1796

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م

المجلد الثالث

قضايا معاصرة

(9) رسالة إلى المسؤولين عن التعليم بشأن الإخلاص في العمل

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إلى وزراء التربية والتعليم وإلى مديري المعاهد والجامعات والمدرسين والمتعلمين

سلام الله ورحمته عليكم أجمعين

أما بعد:

فإن المحبة الودية توجب علينا النصيحة الدينية، فإن الدين النصيحة لله ولدينه ولعباده المؤمنين.

وقد أوجب الله علينا أن ننصح من ولاه الله شيئًا من أمرنا، وإنه من المعلوم عند كافة الناس العام منهم والخاص أن وزارة التعليم قامت وتقوم بعمل كبير، تنفق فيه عزيز المال الكثير في محاولة إيصال النفع بالعلم ومحاربة الجهل عن الذكر والأنثى والصغير والكبير، لكنها بداعي الحاجة وعموم المصلحة تحتاج إلى رعاية وعناية مستأنفة من جديد فيما يتعلق بأمر الدين في توسيع حصته، وتكليف الطلاب بالقيام بفرائضه، والتخلق بآدابه وفضائله، وتربية النشء على محبته؛ لأن الدين هو عقيدة الإسلام وهو بمثابة الروح لكل إنسان، فضياعه من أكبر الخسران؛ لأنه يهذب الأخلاق، ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، فهو رأس كل خير، كما أن عدم الدين أصل كل شر، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة والجرائم الشنيعة من القتل والنهب وهتك الأعراض والسرقة وشرب الخمور، والتوسع في فنون الفجور والشرور من العادمين للدين الذين لا يرجون عند الله ثوابًا ولا يخافون عقابًا، فلا يبالون بما يفعلون، بخلاف المتدين بدين صحيح فإن دينه ينهاه؛ إذ الدين أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن ارتكاب المنكرات.
لا ترجع الأنفس عن غيّها
ما لم يكن منها لها زاجر
ولهذا يقال: إن كل متدين متمدن، فإذا أردت أن تعرف فضل الدين وعموم نفعه وحصول الوقاية عن الشر بالتخلق به، ثم تعرف خسارة فقده والتخلق بضده، فانظر إلى البلدان التي قُوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلُها فرائضَ الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بالكفر والفسوق والعصيان، ثم انظر كيف حالهم، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض وأكثرهم فاسقون.

إن صلاح التعليم ينجم عن صلاح الرأس والرئيس، ومن تضم منصة التدريس، فكل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه، فمتى صلح التعليم صلح العمل وحسنت النتيجة، ومتى ساء التعليم ساء العمل وساءت النتيجة.

وإن الأمراء والوزراء والرؤساء ومجلس الشورى كل هؤلاء بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه من دخول الإلحاد وتسرب الفساد إلى البلاد والأولاد، لاعتبار أنهم متكاتفون متكافلون على إيصال المنافع ودفع المضار، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، يأخذون على أيدي سفهائهم ويأطرونهم على الحق أطرًا؛ أي يلزمونهم به إلزامًا، فمتى قصَّر هؤلاء في حماية دينهم ووطنهم وأهملوا أولادهم فلم يردعوهم عما يضرهم، وتركوا الخمور تُجلب إلى بلادهم، والحوانيت تُفتح لبيعها بحيث تكون في متناول كل يد من كل أحد، وصار مآل أمرهم هو التلاوم فيما بينهم بدون أن يناصحوا من ولاه الله أمرهم، فإنه بذلك يتحقق خراب البلاد وفساد العباد وخاصة النساء والأولاد، بحيث تنطبع أخلاق السوء والفساد فيهم.
إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ
فلا أدبٌ يُفيد ولا أديبُ
فالعلم بأحكام شرائع الدين ثم تطبيق العمل بها هو مما يكسب حصول العلم والتوفيق فيه، وخاصة المحافظة على الصلاة جماعة في المدرسة متى دخل وقت الفريضة وهم في دوام الدراسة، فقام الطلاب والأساتذة والفراشون فأذَّنوا بالصلاة ثم أقاموها، وتقدم بهم أمراؤهم فصلوها جماعة، فإن المحافظة على الصلاة هي من أكبر ما يُستعان به على تهذيب أخلاق البنين والبنات؛ لأنه لا إسلام ولا دين إلا بالعمل، فالعمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام هو الذي يحقق الإسلام ويصدقه، كما روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب». معنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، ويميل بمحبته وموالاته ونصرته إلى أهل الدين، فيظهر بذلك إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.

أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يدين دين الحق فلا شك أن إسلامه كاذب بالحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام هو الذي يوحّد المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره أذلكم الله.

وقد ورد أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وقد أخرجه ابن النجار في ذيل التاريخ من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل». وقال الحسن: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقول: إني لحسن الظن بالله. وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل([145]). وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موت رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس، إنما كنا نعرفكم ورسول الله حي ينزل عليه الوحي إذ ينبئنا الله من أخباركم، وإن رسول الله قد انطلق به، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نعرفكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا منكم شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه عليه.

فالذي يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا والخمر لا شك أن إسلامه لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان، ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9].

لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه كما ورد بذلك الحديث([146])، فعقيدة الإسلام أنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره.
وإذا حَلّتِ الهدايةُ قلبًا
نشطت في مُرادها الأجسامُ
﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٢٥.

أي: ضيقًا بذكر الإسلام، حرجًا من أمره ونهيه وصلاته وصيامه وسائر حدوده وأحكامه، يألف البطالة وينفر عن الطاعة في الله، فنسيه، وقد حذر الله المؤمنين أن يكونوا أمثاله فقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 19]. أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية.

[145] أخرجه ابن أبي الدنيا في الوجل والتوثق بالعمل. [146] عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الكبير عن أبي الدرداء، ولفظه:«إن للإسلام صوى وعلامات كمنار الطريق..».

العبادات الشرعية وما تُكسبه من الأخلاق المرضية

إن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه.

والعبادة، وإن كان قد يرى بعض الناس من الكسالى أن فيها نوع ثِقَلٍ عليهم كعبادة الصلاة والزكاة والصيام، لكنها حسنة العاقبة؛ لأن الحق ثقيل على النفوس لكنه مريء، كما أن الباطل خفيف على النفوس لكنه وبيء، فقد حُفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، يقول الله تعالى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي ثقيلة ﴿...إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ [البقرة: 45-46]. فالمؤمنون الذين يعتقدون أن الله سيثيبهم على حسناتهم وصلاتهم، فإن الصلاة تكون سهلة عليهم، بل هي لذة أرواحهم ونعيم أجسامهم، وكذلك عبادة الصيام وسائر عبادات الإسلام.

والعبادات على اختلاف أنواعها هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

فهو سبحانه لم يكن ليذر الناس مهملين بدون أمر ولا نهي، ولم يكن ليكلهم إلى عقولهم وآرائهم ولا إلى عاداتهم وتقليد آبائهم، بل أرسل رسله وأنزل كتبه وبين للناس ما نزل إليهم من الشرائع والأحكام، فأوجب الفرائض وسن النوافل وبيّن للناس الحلال والحرام، فحاجة الناس إلى العلم بالواجبات ثم العمل بها، هي حاجة ضرورية أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن العبادات الشرعية تغرس في النفوس محبة الرب والتقرب إليه بطاعته، ثم صلاح الروح والقلب اللذين تترتب عليهما السعادة وحسن الاستقامة، فليس للناس صلاح ولا فلاح ولا سعادة ولا استقامة إلا بالعقيدة الصحيحة التي تصدر عنها الأعمال الصالحة من المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وبذلك يسمى المؤمن: عبد الله لكونه قد أطاع الله في أمره واجتنب نهيه وعبده بما شرع له، إذ الفرق شاسع بين من يسيرون في حياتهم على عقيدة صحيحة، وبين من يسيرون على غير عقيدة أو على عقيدة باطلة.

ثم إن العبادات الشرعية جعلها الله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون أن يختبرهم على صحة نياتهم بحيث يقول أحدهم: أنا مؤمن، أنا مسلم، فاقتضت حكمته بأن يختبرهم ويمتحن صحة إيمانهم بالأعمال؛ أي بالفرائض والنواهي التي تحقق صحة إيمانهم، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2]. أي لا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون، ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ؛ أي من الأمم السابقة اختبرناهم بالأوامر والنواهي الشرعية، ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ الذين قالوا: آمنا، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وكان حظهم من الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بدون عمل ولا انقياد لحكمه، وهذا الإيمان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

ومنها أن العبادات الشرعية ترفع المسلم عن مشابهة الحيوانات البهيمية، فالقوم الذين تركوا فرائض ربهم ونسوا أمر آخرتهم وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم للعمل لدنياهم واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، قد رضوا لأنفسهم بأن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. بل جعلهم الله شرًّا من الأنعام فقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ [الأعراف: 179]. فلم يقتصر سبحانه على مساواتهم بالأنعام بل جعلهم أضل.

فإذا أردت أن تعرف قيمة شأن العبادات الشرعية وما تُكسبه من الفضائل الخلقية والفوائد الاجتماعية، فانظر إلى البلدان العربية التي ترك أكثر أهلها العبادات الشرعية، ثم انظر كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، ويتسافلون تسافل الحيوانات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، تشابهت قلوبهم وأكثرهم فاسقون.
عُمي القلوبِ عروا عن كلٍّ فائدةٍ
لأنهم كفروا باللهِ تقليدا

* * *

الصلاة هي آكد العبادات

إن من شرط صحة الصلاة الطهور فهو مفتاح الصلاة كما ثبت في الحديث عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» رواه أحمد والترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب. فلا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وقد فُرض الوضوء ليلة الإسراء مع فرض الصلاة، وسمي وضوءًا لأنه مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة؛ لأن دين الإسلام دين النظافة يأمر بالتجمل والنظافة عند القيام للصلاة والمثول بين يدي الله تعالى: ﴿۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ [الأعراف: 31]. أي عند كل صلاة، والوضوء من الزينة الواجبة، والحكمة فيه أنه ينشط الأعضاء عند القيام للصلاة، ويكسبها القوة والفرح، ويزيل عنها العجز والكسل والفتور، ويطرد النوم والنعاس، ويترتب عليه تكفير الخطايا، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه مالك وأحمد وابن ماجه.

أما الصلاة فإنها آكد العبادات، وهي من أكبر ما يُستعان به على حسن تربية البنين والبنات؛ لأنها تقوّم اعوجاجهم، وتصلح فسادهم، وتذكرهم بالله الكريم الأكبر، وتصدهم عن الفحشاء والمنكر، فهي أم الفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تغرس في القلب محبة الرب والخضوع لطاعته، وبمحافظة الإنسان عليها ومزاولته بالاستمرار على فعلها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، فهي أول ما افترض الله من العبادات، وهي آخر ما يُفقد منها، فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين. وهي خمس صلوات مفرقة بين خمسة أوقات؛ لئلا تطول مدة غفلة العبد عن الرب.

سُميت صلاةً لكونها صلة بين العبد وربّه، فالمصلي متصل بربه موصول ببره وفضله وكرمه، وقيل: لأجل اشتمالها على الدعاء سميت في اللغة صلاة.

فهي عمود دين الإسلام، وأمانة الله في عنق كل إنسان، كما أنها الفارقة بين الكفر والإيمان، فمن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، ومن أقر بوجوبها وتركها عمدًا فهو كافر بنص السنة والقرآن، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، من تركها فقد كفر».

وروى بريدة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح، ولا نقول: إنه كفر دون كفر، كما يقوله بعضهم، بل هو الكفر المخرج عن ملة الإسلام، ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11].

وكان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين، وإن حدثوا بأنه لا حظَّ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له؛ لأنها آخر ما يفقد من دين الإنسان، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.

قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال الحافظ أبو محمد عبد العظيم المنذري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا لتركها حتى يخرج وقتها، منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء، ومن غير الصحابة ابن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عيينة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم. ذكره المنذري في الترهيب عن ترك الصلاة.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا لمن أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لسخط الله وخزيه وعقوبته في الدنيا والآخرة. قال: وأفتى سفيان الثوري وأبو عمرو الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأصحابهم بأنه يقتل متى تركها عمدًا من غير عذر ودعي إليها وقال: لا أصلي. انتهى.

وحسبك أنها في تكفيرها للخطايا قد وصفها رسول الله بالنهر الغمر- أي الكثير- الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات فهو لا يُبقي من درنه شيئًا، وكذلك الصلاة، وأن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.

وبما أنها من آكد العبادات فإنها من أقوى ما يُستعان بها على حسن تربية البنين والبنات؛ لأنها تذكرهم بالله الكريم الأكبر، وتصدهم عن الفحشاء والمنكر، ولأجله أوصى النبي ﷺ بها أمته ليأمروا أولادهم بالصلاة لسبع سنين، ويضربوهم على تركها لعشر سنين؛ لأن تربيتهم عليها في حالة الصغر هي بمثابة النقثس في الحجر، ولأنهم بمزاولتهم لها والأخذ بأيديهم إليها يعود حبها ملكة راسخة في قلب أحدهم تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، يقول الله تعالى: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132].

* * *

الصـلاة جماعـة

شرع الإسلام اجتماع المسلمين في الصلاة بنظام خاص وتساوٍ في الصفوف وتراص، وقد جعلت صفوف المصلين كصفوف الملائكة لقول النبي ﷺ: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟»([147]). قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف». وشرع بناء المساجد للاجتماع للصلاة، كما شرع الأذان على المآذن العالية لإبلاغ الناس دخول وقت الصلاة ليتأهبوا بالحضور إليها، وورد الوعيد الشديد فيمن سمع النداء بالصلاة ثم لا يجيب، وأن التخلف عن الصلاة وعدم إجابة النداء إليها من صفة المنافقين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨ [المائدة: 58]. فنفى الله عنهم العقل الصحيح لعدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح؛ لأنه إنما يُسمى العقل عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده؛ أي أمره ونهيه، أو من أجل أنه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
والعقل في معنى العقالِ ولفظه
فالخيرُ يعقل والسّفاه يحلّهُ
فعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «من سمع النداء ثم لم يأت فلا صلاة له إلا من عذر». رواه ابن حبان والحاكم وإسناده على شرط مسلم لكن رجح بعضهم وقفه، وروى الإمام أحمد عن معاذ عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الجفاء والكفر والنفاق فيمن سمع منادي الله ينادي بالصلاة فلا يجيبه»، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. وقد همَّ رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة؛ واستأذنه ابن أم مكتوم وهو أعمى وبينه وبين المسجد نخل وواد على أن يصلي في بيته، فقال له: «هل تسمع النداء بالصلاة؟». قال: نعم. قال: «فأجب»، كما ثبت في الصحيحين، فلم يسمح له بالتخلف عن الجماعة.

وحسبك أن الله أمر بالصلاة جماعة في حالة القتال وحمل السلاح وتقابل الصفوف، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡ [النساء: 102]. وقد ترجم العلماء لهذا في كتب الحديث والفقه بـ «باب صلاة الخوف».

ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ أنه تخلف عن الجماعة مرة واحدة إلا في حالة مرضه الذي تُوفي فيه.

وهذه الأدلة تتعاضد على وجوب صلاة الجماعة إذا لم يكن ثمة عذر يبيح التخلف، وهذا الوجوب يثاب فاعله ويعاقب تاركه، كما أنه الظاهر من مذهب الإمام أحمد وكثير من المحدثين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. قال ناظم المفردات:
في كل فرض تجب الجماعهْ
وقال باشتراطها جماعهْ
إن الصلاة مع الجماعة يترتب عليها حكم عديدة، ومصالح مفيدة، أهمها الخروج من عهدة من قال بوجوبها، كما أنه الراجح بالأدلة الواضحة. ومنها حصول الفضل المترتب على فعلها مع الجماعة. ومنها تنشيط الأجسام والقلوب على الاجتماع لها حيث إن بعض الناس ينشّط البعض على فعلها، وملاقاة الرجال فيه تقوية لأجسامهم وتلقيح لأفهامهم. ومنها التمرن على استمرار فعلها مع الجماعة حتى تكون محبتها ملكة راسخة في قلب أحدهم تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، حتى تكون في نفسه لذة وسرورًا، ومتى فاتته هذه الفريضة مع الجماعة علم أنه قد خسر شيئًا كبيرًا من الفضيلة والأجر. ومنها أن التهاون في فعلها مع الجماعة مدعاة إلى التهاون بها ثم إلى تركها. ومنها حصول الفضل المترتب على التخطي إليها حيث يكتب له بكل خطوة حسنة ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة. ومنها حصول التعارف والتآلف بين المسلمين المصلين بحيث يلقى الرجل أخاه في صلاة الجماعة كل يوم خمس مرات فينجذب قلبه لمحبته والعطف عليه، فيسلم عليه إذا لقيه، ويسأل عنه إذا افتقده، ويعوده في مرضه، وقد قيل: إن الحكمة في مشروعية صلاة الجماعة هو حصول التعارف والتآلف بين المسلمين المصلين وإزالة الإِحن والشحناء عنهم؛ لأن التقارب بالأبدان مدعاة إلى التقارب بين القلوب، والتباعد بالأبدان مدعاة إلى التنافر بين القلوب، على حد ما قيل:
وإن تدنُ مني تدنُ منك مودتي
وإن تنأَ عني تلفني عنك نائيا
ولأجله قال ﷺ: «من صلى الفجر في جماعة كان في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة كان في ذمة الله حتى يصبح»، ولأن هذين الوقتين هما أثقل صلاة على المنافقين، وقال: «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام الليل كله» رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان.

والحاصل أن الصلاة مع الجماعة هي من لذائد الحياة مَنْ ذاق منها عرف، ومن حُرم انحرف، كما قال النبي ﷺ: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»([148]).

إن أعظم الناس بركة وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس أو في المدرسة فيسمع النداء بالصلاة فيقوم إليها فرحًا، ويأمر من عنده من الجلساء والزملاء والتلاميذ بأن يقوموا إلى الصلاة معه فيصلون جماعة، يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم، أولئك الميامين على أنفسهم والميامين على جلسائهم وتلامذتهم، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

وبضد هؤلاء قوم يكونون في المجالس أو في المدارس أو في النوادي والمقاهي فيسمعون النداء بالصلاة فلا يجيبون، ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، فهؤلاء هم المشائيم على أنفسهم والمشائيم على جلسائهم وتلامذتهم.
يشقى رجالٌ ويشقى آخرون بهمْ
ويُسعد الله أقوامًا بأقوامِ

[147] أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة. [148] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس.

صلاة الجماعة في المعاهد والجامعات ومدارس البنين والبنات

إن مما يجب أن ننصح به وأن نوصي بعمله هو إقامة الصلوات جماعة في المعاهد والجامعات ومدارس البنين والبنات، فمتى دخل عليهم وقت فريضة من فرائض الصلاة، كفرض الظهر مثلاً، أو فرض المغرب أو العشاء في الذين يدرسون بالليل، فإنه يجب أن يؤذن لهم أحدُهم ويؤمهم أقرؤهم؛ لأن فعل هذه الصلاة جماعة هو من أكبر ما يستعان به على حسن تهذيب أخلاق البنين والبنات، كما أنها من أكبر ما يستعان به على حصول العلم وكشف المشكلات وسائر أمور الحياة، وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة أو وقعوا في شدة من الشدات فزعوا إلى الصلاة لأن الله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ [البقرة: 45].

فالمتخفي أو المتخلف عن الصلاة مع الجماعة يعتبر خائنًا لدينه خائنًا لأمانة ربه، لا سيما إذا كان هذا المتخلف من الأساتذة المعلمين، فإن تخلفه يعتبر تعليمًا منه لترك الصلاة وعدم الاهتمام بها، فلا يصلح أن يكون معلمًا للأولاد؛ لأن الخائن لعمود دينه وإمانة ربه جدير بأن يخون أمته وأهل ملته، فهو جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، وقد حذر النبي ﷺ من مثل هذا خشية الاقتداء به فقال: «ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة فيتخلف بتخلفهم آخرون»([149]). وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه.

إن الحكومات على اختلافها أصبحت تعاني أشد المشقات في علاج الجرائم؛ لكثرتها واختلاف أنواعها، ويواصلون الأعمال في محاولة تقليلها فضلاً عن رفعها، لكنها لم تزدد نارها إلا استعارًا؛ وإنما تنشأ الجرائم الفظيعة والفواحش الشنيعة من العادمين للدين التاركين للصلاة، ولو وفقوا لدوائها الوحيد وعلاجها المفيد لوجدوه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المحافظة على الصلاة التي هي أم الفضائل الناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، ثم في إقامة الحدود الشرعية التي جعلها الله بمثابة الزواجر عن ارتكاب منكرات الأخلاق والرذائل، فإن هذه تكفي عن مئات الألوف من الجنود والعساكر.

إن صلاة الأساتذة والطلاب جماعة يترتب عليها مصلحة كبيرة لسائر المعلمين والمتعلمين؛ إذ هي نوع من التعليم الفعلي الذي أسست له المعارف وفتحت له أبواب المدارس، فلا ينبغي أن يلاحظ تمرين الطلاب على تعلم فضول أمور الحياة من الرياضيات والجغرافيات، ويهمل جانب تمرينهم على فعل الصلاة من سائر العبادات؛ إذ هذه أولى بالعناية والاهتمام؛ لأن الصلاة من أكبر ما يستعان به على أمور الحياة وعلى حصول العلم وحل المشكلات، والله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ [البقرة: 45]. وكان الصحابة والسلف يستعينون على حفظ العلم بالعمل به، ويقول أحدهم: أصلي بكم كما رأيت رسول الله يصلي بنا، ويقول الآخر: أتوضأ كما رأيت رسول الله يتوضأ، ويقول ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن؛ فيتعلمون العلم والعمل معًا.

أما تفريط المدارس في صلاة الجماعة، وتهاون المدرسين بها، وعدم مبالاتهم بمن يصلي وبمن لا يصلي، بحيث يدخل عليهم وقت الصلاة وهم في دوام الدراسة، ثم ينفرون ويتفرقون قبل أن يصلوا جماعة، فلا شك أن هذا الفعل بهذه الصفة هو نوع تعليم للأعمال السيئة، فهو مما يجعل هذه الفريضة تفوت على الصغار والكبار حتى يكون تركها عادة مستمرة وخلقًا لهم، يشب عليها صغيرهم ويهرم عليها كبيرهم، حتى لا يرونها منكرًا كما هو معروف من صفات التاركين للصلاة؛ لكون التارك للصلاة مع الجماعة يندر أن يصليها في بيته، وإن التماهل في فعلها مدعاة إلى التهاون بها ثم إلى تركها، وهكذا المعاصي يقود بعضها إلى بعض، وهي بريد الكفر.

فيا معشر شباب المسلمين، ويا معشر المسلمين والمتعلمين، إن الله سبحانه شرفكم بالإسلام وفضلكم به على سائر الأنام متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون العمل، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله؛ فمن واجبكم محافظتكم على صلاتكم في الجماعة، وأن تحثوا من لديكم عليها فإنها من أعظم المظاهر الدينية، فمتى رأيتم الرجل يحافظ على واجباته في صلاته فاشهدوا له بالإيمان، ومتى رأيتم الرجل يتخلف عن الصلاة بدون عذر مشروع فاشهدوا عليه بالنفاق، ومتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم أو لحاجة العلاج أو لحاجة التجارة أو لأي حاجة من الحاجات، فمن واجبه أن يُظهر إسلامه في أي مكان يحل به، فيدعو إلى دينه وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلاة أمر من عنده من زملائه وجلسائه بأن يصلوا جماعة، حتى يكون مباركًا على نفسه ومباركًا على جلسائه، أما إذا صرفتم جل عقولكم وجل أعمالكم وجل اهتمامكم للعمل لدنياكم واتباع شهوات بطونكم وفروجكم، وتركتم فرائض ربكم، ونسيتم أمر آخرتكم، صرتم مثالاً للمعايب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالحين، الذين شَرُفوا عليكم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.

* * *

[149] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عمر بن الخطاب.

تمهيد الموضع المعدّ لصلاة الجماعة في المدرسة

إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد أُسست المدارس لتعليم الطلاب أمر دينهم ودنياهم، ثم تمرينهم على العمل بما ينفعهم، وسبق لنا حديث أبي الدرداء أن النبي ﷺ قال: «ما من ثلاثة فما فوق في قرية ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

ومن المعلوم أن المدرسة التي تشتمل على عدد كبير من المعلمين والمتعلمين والفراشين أنه يشملها معنى الحديث، فمتى لم يقيموا الصلاة جماعة فإنه ينطبق عليهم هذا الوصف السيئ من استحواذ الشيطان عليهم- أي غلبته واستيلائه- كما قال تعالى: ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19]. ومن المعلوم عند الناس العام منهم والخاص أن وزارة التربية والتعليم قامت وتقوم بأعمال كبيرة، وتنفق في سبيل التعلم والتعليم النفقات الكثيرة لإصلاح أحوال الطلاب وإزالة الجهل عنهم وسوء الآداب. وقد سبق أن قلنا: إن الصلاة في الجماعات هي من أكبر ما يستعان به على حسن تهذيب أخلاق البنين والبنات؛ لأنها تقوِّم اعوجاجهم وتصلح فسادهم وتذكرهم بربهم الكريم الأكبر، وتصدهم عن الفحشاء والمنكر، وأنها من أكبر ما يستعان به على أمور الحياة وتسهيل العلم وكشف المشكلات، ﴿ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٥٣ [البقرة: 153]. فمتى كان الأمر بهذه الصفة فإنه يجب بذل المال في تمهيد مكان لصلاة الجماعة في المدرسة؛ لما يترتب على ذلك من صلاح الأحوال والأعمال والعيال، ومن بنى لله مسجدًا يحتسب ثوابه عند الله بنى الله له قصرًا في الجنة.

لهذا يجب على وزارة التربية والتعليم التي من شأنها إصلاح أحوال المعلمين والمتعلمين أن تحتسب تأسيس مكان لصلاة الجماعة في كل مدرسة يسع الطلاب والأساتذة، ولو على صفة الغرفة الواسعة؛ أي بدون محراب ولا منارة، ويصدق عليه تسميته بالمسجد، وتحتسب وزارة التربية والتعليم بالمبادرة بتأسيسه لاعتبار أنه عمل خيري يبقى شرف ذكره وعظيم أجره لمؤسسه والمساعد عليه، بحيث يذكر به ويشكر عليه في حياته وبعد وفاته.

وإن جُعل المكان على صفة المسجد في كل صفاته فهو أفضل؛ لئلا يصرف عن وقفيته إلى غيره قبل تمام بنائه، فإنه لا ينبغي للأساتذة والطلاب أن يهملوا صلاة الجماعة، فكل مواضع المدرسة تصلح لصلاة الجماعة إما في إحدى غرفها، أو في الأروقة المحيطة بالغرف؛ ولم يبق سوى فرشها بالحصر أو البسط للصلاة، على أنها تصح بدون ذلك، فقد سجد النبي ﷺ على الطين، وعلى كل حال فإنها متى خلصت النية وقويت العزيمة فإن كل شيء سهل ميسر وحاضر عتيد، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

* * *