة، وإذا رأى أن رأي هـؤلاء لا يحقـق المصلحة، فقد كان يبحث عن الدليل الذي يستند إليه، ويحقق المسألة تحقيقاً وافياً ودقيقاً، وقد يخرج في النهاية برأي مخالف مستنداً إلى الدليل من الكتاب والسنة، وإن أثار عليه ذلك اعتراض المعترضين.

يقول رحمه الله في مقدمة مباحث التحقيق: ’فإن من واجـب العالـم المحتسب القيام ببيان ما وصل إليه علمه من معرفة الحق بدليله، مشروحاً بتوضيحه والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه؛ لكون العلم أمانة، والكتمان خيانة، ومن المعلوم أن العلوم تزداد وضوحاً، والشخص يزداد نضوجاً بتوارد أفكار الباحثين، وتعاقب تذاكر الفاحصين؛ لأن العلم ذو شجون، يستدعي بعضه بعضاً، وملاقاة التجارب من الرجال تلقيحٌ لألبابها، وعلى قدر رغبة الإنسـان في العلم، وطموح نظره في التوسـع فيه بطريق البحث والتفتيـش عن الحق في مظانِّه تقوى حجته، وتتوثق صلته بالعلم والدين؛ لكون العلم الصحيح، والدين الخالص الصريح شقيقين يتفقان ولا يفترقان، ورأسهما خشية الله وتقواه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ ۗ ﴾[البقرة: 282]‘.

ويقول في رسالته ’الجهاد المشروع في الإسلام‘: ’إن الناس يستفيدون من المتحررة آراؤهم، والمستقلة أفكارهم في حدود الحق؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأشـباههما، أكثر مما يستفيدون من المقلدة لشيوخهم وعلماء مذاهبهم؛ إذ المستقل بفكره هو من يستفيد من بحث غيره بصيرةً وفكرةً وزيادة معرفة، ولا يقلدهم في كل قول يقولونه، وإنما يعمل بما ظهر له من الحق، فعدم وجود المستقلين ضارٌّ بالإسلام والمسلمين؛ لأنهم حملة الحجة والبرهان، والمقلد لا حجة له، وإنما غاية علمه وعمله أن ينقل حجة غيره، فإذا طرأت شبهة على الدين كهذه لم يجد جواباً لها منقولاً عمَّن يقلدهم من الفقهاء، فيبقى حائراً محجوجاً مبهوتا، أو يستدل بما لم يحط بعلمه. [من الطويل]

ولم يتناوَلْ دُرَّةَ الحَقِّ غائِصٌ

منَ الناسِ إلا بالرَّوِيَّةِ وَالفِكْرِ

إن طريق الانتفاع بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المجتهدين هو أن يفرغ الإنسان قلبه مما يعتقده قديماً مما قد يظن في نفسه أنه حق، ثم يقدِّر الاحتمال لعدم صحة ما يعتقده، فينظر من جديد في الأدلة التي يوردها المجتهد، بدون أن يتلقاها بالنفرة والكراهية الشديدة لها؛ فإن الإنسان إذا اشـتدت كراهيته للشـيء لم يكد يسـمعه ولا يبصـره، فيفوت عليه مقصوده وثمرته‘.

ويقول رحمه الله في رسالته: ’مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق‘ موضحاً مايتعرض له العلماء والكتَّاب من مناوئيهم:

’...إنه متى تصـدَّى عالمٌ أو كاتبٌ أو شـاعرٌ لتأليف أي رسالة أو مقالة أو قصيدة، فبالغ في تنقيحها بالتدقيق، وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، فحاول جاحدٌ أو جاهلٌ أن يغير محاسنها، ويقلب حقائقها، وينشـر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها، فيلبسـها ثوباً من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان، ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضَعَفَة الأفهام.. أفيُلام صاحبها إذا كشـف عنها ظلم الاتهام، وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام بطريق الحجة والبيان؛ إذ لا بد للمصدور من أن ينفث، والحجة تُقرع بالحجة، ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ۗ ﴾[الأنفال: 42]. مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق؛ لأن الحق مضمون له البقاء، وأما الزبد فيذهب جفاءً...‘.

وعندما يتصدى رحمه الله لبحثٍ فإنه يجمع ما له من الحجج وما عليه، ويمحِّصها، ويرجِّح ما يراه حقاً، ويقول: ’...وجمعتُ من النصوص الجلية والبراهين القطعية ما يزيح الشك عن الكتاب، ولن أهمل أمراً ما عسى أن يكون حجةً عليَّ في هذا الباب، بل كتبتُ كلَّ ما وجدت من حجج المانع والمقتضي والموجب والسـالب، ورجحت ما يقتضـيه الترجيح بدليل السنة والكتاب، وبينت من الدلائل في مقدمته ما يكون مؤذناً بصحته، ولم أُلقه ساذجاً من دليل الحكم وعلته؛ لأنني أخذت ـ فيما قلت بالأدلة الشرعية ـ مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، وكونه لا حول ولا قوة إلا بها، غير أن صواب القول وصحته غير كافلة لصيانته عن الرد عليه، أو الطعن فيه والحطِّ من قدره، حتى ولا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في أحكامه، والتكذيب بكلامه: (وكذب به قومك قل لست عليكم بوكيل) فكيف بكلام من هو مثلي، وأنا المقرُّ على نفسي بالخطأ والتقصير، وأني لدى الحق أسير..‘.

ويضيف رحمه الله: ’غير أن الناس بطريق الاختبار يتفاوتون في العلوم والأفهام، وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام، أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فتأخذ العيون والآذان من الكلام على قدر العقول والأذهان، فيتحدث كلُّ إنسان بما فهمه، حسب ما وصل إليه علمه، وعادمُ العلم لا يعطيه، وكلُّ إناءٍ ينضح بما فيه، فمن واجب الكاتب أن يبدي غوامض البحث ومشاكله، ويبين صحيحه وضعيفه مدعماً بدليله وتعليله؛ حتى يكون جلياً للعيان، وليس من شأنه أن يُفهم من لا يريد أن يفهم كما قيل: [من البسيط]

عَلَيْكَ بالبَحْثِ أن تُبْدِي غَوامِضَهُ

وما عَلَيْكَ إذا لم تَفْهَمِ البَقَرُ..‘

وكان رحمه الله صاحب استقلالية في البحث، ولا يتقيد إلا بالدلائل الواضحة من الكتاب والسنة، ويبين منهجه في ذلك بقوله: ’...ونحن لا نعتذر من قول الحق على شيخ الإسلام أو على غيره؛ إذ الحق فوق كلِّ أحد، وشيخ الإسـلام هو حبيبنا، وليس بربـِّنا ولا نبيِّنا، وقد قال ابن عباس: ’يوشك أن تنْزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر‘، ومن المعلوم أن أبا بكر وعمر أفضل من كل أحد بعد رسول الله، وقد قال الإمام أحمد: ’عجبت لقومٍ عرفوا إسـناد الحديث وصـحته، فيتركونه ويذهبون إلى رأي سـفيان وفلان وفلان، والله يقـول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].

ثم إن شيخ الإسلام رحمه الله قد خالف الأئمة الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألةً مشهورةً لدى أهل العلم والمعرفة، ولا يُعدُّ انفراده بها شذوذاً؛ لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به...‘.

المناقشات العلمية والردود

تعرَّض الشيخ لحملةٍ شديدةٍ من أقرانه، الذين رأوا في آرائه خروجاً على ما استقرَّ عليه الفقه في نجد والجزيرة العربية، والذي انتشرت فيه كتب متأخري الحنابلة، وأصبحت هي أساس الفتوى، بحيث أصبح الخروج عنها خروجاً على الإجماع، ولم يشفع للشيخ كونه يسند آراءه بالأدلة من الكتاب والسنة وآراء الصحابة وبعض العلماء المتقدمين.

وعندما أصدر الشيخ أولى رسائله المثيرة للجدل، وهي رسالة: ’يسر الإسلام‘ كان عمره 44 سنة، وهي سنٌّ صغيرةٌ نسبياً مع وجود عدد من كبار العلماء الأكبر سناً، والذين يتوقعون منه عدم هزِّ الثوابت في الفقه الحنبلي السائد.

وقد تعرضت رسائله وفتاواه لعدد من الردود من كبار وصغار العلماء، فصدرت ردودٌ بعضها مطبوع في كتاب، وبعضها نُشر كردٍّ في إحدى المجلات أو الجرائد، وأكثر الردود صدرت على رسائله الأولى حول رمي الجمار قبل الزوال وفي الليل، وكون الصدقة أفضل من الأضحية عن الميت، ونفي الفرق بين النبي والرسول، وجواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب، والجهاد المشروع في الإسلام وكونه للدفاع، وقد ردَّ عليها رحمه الله بردودٍ وافيةٍ، أبرزت قدرته الفذَّة في الدفاع عن آرائه بتمكُّنٍ وثقةٍ، أكسبته احترام مناوئيه، كما زادت أعداد مؤيديه زيادةً كبيرةً، وأصبح له قبولٌ عند الناس وثقةٌ في فتاواه.

وقد مرت كتبه الأخيرة ـ مع أنها أكثر جرأة ـ بدون أن تصدر في مواجهتها ردودٌ تُذكر، وذلك كرسالة: ’الطلاق‘، ورسالة: ’لا مهدي يُنتظر‘.

الشيخ في مواجهة مناوئيه

أثارت رسائل الشيخ واجتهاداته الكثير من النقاش والنقد، حيث جاءت على غير ما ألفه الوسط العلمي في الجزيرة العربية، فصدرت عدة ردود عليها، ولكنه ردَّ عليها بتمكُّنٍ وثقةٍ تامةٍ، وقراءة ردوده رحمه الله تُبرز قدرته المتميزة، وإحاطته بما يجتهد فيه.

ففي ردِّه على من اعترض على رسـالة الأضـحية يقول: ’...وكـون الأضحية عن الميت ليس لها أصلٌ عن رسول الله ﷺ ولا عن أحدٍ من أصحابه، ولم تُحفظ عن أحدٍ من التابعين، وأن مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك والشافعي القولُ بعدم مشروعيتها، وقد ذكرتُ مذاهبهم معزوةً إلى أصحابهم وكتبهم في الرسالة، وذكرت بأنها لم تكن معروفةً عن قدماء فقهاء الحنابلة، فلـم تُـذكـر في كتـب المتقدميـن، لا في الخرقـي، ولا كتـب القاضـي، ولا ’المغنـي‘، ولا ’الكافـي‘، ولا ’الشـرح الكبيـر‘، ولا ’المحـرر‘، ولا ’المقنع‘، ولا ’المنتقى في الأحكام‘، ولا ’المذهب الأحمد‘، ولا في ’الإنصاف‘، ولا في ’الهداية‘ للخطابي، ولا ’النظم‘، ولا في ’زاد المعاد‘، ولا في ’إعلام الموقعين‘، ولا في شئٍ من التفاسير، كما أن استحباب الأضحية عن الميت لا يوجد في شئٍ من كتب المذاهب الثلاثة المعتمدة، وإنما الذي أدخلها على الحنابلة هو صاحـب ’المنتهى‘ حيث قال: (وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي)، وأخذها عنه صاحب ’الإقناع‘..‘.

وهذه تُظهر قدرته العلمية الموسوعية، بحيث يحيط بكل هذه المراجع، ويقول واثقاً أنها لا تتضمن جواز الأضحية عن الميت، مع العلم أنه لا يعتمد إلا على ذاكرته.

ثم يؤكد على منهجه الذي يسير عليه في اجتهاده فيقول: ’ولا ينبغي أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدامى ليـس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقاً لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ، الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله: [من الكامل]

والنّاسُ أكثرُهُمْ بِسِجْنِ اللفظِ مَحْـ

ـبُوسونَ خَوْفَ مَعَرَّةِ السَجَّانِ

والكُلُّ إلاّ الفَرْدُ يَقْبَلُ مَذْهَباً

في قالَبٍ ويَرُدُّهُ في ثاني

وكان رحمه الله ينتقد بعض المشايخ في عدم تحرِّيهم للحكم الصائب، فيقول: ’وبعض إخواننا يعجز عن استعمال فهمه في إدراك ما عسى أن ينفعه، وإنما يصغي بأذنه إلى ما يقول الناس بدون تروٍّ ولا تفكُّرٍ، فإذا قالوا في الشيء خطأً قال خطأً، وإذا قالوا صواباً قال صواباً...‘.

ويقول: ’ولكن الحق مهما حاول الناس منعه، وتحاملوا على قائله، فإن عادة الله في نصره أنه يشق طريقه بنفسه لنفسه، ثم يعود الناس إلى العمل به، والحكم بموجبه، مهما طال أو قصر زمانه‘

وقد تألَّم الشـيخ من موقف هؤلاء الأقـران، يقول في مقدمة ’الحكم الجامعة‘: ’وقد قال لي أحد هؤلاء الأقران الكرام عندما زرته للسلام، وكنت أحمل معي شـيئاً من الرسائل العلمية، فبادرني بقوله: إنني لم أقرأ شيئاً من رسائلك أبداً.

وسبق أن قال لي مثل هذه الكلمة من مدة تزيد على ثلاث سنين، وقد أعادها الآن، فقلت له: عسى أن لا يكون فيها إلحادٌ وزندقةٌ؟ فقال: لا، إلا أنني مشغول عنها. ثم قال: إن فلاناً يشتغل بكتابة ردٍّ عليك.

فقلت له: أهلاً بمن يردُّ الباطل في وجه قائله، وإنني مسـتعد لقبـول الحق منه، وردِّ الباطل عليه، ثم تفرقنا من غير رضىً مني‘.

كما يقول رحمـه الله: ’غير أنني أعرف أهـل زماني، وخاصة إخواني وأقراني، وأنهم على اتباع زلّاتي، وإحصاء سيّئاتي، وستر حسناتي أحرص منهم على الانتفاع بعظاتي، لكنني أسلِّي نفسي بالتأسي بالعلماء الفضلاء قبلي، الذين دب إليهم داء الحسـد من أقرانهم؛ لكون الرجل الفاضل مهما هذَّب نفسـه، وحاول كفَّ ألسنة الناس عن عذله ولومه، فإنه لن يسعه ذلك؛ لأن كل ذي نعمة محسود، كما قيل: [من الرمل]

ليسَ يَخْلُو المَرْءُ مِنْ ضـِدٍّ ولو

حاوَلَ العُزْلَةَ في أَعْلى الجَبَل..‘

ويضـيف أيضاً ’..ووقع بنا ما قيل إن أزهـد الناس في عالمٍ هُم أهلُه وجيرانه، ومن يعيـش بين ظهرانيهم، كما حكى الله سبحانه عن فرعون لما جاءه نبي الله موسى برسالةٍ من ربـِّه: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: 18] فكانت تربيته فيهم، وبداءة نشأته عندهم هو من أسباب عدم قبولهم لدعوته، والاحتقار منهم للحق الذي جاء به، ولن ننسى عداوة قريش لرسول الله ﷺ وتكبُّرهم عن قبول دعوته من أجل نشأته بينهم..‘.

ويقول الشريف شاكر بن هزاع قائمقام مكة السابق: ’كنا في زمن الملك فيصل لا نسمع من المشايخ إلا قال ابن محمود، وردَّ ابن محمود، ليس لهم حديث إلا عن رسائله وردوده‘.

وكتب الشيخ عبدالله بن خميس الأديب والمؤرخ المعروف في رسالةٍ منه للشيخ مؤيداً له:

’...والواقع أن استنتاجاتكم واجتهاداتكم الإسلامية ومآخذكم الموفقة، لما يتفق وروح الإسلام ومقاصده المرنة السمحة؛ إذ هي تهدف إلى تحكيم الكتاب والسـنة، والرجوع إلى معينهما الصـافي، دون الالتفات إلى التقليد والمحاكاة وتحكُّـم الرجـال، الأمر الذي يجعلنا نطمـع في أن يُكثر الله من أمثالكم؛ أهلِ العقول النيِّرة والأفكار الرحبـة، الذين تنشـرح بهم الصدور، وتطمئن إليهم القلوب، ويجتذبون الناس بما أعطاهم الله من الحكمة والموعظة الحسنة، والنطق الهادف، والبحث عن الحق أينما كان وحيثما كان.

ولا أكتم شيخي الفاضل أنني من المعجبين باجتهاداته الشرعية، وبصراحته في الحق، ولا أزال ولن أزال أكرر إعجابي، وأدعو من صميم قلبي أن يكون قدوةً لرجالٍ من هذا الطراز؛ لاتأخذهم في الله لومة لائم، ولا يركنون إلى التقليد الجامد الأعمى، بل يجاهرون بالحق، ويجأرون به.

وأنا واثق ـ وإن حفَّ اجتهاداتكم الإسلامية ما حفَّ بها من تنفجات ومخالفات ـ إلا أن النية الحسنة، وسلامة الطوية، وعمق المأخذ، وسلامة التفكير، وتلمُّس مقاصد الإسلام الكريمة وأهدافه السمحة، كل ذلك سوف يكتب لهذه الاجتهـادات الخلود والبقاء، رغم ما يُثار حولها من غبار، طال الزمن أو قصر: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].

هذا وأرجو من الله أن يصاحبكم التوفيق في قولكم وعملكم، وأن يبقى قلمكم الصريح وفكركم الناضج أسوةً وقدوةً..‘.

علاقة الشيخ بزملائه العلماء

كان الشيخ يحتفظ بعلاقاتٍ جيدة مع كبار العلماء في المملكة السعودية والخليج، وكان يعتبر الخلاف العلمي يجب أن لا يكون سبباً لخلاف شخصي أو قطيعة؛ لذا فقد بقي محافظاً على علاقته بزملائه المشايخ، حتى الذين اختلفوا معه، وكان يزورهم عندما يكون في الرياض أو الطائف، ويبادلونه الزيارة، كما أن بينه وبينهم مراسـلات كثيرة، خاصـة كبار آل الشـيخ الذين يقدرهـم ويقدرونه.

وعندما أصدر الشيخ محمد بن إبراهيم رسالةً ردّاً على رسالة الشيخ: ’يسر الإسلام‘، وأحضر أحد محبيه الرسالة إليه طالباً منه أن يتروَّى قبل أن يردَّ عليها، فقال له: ’لو أن الذي ردَّ عليَّ غيره كنت عرفت أرد عليه، لكن الشيخ محمد بن إبراهيم أبي وأستاذي‘ ولم يرد على الرسالة احتراماً لشيخه.

وفي رده على المشتهري حول اللحوم المستوردة يقول عن زميله الشيخ عبدالله بن حميد: ’...أما ما أشار إليه من ردِّ العلامة الشيخ ابن حميد عليَّ فأهلاً وسـهلاً؛ فهو حبيبي في الأصل، وزميلي في الطلب، وأحمل له الود المكين وأُعامله بالإجلال والتكريم؛ فهو وإن ردَّ علي أو رددت عليه، فما هو إلا بمثابة حديـث الفكاهة في الآداب تجري بين الأحباب، ويبقـى الود ما بقي العتاب.

غير أنه لا يخفى على العقلاء أنه ليس كل ردٍّ صواباً، فقد رأينا كثيراً من الناس يردون الحق بالباطل، وهم يحسـبون أنهم يحسـنون صنعاً، فلا فخر بمجرد الردِّ، وإنما الفخر بصواب النقد. بحيث يقال: قرطس فأصاب‘.

وفي كتابه ’الرد السديد في تحقيق الأمر المفيد‘ الذي ألَّفه رداً على الشيخ عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز السابق بالرياض قال: ’..وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ عبد العزيز في جهده ونقده جزيل الأجر والثواب، سواء أخطأ في النقد أو أصاب؛ فما ردُّه علي أو الرد عليه إلاّ محض التلقيح للألباب، ويبقى الود ما بقي العتاب؛ إذ ما من أحد من الناس إلاّ وهو رادٌّ ومردود عليه، ولنا الأسوة بالصحابة حيث يردُّ بعضهم على بعض في مسائل الفروع، ولن يجد أحد في نفسـه حرجاً أو افتخـاراً بفلج في ردِّ أخيه عليه؛ لأن قصد الجميع الحق، فهو غايتهم المقصودة وضالتهم المنشودة، وإنا لنرجو في إثارة هذه المباحث بأن لا نعدم من نتائج جميلة، وحكم جليلة يثيرها البحث والنقاش، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب‘.

وقال عنه مبيناً أساس الاختلاف العلمي معه ’..فنحن نعده من الفقهاء الأجلاء، غير أنه من القوم الذين يرون التقيد بالمذهب في الصغيرة والكبيرة، وألا يخرج عنه قيد شعيرة؛ فلأجله ضاق ذرعه بمخالفتي لرأيه‘.

تميُّزه الفقهي وخصائصه العلمية

لقد تميز منهج الشـيخ الفقهي بخصائص ومميزات قد لا نجدها عند علماء آخرين، وهذه الخصائص والمميزات هي في حقيقة الأمر نابعة من ذلك الفهم العميق والنظرة الثاقبة غير المتزمتة لروح الشـريعة الإسـلامية الغراء، ومقاصد ديننا الإسلامي الحنيف التي أكرمه الله تعالى بها.

يقول رحمـه الله: ’وإنني عندما أطرق موضوعاً من مواضيع البحوث العلمية التي يحسن التذكير بها، وبمحاسنها ومساوئها، وحكمها وأحكامها، فإنني آخذ للبحث بغيتي، وغاية رغبتي، مما وصل إليه فهمي وعلمي، حتى ولو طال ذيل البحـث، ولن أقتصـر فيه على بُلْغَة العجـلان، ورغبة العاجز الكسلان؛ إذ إن الناس يتفاوتون في قوة الإيراد والتعبير، وفي حسن المنطق وجمال التحبير، والعلم شجون يستدعي بعضه بعضاً، ويأخذ بعضه برقاب بعض، وعَدُّوا من عيوب الكلام وقوع النقص من القادر على التمام، ووقوع الانفصام والانفصال في مواقع الاتصال..‘.

ويقول الشيخ صالح اللحيدان: ’إن هذا النحرير أحد رموز العلم الشرعي بما يتناوله من مسائل شرعية بدليل وتعليل وتمكين، وقد ظهر على مصنفاته سعة العلم، وقوة البيان، وسرعة البديهة، وقد ظهرت أمارات قرع الحجة، بما يتناوله من نقدٍ لكثيرٍ من المسائل المطروحة التي رأى فيها رأيه، فكم ناقش وردَّ، ونقد بروح المدرك المطَّلع، ولا تجده إلا ذلك الرجل الرجَّاع للحق إذا بان له الخطأ... ولعله أحد أبرز البقية الباقية من العلماء السلفيين أهل التوحيد الصحيـح والدعوة إليـه، كيف لا وهو ابن فطرة خيِّرة، وابن أرض معشـبة مخضرة؟‘.

يقول الشيخ يوسف القرضاوي عن الشيخ ابن محمود: ’كان عالماً حجةً، من الناس الذين أتقنوا العلم، وأصدر فتاواه ورسائله في كثير من قضايا العلم والفقه، فهذه الرسائل التي أصدرها تدل على فقه عميق، وعلى بصيرة بدين الله، وعلى جرأة في الحق، لايخاف في الله لومة لائم‘.

ويضيف عن الشيخ إنه: ’فقيه مستقل الرأي، صاحب اجتهاد وصاحب ترجيحات، وليس مجرد عالم يحفظ ما في الكتب فقط، وقد قرأت رسائله ووجدت رأيه رأياً قوياً، وأيَّدته بكل قوة، فقد اعتمد على أدلة شرعية واعتبارات أصولية لا يمكن أن يرفضها إلا مكابر‘.

ويقول الأستاذ الدكتورعلي شحاته():

’والشيخ ابن محمود محدِّث لبق لا يجارى، وخطيب مصقع لا يبارى، حاضر البديهة، صريح الرأي، قوي الحجة، قاطع الدليل، ساطع البرهان، عالي الهمة، عزيزالنفس، وهو بحقٍّ وحيد عصره، وفريد زمانه، يقول كلمته بوضوح، ويناقش الرأي بالمنطق، ويرد الحجة في هدوء، ويدفع بالتي هي أحسن.

فإذا لم تُجْدِ كل هذه الأساليب اشتدَّ واحتدَّ، ورفع صوته، فكان أشد رنيناً وأحدَّ طنيناً، فيقذف بكلمة الحق لا يهادن فيها ولا يلاين، لا يبالي أين تقع، فلا يرهب قوةً ولا يخشى بطشاً، فيكون لآرائه دوي القنابل، وفرقعة الديناميت، ويواجه بعدها الأخطار في شمم وإباء كالطود الشامخ والجبل الراسخ.

وهو حركة دائبة، يعظ، ويحاضر، ويناظر، يواتيه الكلام ويطاوعه، إذا خطب وتدفق منه الكلام، يأخذ بأزمة القلوب والعقول، كأنك أمام سحبان ابن وائل أو قس بن ساعدة، يوجز فلا يخلُّ، ويطنب فلا يملُّ، إذا لان كان كالماء أو أسلس، وإذا اشتد كان كالصخر الأملس.

وقال كذلك: والشيخ ابن محمود واسع الاطلاع، يحفظ القرآن عن ظهر قلب، ويحفظ آلاف الأحاديث، فلا تستطيع أن تذكر أمامه كتاباً من الكتب إلا وقد قرأه، ولا بيتاً من الشعر إلا وقد سبقك إليه، ولا خبراً من تاريخ العرب والإسـلام إلا وقد وعاه، ولا حديثاً إلا وقد رواه، ولا شيئاً من قواعد اللغة وطرائف الأدب إلا وقد ألمَّ بها واستوعبها.

ولذا فإني أقول بصدقٍ، وأشهد بحقٍّ أن أستاذنا الشيخ ابن محمود أحفظ من رأت عيني من العلماء، وأعرفهم بالفقه، فهو بحرٌ زاخرٌ، وعلمٌ وافرٌ، وهو آيةٌ من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم وقوة الذاكرة.

وتعتبر كتبه ومؤلفاته العديدة موسوعة إسلامية، وثروة عظيمة، وفتاواه ذخيرة فقهية.

له فتاوى جريئة لم يسبقه أحد من العلماء السابقين أو اللاحقين إليها، ومن هذه الفتاوى: جواز رمي الجمار قبل الزوال، فتصدَّى له العلماء فأفحمهم، وانتصر عليهم؛ لأنه يعلم كيف يجيب إذا تكلم، وكيف يستشهد إذا تحدث، وكيف ينتصر إذا ناظر، وكيف يقنع إذا أفتى.

والشيخ ابن محمود شجاع قوي، ناصح للأمة، ناصح لأولي الأمر من الحكام والأمراء، آمر بالمعروف، وناه عن المنكر، ناصـر للسنة، محارب للبدعـة، له هيبة إلهية، ورهبة ربانيـة، لا يعطي الدنيـة، ولا يقبل المهانة، ولا يفرِّط في الكرامة‘.

;

التيسير في الفقه

حمل الشيخ لواء التيسير في الفقه، وحارب التشدد، فكانت فتاواه تميل إلى التيسير عن علم ودليل.

وقد كانت فتواه في رمي الجمار هي رحمة منه للناس، الذين تكرر فيهم الموت والإصابات بسبب أدائهم لشعائر حجهم.

يقول رحمه الله حول ما جرى في المناظرة ’..وقد قال لي أحد الفقهاء في محضرٍ محشودٍ بكبار العلماء، قد عُقد للمناظرة في قولي بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق‘ .. ’فكان من قول هذا العالم: (إن من تتبع الرُّخَصَ تزندق) قاله بمسـمع من جميع العلماء الحاضـرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين.

ويرد رحمه الله على هذه الكلمة فيقول: ’وخفي على هذا العالم أن هذه الكلمة كبيرة عند الله، تنادي بإبطال سنة الله التي شـرعها لعباده صـدقةً منه عليهم ورحمةً منه بهم؛ إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكَّدٍ لمعارِضٍ راجحٍ، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد.

ولما نزل قول الله تعالى: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ﴾ [النساء: 101] قيل للنبي ﷺ: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنَّا؟ فقال ﷺ: ’هي صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ تَصَدَّقَ بها عليكم، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ‘. أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقاً؟‘.ونظرة إلى فتاواه في مجموعة رسائله توضح بجلاء ما يسَّر به على الأمة في أمور الفتوى، وهي فتاوى كثيرة ذكرنا بعضها في الفقرات السابقة.

مواقفه وجهوده الإصلاحية والخيرية

كان الشيخ من المدافعين المجاهدين في سبيل رفع راية الإسلام، ومحاربة البدع والمنكرات، وقد كان مكافحاً بلسانه وقلمه في سبيل الاحتفاظ بعقيدة الأمة طاهرة نقية عن الانحرافات، وكان مجاهداً في سبيل ترسيخ العقيدة، ومحاربة البدع، ويرجع له الفضل في المحافظة على عقيدة أهل قطر وتنقيتها من الكثير من البدع والخرافات المخالفة للشرع، حتى أصبحت قطر من البلاد التي يمتاز أهلها بالتدين والعقيدة الصحيحة.

وكان لا يتردد في نصح أولياء أمور المسلمين بما يراه مخالفاً للشرع أو ضاراً بمجموع الأمة، وكانت له كلمة مسـموعة لدى حكام البلاد، ويكِنُّون له الكثير من الاحتـرام والتقدير، ويستشـيرونه في كثيرٍ من شـؤون البـلاد، ويستعينون به في حلِّ المشاكل الصعبة.

وكان ورعاً ومتعففاً لا يخشى في الله لومة لائم، وقد أكسبه هذا الكثير من الاحترام والتقدير والمحبة الصادقة من الجميع، وكان شيوخ آل ثاني يجلُّونه، ويحبونه ويحترمون رأيه، وقد جعلته هذه المكانة مقصداً لطالبي الحاجات الذين يستعينون به لتوصيل طلباتهم إلى الحاكم، وكان موقعه كقاضٍ للبلاد يجعله على معرفة بأحوال أهلها، فكان يطالب الحكومة إن رأى تقصيراً في تقديم الخدمات، أو رأى محتاجين من أهل البلاد.

وقد كان حريصاً على مشاركة أهل البلاد أفراحهم وأتراحهم، فكان يعود المرضى، ويزور الصديق والعاجز، ويحرص على صلاة الجنائز وتشييعها حتى المقبرة والتعزية فيهم مع إلقاء موعظة قصيرة على أهله.

وكان رحمه لله ورعاً خاصة فيما يتعلق بالمال العام، يقول الشيخ جاسم ابن علي بن جاسم: أرسلني الشيخ حمد بن عبدالله عندما كان ولياً للعهد إلى الشـيخ ابن محمود، وطلب منه أسـماء أولاده حتى يجـري لهم رواتب من الديوان، فرفض الشيخ أن يعطيه أسماءهم، وقال: أولادي أنا أتكفل بهم.

وعندما عُيِّن رحمه الله قاضياً، أمر الملك عبد العزيز بإجراء راتبٍ له، فعفَّ عنه رحمه الله، واكتفى بالراتب الذي أجرته له الحكومة القطرية.

نصيحته للحكام

وكان لا يتردد في نصيحة حكام البلاد، وكتب في إحدى نصائحه لأحد حكام قطر السابقين:

’...فإن من لوازم المحبة الدينية التقدم إليكم بالنصيحة الودية، فقد أخذ الله العهد علينا بأن نناصح من ولّاه الله أمرنا؛ لأن الدين النصيحة لله ولرسـوله ولأئمة المسـلمين وعامتهم، وعسى أن لا أقول شيئاً إلا وعلمك يسبقني إلى القول بصحته، والاعتراف بموجبه، غير أن قولي هو من باب تنبيه الغافليـن: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، فلا تجـد في نفسك من أجله؛ فإنك عزيز عندي، والحق أعز من كل أحد، وأعوذ بالله أن أموت وأنا غاشٌّ لك، أو كاتمٌ نصيحتي عنك. [من البسيط]

ما ناصَحَتْكَ خَبايا الوُّدِّ من أَحَدٍ

ما لم يَنَلْكَ بِمَكْرُوْهٍ مِنَ العَذْلِ

مـَوَدَّتِي لَكَ تَأْبى أن تُسامِحَنِـي

بأنْ أراكَ على شَيءٍ مِنَ الزَّلَلِ

وكان بعض السلف يقول: ’لو أن لي دعوة مستجابة، لصرفتها إلى السلطان؛ لأن صلاحه يترتب عليه صلاح رعيته‘.

أيها الأمير! إن العدل قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين، وهو الآلف المألوف، المؤمِّن من كل مخوف، به تآلفت القلوب، والتأمت الشعوب.

والعدل مأخوذٌ من العدل والاستواء، وحقيقته وضع الأمور في مواضعها، وأخـذ الأموال من حلِّها، ووضعها في محلها، فجديرٌ بمن ملّكه الله بلاده، وحكَّمه على عباده، أن يكون لنفسه مالكاً، ولطريق العدل والقصد سالكاً، وللهوى والشـهوات الخارجـة عن حـدِّ الاعتدال تاركاً، فإذا فعل ذلك ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه..‘.

وعندما منعت الحكومة السعودية زواج السعوديين من غير السعوديين إلا بموافقة خاصة، وأدَّى ذلك إلى صعوبات كثيرة خاصة في دول الخليج التي يرتبط مواطنوها بروابط مصاهرة مع المواطنين السعوديين، فكتب الشيخ إلى الملك فهد يطلب منه استثناء مواطني دول مجلس التعاون من القرار، واستجاب الملك فهد، وصدر الأمر السامي في 26/9/ 1404ﻫ، الذي أشارت ديباجته إلى اقتراح الشيخ.

وفي رسـالة منه للشـيخ راشـد بن سعيد آل مكتوم ينصحه فيها بإزالة قبرٍ افتتـن به الناس، وأخـذوا يتبركون به ويزورونـه في جميرة بدبي يقول: ’..والحاصل أن هذا القبر الذي افتتن الناس به، والذي أخذوا يزدحمون عليه ويترددون إليه، ليس من الأمر الهيِّن الذي يُتسامح فيه، أو يتساهل مع الناس في اسـتدامة بقائه، بل هو أكبر من كل منكر؛ لأنه من الشرك الذي لايُغفر، فواجب الحاكم إنقاذ الناس عن الغرق فيه، وتعلُّق القلوب به وانصرافها عن دعاء الله بسببه، وذلك يكون بنقله عن محله، وإخفاء مكانه، وعمل الحواجز الرادعة عن إتيانه، كما فعل الصحابة بنظيره وهم القدوة الصالحة، وإني واثق منك إن شاء الله بقبول هذه النصيحة، ووضعها بالمكان الذي يحبه الله لك..‘ وقد استجاب الشيخ راشد لطلب الشيخ وأزال القبر.

وأمامنا الكثير من النماذج الرائعة للنصائح التي وجهها الشيخ رحمه الله إلى الحكام والعلماء والطلاب، وفئات مختلفة من الناس، وذلك من خلال رسائله ومؤلفاته ومراسلاته.

مجلس الشيخ

تميَّز الشيخ بميزة الكرم، وحب مساعدة الناس، وعندما تسلَّم أمانة القضاء فتح مجلسه لكل من يقصده من كبار القوم وصغارهم، كما صادف تسلُّمه القضاء بداية الحرب العالمية الثانية، وانقطاع البضائع ومواد التموين، وارتفاع الأسعار، مما أوصل المنطقة إلى مجاعة وفقر لم تعهدها.

لذا فقد كان مجلس الشيخ من مجالس قطر المفتوحة، والتي عُرف أهلها بحب الخير، ولم يكن مجلسه يخلو من ضيوف يسكنون في بيته، حيث خصص فيه غرفاً مجهزة لهم، ولا يخلو مجلسـه من ولائم للضيوف والزوار، وكان الضيوف الذين يقدمـون من خارج البلاد من حاضـرة وبادية يجـدون عنده المسكن والمأكل، إضافة إلى مساعدته لهم مادياً، أو يشفع لهم عند الحاكم أو كبار الأسرة الحاكمة، وكان من يصل إلى قطر من هؤلاء الضيوف ـ وخاصة من مناطق نجد المختلفة ـ يسأل عن مجلس الشيخ، الذي كان جزء منه مضافةً للضيوف وعابري السبيل، يقيمون فيه حتى تنتهي حاجتهم، ويحصلون على (شرهة) أو مساعدة قبل المغادرة، داعين للشيخ بطول العمر.

ولم يكن الشيخ يتأفف من ضغط هذه الواجبات وتكاليفها المالية، بل تجده سـعيداً بضيوفه، يأكل معهم ويجالسهم، ويحاول إنجاز ما جاؤوا من أجله.

كان المجلس مفتوحاً طوال اليوم، يقدم فيه القهوة والشاي والطيب، إضافة إلى الوجبات الثلاث بشكل يومي.

وكان مجلس الشيخ مقصداً لأهل قطر جميعاً في مناسبات الأعياد ودخول رمضان، حيث يقصدونه بعد أمير البلاد وعلى مدى ثلاثة أيام، ويعتبرون أن زيارة الشيخ واجبة في كل عيد للتهنئة والسلام، ويجلس الشيخ ثلاثة أيام من بعد شروق الشمس وبعد صلاة العصر وبعد المغرب بنصف ساعة حتى صلاة العشـاء، وبعد انتهاء إجازة العيد كان يعود لبرنامجه اليومي، حيث يجلـس عصراً وبعد المغرب، أما الصباح فهو في عمله بالمحكمة.

وفي كل جمعة كان الشيخ يولم وليمةً يحضرها من يتصادف وجوده من ضـيوف وزوار، ويحضرها جميع الأبناء والأقارب، وذلك بخلاف الولائم التي يولمها لزواره وضيوفه خلال أيام الأسبوع الأخرى.

ويعتبر مجلس الشـيخ من أقدم المجالس التي بقيت مفتوحة في مدينة الدوحة منذ عام ١٣٥٩ﻫ ـ ١٩٤٠م وبشكل مستمر، حتى أصبح من المعالم التي يعرفها الناس فيها، وقد زاره جميع حكام قطر من الشيخ عبدالله بن جاسم ومن بعده، وحتى الشيخ حمد بن خليفه آل ثاني حفظه الله، كما زاره الملك سعود بن عبد العزيز، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، والأمير سلطان بن عبد العزيز، والأمير سعود بن جلوي، والأمير عبدالله الفيصل وغيرهم.

ومنذ وفاة الشيخ استمر أولاده من بعده على النظام نفسه، حيث يجلسون عصراً وبعد المغرب وبعد العشاء، ويكون المجلس مفتوحاً في مناسبات الأعياد صباحـاً ليومين، إضافة لمحافظتهم على غداء الجمعة بشكل أسبوعي، كما أنهم يحرصون على استقبال الضيوف، ولهم مضافة في المجلس، ويولمون لمن شرَّفهم بزيارته.

كرم الضيافة والإنفاق في سبيل الخير

اشتهر فضيلته بالكرم الزائد، فقد كان كثير البذل في سبيل الخير، وله عوائد وصدقات مستمرة، وكان بيته ومكتبه مقصداً للفقراء والمساكين، فكان لا يردُّهم، ويمنع من يحجبهم عنه، وكان شـديد الرحمة للضعفاء من أيتام وأرامل وفقراء وعابري السبيل، فكان يساعدهم، ويسهِّل لهم أمورهم مستخدماً جاهه وماله.

يقول الشـيخ عثمان الصـالح: ’وله في الكرم والوسـاطة والوجاهـة ما يُذكر له بغاية الإعجاب والإكبار، أما الكرم فهو بحرٌ لا ساحل له، لا يأتي ضيـفٌ إلى حاكم دولة قطـر إلا وهو بعد الحاكم لليوم الثاني عنده مدعواً مكرماً، وكان لايسلم عليه قادم إلا ويحظى بقدرمن التكريم‘.

ويقول الشيخ زهير الشاويش: ’وكان الرجل الكريم الباذل للمال بسماحة نفسٍ وسـخاء يدٍ في جميع سبل الخير، وكان الشيخ ميسور الحال مع تعففه ونزاهته وترفعه، ومن الذين يحبون أن تظهر عليهم نعمة ربهم، فتراه ينفق كما ينفق أغنى الناس، ومن أحسن من ينفق ويتكرم سراً، ولا يكاد يخلو بيته من ضيوفه، ولعل أكثرهم من خارج البلاد‘.

ويقول عبد الرحمن بن سعد الزير، المستشار الإسلامي بسفارة خادم الحرمين بماليزيا متحسراً على فقد الشيخ ’فقدناه ـ رحمه الله ـ وليس والله كفقد غيره، فقد وهبه الله تعالى صفات ومميزات قلَّ أن اجتمعت في غيره، والله ما رأت عيني قط مثله، فقد كان من أوصل الناس لرحمه، وأبرهم بجاره ومعرفته، وأكرم الناس يداً وإحساناً، فضلاً عما حباه الله من حُسن البشر، ولين الكلام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام.

لقد مـنَّ الله عليَّ بلقاء فضيلته ـ رحمه الله ـ أكثر من مرة، حيث كنت أسعى إلى ذلك ما استطعت إليه سبيلاً، فقد كان من العلماء القلائل الذين يفتحون بيوتهم ليلاً ونهاراً لطالب علم أو مسـترشد، وطالـب حق أو طالب قرى وإكرام، فبالإضـافة إلى تخصيص جناح في قصـره الكبير في الدوحـة ـ أبدله الله به جنات الفردوس ـ فقد كان يغضب إذا علم أن أحداً زارقطر من بلاد الحرمين ممن يعرفه ومن لا يعرفه ولم يبدأ بزيارته، إذ سـؤاله الأول: متى وصلت؟ ويا سعادته إذا قال الآن، عندها يتهلل وجهه، وتنطلق أساريره، بخلاف ما إذا أجبت: البارحة أو بالامس، فسبحان من أجرى الخير على يديه، ووفقه لطاعة مولاه‘.

وكان لا يعلم باباً من أبواب الخير إلا ضـرب فيه بنصيب، رحمه الله وغفر له،يقول أكرم خان من بشاور في باكستان: ’زرت الشيخ فسألني عن بلدي، ثم شجعني على افتتاح مدرسة دينية فيها، فقلت له: إني رجلٌ عاميٌّ ولسـت عالماً، فقال لي: من يتَّـقِ الله يجعل له مخرجـاً، وقال: وعلى الله فليتوكل المؤمنون،وأعطاني مساعدة مالية كبيرة، فتحت بها مدرسة لتعليم الصغار القرآن وعلوم الدين واللغة العربية،ثم أعطاني شهادة لجمع التبرعات لا أزال أحتفظ بها، وقد كبرت المدرسة وزاد خريجوها على الآلاف، وذلك بفضل الله وبركة الشيخ‘.

وكان الشيخ قد يلجأ للاقتراض لتغطية التزاماته الكثيرة، وقد جاءه أحد المحتاجين ممن لحقهم ديْنٌ كبيرٌ، فلم يقصر عنه، وأعطاه ما سرَّه فبكى، فقال له الشيخ: لا تبكي، فإن الذي علينا أكثر من الذي عليك (يقصد من الدين) فقال الرجل: ياشيخ! أبكي لأني ما أدري كيف أجازيك، فقال الشيخ: يكفي أن تقول: جزاك الله خيراً.

أسلوبه في تربية أبنائه

كان الشيخ رحمه الله حريصاً على تربية أبنائه التربية الصحيحة، مهتماً بحفظهم من الكسل والانحراف، ومع قسوته أحياناً فإنه كان يحفز فيهم روح المثابرة والاجتهاد.

لقد كان شديد الحرص أولاً على صلاتهم وعبادتهم، ثم على تعليمهم ودراستهم، ثم على حمايتهم من أصدقاء السوء.

فقد كان رحمـه الله يتفقدهم في كل صلاة، ويعاقب المتخلف منهم، ويحرص على حضورهم جميع الفروض، بما في ذلك فرض الفجر.

وحيث إنهم من أمهات مختلفات، فقد جمعهم في مكان واحد في البيت الكبير؛ حتى يتمكن من إيقاظهم، وينتظرهم ثم يصحبهم معه للصلاة، وقد غرس فيهم عادة الصلاة منذ صغرهم، فشبُّوا على حبـِّها والحرص عليها.

كما كان حريصاً على متابعة دراستهم في المدارس، ويشجعهم على أن يكونوا مبرِّزين بين نظرائهم، فإذا رسب أحد أبنائه في إحدى المواد شجَّعه على تعويض ذلك وهو يقول: لكلِّ جوادٍ كبوةٌ.

كما كان يفرغ من وقته بعد صلاة العشـاء لتدريسهم ’متن الآجرومية‘ و’قطر الندى‘ في النحو، كما كان يراجع حفظهم للقرآن و’الأربعين النووية‘ بين المغرب والعشاء، إضافةً لقراءة أحد أبنائه لبضع صفحات من كتابٍ يختاره الشـيخ في التفسـير أو الحديث أو الفقه أو السيرة أو التاريخ، وتكون درساً أسبوعياً يستفيد منه كل من يجلس معه.

وكان يشجع أبناءه على تعلم العلم الشرعي، فإذا اختار ابنه تخصصاً آخر لم يمنعه، وكان يحثُّ أبناءه على التفوق وعدم إضاعة الوقت فيما لا يفيد، ويردِّد: [من البسيط]

قد هَيَّؤُوكَ لأمْرٍ لو فَطِنْتَ له

فَارْبَأْ بنفسِكَ أن تَرْعى مَعَ الهَمَلِ

وكان رحمه الله حريصاً على عدم اختلاط أبنائه بأصدقاء السوء، ويتفقد رفقتهم، ويسأل عن سلوكهم، ويمنعهم من مرافقة من يشكُّ في سلوكه، كما كان يبتعد في سكنه عن المناطق التي يكثر فيها خليط الناس ممن لا يكونون من أهل الصلاح، فإذا كثر الغرباء في منطقته وزاد عددهم انتقل إلى منطقة أوسع وأبعد عن تأثير الغرباء، ووزع فيها أراضي على أبنائه وأقاربه وأنسبائه بحيث يكون الحي متجانساً، وتكون بيئته مناسبةً لحفظ أخلاق الأبناء.

وكان يحرص على جلوس أبنائه معه في المجلس يومياً، وكان مجلسه رحمه الله لا يخلو من ضيوفٍ وزوَّارٍ من مختلف الفئات، وكان فرصةً ليتعلم الصغار أخلاق وطباع الكبار، وعلى الأبناء الاستماع لما يقول الكبار، والجلوس بأدب، كما أن عليهم الترحيب بالضيوف، وتحيتهم مع توديعهم إذا خرجوا.

كما كان الشيخ يأخذ أبناءه الكبار معه في زياراته المختلفة، وكان يسافر بهم معه منذ أن يبلغوا سـن التاسعة؛ وذلك حتى يتعلموا وتصقلهم التجربة بالرغم من كون السـفر قديماً شـاقاً مع عدم وجود طرق معبدة، وتستغرق الرحلة يوماً كاملاً أو يومين للتنقل بين مدينة وأخرى.

وكان رحمه الله يكثر الدعاء لأبنائه، وقد اسـتجاب الله لدعائه، فكان أولاده بارِّين به، واكتسبوا سمعةً حسنةً بين الناس، أهَّلتهم لتولِّي أرفع المناصب.

صلة الرحم

امتاز الشيخ بأخلاق عالية، ومنها صلة الرحم، فقد كان في خُطَبه دائماً يؤكد على احتفاء الشرع بصلة الرحم، ويردد الأحاديث الكثيرة التي وردت في السنة تحض على ذلك.

وقد طبق رحمه الله ذلك على نفسـه، فقد كان وَصولاً لرحمه، وكان يتفقد أقاربه القريبين والبعيدين، فإذا وجد أحدهم محتاجاً منحه ما يسدُّ حاجته، وإذا سمع عن أرملةٍ أو يتيمٍ واصلهم بالنفقة حتى يستغنوا، وإذا احتاجوا للسكن ساعدهم لشراء مسكنٍ يؤويهم، ولا يعتبر ذلك فضلاً ومنَّةً.

ولم يُعرف عنه أنه تحدَّث حول عطاياه أو أظهرها، بل إن واحداً ممن أكرمهم وتحدَّث بذلك في مجلس الشيخ جاء إلى أبناء الشيخ في اليوم التالي، وهو يتحدَّث بانفعال ويبكي ويقول: لقد رأيت الشيخ البارحة في المنام وقد غضب مني ونهرني؛ لأنني تحدثت عما أعطاني، وقال لي: هل تعتقد أنني أعطيك حتى تتكلم به أمام الناس؟ إنني لم أفعله إلا لله، ولا أريدك أن تتحدث به.

أعماله ومآثره

منذ أن تولى فضيلته القضاء في عهد الشيخ عبدلله بن قاسم الثاني وهو يجدُّ ويجتهد في سبيل أداء المهمة الكبيرة المنوطة به، وقد كانت أجهزة الدولة في ذلك الحين ضعيفةً، ولم تكن هناك بلديات أو دوائر للخدمات، مما زاد العبء على جهاز المحاكم، ومع ذلك فقد نهض الشيخ بمسؤولياته خير قيام، فكان قاضياً ومفتياً، وكان يلقي الدروس، ويتولى مهمة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يشرف على المساجد والأوقاف وما يتعلق بها من موظفين وخدمات، وكان يلقي خطبة الجمعة والأعياد، ويشرف على أموال اليتامى والقاصرين، ويتولى تنميتها، ويقسم التركات، ويزور القرى البعيدة لتفقُّد أحوالها، ويكتب للحاكم أو الأجهزة المختصة للمطالبة بخدمةٍ أو إنصاف مستحق أو مساعدة محتاج، ويستقبل الوفود والضيوف، ويساعد المحتاجين من داخل البلاد وخارجها.

وقد سـماه الناس ’أبو المساكين‘، و’أبو اليتامى‘ لما يرون له من أيادٍ بيضاء في مساعدتهم.

يقول الشيخ يوسف القرضاوي: ’أشهد أن هذا الرجل كان صواماً قواماً، كثير التلاوة لكتاب الله ﯻ، مشغولاً بالعلم، دراسةً وتعليما ً وتأليفاً وقضاءً، وكنت كلما زرته في مجلسه وجدته مشغولاً بقراءة كتاب مهم من كتب التفسير أو الحديث أو الفقه، وهكذا كان يقضي وقته بين العلم والعبادة والإفتاء والقضاء وشؤون المساجد وأموال القصَّر، والأوقاف وحاجات الناس، ولم يكن عنده مجـال للَّهو ولا الهزل، كان عنده من الحق والجـدِّ ما يصـرفه عن كل هزل وباطل‘.

تأسيس دائرة الأوقاف والتركات

لقد أسس فضيلته دائرة الأوقاف والتركات عام 1380ﻫ (1960م) والتي كانت تُعنى بإنشاء المساجد وصيانتها، وحفظ الأوقاف، ورعاية أموال اليتامى واستثمارها.

وقد كان له الفضل في وضع نظام حفظ أموال القاصرين، وتتولى المحكمة الشرعية الإنفاق عليهم، واستثمار أموالهم لحين بلوغهم سن الرشد، وكانت أموال الأيتام قبل ذلك تضيع؛ حيث يستولي عليها كبير العائلة،ومع ذلك فقد كان حريصاً على تنميتها، حتى إن بعض التركات لأشخاص فقراء نمت حتى حصل الأيتام بعد أن كبروا على مبالغ وعقارات رفعتهم إلى مستوى الأغنياء.

الاهتمام ببناء المساجد والحرص على تنمية الأوقاف

وقد عُني فضيلته ببناء المساجد في أنحاء البلاد، فأسس الكثير منها، وحرص على رعايتها وصيانتها، وتزويدها بالأئمة والخطباء الأكفاء.

وحرص على المحافظة على الأوقاف الخيرية وتنميتها،ومن مواقفه أنه عندما حاول أحدهم التعرض لأوقاف الشيخ قاسم بن محمد ـ مؤسس قطر، وصاحب الأوقاف الكثيرة على طلبة العلم في المملكة السعودية ـ رفض ذلك، وكان مما كتب للشـيخ خليفة بن حمد أمير البلاد في ذلك الحين: ’...لو قام الشـيخ قاسـم بن محمد من قبره، وطالـب في هذا الوقف لما وجد إلى إرجاعه سبيلاً، وهذا الوقف خيري متصل الابتداء والانتهاء، فلا ينقطع متى وجد أحدٌ من طلاب العلم الموقوف عليهم.

هذا وإن أكثر ورثة الشيخ قاسم من ذريته وبني بنيه ينكرون هذه المطالبة ويتبرؤون منها...‘.

اهتمامه بالتعليم، وتأسيس أول معهد ديني في قطر

اهتم الشيخ رحمه الله بالتعليم، وكانت أولى رسائله حول إصلاح التعليم، وهي: ’إدخال التعديل على مناهج الدين ومدارس التعليم‘ التي طُبعت أكثر من طبعة، كما قام في بداية عمله بالقضاء بتدريس عدد من طلبة العلم الذين التفوا حوله أو وفدوا عليه من خارج البلاد، ولم نستطع أن نعرف إلا عدداً قليلاً من هؤلاء().

وقد رأى هناك حاجة لإنشاء معهد ديني لتدريس الشباب الذين تحتاجهم البلاد وبعض البلدان المجاورة، فاقترح على سمو حاكم البلاد في ذلك الحين ـ الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني ـ إنشاء معهد ديني في الدوحة لخدمة طلبة العلم، فوافق على ذلك، وكلَّف الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود بالإشراف على المعهد وتولِّي شؤونه.

وتُظهر لنا مراسـلة بين الشـيخ وأسـتاذه الشـيخ محمد بن مانع بعض المعلومات حول هذا الأمر؛ حيث إنها توضح تاريخ إنشاء المعهد في حدود عام 1375ﻫ (1955م)، وقد اختار الشيخ لإدارته الشيخ محمد بن سعيد بن غباش، وهو من أهالي رأس الخيمة الذين درسوا في قطر، وكان زميلاً للشيخ في فترة الدراسة،واستمر المعهد في أداء رسالته حتى تمَّ ضمُّه لوزارة المعارف في فترة لاحقة.

التوسع في التوظيف في المساجد

كما تحسَّس حاجـة أهل البلاد الذين لم يكن لهم دخلٌ يكفيهم، فقام بالتوسع في توظيفهم في المساجد، فكان يعين في بعض المساجد عدداً أكبر من حاجتها، وقد يصل إلى عشرة موظفين، وكل ذلك بقصد المساعدة وتوفير دخلٍ للمحتاجين منهم، وكان يصرف راتب المتوفى منهم لعائلته، وكان نظام الدولة قديماً يخالف ذلك.

بل كان أول من وضع أساس الضمان الاجتماعي عندما بدأ في إجراء مقررات للعجزة والأيتام والفقراء والأرامل والمطلقات من أهل البلاد، وكان يدعو إلى قيام الدولة بتوفير وظائف لأهل البلاد لسدِّ حاجتهم.

وقد واجه معارضةً شديدةً في البداية من المستشار الذي كان مسؤولاً عن تنظيم مالية البلاد، ونتيجة للثقة التي يحظى بها الشيخ من حكام البلاد، استطاع أن يحصل في النهاية على صلاحية توظيف المحتاجين من أهل البلاد، إضافةً إلى إجراء مقررات للأرامل والمطلقات والأيتام والفقراء والعجزة، وكل من لا يجد وسيلةً تسدُّ حاجته.

ويذكر أهـل قطـر حتى الآن هذه المكرمة للشـيخ، ويتحدثون بها في مجالسهم، حيث أنقذت الكثير من الأسر القطرية من الفقر في الأوقات الصعبة.

وعندما حاولت الحكومة في عهد متأخر أن تقطع رواتب الكثير منهم بسـبب ازدواج الوظيفة، طالب بإبقاء وظيفة المسجد مع الوظيفة الأخرى، لسبب أن الوظيفتين بالكاد يكفون لمعيشة المواطن ذي العيال، كما أن عمل المسـجد لا يتعارض مع الوظيفة الأخرى من ناحية الوقت، وكتب في ذلك مما أدى إلى استثناء وظائف المساجد من القرار.

تخصيص المقابر في كل منطقة

وسـعى ـ رحمه الله ـ في تخصيص مقابـر في كل منطقة، مع تزويدها بحاجتها من عمال ومجهزين، وعندما اشترى للدولة أراضيَ واسعةً في منطقة مسـيمير، عندما كانت الأراضي رخيصـةً، وخصصها لإنشاء مقبرة جديدة، انتقده البعض على أسـاس أن البلاد لاتحتاج لكل هذه المساحات الكبيرة، وكان ردُّه لهم بأن البلد لن تبقى على هذا الوضع، وفي المسـتقبل ستمتلىء هذه المقبرة، وكان الشيخ بعيد النظر فعلاً.

مياه الشمال

يعتبر مشروع المياه لقرى الشمال من الأمثلة الواضحة على دور الشيخ في مساعدة المواطنين للحصول على الخدمات التي يحتاجونها، فقد لاحظ المشـقة التي يقع فيها أهل البـلاد في الشـمال للحصـول على الماء، وذلك بتكاليف تشق عليهم، فقام بمطالبة الحكومة أكثر من مرة بتنفيذ مشروع لتزويد أهل الشمال بالمياه العذبة، وبعد مراجعات ومطالبات طويلة استطاع الحصول على موافقـة حاكم البـلاد، وذلك في عـام 1377ﻫ (1957م) وتولى تنفيذ المشـروع بتكاليف أقل بكثير من المتوقع، وقام باختيار مقاول من أهل كل منطقة وكلَّفه بتوريد المياه لجميع أهل منطقته أو قريته من موارد عذبة يعينها في العقد، كما أنشأ خزانات في كل قرية لتخزين كميات كافية من المياه، وقام بانشاء بعض الموارد بما يتبع ذلك من حفر عدد من الآبار.

وكان هذا المشروع على قلة تكاليفه من أنفع المشاريع لأهل قرى الشمال، وتسبب في استقرارهم في قراهم، وتأمين راحتهم، كما أوجد عملاً لأصحاب السيارات.

كتب الشيخ علي

كان للشيخ دور في النصح والتوجيه لاختيار ما يُطبع من كتب الشـيخ علي بن عبدالله آل ثاني، وكان من مآثر الشيخ علي رحمه الله اهتمامه بطباعة كتب العلوم الشرعية والأدب التي كانت نادرة في ذلك الوقت وغير متوفرة، فكان يطبعها ويوزعها مجاناً، وكان الشيخ لمكانته عنده يشـير عليه بطباعة المراجع الهامة، وتصله الكثير من الاقتراحات من العلماء والمشايخ فينقلها إلى سـمو الشـيخ علي رحمه الله، كما يقوم بإرسـال أعداد كبيرة من الكتب المطبوعة إلى العلماء وطلبة العلم، ووُجد ضمن أرشيفه رحمه الله العديد من المراسلات الخاصة بهذا الموضوع، ويجب أن نذكر وننوه بدور الشيخ محمد ابن مانـع رحمه الله في مراجعة واختيار هذه الكتب، حيث تفـرغ لهذا الأمر في أواخر أيامه.

سفراته وزياراته

كان فضيلته قليل السفر، ويعتذر عن حضور المؤتمرات الخارجية أو الاجتماعات الرسـمية، كما كانت له زيارة كل سـنتين أو ثلاث سنوات إلى المملكة العربية السعودية، فكان يسافر إلى مسقط رأسه في حوطة بني تميم في مزرعته العامرة المعروفة هناك، ويأتيه الكثير من الزوار والمحبين وطلبة العلم والأقارب، وكان يُكثر من الصدقات وصلة الأرحام، ويحرص على تلبية دعوة من يدعونه لوليمةٍ أو قهوةٍ مع ما في ذلك من التعب والإرهاق، فقد يصل عدد المواعيد في اليوم الواحـد إلى أكثر من خمـس عشـرة زيارة في مناطق مختلفة، فيلبيها رغبةً منه في إدخال السـرور على من يزورهم، وكان لا يردُّ صاحب حاجةٍ، ويغصُّ مجلسه بكبار القوم وصغارهم.

وكان يمرُّ في سفره على الإحساء، حيث يستقبله أحبابه الكثيرون من وجهاء وعلماء وتجار، ثم يتوجه إلى الدمام ضيفاً على الأمير سعود بن جلوي، وبعده عند الأمير عبد المحسن بن جلوي، وله معهم صحبة، كما كان يزور وجهاء الدمام والخبر، الذين يصرون على دعوته إلى بيوتهم.

كما يزور الرياض ويقيـم فيها بعض الأيام لزيـارة الأقارب والمشـايخ والمحبين وتلبية دعواتهم، وسافر مرتين للتصييف في الطائف، وقد استضافه الملك فيصل في أحد بيوت الضيافة الحكومية، كما يتبادل الزيارة مع العديد من الأمراء والعلماء والوجهاء الذين يجلُّونه ويقدِّرونه، ومجلسه لا يخلو من فائدة وموعظة.

وقد سـافر إلى لندن أكثر من مرة للعلاج، كما سـافر مرتين إلى لبنان للغرض نفسه، وأثناء زيارته الثانية إلى لندن صادف عيد الأضحى، ودعاه إمام جامع المركز الإسلامي الكبير في لندن لإلقاء خطبة العيد، فأعدها على عجل، وكان موضوعها ’دعوة النصارى وسائر الأمم إلى دين الإسلام‘، وكانت ذات تأثير كبير على الحاضرين للصلاة، الذين التفوا حول الشيخ بعد انتهاء الصلاة للسلام والشكر، ونقلتها إذاعة لندن في حينها.

وفاته

انتقل الشيخ إلى رحمته تعالى ضحى يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر رمضان الكريم عام 1417ﻫ (6/2/1997)، بعد فترةٍ تزيد على السنة من لزوم الفراش، وتمَّ غسله وتجهيزه في بيته، والصلاة عليه بعد عصر ذلك اليوم في جامع الدوحة الكبير، الذي طالما شهد صولاته وجولاته على منبره.

وقد حضـر الصـلاة عليه جمعٌ غفيرٌ من المواطنين، على رأسهم أمير البلاد سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وشيوخ آل ثاني الكرام، والوزراء، والوجهاء، وأبناء البلاد، والمقيمون والمحبون لفضيلته، ثم شُيعت جنازته إلى مقبرة مسيمير في جنوب الدوحة، وصُلي عليه عدة مرات في المسجد المجاور للمقبرة، وأمام القبر لمن لم يتمكن من الصلاة عليه.

وقد حضر دفنه جمعٌ كبيرٌ من أبناء البلاد والمقيمين، غصَّت بهم جنبات المقبرة، مع العلم أن الكثير من الناس لم يصلهم الخبر، حيث كانت الوفاة والدفن في نهار رمضان، وقطعت الإذاعة القطرية إرسالها وأذاعت خبر وفاة الشيخ، ثم كررت إذاعته عدة مرات، وأذاع التلفزيون القطري الخبر في مقدمة نشـراته، كما نشـرت الصحف القطرية الخبـر في صـدر صفحاتها الأولى، وخصصت عدداً من صفحاتها الداخلية للحديث عن سيرته وأعماله، كما نشرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بياناً نعتْ فيه الفقيد للعالم الإسلامي.

وقد كان لوفاته صدى كبير، فقد بكاه أهل قطر رجالاً ونساءً، وخُصصت الخطبة الثانية في الجمعة التالية بمسـاجد البلاد للحديث عن مناقب الفقيد وأعماله ودوره في خدمة الإسلام والمسلمين، وصُلي عليه صلاة الغائب في عدد من البلاد.

وتوافد المعزون إلى بيته حتى غصَّ المجلس وساحاته بهم لعدة أيام، وازدحمت الشوارع المحيطة والمؤدية إلى بيت الشيخ بالسيارات حتى تعطل المرور فيها أوقات الذروة، وقد تلقى أبناؤه العديد من المعزين الذين قدموا من خارج البلاد، إضافةً للبرقيات والمكالمات الهاتفية من العديد من الحكام والأمراء والعلماء والوجهاء من مختلف البلاد.

خاتمـة

رحم الله الشـيخ الجليل رحمةً واسـعةً، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ما عمل وخلَّف من جهاد في سبيل إعلاء كلمة الله في ميزان حسناته يوم القيامة.

وقد كرَّمته الحكومة القطرية بأن اختارته شخصية العام 2007، وصدر قرار من وزارة التربية والتعليم بإطلاق اسمه على إحدى مدارس الدوحة، كما أُطلق اسـمه على أحد شوارع مدينة الرياض، ويوجد في الدوحة شارعٌ وحيٌّ باسمه (شارع وفريق ابن محمود) وهو الذي كان يسكن فيه سابقاً.

ولا نقول إلا ما قال رسول الله ﷺ: ’للهِ ما أَخَذَ وللهِ ما أَعْطى وكُلٌّ شَئٍ عنده بأَجَلٍ مُسَمَّى‘.

ولاشكَّ أن وفاة العالم تثلم في الإسلام ثلمةً لا يسدها إلا عالمٌ مثله، و’إنا لله وإنا إليه راجعون‘.

;