مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الرابع
المعاملات و رسائل أخرى(14) جواز الاقتطاف من المسجد والمقبرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله.
أما بعد:
فإنه من المعروف المألوف عند كل إنسان وفي كل مكان، أن أحوال الناس في البلدان تتطور من حال إلى حال، فتقوى أحيانًا وتضعف أحيانًا، وعلى أثر النماء والقوة تتسع في العمران، فيبدو لها حالات، ويتجدد لها حاجات غير حالاتهم وحاجاتهم في سالف الأزمان؛ لأن الله سبحانه يدبر أمر عباده فيبتليهم أحيانًا بالفقر ونقص الأرزاق، واختلال الأحوال وقلة المال، وأحيانًا يبتليهم ببسط الرزق، وفيض المال واتساع العمران، وكثرة السكان، على حسب ما يعرض لهم من أسباب النمو والفناء والفقر والغناء، ولكل زمان دولة ورجال.
وقد كانت البلدان العربية المتجاورة، وهي المقاطعة الشرقية وبلدان الخليج وعمان، كانت توصف هذه البلدان في قديم الزمان بأنها البلدان العابسة اليابسة قليلة المال سيئة الحال، ومضى اتصافها بذلك أحقابًا من الأزمان يتمتع أهلها بشظف من العيش وقلة من المال، تشبه عيشتهم حالة الصحابة قبل أن يفتح في زمنهم شيء من البلدان، وكانت موارد الثروة عندهم قليلة جدًّا، والعمال عاطلون، وقد يعمل أحدهم اليوم كله بشبع بطنه، وبأجرة زهيدة، وعمدة كسبهم من غياصة البحر لاستخراج اللؤلؤ وهو من أشق الأعمال، وغالب كسبهم منه لا يزيد على قوت سنتهم، وقد يصيب منه بعضهم ويخطئ أكثرهم. لهذا تجد غالبيتهم موقرين من الديون، وعلى أثر هذا الضعف تجد مساكنهم متواضعة في غاية من الرثاثة، مبنية بالطين ومسقفة بالخشب وجريد النخل. أما قلة الغبطة وكساد القيمة في العقارات في هذه البلدان، فلا تسأل عنه، فقد كانت في غاية من السقوط والهوان إلى حد النهاية من أجل كساد غلتها لتلاشي أحوال الناس، وعدم الوجود للنقود، فكانوا يتبايعون البيوت بالعشرات من الريالات والبيوت النفيسة يتبايعونها بالمائة والمائتين من الريالات، وما يباع بمائة ريال في ذلك الزمان، فإنه يباع الآن بما يعادل مائتي ألف وثلاثمائة ألف ريال.
وهذا الضعف والكساد قد استمر بهم إلى نهاية الستين والثلاثمائة وألف هجرية، وعلى هذا الضعف إذا مات أحدهم دفنوه بالقرب من البلد أو بالقرب من بيته؛ لهذا تجد المقابر في هذه القرى متوزعة في كل جهة، غير محتازة في مكان واحد، ويكون في البلدة الصغيرة عشر مقابر وعشرون مقبرة؛ لرخص مساحة الأرض في نفوسهم، وضعف أملهم في نفاستها، مع قصر نظرهم عن وسائل الصحة، وعمل الوقاية الذي يتطلب منهم إبعاد المقبرة عن الأحياء إلى حالة أن بعض البلدان تجد فيها المقبرة متصلة بسوق البلد بدون حائل، والسوق هو موضع زحمة الناس واجتماعهم وبيعهم وشرائهم، وإنما سمي سوقًا من أجل أن الناس يقفون فيه على سوقهم.
وكانت طرقهم مجانسة لحالة بيوتهم، ضيقة ملتوية على قدر ما يجوزها البعير والحمار، لكون وسائل النقل للأحمال والأثقال مقصورة على البعير والحمار، فاستمر عملهم طيلة السنين على هذا الصنيع، لا ينظرون إلى سعة طريق ولا إلى إزالة وسائل التعويق.
وفي عام الستين بعد الثلاثمائة وألف هجرية، الموافق لعام اثنين وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية، بدأت حركة نشاط هذه البلدان ببدء نجاح استنباط البترول فيها، وهو كما يعرفه الناس بأنه عظيم الشأن والموصوف بالذهب الأسود في لسان كل إنسان، فارتفع به ضعف هذه البلدان، وتوافد إليها العمال والصناع والسكان من كل مكان، فاتسع بها العمران وبدأ بها تنظيم الشوارع والبنيان، وتوفرت بها وسائل الراحة والرفاهية لكل إنسان، من إدخال الماء والكهرباء في بيوت الخاص والعام، وهذا يعد من الفتح لزهرة الدنيا وزينتها، وفيه ما فيه من المنافع والمضار، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض». قيل: وما بركات الأرض؟ قال: «زهرة الدنيا». فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فصمت رسول الله حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، ثم قال: «أين السائل؟» قال: أنا. قال: «إنه لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال خضرة حلوة، وإن ما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترت وثلطت وبالت ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع».
ففي هذا الحديث خاف النبي ﷺ على أمته مما يخرج الله لهم من بركات الأرض وزينتها، فسماه بركة وخيرًا وخاف على أمته منه، فالمال خير إذا استعمل في سبيل ما خلق لأجله، بأن أخذه من حقه وصرفه في حقه واستعان به على طاعة ربه وتمتع به إلى ما هو خير منه في آخرته، فيكون في حقه حسنات ورفع درجات في الجنات، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور ورفيع الدرجات، ويكون شرًّا في حق من يأخذه من غير حقه ويصرفه في غير حقه ويمنع الحق الواجب لله فيه، من زكاة وصدقة وصلة، فالفعل السيئ فيه هو الذي يجعله شرًّا وإلا فإنه خير وبركة وزينة، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [الأعراف: 32].
فكل ما خلق الله في الدنيا من صنوف الذهب والفضة والمعادن الخامدة والسيالة والجواهر والحيوانات وأصناف الثمرات، وسائر الفواكه والخيرات، كل هذه خلقها الله كرامة ونعمة لابن آدم، يتنعم بها في دنياه ويتمتع بها إلى ما هو خير منها لآخرته، ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ﴾ [سبأ: 15]. ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓ﴾ [العنكبوت: 17]. ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١﴾ [طه: 81]. فأمر الله عباده بالأكل من طيبات ما رزقهم وحذرهم من الطغيان فيه، وهو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان، بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، فكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث، من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال الناس السيئة فيه؛ لأن أفعال الناس في الدنيا تقع غالبًا على الأمر المكروه أو الأمر الحرام، من أكلهم الربا وشربهم الخمور وتوسعهم في أعمال الفجور والشرور.
فالذم ينصرف إلى هذه الأعمال لا إلى نفس المال. وحيث وجد هذا الثراءُ الطائل في مكان، فإنه المعشوق المرموق مغناطيس النفوس، ومن ضرورة وجوده يتطلب المراكب والآلات التي تحمله وتسيره، لكون إبل العرب أصبحت لا تطيق حمل ثروتهم، فاحتاجوا إلى جلب آلات الحديد من قطارات وسيارات وحفارات وتراكتورات وسائر الآلات والأدوات، وكل سوق فإنه يجلب إليه ما نفق فيه.
لهذا السبب غزت الحضارة الغربية هذه البلدان العربية، بعددها وعددها وحديدها ومراكبها المعدة لحمل الأثقال والتي تشبه في ضخامتها وعظمتها القصور، وهذه المراكب تحتاج بطبيعة الحال إلى طرق واسعة ومساحات فسيحة تلائمها، وتأمن الاصطدام بما يسايرها من أمثالها ومن يلقاها معاكسًا لسيرها، كما يأمن الناس من أضرارها، على أن الطرق الواسعة أصبحت من ضروريات السكان ومن مصالح الخاص والعام، كما أنها من مفاخر البلدان، والله جميل يحب الجمال، وهذه الأشياء التي عادت من ضروريات هذا الزمان ما كان الناس يحتاجون إليها في سالف الأزمان، وقد قيل: «إن الحاجات هي أم الاختراعات وإن الضروريات تستدعي التسهيلات». لهذا صار من مفاخر الحضارة والمدنية فتح الشوارع الواسعة المتخللة للبلد وخارجها لكون حكمة تخطيط الشوارع وصلبها واتساعها وتسهيل السير عليها، هي من لوازم الحضارة للسكان. ولقد كان لسلفنا الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين الحظ الوافر والسبق الطائل إلى هذا الشأن، فقاموا بتنظيمه أتم قيام.
من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا عزم على تخطيط الكوفة وكان سببها على ما ذكر ابن جرير في التاريخ ج 4 ص189، أن المسلمين لمّا فتحوا المدائن وسكنوها استوخموها، فنحفت أجسامهم وتغيرت ألوانهم وكبرت بطونهم وآذاهم الغبار والذباب، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إليه عمر وقال: إن العرب لا يصلح لهم المكان إلا ما صلح للبعير والشاء، فارتد لهم منزلاً بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم بحر ولا جسر. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبًا، فمرا على أرض الكوفة وهي حصباءُ في رملة حمراء فأعجبتهما وكتبا إلى سعد يخبرانه بذلك، فسار إليها سعد بنفسه في أول شهر المحرم سنة سبع عشرة من الهجرة فنظر إليها فأعجبته، فكان أول ما بدأ به تأسيس المسجد، وأمر سعد رجلاً راميًا شديد الرمي فرمى من المسجد إلى أربع الجهات، وحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وأذن لهم سعد بأن يعمروا بيوتهم ويدعوا للطريق المنهج سعة أربعين ذراعًا، وللطريق الذي دون ذلك ثلاثين ذراعًا، وللطريق الصغير عشرين ذراعًا، وللأزقة سبعة أذرع، والقطائع أي الأراضي التي تجعل بيوتًا ستين ذراعًا، وجعل المسجد مائتي ذراع. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية نحو ذلك.
وقبل هذا بسنتين أي عام 15 هجريًّا أرسل عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان لتخطيط البصرة، وأرسل معه عبد الرحمن بن أبي بكرة، وزياد بن أبيه، وأمره أن يخططها، فعمل تخطيطها، وكانت أرضًا ذات حجارة غليظة، فأجرى التخطيط فيها على نحو ذلك، وكان أول من غرس فيها النخل عبد الرحمن بن أبي بكرة ولم يسبقه إلى ذلك أحد، ذكره صاحب معجم البلدان.
فهذا مشروع عمل الصحابة في تنظيم البلدان وتخطيط الطرق قبل أن يوجد في زمنهم شيء من القطارات أو السيارات أو الآلات الضخمة، كما يوجد في هذا الزمان، لكنهم ينظرون برأي الحزم وفعل أولي العزم إلى ما عسى أن يقع بعد ألف عام كنظرهم إلى وقت الآن؛ لعلمهم أن للإسلام الاعتناء التام بتنظيم البلدان وفتح الطرق الواسعة وتنظيفها، إلى حالة أن إماطة الأذى عن الطريق يعد من شعب الإيمان، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، والله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم. أي طرقكم.
هذا وإن تنظيم البلدان بالعدل وتنظيفها عن الظلم هو أكبر ما يهتم به الإسلام ويوصي به الخاص والعام، لكون الظلم والعدوان مؤذنًا بخراب العمران ونفرة السكان؛ لأنه متى حصل على الناس الاعتداء في أموالهم بأخذها وعدم أداء ثمنها، فإنهم بذلك تضعف آمالهم وتنقبض أيديهم عن السعي والكسب وجلب الحاجات والتوسع في التجارات، لعدم الثقة وضعف الأمل في الوفاء بالعقد، فيكسد السوق من أجل ذلك؛ لأن استقرار العمران ووفرة السكان ونفاق أسواق البلدان إنما هو بالثقة والأمانة والاطمئنان، وعمل الوسائل في تسهيل موارد الثروة والتجارة ومصادرها، والمسلم إذا دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء عرف أنه قد دخل معه في عهد وأمانة، والله يأمر بالوفاء بالعقود وأداء الأمانات إلى أهلها، كما في الصحيح عن حذيفة بن اليمان أنه قال: لقد مضى علي زمان لا أبالي أي الناس بايعت؛ إن كان مسلمًا رد مالي إلى دينه - أي ثمن ما يشتريه - وإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا رده إلي ساعيه.([165]) أي السلطان عليه، وذلك لوجود الثقة والأمانة وقوة الوازع، ومتى فقدت الثقة والأمانة من البلد كسدت أسواقها وانتقضت أحوالها وآذنت بخرابها ولو بعد حين. وكتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب بلده ويطلب منه مالاً يعمرها به، فكتب إليه: أما بعد، فقد كتبت إلي تذكر خراب بلدك وتطلب مالاً تعمرها به، فإذا أتاك كتابي هذا فخطها بالعدل ونق طرقها من الظلم، فإنه عمارها، والسلام.
وأما عثمان بن عفان، فإنه لمّا أراد أن يوسع في المسجد النبوي، حيث ضاق بالناس، فعزم على أخذ البيوت المجاورة له، حسب ما تبلغ من أثمانها، فامتنع بعض الناس عن الموافقة عن بيع بيوتهم، فألزمهم بالموافقة ووضع أثمانها في بيت المال، وأشهد عليها الصحابة، ثم هدمها كرهًا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، لكون المضار الجزئية تغتفر في جنب المصالح العمومية، ولأن المدينة بما فيها من المساجد والطرق موضوعة لعموم الناس لا للخواص، فمتى شذ أحد عن الموافقة لفساد طبعه أو سوء طمعه ألزم بالموافقة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لاعتباره من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع وأحكامه.
كما قضى رسول الله ﷺ بانتزاع الشقص المشفوع من يد مشتريه بثمنه لمصلحة الجار ودفع ضرره، فما بالك بمصلحة عموم الناس ودفع الضرر عنهم. ولمّا اشتكى رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وقال: إن لأبي لبابة نخلة في حائطي، وإنه يدخل علي وأنا غافل مع أهلي، وطلبتها منه بالثمن وامتنع عني، فدعا رسول الله أبا لبابة، وقال: «بعه هذه النخلة بنخلة مثلها». قال: لا. قال: «بنخلتين؟» قال: لا، فقال رسول الله ﷺ: «اذهب فأخرج له نخلة مثل نخلته مما تلي حائطه، واضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار»([166]).
والحاصل أن دين الإسلام مبني على جب المصالح ودفع المضار، وأنه له النظر العالي في هذا الشأن، لأنه ليس بحرج ولا إغلال، ولا عقبة كؤود دون الإصلاح والكمال، فلا يمنع أهله من الحضارة ولا التجول في التجارة المباحة، لأن الإسلام عدل الله في أرضه، ورحمته لعباده، لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية.
وإنما تضيع مصالحه وتختفي محاسنه بين الجاحد والجامد، وإلا فإنه صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام.
ذلك بأنها لمّا انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين، وترقية العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية، وتعميم الأحكام الشرعية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن وأنشأوا المساجد ونشروا العلوم والمعارف، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نظرية جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
والمقصود أن الناس العام منهم والخاص، قد استقر في نفوسهم استحسان فتح هذه الطرق وتوسعتها، وقد عرفوا تمام المعرفة عموم مصلحتها، وذاقوا حلاوة منفعتها، ولأجله استسلموا لهدم ما يعرض لها من عقارات رفيعة أو وضيعة، يبقى النظر في المواضع المحترمة، مثل المسجد والمقبرة متى صمد الطريق إليهما أو إلى أحدهما والتي يتعاظم الناس التصرف فيها بهدمها، ومسؤولية البيان وعدم الكتمان مطلوب من كل عالم، ولا يذهب العلم حتى يكون مكتومًا. وقد قلنا: إن دين الإسلام مبني على جلب المصالح ودفع المضار، وإنه صالح لكل زمان ومكان، وقد نظم حياة الناس أحسن نظام بطريق العدل والإصلاح والإتقان، ونحن لا نذكر في هذا المقام شيئًا إلا مرفقًا بدليله، حسب مبلغ علمنا، ولا علم لنا إلا ما علمنا ربنا، وقد يخفى علينا ما قد يظهر لغيرنا، ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦﴾ [يوسف: 76].
* * *
[165] متفق عليه من حديث حذيفة بن اليمان. [166] أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث واسع بن حَبان.
المساجد هي أشرف بقاع الأرض وأعظم حرمة من المقابر وغيرها؛ لأنها بيوت الله، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ ٣٦ رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٧﴾ [النور: 36-37]. ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ١١٤﴾ [البقرة: 114]. وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» ([167])، فمتى حصل مندوحة عن المسجد كان من الواجب احترامه باستبقائه على حالته، أما إذا صمد إليه الطريق حسب التخطيط الجاري على البلد، فإن التصرّف بهدمه جائز متى تحقق استبداله بغيره، كما يجوز في بيوت الناس من الأرامل واليتامى والأوقاف وغيرهم، لكون المفاسد الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، ولأنه لا يراد من هدمه إزالته، بإزالة التعبد فيه، وإنما يراد إبداله بمثله أو بما هو أصلح منه فيستفيد الناس المصلحتين معًا؛ بقاء المسجد وسعة الطريق، والكل لله وفي سبيل مصالح عباد الله، وقد جرى العمل بهذا من الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين، ولم ينكره أحد منهم.
من ذلك أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن بيت المال بالكوفة قد نقب وسرق، فكتب إليه يأمره بأن يهدم المسجد ويجعله سوقًا، وأن يجعل السوق هو المسجد، ويكون بيت المال في قبلته، فإنه لا يزال في المسجد مصلى، وكتب إلى ابن مسعود بذلك، وكان عامله على القضاء بالكوفة. ذكره ابن جرير في التاريخ، وفعلاً هدم المسجد وجعله سوقًا وجعل السوق هو المسجد، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، لكونه من التصرف الحسن الملائم لمقاصد الشرع ومحاسنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن إبدال المسجد لمصلحة راجحة مثل أن يبدل بخير منه أو يبنى بدله مسجد آخر أصلح منه لأهل البلد، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء، واحتج أحمد بأن عمر نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر وصار المسجد الأول سوقًا للتمارين. قاله في المسائل الماردانية. وحيث جاز مثل هذا التصرف في المسجد، فإن كل شيء دونه، وتكون المقابر أولى بالجواز كما سيأتي بيانه.
* * *
[167] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
قد تقدم الكلام على صفة عمل الناس في المقابر في غابر الأزمان، وأنهم كانوا يدفنون موتاهم بالقرب من بيوتهم، حتى إنك لتجد في القرية الصغيرة عشر مقابر وعشرين مقبرة متخللة لجهات البلد، لهذا كان من الضروري عند تخطيط الشوارع أن يمر الطريق على بعضها، ويتحاشى حكام المسلمين التصرف فيها إلا بالاستناد إلى فتوى عالم أو علماء يتقون بها عذل العوام، والإنحاء بالملام، فقد ثبت في صحيح الآثار وفي السير والأخبار أن رسول الله ﷺ لمّا هاجر إلى المدينة اختار الله لمسجده مكانًا بركت فيه ناقته، وكان مربدًا لرجلين من الأنصار هما: سهل وسهيل، فقال: «ثامنوني بحائطكم». فقالا: لا نطلب ثمنه إلا من الله، بل نهبه لك يا رسول الله، وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله ﷺ بالقبور فنبشت وبالنخل والشجر فقطعت ثم بناه مسجدًا([168]). وهذا أمر ثابت لا مجال للشك في صحته.
لكن قد يظن بعض من سمعه من العلماء أن هذا التصرف من النبي ﷺ في نبش قبور المشركين من هذا المكان أنه من أجل كونهم مشركين، كما يفهم من عبارة بعض الفقهاء، قال في الإقناع للحجاوي: ويجوز نبش قبور المشركين وجعلها مسجدًا، كما فعل رسول الله، والصحيح أن هذا النبش اقتضته الحاجة وعموم المصلحة لا لكونهم مشركين، ولأن القبور لا تجامع المسجد بحال، فقد لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، فاقتضى شرعه تطهير هذه البقعة من هذه القبور بنبشها قبل تمهيدها مسجدًا، والمقتضي لذلك هو الحاجة، وعموم المصلحة، وإلا فإن النبي ﷺ لم يتعرض لنبش قبر أحد من المشركين من أجل جريمة شركه، كيف وهؤلاء من مشركي الفترة ولهم حالة غير حالة من بلغته الدعوة، فهذا التصرف يستدل به على جواز نبش القبر أو القبور للحاجة وعموم المصلحة حتى ولو كانت قبورًا للمسلمين، وقد علم الصحابة ذلك وعملوا به في قبور الشهداء الذين هم أشرف المقبورين.
من ذلك أن عين حمزة التي يشرب منها أهل المدينة إنما أحدثها معاوية في خلافته وأمر بنقل الشهداء من موضعها، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب لم ينتنوا حتى أصابت المسجات رجل أحدهم فانبعثت دمًا (قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول صفحة 14 من الطبعة القديمة).
وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز نبش القبر وتحويله إلى مكان غيره للحاجة، قال في الإقناع للحجاوي: ويجوز نبش الميت لغرض صحيح كتحسين كفنه، ولبقعة خير من بقعته، وإفراده عمن دفن معه. انتهـى.
وفي البخاري عن جابر قال: كان أبي أول قتيل قتل يوم أحد، فدفن مع رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجته وجعلته في قبر على حدة، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه.
فقولهم: إنه يجوز نبش الميت والموتى لغرض صحيح يدل بمنطوقه على جواز نبشه عندما يعرض لجهة الطريق لكون هذا غرضًا صحيحًا كما هو ظاهر المذهب، إذًا الحاجة إلى استقامة الطريق الذي هو من مصلحة جميع الناس أشد من الحاجة إلى ما ذكروا، والقول بهذا يتمشى على تقدير بقاء عظام الميت أو لحمه، أما إذا ذهبت عظامه وصارت ترابًا فإنه يجوز الانتفاع بالقبر مطلقًا في الحاجة وبدون حاجة، فبعض العلماء قدّره بمائة سنة، والصحيح عدم التقدير بهذا الحد، لكون حالة الميت تختلف باختلاف محل قبره، فبعض المقابر حصينة حارة، يبلى الميت بها بسرعة، وبعض المقابر رملية يبقى الميت فيها مائة سنة، فكونه يبلى إنما يعرف بالمشاهدة.
فإن قيل: إن القبر وقف على الميت لا يجوز التصرف فيه حتى يبلى وتذهب عظامه، قلنا: نعم، فهذا هو الحكم فيه عند عدم الحاجة إليه، لكن متى دعت الحاجة إلى أخذه لسعة الطريق أو توسيع المسجد، جاز ذلك كما فعل الصحابة، كما قلنا: إن بيت المسلم محترم لا يجوز التصرّف فيه بدون إذنه. وكذا المسجد والأوقاف الخيرية والأهلية، ومثله القبر فمتى دعت الحاجة إلى استعمال المقبرة لسعة السوق أو الطريق أو لراحة الأحياء وسلامة أرواحهم، والوقاية من اصطدام السيارات التي هي مراكب الحديد والتي ينجم عنها الضرر والبأس الشديد، فإن هذا جائز شرعًا وعرفًا، كما يخرج الحي عن بيته ويهدم بغير رضاه واختياره، لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكما يجوز هدم المسجد لتوسعة الطريق فهذا أولى بالجواز، لكون حاجة الحي مقدمة على حاجة الميت، كما نص الفقهاء، فمن عنده خرقة يحتاج إليها ميت لتكفينه وحي يستر بها عورته؛ تدفع إلى الحي، أما كون الحي يدفع له التعويض عن بيته بخلاف صاحب القبر فهذا لا يمنع من الفرق؛ إذ الحي محتاج إلى بيت يستر عورته وأهله، بخلاف صاحب القبر، فإنه لا حاجة له بثمن قبره، وإنما حاجته أن تستر عظامه في محل يشبه القبر.
يبقى الكلام فيما إذا كانت الحاجة أو الطريق يستدعي التعرّض لقبور كثيرة، فهل الأولى نبشها ونقل العظام إلى مكان آخر، أو تسطيحها ويبقى الميت على حاله في محله؟
فالجواب أنه من القواعد المقررة جواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ومن المعلوم أن نبش القبور فيه شيء من البشاعة، بحيث تنفر منه طباع الناس ويعدونه هتكًا لحرمة الميت، أما تسويتها والانتفاع بسطحها، فإنه ألطف وأستر، وأما نبش النبي ﷺ لقبور المشركين فإنه قد أعده مسجدًا فلزم تطهيره من قبورهم، وكذلك الصحابة في قبور الشهداء في إجراء عين حمزة، فإنهم حفروا المجاري فوصلت إلى القبور وهم رطاب لم ينتنوا، فلزم نبشهم ونقلهم إلى مكان آخر، وليس كذلك الطريق حينما يتعرّض للقبور، فإن استبقاء الميت على حاله في محله مع الانتفاع بسطح قبره لا يضر بكرامته ولا يهتك حرمته، وفيه الجمع بين مصلحة الحي والميت، وغاية ما يمنعه هو الأحاديث الواردة في النهي عن القعود على القبر والوطء عليه، كما روى مسلم قال: نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه([169]). وروى مسلم أيضًا عن أبي مرثد الغنوي أن النبي ﷺ قال: «لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها»، وعن أبي هريرة أن النبيﷺ قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر مسلم» رواه مسلم. فهذه الأحاديث في النهي عن الجلوس والوطء على القبر قد حمل الفقهاء من الحنابلة والشافعية والأحناف هذا النهي على الكراهة، وهذا هو مقتضى تعبير الحنابلة في كتبهم، قال في الروض المربع: ويكره الجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه. وفي الإقناع و المنتهى نحو ذلك.
قال النووي في المجموع: وأرادوا به كراهة التنزيه. وفي الإقناع و المنتهى نحو ذلك. وحكي عن الإمام مالك أنه قال: لا يكره الوطءُ على القبر، قاله في المجموع أيضًا. ومتى كان النهي عن الجلوس والوطء للكراهة، فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة، ولأجله قلنا بترجيح تسوية قبر الميت والانتفاع بسطح قبره مع بقاء الميت على حاله في محله، ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر هذه التسوية في جواب سؤال عن مسجد فيه قبر، وهل تجوز الصلاة فيه، فقال: لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غير، إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدًا، وإن كان المسجد بني بعد القبر، فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل. انتهى من المجلد الثاني من الفتاوى - الطبعة القديمة- ص192. فقد عرفت كيف ذكر تسوية القبر بإذهاب صورته ولم يبق ما يعارضه مما يمنعه سوى الأحاديث الواردة بالنهـي عن الوطء عليه والجلوس عليه ونحو ذلك، وقد قلنا: إن النهـي فيها للكراهة، والكراهة تزول بأدنى حاجة.
ثم إنه لم يكن المراد من هذا النهي تأذي الميت بما يفعل الناس بقبره من وطء وغيره، كما يتصوره بعض الناس، فإن الميت لا يحس بشيء من ذلك أبدًا، إذ هو ميت، وما لجرح بميت إيلام، حتى لو أن رجلاً حيًّا اضطجع باللحد وردم عليه بالحجارة، ثم سوى التراب عليه كما يفعل بالميت، فإنه لن يحس بوطء قبره ولا بدوسه لكثافة التراب فوقه، فما بالك بالميت. فنهـي النبي ﷺ عن الوطء عليه وقوله: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا»، رواه أبو داود. وقوله: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» رواه البخاري، وقوله: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم»([170])، إنما مراد النهي في هذا الحكم هو بيان حرمة المسلم حيًّا وميتًا، وأن احترام قبره عنوان احترام شخصه، كما أن مهانته تدل على مهانته.
ولهذا نرى العرب في شركهم ينحرون الجزر على قبر من يعظمونه كما أن الشعراء يشيدون بمدح قبر من يحبونه، وكذلك الجبابرة الظلمة يحرقون جثث من يبغضونه ويرمون بالحجارة قبر من يبغضونه، كما كانت العرب ترجم قبر أبي رغال، وكان قائد فيل الحبشة إلى مكة لهدم الكعبة. ولمّا بلغ عمر بن الخطاب أن غيلان بن سلمة طلق نساءه، وقسّم ماله بين أولاده، على إثر مرض أصابه، دعاه عمر فقال: إني أرى الشيطان نفخ في صدرك أنك تموت من مرضك، فطلقت نساءك وقسمت مالك بين عيالك، فوالله لتراجعن نساءَك ولتردن مالك أو لآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال([171]).
والحاصل أن الميت لا يحس بما يفعله الحي بقبره، لا من نعيم ولا من عذاب أليم، لكونه ميتًا قد انقطع عنه الإحساس، وإنما يحس بما يصل إليه من الله من نعيم أو عذاب أليم، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الرجلين يدفنان في القبر الواحد، فيكون على أحدهما روضة من رياض الجنة، وعلى الثاني حفرة من حفر النار، بدون أن يحس أحدهما بعذاب الآخر أو نعيمه. كما اتفقوا أيضًا على أن الرجل لو احترق حتى صار هباءً منبثًّا أو أكله سباع البر أو حيتان البحر، فإنه لا بد أن يمتحن عن سؤال القبر، كما روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ قال: «كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروا نصفي في البحر ونصفي في البر، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما يعذبه أحدًا، فلما مات فعل به بنوه ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه والبر فجمع ما فيه، وإذا هو قائم بين يدي الله عز وجل، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: مخافتك يا رب»([172]) الحديث.
* * *
[168] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [169] أخرجه مسلم من حديث جابر. [170] رواه أبو داود عن ابن عمر. [171] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن عمر. [172] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
اختلف العلماء في عذاب القبر، هل هو على الجسم والروح أو على الروح فقط، ورجحوا كونه على الجسم والروح وأن الجسم يفنى حتى يصير ترابًا، ولسنا من الفكرة التي يحكيها بعض أهل الكلام من قولهم: إن تراب الأرض متكوّن من أجسام الموتى، وأنشدوا في ذلك:
رويدًا بأخفاف المطي فإنما
تداس جباه في الثرى وخدود
فإن هذه الفكرة لا يوافقها العقل ولا يصدقها النقل. والقول الصحيح هو أن الروح تبقى بعد مفارقتها للبدن منعمة أو معذبة، فهي من الأشياء التي لا يعتريها الفناء، وقد نظمها بعضهم فقال:
ثمانية حكم البقاء يعمها
من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
وأشار بالعجب إلى عجب الذنب كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «يبلى من ابن آدم كل شيء إلا عجب الذنب»([173]). وهو قدر الذرة. ومعنى يبلى، أي يذهب ويضمحل، وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواح غيبية، يفسرها ما روى الإمام أحمد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنه لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا الأحياء يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل أنا أُبلغهم عنكم، وأنزل الله: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠﴾ [آل عمران: 169-170].
قال ابن كثير في التفسير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها وتأكل من ثمارها، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أهل المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله ﷺ: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه»، ومعنى يعلق أي يأكل. وأشار إلى بقاء الروح لأنها الأصل في الإنسان لا في حياته ولا بعد موته، أما البدن فإنه يذهب ويضمحل حتى يصير ترابًا إلى أن ينشئه الله خلقًا جديدًا حين يبعثه.
أما الأرواح فإنها تبقى كما ثبتت في حديث الإسراء أن النبي ﷺ صلى بالأنبياء، وهو إنما صلى بأرواحهم وإلا فإن أجسامهم بالأرض ما عدا عيسى عليه السلام. وكذلك المراجعة الحاصلة بين النبي ﷺ وبين موسى عليه السلام ليلة الإسراء إنما هي بينه وبين روح موسى، ويلتحق بهذا ما ورد من عرض أعمال الأحياء على الأموات، وكونهم يسرهم ما كان حسنًا ويسوؤهم ما كان قبيحًا، وكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة([174])، وكان عمه، فهذا العرض ونحوه هو عرض الأعمال على الأرواح لا على القبور، ومنه ما ورد في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي»([175])، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم»([176]). فمن يصلي ويسلم على رسول الله بحافة قبره الشريف ومن يصلي عليه في أقصى بقاع الأرض هما في التبليغ سواء، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
ومن الدليل على بقاء الأرواح وتخاطب أرواح الموتى مع الأحياء وإحساس كل منهما بالآخر ما يراه الإنسان في منامه من تخاطبه مع الأموات ويرى الرؤيا الصادقة ثم تأتي كفلق الصبح، لهذا يصبح مسرورًا حينما يرى أن أحدًا من الموتى أو الأحياء قد بشره بخبر أو أعطاه خيرًا، وهذه هي عاجل بشرى المؤمن، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «ذهبت النبوات ولم يبق إلا المبشرات». قالوا: ما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له»([177]). وهذه الرؤيا الصادقة هي بمثابة الأنموذج لالتقاء أرواح الأحياء بالأموات وإحساس كل منهما بصاحبه، وقد سمى الله النوم وفاة في قوله: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّى﴾ [الزمر: 42].
ولا ينبغي لنا أن نتكلف الزيادة على هذا فيما يتعلق بأرواح الموتى والتقائها بأرواح الأحياء؛ لأن الأرواح بمثابة الخيل تتشام في الهوى. أما مشروعية السلام على القبور، فقد ثبت أن النبيﷺ قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة».([178]) وفي رواية: «تزهدكم في الدنيا»، فرؤية القبر تذكر بساكنه، وإن كان قد اضمحل جسمه حتى صار ترابًا، فرسول الله قد زار قبور أصحابه للدعاء والاستغفار لهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الهدي: كان رسول الله ﷺ إذا زار قبور أصحابه إنما يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وأمرهم أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية».([179]) وكان يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يفعل عند الصلاة عليها. فقوله: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين» هو دعاء لهم بالسلامة والعافية من العذاب؛ لأن السلام دعاء بالسلامة، نظيره قول المصلي في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهي تشمل كل عبد صالح حي أو ميت، والسلام على رسول الله دعاء له، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر: 10]. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين حرر في الحادي عشر من شوال لعام 1393هـ.
[173] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [174] ذكره صاحب إحياء علوم الدين. [175] أخرجه أبو داود من حديث أوس بن أوس. [176] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [177] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد. [178] أخرجه الإمام أحمد من حديث علي. [179] أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.