1808

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م

المجلد الرابع

المعاملات و رسائل أخرى

(11) الرد على المشتهري بشأن اللحوم المستوردة

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لقد جرى مني على سبيل العادة أني لا أنشر كتابًا ولا رسالة إلا وأتبعها سؤال العلماء عنها.. وأُطالبهم بأن يمعنوا النظر فيها... من ذلك أنني لما ألفت رسالة يسر الإسلام في جواز رمي الجمار قبل الزوال أتبعتها بسؤال علماء الرياض الكرام برسالة موجهة مني إليهم حاصلها:

أما بعد:

فإني أرفع لعامة العلماء الأعلام ومصابيح الظلام التعريف عن تأليفي للمنسك اللطيف الذي سميته يسر الإسلام وبيان أشياء من مناسك حج بيت الله الحرام أرسلت لكم عددًا منه متبوعًا بالمسؤولية عنه لقول الله تعالى: ﴿... فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ [النحل: 43-44]. لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيه مفاصل الإنصاف والعدل ولم أنزع إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل ولكنني أعرف أني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وأنتم من الفقه والإتقان بمكان تعرفون النصوص ولا تخفى عليكم القصود، وهذا المسؤول عنه بين أيديكم معروض والقول منكم بما يستحقه مفروض، فعلى كل أخ مخلص ناصح أن يجيل فيه النظر بإمعان وتفكر، وذلك بأن يعيد دراسته ويعجم عود فراسته ليتضح له على الجلية معناه ويقف على حقيقة مغزاه، فإن تبين أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية وجئت قولاً إدًّا وجرت عن الحق قصدًا، وجب عليه أن يسددني من الهفوة ويسندني من الكبوة، ويكشف لي بكتاب عن وجه ما يخفى علي من الصواب؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع. والقصد واحد والغاية متساوية، وكل على حسبه من العلم بكتاب ربه وسنة نبيه. والله يعلم - وهو عند لسان كل قائل وقلبه- أني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام، ولا التقول في أُمور الحلال والحرام، وإنما بنيت أُصول ما قصدت على النصوص الجلية والبراهين القطعية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله.

* * *

مقال ينافي الإنصاف في مجلة الاعتصام

والموجب لذلك هو أنني رأيت مقالات على صفحات مجلة الاعتصام القاهرية طرحها الشيخ عبد اللطيف مشتهري حول موضوع (حكم الإسلام في الطيور واللحوم المستوردة) أمام جميع المحققين من علماء المسلمين ليصل الناس إلى وجه الصواب.

وقد تناولني في هذه المقالات بكلمات تدل على الجنف والجفا، وتنافي الإنصاف والحفا. قد جعل فيها الجد عبثًا، والتبر خبثًا، والصحيح ضعيفًا.

فمن ذلك قوله:

إن كثيرًا من علماء المسلمين الذين يجهلون حقيقة الحال راحوا يوفقون بين نصوص الشريعة وهذه اللحوم المستوردة كالشيخ محمد عبده ورشيد رضا والدكتور يوسف القرضاوي... وآخر من قرأنا له الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر في رسالته فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب وقد أباح فيها ذبائح الكفار والملحدين جملة بل هو يلغي الإجماع. ثم ألحق ذلك بقوله في عدد آخر من المجلة: وعلى العلماء المتجاهلين ما يجري حولهم أن يقرؤوا رسالة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية والتي يرد فيها على المحلل لما حرم الله المدعو عبد الله ابن زيد آل محمود بدولة قطر، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة.

وأقول: إن إشاعة هذه الشناعة التي هي حقيقة في إشاعة الفاحشة الكبرى على عالم معروف بالدعوة إلى الله هي أشد وأشر من إشاعة فاحشة الزنا، والله يقول: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ [النور: 19].

والعلماء أعراضهم مسمومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة. وقد مدح الله المؤمنين الذين إذا بغي عليهم هم ينتصرون فقال: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١ [الشورى: 41]. ومن صفة المؤمنين أنهم يكرهون أن يذلوا فإذا قدروا عفوا.

ثم إن رميه هذا العالم بتحليل ما حرم الله يتنافى مع قوله: إن الموضوع يجب أن يبحث بعيدًا عن العنف وخشونة التعبير فأي عنف وأي خشونة أكبر من قوله في هذا العالم أنه المحلل لما حرم الله؟!

فجوابنا في كل ما ألصقه بنا أن نقول: ﴿مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦ [النور: 16]. لقد كان من عزمي ألا أرد على أحد تكلم في شيء من كتبي، ولكن المشتهري قد جاوز سيله الزبى، وأخذ يهرف بما لا يعرف، ولا بد للمصدور من أن ينفث.
عداتي لهم فضل علي ومنة
فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
همُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

تجاوز حدود الأدب في النقد والمناظرة

ثم إنه قد أساء الأدب في النقد والمناظرة، يتناقض بين بناء وهدم، فحينًا تراه يقول: معاذ الله أن نحلل أو نحرم دون يقين بسند من كتاب أو سنة، ومن إجماع أو قياس صحيح، والله يقول: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116].

ثم هو يتناقض ويجزم بالتحريم قائلاً:

على العلماء المتجاهلين ما يجري حولهم أن يقرؤوا رسالة ابن حميد، والتي يرد بها على المحلل لما حرم الله المدعو عبد الله بن زيد آل محمود بدولة قطر، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة.

وأقول: إن قول المشتهري هذا يدل على أنه يقول بالجزم بالتحريم، والامتناع عن تناول هذه اللحوم. وهو يتناقض مع قوله: إنه باق على الحياد، لا يقول بالتحريم.

ثم يقال له: إنك وصفت الشيخ ابن محمود بأنه المحلل لما حرم الله، وهو لم ينفرد بهذا القول عن غيره بل شاركه في القول علماء أجلاء يُقتدَى بقولهم ويُنتهَى إلى رأيهم، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن العربي إمام المالكية، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا صاحب المنار، ويوسف القرضاوي، ومحمد نجيب المطيعي، فهؤلاء هم العلماء الذين ملؤوا الدنيا من المؤلفات التي تدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وكلهم يبيحون أكل اللحوم المستوردة من أهل الكتاب.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتْنَا يا جريرُ المجامعُ
ومن لوازم قول المشتهري أن هؤلاء العلماء يحللون ما حرم الله.

ثم يقول في موضع آخر: وسبق أن قررت أننا من أنصار التيسير على الناس وكم أفتينا بحلها اعتمادًا على قاعدة: مجهول الأصل حلال. وذبائح الكتابي حلال.

وأقول: إن الرجل يتقلب مع الأهواء، ويخبط خبط العشواء، وهو من المقلدين الذين يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، والمقلد لا يعد من أهل العلم وقد شبهوه بالجنيبة([152]) التي تقاد، وقد قيل في ذلك:
إذا العلم لم يفرج لك الشك لم تزل
جنيبًا كما استتلى الجنيبة قائد
أما ما أشار إليه من رد العلامة الشيخ ابن حميد علي فأهلاً وسهلاً فهو حبيبي في الأصل، وزميلي في الطلب، وأحمل له الود المكين وأُعامله بالإجلال والتكريم. فهو وإن رد علي أو رددت عليه فما هو إلا بمثابة حديث الفكاهة في الآداب تجري بين الأحباب ويبقى الود ما بقي العتاب. غير أنه لا يخفى على العقلاء أنه ليس كل رد صوابًا، فقد رأينا كثيرًا من الناس يردون الحق بالباطل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فلا فخر بمجرد الرد وإنما الفخر بصواب النقد. بحيث يقال: قرطس فأصاب.
فكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
ثم إن الشيخ المشتهري قد أقام نفسه مقام إمام العلماء وحاكم الحكام، فقد أشار إلى أنه يتلقى كل يوم عشرات الأسئلة ويلاحقه في الدروس والملاحظات جمهور غفير يتساءلون، فهو يَعِدُ الناس ويمنيهم بأنه سيأتيهم بفصل الخطاب في التحليل والتحريم.... وكلامه يدور على محور التحريم.. وقد استوفز لينادي الناس بالتحريم، فلو قال بالتحريم لقلنا له: لا سمعًا لك ولا طاعة، إذ ليس كل داع بأهل أن يصاخ له:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
................................
ثم إن الحكم بتحريم مثل هذه اللحوم والدجاج على الناس مع قوة الشبهة فيها هي أعظم جرمًا وأشد إثمًا من القول بإباحتها. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لو تنازع اثنان في هذه اللحوم، فقال أحدهما: إنها حرام، وقال الآخر: إنها حلال، فإن القول هو صحة من يقول: إنها حلال إذ الأصل الإباحة.

ثم إن قوله بأن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الذي يحلل ما حرم الله، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة، فهو لم يثبت دليلاً نقليًّا أو عقليًّا يؤكد بتحليلي لما حرم الله، إذ الشبهة قوية، والقائلون بالتحليل هم أسعد الناس بالدليل إذ الأصل الإباحة، ولا يوزن بهؤلاء سائر ما ينقله عن الطلاب والغوغاء أو عن رجل في نجران، أو عن علي صالح العود التونسي المقيم بفرنسا، فإننا لو جعلنا هؤلاء في كفة الميزان، وجعلنا أولئك العلماء الأجلاء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحدث عنه المشتهري معترفًا بفضله، وأنه الإمام المجتهد رأس مدرسة تحرير العقول من الخرافات والعالم الذي لا يشق له غبار، لو جعلنا هؤلاء في الكفة الثانية لثقل ميزان هؤلاء العلماء وخف ميزان أولئك الغوغاء.

إذ مبنى أمر هؤلاء على قالوا وزعموا. والنبي ﷺ قال: «بئس مطية الرجل زعموا»([153]).

وقد أوردنا في رسالتنا المسماة فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب شهادة الشهود العدول المشاهدين لجزر البقر في سويسرا وأعدلهم عندي الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع قاضي قطر سابقًا ثم الشيخ علي بن عبد الله الثاني حاكم قطر سابقًا، ثم أحمد بن يوسف الجابر ثم ثلاثون رجلاً من أتباع الحاكم. فكلهم شهدوا بما شاهدوه من أنهم يأتون بالأبقار والثيران ويذكرون من عظمتها وضخامة أجسامها فيوقفونها مخطومة ثم يقوم الجزار فيضرب الثور بين قرنيه بدبوس فيسقط مغشيًّا عليه، فيعاجلونه بالذبح وهو حي سوي، فعند ذلك قال هؤلاء: نشهد بأن القائلين: إنهم يقتلون الحيوان بالصعق أو بالضرب، أنهم كاذبون في أقوالهم. لهذا اطمأن جميع أهل البلاد على إباحة ما يأكلونه من اللحوم والدجاج ولم يخالطهم شك في صحة ذلك، فمن أراد أن يحرمها على نفسه فهو حر في تصرفه ولا حق له أن يحرمها على غيره.

كما أن الأمر الثابت في قتلهم للدجاج أنهم يصفون الأُلوف على سلك معلقة بأرجلها، ثم يسلطون عليها التيار الكهربائي فتذبح جميعًا في لمحة بصر، ثم يقذفون بها بعد ذبحها في الماء الحار. هذا هو الأمر الصحيح في ذبحها، وهذا العمل بهذه الصفة هو قتل مقصود لإباحة أكل لحمها عندهم، فمتى كانوا يفعلون ذلك ويعتادون أكله فإنه حلال لنا بنص القرآن في قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وإن لم يخرج منه الدم، ولا ينبغي لنا أن ننقب عما يعلفونها به؛ إذ العلف يستحيل في حواصل الطير وكروش الأنعام، وما من إنسان إلا وبطنه مجوف على الغائط والبول والدم، وجسمه مع ذلك طاهر. أما لو علمنا بطريق اليقين أنهم يضربون البقر بالدبابيس حتى تموت، ويلقون الدجاج في الماء الحار وهو حي فإن هذا تعذيب له بغير حق ويوجب تحريمه كالمنخنقة والموقوذة. والنصارى هم أشد رفقًا بالحيوان ويجعلون الجزاء على من يسيء إليه. ومع هذا فإن الله سبحانه لم يكلفنا البحث عما خفي علينا.

ثم أين هذا الإجماع الذي يذكر المشتهـري أن الشيخ ابن محمود خرقه؟

[152] الجَنِيبة: الدابة تُقاد. [153] أخرجه أبو داود من حديث أبي مسعود.

شبهة الإجماع وردها

إنه ما من إجماع إلا وفيه خلاف فيما يتعلق بالأحكام وأُمور الحلال والحرام، وليس معنى الإجماع أنه الإحاطة بجميع أقوال العلماء في مشارق الأرض ومغاربها، فإن هذا من الأمر المتعذر ولا يمكن إدراكه.

أما الإجماع عند الفقهاء فإنه عبارة عن إجماع أئمة المذاهب الأربعة، فيجمعون على قول أو فعل، فقد يكون إجماعهم صحيحًا وقد يكون الصحيح في خلافه. وقد عرض شيخ الإسلام على علماء المسلمين سبع عشرة مسألة خرق فيها الإجماع ولم يعنفه فيها أحد من العلماء، بل رجع الكثير من علماء المذاهب إلى العمل ببعض اختياراته التي خرق بها الإجماع؛ من ذلك أن أئمة المذاهب الأربعة أجمعوا على أن الطلاق بالثلاث متى وقع بلفظ واحد فإنه يصير طلاقًا بائنًا لا تحل لمطلقها إلا بعد نكاح زوج غيره، وجرى العمل بهذا زمنًا طويلاً في أكثر المحاكم الشرعية الإسلامية. ثم إنه ترجح لهم بعدُ صحةُ قول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أفتى بجعله عن واحدة وأنه هو الإجماع زمن الصحابة وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.

ويقول شيخ الإسلام: إنه لا يزال يوجد من يفتي به من العلماء عن واحدة في كل زمان.

وفي النهاية استقر عمل الناس على الحكم به في سائر المحاكم الشرعية وسائر البلدان العربية ما عدا المملكة السعودية.

ثم إن الحق يخرق الإجماع، فليس هو بسد حائل دون العالم المتحرر عن التقليد متى خرق هذا الإجماع بنص ودليل؛ إذ الحق يحكم على الإجماع والإجماع لا يحكم على الحق.
وقل للعيون الرمد إياكِ أن ترَيْ
سنا الشمس واستغشِي ظلام اللياليا
وسامح ولا تعتب عليها وخلها
فإن أنكرتْ حقًّا فقل خل ذا ليا
ولم يوجب الله الرد عند التنازع إلى الإجماع لكونه غير كفيل بحل المشاكل، وإنما أوجب عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النساء: 59].

ثم قال المشتهري: إن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود قد أباح في رسالته ذبائح الكفار والملحدين جملة.

حكم ذبيحة الكافر

وأقول: لقد قلت بهذا ولا أعتذر، فمالي أراكم عنها معرضين؟! فوالله لأرمين بها بين أكتافكم، وهذه المسألة من جملة المسائل التي غفل عنها العلماء المتقدمون وتبعهم على غفلتهم عنها علماء هذا العصر.

وإن الحلال هو ما أحله الله ورسوله، والحرام هو ما حرمه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو. ولم يثبت عندنا في كتاب الله ولا في سنة رسوله تحريم ذبائح الكفار.

وما يشعرني أن سكوت القرآن والسنة عن تحريمها هو رحمة من الله لعباده مع عظم البلوى بكثرة اختلاط المسلمين بسائر أمم الكافرين.

وقد قال أحد العلماء في محاضرة له: إن الكافر لا يحق له أن يذبح ولا أن يأكل. وهي غلطة سامحه الله عليها، فإن الذبح وأكل المذبوح هو من أُمور الدنيا التي يشترك فيها المسلم والكافر والبر والفاجر، يقول الله تعالى: ﴿كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠ [الإسراء: 20].

فالذبح هو من العادات لا من العبادات إلا إذا قصد به العبادة كذبح النسك والأضحية والعقيقة والمنذورة لله. أما إذا قصد به الشرك كالذبح للصنم أو للجن أو للقبر أو الزار فإنه شرك حرام ذبحه وأكله وبيعه.

أما إذا كان الذبح للأكل أو البيع فإنه من العادات وأمور الدنيا التي يشترك فيها جميع الناس برهم وفاجرهم ومسلمهم وكافرهم، أشبه بأكل الثمار وشرب الألبان وسائر ما يتنعم به الناس من أُمور الدنيا، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. والخطاب لجميع الناس، وهذا الامتنان بها عام لجميعهم، ولم يبح الأكل إلا وهو مستلزم لإباحة الذبح من مسلم وكافر، نظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21]. والخطاب لجميع الناس، وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗا [الأنعام: 142]. فالحمولة هو ما يحمل عليه، والفرش هو ما يؤكل.

وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الشبهة التي علقت بالناس هو أن الصحابة لما كانوا في جاهليتهم يذبحون للأصنام بكثرة ويذبحون على قبور موتاهم حتى يقول أحد الشعراء:
وإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم الهجان وكل طرف سابح
فلما كانت هذه الأعمال الشركية سائدة بين الصحابة زمن الجاهلية، فبعد أن أسلموا اشتد بغضهم للشرك والمشركين، فكانوا كلما قُدِّمَ لهم ذبحٌ من أحد المشركين تورعوا عنه لظنهم أنه مما أهل به لغير الله، هذا هو أصل تعففهم عن ذبائح الكفار.

لا دليل على تحريم ما ذبحه الكفار

والصحيح أنه ليس عندنا دليل واضح من القرآن والسنة يدل على تحريم ما ذبحه الكفار.

وقد أقام النبي ﷺ وأصحابه في مكة ثلاث عشرة سنة وهم يأكلون مما ذبحه أهل مكة على شركهم.

وفي سفر هجرته ﷺ لما أتى على أُم معبد، قال لها: «هل عندكم من لحم أو لبن؟»([154]) ولم يسأل عن اللحم إلا ليأكله، وبقي في دار هجرته بالمدينة، ولم يثبت عنه حرف واحد في تحريم ما يذبحه المشركون.

وهنا شبهة قد احتج بها بعض أهل العلم علينا، وهو حديث عن عبد الرحمن ابن عوف: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير أن لا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم». ويزعم أنه وجد هذا في فتوح البلدان للبلاذري. وحقق ابن حجر في فتح الباري أن قوله: غير ألا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم. أنها مدرجة في الحديث من بعض الرواة، وليست من كلام الرسول ﷺ.

وحقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته قاعدة قتال الكفار قائلاً: إن الوارد: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. وهذا الحديث منقطع فإن جعفرًا رواه عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، وأبوه لم يدرك عبد الرحمن بن عوف، وإنما تكلموا بها في الجزية لا في غيرها.

[154] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة.

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية

وفي الختام فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في صفحة 53 من المجلد الثاني من الفتاوى القديمة ما نصه:

إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو الأئمة، فإن هذا من فعل أهل الجهل والأهواء. ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم، فمن أنكر فقد خالف إجماع المسلمين.

قال: وهذه الوجوه تثبت بيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، وأن مثل هذه المسألة ونحوها من مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل... فإنه خلاف إجماع المسلمين.

فهذا حاصل ما اهتدينا لرده... والله ولي التوفيق.

* * *