مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الخامس
أحكام الأضحية و رسائل أخرى(4) حجر ثمود ليس حجرًا محجورًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، ونصلي ونسلم على رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما بعد:
فقد وقع الإشكال الـمستلزم للسؤال عن حجر ثمود، وهذا الإشكال في أمور هي:
الـمشكلة الأولى: هل يصح السكنى في الحجر وديار ثمود، وما يستلزم السكنى من الحرث والزرع والعمران كسائر بلدان الحضارة؟ وهل نزل النبي ﷺ فيه عام غزوة تبوك، أم لم ينزل فيه؟.
الـمشكلة الثانية: نهيه عن الدخول في مساكنهم؛ هل هو للكراهة أو للتحريم؟ وما سبب النهـي؟.
الـمشكلة الثالثة: هل يصح الشرب من آبار الحجر، سواء كان من بئر الناقة أو غيرها؟ وهل يصح الوضوء به أيضًا؟ وما حكمة اختصاص الشرب من بئر الناقة، ونهيه عن غيرها؟ وكيف أمر الصحابة بأن يعلفوا دوابهم بما عجنوا بمائه ولا يأكلوه؟.
الـمشكلة الرابعة: هل تصح الصلاة في أرض الحجر أو لا تصح؟ وهل ثبت فيها نهي أم لا؟.
وسنورد الأجوبة على هذه الأسئلة عن طريق الدرس والنشر الـمرتب، إن شاء الله.
* * *
هو بكسر الحاء وإسكان الجيم، يطلق على معان عديدة، منها: العقل. كما قال تعالى: ﴿هَلۡ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٞ لِّذِي حِجۡرٍ ٥﴾ [الفجر: 5]. أي لذي عقل، سمي العقل حجرًا لكونه يحجر صاحبه عن الـمحارم وارتكاب الـمآثم، كما سمي عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده: أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على أفعال الطاعات والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، ويطلق الحجر ويراد به: الحرام. ومنه قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ حِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا ﴾ [الفرقان: 22]. أي حرامًا محرمًا، ويطلق ويراد به: حجر ثمود. كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾ [الحجر: 80].
وحجر ثمود يقع في وادي القرى بين الـمدينة والشام، وهو داخل في حدود الـمملكة العربية السعودية وقد مر به النبي ﷺ عام غزوة تبوك، ومدائن صالح معروفة ومشهورة بهذا الاسم إلى اليوم، وكانت قبيلة ثمود يدينون بعبادة الأوثان، فوعظهم نبي الله صالح عليه السلام بأن يتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده فعصوا وعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وكانوا قد طلبوا من نبيهم آية تصدق نبوته والتزموا أن يطيعوه ويتبعوه وقالوا: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة كالـمعجزة آمنا بك وصدقناك، فدعا ربه فأخرج الله لهم من تلك الصخرة ناقة، فقال: ﴿هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [الأعراف: 73].
وهذه الناقة هي غاية في النعمة لكنها نهاية في حلول العقاب بهم والنقمة، ولهذا ورد النهي عن سؤال الآيات لما روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لاَ تَسْأَلُوا الآيَاتِ وَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا فَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْماً وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْماً فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ» إسناده صحيح ولم يخرجوه، كانت هذه الناقة إذا وردت شربت الـماء وملأت كل ما عندهم من الأواني والقدور من لبنها، ثم تسرح وتعزب، ويكون لهم ورد الـماء في اليوم الثاني، فيأخذون منه قدر كفايتهم في حال غيبتها عنهم، فظلوا في سعة رغد ورخاء.
وكانت الناقة تصيف إذا جاء الحر بظهر الوادي فتهرب منها الـمواشي، على حسب ما قيل: كأنه من أجل عظم خلقها، فسئموا منها فانبعث أشقاهم فعقرها، يقول الله تعالى: ﴿وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَآ إِنَّ عَادٗا كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّعَادٖ قَوۡمِ هُودٖ ٦٠ ۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ ٦١ قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ ٦٢ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَةٗ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِيرٖ ٦٣ وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ ٦٤ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ ٦٥ فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٦٧ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ ٦٨﴾ [هود: 60-68]. أعاد سبحانه وأبدى من ذكر قصة ثمود لتأكيد أمرها والتذكير بشأنها لتكون بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره، يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ١٧ وَنَجَّيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ١٨﴾ [فصلت: 17-18].
ويظهر من صريح القرآن أن ثمود أهل حضارة عريقة في الترف، وأن لهم قصورًا في سهل الأرض ومساكن في الجبال يسكنونها في وقت الحر، وأن بلدهم خصبة وغنية بالـماء والزراعة وبالنخيل الباسقة وبالحدائق والبساتين الشيقة، ولهذا ذكرهم نبيهم بهذه النعمة وأمرهم بالتحفظ عليهـا باستدامة شكرها، والاستعانة بها على عبادة الله وحده، وترك الشرك به، فقال تعالى: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ ١٤٦﴾ [الشعراء: 146]. فمن هذه الآيات وأشباهها يتبين ما هم فيه من طيب طبيعة أرضهم قبل حلول العقاب بهم وأنهم في جنات، أي بساتين تجن الداخل فيها من اشتباك أشجارها، ولا تسمى جنة إلا إذا كانت بهذه الصفة، وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، وهذه الأوصاف الجميلة لا تكون إلا في البلاد النجيبة، فأرضهم قابلة للزرع والنخل والسكنى والعمران، غنية بالفواكه والخيرات والأقوات من كل ما يعدونه من باب الضروريات، وإنما حصل التخلف منها وعدم الرغبة في سكناها وحرثها من أجل رواج هذه الفكرة التي تمنع من استيطانها وشرب مائها والوضوء به والصلاة في أرضها، ومن الـمعلوم أن فشو هذا الاعتقاد من لوازمه التباعد عن مثل هذه البلاد لتعارض الـمانع للمقتضى، مع العلم أنه لا يزال مسكونًا إلى حد الآن، كما سيأتي بيانه فيما يلي.
ثبت في صحيح البخاري من كتاب الأنبياء قال: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالـم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لمّا مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ». ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. ثم قال: حدثنا محمد بن مسكين أبو الحسن، حدثنا يحى بن حسان بن حيان أبو زكرياء، حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألاّ يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الـماء. قال: ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس، أن النبي ﷺ أمر بإلقاء الطعام. وفي حديث ابن عمر: أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. انتهى من البخاري.
فهذا الباب بمجموع الروايات التي ساقها فيه هي أصح وأكمل ما ورد في القضية، ففيه إثبات نزول النبي ﷺ بالحجر والنهـي عن الدخول في مساكن الـمعذبين إلا أن يكونوا باكين، وفيه أمره لهم بعدم الشرب والاستقاء من الآبار إلا من بئر الناقة وأمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وموضع الاستدلال من الحديث هو إثبات كون النبي ﷺ نزل بأصحابه الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط كما يظن بعض الناس لَمَا نزل النبي ﷺ فيه بأصحابه، وإذًا لأوجب الله على نبيه صالح والـمؤمنين معه بأن يهاجروا عنه، فإثبات نزول النبي ﷺ فيه بأصحابه واستقرار نبي الله صالح والـمؤمنين فيه، يتبين بهذين الدليلين صحة السكنى فيه بدليل الكتاب والسنة بدون كراهة لاعتبار أن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها الله لعباده وبسطها لهم لاستقرارهم عليها وانتفاعهم بها وتمتعهم بخيراتها وأنواع ثمراتها، وأودع فيها الـماء والـمرعى وجميع ما يحتاج إليه الأنام والأنعام: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ﴾ [سبأ: 15]. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦ﴾ [الـملك: 15]. فهي موهوبة لهم من الله بقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29]. فلم يستثن في هذا العطاء أرضًا دون أرض ولا شيئًا منها محجورًا ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾ [الإسراء: 20].
فأرض الحجر هي من بعض هذه الأراضي التي خلقها الله وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنبت فيها من كل شيء موزون وكل زوج بهيج وكل زوج كريم وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع النضيد، فجميع الأرض وجميع ما خلق الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والعيون والـمعادن الجامدة والسيالة وجميع ما أنبته الله فيها من النخل والزرع والشجر وسائر الثمرات والنباتات التي يستخرج منها الأغذية والأدوية والأدهان والألبان، كله من نعم الله على عباده بما لهم فيه من الـمنافع ودفع الـمضار وما لهم فيه من الاستدلال والاعتبار على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ ١٩ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ ٢٠﴾ [الحجر: 19-20]. فأرض الحجر هي من جنس هذه الأرض التي أعدها الله لإثبات ما ذكر، وقد أخبر الله أنه أنجى نبيه صالحًا والـمؤمنين معه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦﴾ [هود: 66].
وأنهم بعد إنجائهم لم يؤمروا بالخروج من بلادهم الحجر، بل بقوا فيها كحالتهم السابقة يبنون ويغرسون ويزرعون ويأكلون من ثمرها ويشربون من مائها ويتمتعون بخيراتها على سبيل الإباحة الـمطلقة كحالتهم السابقة شاكرين لنعمة ربهم الذي نصرهم على عدوهم وأورثهم ديارهم وأموالهم، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن الـمؤمنين زمن صالح سكنوا في هذه البلاد غير محجور عليهم في شيء من مطاعمها ومشاربها، فإنها تكون مباحة الانتفاع والسكنى لمن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم ترد شريعتنا بنسخه ولم يثبت عن رسول الله ما يدل على النهـي عن سكناها، بل قد ثبت ما يدل على إباحة السكنى بها، حيث نزل بها رسول الله ﷺ بأصحابه في غزوة تبوك وأقام بها ما شاء الله أن يقيم إلى حالة أنهم عجنوا العجين لطعامهم، ومن الـمعلوم أن الـمسافرين لا يصيرون إلى عجن العجين إلا بعد مضي وقت من نزولهم، ويدل لذلك ما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله ﷺ بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي تشرب منها ثمود فعجنوا أو نصبوا القدور باللحم فأمرهم رسول الله فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: «إني أخشى أن يصيبكم ما أصابهم». قال ابن كثير: وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين ولم يخرجاه.
وترجم له البخاري فقال: باب نزول النبي بالحجر. فنزول رسول الله ﷺ فيه بأصحابه دليل على إباحة نزوله إلى يوم القيامة، كما أثبت الله في كتابه استقرار الـمؤمنين فيه زمن نبي الله صالح فاتفق الكتاب والسنة على إباحة سائر الانتفاع به من الاستيطان والغرس والزرع كسائر بلاد الله ليست حجرًا محجورًا، بل عطاء ربك ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾ [الإسراء: 20]. فكما أن الله سبحانه أنجى الـمؤمنين من شؤم السخط النازل على ثمود، فكذلك ينجي الله أرضهم وماءهم فلا يصل إليهما شيء من شؤم هذا الشر، ولا تتغير حالتهما عن الإباحة الأصلية الـمطلقة، فإن جميع أرض الله طولها وعرضها، ومشارقها ومغاربها مباحة الانتفاع غير محجور على أحد فيها، لقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29]. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦ﴾ [الـملك: 15]. ولن تجد في أرض الله بقعة يقال إنها محجورة الانتفاع والسكنى بطريق الشرع إلا أن تكون بطبيعتها غير قابلة للانتفاع، كأراضي الثلوج والرمال الغليظة والسباخي ونحوها، كما أنك لن تجد في الدنيا ماء باقيًا على خلقته التي خلقه الله عليها، ثم هو ممنوع الاستعمال في الطهارة أبدًا.
والشبهة التي حصلت لدى بعض العلماء في القول بمنع سكنى الحجر هي مأخوذة من حديث ابن عمر كما رواه البخاري، قال: لمّا مرّ رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. انتهى.
فالقول بمرور رسول الله بالحجر لا ينفي نزوله به، فإنه يقال مرّ في سفره ببلد كذا وكذا وإن كان نزل بها يومًا أو يومين، وهذا مشهور في خطاب الناس، وحتى ابن حجر في شرحه للبخاري لمّا أتى على هذا الحديث في ترجمة باب الصلاة في أرض الخسف، ثم ساق الحديث بسنده، ثم قال: وأما الاستقرار فالكيفية الـمذكورة مطلوبة فيه بالأولية، أي أنها تمنع من ذلك، ثم قال: وسيأتي أنه ﷺ لم ينزل فيه البتة، ووقع له في غزوة تبوك عند شرحه لهذا الحديث حينما أتى على قوله، ثم قنع رسول الله رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.
قال: فدل على أنه لم ينزل ولم يصل هناك.. انتهى.
لكنه لمّا استبحر في شرح الكتاب ووصل فيه إلى كتاب الأنبياء، حيث ترجم البخاري فيه: باب نزول النبي ﷺ بالحجر، ثم ساق حديث ابن عمر الـمستوفى مع التوابع له، فعند ذلك تبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ نزل بالحجر، فبعد شرحه لحديث ابن عمر الـمستوفى قال: وزعم بعضهم أنه مرّ بالحجر ولم ينزل به ويرده التصريح في حديث ابن عمر هذا. انتهـى. فسبحان من لا ينام ولا يسهو، فقد استدرك ابن حجر غلطه وقرر ثبات نزول النبي ﷺ بالحجر بعد نفيه له.
فهذه الشبهة التي راجت على الحافظ ابن حجر قد راجت على كثير من العلماء، حيث قالوا بمنع السكنى به لظنهم أن رسول الله ﷺ مرّ بالحجر مسرعًا ولم ينزل به، لكون البخـاري قـد ذكـر هـذا الحديث في ثلاثـة مواضـع من كتابـه، فذكـره في كتاب الصلاة، ثم ذكـره في الغزوات ثم ذكره مبسوطًا مع الـمتابعات في كتاب الأنبياء على قوله: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗا﴾ [هود: 61]. وترجم عليه فقال: باب نزول النبي بالحجر.
وذكر ابن إسحاق وابن جرير نزوله، وهو دليل واضح على جواز الاستيطان به، إذ لو كان نزوله والسكنى به محظورًا على أمته لـمـا حل به.
وأما تقنيعه لرأسه وإسراعه في سيره حتى أجاز الوادي، فإنه لا يدل على أمر ولا نهي مما يتعلق بالقضية، غير أن رسول الله ﷺ عند رؤيته لبلد هؤلاء الـمعذبين استشعر الخشوع والخشية؛ لأن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وقد زالت شبهة الاستدلال بها بثبات نزوله في الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط لتباعد عنه النبي ﷺ ولحذر منه أمته، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، كما أخبر الله عن الـمؤمنين زمن نبي الله صالح أنه أنجاهم من هذا العذاب، وبقوا في أرضهم كحالتهم السابقة ولم يؤمروا بأن يهاجروا عنها، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦﴾ [هود: 66]. فاتفق الكتاب والسنة على إباحة الاستيطان بالحجر كسائر بلدان الحضارة، ولم يثبت عن الله ورسوله ما يقتضي النهي عن ذلك.
ثم إن دين الإسلام بمقتضى نصوصه وأصوله يمنع من تعطيل مثل هذه الأرض عن الانتفاع بها؛ لأن الله سبحانه لم يخلق الأرض عبثًا وإنما خلقها للانتفاع بها، فالحكم عليها بعدم سكناها وعمارتها هو حكم بجعلها بمثابة السوائب الـمعطلة عن الانتفاع والتي حرّمها الإسلام من أجله، فقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ﴾ [الـمائدة: 103]. فالبَحيرة: هي ابنة السائبة يشقون أذنها ثم يسيبونها، والسائبة: هي الناقة التي تسيّب في الجاهلية لنذر ونحوه، والوَصيلة: هي التي تلد عددًا من التوائم الإناث ثم يسيبونها، والحامي: هو الفحل من الإبل يضرب ضرابًا معدودًا أو عشرة أبطن ثم هو حامٍ، أي يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع منه بشيء. فهذه هي السوائب فلا تحلب ولا تركب ولا يقص وبرها ولا يؤكل لحمها ولا ينتفع منها بشيء، وإنما حرّمها الله لخروجها عن سنة الله في خلقه، فإنما خلقها للانتفاع الشامل قال تعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ ٧١ وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ ٧٢ وَلَهُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٧٣﴾ [يس: 71-73]. وقد رأى النبي ﷺ عمرو بن لحي، يجر قُصْبه([131]) في النار، لأنه أول من سيّب السوائب([132]).
فالحكم على أرض الحجر بالـمنع من الاستيطان والانتفاع هو حكم عليها بجعلها سائبة، ثم هو حكم بضياع ماليتها، فإنها أرض مال، بل كل الـمال يستخرج منها، وكان النبي ﷺ يقول لأصحابه: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ» حرصًا منه على حراثة الأرض لما يترتب عليها من شمول النفع للعباد والبلاد، كما حث على الغرس والزرع لما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةً إلى يوم القيامة».
وروى البخاري ومسلم عن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ».
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ بنى بنيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ»، بل قد ورد في مسند الإمام أحمد، أن النبي ﷺ قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، فهذه الأحاديث وما في معناها هي غاية في حفز الهمم وتنشيط الأمم وبسط الأيدي على الحرث والعمل؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكدح، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، يحب الـمؤمن الـمحترف ويبغض الفارغ البطال.
الـمسلم الحق يصلي فرضه
ويحمل الفأس ويسقي أرضه
يجمع بين الشغل والعبادة
ليكفل الله له السعادة
والقرآن الكريم مملوء بنشر فضائل الأرض وشمول نفعها وما أودع الله فيها، كله خرج مخرج التشويق والتنشيط والترغيب في حراثتها والأكل مما رزقهم منها، قال تعالى: ﴿وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ ٣٣ وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ ٣٤ لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٣٥﴾ [يس: 33-35].
وقال: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ١٤١﴾ [الأنعام: 141].
وكل ما مدحه الله في كتابه وعلى لسان نبيه أو شوّق إليه وحسنه، فإنه من الدين لكون الدين شاملاً لجميع مصالح الدنيا والآخرة، وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس مرفوعًا، قال: «طلب الحلال جهاد» وأن الله يحب العبد الـمؤمن الـمحترف، وروى الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «طَلَبُ الْحَلالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ».
وقد عد العلماء الفلاحة من فروض الكفاية متى أهملتها الأمة ولم يقم من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليها كانت كلها عاصية مخالفة لدينه وشرعه.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأنه لا حرث إلا بأرض طيبة، ولا أرض إلا بأيدٍ عاملة، ولا يتفق هذا كله إلا في بلد حضارة، ومن الـمعلوم أن أرض الحجر قابلة للماء والنماء وصالحة للعمل والعمران، كما صرح بأوصافها القرآن في قوله حاكيًا عن نبيه صالح أنه قال في موعظة قومه: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ ١٤٦ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ١٤٧ وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ ١٤٨﴾ [الشعراء: 146-148]. وهذه الأوصاف الجميلة لا تتفق إلا في الأرض النجيبة، فهـي وإن تخلفت هذه الأوصاف عنها لعدم الرغبة في سكناها وحرثها، فإن الله على رجعها لقادر، وإذا تأملت البقاع وجدتها تسقى كما تسقى النفوس وتسعد.
ولم نجد في كتاب الله ولا سنة رسوله آية ولا حديثًا يمنع من سكناها والعمل في أرضها ما عدا نهي النبي ﷺ عن شرب الـماء من آبارها لا من بئر الناقة، وهذا النهي يترجح تعلقه بالصحة والوقاية عن الـمياه الفاسدة الضارة، ولا يحتمل الـمعنى غيره؛ لأن حمله على أمر معلوم السبب أولى من حمله على أمر غير معقول الـمعنى مما يسمونه خلاف القياس، كما بينا ذلك في موضعه، والله أعلم.
* * *
[131] القصب: الأمعاء. [132] متفق عليه بنحوه من حديث أبي هريرة.
أما نهي النبي ﷺ عن دخول مساكن الـمعذبين إلا أن يكونوا باكين، فإن له سببًا؛ وذلك أن الله سبحانه قد أوجب على الـمؤمنين إذا كانوا مع رسول الله في أمر جامع بألاّ يذهبوا حتى يستأذنوه، وهؤلاء لمّا نزلوا الحجر نفروا إلى النظر في مساكن الـمعذبين بدون استئذان وبصورة استعجال، نظيره قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗا﴾ [الجمعة: 11]. وليس كلهم انفضوا وكأن رسول الله ﷺ قد أحس منهم شيئًا من عزوب الخشوع والخشية في ذلك الـمقام وهي أول بلد من بلدان الـمعذبين، طرقها رسول الله وأصحابه، ولهذا أمرهم بالاجتماع فوعظهم وقال لهم هذا الكلام، كما روى الإمام أحمد عن أبي كبشة الأنماري عن أبيه، قال: لمّا كان غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنودي في الناس: الصلاة جامعة. قال: فأتيت رسول الله وهو ممسك بعيره وهو يقول: «مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟!»، فناداه رجل فقال: نعجب منهم. فقال: «أَفَلاَ أُنْبِئْكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنْبِئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا».
يؤيده أن رسول الله ﷺ أحسّ من بعض أصحابه بالتثاقل عن هذه الغزوة والكراهية للشخوص نحو هذه الوجهة لكونه أمر بها في زمن عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأحب الناس الـمقام في بلادهم وكرهوا الشخوص عنها على هذه الحال، ومن أجل هذه الأسباب أحب أن يغرس في قلوب أصحابه تعظيم أمر الله ورسوله ووجوب طاعته ولزوم الخشية والخوف من مخالفة أمره ومعصية رسوله.
قال في فتح الباري: ووجه هذه الخشية هو أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء في اختيار أولئك للكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهاله لهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه عليهم، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن الـمؤمن أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فاستحبوا العمى على الهدى، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء فقد شابههم في إهمالهم، ودل فعله على قساوة قلبه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بأعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهـى.
والـمقصود أنه لا يوجد في الشرع بكاء واجب محمود، بل البكاء كله مذموم إلا البكاء من خشية الله والخشوع له، فإنه مستحب، وقد أثنى الله على الذين إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدًا وبكيًّا، فالبكاء الذي أمر به رسول الله ﷺ عند دخول مساكن هؤلاء الـمعذبين هو من جنس هذا البكاء الـمستحب، بحيث يثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه؛ لأن السنة لا تخالف القرآن أبدًا، وقد أمر الله بالسير في الأرض للنظر في مساكن الـمعذبين الـمكذبين للرسل وكيف حقت عليهم كلمة العذاب ببغيهم وطغيانهم قال تعالى: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٦٩﴾ [النمل: 69]. وقال: ﴿أَوَ لَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٩﴾ [الروم: 9].
بل إن السكنى في مساكن الـمعذبين مباح في كتابه الـمبين. ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٣ وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ١٤﴾ [ابراهيم: 13-14].
فوعد الله رسله والـمؤمنين بهم أن يسكنهم مساكن عدوهم ليتم بذلك انتصارهم عليهم؛ لأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالـمين نظيره قوله: ﴿وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ ٤٥﴾ [ابراهيم: 45].
فهذه الآية ليس فيها ذم السكنى في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وإنما فيها الدعاء إلى الاتعاظ والاعتبار بالذين ظلموا أنفسهم، فهو يقول: انظروا إلى عاقبة سوء أعمالهم، حيث سكنتم في مساكنهم وتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا فاعتبروا بهم واحذروا أن تقعوا في مثل أعمالهم فما هي من الظالـمين ببعيد.
وقد أخبر الله عن فرعون وملئِه أن الله سبحانه أورث موسى وقومه ديارهم وأموالهم فقال تعالى: ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ٢٥ وَزُرُوعٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ ٢٦ وَنَعۡمَةٖ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ ٢٧ كَذَٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ ٢٨﴾ [الدخان: 25-28]. أي أورثها الله موسى وقومه ومثله قوله في بني قريظة لمّا نقضوا عهد رسول الله، وظاهروا الأحزاب على حربه فأورث الله نبيه وأصحابه ديارهم وقصورهم قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٢٦ وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٢٧﴾ [الأحزاب: 26-27].
فهـذه الآيات وما في معناها تدل بطريق الوضوح على إباحة السكنى في مساكن الـمعذبين بلا كراهة، سواء في ذلك بلاد الحجر أو مدين أو غيرهما، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل والـمؤمن لدى الحق أسير والله أعلم.
* * *
قال البخاري في صحيحه: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ أَبُو الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ حَيَّانَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَرضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا ، وَلاَ يَسْتَقُوا مِنْهَا فَقَالُوا قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا، وَاسْتَقَيْنَا . فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ. وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِى الشُّمُوسِ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ». وفي حديث ابن عمر: «أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة».
أما ابن عمر، فإنه قد شهد القضية وحدث عنها بما سمع ورأى وهو أحد حفاظ الصحابة وهم سبعة: ابن عمر هذا، وأبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم ولا يعد حافظًا حتى يحفظ عن النبي ﷺ فوق ألف حديث، وقد نظمهم بعضهم، فقال:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن الـمختار خير مُضَر
أبو هريرة سعد جابر أنس
صِدِّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وقد ترجم البخاري على حديث ابن عمر هذا فقال: باب نزول النبي ﷺ بالحجر ثم ساقه بسنده، وموضع الإشكال هو نهيه عن الشرب من آبار ثمود إلا من بئر الناقة وأن يعلفوا الإبل العجين الذي عجنوه من مائها، ولم يحفظ عن النبي ﷺ من طريق صحيح علة هذا النهي.
وقد أخد الفقهاء بظاهره فقرر بعضهم في الـمختصرات الفقهية أنه لا يجوز الوضوء من آبار حجر ثمود إلا من بئر الناقة ولم يذكروا علة النهي.
كما أن الصحابة الذين نقلوا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي الشموس وأبي ذر وغيرهم، لم يذكر أحد منهم في حديثه أن رسول الله ﷺ نهى عن الوضوء به، وإنما ورد القول بالنهي عن الوضوء به من طريق ابن إسحاق وهو ضعيف عند أهل الحديث، وقد نقله ابن كثير في البداية والنهاية ص10- ج5 ولفظه: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله ﷺ: «لا تشربوا من مياهها شيئًا، ولا تتوضؤوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتوه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا»، هكذا ذكره ابن إسحاق، بغير إسناد.. انتهى. ثم ذكر ابن كثير في موضع آخر ما نصه:
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي أو عن العباس بن سعد - الشك مني - أن رسول الله ﷺ حين مرّ بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها. فلما راحوا منها قال رسول الله للناس: «لا تشربوا من مائها شيئًا ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له»، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة؛ أحدهما خرج لحاجته فاختنق على مذهبه، والآخر خرج لطلب بعيره فاحتملته الريح فألقته بجبل طيىء وأهدته طيىء إلى رسول الله بتبوك.. انتهـى.
فهذه القصة بهذا اللفظ لم يخرجها أحد من أهل الصحاح والسنن والـمسانيد ولم يثبت القول بها عن أحد من الصحابة وابن إسحاق مع ضعفه، فإن حديثه هذا مرسل وهو لا يحتج بما وصله فما بالك بما أرسله، فإن العباس بن سهل تابعي وكذا العباس بن سعد، وقد شك فيمن حدثه منهما، ودلائل الوضع لائحة عليه من كل وجوهه، فإن هذا الرجل الذي يزعم أن الريح أطارته حتى رمت به على جبل طيء لم يثبت عن أحد من الصحابة القول به، ولو كان صحيحًا لاشتهر أمره وانتشر خبره من بينهم كلهم فضلاً عن بعضهم لكونها قصة غريبة، وحتى الذين تصدوا للتأليف في إحصاء الصحابة وبيان أسمائهم وأنسابهم مثل: الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البر و مسبوك الذهب ونحوها لم يذكروا أن أحدًا من الصحابة أطارته الريح، لكن التواريخ مبناها على التساهل في النقل، بحيث ينقل بعضهم عن بعض الحكاية على علاتها، كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كل ما
جمع الرواة وخط كل بنان
والـمقصود أن النهـي عن الوضوء بماء آبار الحجر أنه جاء عن طريق ابن إسحاق فقط وهو ضعيف لا يحتج به، مع العلم أنه في حديثه هذا لم يفرق بين ماء بئر الناقة ولا غيره، ويظهر أن الفقهاء أخذوا القول بعدم إجزاء الوضوء من آبار ثمود من رواية ابن إسحاق هذا؛ لأننا لم نجد لهذا القول أصلاً عن غيره، والأمر الثابت هو أن رسول الله ﷺ نهى عن شرب ماء آبار الحجر إلا من بئر الناقة ولم يَنْهَ عن الوضوء به، ونهيه عن الشرب منه لا يستلزم النهي عن الوضوء به، أشبه ماء البحر يجوز الوضوء به وينهـى عن شرابه، فسقط الاستدلال بموجبه، ولو كان صحيحًا لذكرها الصحابة الذين حضروا القضية؛ لأن ذكرها ألزم من ذكر العجين وغيره، كما أنهم لم يؤمروا بغسل ما أصاب هذا الـماء من أجسادهم وثيابهم وأوانيهم، ويفهم من حديث ابن عمر الذي في البخاري أن النهـي عن شرب الـماء بلغهم وهم في أرض الحجر لكون النبي ﷺ أمرهم أن ينتقلوا من الآبار إلى بئر الناقة وذلك بعدما شربوا وغسلوا وجوههم وثيابهم إلى حالة أنهم أخذوا يشتغلون بالعجين من هذا الـماء، ويترجح أن خبر هذا الـماء نزل به الوحي من السماء، وأن النهي عنه إنما هو لمصلحة تعود على صحتهم لعدم صلاحيته لحالهم، فلا ينبغي أن يحمل هذا النهي على كونه نجسًا كالبول، ولا أنه محرم كالخمر والدم، ولا ينبغي أن يحمل أيضًا على تأثره بجريمة ثمود ولا بحلول العقاب بهم ﴿ تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤﴾ [البقرة: 134].
وقد عرف الفقهاء الـماء الطاهر الذي يرفع به الحدث ويزال به الخبث بأنه الباقي على خلقته، كما نزل من السماء أو نبع من الأرض، وهذا الوصف منطبق على مياه آبار الحجر، إذ جميع الـمياه في هذه الآبار وفي غيرها نازلة من السماء.
كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۢ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ ١٨﴾ [الـمؤمنون: 18].
وفي الآية الأخرى: ﴿فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الزمر: 21]. فكل الـمياه الـموجودة على وجه الأرض من آبار وعيون وبحار كلها طاهرة مباحة يرفع بها الحدث ويزال بها الخبث ما لم يتغير شيء من أحد أوصافها بالنجاسة، سواء في ذلك آبار الحجر وغيرها، وقد مكث نبي الله صالح عليه السلام والـمؤمنون معه يتمتعون بخيرات بلادهم ويشربون من ماء آبارهم غير محجور عليهم في شيء وذلك بعد نزول العقاب بثمود وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم ترد شريعتنا بنسخه. إذا ثبت هذا، فإن النهي الصادر من النبي ﷺ يجب أن يحمل على أمر حسي معقول الـمعنى، وذلك مما يتعلق بحفظ الصحة والوقاية عن الـمياه الوبيئة، وأنه قد ظهر للنبي ﷺ في ذلك الزمان من فساد بعض الـمياه وضررها على الصحة ما لم يظهر لغيره إلا بعد أزمان طويلة، وهذه الآبار التي نهى النبي ﷺ عن الشرب من مائها يترجح بأنها آبار مهجورة عن الاستعمال، ولهذا أمرهم النبي ﷺ أن يتركوها ويستقوا من بئر الناقة من أجل صحة مائها، لكون الناس يردونها ويستقون منها إلى هذا الزمان، وإلا فإن الكل آبار ثمود حتى بئر الناقة، يقول الله: ﴿لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ﴾ [الشعراء: 155].
ومن الـمشاهد بالتجربة أن الآبار الـمهجورة يتكون فيها مواد من الغازات السامة يسمونها بـ (كلوريد الهيدروجين) وهو من العناصر التي اكتشفها الطب الحديث من عهد قريب وتكثر فيها أنواع الغازات السامة والأبخرة التي تنفصل من مواد الأرض وتختلف كثرة ضررها وقلته باختلاف القرب والبعد من الأرض ويعظم خطرها بالإكتام وعدم اتصال الهواء بها، كما يشاهد ذلك في الفحم وغازاته السامة، حيث يقضي بالاختناق ثم الـموت، ومثله السرج ذات الفتائل في موضع الاكتتام ومن الـمشاهد بالتجربة أن الـمستعجل إلى الوقوع في مثل هذه الـمياه الـمهجورة للاغتسال ونحوه قبل أن يختبرها، فإنه يصاب بالاختناق من ساعته، ثم ينزل إليه الثاني لإنقاذه فيصيبه ما أصابه، ثم الثالث والرابع، فيهلكون جميعًا، وقد وقعت قضايا متعددة في كل بلد من نحو ذلك، لهذا نرى أهل الطب والذكاء والـمعرفة يحذرون أشد التحذير عن قربان مثل هذه القلبان إلا بعد اختبارها بإلقاء الأدوية الـمفسدة لهذه الغازات السامة، ثم تحريكها التحريك القوي بالدلاء ونحوها، هذا كله قد أصبح من الأمر الـمشهور الـمعروف الذي يوصي الناس بعضهم بعضًا بموجبه، وقد عرفه رسول الله ﷺ بطريق الوحي قبل أن يعرفه هؤلاء بألف سنة، فحذر منه أصحابه وأصبح في علم الطب الحديث أن الـمياه تختلف في الضرر والصحة اختلافًا عظيمًا، فهم يحكمون على بعض الآبار بأن ماءها فاسد ضار وخطر على الصحة، كما يحكمون على بعضها بالصحة والنقاوة وأنه يحلل الحصا من الكلى ونحو ذلك. أدركوا هذه الـمنافع والـمضار بالوسائل الدقيقة من الـمناظير الـمكبرة التي تبرز لهم الـميكروبات عيانًا وهي أجسام حية والتي تضر آكلها وشاربها حتى ولو عجن بمائها العجين، ورسول الله هو طبيب الأديان والأبدان فمتى نزل عليه الوحي بخبر ضرر هذا الـماء وعدم صلاحيته للأجساد أفنحكم عليه والحالة هذه بعدم جواز استعماله في الطهارة بدون سبب يزيله عن طهوريته، ثم إن هذا الـماء في هذه الآبار يكون فاسدًا ضارًّا للصحة في وقت ثم يكون صالحًا للشرب في وقت آخر، على حسب ما يزاول به من الأدوية التي تنفي الضرر عنه وتمحضه للصحة أو يكون منهورًا ومورودًا يستقى منه على الدوام؛ لأن هذا من الأسباب التي تزيل عنه الضرر ويكون صحيحًا صالحًا للاستعمال.
وفي الحديث: «ما مِنْ دَاءٍ إلا لَهُ دَوَاء عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»([133]) لهذا أمر النبي ﷺ أصحابه بأن يشربوا من بئر الناقة، من أجل أنها منهورة ومستعملة فهي سالـمة من الغازات السامة، وإلا فإن الكل آبار ثمود، فحمل هذا النهي عن شربه على أمر معلوم سببه أولى من حمله على أمر غير معقول الـمعنى مما يسمونه خلاف القياس؛ لأنه ليس في السنة الصحيحة ما يخالف القياس الصحيح، كما حقق ذلك شيخ الإسلام وابن القيم في الإعلام نظير هذا أن النبي ﷺ في هذه الغزوة نفسها قال لأصحابه. «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا عَيْنَ تَبُوكَ فَمَنْ جَاءَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِىَ»([134])، حتى إنه لمّا سبقه رجلان إلى عين تبوك فشربا منها أغلظ عليهما بالكلام وقال: «ألم أنهكم أن يسبقني إليها أحد». فنهيه عن ماء آبار ثمود هو نظير نهيه عن ماء بئر تبوك على السواء، وهذا دليل على حرص رسول الله ﷺ على أصحابه وحمايته لهم عن الاستعجال عن موارد الـمياه الـمجهولة الـمهجورة إلا بعد اختياره لها، ولا يبعد هذا النهي عن نهيه عن الشرب من آبار ثمود لمّا تبين له فسادها.
فهو يحاذر على أصحابه من علوق الوباء والوقوع في البلاء، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال:
«إِنَّهُ ما مِنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيحذرهُمْ عَن شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ»([135])، ولمّا كان غالب أصحابه الذين غزوا معه تلك الغزوة هم حديثو عهد بدخولهم في الإسلام؛ لأن العرب لم يتوسعوا في دخول الإسلام إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة وفي السنة التاسعة دخلوا في الدين أفواجًا أفواجًا وهم حديثو عهد ببادية لا يحتفلون بالأسباب ولا يعرفون النافع من الضار، لهذا نهاهم رسول الله عما يضرهم منها، كما أن عادة الزعيم ينهى قومه عن الوقوع في البلاء ومراتع الوباء.
ومن الـمشاهد من مضار هذه الـمياه أنه يوجد آبار في مكان يسمى ماوان وهي مزارع لأهل بلد حوطة بني تميم، وتقع في الـمنتصف بين الرياض والحوطة، فخرج أهلها إليها يريدون زراعتها بعد تركهم لها أزمانًا طويلة فعملوا عملهم في حراثتها وقلب أرضها ووضعوا البذور فيها وركبوا آلات السقي وعملوا عملهم، فبعد ما حركوا الـماء أصيبوا بالحمى القتالة فهربوا وتركوا زروعهم فمات بعضهم وبقي بعضهم عليلاً زمانًا طويلاً.
والحادثة الثانية: هو أنه خرج جماعة من صنعاء يريدون التوجه إلى الرياض عاصمة الـمملكة العربية السعودية، قالوا: فنزلنا على حي من العرب، نريد أن نستوضحهم الطريق، فتصدى لإرشادنا رجل عاقل من الحي. قال: إنكم ستأتون في مكان كذا واديًا معترضًا وفي الوادي ماء فلا تشربوا من مائه ولا تناموا فيه لئلا تصيبكم الحمى. قالوا: فلما أتينا الوادي وجدناه كما وصفه لنا ووجدنا الـماء حلوًا عذبًا والوادي سهلاً لينًا. وقلنا: هذا رجل متطير. وتوكلنا على الله، فلم نحتفل بكلامه وشربنا من الـماء ونمنا في الوادي ولم نقم من النوم إلا وقد علقت بنا الحمى القتالة فمات بعضنا وبقي بعضنا عليلاً زمانًا طويلاً، وكم قتلت أرض جاهلها، ومن الـمشاهد بالتجربة أن الـمسافرين يردون بعض الـمياه ثم يقوضون منها وقد أصيبوا بشيء من الأضرار أقلها الزكام الشديد، كله من أجل فساد الـماء.
وكان النبي ﷺ يأكل من الطعام ما عرض عليه، فلا يتكلف مفقودًا ولا يرد موجودًا، أما الـماء فكان يحرص على نقاوته، ولهذا كان يستعذب له الـماء من السقيا، وهي تقع على أربعة أميال من الـمدينة.
فرسول الله ﷺ مع قوة إيمانه وتوكله على الله كان يتقي أسباب البلاء ويأمر بالتباعد عن مواقع الوباء، ويقول: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ»([136])، وقال: «إذا وَقَع الْوَبَاءَ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ»([137])، وقال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ»([138])، وجاءه قوم وقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا هي ريفنا ومصيفنا وإنا إذا نزلناها نحفت أجسامنا وقل عددنا. فقال رسول الله: «اتركوها ذميمة فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ»([139])، فهذه تعتبر من باب اجتناب الأسباب التي جعلها الله أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، كما أخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن من القرف التلف، يعني أن مقاربة الإنسان للأشياء الـمعدية والضارة بطبعها أنها سبب مقارفة الجسم لها، بحيث تعلق به ثم يهلك، وقد قيل: الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء.
فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية عن رفع البلاء أو دفع الوباء هي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه إحسانًا منه لهم بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بنوع من الـمرض يزول به ويشفيه، وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه واستعمالها في وقاية صحته وحفظ بنيته؛ لأن الله سبحانه «لم ينزل من دَاء لاَّ أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»([140]).
وكل الأمم على اختلاف أديانهم وأوطانهم قد جربوا وقاية التطعيم عن الأمراض الـمعدية، مثل: الجدري والكوليرا وغيرهما، فوجدوا لها من التأثير على الوقاية من الأمراض القتالة ما يشهد الواقع بصحته ولا طبيب إلا ذو تجربة، فخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر ويفرون من القدر إلى القدر، ويحكمون الأمر على القدر.
لهذا، نجد بعض الناس يتكاسل ويتقاعس عن استعمال الوقايات الـمجربة والأدوية النافعة توكلا منهم بزعمهم فيجعلون عجزهم توكلا، وإنما الـمتوكل هو من يستعمل أسباب الوقاية الـمجربة والأدوية النافعة، ثم يتوكل على ربه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
* * *
[133] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [134] أخرجه مسلم من حديث معاذ. [135] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. [136] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [137] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف. [138] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [139] أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بلفظ: «دعها عنك». [140] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس والبخاري بنحوه من حديث أبي هريرة.
إن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها وبسطها وجعلها للناس مستقرًّا ومسكنًا وجعلها مسجدًا وترابها طهورًا، كما في صحيح البخاري ومسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، - وفي رواية: فعنده مسجده وطهوره - وَأُحِلَّتْ لِىَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِى ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»، فهذا الحديث صريح في أن أرض الحجر مسجد وتربته طهور، وكذلك ماؤه طهور، حيث لم يوجد ما يقتضي سلبه الطهورية ولا النهـى عن الوضوء به بطريق صحيح.
وقد ترجم البخاري في صحيحه فقال: باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، قال: يذكر عن علي أنه كره الصلاة في خسف بابل. ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» الحديث. ويفهم من وضع الترجمة وسوقه للحديث الـمذكور أنه يرى كراهية الصلاة في الحجر، حيث استدل على ذلك بسياقه للأثر عن علي رضي الله عنه أنه كره الصلاة في خسف بابل، وهذا رأي منه وليس برواية، والرأي يخطئ ويصيب، وكان الصحابة يرد بعضهم على بعض في الآراء التي ليس لها سند عن رسول الله ﷺ وليس عندنا من سنة رسول الله ما يمنع الصلاة بها، بل ولم يثبت القول بذلك عن أحد من الصحابة وحتى الوضوء من آبار الحجر لم يثبت عن أحد من الصحابة القول بعدم الاجتزاء به، وكل الذين ذكروا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر بن عبد الله وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي ذر، لم يذكر أحد في حديثه أن رسول الله ﷺ نهى عن الوضوء بمائه أو الصلاة في أرضه، وقال في الفتح بعد شرحه لحديث النهـي عن دخول مساكن هؤلاء الـمعذبين «إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»([141])، قال ابن بطال: وهذا يدل على إباحة الصلاة بها، لأنها موضع بكاء وتضرع. انتهى. والقول بتأثر الأرض أو الـماء بنزول السخط على ثمود بعيد جدًّا إذ لو كان صحيحًا لأوجب الله على نبيه صالح والـمؤمنين معه بأن يهاجروا عنها، ولما استباح النبي ﷺ النزول بها ولو ساعة واحدة والله أعلم.
* * *
[141] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.
يقول الله تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗا﴾ [الأعراف: 85]. وقد أخبر الله تعالى في عدد من سور القرآن بعبادتهم غير الله وإفسادهم في الأرض وبخسهم للكيل والوزن وقد بالغ نبي الله شعيب في نصحهم فأصروا واستكبروا وعَتَوْا عتوًّا كبيرًا. قال في أعلام القرآن ص353: ومدين اسم قرية كانت على البحر الأحمر وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لبنات شعيب. وقال في معجم البلدان رقم 417- ج7: مدين بفتح أوله وسكون ثانيه، تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب عليهما السلام قال: وقد رأيت هذه البئر مغطاة قد بني عليها بيت ونماء أهلها من عين تجري، ومدين اسم القبيلة سميت بمدين بن إبراهيم عليه السلام. انتهـى.
وأقول: إن مدين تقع الآن في حدود الـمملكة العربية السعودية، وبها سكن وزروع وسمعت بأنه يوجد بها نخل، فهذه من بلدان الأمم الـمعذبة، ويقال فيها ما يقال في الحجر جوازًا ومنعًا، يقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ ٥٨﴾ [هود: 58]. ﴿وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٦٧ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ ٦٨﴾ [هود: 67-68]. فأخبر الله سبحانه أنه أنجى نبيه شعيبًا والذين آمنوا معه من هذا العذاب النازل على قومهم وأنهم بقوا في أرضهم يتمتعون بخيراتها ويأكلون من طعامها وشرابها ويعبدون الله في أرضها كحالتهم السابقة أو أحسن وأرض مدين هي شقيقة أرض الحجر، فالسخط النازل على أهلها لا تعلق له بأرضها ومائها، ولا تزال هذه البلدة مسكونة ومعمورة إلى وقت الآن، كما أن بلد الحجر لا يزال مسكونًا إلى وقت الآن، إذ الأصل الإباحة ولم يثبت ما يقتضي الكراهة، فضلا عن التحريم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.