مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الخامس
أحكام الأضحية و رسائل أخرى(3) سنة الرسول ﷺ شقيقة القرآن
نحمد الله سبحانه ونسأله التوفيق للإيمان والعمل بالقرآن والتمسك بسنة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بسنة محمد عليه الصلاة والسلام كما أن التكذيب بسنة محمد عليه الصلاة والسلام تستلزم التكذيب بالقرآن، إذ هما وحيان شقيقان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
قولوا: آمنا بالله وما جاء من الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وما جاء عن رسول الله على مراد الله.
فالإيمان بالقرآن يرجع إلى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بسنة رسول الله يرجع إلى تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله هو طاعة الرسول فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألاّ يعبد الله إلا بما شرع. ومن قال: أنا لا أؤمن إلا بالسنة العملية. فهو ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠﴾ [النساء: 150].
فمن قال: أنا لا أؤمن ولا أعمل إلا بالقرآن. فهو بمثابة من يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله ولا أشهد أن محمدًا رسول الله. فـلا شك في بطلان شهادته؛ لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، يقول الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠﴾ [النساء: 80]. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّه﴾ [النساء: 64]. وكذلك من يعص الرسول فقد عصى الله.
ولما ادعى أناس محبة الله مع تخلفهم عن متابعة رسول الله أنزل الله عليهم آية الـمحبة لبيان حقيقة الـمحبة، فقال سبحانه: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ﴾ [آلعمران: 31].
تعصـي الإله وأنت تزعم حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن الـمحب لـمن يحب مطيع
فمتى تخلت الأمّة عن متابعة الرسول وطاعته والانقياد والتسليم لما جاء به مع دعواها لـمحبته، فلا شك أن هذه دعوى كاذبة باطلة بالحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. يقول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥﴾ [النساء: 65].
من قال قولا غيره قمنا على
أقواله بالسبر والـميزان
إن وافقت قول الرسول وحكمه
فعلى الرؤوس تشال كالتيجان
أو خالفت هذا رددناها على
من قالها من كان من إنسان
أو أشكلت عنا توقفنا ولم
نجزم بلا علم ولا برهان
هذا الذي أدى إليه علمنا
وبه ندين الله كل أوان([96])
الـمؤلف
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الـموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال الـمبطلين وتأويل الجاهلين، ونعوذ بالله من فتن الضالين الـمضلين([97]).
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤﴾ [آلعمران: 164]. وفي سورة الجمعة: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٤﴾ [الجمعة: 2-4].
فقد امتن الله سبحانه على عباده الـمؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة: 128]. فهدى الناس من الضلالة وبصرهم من الجهالة.
ثم أخبر سبحانه عن هذا الدين الذي فضل الله به الأميين من أصحاب محمد، أنه ليس مختصًّا بهم، بل هو لهم ولكل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة فقال: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡ﴾ [الجمعة: 3]. ممن تبع رسول الله وتمسك بسنته، كما روى الترمذي من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أم أَمْ آخِرُهُ». غير أن للصحابة الـميزة السامية والـمنزلة العالية بسبقهم إلى النبي ﷺ وملازمة صحبته، لا يدانيهم فيها غيرهم، كما في الصحيحين من حديث عمران، أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثًا».
وقال: «دعوا لي أَصْحَابِى فَوَالَّذِى نَفْس محمد بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»([98]).
والأميون هم العرب، أطلقت عليهم هذه التسمية لعدم معرفتهم بالقراءة والكتابة نسبة إلى الأم، وقد سمّى الله نبيه محمدًا أُميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ الـمكتوب، فقال سبحانه: ﴿...وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156].
فأميّة الرسول هي معجزة من معجزات نبوته، كما قيل: كفاك بالعلم في الأمي معجزة. وليست من سنته، فقد حارب الأمية بنشر العلوم والكتابة بين أصحابه، ولأن أول سورة نزلت من القرآن هي سورة التعليم بالقلم.
وإنما خصه الله بالأميّة صيانة للوحي الذي جاء به حتى لا تتطرق إليه الأوهام الكاذبة والظنون الباطلة، فيقولون: كتبه من كتاب كذا. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨﴾ [العنكبوت: 48].
وهذه البعثة التي امتن الله بها على عباده الـمؤمنين هي بداية نزول الوحي عليه بغار حراء، حين أنزل الله عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5].
فهذه البعثة هي أفضل من زمن الـمولد، لكونه ولد كما يولد الناس، وعاش أربعين سنة كسائر قريش، ولهذا قال في معرض الاحتجاج على قومه: ﴿قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦﴾ [يونس: 16]. ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾ أي القرآنية ويفسرها لهم ويسألونه عما أشكل عليهم منها.
قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن. فهم يتلقون عنه العلم والعمل([99]).
وكانت عامة مجالس النبي ﷺ إنما هي مجالس علم وتعليم، إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والـموعظة الحسنة، كما أمره الله في كتابه بأن يقص ويعظ ويذكر وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والـموعظة الحسنة، ولهذا سمّاه الله بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ﴾ أي بالـمحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل التي أعلاها الشرك فما دونه؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتطهرها وتنشر في العالـمين فخر ذكرها ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠﴾ [الشمس: 9-10].
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فكن طالبًا للنفس أعلى الـمراتب
ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [الجمعة: 2]. فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة، فكان رسول الله ﷺ يعلمهم السنة كما يعلمهم القرآن، كما قال سبحانه في زوجات نبيّه: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]. فكان الصحابة يتعلمون من رسول الله القرآن والسنة معًا، ويتناوبون ملازمته لئلا يفوتهم شيء من علمه، وكان يقول: «إنما بعثت معلمًا»([100]) «فمن حفظ حجّة على من لم يحفظ»([101])، قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١﴾ [البقرة: 151].
[96] من نونية العلامة ابن القيم. [97] هذه خطبة للإمام أحمد في رده على الجهمية. [98] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك. [99] أخرجه البيهقي في سننه، وشعب الإيمان عن ابن مسعود. [100] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو. [101] ورد في كشف الخفاء أنه من الـموضوعات وليس بحديث.
هذا مع ما ثبت بالتواتر أن النبي ﷺ نشأ يتيمًا في حجر أبي طالب، كأحد أولاده وليس في مكة مدارس ولا كتب، حتى فاجأه الحق ونزل عليه الوحي، والله يعلم حيث يجعل رسالته. فكان ينزل عليه القرآن تدريجيًّا شيئًا بعد شيء حتى نزلت عليه سورة الأنعام بجملتها وهي جزء كامل، فقام حافظًا لها ولسائر القرآن بدون أن ينسى شيئًا منه، لأن الله وعده بحفظه، فقال سبحانه: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦﴾ [الأعلى: 6]. وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي يحرك شفتيه بالقراءة خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦﴾ [القيامة: 16]. أي: بحفظه - ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧﴾ [القيامة: 17]. أي: علينا أن نجمعه لك في صدرك وتقرأه - ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ﴾ [القيامة: 18]. - أي: أوحيناه - ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ﴾ - أي: فاستمع له وأنصت - ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩﴾ [القيامة: 19]. - أي: أن تحفظه ولا تنسى شيئًا منه. فكان رسول الله بعد ذلك إذا نزل عليه جبريل أنصت وإذا أقلع عنه قرأه.
ثم أخبر النبي ﷺ عن حقيقة هذا العلم الذي جاء به والذي أوحاه الله إليه، وأن الناس يتفاوتون في فهمه وحمله والعمل به، فقال فيما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري. قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ».
وهذا مثل مطابق للواقع من أحوال الناس مع هذا الوحي والهدى النازل عليهم، وأن هذا التفاوت في حمل العلم وفهمه واستنباطه هو أمر واقع بين الصحابة فمن بعدهم، وأن الصحابة يتفاوتون في حمل الحديث وحفظه واستنباطه، وقد وصفوا ابن عباس بالأرض الطيبة التي قبلت الـماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فحمل أحاديث كثيرة ثم فرعها واستنبط منها الفقه في الأحكام وأمور الحلال والحرام، فكان آية في معرفة الاستنباط، ومثله عائشة أم الـمؤمنين رضي الله عنها.
ومشهور الأرض الثانية التي أمسكت الـماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا فشبهوها بأبي هريرة، فقد حمل علمًا كثيرًا عن النبي ﷺ فصرف جهده إلى التحفظ على ما عنده خشية أن ينساه، فكان يدرس الحديث وقد أوصاه النبي ﷺ بأن يوتر قبل أن ينام من أجله، لكنه لم يشتغل في استنباط ما عنده من العلم وله أشباه كأنس وأبي سعيد الخدري. والـمكثرون من الصحابة سبعة، ولا يسمى مكثرًا إلا إذا حمل عن النبي ﷺ ألف حديث فما فوق وهم: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبو هريرة وأنس وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، قال الشاعر:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن الـمختار خير مضـر
أبو هريرة سعد جابر أنس
صدّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وأن هذه الأوصاف تنطبق على من بعدهم من أهل العلم وحملة الحديث، وأن منهم العالـم العامل بعلمه والذي يدعو إلى دين ربه بالحكمة والـموعظة الحسنة، ثم يتوسعون في استنباط الـمعاني والأحكام بفقه وفهم. ومنهم عليم اللسان الذي يحمل العلم ولا يعمل به ولا يتوسعون في معرفة فقهه وأحكامه وغاية علمهم هو الجمود على ما يقوله أئمتهم وعلماء مذهبهم، وقد شبهوه بالـمصباح الذي يضيء للناس ويحرق نفسه.
والطائفة الأخرى: هي الجاهل الجافي الذي لا علم عنده ولا عمل، وقد شبهه بالأرض السبخة التي لا يزيدها الـمطر إلا ضررًا.
والحاصل أن رسول الله ﷺ يعلم أصحابه السنة، كما يعلمهم القرآن، لكون السنة تفسر القرآن وتبينه، فأفضل التفاسير هو من يفسر القرآن بالقرآن وبالسنة، كتفسير ابن جرير وابن كثير؛ لأن الله سبحانه قال: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]. من سورة النحل. وقال: ﴿وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٤﴾ [النحل: 64]. من سورة النحل، قال عمر بن الخطاب: إنـه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنـة، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. فالسنة هي التي تفسر القرآن كما قيل:
فهو الـمفسر للقران وإنما
نطق النبي لنا به عن ربّه
فالقرآن وحي مجمل والسنة وحي مفصّل ولا غنى لأحدهما عن الآخر، كما قيل:
وحي بتفصيل ووحي مجمل
تفسيره ذاك ووحيٌ ثاني
وعن الـمقدام بن معد يكرب الكندي، أن رسول الله ﷺ قال: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِى فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» رواه الترمذي وابن ماجه.
وفي راوية: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».
ومن حديث العرباض بن سارية أنه قال: «وعظنا رسول الله ﷺ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، ومنها قوله: َعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»» رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.
* * *
يقول الله سبحانه: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤﴾ [النجم: 2-4]. قال ابن كثير في التفسير على قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢﴾ هذا هو الـمقسم عليه وهو الشهادة للرسول ﷺ بأنه راشد تابع للحق ليس بضال وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي هو العالـم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنزه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣﴾ أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤﴾ أي إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفورًا من غير زيادة ولا نقصان. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه عن رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله وإنه بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق»([102]).
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه»([103]) وعنه أيضًا قال رسول الله ﷺ: «لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا»([104]). قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: «إِنِّي لَا أَقُول إِلَّا حَقًّا». انتهى. من تفسير ابن كثير.
ثم إن الله سبحانه توعد نبيّه بأنه لو كذب عليه بادعاء شيء نزل عليه ولم ينزل عليه لأذاقه العذاب الأليم، فقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥﴾ [الحاقة: 44-45]. لأنها أشد بطشًا، ﴿ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦﴾ [الحاقة: 46]. وهو نياط القلب ﴿فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ ٤٧﴾ [الحاقة: 44-47]. وحاشا نبيّه أن يكذب على ربه أو يكتم شيئًا من وحيه.
وقال تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [آلعمران: 64]. وقال: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]. قال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة. لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سنته ﷺ.
وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن.
ثم إن الله سبحانه اختار لحمل هذا الدين وتبليغه من هم أفضل الخلق على الإطلاق بعد نبيهم، أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، وأصدقهم لهجة وأمانة، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، ثم وهبهم قوة الحفظ والإتقان، فيبلغون الناس ما سمعوه من نبيهم بدون زيادة ولا نقصان، كما روى ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وصححه.
وعن جبير بن مطعم، قال: سمعت رسول الله ﷺ بالخيف من منى يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ ، تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ». رواه أحمد وابن ماجه والطبراني.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا جاءه أحد بحديث لم يسمعه كلفه إثباته بإحضار البينة التي تشهد له بصحة ما سمعه وإلا أوجعه ضربًا من شدة حرصهم على حفظ السنة، فمن ذلك ما روى البخاري في صحيحه، أن أبا موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس استأذن على عمر فلم يؤذن له فانصرف، ثم قال عمر: ألـم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي ﷺ يقول: «إن استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف». فقال عمر: لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا، فذهب إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر. فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري، فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنها الصفق بالأسواق.
وهذا نوع من تحفظهم بالسنة وحمايتها عن أن يزاد فيها أو ينقص منها، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ولهذا امتنع بعض الصحابة عن التحدث عن رسول الله خشية أن يزيد في الحديث حرفًا أو ينقص حرفًا، كما ثبت عن عبد الله بن الزبير أنه قال لأبيه الزبير: يا أبت مالك لا تحدث عن رسول الله ﷺ كما يحدث عنه فلان وفلان؟ فقال: يا بني إني لم أفارق رسول الله في جاهلية ولا إسلام، ولكن أخشى أن أزيد عليه في الحديث حرفًا أو أنقص حرفًا فأكون مستوجبًا للوعيد في الكذب عليه. والذي جعل الزبير وأمثاله يتورعون عن الحديث عن رسول الله ﷺ لاتهامهم حفظهم عن ضبط ما سمعوه من أجل ما رواه ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.
ثم إن الله سبحانه حفظ سنة نبيّه بما يحفظ به كتابه وذلك بعناية العلماء الحفّاظ والجهابذة النقّاد الذين سخرهم الله لبذل مهجهم وجهودهم وجهادهم في تنقيح أحاديث رسول الله وعنايتهم بتصحيحها وتمحيصها وبيان ضعيفها وصحيحها، فكانت هي صنعتهم مدة حياتهم حتى حذقوا فيها وصاروا كصاغة الذهب يعرفون الخالص من الـمشوب؛ لأن من تردد في علم شيء أعطي حكمته وكانوا يسألون عن الرجال قبل سؤالهم عن الحديث، ويقولون: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق.
فمتى ذكر الـمحدث بسوء الفهم أو النسيان أو عدم الثقة والإتقان تركوا الحديث عنه.
وعلى كل حال، فإنها لم تعن أُمّة من الأمم بحفظ حديثها ونصوص أصول دينها أشد من اعتناء علماء الـمسلمين في سلسلة إسنادهم، حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول رب العالـمين، فمتى غلط الـمحدث فأخطأ فهمه أو زل قدمه قالوا له: اثبت وانظر ما تقول، فهذا السند الذي اعتنى به أئمة الحديث في أمانة التبليغ هو من خصائص هذه الأمّة لا يشاركهم فيه غيرهم من سائر الأمم كما قيل:
قد خصت الأمّة بالإسناد
وهو من الدين بلا ترداد
ثم إن السنة تدور على قول الرسول وفعل الرسول وإقرار الرسول. وقول الرسول مقدم على فعله لاحتمال أن يكون الفعل من خصائصه، إذ الرسول منزه عن الخطأ فيما يبلغه عن ربه.
فمن قال: لا أقبل أو لا أصدق إلا بفعل الرسول، فليس مؤمنًا بالرسول ولا بما جاء به، والنبي ﷺ قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»([105]) وقال: ««كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى»»([106]).
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله تستلزم طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألاّ يعبد الله إلا بما شرع.
يقول الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾ [الأحزاب: 36]. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١﴾ [النور: 51].
ثم ليعلم أن الله سبحانه قد نصب لعباده في الدنيا حكمًا عدلاً يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع وهو الكتاب والسنة.
يقول الله: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [النساء: 59]. واتفق العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته فهما نظام شريعة الإسلام، وفيهما حل مشاكل سائر الناس من كل ما يتنازعون فيه من صغير وكبير ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [النساء: 83].
لأن الله سبحانه لم يوجب الرد إليهما عند التنازع إلا وفيهما الكفاءة لحل جميع الـمشاكل.
ثم إن القرآن لا غناء له عن السنة التي تبيّنه وتفسره وتوضح ما أشكل منه. كما أنه لا غنى للسنة عن القرآن فهما وحيان شقيقان، ولما نزل قوله سبحانه: ﴿مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ﴾ [النساء: 123]. فزع أصحاب رسول الله وقالوا: هلكنا، إن كان كل من عمل منا سوءًا جزي به. فقال رسول الله ﷺ: «ألستم تحزنون، أليس يصيبكم اللأواء والـمرض؟ قالوا: بلى. قال: فذاك»([107]) يشير بهذا إلى أن ما يصيب الـمسلم من الهم والحزن والـمرض حتى الشوكة يشاكها فإنه يكفر بها من خطاياه، وأن هذا هو من الجزاء الذي وعدوا به. ومثله قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ﴾ [الأنعام: 82]. ففزع الصحابة من ذلك وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم رسول الله: «إنه الشرك، ألـم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ﴾ [لقمان: 13]»([108]). والذي يقول بالاكتفاء بالقرآن عن السنة هو لا يعرف القرآن ولا يعرف السنة ويحاول الحط من السنة ليتوصل به إلى الحط من قدر القرآن، فإن من تجاهل سنة رسول الله وحاول الطعن فيها بالاكتفاء عنها، فإن من لوازم قوله الطعن في القرآن والتكذيب به.
* * *
[102] أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو. [103] أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة. [104] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [105] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عبد الله بن عمرو. [106] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [107] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر. [108] أخرجه أبو عوانة من حديث عبد الله بن مسعود.
وإذا أردت أن تعرف قدر منزلة السنة من القرآن ومن الشريعة، وأن الناس في حاجتهم إلى السنة وحكمها وتنظيمها وحلالها وحرامها هو بمثابة حاجتهم للقرآن.
فمن ذلك أن الله سبحانه فرض الصلاة على عباده الـمؤمنين كتابًا موقوتًا، أي مفروضة في الأوقات، وأمر سبحانه في كتابه بإقامة الصلاة وبالـمحافظة على الصلاة وباستدامة فعل الصلاة، فمن أين نجد في القرآن أن صلاة الظهر أربع ركعات بعد زوال الشمس، وأن صلاة العصر أربع ركعات إذا صار ظل كل شيء مثله، وأن صلاة الـمغرب وتر النهار ثلاث ركعات بعد غروب الشمس إلى أن يغيب الشفق، وأن صلاة العشاء أربع ركعات بعد غيبوبة الشفق إلى نصف الليل، وأن صلاة الفجر ركعتان، وهل يوجد هذا التفصيل بهذا التفسير إلا في السنة الـمطهرة، ومن ذلك أن الله سبحانه قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ﴾ [النساء: 101]، فكأن إباحة القصر مشروطة بخوف الفتنة، وقد قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: ما هذا القصر وقد أُمنَّا. فقال عمر: لقد عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك. فقال: «هو صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته»([109]). فمن أين نجد هذه الصدقة من القرآن؟.
ومثله الزكاة، فقد أوجبها الله حتى على من كان قبلنا، ومدح في كتابه من آتى الزكاة فيما يزيد على مائة آية، لكنها مطلقة غير مفصلة لا بنصاب ولا جنس، وإنما السنة بينت أنصبة الزكاة والجنس الزكوي الذي تجب فيه الزكاة، فبينت أن في النقود والتجارة ربع العشر مع بيان نصاب كل جنس من الذهب والفضة، وبينت أنصبة الحبوب والتمور، وأن ما سقي بكلفة ومؤنة ففيه نصف العشر، وما سقي بالسّيح أو الـمطر ففيه العشر، وفي الركاز الخمس ومثله التفصيل في زكاة الإبل والغنم. فمن أين نجد في القرآن مثل هذا التفصيل والبيان؟!
ومثله البيع، فقد أحل الله البيع وحرّم الربا، وليس كل بيع حلالاً، فقد حرّمت السنة أشياء من البيوع كبيع الربا وبيع الخمر وبيع لحم الخنزير وبيع الغرر والغش والخداع وبيع الأصنام، ومنها الصور الـمجسمة إلى غير ذلك من الـميتة وبيع البيوع الـمحرمة. وكما جاءت السنة أيضًا بإثبات خيار الـمجلس بين الـمتبايعين، كما في البخاري عن حكيم بن حزام، أن النبي ﷺ قال: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وهذا يسمى خيار الـمجلس حتى لو سلم الثمن واستلم الـمشتري السلعة، فإن لكل واحد منهما الخيار ما داما في الـمجلس وإن طال، فمن أين نجد هذا التفصيل في القرآن متى عدلنا عن السنة أو استغنينا عنها بالقرآن؟!.
ثم إن الله حرّم أكل الـميتة، فقال سبحانه: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ﴾ [الـمائدة: 3]. فجاءت السنة الـمطهرة فأباحت للناس ميتتين ودمين وهما السمك والجراد والطحال والكبد.
ومن ذلك أن الله سبحانه حرّم الخمر في كتابه الـمبين على الإطلاق بدون تفصيل، فجاءت السنة فحرّمت كل ما أسكر كثيره. فقليله حرام، وهو خمر من أي شيء كان.
وكل مسكر خمر وكل خمر حرام من أي شيء كان حتى لو وجد عين ماء شرب منها سكر لحكمنا بكونها خمرًا اعتبارًا بالـميزان الشرعي.
ومن ذلك أن الله سبحانه أوجب قطع يد السارق، بقوله سبحانه: ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨﴾ [الـمائدة: 38]. فجاءت السنة الثابتة من حديث رافع بن خديج، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ». رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان. فأثبتت السنة العفو عن سارق الثمر والكثر وهو جمار النخل. وكما جاءت السنة أيضًا بقوله ﷺ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»([110]) وبقوله: «ادفعوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([111]) فبالله قل لي: من أين نجد هذه الأحكام من كتاب الله وفي أي سورة نجدها لولا أن السنة هي التي تفصل القرآن وتفسره وتعبر عنه وتبين ما سكت عنه.
ومن ذلك أن الله سبحانه أباح للناس الزينة فقال سبحانه: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِ﴾ [الأعراف: 32]. فجاءت السنة فحرّمت الذهب قليله وكثيره على الرجال، كما في الحديث: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي ، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَم»([112]).
ولما رأى النبي ﷺ خاتم ذهب بيد رجل فطرحه بالأرض غضبًا على صاحبه، فقال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَار فيضعها في أصبعه»([113])، فلما انصرف النبي ﷺ قيل لصاحب الخاتم: خذ خاتمك وانتفع به. قال: لا والله لا أرفعه عن الأرض وقد طرحه رسول الله فيها. من شدة استجابته للحق.
ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ﴾ [الأنعام: 145]. فجاءت السنة فحرّمت كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، أي الذي يصيد بنابه، كالكلب والسبع والذي يصيد بمخلبه كالصقر، وكما حرّمت السنة أكل الحمر الأهلية ولم توجد هذه كلها في القرآن.
وفي القرآن الـمنزل: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ﴾ [النساء: 11]. فجاءت السنة فمنعت الإرث بين الوالدين والأولاد مع اختلاف الدين، فقال: «لاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلاَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ»([114]). وكما أن القاتل لا يرث من قتله، ثم إن الله سبحانه قال في كتابه من بعد قسمه للمواريث فقال: ﴿مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖ﴾ [النساء: 12]. فجاءت السنة فحكمت ببداءة الدين قبل الوصية، كما حكمت بأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وهذه إنما توجد في السنة لا في القرآن، ثم إن رجلا أعتق ستة مماليك له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فجزأهم النبي ﷺ أثلاثًا، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولاً شديدًا، فدل دلالة قطعية على أن الـمريض محجور عليه فيما زاد على الثلث، فمن أين نجد هذا في القرآن لو لم نرجع في تفصيلها إلى السنة؟! ولولا السنة لاستحللنا أشياء مما حرّم الله علينا.
ولهذا قال بعض السلف: إن السنة تقضي على القرآن وتعبر عنه وتبين ما سكت عنه، ومن ذلك أن الله سبحانه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ﴾ [النساء: 92]. فأطلق هذه الدية ولم يقيّدها بجنس ولا صفة ولا عدد، فجاءت السنة ففصّلتها وفسرتها بالإبل وبالذهب والفضة.
ومثله قوله ﷺ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وهذا الحديث يشتمل على قاعدة عظيمة من قواعد علم الفرائض وقسم التركات. فهو مع اختصار لفظه وجزالة معناه قد جمع علم الفرائض مما اختص رسول الله ببيانه من كل ما أجمل أو أبهم في القرآن مما لا يستطيع أحد إحاطة العلم بمدلوله عن طريق القرآن وحده.
* * *
[109] رواه مسلم وأهل السنن. [110] أخرجه الترمذي والبيهقي في الكبرى من حديث عائشة. بلفظ «ما استطعتم». [111] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [112] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري. [113] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ: «فيجعلها في يده». [114]متفق عليه من حديث أسامة بن زيد.
إن من الغباوة والحمق دعوى الاكتفاء بالقرآن عن السنة ومحاولة عزل السنة القولية عن العمل، ومن الـمعلوم من دين الإسلام ومن إجماع علماء السلف الكرام أن السنة هي شقيقة القرآن، فهي الوحي الثاني لقوله سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ٤﴾ [النجم: 3-4].
فالسنة تُفسِّرُ القرآن وتفصّل ما أجمله وتأتي بما سكت عنه، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]. فمن حاول أن يتصدى لتفسير القرآن أو تأليف أي كتاب من العلوم الشرعية مع عزمه على عزل السنة النبوية وعدم احتياجه لها، فهذا بلا شك أخرق وأحمق، أشبه من يقتحم لجة البحر وليس بماهر في السباحة، فهذا مما لاشك في غرقه؛ لأن بعض الناس لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذاك مائق فاتركوه.
تصدر للتأليف كل مهوس
جهول يسمى بالفقيه الـمدرس
وحق لأهل العلم أن يتمثلوا
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كُلاها وحتى سامها كلّ مفلس
وسنورد من القواعد الأصولية ما عسى ألاّ تجدها إلا في السنة النبوية.
* * *
إن أكثر القواعد والعقائد والأصول إنما استفادها العلماء والحكماء عن طريق السنة النبوية، حتى قيل: إن حاجة الناس للعلم بالسنة والعمل بها أشد من القرآن. مع العلم أن القرآن هو الأصل، فمن ذلك قوله ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وهذا الحديث رواه البخاري عن عمر. وقد اعتمده الفقهاء من إحدى القواعد التي عليها مدار صحة الأعمال وفسادها وهي خمس قواعد، أحدها: الضرر يزال، والثانية: العادة محكّمة، والثالثة: الـمشقة تجلب التيسير، والرابعة: الشك لا يرفع اليقين، والخامسة: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». إذ مدار الأعمال الصالحة على إخلاص العمل وصوابه، ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ , وَإِقَامِ الصَّلاةِ , وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَصَوْمِ رَمَضَانَ, وَحَجِّ الْبَيْتِ».
فهذه الأركان التي بني عليها الإسلام ذكرت مفرقة في القرآن بدون ذكر البناء، ومن غير السهل حفظ العوام لها مفرقة. وقد سبكها رسول الله ﷺ بانسجام حسن لتكون عقيدة العلماء والعوام وللخاص والعام، ولن توجد بهذه الصفة في غير السنة حتى صارت عقيدة وطريقة لسائر الـموحدين السلفيين يحفظها العوام فضلا عن العلماء الأعلام. ومنها قوله ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. وفي رواية لـمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَهْوَ رَدٌّ» فهذا الحديث مبني على الإخلاص والـمتابعة لكون العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا على نهج السنة، فإنه مردود على فاعله.
إذ إن من واجب الإيمان برسول الله - عليه الصلاة والسلام - هو طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، إذ لا مدخل للعقول والآراء في عبادة الله- عز وجل- لكون العبادة هي ما أتى به الشارع حكمًا من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وهي مبنية على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع. يقول الله سبحانه: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ﴾ [الحشر: 4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم بعقولنا حكمته، ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ﴾ [الأنعام: 124]. ومن سلك هذا السبيل فليس في الحقيقة مؤمنًا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به.
فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم وجود الرسول وإخباره. وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده. انتهى.
ومنها قوله ﷺ في حديث بريرة: «كل شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» رواه البخاري من حديث عائشة.
ومنها ما رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: «قُلْتُ لِعَلِىٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ قَالَ لاَ ، إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ . قَالَ قُلْتُ فَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عليّ بلفظ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، وصححه الحاكم. فأخبر النبي ﷺ أن الإسلام يساوي بين الناس في دمائهم ودياتهم، فيجعل دية الـمقعد الأعمى والأصم بمثابة دية الشاب السوي القوي إذ النفس بالنفس والجروح قصاص. ثم قال: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، فأيما رجل آجر رجلاً أو رجالاً في ذمته، فحرام على الـمسلمين أن يخفروا ذمته حتى ولو كان الـمجير امرأة، كما قال النبي ﷺ: «قد أَجرْنا من أجَرْتِ يا أم هانئ»([115]).
وأما قوله: «وهم يد على من سواهم»، فمعناه: أنه متى بغى عدو على طائفة أو أهل بلد من الـمسلمين، فإن الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره، إذ الـمؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولو ذهبنا نتتبع النصوص والأصول الـمستفادة عن طريق السنة لخرج بنا الاستطراد من موضوع ما عزمنا عليه من الاختصار والاقتصار.
وحتى الحيوان فقد جاءت السنة بمشروعية رحمته والرفق به والإحسان إليه؛ ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم من حديث أبي يعلى شداد بن أوس. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: ««بينا كلب يدور على بئر يلهث عطشًا إذ نزعت له امرأة بغي موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها». فقالوا: يا رسول الله أولنا في البهائم أجر؟ فقال: «نعم، إن في كل كبد رطبة لأجرًا». وقال: «دخلت النار امرأة في هرّة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت»»([116])، ونهى أن تتخذ ذات روح غرضًا([117]) - أي هدفًا- للرمي، كما لعن من وسم دابة في وجهها([118]).
فهذه النصوص تستفاد من السنة، ولو ذهبنا نتتبع أمثال ذلك لخرج بنا عن موضوع الاختصار والاقتصار.
والحاصل أن من ادعى الاكتفاء بالقرآن عن السنة فإنه ليس مؤمنًا بالقرآن ولا بالسنة، لكون التكذيب بأحدهما مستلزمًا للتكذيب بالآخر، فيكون ممن قال الله فيهم: ﴿...وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 150-151].
[115] متفق عليه من حديث أم هانئ. [116] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [117] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [118] أخرجه ابن أبي شيبة في الـمصنف من حديث جابر.
إن من الواجب على كل مسلم متابعة الرسول في الـمعقول والـمنقول؛ لأن الرسول ﷺ قد بيّن للناس بطريق التلقين والتعليم جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم. قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١﴾ [البقرة: 151].
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسولاً منهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، يتلو عليهم آياته القرآنية ويلقنهم حفظها، ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن([119]). ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيكُمۡ﴾، أي بالـمحافظة على الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتشرفها وتنشر في العالـمين فخرها، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنّة، فكان رسول الله ﷺ يعلم أصحابه الكتاب والسنّة. ويقول: «إنما بعثت معلمًا»([120]). ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ﴾ من كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم.
فالرسول بيّن للناس جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الله لم يرسل رسولاً إلا ليطاع بإذن الله، يقول الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠﴾ [النساء: 80].
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله هي طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألاّ يعبد الله إلا بما شرع، فمن واجب الـمؤمن أن يعرف حقيقة ما أخبر به رسول الله، وأنه الحق لكونه لا يقول إلا حقًّا، وأن من عصى الرسول فقد عصى الله.
فمن واجب أهل العلم والإيمان التسليم والقبول لما جاء به الرسول من صحيح الـمنقول، إذ الحكمة في بعث الرسل هو طاعتهم فيما أمروا واجتناب ما عنه نهوا وزجروا، وسواء أدركوا معرفة ذلك بعقولهم أو لم يدركوه.
ثم إن السنّة التي ندعو إلى الإيمان بها والعمل بموجبها، هي السنة الثابتة عن النبي ﷺ بنقل الثقات الأثبات عند أهل الـمعرفة والعلم بالحديث، الذين يميزون بين الصحيح والضعيف، فهم يعرفون رجال الحديث وصحته كما يعرفون أبناءهم.
ولسنا نعني ما في بطون الكتب من التفاسير وكتب الفقه والترغيب والترهيب ونحوها، فإن في هذه الكتب الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والـموضوعة مما يتبرأ منها الإسلام، وليست من كلام محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد تصدى لهذه الأحاديث علماء نقّاد فأخرجوها عن حيز الاعتبار بما يسمى كتب الـموضوعات.
فمن واجب أهـل العلم بالله ألاّ يتجـرؤوا على الاستشهاد والاحتجاج بالحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وصحته، إذ إن كتب الفقه الـمتداولة بأيدي الناس من شتى الـمذاهب مشحونة بالأحاديث الضعيفة والـموضوعة، ينقلها بعضهم عن بعض.
وعلى كل حال، فإن كل من تصدّى للقضاء أو التفسير أو التأليف في الفقه أو في غيره من سائر العلوم الشرعية، فإنه لن يستغني عن الاستعانة بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية، إذ هي من الأمر الضروري ولن يتم أمره بدونها، إذ هي بمثابة الـمصابيح التي يهتدى بها.
وكلما كان الشخص عالـما بالسنة ومتوسعًا في حفظها وفهمها، فإنه سيكون أقدر وأجدر على معرفة تفسير القرآن واستنباط الـمعاني والأحكام ممن هو جاهل بها ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧﴾ [النحل: 17].
إن أكثر ما أبعد ضُلاَّل الـمسلمين من علماء الكلام قديمًا وحديثًا عن الدين، هو بعدهم عن السنة وضعف نصيبهم منها، فحكموا عقولهم وآراءهم في القول على الله وتحريف كلام الله وصفاته حتى وصفوا الرب بالجمادات، فأنكروا كلام الله وأنكروا صفاته بطريق تحريفها وصرفها عن الـمعنى الـمراد منها. فقالوا: القرآن مخلوق والله لا يتكلم. وقالوا: إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، ووجه الله عظمته، ويده قدرته، ونزوله نزول أمره، والاستواء على العرش بالاستيلاء، وأنكروا رؤيته في الآخرة. وغير ذلك من تحريف الكلم إلى غير الـمعنى الـمراد منه.
وهذه التحريفات إنما حدثت بعد انقضاء عصر الصحابة الذين تلقوا معاني التنزيل من الرسول -عليه أفضل الصلاة والتسليم- فكانوا أعلم الناس بالتأويل ولم يقع منهم تحريف للصفات بصرفها عن غير الـمعنى الـمراد بها، وبعد انقضاء عصر التابعين انقسم العلماء فريقين: فريق يقال لهم علماء السنة، وفريق يقال لهم علماء الكلام. فأهل السنة وقفوا مع القرآن، فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه من الصفات بدون تشبيه ولا تعطيل ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]. وقالوا: إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذوات الـمخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات الـمخلوقين. وقـد قال في شرح العقيدة الطحاوية([121]):
كيف يتكلم في أُصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان وعلماء الكلام؟! ومن زعم أنه يأخذه من كتاب الله وهو لا يتلقى تفسيره من كتاب الله ولا من أحاديث رسول الله، ولا ينظر فيما قاله الصحابة فإنه يعد خاطئًا خارجًا عن حدود الحق. فإن الـمنقول إلينا من السنة عن الثقات الذين تخيرهم النقاد: أنهم لم ينقلوا إلينا نظم القرآن وحده فقط، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل كانوا يتعلمونه بمعانيه، وكل من لا يسلك سبيلهم في العلم والتعلم والعمل، فإنما يتكلم برأيه وهواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
والحاصل: إن من يتكلم برأيه وبما يظنه من دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة، فإنه مأثوم وإن أصاب، وإن أخذه من الكتاب والسنة، فإنه مأجور وإن أخطأ. انتهى.
فالواجب على الـمسلمين جميعًا وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وإقامة التشريع عليهما، فإن هذا هو الضمان لهم والكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞ﴾ [فصلت: 44]. وحتى لا يرجعوا القهقرى ضلالاً كما حذرهم رسول الله من ذلك بقوله: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ». رواه مالك بلاغًا والحاكم موصولا بإسناد حسن.
* * *
[119] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو. [120] أخرجه البيهقي في سننه وشعب الإيمان عن ابن مسعود. [121] ص 312 من الطبعة الرابعة.
إنه من الـمعلوم بطريق العقل والنقل أنه لا غنى للناس عن السنة أبدًا، إذ هي الـمصدر الثاني في التشريع، وأن دعوة الناس إلى الاستغناء بالقرآن عن السنة هي دعوة إلحادية حاولوا بها الحط من شطر الدين وتفسير ما أجمل أو أُبهم في القرآن، ليتمكنوا بذلك من الحط من الشطر الثاني- أي القرآن الحكيم- حتى يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ﴾ [محمد: 12].
وقد قال عمر بن عبد العزيز: إن رسول الله ﷺ قد سنّ سننًا؛ الأخذُ بها اعتصام بكتاب الله وقوة في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، من اهتدى بها فهو الـمهتدي ومن استنصر بها فهو الـمنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل الـمؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.
فالرسول ﷺ كان يبين للناس ما نزل إليهم من القرآن بمقتضى أقواله وأفعاله وتقريراته، ويقول: «ما تركت من شيء يقرّبكم من الجنة إلا أخبرتكم به، ولا شيء يباعدكم عن النار إلا حذرتكم عنه»([122]).
وعن عمران بن حصين، أنه قال لرجل يريد أن يقتصر على القرآن دون السنة، فقال له: إنك امرؤ أحمق، أتجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة حتى عد عليه الصلاة والزكاة ونحوها، ثم قال: إن كتاب الله أبهم أشياء كثيرة من نوع ذلك، وإن السنة تفسر ذلك([123]).
ولقد سئل أبو بكر عن ميراث جدّة أُم الأب مع الأب، فقال: ما لك في كتاب الله من شيء، ولكني أسأل الناس. فسأل الصحابة فشهد الـمغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي ﷺ أعطاها السدس فأمضاه أبو بكر. وأراد عمر أن يفاوت بين الأصابع في الدية حتى شهد عنده بعض الصحابة أن رسول الله ﷺ قال: «الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ سواء كُلّ أُصْبُع عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ»([124]) فأمضاها.
ولم يكن ليعلم أن الـمرأة ترث من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن فيروز الديلمي وكان أميرًا لرسول الله على بعض البوادي، فكتب إلى عمر يخبره أن رسول الله ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
ولم يكن ليعلم حكم الشرع في أخذ الجزية من الـمجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بقول النبي ﷺ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»([125])، ولم يكن عثمان بن عفان رضي الله عنه يعلم أن الـمتوفى عنها زوجها تعتد في بيت زوجها أطول الأجلين، حتى أخبرته الرُّبيع بنت مالك أُخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي عنها زوجها، وأن رسول الله ﷺ أمرها أن تمكث في بيت زوجها حتى يبلغ الكتاب أجله فأخذ بها عثمان وأمضاها.
إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت بها السنة ولم تكن مذكورة في القرآن، فلما أُخبروا بها سمعوا وانقادوا وقالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا﴾ [البقرة: 285]. ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠﴾ [النساء: 80].
وحتى خبر الواحد العدل يفيد العلم اليقيني بأدلة كثيرة عند جماهير العلماء من الأولين والآخرين، وهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمّة بالقبول عملاً به أو تصديقًا له، كخبر عمر بن الخطاب: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»([126])، وكخبر ابن عمر: نهى رسول الله عن بيع الولاء وهبته([127])، وقد أنهى العلامة ابن القيم صحة قبول خبر الواحد إلى عشرين وجهًا([128])، كلها تثبت صحة قبول خبر الواحد متى توفرت أسباب الصحة فيه كغيره.
* * *
[122] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عبد الله بن مسعود. [123] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عمران بن حصين. [124] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [125] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف. [126] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [127] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [128] في صفحة 394- ج2 من الصواعق المرسلة.
إنه مما لا شك فيه أن السنة علم واسع يتعلق بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم ومعادهم وجهادهم وبيعهم وشرائهم وما يلتحق بذلك من الإيجار والعارية والهبة والوقف والصلح والنكاح والطلاق. فالرسول ﷺ يتحدث عن إصلاح الـمجتمع وعن عوامل الهدم التي تعمل عملها على تقويض دعائمه، وعن عوامل البناء التي تعمل على إقامته على قواعده السليمة، ويتحدث عن النظم التي ينبغي أن تسود الـمجتمع الإنساني، وعن الأوضاع التي يجب أن تستقيم وعن الأعمال التي يجب أن تجتنب.
وللسنة جو لغوي، فالرسول ﷺ قد أُوتي جوامع الكلم، وكلامه ﷺ أبلغ الكلام البشري، ونشر السنة عامل من أهم العوامل على ترقية اللغة التي يكتب بها الكُتّاب وعلى وضع الناشئين والـمثقفين في وضع أدبي ممتاز، من حيث اللغة ومن حيث الأسلوب، كقوله: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»([129]).
وللسنة أدبها الواسع في تهذيب النفس وتربية الروح وسمو الأخلاق إلى درجة لا تجارى، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡ﴾ [الأنفال: 24]. فعلمنا أن الحياة الحقيقية هي في اتباع ما جاء به الرسول، فأهلها هم أحياء وإن كانوا في القبور، كما أن الإعراض عما جاء به الرسول هو الـموت وإن كان صاحبه يمشي على الأرض، عما قيل:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
يعد من الأحياء وهو عديم
ومن أجل ذلك كله كان نشر السنة واجبًا دينيًّا وعملاً اجتماعيًّا وواجبًا وطنيًّا حتميًّا وإصلاحًا أخلاقيًّا. وهو على كل حال ضرورة ملحة في عصر تحاول فيه الرذيلة أن تطغى على الفضيلة، ويحاول الانحلال الخلقي أن يعم كل أُسرة وفي كل بيت، ويحاول الفساد أن يأتي على مقدسات الأمّة ومقوماتها من كل عرض وشرف وكرامة.
لقد أحب الله للإنسانية مثالاً أخلاقيًّا كريمًا رسمه سبحانه في القرآن الكريم قولاً، فكان الرسول ﷺ الصورة التطبيقية الكاملة للرسم الإلهي، وكان بذلك الإنسان الكامل. يقول الله في حق نبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤﴾ [القلم: 4].
لقد كان رسول الله الـمثل الأعلى في الرحمة والـمثل الأعلى في الصبر، والـمجاهد الأكبر والـمثل الأعلى في الصدق وفي الإخلاص وفي الوفاء وفي البر وفي الكرم. ولا ريب في أن الأمة الإسلامية حينما تقتدي بالرسول ﷺ إنما تقتدي بأعظم البشر رجولة وإنسانية، وتقتدي بمن أحب الله سبحانه أن يُقتدى به: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١﴾ [الأحزاب: 21].
وإن العمل على نشر السّنة إنما هو توجيه للاقتداء بالرسول ﷺ وقد سمى الله السنة في كتابه باسم الحكمة، لقوله سبحانه: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [البقرة: 151]. لكونها تفسر بإصابة الحق في القول والعمل. وأن الدعوة إلى ترك السنة اكتفاء بالقرآن الكريم دعوى باطلة، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من هذا الضلال، فروى الحاكم في مستدركه، أن رسول الله ﷺ قال: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته فيحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حرامًا حرّمناه. وإن ما حرّم رسول الله ﷺ كما حرّم الله».
وروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ ، فَيَقُولُ : لا نَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن الـمقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله ﷺ: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، ألا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا حَرَّمَ اللَّه».
وعن حسان بن عطية، أنه قال: «كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وعن مكحول قال: قال رسول اللهﷺ: «آتاكم الله القرآن ومن الحكمة مثليه»» أخرجهما أبو داود في مراسيله.
وقيل لمطرّف بن عبد الله بن الشّخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن - يعني النبي ﷺ - وإن سنته شرح للقرآن.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَوَشِّمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. فَبَلَغَ امْرَأَةً فِى الْبَيْتِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ بَلَغَنِى أَنَّكَ قُلْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ مَا لِى لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَتْ إِنِّى لأَقْرَأُ مَا بَيْنَ لَوْحَيْهِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فَقَالَ إِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ﴾ [الحشر: 7]. قَالَتْ بَلَى. قَالَ فَإِنَّ النَّبِىَّ ﷺ نَهَى عَنْهُ»([130]). هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
19 جمادى الآخرة 1399هـ.
* * *
[129] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي ذر. [130] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.