مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الخامس
أحكام الأضحية و رسائل أخرى(7) الأمراء الـمسلطون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من أضاع أمره وعصاه.
أما بعد:
فإن الله سبحانه بحكمه وعدله قد نصب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم فمن أسر سريرة ألبسه الله رداءها علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. قال تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ﴾ [محمد: 29-30]. وقد قيل: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وفي البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ». وهذه الـمضغة التي عناها الرسول ﷺ لا يعني بها تلك اللحمة الـمركبة في الإنسان بما يسمونها القلب، وإنما يعني بها ما يشتمل عليه القلب من الإيمان واعتقاد التوحيد أو ضد ذلك من اعتقاد الكفر والإلحاد.
ومتى صلح الاعتقاد صلح العمل، أو فسد الاعتقاد فسد العمل؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه، وكان حَلْفُ النبي ﷺ: «لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ»([182])، ويقول: «إن القلب بين إصبعين من أصابع الرب يقلّبه كيف يشاء»، ولهذا قيل:
وما سمّي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
والقلب هنا هو الـمسمى بالعقل.
فقد يكون العقل صحيحًا وهو الذي يعقل عن الله مراده؛ أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على الـمحافظة على الفرائض والفضائل ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
والعقل في معنى العقال ولفظه
فالخير يعقل والسفاه يحُله
ج
وقد يكون العقل سقيمًا أو معدومًا أشبه عقل البهائم، وهذا العقل كثيرًا ما ينفيه القرآن عن الـمشركين وعن التاركين للأوامر الدينية والـمرتكبين للمحرمات الشرعية، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: 179]. فلم يقتصر سبحانه على جعلهم مثل الأنعام بل جعلهم أضل؛ لكونهم لم يستعملوا مواهب عقولهم فيما خلقت له من عبادة ربهم فكانوا أضل من الأنعام، لكون الأنعام خلقت بطبيعتها جاهلة. وعليه يحمل قول بعضهم عن حمار توما.
قال حمار الحكيم توما
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط
وصاحبي جاهل مركب
وحكى الله سبحانه عن أهل النار: ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١١﴾ [الـملك: 10-11]. وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤﴾ [الفرقان: 44].
وقد قيل:
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
ج
لأنهم كفروا بالله تقليدا
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ٥٨﴾ [الـمائدة: 58]. فنفى الله عنهم العقل الصحيح بسخريتهم بالدين وهزؤهم بالـمصلين، ثم عدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفوز والنجاح بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، والنبي ﷺ قال: «من دُعيَ إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»([183]).
ثم إن العلماء أخذوا من قوله ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»([184]) بأن القلب بما أنه ملك الأعضاء ومسلط على الجسم في صلاحه وفساده كذلك الإمام، أي الحاكم، فإنه متى كان تقيًّا عدلاً سرت العدالة في أُمته ورعيته، ومتى كان ملحدًا سرى خُلق الإلحاد في رعيته على حد ما قيل: متى صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية. لكون الرعية مع السلطان بمثابة الأعضاء مع اللسان تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا. ولهذا صار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله الإمام العادل.
والعدل قوام الدنيا والدين وصلاح الـمخلوقين وله وضعت الـموازين، وهو الآلف الـمألوف، الـمؤمن من كل مخوف به تآلفت القلوب والتأمت الشعوب وشمل الناس الصلاح، فاتصلت بهم أسباب النجاح والفلاح، وشمل الناس التناصف والتعاطف. والعدل مأخوذ من العدل والاستواء الـمجانب للجنف والالتواء. وحقيقته وضع الأمور في مواضعها وأخذ الأموال من حلها وصرفها في حقها. والـمقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا.
فجدير بمن ملّكه الله بلاده وحكّمه على عباده أن يكون لنفسه مالكًا، وللهوى تاركًا. وللحق في حالة الرضا والغضب مؤثرًا ومظهرًا. فإذا فعل ذلك ألزم النفوس طاعته والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه. وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
ج
وصرف الدهر عقد ثم حَلُّ
وأحسن سيرة تبقى لوالٍ
مدى الأيام إحسان وعدل
وفي كتاب النبي ﷺ لهرقل: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ . سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ»([185]) أي الأتباع. ولهذا يقول العلماء: إن أكثر ما يفسد دين الإسلام هو العلماء الضالون والأمراء الـمسلّطون. وقد قال أمير الـمؤمنين عمر بن الخطاب: إن أكثر ما يفسد الإسلام هو زلة العالـم وجدال الـمنافق بالقرآن وحكم الأئمة الـمضلين([186]). ومن شعر عبد الله الـمبارك:
وهل أفسد الدّين إلا الـملوك
وأحبار سوءٍ ورُهبانُها
والنبي ﷺ قال: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ»([187]) ولهذا قال بعض السلف: لو أن لي دعوة مستجابة لصرفتها إلى السلطان؛ لأنه متى صلح أصلح الله به الناس، وإذا فسد فسد به الناس، وقد نجم في هذا الزمان أميران متكافئان في الطغيان وفي الجهر بالإلحاد ومحاولة إفساد عقائد العباد، أحدهما يقول: ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين. ويقول: إنه يجب على الحكام تطوير الأحكام فيجعلون الواجب ليس بواجب والحرام ليس بحرام، كما حكم بجواز فطر العمال في رمضان، ويقول فيما أثبته القرآن من تفضيل الذكر على الأنثى في الـميراث أنه ليس من الـمنطق، وأنه يجب مساواة الأنثى بالذكر، وعلى كل حال فقد عملت رسالة في الرد على هذا سميتها: حكمة التفاضل في الـميراث بين الذكور والإناث وفيها من بيان حكم التشريع ما عسى أن يشفي العليل ويروي الغليل، ويهدي الـمستريب إلى سواء السبيل ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔا﴾ [الـمائدة: 41].
وأما الحاكم الثاني فقد ثبت عنه قوله: إنني لا أعتد ولا أعتبر إلا بالسنة العملية أما السنة القولية فلا أعتبرها، وزعموا بأنه صلى العصر بجماعة ركعتين، فقال له بعض الحاضرين: إن العصر أربع. فقال: إن الله أمر بإقامة الصلاة وقد أقمناها ولم يذكر العدد. وزعموا بأنه يقول: إن ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١﴾ [الاخلاص: 1]. في قوله: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١﴾ و﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ١﴾ [الناس: 1]. و ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ١﴾ [الفلق: 1]. إنها زائدة، فينبغي أن تحذف، ويقرأ: هو الله أحد، وأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، فياليت شعري، ماذا يقول في قوله سبحانه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]. عندما يذكر الوعظ بعموم بعثته إلى كافة الناس فإنه عندما يخاطب الناس ويقول لهم: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا فإن الناس سيقولون له: كذبت. لست برسول الله، إنما ذاك محمد بن عبد الله وزعموا بأن له مؤلفًا سيخرجه للناس، مما عسى أن يتعلق بهذه الكفريات مما يدل على أنه مرجوج أهوج، يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط العشواء، كما قيل:
يسوسون الأمور بغير رأي
فينفذ أمرهم ويقال ساسة
فأفَّ من الحياة وأفَّ منِّي
ومن زمن رئاسته خساسة
وقد أفردت للرد على هذا برسالة سميتها: سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهي شقيقة القرآن. والأصل في هذا هو قلة نصيب هؤلاء من الدين؛ لأنه ما كان في شخص إلا زانه وما نزع من شخص إلا شانه، وكل إناء ينضح بما فيه وعادم الدين لا يعطيه.
وكل كسـر فإن الدين يجبره
وما لكسـر قناة الدين جبران
وإن مما ندرك على بعض أمراء العرب الـمسلمين في هذا الزمان وفي بعض البلدان، إظهار كراهيتهم للدين وعدم احتفالهم به ونفرتهم عن حمله، وقد عملوا عملهم وسعوا سعيهم في تقليل حصته من الـمدارس والجامعات إلى حالة أنهم لا يعتبرون الامتحان فيه ولا يحتفلون بحصة العلوم الشرعية ولا النجاح فيها كأنهم يحاولون إسقاطها من جملة العلوم الـمعتبرة، تمشيًا مع آراء الأساتذة القليلة حظهم من الدين، وإلا فمن الـمعلوم أن علم الدين يهذب الأخلاق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق. إن التهذيب على الدين هو أكبر ما يستعين به الحاكم على سياسة مملكته وسيادة رعيته، فالبلدان الـمتدينة بدين صحيح نراها آخذة بحظ وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، سالـمة من الزعازع والافتتان، يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. وهذا داءٌ دوي وخلق رديّ، قد سرى وتسرب إلى أكثر البلدان العربية بطريق العدوى والتقليد الأعمى، وهو يؤثر في عدم رغبة الطلاب على الحرص على حصوله والتوسع في فنونه لسقوطه عن رتبة الاعتبار فلا تضاف درجاته إلى مجموع درجات النجاح، ويترتب على ذلك كسل الطلاب في تحصيله وعدم التوسع فيه، وهو عمل يؤذن بانقراض العلم واستبداله بالجهل إلى حالة أنهم أيضًا تصدوا إلى فصل القائمين بتعليمه من الـمدارس والجامعات وألحقوهم بالأعمال الطفيفة التي ليس لها قيمة والتي لا يستفاد من علمهم فيها، وحرموهم ما يستحقونه من الرتب العالية ومن البعثات النافعة لكونهم يخصون بها من هو على عقيدتهم وطريقتهم. أُمور يذوب لها قلب الـمسلم، فكان هؤلاء الأمراء في محاربتهم لعلم الدين بمثابة الـمريض الأحمق، الذي يعاف الدواء وينفر من استعماله من أجل أنه علاج دائه.
أمور يضحك السفهاء منها
ج
ويبكي من مغبتها الحليم
إنه متى فُقد علم الدين والعمل به، فإنه يسود الجهل وتسود الفوضى، وإذا ساد الجهل ساءت النتيجة. لهذا رأينا بعض هؤلاء الأمراء الـمسلطين، قد فرضوا على الناس فرضًا إلزاميًّا الحكم بالاشتراكية الـماركسية التي استباحوا بها أكل أموال الـمؤمنين والـمؤمنات بغير حق، وخاصة التجار، فقد سحبوا أموالهم منهم وألحقوهم بالفقراء العجزة، وأخذوا يتمتعون بأموالهم هم وأعوانهم.
والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ﴾ [النساء: 29]. وقال: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188]. والنبي ﷺ كان يقول في الـمجامع العظام: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»([188]) قرن الـمال بالأنفس، لكون الـمال عديل الروح، وقال ﷺ: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ»([189]) وكأنه يشاهد سوء ما وقع في هذا الزمان من استباحة بعضهم أكل أموال بعض بغير حق وهو عمل مقرون بسوء العاقبة على جميع الناس.
وأكبر من هذا وأنكر، اعتقادهم إباحة هذا العمل، وقد أجمع علماء الـمسلمين على كفر من استباح أمرًا محرّمًا، كمن استباح ترك الصلوات الـمفروضة أو استباح الفطر في نهار رمضان بغير عذر، أو استباح فعل الزنا أو الربا أو شرب الخمر، ومثله من استباح أخذ أموال الناس بغير حق وحسبك ما يترتب على أخذ أموال الناس من الـمضار والـمفاسد الكبار، وكونه مؤذنًا بالخراب والدمار وغلاء الأسعار ونقص الأرزاق والثمرات، ثم تعميم الفاقة والفقر لسائر الطبقات.
مُلَّ الـمقام فكم أعاشر أُمةً
حكمت بغير كتابها أمراؤها
ظلموا الرعية فاستجازوا سبيها
ورعوْا مصالحها وهم أجراؤها
ج
وإن نحلة الاشتراكية السيئة إنما دخلت بلدان الـمسلمين عن طريق الأمراء الـمسلطين الذين متى صلحوا صلح سائر الناس، ومتى فسدوا فسد سائر الناس، فهم يحرمون الأموال على أهلها التي هي نتيجة سعيهم وعرق جبينهم ويبيحونها لأنفسهم، وإن دين الإسلام بريء من هذه الاشتراكية الشيوعية التي تقضي بتعميم جميع أموال الناس بغير حق حتى أجلسوا الأغنياء على حصير الفاقة والفقر، كما أنه بريء من الرأسمالية الـمادية وأتباعها الذين جعلوا التحليق بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم هو ربهم وإلههم، وتركوا لأجلها فرائض ربهم؛ من صلاتهم وزكاتهم ونسوا أمر آخرتهم. وقد نهى الله الـمؤمنين أن يكونوا أمثالهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 19].
وقد روى الحاكم والطبراني وابن حبان في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: «ستة لعنتهم ولعنهم الله ولعنهم كل نبي مجاب الدعوة: الزائد في كتاب الله، والـمكذب بقدر الله، والـمتسلط على أُمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله» ويدل له ما روى البخاري عن أبي هريرة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ««إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»».
أشار في هذا الحديث إلى الساعة الصغرى التي هي هلاك الناس في حياتهم قبل وفاتهم، وذلك حين يسود الناسَ الجهل والجهال، وحين يتولى أمر الناس من ليس بكفء فيسومهم سوء العذاب من أنواع الـمكاره والكوارث حتى تذوب قلوبهم وتهلك أخلاقهم، إذ من الـمعلوم أن هلاك الأخلاق أضر من هلاك الأبدان، والفتنة أشد من القتل فيتمنون الـموت لكونهم في حالة الأموات كما قال سبحانه: ﴿وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ﴾ [ابراهيم: 17]. فهذه هي الساعة التي أخبر النبي ﷺ عنها حينما يوسّد الأمر إلى غير أهله.
فمتى رأيت دولة هؤلاء الأمراء قد أقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت فبطن الأرض والله خير من ظهرها.
وفي البخاري عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «يأتي على الناس زمان يمر الـمسلم فيه بالقبر ويقول: يا ليتني كنت صاحب هذا القبر».
من ذلك أن الرجل الجندي الـمسخر في حدود عمله يحفظ الأمن والأموال وحقن الدماء وحراسة البلاد؛ ثم يسعى سعيه ويعمل عمله في الانقلاب على من قبله ممن هو من أهل الحكم والسياسة، فإن هذا يعتقد في نفسه أن الناس لن يخضعوا له ويسمعوا ويطيعوا بأمره حتى يسومهم سوء العذاب، ويذيقهم مسًّا من القتل والكبت والتنكيل ويكونون كما قيل:
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
ج
فإن تولوا فبالأشرار تنقاد
فتقوم على الناس الساعة التي فيها هلاكهم كما يدل له الحديث: ««إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قال: كيف إضاعتها؟ فقال: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»»([190]).
إنه لـممّـا يسرني ويسر كل شخص يهتم بأمر الـمسلمين، حينما نسمع بأن حكام الـمسلمين والزعماء الـمفكرين في حالة الـمناسبات والجلسات التي يعقدون لها الاجتماعات للتذاكر في شؤون أُممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان؛ وهي أن الأمر الذي فل حدّهم وشتّت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم في أمر دينهم، وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم ﷺ، وأن الرأي السديد والأمر الـمفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والـمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته. فإنه الكفيل بإصلاح الدنيا والدين، فهم يتناصحون ويتواصون بموجبه ولم يبق سوى التنفيذ، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ﴾ [الأنعام: 89].
والحاصل أن أُمراء الـمسلمين يجب أن يكونوا متكاتفين متكافلين ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١﴾ [التوبة: 71]. فلو أنهم حينما يرون أحدهم قد زاغ قلمه أو زلّ قدمه، وشذّ بأخلاقه واعتقاده إلى مخالفة دين الحق، فلو بادروا إلى نصيحته والأخذ بيده بجدّ في القول ولو بقطع حبل الاتصال به، فلو فعلوا ذلك لنفعوه ونفعوا الناس معه، حتى يتعظ به غيره فيرتدع عن الجهر بسوء ما يعتقده، بدلاً عن أن تبقى تعاليمه السيئة وراثة بين الناس يتلقّفها بعضهم عن بعض، ولأن نصيحة الخلق بالحق ليست مخصوصة بالعلماء دون الأمراء، بل هي من الأمراء أبلغ وأعلق في قلوب الـمنصوحين.
ومن صفة الـمؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ﴾ [التوبة: 71].
* * *
[182] رواه البخاري من حديث ابن عمر. [183] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عائشة موقوفا، بلفظ: من سمع النداء فلم يجب فلم يرد خيرا ولم يرد به. [184] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [185] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [186] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن زياد بن حدير. [187] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ثوبان. [188] أخرجه مسلم بلفظ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ...» من حديث جابر بن عبد الله. [189] رواه الدارقطني وقال في الإرواء: صحيح. [190] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
العدل هو قوام الدنيا والدين وصلاح الـمخلوقين وله وضعت الـموازين، وهو الإلف الـمألوف الـمؤمن من كل مخوف. به تألفت القلوب والتأمت الشعوب وشمل الناس الصلاح واتصلت بهم أسباب النجاح والفلاح، وهو مأخوذ من العدل والاستواء الـمجانب للجنف والجور والالتواء، وحقيقته وضع الأمور في مواضعها وأخذ الأموال من حلها وصرفها في حقها، فحقيق بمن ملّكه الله بلاده وحكّمه على عباده أن يكون لنفسه مالكًا وللغيظ كاظمًا وللظلم تاركًا وللعدل في حالة السراء والضراء مظهرًا ومؤثرًا، فإذا فعل ذلك ألزم القلوب طاعته والنفوس محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
ج
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، والـمقسطون -أي العادلون- في حكمهم وأهليهم وما ولّوا على منابر من نور عن يمين الرحمن.
ولا غنى لأمة الإسلام
يذب عنها كل ذي جحود
في كل عصـر كان عن إمام
ويعتني بالغزو والحدود
وقد قيل: السلطان ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
ولهذا.. حث النبي ﷺ على السمع والطاعة ونهى عن الخروج عن الجماعة، وقال: «من رأى من أميره ما يكره، فليصبر ولا ينزعن يدًا من الطاعة»([191])، وقد بايع الصحابة النبي ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والـمنشط والـمكره، وعلى إثرة علينا، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان. والشاهد من ذلك هو قولهم: وعلى إثرة علينا. وهو الاستئثار بالشيء دون الآخرين، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان، أما الكافر الـمحض فلن يكون أميرًا على الـمسلمين، إلا أن يقهرهم بسيفه، فما جعل الله للكافرين على الـمؤمنين سبيلا، ومتى قهرهم بسيفه، فإنهم حينئذ لا عمل لـمكره. وقد قال بعض السلف: ملك غشوم خير من فتنة تدوم.
وكل من سبر التاريخ والنقول، ثم رمقها بعين الـمعقول، فإنه يتبين له بطريق اليقين، أن الخروج على أئمة العدل والقضاء عليهم بالعزل مهما كان فيهم من النقص والتقصير، فإنه أصل كل محنة وبلية وشر على العباد في أمر دينهم ودنياهم، وأن الناس يكونون بعد الانقلاب أسوأَ حالا منهم قبله، وإنما ضعف الـمسلمون وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجله. ففشت بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية الـمبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذا التطاحن لن يرتفع عنهم إلا بمراجعة دينهم، الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى﴾ [فصلت: 44].
إن الكمال التام في الصفات والأفعال متعذر من كل أمير، وأي الناس الـمهذب، كفى بالـمرء نبلا أن تعد معايبه، ولكن الـمنصف، هو من يغتفر قليل خطأ صاحبه في جنب كثير من صوابه، وعلى كل حال، فإن ركود الولاية وكف الفتنة عنها مهما كان فيها من النقص والتقصير، فإنها رحمة من الله للعباد والبلاد، كما قيل:
إن الولاية حبل الله فاعتصموا
منه بعروته الوثقى لمن دانا
لولا الولاية لم تؤمَن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة
ج
في ديننا رحمة منه ودنيانا
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في أعلام الـموقعين عن رب العالـمين:
إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار الـمنكر، ليحصل بإنكاره من الـمعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار الـمنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الـملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ».
وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعة»، ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر قد طلبوا إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه.
فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر الـمنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالـمنكر متى زال وخلفه ضده من الـمعروف وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأشد منه حرم إنكاره، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرّم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرّية وأخذ الأموال، فدعهم.. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
* * *
[191] في رواية مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي: «أَلاَ مَنْ وَلِىَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِى شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِى مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ».