مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الرابع
المعاملات و رسائل أخرى(1) أحكام عقود التأمين ومكانها من شريعة الدين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أما بعد:
فقد طلب مني بعض الأخلاء الأفاضل مشافهة وبطريق الرسائل أن أكتب لهم ما ظهر لي من أحكام عقود التأمين، ومكانها من شريعة الدين، إذ إنها قد تغلغلت في البلدان وتخمرت مشكلتها في الأذهان، واستمر بسببها بين الناس النزاع والخصام، فبعضهم يقول: هي حلال، وبعضهم يقول: هي حرام، ولا بد للعلماء من كشف هذا الظلام، وتحقيق ما ظهر لهم من نصوص فقه الإسلام.
فأرجأت إجابة الطالبين رجاء أن يتصدى لها من هو أطول مني باعًا وأوسع اطلاعًا وأصفى فراغًا؛ لشغل أوقاتي بالأمور القضائية التي من لوازمها شغل الفكر وتشتت الفهم وعدم صفاء الذهن. ثم أخذ يتناوبني قوة العزم في فضل نشر العلم، فينشطني وأحيانًا يعاودني تذكر غموض البحث وخطر الخطأ فيه، فيثبطني، وعلى أثر هذا التردد رأيت أنه قد اشتد مني العزم وزال عني الهم، وعرفت حينئذ أن أمانة العلم توجب علينا البيان وعدم الكتمان، فاغتنمت فرصة الإمكان وكتبت ما حضر بي مما يتعلق بهذا الشأن، مستدلًّا على صحة ما قلت بفقه الإسلام ونصوص الأحكام ما عسى أن يكون كافيًا لبقية الطالبين ورغبة المستفيدين، وضممت إلى التأمين أشياء من العقود والمعاملات الرائجة من جديد في بلدان المسلمين، رجاء شمول النفع بها الناس أجمعين، ونسأله سبحانه أن يفتح لنا فتحًا مبينًا، وأن يرزقنا علمًا نافعًا مبرورًا وعملاً صالحًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.
بسم الله، يقول بعض المفكرين: إن مسألة التأمين بأنواعه هي قضية ذات أهمية، وقد راجت بين العالم فينبغي ألا تترك مهملة يموج الناس بعضهم مع بعض فيها بالتضليل والتصويب، بل يجب على المختصين بالعلم والفكر الصحيح أن يدرسوها من نواحيها دراسة عميقة ليخرجوها إلى الناس برأي مجمع عليه، يطمئن المسلم إليه، وبغير هذا يظل الناس منقسمين فيه؛ منهم من يحرمها اتباعًا للمأثور والمشهور، ومنهم من يبيحها رغبة في التيسير، ومسايرة للتطوّر الذي عليه الجمهور.
* * *
إن الله سبحانه أنزل كتابه المبين، وبعث نبيه الصادق الأمين بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، وقد نظم حياة الناس أحسن نظام بالعلم والعدل والمصلحة والحكمة والإحسان والإتقان، ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا﴾ [الأنعام: 115]. أي صدقًا في الأقوال وعدلاً في الأحكام، فلا تقع مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية بيان حلها وصحيحها من فاسدها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها وبيان الهدى من الضلال فيها، وهو مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.
وقد سمّاه الله: شفاء لسائر الشرور والأضرار، وإزالة الشبه والشكوك والأوهام، وحكمًا قسطًا في قطع النزاع والخصام ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى﴾ [فصلت: 44].
ففي شريعة الإسلام حل كل ما يختصم فيه اثنان، مع ملاءمتها لكل بيئة وكل زمان ومكان.
لأن دين الإسلام هو دين البشرية كلها، عربهم وعجمهم، مسلمهم وكافرهم: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]. وما كان هذا الدين ليتحمل أمانة رسالة البشرية كلها، إلا وهو يحمل في تعاليمه وأحكامه وقواعده وعقائده ما يجعله كفيلاً وحقيقًا بهذه التسمية، لينتهي بالناس إلى أن يكونوا آمنين على دينهم آمنين على أنفسهم آمنين على أهلهم وأعراضهم وأنسابهم.
فدين الإسلام هو الموصل بمن تمسك به واتبع هداه إلى سعادة الدنيا والآخرة رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله وبقية أركانه الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجّار، وبمثابة محَكِّ التمحيص لصحة الإيمان. بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأنه ليس الإسلام محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.
الإسلام دين السهولة والسماحة واليسر في الأحكام، ليس بحرج ولا أغلال ولا مقيّد عقل مسلم عن الحضارة والتوسع في التجارة المباحة والتفوّق في فنون الزراعة والصناعة، بل هو سبب النجاح وسلّم الفلاح إلى كل ما فيه صلاح لأمور الدنيا والآخرة، يمدح التاجر الصدوق الأمين ويجعله مع النبيين ويحث على الزرع والغرس والصناعة، ويقول: أفضل الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور.
الإسلام دين السلام والأمان، دين العزّة والقوة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام.
دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالطاعة، والإيمان شعار أهله المسلمين المؤمنين عباد الله.
دين يحترم الدماء والأموال ويقول: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام»([1])، ويقول: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»([2])، أي بموجب الرضا التام، وفي محكم القرآن: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ﴾ [البقرة: 188].
دين يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف والتلاطف كالإخوان، وفي التساعد والتعاضد كالبنيان، أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ﴾ [التوبة: 71].
دين من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد: ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨﴾ [الحج: 18].
دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أمور الناس أحسن نظام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه ﴿يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩﴾ [الإسراء: 9].
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء كثيرًا من بلدانهم، كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيّد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا والخمور، فأخذوا يدعون الناس إلى ما يشتهون بأقوال خلابة خداعة، تجعل الماء في صورة النار، والنار في صورة الماء العذب الفرات، وسرعان ما انخدع بها العوام وتغيرت بها العقول والأفهام، وقد وصفهم رسول الله ﷺ بأنهم «دعاة على أبواب جهـنم من أجابهم قذفوه فيها»([3]).
إن مدار شريعة الإسلام على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول والأخلاق، فهي مبنية على المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل.
فشرع الجهاد في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، أي حتى لا يفتن المسلم عن دينه لكون الفتنة في الدين أشد من القتل.
وشرع القصاص صيانة للأرواح وحقنًا للدماء حتى لا تسفك إلا بحقها.
وشرع قطع يد السارق صيانة للأموال، بحيث يستتب الأمن بين العباد والبلاد، وتزول عنهم المخاوف والأوجال، ولأن المضار الجزئية الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية.
وشرع حد الخمر صيانة للعقول والأجسام عن عبث أم الخبائث بها.
وشرع حد الزنا والقذف صيانة للأعراض وحفظًا للأنساب، وأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [النور: 2].
وهذه الحدود إنما شرعت رحمة من الله لعباده، فهي تنزيل الحكيم العليم، شرعها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها من أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأنها تقلل فشو الشر والمنكر بين الناس، فهي صادرة عن رحمة من الله بعباده لإرادة صلاحهم، أشبه بتأديب الرجل ولده في سبيل منفعته ودفع مضرته، وأشبه بتجريح الطبيب للمريض في سبيل علاجه ومحاولة حصول صحته.
ومن المعلوم عند العقلاء أن المرّ كريه الطعم، ومتى كان حسن العاقبة صار حلوًا.
ففي إقامة الحدود محاربة للجرائم على اختلاف أنواعها للزجر عنها وتطهير المجتمع منها؛ لأن الله يَزع بالسلطان أعظم مما يَزع بالقرآن: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
وما الدين إلا أن تقام شريعة
وتأمن سبل بيننا وشعاب
وليعتبر المعتبر بالبلدان التي يحكم فيها بشريعة الإسلام وتقام فيها الحدود الشرعية والأحكام، يجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان.
ثم لينظر إلى ضدها من البلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وعطلت فيها الحدود والشرائع والأحكام، كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر والفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ذلك لأن المنكرات على اختلاف أنواعها متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في الأعين شهودها ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
إن المستشرقين وملاحدة المسلمين قد شوّهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، حيث وصفوه بأنه أغلال وأن شرائعه تكاليف شاقة، وأنه لا يتلاءم الحكم به في القرن العشرين، ونحو ذلك من الأباطيل الملفقة الناشئة عن الإلحاد والزندقة؛ لأن أكثر الناس في هذا الزمان قد اعتلت أديانهم واختل توازنهم وتمييزهم بتغلب الشهوات الطائشة على عقولهم فهم يقيمون من عقولهم الفاسدة آراء يعارضون بها أحكام الشريعة الإسلامية، من إقامة الحد على الزاني والسارق وشارب الخمر، ويرون أن السماح للشخص بالزنا وشرب الخمر، أنه من تمام تمتعه بكمال حريته، فلا يسوغ كبته عن مشتهياته. هذا رأيهم، ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١﴾ [المؤمنون: 71]. فإن الإسلام يحميه كما يحمي غيره من هذه الجرائم، رحمة منه به لمصلحته وصحته، فهو يريد حياته وهم يريدون موته، وإنما استثقلوا شريعة الإسلام لاشتمالها على الأوامر والنواهي والفرائض والحدود([4]) والأحكام وسائر أمور الحلال والحرام وكالصلاة والصيام كما قيل:
ثقل الكتاب عليهم لمّا رأوا
تقييده بأوامر ونواهِ
ولا غرابة فإن هؤلاء قد تحللوا من عُقل الدين وحدوده وآدابه، فهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيّد الشهوة من عقل وأدب ودين، فهم يحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢﴾ [محمد: 12].
* * *
[1] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [2] أخرجه أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [3] أخرجه أحمد من حديث حذيفة. [4] الحدود: هي الزواجر عن الجرائم، وإنما سمي حدًّا لكونه يحد صاحبه عن مواقعة مثله كما يحد غيره أي يحجزه عن مقارفة مثله، وخير الناس من وعظ بغيره؛ ولهذا وردت أحاديث كثيرة في فضل إقامة الحدود، كحديث «حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحًا» رواه النسائي وابن ماجه والطبراني من حديث أبي المغيرة وابن عمر وابن عباس. وقال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره»، وفي رواية «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع له» وكان أسامة بن زيـد شفع في المـرأة التي سرقت المتاع، فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث عائشة. وقال لصفوان بن أمية لما شفع في الذي سرق رداءه: «هلا كان ذلك قبل أن تأتيني» أخرجه أصحاب السنن من حديث صفوان بن أمية. فالإسلام قائم على محاربة الجرائم بكل أنواعها وتقليلها وتطهير المجتمع منها؛ لأن الله سبحانه يَزعُ بالسلطان أعظم مما يَزَعُ بالقرآن ومن لا يكرم نفسه لا يُكرم ومن يهن الله فما له من مكرم. ومع الأمر بإقامة الحدود فإن الله يحب العفو والستر، ففي الحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وفي رواية «ادفعوا الحدود عن المسلمين ما وجدتم لها مدفعًا».
إن فقهاء الإسلام وجهابذة العلماء الأعلام قد قاموا بتدوين فقه الإسلام أتم قيام، فحفظوا نصوص الأحكام، وبينوا للناس الحلال والحرام، وقرروا أصولاً من القواعد الفقهية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة، بذلوا غاية جهدهم واجتهادهم في تحقيقها وتنقيح مناطها بأمانة الإسناد وغزارة الاستنباط.
وهي وإن لم تنص على كل عقد باسمه، لكنها كافية لحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، إما بالنص أو الاقتضاء أو التضمين أو القياس الصحيح المقتضي لإلحاق النظير بحكم نظيره.
كما في رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث قال: الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ([5]).
غير أن الناس يتفاوتون في التحقيق وسياسة التطبيق وفي العلوم والفهوم أعظم من تفاوتهم في العقول والجسوم، و «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
إنه في هذا الزمان، لمّا كثر اختراع الصناعات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، استدعت الحاجة إلى إحداث شركات ومعاملات لم تكن معروفة في السنين السابقة كشركات التأمين بأنواعها والمقاولات على البنيان وبيع الأسهم من الشركات، ومشاكل التعامل بالأوراق النقدية، وغير ذلك من سائر المعاملات المحدثة التي لم تكن معروفة في السنين السابقة، فأشكل على بعض الناس فهمها والإحاطة بحقيقة حكمها لصعوبة تطبيقها على قواعد الفقه المقرّرة في فقه المذاهب المتداولة بأيدي العلماء.
لهذا ظن من ظن أن هذه المعاملات لن يوجد لها أصل يرجع إليه ولا نظير يقاس عليه.
وهذا الاعتقاد ليس بصحيح، فإن كل ما يقع بين الناس من المشاكل في العقود والشروط والشركات وسائر المعاملات المستحدثة، فإن طريق حلها وبيان صحيحها من فاسدها سهل ميسر عن طريق الفقه الإسلامي الصحيح بدون رجوع ولا حاجة إلى الأنظمة والقوانين ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [النساء: 83].
غير أن علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة لحل المشاكل يتوقف على مهارة علمية واسعة وملكة راسخة وسياسة حكيمة لعمل التحقيق وسياسة التطبيق، وذلك بِرَدِّ الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها حتى يجد القاضي طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الصحيح من الفاسد، فالفقه على النحو الذي تحفظ به الحدود والحقوق بميزان العدل والتحقيق ويسلك بالأمة أقوم الطريق إنما يستطيعه من امتلأ قلبه من أحكام علوم القرآن والحديث، ثم عمل عمله في البحث عن هذا التشريع فعرف منها مقاصد الشارع والمصالح والمفاسد بميزانها الصحيح العادل.
لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد في الاستنباط ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تطبيقه وتحقيقه.
لأن دين الإسلام كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، ولم يتحمل أمانة رسالة البشرية كلها إلا وفي علومه وعقائده وقواعده حل مشاكلهم في حاضرهم ومستقبلهم، فلا واقعة إلا ولها حكم مدلول عليها بالنص أو بأصل من الأصول المستحدثة من النصوص.
إذا ثبت هذا، فإننا متى عرفنا تمام المعرفة أن هذه العقود والشروط والشركات المستحدثة، كشركة التأمين وغيرها، أنها قد تغلغلت في البلدان وراجت في الأذهان، ومن لوازمها أن تنشأ عنها المنازعات والخصام ثم الترافع إلى القضاة والحكام، في سبيل إزالة الشقاق وعمل الوفاق؛ لهذا يصير قضاة الشرع ملزمين بتحقيق النظر في حكم هذه المعاملات والاستعداد لكشف ما يشكل منها عند المنازعات.
لأنهم متى سكتوا عن الحكم في هذه القضايا أو أعرضوا عنها، بدعوى التورّع منها أو حكموا فيها بالتحريم بدون دليل وقد راج بين الناس إباحتها، فحينئذ يظن قضاة النظم والقوانين أنه من قصور فقه الإسلام عن حل مثل هذه المشاكل العظام فيسيئون الظن بالإسلام وبالقضاة الشرعيين، ويظنون أنهم إنما يحكمون بمجرّد آرائهم، ومن المعلوم أنهم إذا لم ينظروا في مثل هذه القضايا بعلم وحكمة، فإنه لابد أن ينصرف إلى غيرهم.
ولهذا قيل: إن محاسن الإسلام تختفي بين الجامد والجاحد.
وقد قالوا: إنها إنما دخلت القوانين في بلدان المسلمين، كله من أجل القضاة([6]) الضعيفة مداركهم والضيقة أعطانهم والمتحجرة أفهامهم، فكانوا يعاملون الناس بالتعليل والتمليل في أقضيتهم وأحكامهم، فسئم الناس من سوء معاملتهم لهم ولجؤوا إلى القوانين لظنهم أنها تقوم بحل مشاكلهم، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار.
ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أشكو إليك من جلد الفاجر وعجز الثقة([7]).
وإن غاية ما نهتم به في هذا البحث هو تفصيل أشياء من العقود والمعاملات الغامضة والرائجة بين الناس، كشركات التأمين على اختلاف أنواعها، وبيع الأسهم من الشركات، واستبضاع السلعة وبيع الأنموذج والتبايع بالأوراق النقدية، وغيرها من المشاكل، فنخرجها للناس من حيز الخفاء والغموض إلى حالة التجلي والظهور بالدلائل القطعية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة، حسبما وصل إليه علمنا، وقد يظهر لغيرنا ما عسى أن يخفى علينا، إذ لا علم لنا إلا ما علمنا ربنا ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦﴾ [يوسف: 76].
* * *
[5] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى. [6] لقد عم النقص في هذه الأزمنة في علم الفقه وحملته وقَلَّتْ رغبة الناس في تعلمه بعد إنشاء المدارس والجامعات والكليات العصرية التي من شأنها اختصار حصة العلوم الشرعية، فكان الشخص إذا تخرج من إحدى الجامعات أو الكليات أو تقلد وظيفة القضاء أو الإدارة أو أي وظيفة، انصرف غالبًا بكل جهوده ونشاطه عن البحث والتفتيش والتأليف من كل ما يقتضي تعاهد العلم وزيادته ونفع نفسه والناس به، حتى كان الحصول على الوظيفة هي مبلغ علمه وغاية قصده وبعدها ألقى عصا التسيار عن تعاهد علمه والسعي في توسعته؛ لأن محبة العلم الحقيقي لم تخالط بشاشة قلبه، على أن أحد هؤلاء قد أعطي صحة في الجسم والسمع والبصر وقوة في الحفظ والفهم من كل ما يؤهله إلى التوسع في العلوم والفنون، لكنه يكسل عن استخدام هذه القوى في سبيل ما خلقت له، ويستولي عليه الخمول والاتكال على غيره فيما يعد من واجبه، فيذهب علمه على أثر تعطيله وينسى الكثير مما يحفظه، لكون التعطيل يذهب التحصيل، فيكون بمثابة السيف المدسوس دائمًا في غلافه وقت الحاجة إلى الجهاد به، فإن الجهاد بالحجة والبيان آكد من الجهاد بالسيف والسنان، والعاشق للعلم على الحقيقة يواصل عمله في تعاهد علمه وتوسعته من المحبرة إلى المقبرة. [7] ذكره ابن تيمية في منهاج السنة.
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا والناس كلهم يتحاكمون إلى الشريعة الإسلامية، راضين بها ومنقادين لحكمها.
لأن الله سبحانه نصب الشريعة الإسلامية لعباده في الدنيا حكمًا قسطًا، تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾ [الأحزاب: 36].
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١﴾ [النور: 51].
فالقضاء الشرعي المبني على أساس متين من العلم والحكمة والعدل والقوة والأمانة هو رحمة من الله لعباده وراحة لهم قي قطع النزاع عنهم واستيفاء حقوقهم، إذ هو ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ولولا من يقيمه الله لإنصاف المظلوم وردع الظالم لأكل الناس بعضهم بعضًا، إذ ليس كل أحد يقنع بحقه أو يقف على حده.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
والقضاء وإن كان فيه خطر كبير وآثار تقتضي عنه التحذير([8])، لكن فيه أجرًا كبيرًا لمن خلصت نيته وصلح عمله، إذ هو من القيام لله بالقسط.
وكن عالمًا إن القضاء فضيلة
وأجر عظيم للمحق المسدد
لأمر بمعروف وكشف ظلامة
وإصلاح ذات البين مع زجر معتد
إذا بذل الجهدَ المُحِقْ إن يصب يفز
بأجرين والمخطي له واحد قد
ولا بد من قاضٍ لفصل خصومة
مع الخطر البادي العظيم المشدد
والقضاء: هو الإلزام بالأحكام الشرعية، وهو فرض كفاية، وإذا لم يوجد غيره تعين عليه.
والأصل فيه قوله تعالى: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [ص: 26].
والقضاء هو منصب شريف، إذ هو منصب أنبياء الله ورسله وخلفائه، وكان النبي ﷺ قاضيًا وأبو بكر قاضيًا وعمر قاضيًا وعثمان قاضيًا وعليّ قاضيًا.
ولما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية عكف الصحابة جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين ونشر العلوم الإسلامية وفتح المحاكم الشرعية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام.
فكانوا يتعاهدون القضاء والقضاة، بفتح الأبواب وإزالة الحجاب. ولمّا بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ بابًا وحجابًا يمنعون الدخول عليه إلا بإذن، أرسل محمد بن مسلمة وأمره أن يحرق باب سعد قبل أن يكلم أحدًا من الناس، فمضى محمد بن مسلمة في سبيله حتى دخل العراق فاشترى حزمة حطب وأسندها على باب سعد فأحرقه وقال: عزمة من عزمات عمر وقد نفذتها.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري:
أما بعد: فإن القضاء آية محكمة أو سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه فإن أتى به وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيت به بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا في حد أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، فإن الله تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة والخصوم، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.. فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام([9]).
فهذه الرسالة هي من فنون الحكم وجوامع الكلم التي يجب على القاضي العدل التخلق بها والتأدب بآدابها لصدورها من الناصح المحدث الملهم والمهذب لرعيته، الذي جعل الله الحق على لسانه فأنطقه بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث أرسى في هذه الرسالة نظم القضاء وقواعده.
ومن أجل خطورة القضاء، قال النبي ﷺ: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة.
وروى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص، قال رسول الله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر» ونهى رسول الله ﷺ أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان. رواه البخاري عن عائشة.
واشترطوا في القاضي عشر صفات، كونه: بالغًا عاقلاً ذكرًا حرًّا مسلمًا عدلاً سميعًا بصيرًا([10]) متكلمًا مجتهدًا ولو في مذهبه. قاله في مختصر المقنع.
إن طريق الإصلاح والعدل للقضاء والقضاة، هو أنه ينبغي للقاضي أن يحتسب في قضائه وأن يبكر في جلوسه لمباشرة عمله ويفتح أبواب محكمته ليتصل به الخصوم والشهود بسهولة ويتسع الوقت لسماع الدعوى وتسجيلها.
ويتأسى بسيرة مدراء الجامعات والكليات والمعاهد، الذين يباشرون أعمالهم وتعليمهم عند طلوع الشمس، فإن بركة اليوم في أوله وقد بورك لهذه الأمة في بكورها، ولأن الناس لسعة الوقت للقضاء أحوج إليه من غيره. ثم يبدأ بالنظر في قضية الأول فالأول من كل من يحضره وما يعرض عليه بدون أن يتقيد بعرض الشرطة للقضية، فيكون كالمحجور عليه إلا بإذنهم؛ لأن فيه تضييقًا على الناس.
ولو خصص للقضاء أعيان من الشرطة يكلفون بمباشرة الحضور عند جلوس القاضي لعرض الأقضية عليه عند جلوسه، لكان أفضل ليتم بذلك مصلحة التبكير، فلا يتعذر القاضي بالشرطة ولا الشرطة بالقاضي.
إن القضاء أمانة والقاضي بمثابة المستأجَر لتأدية هذه الأمانة في الأوقات المفروضة عليه حسب النظام من كل يوم.
فمن عدم الوفاء بهذه الأمانة، كون القاضي يغلق أبواب محكمته عليه ويترك الناس خلفها يغشاهم الذل والصغار، غير مكترث بهم ولا مهتم بأمرهم والنبي ﷺ يقول: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فاحتجب دون حاجتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته» رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي.
ومع تحمل هذه الأمانة الكبيرة التي يترتب عليها المسؤولية من الله ومن الناس، فإن أكثر القضاة يضيع زمنًا طويلاً من الأوقات المفروضة عليه فيجعل شهرًا للعمرة وشهرًا للحج وشهرًا لصيام رمضان بمكة، ويوم فيوم لأعذار يذكرها ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام.
فهؤلاء يعتبرون مخالفين لنظام القضاء الشرعي الذي نص عليه الفقهاء من كل المذاهب.
فإن جلوس القاضي في ولاية عمله ومحل قضائه وحكمه أفضل من تطوّعه بحجه وعمرته؛ لأن جلوسه للقضاء يعد من الأمر المفروض عليه، أما تنقله بحجه وعمرته فغير مستحب في حقه وله وجه صحيح في القول بعدم صحته.
ولو نوزع فيما فيه غضاضة عليه من نقص راتبه على حساب غيبته وتعطيل وظيفته لقام وقعد وجدّ واجتهد في المطالبة بتكميله، والله سائل كل شخص عن ولاية عمله ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾ [التوبة: 105].
* * *
[8] نشير إلى أحاديث وآثار عن السلف كثيرة، يخيل لبعض العلماء أنها خرجت مخرج الذم للقضاء والتحذير منه مطلقًا كحديث «من ولي القضاء فقد ذبح نفسه بغير سكين» رواه أحمد والأربعة من حديث أبي هريرة. وحديث «يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره»، وفي رواية «في تمرة» رواه البيهقي. فهذه الأحاديث وما في معناها إنما سيقت لبيان عظم المسؤولية وتحمل الأمانة العظيمة المترتبة على الدخول في القضاء، بحيث يحاسب الإنسان نفسه ويفكر في عظم مسؤوليته، فلا يقدم عليه إلا من وثق من نفسه بالقيام بواجبه، وحتى يحجم عنه من لا يستطيع تحمل أمانته لئلا تذهب حقوق الناس على يده، بسبب تقصيره بولايته.
وإلا فإن القضاء في مواطن الحق هو مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر إذ هو من القيام لله بالقسط، وقد فسر بعض العلماء حديث «من ولي القضاء فقد ذبح نفسه بغير سكين» بأنه محمول على ما يلاقيه القاضي من المصاعب والمتاعب والمشقة والأذى من الناس في سبيل القضاء، وتنفيذه حتى مع عدله ما يجعله كأنه ذبح نفسه، حيث عرض نفسه للنكد والكدر وعدم الراحة، إذ لا أشق من القضاء وما يترتب عليه من الأذى، غير أن المكارم منوطة بالمكاره والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب وقد حفت الجنة بالمكاره.
في الحق ثقل وقاضي الأرض ممتحن
يمسي ونصف خصوم الناس يشكونه
زكـــوه دهــــرًا فلمــا صار قاضيهم
واستعمــل الحـــق عـــادوا لا يزكونــه
[9] أخرجه الدارقطني، والبيهقي في السنن الكبرى.
[10] إنه من الأمر المشكل على أهل البلاد، وخاصة بلاد الحراثة كونه يولى القضاء فيها من هو أعمى؛ لأنه وإن كان قد يوجد عند هؤلاء من سعة العلم والمعرفة بالحدود ومفاصل الحقوق ما لا يوجد عند الكثيرين من المبصرين، لكنه يفوت عليه الشيء الكثير مما عسى أن يدركه البصير وحسبك بخطر التزوير على خطه وختمه الذي يستبيحه الكثير في قديم الزمان وحديثه ممن له اختصاص بالقاضي فيتصرف في خطه وختمه باسمه؛ لأنه متى كان الغدر في الناس موجودًا فالثقة بكل أحد عجز، والله يقول: ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ٥٠﴾ [الأنعام: 50].
وإنما شرط الفقهاء لولاية القضاء، كونه سميعًا بصيرًا؛ لأن القاضي بداعي الضرورة يحتاج إلى الاستعانة بقوة البصيرة فيما يقتضيه النظر وتوجيه الضرورة مثل دعوى الأضرار والطرق والشفعة والقسمة ومراسم الحدود والحقوق وعرض الأوراق والصكوك، فيعرف منها التحريف والطمس والتبديل بدلاً من أن يتكل في هذه الأمور على غيره فيقلدهم فيما يقولون، إذ ليس المخبر كالمعاين كما ثبت بذلك الحديث.
ومما ينبغي أن ننصح به هو التحفظ على رواتب هؤلاء القضاة في حالة الاستغناء عنهم، بحيث توفى لهم رواتبهم كحالتهم السابقة لاستحقاقهم لذلك من جهات عديدة، أو ينقلون برواتبهم إلى أعمال غير متعبة، كالتعليم أو الوعظ أو الإرشاد أو عمل مما يحتاج إليه الناس.
يقول الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٦٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ٦١﴾ [النساء: 60-61].
ويقول: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة: 49-50].
الأنظمة والقوانين إنما نَظَّمَ مناهجها وقرّر حججها قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، صنعوها بمثابة المصطلح لهم على حسب أديانهم وبلدانهم وأخلاقهم ومذاقهم وعوائدهم، وإنما دخلت على المسلمين من باب العدوى والتقليد الأعمى، وصدق عليهم ما أخبر به رسول الله ﷺ، حيث قال: «لتأخذن ما أخذ اليهود والنصارى شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»([11])، وصدق عليهم المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.
فهـي مبنية على عزل الدين عن الدولة، والدين ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
تبيح للناس ما حرم عليهم من الربا والزنا الواقع بالتراضي، وشرب الخمر إذا لم يحصل من شاربها تعدٍّ على الناس، ويعدون السماح بهذه الأشياء من تمام حرية الشخص.
ترفع ولاية الولي الشرعي عن ابنته وموليته ورقابته عليها وتعطيها الحرية التامة تتصرّف كيف شاءت.
تقوم بحماية حرية الرأي([12])، بحيث تبيح لكل ملحد وكافر أن يجهر بكفره وإلحاده، غير محجور عليه في رأيه حتى لو سب الله ورسوله علانية، أو كذب بالقرآن أو الرسول، فهي تحميه على حرية رأيه وفساد اعتقاده، بناءً منهم على عزل الدين عن الدولة.
لهذا تكثر المذاهب الهدامة في البلدان التي يحكم فيها بالأنظمة والقوانين، لعدم العقاب والعتاب عليهم فيما يقولون ويفعلون ومن أمِنَ العقوبة أساء الأدب فينشأ عنهـا فتنة في الأرض وفساد كبير، بينما الأحكام الشرعية الإسلامية تحمي عقيدة الدين أشد مما تحمي به الدماء والأموال، لكون الشريعة مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول. لهذا ترى البلدان التي يُحكم فيها بشريعة الإسلام ويُؤمر فيها بالمعروف ويُنهـى فيها عن المنكر، تجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان، فكانت أعمالهم بارة وأرزاق الله عليهم دارة؛ لأن الدين بحكمته يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، فله سيادة وسيطرة على النفوس لا تماثله النظم والقوانين.
لا ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
أما النظم البشرية مهما بلغت من إدراك وتفوّق، فإنها لن تكفل للبشر سعادتهم ولا حصول الراحة والأمان والاطمئنان لهم ولا حل مشاكلهم على الوجه الأكمل، بل هي بالضد من ذلك كله.
فإنها بِسَيْرِ أعمالها وقانون نظمها تنشئ المشاكل وتسهل ارتكاب الجرائم، من أجل أنه ليس فيها قصاص ولا حد ولا تعزير ما عدا السجن الذي يعده أكثر المجرمين بمثابة الراحة له عن الكد والسعي.
فلا بد للناس من التشريع الإلهي الذي يفوق سائر ما وضعه البشر من الأنظمة والقوانين؛ لأن علم الشريعة وأحكامها محيط بكل ما يحتاج إليه الناس في حاضرهم ومستقبلهم.
والناس إنما يخضعون وينقادون لحكم الشرع لعلمهم واعتقادهم أنه تشريع إلهي وله القوة الفعالة والوازع القوي في نفوس الناس.
فمتى قيل للحَجوج اللَّجوج: هذا مقتضى حكم الله ورسوله؛ وقف على حده وقنع بحقه وعرف أنه لا مجال للجدل مع حكم الله ورسوله.
لهذا تجد القضايا المعقدة والمشاكل العويصة إنما يتوصل إلى حلها عن طريق الفقه الإسلامي، وأكرم به متى كان صادقًا قاضيًا عالمًا حكيمًا.
وما كل من أمسك الكتاب حكيم.
أما إذا كانت هذه المشاكل عن طريق النظم والقوانين، فإنها تأخذ السنين بعد السنين بين حكم واستئناف وحل وإبرام حتى ينزف ما في جيبه من النقود.
إن شريعة الإسلام هي شريعة البشرية كلها ومدارها على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول.
فوقاية الحكومة بها وحفظ رعاياها عن التعدي على الحقوق وانتهـاك الحدود أعظم من تسلحها بالحرس والجنود.
لأن القضاء الشرعي من أكبر ما تستعين به الحكومة على سياسة مملكتها وسيادة رعيتها واستقرار الأمن والهدوء في مجتمعها، وقد حذر النبي ﷺ عن سوء عاقبة رفع الأحكام الشرعية عن الأمة، فقال: «ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا»([13])، وصدق الله ورسوله، فإن هذا الحديث بمثابة البرهان القاطع والصبح الساطع الذي يشهد بصحته الحس والواقع.
إن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون الاجتماع لها للتذاكر في شؤون أمتهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان.
وهي أن الأمر الذي فَلَّ حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم في أمر دينهم وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم.
وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته، فإنه الكفيل بإصلاح الدنيا والدين، فهم يتناصحون بهذا ويتواصون بموجبه، ولم يبق سوى التنفيذ وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩﴾ [الأنعام: 89].
* * *
[11] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.
[12] إن حرية الرأي قد اشتهرت وانتشرت في البلدان التي أفسد التفرنج تربية أهلها فاستباحوا الجهر بكل ما يَعِنّ بالفكر من آراء الكفر غير محجور على أحدهم في رأيه، لأن المعتقدين لها قد تحللوا عن التقيد بشيء من حدود الدين وحقوقه وشرائعه وبنوا أمرهم على رأيهم فقط واخترعوا هذه التسمية لتكون بمثابة الوقاية عن وقوع العقاب بهم على جريمة كفرهم ومروقهم عن دينهم، فكانوا يجهرون بجحود الرب وإنكار الوحي وبعثة الرسل والتكذيب بالقرآن وبالرسول والتكذيب بالجنة والنار، ثم يعتذرون عن كل ما يقولون ويفعلون بحرية الرأي، كأنها تبرر لهم مساوئ أعمالهم وفساد اعتقادهم، ومع هذا الكفر المتظاهر ترى أحدهم يدَّعي الإسلام بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم ولا يحرم ما حرم الله ورسوله ولا يدين دين الحق، قد خرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين.
فهؤلاء عند علماء الإسلام أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على الناس أشد من ضرر اليهود والنصارى؛ لأن الفتنة بهم أشد من أجل أن الناس ينخدعون بهم من أجل انتسابهم لدينهم وكلامهم بلسانهم، ولم يأمر الله على لسـان نبيه بقتل التارك لدينـه إلا رحمـة بمجمـوع الأمة أن تفسدهم أخلاقه، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل والمرء على دين خليله وجليسه.
إن حرية الرأي إنما تمدح إذا لم تخرج عن حدود الحق كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «قل الحق وإن كان مرًّا»، وقال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» أما إذا خرجت حرية الرأي عن حدود الحق فإنها تدخل في مسمى الهوى، وإعجاب كل ذي رأي برأيه وقد أخبر الله بأنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، وقال: ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١﴾ [المؤمنون: 71]. وقال: ﴿فَإِن لَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهۡوَآءَهُمۡۚ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيۡرِ هُدٗى مِّنَ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥٠﴾ [القصص: 50]، وقال: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٢٣﴾ [الجاثية: 23].
إن جهل الناس بكنه حرية الرأي وتساهلهم فيها وسكوتهم عنها مع حقيقة فتكها بالأعمال والأخلاق والآداب. إنه لمما يقود العامة إلى الخروج عن الإيمان وشرائع الإسلام، ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأخلاق والأعمال والأحوال والتضارب في الآراء والأفكار وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
وعلى قدر انتشار هذه الفكرة يتضخم الجهل والطفور والطغيان ويستفحل الكفر والفسوق والعصيان وتسود الفوضى في الجماعات والأفراد حتى تكون من أقوى عوامل الانحطاط.
أما رأيت النصارى في تعليل إباحتهم للزنا واللواط والخمور أن السماح بها يعدونه من إعطاء الشخص كمال حريته، وعلى هذا فَقِسْ.
لهذا يجب على علماء المسلمين وعلى الكتّاب السلفيين وعلى القائمين بتحرير الجرائد والمجلات وتعميم نشرها، بأن يبينوا للناس فساد هذه الفكرة الأثيمة وما ينجم عنها من المضار العظيمة وأن القائلين لها إنما يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة ويبثون بينهم عوامل السفه والفساد والضلالة من كل ما يزيغ المسلم عن معتقده الصحيح من صالح الأخلاق والأعمال ويقوده إلى الإلحاد والانحلال. ولكون الذين تبنوا هذه الفكرة قد تحللوا من عُقَل الدين وحدوده وحقوقه فهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين لأنهم يحبون أن يعيشوا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢﴾ [محمد: 12].
إن العـامة بما طبعـوا عليه من السذاجـة وعدم الرسـوخ في العلم والمعرفـة، قد يعتقـدون على طول الزمان صحة ما يقوله هؤلاء في حال سكوت العلماء عن بيانها فتتغير بذلك عقولهم وعقائدهم وينقادون لداعي التضليل والتمويه.
إن سبب انتشار حرية الرأي في الأمصار خاصة في هذا العصر هو إطلاق السراح للكتّاب المتطرفين في الدين وكتاب الجرائد المستأجرين في ترويج الباطل فترى أحدهم يطعن في صميم الدين فيكذب الرسول ويكذب بالقرآن كله بحجة حرية الرأي بدون أن يردعه أحد ولو تصدى له من يتحامل عليه بالطعن في أخلاقة وأعماله بذكر مساوئه وما عسى أن يكون واقعًا فيه، لأثارها عليه غضبًا وحربًا ولن يرضى بإطلاق حرية الرأي فيه نفسه، وهذا هو حقيقة ما عناه الشاعر بقوله:
يساق للسجن من سب الزعيم ومن
سب الإله فإن الناس أحرار
فمثل هؤلاء يجب قطع دابرهم بإبعادهم عن أوطان المسلمين لئلا يضلوا الناس ويفتنوهم عن دينهم وجناية التحرير الذي يتطلع إليها الصغير والكبير، ويترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، إذ الجناية على الدين أشد من الجناية على الأنفس، والفتنة في الدين أشد من القتل.
كما يجب مقاطعة الجرائد التي تقوم بنشر حرية الرأي متى كان هذا الرأي خارجًا عن حدود الحق والعدل لاعتبارها جرثومة فساد ومن أسباب خراب البلاد وضلال العباد؛ لأن حرية الرأي التي يلهج الإباحيون بها هي منصرفة إلى التحلل عن الفرائض والفضائل وإباحة منكرات الأخلاق والرذائل جهارًا، ويعتقدون أن هذه من الكمالات الأوروبية ويقول أحدهم: إن لكل هؤلاء الذين عودونا على التحرر شكر الإنسانية أجمع.
﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١﴾ [المائدة: 41].
[13] رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث ابن عمر واللفظ للبيهقي.
إن القاعدة في التحليل والتحريم وكذا الأمر والنهي هو ألا تُعارَض أحكامها بترخص جافٍ ولا تُعارَض بتشديد غال ولا تُحمَل على علة توهن الانقياد.
أما الترخص الجافي: فهو الذي يتساهل في الأمور المحرمة أو شديدة الشبهة، فيلطفها بخلابة لفظه وخداع غرضه لقصد مسايرة التطوّر كما زعموا، أو لقصد مصانعة الناس على عوائدهم أو مصانعتهم على حسب رغباتهم، فيحلل لهم ما حرم عليهم بدون نص يؤيده ولا قياس يعضده، كالقائلين بإباحة الربا للمحتاج أو جواز المراباة مع الكافر أو نكاح المحلل ونحو ذلك من العقود المحرمة بأصل الشرع.
وأما التشديد الغالي: فهو ما يتخلق به بعض الفقهاء، حيث يحرمون على الناس أشياء من المعاملات أو العادات لم تكن صريحة في التحريم والتي لم يتوصلوا إلى حقيقة العلم بتحريمها، فيحكمون عليها بالتحريم وبالمنع بدون نص صحيح ولا قياس صريح.
وربما تحاملوا بالتفنيد وعدم التسديد على رأي الجريء بقول الحق متى خالف رأيهم أو مذهبهم، فينشرون عنه التجهيل والتسفيه والزراية وعدم الدراية ليوقعوا في قلوب الناس عدم الثقة به وعدم الاعتبار بقوله، وينسبونه للتسرع إلى الفتيا المنهي عنها وإلى عدم الورع والتدين.
وهذا بما أنه من التشديد الغالي، فإنه أيضًا موقف عجز وضيق رحب عما يعرض له من الحقائق التي تخالف رأيه أو مذهبه أو ما عليه أهل بلده فلا ينشرح صدره لقبولها، ويترتب على ذلك من المضار وقوف الناس حيارى أمام هذه المشاكل المستحدثة والعقود المستجدة، فبعض الناس يقول: هي حلال، وبعضهم يقول: هي حرام، والورعون واقفون حيارى ينتظرون ماذا يقوله العلماء فيتبعونهم ويمتثلون أمرهم.
إن العالم التقي والمؤمن القوي الذي يخشى الله في عمله وعلمه متى عرف مظاهر الحق وأسفر له صبحه ووفق لاستنباطه من مظانه، فإنه حينئذ يجب عليه بيانه ويحرم في حقه كتمانه، ولا يهمه أكان موافقًا لرغبة الناس وعوائدهم ومذاهبهم أو كان مخالفًا لهم، بشرط أن يستوثق من نفسه وفي بحثه بالدلائل القطعية والبراهين الجلية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة ببصيرة ناقدة وفكرة صحيحة صادقة وتطبيق سليم، إذ الحق فوق قول كل أحد، ومن كان على الحق فهو الأمر الذي يجب أن يقتدى به، وإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر.
وأما حمل الأمر والنهـي على علة توهن الانقياد والعمل، فهي في مثل معارضة أحكام الشرائع بالآراء والعقول، كقولهم في الجاهلية: كيف نأكل مما قتلناه بأنفسنا، ولا نأكل مما قتله الله؟ وكقولهم: كيف حرم الربا، وإنما البيع مثل الربا؟ وغير ذلك من معارضة الأحكام الشرعية بمجرد الآراء([14]).
والعبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، مع اعتقاد أن الله سبحانه لم يخبر بما ينفيه العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا﴾ [الأنعام: 115]. فلا يوجب الله شيئًا إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، فالعقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما أخبر الله به رسوله هو الحق الموافق للعقل والحكمة، أما العقول المضروبة بالخذلان فإنها ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع، فتقع في اضطراب في التفكير وعدم التصديق والعمل.
* * *
[14] قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الرسول ﷺ إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم بعقولنا حكمته ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول ﷺ حتى يعلمه بعقله، فقد أشبه الذين قالوا: ﴿وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ ١٢٤﴾ [الأنعام: 124]، ومن سلك هذا السبيل فليس قي الحقيقة مؤمنًا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول ﷺ وإخباره وبين عدم وجود الرسول ﷺ وإخباره، وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده... انتهى.
اعلم أنها لما كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات لم تكن معروفة في سالف السنين ولم يقع لها ذكر عند الفقهاء المتقدمين.
من ذلك شركات التأمين على اختلاف أنواعها، وهي قضية ذات أهمية وليدة هذا العصر، وقد راجت بين العالم وصارت حديث القوم في سمرهم ومجالسهم، وأخذ بعض الناس يموج في بعض في موضوعها بالتجهيل والتضليل وبالتحريم والتحليل.
وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام فيها من علماء المسلمين هو الشيخ ابن عابدين المتوفى عام (1252هـ) فقد ذكرها في كتابه رد المحتار ونصه:
قال: إنها جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي يدفعون له أجرته ثم يدفعون أيضًا مالاً معلومًا لرجل مقيم في بلاده يسمى ذلك المال (سوكره) على أنه مهما هلك المال الذي في المركب بغرق أو حرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بثمنه في مقابلة ما يأخذه منهم، فإذا هلك من مالهم شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا.. قال: والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك، لأن هذا التزام ما لا يلزم. انتهى.
ويظهر أن مبدأ عملية التأمين هو الخوف من الحوادث والكوارث الشديدة التي تفاجئهم فتجحف بذهاب أنفسهم وأموالهم، فأراد بعض التجار بهذا التأمين التحفظ على ضمان أموالهم كما أراد الآخرون التأمين على بدل حياتهم، وهذا كله لم يكن معروفًا في بلدان المسلمين قبل هذه السنين.
ثم أخذ علماء هذا العصر يتكلمون في موضوعها، حيث دعت الحاجة والضرورة إلى البحث فيها، فلكل حادث حديث، ولكل مقام مقال.
فمنهم من قال بتحريم التأمين بكل أنواعه، ومنهم من أباحه بكل أنواعه، ومنهم من توسط فيه فقال بإباحة شيء ومنع شيء منه.
ولسنا من المجازفين القائلين بإباحته بكل أنواعه ولا من الجافين القائلين بتحريمه بكل أنواعه.
وإنما موقفنا منه موقف التفصيل لأحكامه، ثم التمييز بين حلاله وحرامه. والذي ترجح عندنا هو أن التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن والمصاغ والمتاجر أنه مباح لا محظور فيه، إذ هو من باب ضمان المجهول وما لا يجب وقد نص الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازه.
وهذا نوع منه يقاس عليه لإلحاق النظير بنظيره، كما سيأتي بيانه.
أما التأمين على الحياة، فإنه غير صحيح ولا مباح لأننا لم نجد له محملاً من الصحة لأن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته، فهو نوع من القمار ويدخل في بيع الغرر كبيع الآبق الذي لا يدري أيقدر على تحصيله أم لا، ويدخل في مسمى الربا الذي هو شراء دراهم بدراهم مؤجلة، ويدخل في بيع الدين بالدين، حيث إن المؤمن يدفع قيمة التأمين مقسطة في سبيل الحصول على دراهم أكثر منها مؤجلة، أضف إليه أنها لا تقتضيه الضرورة ولا توجبه المصلحة، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.
* * *
إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه بيّن الحلال والحرام بيانًا واضحًا فقال تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: 119]. وقال: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ﴾ [النحل: 116]. وقال: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ٥٩﴾ [يونس: 59].
وفي البخاري و مسلم عن النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الحلال المحض بيّن واضح لا مجال للشك فيه، وأن الحرام المحض بيّن لا يختلج في القلب الجهل به ولكن بينهما أمور مشتبهات لا يعلم أكثر الناس حقيقة الحكم فيها، هل هي من الحلال أو من الحرام. ومفهوم الحديث أن القليل من الناس - وهم أهل العلم والمعرفة - يعرفون حكم الله في هذه المشتبهات فيلحقون الحلال بنظيره من الحلال، والحرام بنظيره من الحرام.
فالذي يُخاف عليهم من الوقوع في الحرام عند مقاربتهم للمشتبهات هم العوام الذين تخفى عليهم غوامض الأحكام ويتجاسرون على الأشياء المشتبهات بدون سؤال عن الحلال والحرام، كما أن العلماء ينبغي أن يتركوا المشتبهات عندما يخفى عليهم طريق الحكم فيها، لحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»([15]).
ثم إن هذه المشتبهات تقع في العقود والشروط والمبايعات والأنكحة والأطعمة والرضاع، وقد ترجم عليها البخاري في صحيحه، قال: باب تفسير المشبهات، ثم ساق بسنده عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني قد أرضعتكما، فسأل النبي ﷺ فقال: «كيف وقد قيل؟»، ففارقها عقبة ونكحت زوجًا غيره.
ثم ذكر حديث عبد الله بن زمعة مع عتبة بن أبي وقاص، حيث قال: فأمر سودة أن تحتجب عنه مع أنه محكوم بكونه أخاها، لكن لمّا رأى قرب شبهه بعتبة بن أبي وقاص أمرها أن تحتجب عنه وهو من باب اتقاء الشبهات. فقال رسول الله ﷺ: «الولد لك يا عبد الله بن زمعة واحتجبي منه يا سودة».
فمن هذه المشتبهات ما يقع مشكلاً مشتبهًا في وقت إلى أن يتصدى له من يخرجه من حيز الاشتباه والغموض إلى حيز التجلي والظهور حتى يصير واضحًا جليًّا لا مجال فيه للاشتباه.
فمن هذا النوع قضية التأمين على السيارات، فهي وإن أشكل على الكثير من الناس حكمها من أجل تجدد حدوثها وغموض أمرها وعدم سبق الحكم من الفقهاء فيها باسمها، فإن لها في الفقه الإسلامي أشباهًا ونظائر ينبغي أن ترد إليها ويؤخذ قياسها منها، كما يرد الفرع إلى أصله والنظير إلى نظيره.
وهذا يعد من القياس الصحيح الذي نزل به الكتاب والسنة وعمل به الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تحقيقه وتطبيقه. كما سيأتي بيانه.
* * *
[15] أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي.
ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله، وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الأصل في العقود الصحة والجواز ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح. قال: وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول، ومالك قريب منه([16]) انتهى.
وقد نهج هذا المنهج العلامة ابن القيم رحمه الله، قال في الإعلام:
الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك عقودًا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح، فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. انتهى([17]).
إذا ثبت هذا، فإن صفة عقد التأمين على حوادث السيارات، وهو أن يتفق الشخص الذي يريد التأمين على سيارته مع شركة التأمين، سواء كان التأمين كاملاً أو ضد الغير، فيدفع قدرًا يسيرًا من المال على تأمينها مدة معلومة من الزمان، كعام كامل بشروط وقيود والتزامات معروفة عند الجميع. من أهمها: كون السائق يحمل رخصة سياقة، فمهما أصيبت هذه السيارة أو أصابت غيرها بشيء من الأضرار في الأنفس والأموال خلال المدة المحدودة، فإن الشركة ملزمة بضمانه بالغًا ما بلغ.
ويستفيد المؤمِّن على سيارته حصول الأمان والاطمئنان على نفسه وعلى سيارته التي يسوقها بنفسه أو يسوقها رجل فقير لا مال له ولا عاقلة، فيستفيد عدم المطالبة والمخاصمة في سائر الحوادث التي تقع بالسيارة متى كان التأمين كاملاً، وتقوم شركة التأمين بإصلاحها عند حدوث شيء من الأضرار بها. ومثل هذا الأمان والاطمئنان يستحق أن يبذل في حصوله نفيس الأثمان.
وليس فيه من المحذور سوى الجهالة بالأضرار التي قد تعظم في بعض الأحوال فتقضي بهلاك بعض النفوس والأموال وقد لا تقع بحال.
وهذه الجهالة مغتفرة فيه كنظائره من سائر الضمانات. فقد ذكر الفقهاء صحة الضمان عن المجهول وعما لا يجب.
قال في المغني: ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالدّيات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام. قال: ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا علمه بالمضمون به لصحة ضمان ما لم يجب.. انتهى.
وهذه هي نفس قضية التأمين على ضمان حوادث السيارات، ثم إن هذه الجهالة في عقد التأمين لا تفضي إلى نزاع أبدًا، لتوطين الشركة أمرها في عقدها على التزام الضمان بالغًا ما بلغ، فلا تحس بدفع ما يلزمها من الغرامة في جنب ما تتحصل عليه من الأرباح الهائلة.
وقد دعت إليها الحاجة والضرورة في أكثر البلدان العربية، بحيث لا يمنح السائق رخصة السياقة إلا في سيارة مؤمنة وإلا اعتبروه مخالفًا لنظام سير البلد، وهذه مما يزول بها شبهة الشك في إباحتها وتتمخض للجواز بلا إشكال.
وفي هذا التأمين مصلحة كبيرة أيضًا، وهي أن المتصرفين بقيادة السيارات هم غالبًا يكونون من الفقراء الذين ليس لهم مال ولا عاقلة، فمتى ذهبت أرواح بعض الناس بسببهم وبسوء تصرفهم فلن تذهب معها دياتهم لورثتهم، بل يجب أن تكون مضمونة بهذه الطريقة.
إذ من المعلوم أن حوادث السيارات تقع دائمًا باستمرار، وأن الحادثة الواحدة تجتاح هلاك العدد الكثير من الناس، ومن الحزم وفعل أولي العزم ملاحظة حفظ دماء الناس وأموالهم.
وهـذا التأمين وإن كان يراه الفقير أنه من الشيء الثقيل في نفسه ويعده غرامة مالية عليه حال دفعه لكنه يتحمل عنه عبئًا ثقيلاً من خطر الحوادث، مما يدخل تحت عهدته ومما يتلاشى معها ما يحس به من الغرامة لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية.. والله أعلم.
* * *
[16] ج2 من الفتاوى القديمة ص326. [17] ج2/ص34.
إن العقود والشروط والشركات والمبايعات كلها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، بخلاف العبادات، فإنها مبنية على التشريع والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، والفرق بينهما هو أن العبادات حق الله، يؤخذ فيها بنصوص الكتاب والسنة.
أما المعاملات، فإنها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، إذ هي من حقوق الآدميين بعضهم مع بعض، بحيث يتعامل بها المسلم مع المسلم والمسلم مع الكافر.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإنه ليس عندنا نص صحيح ولا قياس صريح يقتضي تحريم هذا التأمين يعارض به أصل الإباحة أو يعارض به عموم المصلحة المعلومة بالقطع؛ إذ العقود والشروط عفو حتى يثبت تحريمها بالنص أو بالقياس الصحيح.
والتحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا كما حققه أهل الأصول، وهذه الشركة المنعقدة للتأمين إن رأت في نفسها من مقاصدها أو رآها الناس أنها تجارية استغلالية، لكن حقيقة الأمر فيها والواقع منها أنه يتحصل منها اجتماع المنتفعين منفعتها في نفسها في حصول الأرباح لها ومنفعة الناس بها، فهـي شركة تعاونية محلية اجتماعية تشبه شركة الكهرباء والأسمنت وغيرهما، فكل هذه الشركات تدخل في مسمى التعاون بين الناس؛ لأن الشخص غني بإخوانه قوي بأعوانه ويد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فهي من جنس المشاركة بالوجوه ومشاركة الأبدان ومشاركة المفاوضة.
وقد حصل الخلاف قديمًا بين الفقهاء في جواز هذه المشاركات، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها، كما حصل الخلاف في شركة التأمين على حد سواء، ثم زال الخلاف عن هذه الشركات كلها واستقر الأمر على إباحتها على اختلاف أنواعها.
ووجه الإشكال دعوى دخولها في مسمى الجهالة والغرر الذي نهى عنه الشارع.
كما روى مسلم في صحيحه، قال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر([18]).
وفسر هذا الغرر المنهي عنه بثلاثة أمور:
أحدها المعدوم: كبيع حبل الحبلة، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع ما ليس عندك ونحوه.
الثاني بيع المعجوز عن تسليمه: كبيع الآبق.
الثالث المجهول المطلق: كبعتك عبدًا من عبيدي أو ما في بيتي، ومنه بيع الحصاة وبيع الملامسة والمنابذة وضربة الغائص وبيع الحظ والنصيب المسمى باليانصيب.
فكل هذه داخلة في بيع الغرر المنهـي عنه شرعًا؛ لكونها يقع فيها النزاع غالبًا نظير ما يقع في القمار، فإن هذا العبد الآبق إنما يبيعه صاحبه بدون ثمن مثله مخاطرة، فإن تحصل عليه قال البائع: غبنتني، فإن لم يجده قال المشتري: غبنتني ردّ علي ثمني.
وهذا المعنى منتف في هذه المشاركة التي مبناها على التعاون الاجتماعي الصادر عن طريق الرضا والاختيار بدون غرر ولا خداع.
فجواز المشاركة هذه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محذور، إذ هي مصلحة محضة للناس بلا فساد.
غير أن فيها تسليم شيء من النقود اليسيرة في توطيد تأمين السيارة ومن السهل أن يختصرها الشخص من زائد نفقته كذبيحة يذبحها لأدنى سبب أو بلا سبب؛ لأن كل عمل كهذا فإنه يحتاج بداعي الضرورة إلى مال ينظمه ويقوم بالتزام لوازمه، وليس عندنا ما يمنع بذل المال في التزام الضمان. كما قالوا بجواز: اقترض لي ألفًا ولك منه مائة. وأنه جائز، ومنه ضمان الحارس بأجره.
فصحة هذا الضمان والتزام لوازمه يتمشى على نصوص الإمام أحمد وأصوله.
قال في المغني: دلت مسألة الخرقي على ضمان المجهول كقوله: ما أعطيته فهو عليّ وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البيّنة أو ما يقرّ به لك أو ما يخرجه الحساب، صح الضمان بهذا كله وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.
قال: وفيه صحة ضمان ما لم يجب، وصحة الضمان عن كل من وجب عليه حق، وفيه صحة الضمان في كل حق من الحقوق المالية الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب. انتهى.
وقال في المغني أيضًا:
ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام. قال: ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا العلم بالمضمون به.
وهذه هي نفس قضية ضمان التأمين على السيارات، فإن شركة التأمين تلتزم ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات كما ذكر جوازه صاحب المغني و الشرح الكبير و الإقناع، ولا يقدح في صحته جهل الضامن للمضمون به ولا المضمون عنه. فنصوص الإمام أحمد وأصوله تتسع لقبولها كنظائرها من الضمانات، وكذلك الإمام مالك وأبو حنيفة كما ذكرنا موافقتهما على ذلك.
غير أن الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.
وإنما وقع اللبس فيها على من قال بتحريمها من علماء هذا العصر، كابن عابدين وغيره من جهة أنهم اعتقدوها قمارًا أو جهالة أو غررًا، أو التزام ما لا يلزم أو كونها على عمل مجهول قد يفضي إلى غرامات باهظة.
ويتمسكون بما بلغهم من العمومات اللفظية والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد يظنونها عامة أو مطلقة وهي لا تنطبق في الدلالة والمعنى على ما ذكروا.
أو يعللون بطلان مثل هذا العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس.
والله سبحانه قد أمر عباده بالوفاء بالعقود في قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. وهو شامل لكل عقد يتعاقده الناس فيما بينهم ويلتزمون الوفاء به، ولم يكن قمارًا ولا ربًا ولا خديعة.
إذ الأصل في العقود الصحة والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه، لكون العقود والشروط والمشاركات من باب الأفعال العادية التي يفعلها المسلم مع الكافر وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع.
فمن أعطى الشركة مالاً على حساب التزام ضمان سيارته بطيب نفس منه والتزمت الشركة لوازمه، فإن مقتضى الشرع يحكم بصحة هذا الضمان، أخذًا من قوله تعالى: ﴿أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. ومن قوله: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ﴾ [النساء: 29]. وفي الحديث «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»([19])، وهذا العوض قد خرج عن طيب نفس من مالك السيارة ومن الشركة، فثبت بذلك إباحته وقواعد الشرع لا تمنعه؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه وربما يجبرون بطريق النظام عليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، لأن المال عزيز على النفوس لا تسخو ببذله إلا في سبيل منفعتها، وفي هذا المقام هو في حاجة إلى تأمين سيارته لحصول الاطمئنان والأمان عما عسى أن ينجم عنها من حوادث الزمان.
وبما أن هذه الشركة هي من ضمن العقود التي أمر الله بالوفاء بها، ومن جنس التجارة الواقعة بين الناس بالتراضي، ومن جنس المشاركة بالأبدان والوجوه والمفاوضة، فإنها أيضًا من جنس الصلح الجائز بين المسلمين، لما روى أبو داود والدارقطني عن سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، والمسلمون على شروطهم» وكثير بن زيد قال فيه يحيى بن معين: هو ثقة. وضعفه في موضع آخر.
وروى الترمذي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله ﷺ قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا الحديث يترقى إلى الصحة بتعدد طرقه، مع العمل عليه بإجماع أهل العلم.
فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد للضمان في تأمين حوادث السيارات يعتبر من التعاون المباح وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركات الكهرباء والأسمنت ونحوها، ويدخل في عموم الصلح الجائز بين المسلمين وإباحته تتمشى على ظاهر نصوص مذهب الإمام أحمد.
قال في الإقناع([20]): ويصح ضمان أروش الجنايات نقودًا كانت كقيم المتلفات أو حيوانًا، كالدّيات، لأنها واجبة أو تؤول إلى الوجوب.. انتهى. وسبق قول صاحب المغني.
وهذه تشبه قضية ضمان التأمين على السيارات، حيث تلتزم الشركة ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كأضرار السيارات ونحوها من كل ما هو واجب بالضمان أو يؤول إلى الوجوب ولا يشترط معرفة المضمون عنه ولا المضمون به.
ولا يقدح في صحة هذا الضمان كون المؤمِّن على سيارته يدفع شيئًا من المال، فإن هذا لا يقدح في صحة الضمان والحالة هذه، إذ ليس عندنا ما يمنعه.
ولا يقدح في صحة هذا الضمان تبرع الشركة بدفع الديات وقيم الأضرار والمتلفات بدون رجوع فيه إلى أحد، فإن هذا كله جائز على قواعد المذهب إذ من المعلوم شرعًا وعرفًا أن الجناية تتعلق بالجاني المباشر لها في خاصة العمد وعلى العاقلة في قتل الخطأ فيما زاد على الثلث من الدية، غير أن التزام الشركة بضمان هذه الجنايات وإن عظم أمرها وعدم الرجوع منها على أحد في غرمها أنه صحيح جائز، وهو مما يجعل الجاني الذي لم يتعمد وكذا عاقلته في راحة عن المطالبة والغرامة، وهو خير من كونهـم يتكففون الناس في سؤال هذه الغرامة أعطوهم أو منعوهم.
وغاية ما يدرَكون عليها هو الجهالة عن قدر الغرامة، وهي مغتفرة فيها كسائر أمثالها من الضمانات والشركات التي لا تخلو من الجهـالة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة، فإن فيها كلها شيئًا من الجهالة. وقد تكلم بعض الفقهاء المتقدمين بعدم جوازها من أجله ثم استقر الأمر على أن مثل هذه الجهالة مغتفرة.
قال في الإقناع: ويصح ضمان ما لم يجب وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التاجر للناس من الديون وهو جائز عند أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة وأحمد.. انتهى.
وقال في الاختيارات: ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة. وتجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازها... لأن ذلك محل اجتهاد.. انتهـى.
فهذه المشاركات وما يترتب عليها من الالتزامات التي هي بمعنى الضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التي يجب أن يقاس بعضها على بعض في الإباحة كشركة الأبدان وشركة الوجوه وشركة المفاوضة، ومثله شركة الكهرباء والأسمنت، ولأن حمل معاملة الناس وعقودهم وشروطهم على الصحة حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان.. والله أعلم.
* * *
[18] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [19] أخرجه أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [20] هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوي.
إن كل مختص في فهم فقه الأئمة الأربعة، فإنه سيعرف تمام المعرفة أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تستصحب الحكم بصحة عقد التأمين على السيارات وأن جوازها يتمشى على مذهبه، كما يوافقه مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة.
ولا نعني بذلك أن الحنابلة ذكروا هذا العقد باسمه وصفته في كتبهم، بل ولا غيرهم من سائر المذاهب لكونها حديثة الاختراع ولكل حادث حديث.
وإنما نعني أن نصوص الإمام أحمد، تتسع لقبولها كسائر نظائرها من الشركات والضمانات وبيع أسهم الشركات.
لكون الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.
لأن نصوصه وإن لم تنص على كل عقد أو شرط باسمه لكنها كافية لحل جميع مشاكل العقود والشروط والشركات بالنص أو الاقتضاء أو التضمن، غير أنها تحتاج إلى فهم ثاقب وتطبيق سليم وتبحر في فقه النصوص والقصود.
وقد اشتهر عند المتأخرين تسامح مذهب الإمام أبي حنيفة في مسايرة التطوّر في العقود المستحدثة، من أجل أن أصحابه نشروا عنه ذلك وهو صحيح، غير أن مذهب الإمام أحمد يمتاز عليه في كثير من المسائل التي تقتضيها الحاجة وتوجبها المصلحة، من ذلك أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تدل على أن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما دل الدليل على التحريم خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما دل الدليل على الإباحة وهو قول الظاهرية. وهو مذهب الشافعي.
ومنها عقد المساقاة على النخل والشجر بالثلث أو النصف أو بشيء مما يخرج منها أو من غيرها أو بالنقود.
فقد أنكرها الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي وقالا: إنها بيع ما لم يخلق وإنها من الإجارة المجهولة وتفضي إلى الغرر.
أما الإمام أحمد فقد أجازها عملاً بحديث خيبر وكما أن الضرورة والحاجة وعموم المصلحة تقتضي ذلك وعليه العمل في هذا الزمان.
ومنها شركة المفاوضة، وهي أن يفوّض كل واحد منهما إلى شريكه التصرف في ماله مع حضور صاحبه وغيبته، فقد قال الإمام الشافعي: لا يجوز. واتفق الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازها.
ومنها شركة الأبدان، فقد قال الإمام الشافعي بمنعها، واشترط الإمام مالك لصحتها اتحاد الصنعة بين الشريكين.
أما الإمام أحمد، فقد أجازها مع اختلاف الصنعة واتفاقها، كما أجاز الاشتراك على الدابة له نصف وللدابة النصف الثاني.
ومنها شركة الوجوه، فقد قال الإمام مالك والشافعي ببطلانها لكون الاشتراك الصحيح يتعلق على المال وعلى العمل وكلاهما معدومان في هذه المشاركة مع ما فيه من الغرر؛ لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود لا بصناعة ولا بعمل مخصوص. هذا حجة من قال بمنعها كمالك والشافعي.
أما الإمام أحمد، فقد قال بجوازها لأنها عمل من الأعمال فجاز انعقاد الاشتراك عليها.
وهذا هو الظاهر من مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها شرط الخيار في البيع، فقد قال الإمام مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز الخيار فوق ثلاثة أيام. إلا أن الإمام مالكًا قال: لا يزاد الخيار على ثلاثة أيام إلا بقدر الحاجة، كأن يصل إلى البلد وهو لا يصل إليها إلا فوق ثلاثة أيام.
أما الإمام أحمد، فإنه قال بجواز شرط الخيار على ما يتفقان عليه زادت المدة أو قصرت حتى ولو زاد على الشهر، لأنه حق ثابت بالشرع فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ويحكم بالملك في مدة الخيار للمشتري له غنمه وعليه غرمه.
ومنها إذا باع شيئًا واستثنى نفعه المباح مدة معلومة غير الوطء ودواعيه، كما لو باع بيتًا واستثنى سكناه حولاً أو أكثر.
فقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعي: لا يصح هذا الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى البيع، أشبه ما لو اشترط ألا يسلمه إليه.
أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزوم ما يترتب عليه، لقصة جابر حين باع بعيره على النبي ﷺ واستثنى حملانه إلى المدينة.
وتأخير تسليم المبيع إلى المدة المحدودة لا ينفي صحة البيع كالدار المؤجرة فإنه يصح البيع فيها مع تأخير تسليمها.
ومنها بيع التلجئة وهي إذا خشي إنسان سلطانًا أو ظالمًا أن ينتزع ملكه منه قهرًا فاتفق مع إنسان بأن يظهر للناس أنه اشتراه منه ليحتمي بذلك من هذا الظالم ولا يريد بيعه على الحقيقة، فإن هذا يسمى بيع تلجئة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعي: هو بيع صحيح، تم بأركانه وشروطه فلزم العقد فيه.
أما الإمام أحمد، فقد قال بعدم لزوم البيع لأنهما لم يقصدا البيع الحقيقي الذي هو انتقال المبيع إلى المشتري، فلم يصح بناءً على ما اتفقا عليه قبل العقد، لكون العقود محمولة على القصود.
ومنها بيع العربون وهو أن يشتري شيئًا فيسلم بعض ثمنه ويقول: إن جئتك ببقية الثمن وإلا فالعربون لك.
فقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هذا لا يصح لأنه بمثابة الخيار المجهول.
أما الإمام أحمد، فقد قال: لا بأس به وفعله عمر وأجازه ابن عمر، وضعّف حديث النهي عن بيع العربون.
ومنها لو اشترطت الزوجة في صلب العقد بألا يتزوج عليها أو ألا يتسرى عليها أو ألا يخرجها من دار أهلها أو بلدها ونحو ذلك.
فقد قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: هذا شرط باطل لحديث «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط»([21])، وحديث «إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا»([22])، وهذا الشرط يقتضي تحريم الحلال من التزوج بغيرها أو التسري أو السفر.
أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزومه، وأنه إن لم يَفِ به فلها الخيار بين البقاء أو فسخ النكاح؛ لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»([23])، وحديث: «المسلمون على شروطهم»([24]).
والقول بصحة هذا الشرط ولزومه يروى عن عمر وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعًا.
وتزوج رجل بامرأة واشترطت عليه دارها فأراد نقلها بغير اختيارها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إذًا يطلقننا. فقال عمر: إنما مقاطع الحقوق عند الشروط([25]).
فهذه العقود والمشاركات والشروط وما يترتب عليها من الالتزامات والضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التي يقاس بعضها على بعض في الإباحة لملاءمتها للمعاملات المستحدثة في هذا العصر والتي لا توجد عند غيره من الأئمة.
وكل ما يصححه من العقود والشروط، فإن لديه دليلاً خاصًّا من أثر أو قياس لكونه يستنبط دلائل مذهبه من مسنده وقد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي ﷺ وعن الصحابة ما لم يبلغ غيره من الأئمة فقال به.
فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد لضمان تأمين السيارات والطائرات والسفن ونحوها، يعتبر من التعاون المباح ويدخل في حدود التعامل الجائز، وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركة الكهرباء والأسمنت ونحوهما.
لأن حمل معاملة الناس على الصحة، حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان لكون العقد الصحيح عند أهل الأصول هو ما يتعلق به النفوذ من بلوغ المقصود ويعقد به. والباطل بخلافه وهو ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به، وهذا الاشتراك وما يترتب عليه مستكمل لشروط الصحة شرعًا.
ومن تأمل هذا تبين له أن جواز هذا الاشتراك وإباحة ما يترتب عليه من الربح أنه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محظور.
لكون الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وأصول الإمام أحمد ونصوصه وقواعد مذهبه تقبل مثل هذا العقد وتنافي تحريمه.
لكن بعض العلماء في هذا العصر القائلين بمنعه إنما أخذوه من العموميات اللفظية والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد ظنًّا منهم أنه جهالة أو غرر، وما عارضوا به لم يصح عن الشارع القول بموجبه ولم يدخل في عموم المنهـي عنه في أصل الشرع ولا في نصوص أحمد وأصوله، لكون الجهالة فيه مغتفرة وليست من الغرر المنهي عنه، بل هي من النوع الجائز كسائر أمثاله من الضمانات والشركات.
وبهذا تندفع الاعتراضات وتبقى الأدلة الشرعية كافية للإقناع العلمي الذي تزول به الشكوك والشبهات.
لهذا يجوز للقاضي الشرعي أن يحكم بصحة هذا العقد ولزوم ما يترتب عليه من الضمان.
ومتى صدر الأمر به من الحكومة يتمحض للحتم والإلزام.
وهو يدخل في ضمن عقد الضمان الذي ذكره الفقهاء من الحنابلة والمالكية والأحناف، حيث قالوا بصحة ضمان ما لم يجب وضمان المجهول وضمان أروش الجنايات، سواء كانت نقودًا أو ديات، وكونه لا يشترط لصحة مثل هذا الضمان معرفة الضامن للمضمون عنه ولا قدر المضمون به، فمتى قابل العاقل بين هذا الضمان الموصوف بما ذكر وبين ضمان التأمين على السيارات وجده منطبقًا عليه بجميع صفاته وإن اختلفت مسمياته، وقواعد الشرع تعطي الشيء حكم نظيره. والله أعلم.
* * *
[21] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث عائشة. [22] أخرجه الترمذي والبيهقي من حديث عمرو بن عوف المزني. [23] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر. [24] أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة. [25] أخرجه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في السنن الكبرى.
إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه نصب أعلامًا وحدودًا للحلال يعرف بها الحلال، وأعلامًا وحدودًا للحرام يعرف بها الحرام، فقال: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ﴾ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرماته، وقال: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: 119].
وقد أنزل الله الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فالكتاب هو الهادي إلى الحق، والميزان هو الذي توزن به أعمال الخلق فيعرف عدلها من عائلها، وصحيحها من فاسدها، فترد الفروع إلى أصولها ويلحق النظير بنظيره ويعطى حكمه في الجواز والمنع، كما في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حيث قال: ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ([26]).. انتهـى.
لهذا يعتبر من الجور وعدم العدل إلحاق الحرام بالحلال، وكذا عكسه بحجة رواجه بين الناس أو مسايرته للتطوّر الجديد أو حكم الأنظمة بموجبه ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١﴾ [المؤمنون:71].
لأن كل تعامل أو اشتراك أو اشتراط ينافيه الشرع فهو باطل وإن كان مائة شرط.
إن التأمين على اختلاف أنواعه لا ينبغي أن ينظر إليه بنظرات سلبية سطحية ليس لها غرض إلا في المادة والحصول على المادة والتشجيع على كسب المادة بشتى الطرق الملتوية والحيل المنحرفة عن المكاسب الصحيحة إلى المكاسب الخبيثة.
وربما تحاملوا بالملام والانحناء بالمذام على من قال في الحرام: هو حرام، كأنهم يريدون توسيع الطرق لكسب المال من حلال أو من حرام، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين أخذ المال أمن حلال أو من حرام»([27]).
* * *
[26] أخرجه الدارقطني، والبيهقي في السنن الكبرى. [27] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
هو أن يأتي من يريد التأمين على حياته إلى شركة التأمين، فيتفق معها على تأمين حياته عشرين عامًا أو أقل أو أكثر، في مقابلة شيء معلوم من النقود، كأربعة آلاف أو أقل أو أكثر، يدفعها مقسطة بين عشر سنين كل سنة يدفع مثلاً أربعمائة ريال، على أنه إن مات في خلال هذه المدة المحدودة، فإن شركة التأمين ملزمة بدفع أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا، على حسب ما يتفقان عليه، حتى ولو لم يكمل دفع الأقساط كلها.
فإن دفع بعض الأقساط ثم عجز عن دفع الباقي ذهب عليه كل ما دفعه. وفيه شروط ومصطلحات بينهما، منها كون الشركة تشترط على نفسها أن تدفع ربحًا خمسة في المائة في حالة استمرار عقد التأمين.
ولا شك أن هذا العقد بهذه الصفة باطل قطعًا، ولن تجد له محملاً من الصحة وإن حذلقه من يحتال لإباحته فإن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته.
منها أنها تسليم دراهم مقسطة في دراهم أكثر منها مؤجلة قد يتحصل عليها وقد تفوت عليه في حالة عجزه عن بعض الأقساط، فحقيقتها أنها شراء دين بدين، وشراء دراهم بدراهم أكثر منها، وتشبه بيع الآبق المنهـي عنه في حالة جهالة الحصول على العوض المشروط، وقد يفوت عليه مع رأس ماله ومع ما فيه من الربا وسائر وسائل البطلان، فإنها لا تقتضيه الحاجة ولا توجبه المصلحة ويمجه العقل فضلاً عن الشرع.
والحاصل أن قضية التأمين على الحياة هي من المعاملات المستحدثة الفاسدة لمشابهتها لعقد الميسر حقيقة ومعنى، من باب اجتماع الفرع بالأصل ومساواته له في المعنى والحكم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها.
لأنه بمقتضى تحقيق النظر في حكم هذا العقد، ثم في تطبيقه على ما يشاكله من نظائره، ثم الحكم فيه والميزان العادل غير العائل على ضوء النصوص الصحيحة المبنية على حفظ الدين والنفس والمال. بدراسة عميقة سليمة من الأهواء النفسية والأغراض الشخصية دراسة تبين الأحكام وعللها وشمول مصالحها وترد الأشياء إلى أصولها بدون اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، فإنه حينئذ يتبين بذلك فساد هذا العقد وخروجه عن حدود ميزان العدل والحق.
لأن الحلال هو ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: 119]. وإنما حرم الله الميسر من أجل أنه أكل للمال بغير حق، مع كونه يورث العداوة والبغضاء على أثر سلب المال بغير حق. والله يقول: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188].
والنبي ﷺ قد فصّل ما أجمله الله في كتابه من شؤون تحريم بعض العقود والمعاملات صيانة للأموال عن التلاعب بها بغير حق، فنهى عن بيع الغرر وهو المجهول العاقبة وغير الموثوق بالحصول عليه، كبيع الآبق، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة وضربة الغائص، وبيع ما ليس عندك، كما حرم الربا والميسر وهو القمار، وكما حرم الخمر شربه وبيعه وأكل ثمنه، كما حرم الخداع والغش والكذب.
كل هذه حرمها الشارع من أجل أنها تفضي إلى مفسدة الميسر الذي يثير العداوة والبغضاء بين الناس والذي هو أكل أموال الناس بالباطل.
وقد أخد الناس تتجارى بهم الأهواء في تأمين الحياة حتى أخذوا يؤَمِّنون على أعضاء الإنسان، فبعضهم يؤُمِّن على يده، وبعضهم يؤَمِّن على رجله، وبعضهم يؤَمِّن على صوته([28])، وحيث قلنا ببطلان التأمين على الحياة من أصله، فإنه مقضي للبطلان في أبعاضه من باب الأولى والأحرى، كما قلنا ببطلان الميسر بكل أنواعه.
وقضية عقد التأمين على الحياة هي من نوع ذلك بمقتضى المطابقة والتضمن. فإن المؤَمِّن على حياته يدفع نقودًا قليلة مقسطة في نقود كثيرة مؤجلة وغير موثوق بالحصول عليها، قد تفوت عليه بعجزه عن دفع بقية الأقساط، وقد يفوت عليه معظمها ببقائه حيًّا إلى نهاية المدة المحدودة.
والفرق بينه وبين التأمين على السيارات والطائرات ونحوهما واضح جدًّا، فإن المؤَمِّن على سيارته لا يريد بتأمينها الحصول على نقود أكثر مما دفع ولا أقل لا في حياته ولا بعد مماته، وإنما يريد الأمان والاطمئنان عن الحوادث منها أو عليها، بحيث تتكفل الشركة بضمان ما وقع عليها فقط، وهذا الأمان والاطمئنان هو مما يستوجب أن يدفع فيه نفيس الأثمان والضامن غارم كما ثبت بذلك الحديث بقوله ﷺ: «العارية مؤداة والزعيم غارم»([29]).
فدعوى المبيحين له بأن عقد التأمين على الحياة يقع بالتراضي، وأن شركة التأمين تدفع العوض المتفق عليه بحالة الاختيار بدون إجبار، وأنه لن يثير العداوة والبغضاء كما يثيرها القمار، وأنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف الذين قد تحيط بهم الحاجة والفقر بعد موته. فهذا ليس على إطلاقه ولا يبرر انعقاده.
فدعوى انعقاده بالتراضي يبطله كون العقود المحرمة كلها تقع بالتراضي ولا يحللها رضى المتعاقدين، وقد سبق حكم الله بتحريمها وبطلانها.
وأما دفع الشركة للعوض بمقتضى الرضى بدون أن يقع فيه عداوة ولا بغضاء فهذا ليس على إطلاقه، فمتى أردت أن تعرف عدم صحته فافرض أن رجلاً اتفق مع شخص آخر على تأمين حياته لكون عقد التأمين على الحياة يصح من الفرد مع الفرد كما يصح مع الشركة، إذ الحكم واحد. فاتفق معه على أن يدفع المؤَمِّن على حياته قدر أربعة آلاف أو أقل أو أكثر مقسطة، بحيث يدفع في كل سنة جزءًا منها على حساب تأمين حياته عشرين سنة أو عشر سنين، إن مات في خلال هذه المدة المضروبة لزم الملتزم للضمان خمسون ألفًا أو أربعون على حسب ما يتفقان عليه، بحيث يدفعها إلى ورثة المؤَمِّن لحياته، فبعد إبرام العقد ودفع أول الأقساط توفي المؤَمِّن لحياته أفتراه يدفع هذا القدر الذي التزمه أي أربعين أو خمسين ألفًا إلى الورثة بطريق الرضى والاختيار، أم تراه يتهرب عن الدفع ويعمل ألف حيلة في الامتناع وعدم السماح بالدفع؟ وعلى أثره يقع النزاع بينه وبين خصمه في حالة امتناعه، ثم تنعقد بينهما العداوة والبغضاء أعظم مما يقع بين أهل القمار.
وفي حالة الإصرار على الامتناع تستدعيهما الحاجة والضرورة إلى الترافع إلى القاضي الشرعي ليقطع عنهما النزاع ويريحهما من مشقة الخصام بالحكم بالعدل. أفترى هذا القاضي يحكم بالتزام الملتزم بدفع ما التزم به على نفسه، سواء كان أربعين أو خمسين ألفًا إلى ورثة المؤمِّن على حياته، أم تراه يرد الأشياء إلى أصولها والفروع إلى نصوصها، فيحكم بإرجاع ما قبضه كل واحد منهما، ثم التحاسب فيما لكل واحد منهما أو عليه لا وكس ولا شطط، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩﴾ [البقرة: 279].
وكيف ننسى في مثل هذه القضية حكم رسول الله ﷺ وقضاءه في وجوب رد المال على صاحبه عند تعذر أخذ عوضه؟!
كما روى مسلم في صحيحه عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا؛ بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟».
فهذا حكم رسول الله في مثل هذا العقد الواقع صحيحًا في بداية الأمر وبطريق الرضا والاختيار من كل منهما، ولكنه لمّا لم يقبض عوض ما اشتراه القبض التام الذي يحصل به الانتفاع حكم رسول الله برد الثمن على صاحبه، وكونه لا يحل للبائع أن يأكل مال أخيه بغير حق، والذي لا يحل هو الحرام لكون الأموال محترمة لا يحل أخذها إلا عن طريق الحق.
أفترى شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام وعلى حفظ الدماء والأموال، أفتراه يحكم بفسخ هذا العقد ووجوب رد الثمن على المشتري كاملاً لمّا لم يتحصل على قبض ما اشتراه، ثم يبيح أخذ هذا المال الكثير بدون مقابل من العوض ما عدا الالتزام على نفسه به؟! فلا يقول بصحة هذا العقد وإباحة ما يترتب عليه من العوض إلا من يقول بصحة عقد الميسر، أي القمار وإباحة ما يترتب عليه من المال، إذ هما في الحكم سواء والكل واقع بالتراضي بينهما.
ثم إن العقود المحرمة مقرون بها الشؤم والفشل ومحق الرزق وانتزاع البركة يقود بعضها إلى بعض في الشر كما قيل من أن المعاصي بريد الكفر.
لهذا يظهر من مساوئ مثل هذا العقد أن الورثة من الأولاد والزوجة متى عرفوا من موروثهم تأمين حياته بهذا المال العظيم، أي قدر خمسين ألفًا أو أربعين وخشوا فوات هذا المال بطول حياته وتجاوزه للمدة المحدودة، فإنهم سيعملون عملهم مباشرة أو بالتسبب بالقضاء على حياته حرصًا على الحصول على هذا المال وحذرًا من فواته بطول حياته، لكون المال مغناطيس النفوس يسيل لعابها على حبه والتحيّل على فنون كسبه، مع العلم أن الناس قد ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم وضعف إيمانهم وفاض الغدر والخيانة بينهم.
وقد قص الله علينا خبر من كان قبلنا ليكون لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره.
فقال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَٱدَّٰرَٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٧٢ فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٧٣﴾ [البقرة:72-73]. أي تدافعتم في الخصام.
وذكر ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه هو وارثه فاستبطأ موته فقتله، ثم حمله فوضعه ليلاً على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم، ويقول: أنتم قتلتم عمي. حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال عقلاؤهم وذوو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا نبي الله موسى فيكم؟ فاسألوه، قال: فأتوا نبي الله موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فأمرهم أن يذبحوا بقرة وأن يضربوه ببعضها ففعلوا ذلك فبعثه الله حيًّا سويًّا، فقال: قتلني ابن أخي فلان. فلم يورث قاتل ممن قتله بعد ذلك. ورواه ابن جرير بنحوه.
وتاريخ هذا العصر يحكي عن مثله، وهو أن رجلاً أمَّن حياة والدته لدى شركة التأمين، فبعد إبرام العقد وتسليم بعض الأقساط صنع قنبلة ووضعها تحت كرسي ثم أمر والدته أن تجلس على الكرسي، فثارت بها القنبلة حتى جعلتها قطعًا فذهب إلى شركة التأمين يطالبهم بعوض حياة والدته، فبعد إجراء البحث والتفتيش عرفوا تمام المعرفة أنها خيانة ومكيدة من الولد على والدته حرصًا منه على الحصول على عوض حياتها، وقد اعترف لهم بذلك بعد تحديه بالأمارات والدلائل.
وأما قولهم: إنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف، فإن حسن المقاصد لا يبيح المحرمات ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا﴾ [النساء: 135]. فكم من غني خلف أموالاً كثيرة فاجتاحتها أيدي الظلمة وأجلسوهم على حصير الفقر، أو صار هذا المال سببًا في فسقهم وفسادهم. وكم من رجل نشأ فقيرًا فرزقه الله مالاً كثيرًا، وفي الحديث «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله»([30]) فاحفظ الله يحفظك أي في دينك ودنياك وفي أهلك وعيالك.
ثم إن القائلين بإباحة التأمين على الحياة لمّا لم يجدوا نصًّا يعتمدون عليه ولا قياسًا يستندون إليه، أخذوا يركبون التعاسيف في الصدر والورود ويستدلون بما يعد بعيدًا عن المقصود، شأن العاجز المبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت، أشبه بمن يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب.
من ذلك استدلالهم ببيع الوفاء، وهو أجنبي عن البحث في الحقيقة والمعنى فلا يمت إليه بصفة ولا صلة.
وصفته عند الأحناف هو أن يضع الرجل عقاره الذي تساوي قيمته ألفًا أو ألفين فيضعه عند رجل في خمسمائة أو أكثر ويكتب عليه بيع وفاء، يريدون من هذه التسمية أن يستحل المرتهن غلة هذا العقار ما دام باقيًا في يده بدون أن يرجع عليه مالكه في شيء من قيمة غلته في مقابلة ما ينتفع صاحبه بالدراهم، وإذا تحصل صاحب العقار على النقود استرجع عقاره بدون منازعة، لاعتقاد الجميع بأنه باق على ملك صاحبه.
وقد حدث هذا التعامل بهذه الصفة في بلدان فارس، قيل: في القرن الخامس. وأفتى الكثير من الفقهاء بكونه رهنًا لا ينصرف إلى غيره وإن سموه بيعًا لكون الاعتبار في العقود بالمقاصد وهما لم يقصدا التبايع الحقيقي وهذا هو الصحيح؛ لأنهما إنما قصدا بهذه التسمية محض التوثقة واستباحة الغلة فقط، والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها.
ثم إنه على فرض صحة ما ذكروا من أنه بيع مستقل بحالته وعلى صفته، فإنه مخالف للقياس في صيغ البيوع الصحيحة وما خالف القياس لا يقاس عليه عند أهل الأصول، مع كونه بعيدًا في القياس عن مشابهة التأمين على الحياة([31]).
ثم استشهدوا أيضًا على جوازه بقضية عقد الموالاة عند الأحناف.
وصفتـه أن يقول رجل لآخر: أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عني. فيصح ذلك عندهم ويرثه إن لم يوجد من يرثه بفرض أو تعصيب أو ذي رحم، ويستدلون عليه بما روي عن تميم الداري، قال: سألت رسول الله عمن أسلم على يد رجل؟ فقال رسول الله ﷺ: «هو أحق الناس به محياه ومماته»([32]). وفسروا محياه بالعقل ومماته بالميراث، وينسبون القول به إلى علي وابن عمر وابن مسعود، وهذا الحديث ضعيف جدًّا، قال في المغني: إنه ضعيف لا يصح. وقال الشافعي: الموالاة ليست بشيء.
والإمام أبو حنيفة يعترف على نفسه بأنه مزجي البضاعة من الحديث وقد ظنه صحيحًا فبنى على ظنه القول به وأخذه عنه أصحابه كما في الهداية وبدائع الصنائع وغيرهما، وكان أصل الحديث صحيحًا في بداية الأمر، ثم نسخ الحكم به وانقطع العمل بموجبه.
وأصل الموالاة في بدء الإسلام هو أن النبي ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار فآخى النبي ﷺ بينهم على المؤاساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوي أرحامهم إلى حين وقعة بدر، قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله.
ولهذا يقول الزبير بن العوام: إنا معشر قريش لمّا قدمنا المدينة قدمناها ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخى عمر فلانًا وآخى عثمان رجلاً من بني زريق بن سعد، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، فوالله يا بني لو مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله: ﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦﴾ [الأحزاب: 6]. فرجعنا إلى مواريثنا. وبقيت المناصرة الدينية. ذكره ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم.
فما ينسب إلى عمر وعلي وابن مسعود فمحمول على ذلك في بداية الإسلام وإلا فقد أجمع الصحابة على نسخه، فلم يُحفظ عن أحد منهم القول به ولا الحكم بموجبه.
والوصية بماله كله ممن لا وارث له جائزة في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ولهذا قالوا: وتجوز الوصية بماله كله ممن لا وارث له.
والحكم في الموالاة على العقل هو الحكم في الإرث، على حسب ما ذكرنا وأنه منسوخ، وقد حكم رسول الله ﷺ بإيجاب دية الخطأ على العاقلة كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللهﷺ فقضى رسول الله ﷺ أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وَوَرَّثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يُطَلُّ؟ فقال رسول الله ﷺ: «إنما هذا من إخوان الكهان». من أجل سجعه الذي سجع. فمضى الأمر على هذا وانعقد عليه الإجماع.
فكانت القبيلة تجلس لتوزيع الدية بينهم فيحمّلون كل شخص ما يستحقه على حسب مقدرته وقربه، وهذا من التعاون الواجب بحكم الشرع.
ومن محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد في المعاش والمعاد أن أوجب الله دية الخطأ على من عليه موالاة القاتل ونصرته، حيث إن هذا القاتل هو قريبهم ورحمهم، ولم يتعمد القتل وإنما وقع بغير اختياره وقصده فوجب عليه في خاصة نفسه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله كما أوجب الدية على العاقلة.
ومن المعلوم أن الجناية في الأصل تتعلق بالجاني، فلا يجني جان إلا على نفسه ﴿.., وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ [الأنعام: 164]. أي لا يحمل أحد ذنب الآخر، وكانت الدية في الأصل مائة من الإبل، وفي الغالب أن القاتل لا يستطيع حملها بجملتها فإيجاب الدية مع الكفارة عليه في ماله فيها ضرر عليه لعدم قدرته عليها، وإهدار دم القتيل من غير ضمان فيه ضرر على ورثته.
فكان من محاسن الشريعة أن أوجبت دية الخطأ على أقارب القاتل، أي عاقلته، كما أوجب الله النفقة على الأقارب، فإيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجب الشارع من النفقة على المضطرين ونحوهم، والأقربون هم أحق بالمعروف.
لأن المؤمن كثير بإخوانه غني بأعوانه ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2].
وهذه هي حقيقة التعاون بين الأرحام الواجبة في دين الإسلام.
ولا تحمل العاقلة العمد المحض ولا المال من قيمة عبد ونحوه ولا ما دون ثلث الدية.
والحاصل هو أن الأمة التي يبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال فيكفل أغنياؤهم فقراءهم ويعول أقوياؤهم ضعفاءهم ويعودون بفضل ما أوتوا إلى إخوانهم المعوزين ويعطفون على البائسين والمنكوبين - أنها لا بد أن تتسع تجارتها وأن تتوفر سعادتها وأن تدوم على أفرادها النعمة ما استقاموا على هذه الفضيلة ثم يكونوا مستحقين لسعادة الدنيا والآخرة.
* * *
[28] إن شركة التأمين على الحياة في حالة إبرام العقد مع من يريد تأمين حياته تقوم بعملية الفحص عن صحته وسلامته، فإن كان جسمه غير سليم امتنعوا عن التعاقد معه، أو عرفوا أنه سكير يشرب الخمر امتنعوا عن التعاقد معه على تأمين حياته، لعلمهم أن إدمان السكر يقصم العمر قبل انتهاء العمر المعتاد، ومن صفة الخمر أنها تقصر الأعمار وتولد في الجسم أنواع المضار.
[29] أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والدراقطني والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي.
[30] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي.
[31] نقل مصطفى الزرقا في كتاب التأمين عن محمد يوسف موسى، ص29، قال: ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره، وقال أيضًا ص22: إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التي تفيد المجتمع. قال: والتأمين على الحياة يفيد المؤمّن كما يفيد الشركة.
قال: وأرى شرعًا أنه لا بأس به إذا خلا من الربا. انتهى.
وأخذ الشيخ مصطفى الزرقا يصوب استجادة هذا الاستنباط وكأنه رآه عين الصواب والسداد وجعله بمثابة العدة والعمدة في القياس والاستناد ولا شك أن مشابهة التأمين على الحياة ببيع الوفاء أنه بعيد جدًّا فلا مداناة فضلاً عن المساواة وكيف يقول: إنه لا بأس بالتأمين على الحياة إذا خلا من الربا وهو غارق في الربا إلى الآذان لكون وسائل الربا والبطلان محيطة به من جميع جهاته.
[32] أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده.
إن نظام التعامل والتعاقد في الإسلام لا ينحصر على أشياء معينة من العقود المسماة عند الناس، بل يجوز استحداث عقود أو تعامل تتساير مع العقود الصحيحة مع سلامتها من الربا والميسر وسائر وسائل البطلان.
وفي هذا الزمان لمّا كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات كشركة الكهرباء والأسمنت والأسمدة ونحوها من الشركات الاجتماعية المحلية التي يُفتح الباب فيها لكل مشارك، كُل على حسبه.
بحيث يجتمع في رصيدها مال كثير يقدر بخمسين مليونًا أو أقل أو أكثر، ثم تتوسع هذه الشركة وتنتشر ويكون عندها العقارات والسيارات وسائر الآلات والنقود وغير ذلك من الواردات والصادرات والديون لها وعليها من أجور وحقوق الموظفين وغيرهم.
وإذا أراد شخص أن يخرج بسهمه من الشركة أو مات ميت وله أسهم في الشركة وأراد ورثته أن يبيعوها لحساب تصفية تركته أو لوفاء دينه؛ فمن المعلوم أنه لا يمكن تخليص سهمه في الشركة ناضًّا خالصًا إلا بكلفة ومشقة مما يقتضي توقيف أعمال الشركة وتثمين أموالها وتعطيل سير عملها، لهذا صار من الأمر المصطلح عليه أن كل من أراد أن يخرج بسهمه من الشركة فإنه يجوز له أن يبيعه على غيره ويقوم المشتري مقامه فيما له وعليه.
غير أن بعض أهل العلم يشك في صحة هذا البيع بهذه الصفة بحجة أن المشتري لا يعلم كمية السهم المشترى ناضًّا، وهل فيه ربح أو خسران، وهذا مما يؤكد دخوله في الجهالة أو الغرر أو شراء الدراهم بالدراهم، هذا بعض تعليل من يقول بمنعه.
والصحيح أن بيع الأسهم بهذه الصفة يعتبر جائزًا مباحًا، لكونه من باب المخارجة، وقد أجمع الصحابة على صحتها والعمل بها في قضية مشهورة، حاصلها هو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه توفي عن أربع زوجات إحداهن تماضر الأشجعية وكان قد طلقها في مرض موته، فاستشار عثمان الصحابة فيها فأجمعوا على أنها تستحق الإرث كإحدى الزوجات، فبعد العلم منها بذلك طلبت الخروج من التركة بسهمها، وكان قد خلف أموالاً كثيرة من عقار ونقود وحيوان، ومن ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال من تقطيعه، وخلف ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة. ذكره ابن كثير في التاريخ.
فاتفق ورثته معها على أن يدفعوا لها ثمانين ألف دينار، فقبلت ذلك وجرى الدفع منهم فيه، ولم ينكره أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع منهم على جوازه في زمنهم.
وهذه هي نفس قضية بيع الأسهم من الشركات، سواء سميناه بيعًا أو صلحًا أو معاوضة أو مخارجة، إذ لا مشاحة في الأسماء، مع العلم بالحقيقة. وقال عطاء عن ابن عباس: إنه كان لا يرى بأسًا بالمخارجة يعني الصلح في الميراث. وسميت مخارجة لأن الوارث يُعطَى ما يُصالَح عليه ويُخرِج نفسه من الميراث، والاعتبار في مثل هذه القضية هو بعموم حكمها لا بخصوص سببها فلا يختص الحكم بجوازها بالميراث دون غيره مما يشابهه، بل الحكم في خروج الشخص بسهمه من الشركة كحكم خروج الوارث بسهمه من التركة، سواء وقع بلفظ الصلح أو البيع.
قال الموفق: ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان لا يمكن معرفته للحاجة.
فمتى حصل التبايع فيما لا سبيل إلى معرفته ناضًّا كأسهم الشركات المشتملة على العقارات والسيارات وأنواع كثيرة من الآلات والأثاث والنقود، وبما لها وعليها من حقوق وديون؛ فإنه يصح البيع والحالة هذه، لأنه إنما جاز مع الجهالة لإبراء الذمم وإزالة الخصام، وما روي عن الإمام أحمد من كراهية مخارجة المرأة عن ثُمنها، وأنه لا يصح واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثُمنها ولم يبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة، فمحمول على قصد خديعة المرأة عن حقها في عدم بيان ما خلفه زوجها من التركة.
فكراهة الإمام أحمد لها محمولة على الغش والكتمان من الورثة لمثل هذه المرأة، حيث لم يبين لها ما خلفه زوجها، وهذا شيء منتفٍ في مثل هذه الشركات، كما أنه منتفٍ في قضية ورثة عبد الرحمن بن عوف مع زوجته، وقد سبق إجماع الصحابة على إباحته، وشهادتهم عليه حال وقوعه، مع العلم بجهالة كمية سهمها ناضًّا من كل شيء، لكثرة أمواله من كل الأجناس حتى من جنس الذهب والفضة كما سبق ذكره.
وسواء كانت القيمة من جنس رأس المال أو من غيره، وسواء كان دون رأس ماله أو أكثر منه، لكون الشريك الذي يريد الانفصال يأخذ عوض حقه مع علمه بثبوت أصله، فهو عقد معاوضة كالبيع الصحيح. وغير مانع لصحته جهالة كل من المشتري والبائع لحصول الربح وعدمه، لكونه يصح الصلح عن المجهول، سواء كان عينًا أو دينًا، ولأنه متى صلح الصلح مع العلم بالمبيع ناضًّا بدون رأس ماله أو أكثر منه فلأن يصح مع الجهل به أولى.
وحيث أجمع الصحابة على جوازه في مخارجة امرأة عبد الرحمن بن عوف من جميع مخلفاته حتى الذهب والفضة، فإنه يصح في أسهم الشركة وتدخل النقود تبعًا كحلية السيف؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها فألحقوا النظير بنظيره في حلالها وحرامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، والله أعلم.
* * *
إن كل ما يقع بين الناس من المشاكل في العقود والشروط والمعاملات، فإن له صلة وأصلاً من الفقه الإسلامي يرد إليه ويقاس عليه ويؤخذ صحته وفساده من نصوصه وأصوله.
من ذلك استصناع السلعة، أي طلب عمل صنعة من بناء أو نجارة أو حدادة، وهي عبارة عن إجراء عقد اتفاق بين المالك والمقاول على صفة شيء موصوف من بناء بيت أو سفينة أو أبواب أو شبابيك أو صناديق وغير ذلك.
بحيث يقول المالك للمقاول: أريد أن تبني لي عمارة صفتها كذا وارتفاعها كذا وفيها من الدور كذا وكذا. ثم يستقصي أوصافها اللازمة ويتفق معه على قدر معلوم من المال.
فهذا العقد بهذه الصفة يسمى عند الفقهاء: استصناع السلعة.
والظاهر من مذهب الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة، أنه لا يجوز، لأنه من بيع ما ليس عندك المنهـي عنه شرعًا.
قال في الإقناع([33]): ولا يصح استصناع السلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم.
وخالف أبو يوسف صاحبه الإمام أبا حنيفة، فقال بجواز العقد في استصناع السلعة فإذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت في العقد لزم من كلا الجانبين وليس لأحد منهما الرجوع.. انتهى.
وعلى قول أبي يوسف هذا استقر عمل الأحناف على القول بصحته، وأدرجوه في مجلة الأحكام للحكم به.
وجرى عرف الناس في سائر الأمصار على العمل به وكأنه السبب الذي جعل الناس يتحدثون بأن مذهب الأحناف يساير التطور ويتسع رحبه للمعاملات الحديثة.
وكل شيء تعومل في استصناعه من بناء دور أو سفينة أو أبواب أو ثياب أو قدور أو شبابيك، فإنه يصح على القول بهذا ولا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حال العقد بخلاف السلم.
وليس للمالك إلا أقل ما تقع عليه الصفة.
وإذا لم يقع المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة في العقد فللمستصنع أي المالك الخيار بين قبوله ورده.
فقول الأئمة بمنعه بحجة أنه من بيع ما ليس عنده غير صحيح، فإن هذا العقد مشبه بالسلم الذي محله الذمة والذي يصح في المعدوم وفيما ليس عنده، كما في البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: كان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية: والزيت - إلى أجل مسمى. قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. لكون السلم محله الذمة.
ثم إن العادة والعرف والضرورة قد فرض التعامل بهذه الصفة على الناس في كل مكان وزمان فرضًا إلزاميًّا لا محيص لهم عنه، ولن يجدوا بدًّا منه لفخامة البنايات وسائر المقاولات التي لا يستطيع المالك أن يستقل بالتصرف فيها إلا بطريق الاتفاق مع المقاولين والفنيين والمهندسين.
ومن المعلوم أن العادة والعرف لهما مدخل في الشرع ويقدمان في بعض الصور على الأصل وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه فقال:
باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن.
قال في الفتح: قال ابن منير وغيره: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضى به على ظواهر الألفاظ.. انتهى.
ثم إن العقود والشروط والمعاملات في البنايات وسائر الصناعات هي من الأفعال العادية لا من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع، إذ الأصل في العقود رضى المتعاقدين، ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بمقتضى التعاقد وليس فيها ربا أو قمار ولا نص في المنع منها.
وقد توسع الناس في الاستصناع في هذا الزمان على اختلاف أنواعه حتى صار من أكبر المعاملات، بحيث يتفقون مع المقاولين ومع الشركات على بناء العمارات العظيمة ذات الطوابق والشقق، وكذا المدارس والمستشفيات والطرق وحتى المساجد والبيوت الصغيرة والكبيرة، كلها إنما تبنى غالبًا على سبيل الاستصناع بالصفات المتفق عليها بينهما. حتى صار من الأمر العرفي الجاري به النظام في كل بلد.
ويوجد في نصوص الفقه ما يقرب من صفته وما ينبغي أن يقاس عليه في القول بصحته، من ذلك عقد السلم، فإنه عقد على موصوف في الذمة معدوم حال العقد بثمن مقبوض.
ومن ذلك البيع بالصفة الذي ذكره فقهاء الحنابلة في كتبهم وحكموا بصحته.
والصفة نوعان: صفة معينة، كأن تقول: أبيعك عبدي الفلاني أو بعيري الفلاني الذي صفته كذا وكذا، ويستقصي في أوصافه كما يستقصي في أوصاف السلم.
والنوع الثاني: الصفة غير المعينة، كأن يقول: أبيعك عبدًا أو بعيرًا صفته كذا وسنه كذا، ويستقصي صفاته كما في السلم.
ويصح العقد في كلا الصفتين بشرط أن يسلم الثمن حال العقد قبل التفرّق ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه، كالبنيان ونحوه، فهذا ونحوه مما ينبغي أن يقاس عليه جواز الاستصناع إذ هو نظيره في الحكم والمعنى خلاف ما ذهب إليه الفقهاء من القول منهم بمنعه.
والأصل في الاستصناع أن يعمل الصانع الصنعة في محله كما يعمل النجار الأبواب في موضع نجارته، والحداد يعمل الشبابيك ونحوها في موضع الحدادة، فإن جاء بها مطابقة للأوصاف أخذها المستوصف، وإن لم تطابق الأوصاف ردها على صاحبها.
أما استصناع البناء، فإنه يزيد إشكالاً من جهتين:
الأول: من جهة كون المقاول يعمله في أرض المالك مما لا سبيل إلى رده إلا بهدمه وإتلافه.
والأمر الثاني: أنه بتجدد الأعصار أخذت مسائل الاستصناع التي يلزم بناؤها على مثل ما ذكره الفقهاء تختلف في مثل هذا العقد، حيث أدخلوا فيها أشياء كثيرة من الشروط والتحديدات والغرامات مما يتغير الحكم بدخولها في عقده، أضف إليه إدخال الكثير من الآلات والأدوات المتنوعة الجليلة والدقيقة مما قد يوجد في بلد العقد وقد لا يوجد.
* * *
[33] هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوي.
إن عقد الاتفاق الواقع على بناء العمارات والبيوت والفنادق والمستشفيات وغيرها قد أدخل فيه المتعاملون قيودًا وشروطًا تخرجه عن حكم الاستصناع الجائز الذي ذكره الفقهاء.
من ذلك تحديد مدة الإنجاز ووضع غرامة على ما زاد على المدة المحدودة عن كل يوم كذا وكذا يدفعها المقاول.
وهذه الغرامة بهذه الصفة لم يقل بجوازها أحد من الأئمة الأربعة لا الإمام أحمد ولا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة، وفيها من الأضرار على المقاول ما لا يخفى على عاقل إذ قد تذهب بأعظم مقاولته التي هي بمثابة أجرته وحاصل تجارته، إذ كل المواد الموضوعة في البناء ملك للمقاول.
وقد ذكر الفقهاء من الحنابلة من أنه لا يجوز الجمع بين المدة والعمل في باب الإجارة، وذلك بأن يقول: أريد أن تبني لي دارًا بكذا، بشرط أن تنجز في وقت كذا، لوقوع ما يمنع التنجيز في المدة المضروبة.
وقد قالوا بمنع الجمع بين المدة والعمل في وقت كان البناء فيه سهلاً ميسرًا ولم يكن صعبًا معقدًا.
وحيث إن العادة القديمة في إنشاء المقاولات على البيوت والعمارات وسائر البنايات بأن جميع موادها متساوية متيسرة، بحيث تبنى بالطين والحجارة واللَّبِن وتسقف بالأثل وجريد النخل وتلاص بالطين أو الجص وكل مواد البناء موجودة بداخل البلد أو بمحل العمل والأساتذة والعمال متيسرون وقت الطلب فالبناء كله بسائر أنواعه سهل مبسط غير عسير.
أما الآن وفي هذا الزمان، فقد صارت المقاولات على البنايات ذات الشأن هي من الأمور الصعبة العويصة الشاقة ولا يزال الناس يقومون ويقعدون في المحاكم في خصوص المنازعات والخصومات الناشئة عن الاختلافات في الصفات وتحديد الأوقات وفي الغرامات، ثم إن إدخال الغرامة فيما زاد على المدة المحدودة هي مما أركسها في الجهالة وكانت سببًا في اتساع شقة الخلاف مع الأسباب الناشئة عن عدم التطبيق ودخول الزيادة والنقص والتعديل والتبديل.
وسببه هو أن العمارة الواحدة ذات الشأن والمؤسسة على النظام الحديث يدخل فيها من الآلات والأدوات ما يزيد على خمسين مادة كلها تستجلب غالبًا من الخارج كالبلدان الأوروبية واليابان والهند والصين ونحوها.
مثل الحديد على اختلاف أشكاله وأدوات الكهرباء على اختلاف أنواعها، وكذا السخانات وأنابيب المياه والأدوات الصحية على اختلاف أشكالها، وكذا الأحواض والأصباغ على اختلاف أنواعها والبلاط الثخين والخفيف والأبواب والشبابيك والأسمنت وأشياء كثيرة مما نعرفه وما لا نعرفه.
وكل هذه الآلات والأدوات قد توجد في وقت ولا توجد في وقت آخر مع كونها لا تنضبط غالبًا أوصافها لاختلاف أجناسها.
لهذا رأينا التجار يشكون أزمة تعطيل وصول البضائع التي من جملتها مواد البناء، بحيث يعطون الموعد لوصولها في خلال ستة أشهر، ثم يمضي مع الستة أشهر ستة أشهر أخرى إلى نهاية السنة بدون أن يتحصلوا على وصولها، لأسباب الموانع المقتضية للتأخير من عدم وجود سفن التحميل أو تعطلها أو وقوع إضراب للعمال في بلدها ونحو ذلك.
أضف إلى ذلك أن كل مادة من مواد البناء فإنها تحتاج بطبيعة الحال إلى حذاق وصناع من المهندسين والعارفين لوضع الأشياء في مواضعها اللازمة بها من نجارين وحدادين وصباغين وغيرهم. وليس من الممكن الحصول عليهم وقت طلبهم لكثرة أعمالهم وطلب الناس لهم، فكانوا يعدون الشخص للحضور الأسبوع بعد الأسبوع ومن المعلوم أنه لا يقوم غيرهم مقامهم في إتقان أعمالهم.
وقد لاح الطمع لكثير من المالكين في الغرامة على ما زاد على المدة المحدودة فصاروا يعاملون المقاولين بالترديد والتلديد مما يعرقل سير عملهم بقولهم: هذا لا يصلح وهذا لا يصلح، حرصًا على انسحاب الأيام حتى تزيد على المدة المحدودة فتكثر بسببها الغرامة على المقاول.
لهذه الأسباب صار إنجاز العمل في وقته المحدد يتأخر اضطرارًا لا اختيارًا وحتى التجار الذين لديهم المؤهلات المقتضية لإنجاز عملهم ويبنون لأنفسهم على حسابهم الخاص، فإنهم يقدرون لإنهاء عملهم بعشرة أشهر، ثم يمضي مع العشرة عشرة أخرى بدون إتمامه وإحكامه، وهذا قد صار من الأمر المعروف المألوف عند كافة الناس.
أضف إليه ما يعرض للمقاول من عوز العمال وعدم وجود بعض المواد وكذا ما يعرض له مما يعرقل سير عمله من حوادث الزمان مثل الرياح الشديدة والأمطار والسيول والحر الشديد والبرد الشديد وكل هذه تحكم على المقاول ولا يستطيع أن يحكم عليها.
إذا ثبت هذا، فإن الحكم على المقاول بإلزامه بالغرامة على ما زاد على المدة، مع العلم بهذه الأعذار أنه حكم عليه بالجور وعدم العدل، ونتيجة هذا الحكم هو أن يستبيح المالك أكل مال المقاول وأجرة عمله وعرق جبينه ظلمًا بغير حق؛ لأن الذين فرضوا هذا الشيء سموها غرامة أي ظلمًا ونكالاً.
ولم يصح عن أحد من أئمة المذاهب الأربعة القول بصحته؛ لأن هذا التحديد ووضع الغرامة على ما زاد عليه يقع غالبًا من تكليف ما لا يستطاع كما ذكرنا ذلك والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وإنما وقع منهم على حساب الظن والتخمين في الإنجاز قصدوا به الحث والتحريض، وقد اتفق الأئمة الأربعة على عدم إباحة هذه الغرامة بهذه الصفة. فلا يحكم بإلزامها إلا من يحكم بإباحة الربا والقمار وسائر العقود المنهي عنها مما يتراضى عليه الناس من العقود الفاسدة، والله أعلم.
* * *
إنه عندما تسوء الأوضاع ويستمر النزاع بين المالك والمقاول في البناء المتفق عليه ويتعذر تكميله أو إحكامه إما باختلاف الأوصاف أو عجز المقاول عن الإتمام لفراغ يده من النفقة أو امتناع المالك من بذل الأقساط اللازمة.
ومن المعلوم أن البناء المؤسس يعتبر من مال المقاول غالبًا، كما أن المالك ليس له إلا النقود المدفوعة في حسابه وعند الاختلاف في الأوصاف فإنه ليس للمالك إلا أقل ما يقع عليه الصفة، إذ ما من جيد إلا وفوقه أجود منه.
وحل النزاع وإزالة الخلاف يحصل بإجراء عملية الفسخ بينهما بطريقة سلمية يحفظ بها حق المالك والمقاول بلا وكس ولا شطط ولا ضرر على أحدهما فيها، وذلك بتقويم ما مضى من العمل بالنسبة إلى المقاولة.
فمتى كان المقاول قد أمضى شيئًا من عمل البناء، فإنه يقدر قيمة عمله بالنسبة إلى تقدير مقاولته، فمتى قدر أهل النظر عمل البناء بالنصف من المتفق عليه أُعطي نصف المقاولة، أو قدر بالثلث أُعطي ثلث المقاولة، أو قدر بالربع أُعطي ربع المقاولة، فمتى كانت المقاولة أربعمائة ألف وقدر البناء الذي أمضاه المقاول بأنه ربع المتفق عليه، فإنه يعطى الربع أي مائة ألف ويجري العمل في التقدير والتقويم على هذا الحساب.
لكون الفقهاء والقائلين بجواز استصناع السلعة قالوا: إنها إذا لم تقع على حسب الأوصاف، فإنها ترد إلى صاحبها، كما ذكروا ذلك في بيع الصفة عند اختلافها عن الأوصاف الجاري عليها العقد، فإنها ترد إلى صاحبها.
وهذا محمول على كون الصانع - أي المقاول - يعمل الصنعة في بيته كمثل الأبواب والشبابيك ونحوها.
أما قضية المقاولة على البناء الذي نتكلم عليه والذي يعمل الناس به، فإنه يقع غالبًا في ملك المستصنع - أي المالك - ويتعذر رده عند اختلاف الأوصاف لكون المالك حال البناء ينظر إليه ويتردد عليه دائمًا، فلا يمكن رده وإبطال عمله وهدم بنائه إلا بضرر كبير على المقاول.
لهذا يرجع في تقويم تقديره على حسب ما ذكرنا احتفاظًا بحق كل واحد منهما، ويرجع في العيب والنقص إلى قول أهل المعرفة فيسقط من قيمة المقاولة بحسب ما فيه من النقص والعيب.
فهذا حاصل ما نحكم به، ولكلٍّ رأيه على حسب مبلغ علمه، إذ القضية اجتهادية، والله أعلم.
* * *
يلتحق ببيع الصفة واستصناع السلعة بيع الأنموذج، إذ هو من جنسهما، والأنموذج هو أن يريه شيئًا ويتفق معه على أن المبيع من جنسه.
وقد جرى عمل الناس في هذا الزمان على التبايع بطريق الأنموذج، بحيث تعرض نماذج المبيع على التجار، ثم تستورد من الخارج على حساب ذلك ولا شك أن هذا أبعد عن الجهالة والغرر من بيع الصفة ومن عقد استصناع السلعة، فمتى قيل بجواز التبايع بهما فهذا من باب الأولى.
والظاهر من مذهب الحنابلة عدم جواز بيع الأنموذج، قاله في الإقناع وحاشية المقنع.
فمتى قلنا: إن من شرط صحة البيع معرفة المبيع برؤية أو صفة تكفي في السلم، فإن بيع الأنموذج يعتبر من المعلوم بالرؤية أشبه بوجه الصبرة الدال على معرفة ما تحتها، ومتى اختلف المبيع عن صفة المرئي رده على صاحبه، كما قلنا في تغير الصفة وظهور العيب في المبيع.
قال في الموطأ للإمام مالك: الأمر عندنا في الرجل يقدم له أصناف من البز ونحوه فيقرأ عليه برنامجه ويقول: في كل عدل كذا وكذا ملحفة بصرية وكذا وكذا ريطة([34]) سابرية ذرعها كذا وكذا، ويسمي لهم أصنافًا من البز بأجناسه، ويقول: اشتروا مني على هذه الصفة فيشترون منه الأعدال على ما وصفه لهم، ثم يفتحونها ويستغلون ثمنها ويندمون. قال مالك: أرى ذلك لازمًا لهم إذا كان موافقًا للبرنامج الذي باعهم عليه. قال مالك: هذا هو الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا يجيزونه بينهم إذا كان المتاع موافقًا للبرنامج ولم يكن مخالفًا له.
فإن البرنامج لم يزل من بيوع الناس الجائزة والتجارة بينهم التي لا يرون بها بأسًا؛ لأن بيع الأعدال على البرنامج بدون نشر لا يراد به الغرر ولا يشبه بيع الملامسة المنهـي عنه... انتهى.
وقد صارت عامة معاملات الناس عليه، والله أعلم.
* * *
[34] الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن رفقين. والجمع: رِيَط ورِياط. قاله في مختار الصحاح.
إن كل عارف بنصوص الفقه وأصوله يتبين له أن هذه الأوراق الجاري بها التعامل قد قامت مقام التعامل بالنقود المعدنية من الذهب والفضة وانطبق عليها حكمهما، سواء بسواء في منع بيع بعضها ببعض نَساء وفي ضمانها بالإتلاف وفي وجوب زكاتها، وغير ذلك من سائر الأحكام.
وكان تعامل الناس في قديم الزمان منذ خلق الله الدنيا بالذهب والفضة، ولهما المكانة العالية والقيمة الغالية في نفوس الناس؛ لأنهما قيم نفائس الأموال والمعاملات والأرزاق، كما أنهما من زينة الحياة وجلب الخيرات، يقول الله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ﴾ [آل عمران: 14]. ويقول: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ ٣٤﴾ [التوبة: 34].
وقال عن أهل الكهف: ﴿فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ﴾ [الكهف: 19].
والورق من الفضة كما حكى عن نبي الله يوسف: ﴿وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۢ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ ٢٠﴾ [يوسف: 20].
والدراهم من الفضة وقال: ﴿۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗا﴾ [آل عمران: 75]. والدينار من الذهب، فهما العملتان الدارجتان عند الأمم قبلنا.
فمن حكمة الله ورحمته وجود هذين النقدين وعزتهما في النفوس، وعجز الناس عن صنعة ما يشبههما أو يقوم مقامهما في عزتهما ونفاستهما، على أن أهل الكيمياء قد بذلوا جهدهم وغاية اجتهادهم للحصول على مثلهما فلم يظفروا بذلك([35]).
وقد جرى التعامل بهما زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه وأصحابه باسم الدنانير من الذهب والدراهم من الفضة. فأما الدراهم فنوعان: صحاح ومكسرة، فالصحاح يتبايعون بها عددًا والمكسرة يتبايعون بها وزنًا.
فاستقر عمل الناس ومعاملتهم على الذهب والفضة قديمًا وحديثًا، فكانوا يظنون كل الظن أنه لا غنى للناس عنهما، وأنه لن يقوم غيرهما في التعامل وقيم الأموال مقامهما أبدًا.
حتى روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ ما يدل على عدم التعامل بهما في آخر الزمان، وأن الناس يتبايعون بينهم بدون ذهب ولا فضة.
فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: كيف بكم إذا لم تجتبوا دينارًا ولا درهمًا - وفي رواية: لا صفراء ولا بيضاء - فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنًا يا أبا هريرة؟ فقال: والذي نفس أبي هريرة بيده إنه قول الصادق الصدوق.
فقد وقع مصداق ما أخبر به، بينما السامعون لهذا الحديث قد استغربوا سماعه واستبعدوا وقوعه لظنهم أنه لن تستقيم أعمال الناس ولا معاملتهم بدون ذهب ولا فضة، فوقع كما أخبر. نظيره خبره عن أرض العرب، وأنها لا تقوم الساعة حتى تكون أرض العرب مروجًا وأنهارًا وكانت توصف في الأزمنة السابقة بالأرض العابسة اليابسة قليلة الماء والنماء.
إن أسبق تاريخ عرفناه عن ابتداء اختراع الأوراق المالية والتعامل بها هو ما ذكره ابن بطوطة في رحلته إلى الصين([36]).
قال: وأهل الصين لا يتبايعون إلا بقطع كاغد على قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وإذا تمزقت الكواغد في يد إنسان حملت إلى دار تشبه دار السكة وأبدلت بكاغد جديد بدون أن يعطي شيئًا من العوض عليها، وإذا مضى إنسان إلى السوق بدراهم فضة أو دنانير ذهبًا، يريد شراء شيء لم يؤخذ منه ولم يلتفت إليه حتى يصرفه بالبالشت - أي نقود الكاغد - ثم يشتري به ما أراد... انتهى.
فهذا هو أول تاريخ عثرنا عليه في التعامل بورق الكاغد.
أما بلدان أوروبا فيظهر من تاريخهم أن أسبق من استعمله فرنسا، ويسمى بلسانهم (بنك نوت)، ففي أشهر القواميس للغة الفرنسية، لصاحبه لاروس قال في تعريفه:
ورقة البنك هي ورقة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع على حاملها وهو يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية من الذهب والفضة، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها... انتهى.
فاستقر عمل الناس في التبايع بينهم بالأوراق النقدية كنقود معدنية، وذلك في كل مكان ولكل زمان دولة ورجال. وصارت هذه النقود بمثابة الأجناس المتنوعة أشبه الذهب والفضة فلكل دولة نقود تسمى باسمها، فيجوز التبايع بين هذه النقود متفاضلاً بشرط الحلول والتقابض حال العقد، ولا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة كالذهب مع الفضة، كما سيأتي بيانه.
* * *
[35] إن كلمة الكيمياء كلمة عبرانية يراد بها حق وباطل، أما الباطل فقد قالوا في تعريفه: إنه علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصها، وإفادتها خواص لم تكن لها كأن يجعل الحصى ذهبًا. وأول من تكلم في هذا العلم ووضع فيه الكتب خالد بن يزيد بن معاوية وأخذه عنه تلميذه جابر بن حيان وهو أول من نشره، وقد أنكر المحققون من العلماء هذا العلم الموهوم وبينوا بطلانه، لأن قلب الحصا ذهبًا لا يمكن أبدًا، وأنشدوا في ذلك:
كجوهر الكيمياء ليس يرى
من ناله والأنام في طلبه
ولما درس بعض المغترين بكتب جابر بن حيان ورأى أنها لا تفيدهم علمًا ولا تعود عليهم بطائل، كتب عليها:
هذا الذي بمقاله
غر الأوائل والأواخر
ما أنت إلا كاسر
كذب الذي سماك جابر
وكثير من مشاهير الأدباء قد فتنوا بطلب هذا العلم الباطل حرصًا على حصول المال من غير طريق الكسب المعتاد؛ ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: من طلب المال بالإكسير افتقر، والإكسير شيء يزعمون أنه إذا وضع على الحصا انقلب ذهبًا، ولما عجز بعض المغترين بطلبه عن إدراكه أخذوا يعللون عن عدم نجاحهم بمقاومة الحكام لهم، ويقول الطغرائي:
ولولا ولاة الجور أصبحت والحصا
بكفي أنى شئت در وياقوت
وهو كاذب في ذلك، بل سبب عدم نجاحه بطلانه في نفس الأمر والواقع؛ لأن هذا العمل بهذه الصفة مبني على الآمال والأماني الكاذبة التي هي رأس أموال المفاليس فهم يطلبون المال بالكيمياء ولا يزيدهم هذا الطلب إلا فقرًا، وهذا العلم وهذا العمل قد أنكرته العقول وترفعت عن الاعتراف بصحته وقد قيل:
أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب
أن يصنعوا ذهبًا إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة
إلا من الفضة المعروفة النسب
أما الكيمياء الصحيح: فهو العلم الذي يبحث عن المعادن والنباتات وطبقات الأرض، وما أودع الله فيها من الذهب والفضة والبترول وسائر الكنوز والنباتات والأدوية، وسائر المنافع باستخدام الوسائل من كل ما يؤهلهم إلى الوصول إلى الغاية وإدراك المقصد حتى توصلوا به إلى ما تحصلوا عليه من مطالبهم ومعارفهم النافعة؛ من المخترعات والصناعات الباهرة والأدوية الطبية وغير ذلك من الاختراعات النافعة، حتى صار اللؤلؤ الصناعي يشبه الطبيعي والدهن الصناعي يشبه الطبيعي والصوف الصناعي يشبه الطبيعي كله من ثمرة العلم بالكيمياء الصحيح الذي يشهد بصحته الحس والواقع، حيث دخلوا على العلم به من بابه واستخدموا في الحصول عليه سائر وسائله وأسبابه، وما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما علموا.
[36] ص160 الجزء2 من الرحلة. واسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، رحل إلى الهند والسند والصين وكثير من الأقطار وإلى اليمن والحجاز ثم استوطن فارس وانتهى من تحرير رحلته في 757 هجرية. وترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة لكنه لم يذكر تاريخ وفاته، كما أننا لم نعثر عليها والله أعلم.
إن للعلماء أقوالاً مختلفة في الحكم في الأوراق المتعامل بها، أي فيما يتعلق بالتعامل بها وفي تحقيق المناط في إلحاقها بشيء من العقود المتعامل بها وفي حكم زكاتها، وفي حكم بيع بعضها ببعض نسيئة.
فبعض الفقهاء ألحقها بالعروض وبعضهم ألحقها بالسند على البنوك.
ويظهر أن هذه الأقوال صدرت منهم حال ابتداء اختراع التعامل بها وعدم الثقة بها في ابتداء أمرها، حيث جعلها بعضهم بمثابة العروض وبعضهم جعلها بمثابة الدين على البنوك الذي لا يثق به حتى يقبضه، فهي سند على نقود دين لم تقبض، هذا حاصل الأقوال منهم حالة ابتدائها وهو اجتهاد منهم يؤجرون عليه غير أن الاجتهاد يتبدل كما قال عمر في مسألة المشركة: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي([37]).
إن حاصل الأوراق المالية في ابتداء أمرها حال اختراع التعامل بها كانت تصدرها الحكومات على اختلاف أجناسها، وتلتزم دفع المبلغ المكتوب عليها ذهبًا كان أو فضة، فحامل ورقة الذهب يقبض ذهبًا وحامل ورقة الفضة يقبض فضة من غير تأخير، فجرى العمل بذلك أزمانًا متعددة.
أما الآن وفي هذا الزمان، فقد زال هذا الالتزام؛ لأن الحكومات على اختلاف أجناسها أخذت تسك أوراق العملة بدون ملاحظة لما لديها من ذهب أو فضة، فهـي تتمشى على عز الدولة وقوتها وسياستها في نظام تقوية عملتها، مما يقتضي الثقة بها وقبول البنوك لها.
إذ ليس في الإمكان الآن أن تدفع الحكومة ما لديها من ذهب وفضة إلى من بأيديهم الأوراق المتعامل بها، وإنما تحتفظ بالذهب والفضة في خزائنها، مع التزامها لسير عملتها وتعزيزها في التعامل بها كذهب وفضة.
ومن نظر إلى الأشياء بعين المعقول وطبقها على قواعد النصوص والأصول يتبين له بطريق الوضوح أن حكمة التشريع تقتضي جعل هذه الأوراق المتعامل بها بمثابة الذهب والفضة على حد سواء، بحيث تجعل ميزانًا للتعامل كالنقود المعدنية في البياعات وفي الديات وقيم المتلفات وأروش الجنايات وفي دخول الربا عليها ووجوب الزكاة فيها.
وليس عندنا ما يمنع جواز اختراع الناس لنقود من القرطاس أو النحاس أو الرصاص، يتعاملون بها كتعاملهم بالذهب والفضة، لا سيما إذا كانت هذه العملة مضمونة عن طريق الحكومة والبنوك فيتعلق بها من الأحكام وأمور الحلال والحرام ما يتعلق بالذهب والفضة والفلوس على حد سواء.
وبذلك يتبين أن الأوراق المالية على اختلاف أجناسها تقوم مقام الذهب والفضة في المنع من بيع بعضها ببعض نسيئة، وينطبق عليها - حكمًا ومعنى - ما ينطبق على بيع الذهب والفضة نسيئة؛ لما روى الخمسة وصححه الحاكم عن ابن عمر، قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء»، وفي البخاري و مسلم عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب، قالا: نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالورق دينًا. وفي البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز».
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، أن النبي ﷺ قال: «الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء» يعني هاك وهات([38]).
ولهما من حديث عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلاً بمثل يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد»، فكل هذه النصوص تتظاهر وتتفق على وجوب الحلول والتقابض حال العقد في النقدين. وإنما خص النبيﷺ الذهب والفضة بالذكر لكونهما المعيار الثابت في التعامل بهما في زمنه، حيث جُعلا قيمًا للأموال والمتلفات والديات وأروش الجنايات وبعض الكفارات.
وليس الحكم مخصوصًا بهما ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما ويعمل عملهما في الثمنية؛ لكون الحكمة في منع بيع بعضها ببعض نسيئة لم يكن من أجل نفاستهما أو صلاحيتهما للسبك والتحلي أو جعلهما خزانة نفيسة مدخرة، كل هذا لم يكن مرادًا من مقاصد الشارع، لأن هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله وعند رسوله، إذ هي والقرطاس سواء.
وإنما الحكمة هو عموم المصلحة في استقرار العملة وثباتها، بحيث لا تجعل كالعروض تهبط وترتفع ويزول منها الاستقرار والثبات الذي أُريد بها من أثمان المبيعات وقيم المتلفات والديات وأروش الجنايات والكفارات، ولهذا نهى رسول الله ﷺ عن كسر السكة الرائجة بين المسلمين.
وهذا مما يؤيد القول في علة المنع من بيع بعضها ببعض نسيئة، وأنه الثمنية كما هو الظاهر من قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، ورجح هذا القول العلامة ابن القيم في الإعلام، وقال: إنه أصوب الأقـوال وأعدلها وهو أرجح من قول من قال: إن العلة فيهما كونهما موزونين كما هو الظاهر من مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد.
والقواعد الشرعية والقياس الصحيح يعطي النظير حكم نظيره ويسوي بينهما في الحكم ويمنع التفريق بينهما والاستدلال بالملزوم على لازمه وتعديه هذا الخصوص إلى العموم، لأن الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولما قامت الحجة على الناس في سائر أحكام الكتاب والسنة.
كما أن الصحابة رضي الله عنهم يقيسون الأشياء بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويلحقون بعضها ببعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم قاعدة تحقيقه وتطبيقه.
فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها، فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الدنانير بالدراهم ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة رحمة منه بأمته، ومن المستحيل أن يشرع من التبايع بهذه الأوراق النقدية ما يسقط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حرمه من التوصل إلى الربا - الذي لعن آكله ومؤكله وآذنه بحرب من الله ورسوله وشدد فيه الوعيد - لما يشتمل عليه من المفسدة في الدنيا والدين، ومع هذا يتحايل بعض الناس في التوصل إلى هذا الأمر المحرم بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم أن حكم النظير حكم نظيره وإنكار التفريق بين المتماثلين، فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل.
فالذهب والفضة مع الأوراق المتعامل بها وإن اختلفا جنسًا، فقد اتفقا حقيقة ومعنى لاعتبار كل منهما قيمة للأموال وتضمن بالإتلاف، ومتى كان الربوي يشارك مقابله في المعنى فإنه يشاركه في حكمة المنع، إذ لا يمكن أن ينهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالفضة دينًا، ثم يرخص فيما يماثلهما ويقوم مقامهما في الثمنية إذ الأحكام الشرعية تعطي النظير حكم نظيره.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العُمَل بعضها ببعض نسيئة هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الدراهم بالدنانير نسيئة.
لأن التبايع بهذه الصفة يفسد استقرار هذا النقد في الثمنية ويلحقه بعروض التجارة المعرض للارتفاع والهبوط وعدم الثبات والاستقرار، فيختل بذلك نظام التعامل من التقديرات للديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات وبعض الكفارات.
وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي هو ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128]. ولم ينه عن شيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وقد ظهر من ضرر هذا أنه يقود فاعله إلى ربا الفضل ثم إلى ربا النسيئة، ثم يترتب عليه المضرة الكبيرة من تراكم الديون على المعسر لسهولة الاستدانة بهذه الصفة.
ولأن صاحب الدراهم متى انفتح له باب الطمع في بيعها بدراهم مؤجلة خف عليه تحصيل الزيادة عن طريق الربا بدون تعب ولا مشقة، فيعامل بذلك المعسر وغير المعسر، فيفضي إلى انقطاع منافع الناس بالتجارات والأرباح المباحة، وينقطع المعروف بين الناس من القرض الذي يراد به الإرفاق والإحسان للمحتاج وقد قيل: إنه أفضل من الصدقة لكونه يقع عن حاجة. وقد أوجب الله إنظار المعسر بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ﴾ [البقرة: 280]. فقلب الدَّيْن عليه ربًا.
ولأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود سهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل ثم يقوده إلى ربا النسيئة ثم إلى المأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ.
إن المشاهدة في الحاضرين هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين.
لقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة رأيناهم قد وقعوا في ربا الفضل ثم قادهم إلى ربا النسيئة، وأخذت البنوك ترابي عليهم وهم نائمون على فرشهم؛ لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة -أي الجاهلية- الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن ولعن رسول الله ﷺ آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه من بين الأنام، وحقيقته أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء قالوا له: إما أن تقضي وإما أن ترابي، فيزيد من الربح ويمد له في الأجل حتى يصير القليل من الدين كثيرًا، ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء ولم يحرمه الله ورسوله إلا رحمة بالأمة لكونه يقوّض بالتجارات ويوقع في الأزمات والحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات([39]).
وقد شوهد بالاعتبار أن كثيرًا من التجار الذين كانوا يخوضون في استدانة النقود من البنوك بلا مبالاة، لقصد التوسع في التجارات رأيناهم يجرون الويلات على أثر الويلات من جرّاء أضرار المراباة.
إذ قد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات وعدم إنفاقها في سائر الأوقات، أضف إليه ما يعرض لهم من حوادث الزمان فيعجزون عن وفاء ما عليهم من الديون فتضاعف عليهم البنوك على سبيل التدريج ما استدانوه حتى تستأصل حاصل ما بأيديهم من الأموال والعقارات، وصدق الله العظيم ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. ولهذا حمى النبي ﷺ هذا الحمى وسد الطرق التي تفضي إليه فحذر عن مقاربته رحمة منه بأمته ولا يجني جان إلا على نفسه وكل امرئٍ بما كسب رهين.
وسر الحكمة أن من قال بجواز بيع أوراق العملة بعضها ببعض نسيئة، واعتبرها كعروض، فقد فتح للناس باب الربا على مصراعيه وأباحه لهم بنوعيه وقادهم إلى فعل ما نهاهم عنه رسول الله.
لكن ها هنا أمر ينبغي أن لا نغفل عنه لعموم البلوى به.
وهو أن التجار الذين يستوردون أصناف البضائع من الخارج مثل البلدان الأوروبية وأمريكا واليابان والصين والهند وغيرها، فإنهم بداعي الضرورة يحتاجون إلى فتح اعتماد عن طريق أحد البنوك فيشترون النقود التي يريدون تحويلها بما يسمونها العملة الصعبة من البنوك، بحيث تدفع في محل ما يستوردون منه البضائع بنقود حاضرة ويأخذ صاحب البنك عليها شيئًا من النقود اليسيرة في سبيل قيامه بإجراء عملية التحويل كأجرة.
وهي نفس قضية شراء النقود الغائبة بنقود حاضرة لكنها أقل منها ضررًا وخطرًا لأنها ليست من البيع بالنسيئة الذي نهى عنه النبي ﷺ وإنما هي من باب شراء نقود بنقود حاضرة ثم إجراء عملية التحويل في هذه النقود إلى البلد الذي يريده.
فلو قيل بالمنع لتعطلت أعمال الناس ومعاملاتهم وكسدت تجاراتهم، إذ من المعلوم أن السفر بالنقد ممنوع.
ومن نصوص الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما.
لهذا نرى أنه لا بأس لهؤلاء التجار من شراء النقود الغائبة بالنقود الحاضرة لدعاء الحاجة إلى ذلك، فيشتري من النقود قدر حاجته قليلاً كان أو كثيرًا، كما يجوز للتاجر والصراف البيع عليه بهذه الصفة وتكون هذه القضية كالمستثناة للضرورة لثبات الرخصة الشرعية في أشياء من ربا الفضل مما تدعو إليه الحاجة، كبيع العرايا بخرصها من التمر مع جهالة التماثل وكبيع السيف بفضة، إذ لو قلنا بالمنع تمشيًا مع النهي بدون نظر إلى الضرورة لتعطلت أعمال الناس ومعاملاتهم([40]). والله أعلم.
[37] أخرجه الدارقطني والدارمي والبيهقي في الكبرى. [38] قد حصل الخلاف قديمًا بين الصحابة في بيع الربوي بجنسه متفاضلاً إذا كان حاضرًا، كصاع تمر بصاعين. وممن روي عنه القول بذلك ابن عمر وابن عباس، واستدل ابن عباس على الجواز بما روى البخاري في صحيحه، عن أسامة بن زيد، أن النبي ﷺ قال: «لا ربا إلا في النسيئة» ورواه مسلم في صحيحه بلفظ: «إنما الربا في النسيئة» ولما حدثهم أبو سعيد الخدري بقول النبي ﷺ: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض» وحدثهم بقصة العامل حين جاء إلى النبي ﷺ بتمر جنيب، فقال رسول الله ﷺ: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال رسول الله ﷺ: «لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»، فعند ذلك رجع الصحابة كلهم إلى قول أبي سعيد حتى ابن عباس، فقد شك بعضهم في رجوعه، والصحيح أنه رجع، وقال: أنتم أعرف منا بهذا أستغفر الله. ثم كان ينهى عنه أشد النهي. قاله في فتح الباري. والجمع بين هذا الحديث وبين حديث «لا ربا إلا في النسيئة»، أي الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد هو في ربا النسيئة كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد. مع أن فيها علماء غيره، ومنه: لا سيف إلا ذو الفقار. و: لا فتى إلا علي. ومثل حديث: «لا صلاة بحضرة طعام»، فهو نفي الأكمل لا نفي الأصل. على أن حديث أسامة مفهوم وحديث أبى سعيد منطوق والمنطوق مقدم على المفهوم. قاله في الفتح. [39] قال العلامة ابن القيم في الإعلام: الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم. والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي. فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذا حل الدين قالوا: إما أن تقضي وإما أن ترابي، فيؤخر قضاء دينه من أجل عسرته ويزيده في المال وكلما أخّره زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق للدين يصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له أو عوض يقبضه ويزيد مال المرابي فيأكل مال أخيه بالباطل، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم هذا الربا ولعن آكله ومؤكله وآذن متعاطيه بحرب من الله ورسوله ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره؛ ولهذا كان من أكبر الكبائر. انتهى (الإعلام: ص265/ج2). [40] قال العلامة ابن القيم في الإعلام (ص267- ج2): وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع فمنعوا منه لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا دراهم بدراهم أكثر منها تدرّجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة وهذه حكمة معقولة تسد عليهم باب المفسدة، وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان أي النقود بجنسها متفاضلاً أو نسيئة؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ويقودهم إلى ربا النسأ في الجنس والجنسين وربا الفضل في الجنس الواحد وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر أي ربا الفضل تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يُبَح شيء من ربا النسيئة. أما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كالعرايا؛ لأن ما حرم سدًّا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، بل إن ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال سدًّا لذريعة التشبه بالنساء، وقد أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه، كما رخص النبي ﷺ للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لباس الحرير من حكّة كانت بهما وكذلك عرفجة بن أسعد، قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من ذهب، وكذا ينبغي أن يباح بيع الحلية المصنوعة صياغة مباحة بأكثر من وزنها وتجعل الزيادة في مقابلة الصنعة.
إن الأوراق المتعامل بها هي بمثابة النقود من الذهب والفضة على حد سواء في سائر أحكامها من زكاتها وغير ذلك.
وإنما سميت الزكاة زكاة من أجل أنها تزكي المال أي تنميه وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه كما أنها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]. وقد صارت الأوراق المتعامل بها من أنفَس أموال التجار.
إن حكمة التشريع توجب الاحتفاظ بحق الفقير في ضمن الاحتفاظ بمال الغني؛ لأننا نجد البنوك مكدسة بالأوراق المالية وديعة للناس وبعضهم يحتفظ بماله في خزانة بيته وتبقى السنين الطويلة لا يؤدى منها الحق الواجب عليه من زكاتها.
وزكاة الأوراق هي بمثابة زكاة النقود من الذهب والفضة، فمتى ملك الإنسان من هذه الأوراق ما يقدر بمائتي ريال وحال عليها الحول وجب عليه فيها الزكاة ثم يجري الحساب على ذلك في أربعمائة عشرة ريالات وفي أربعة آلاف مائة ريال وفي أربعين ألفًا ألف واحد.
فحكم الورق المالي حكم الذهب والفضة في الزكاة؛ لأنه يتعامل بها كالنقدين تمامًا وعليها يحمل قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح، قال: «لا ألفين أحدكم يوم القيامة يأتي وعلى رقبته رقاع تخفق فيقول: يا محمد أغثني فأقول: لا أملك لك شيئًا قد بلغتك»([41])، والرقاع: هي الأوراق المتعامل بها على اختلاف أجناسها.
ومن له وديعة نقود في البنك أو عند تاجر من التجار، فإنه يجب عليه زكاتها عند رأس الحول، سواء زكاها من الوديعة نفسها أو من النقود التي معه لكون الزكاة تجب في الذمة، فهؤلاء الذين يودعون النقود في البنوك ثم لا يؤدون زكاتها هم آثمون عاصون، وجدير بهذه النقود التي لا تؤدى زكاتها أن تنتزع منها البركة ويحل بها الشؤم والفشل ويحرم صاحبها من الانتفاع بها في الدنيا ويعذب بها في الآخرة، لأنها ما بقيت الزكاة في مال إلا أهلكته وكل ما لا تؤدى زكاته فإنه يعذب به ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥﴾ [التوبة: 35].
أما الأسهم في الشركات كشركة الأسمنت وشركة الكهرباء وشركة الأسمدة وشركة الملاحة وسائر الشركات، فإنه يجب فيها على صاحبها الزكاة عند رأس كل حول، بحيث يخرج زكاة رأس ماله بالغًا ما بلغ، وإذا تحصل فيما بعد على شيء من الربح زكاه من حين يقبضه؛ لأن ربح التجارة ملحق بالتجارة.
وإن كانت قيمة الأسهم منخفضة عن رأس المال لكساد الشركة، بحيث إن سهم الألف لا يساوي في السوق إلا تسعمائة، فإنه يخرج زكاة تسعمائة فقط ويجري الحساب على ذلك.
والعقار قد أصبح في هذا الزمان من أنفَس مال التجار وأخذ الناس يصرفون جل أموالهم في بناء العقارات كأنهم رأوها أنفع لهم وأحفظ لمالهم، حتى إن أحدهم ليؤجر العمارة الواحدة بمائة ألف وأكثر وأقل، وما كان شرع الإسلام المبني على حفظ مصالح الخاص والعام ليهمل هذا المال الكثير بدون إيجاب حق فيه للمسكين والفقير، والله تعالى يقول: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]. مع العلم أن الفقراء هم شركاء الأغنياء في قدر الحق الذي أوجبه الله في مالهم، والنبي ﷺ أمر أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع، وما أعد للكري فهو بمثابة ما أعد للبيع والشراء أشبه بالحلي المعد للكرى، فإن فيه الزكاة بإجماع العلماء.
ولسنا نقول بوجوب تثمين العقار وإخراج الزكاة حسب ما بلغت قيمته كعروض التجارة، فإن في هذا إجحافًا بالملاك ولا نقول بإخلائه من الزكاة، فإن فيه إجحافًا بالفقراء والمساكين.
وإنما القول الوسط في هذا المقام الهام أن ننحى به منحى النخيل والأراضي الزراعية المعدة للزرع متى زرعت أخرج زكاة الزرع من غلتها بالغة ما بلغت وإن لم تزرع ولم يحصل منها غلة فلا شيء فيها.
وكذلك العقار المعد للإيجار متى استؤجر أخرج زكاته من غلته حسب زيادتها ونقصها، فمتى كان الإيجار أربعة آلاف ففيه مائة ريال، أو أربعين ألفًا ففيه ألف واحد، ويجري الحساب على هذا المنوال، بحيث يخرج ربع العشر من الغلة بالغة ما بلغت، سواء أخرج زكاته عند رأس الحول وسواء أخرجها عندما يقبضها ولو عند كل شهر عملاً بقوله تعالى: ﴿وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦ﴾ [الأنعام: 141]. إذ الحكم واحد لا يختلف، والزكاة ربع العشر من كل ما يقبضه.
والأراضي المشتراة للتجارة حكمها حكم عروض التجارة، بحيث يخرج زكاتها عند رأس الحول على قدر قيمتها في ذلك اليوم فمتى قُدِّرت الأرض بأربعين ألفًا أخرج زكاة الأربعين ألفًا، ألفًا واحدًا.
أما المصاغات من الذهب الموجود عند النساء المثريات الذي يتخذنه خزينة لا زينة فيجب فيه الزكاة على قدر قيمته التي تساويه في السوق، فمتى قدر ثمنه بألف أخرج زكاة الألف، أي خمسة وعشرين ريالاً أو كان أقل أو أكثر، فبحسابه فزكِّي عن هذا الذهب بنقود الأوراق الجاري بها التعامل.
وليس على المسلم زكاة في السيارة التي يركبها ولا في السيارة التي يعيش عياله من كسبها ولا الآلات والأدوات التي يستعملها في سبيل التكسب بها كالحراثات والتركتورات والرافعات إذا كان كسبها لا يزيد عن قوته وقوت عياله قياسًا على العوامل التي أسقط النبي ﷺ الزكاة عنها، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقد حصل الفراغ من تأليفه بتاريخ 11 شعبان سنة 1393هـ.
* * *
[41] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.