مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الثالث
قضايا معاصرة(8) رسالة إلى الحكام بشأن الطلاب المبتعثين للخارج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرفع لحكام المسلمين، وفقهم الله للتمسك بالدين، وسلام الله ورحمته عليهم أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه في كتابه المبين، وعلى لسان نبيه الصادق الأمين، قد أوجب علينا أن ننصح من ولاّه الله أمرنا، فإن الدين النصيحة لله ولعباده ولأئمة المسلمين. وقد أوجب الله على المؤمنين أن يكونوا قوامين لله بالقسط أي بالعدل في أهلهم وعيالهم، إذ العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين.
وإن شباب المسلمين هم جيل المستقبل بحيث يسعد الناس بصلاحهم، ويشقون بفسادهم وإلحادهم. فما نحل والد ولده نحلة أفضل من أن ينحله أدبًا حسنًا يهذبه به على الصلاح والصلاة والتقى، ويردعه به عن السفه والفساد والردى.
فمن الواجب على حكام المسلمين الذين جعلهم الله رعاة على عباده المؤمنين أن يحموهم مما يضرهم، مما يعد في استطاعتهم، فإن الوقاية خير من العلاج، وإن أضر ما يصاب به الشاب هو إهماله وإلقاء حبله على غاربه، يتصرف كيف يشاء بدون وازع ولا مراقب، والله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
إن مما نستدرك على حكام المسلمين ما عسى أن يكونوا غافلين عن مضرته وسوء عاقبته، وذلك في فتحهم الأبواب لتسفير الطلاب إلى الخارج من بلدان أوروبا وأميركا للتعلم كما زعموا. ولا أدري ما هذا العلم الذي يبتغونه عند أساتذة النصارى؟ أهو من العلم الضروري الذي يتعذر الحصول عليه في بلدان المسلمين، كالعلم بوسائل الصعود إلى سطح القمر؟ أم هو العلم الشهير في سائر الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس في سائر البلدان الإسلامية؟
وإننا لا نعلم شيئًا يبتغونه خارج البلدان العربية سوى تعلم اللغة الأجنبية؛ إذ هي غاية قصدهم ونهاية علمهم وعملهم. وإن الحصول عليها سهل متيسر في بلدهم كسائر العلوم والفنون. وذلك أن الله سبحانه قد أنعم على المسلمين بنعم كثيرة، منها نعمة الغنى بالمال الوافر الذي يستطيعون أن يجلبوا به كل نفس ونفيس، مما يحتاجون إليه من مصانع وصنّاع وأساتذة وأطباء وعلماء لسائر الفنون، وكذا المعلمات. فهذا كله من السهل المتيسر متى صدقت العزيمة، ومتى قويت الإرادة حصل المراد. أوليس من الحزم وفعل أولي العزم أن يقتصر الطلاب على التعلم لسائر العلوم والفنون في بلادهم؛ ليستعينوا بالبيئة والمجتمع ورقابة الأهل والأصدقاء على حسن سيرهم في تعلمهم وعلى تهذيبهم وتأديبهم؟ إذ المؤانسة تقتضي المجانسة في العقائد والأخلاق.
ولا شك أن هذا أفضل من التعلم في الخارج، الذي هو محفوف بالأخطار والأضرار، فهو خطر على العفاف والشرف وعلى العقيدة والأخلاق، لكثرة من يلقونه ويختلطون به ممن ليس على دينهم، وقد تؤثر فيهم مجالستهم ومؤانستهم مع صغر سنهم، وكون قلوبهم قابلة لما يلقى فيها من الخير والشر. وياليت شعري ما الذي يرجعون به؟ وماذا يستفيدونه من هؤلاء الأساتذة؟ فإنهم بمجرد الاختبار والتجربة يرجع أحدهم إلى أهله وهو ساذج من العلم والمعرفة مزيف مغشوش بشهادة النجاح الكاذبة التي لا حقيقة لها سوى الغش، بمحاولة تكثير سواد الطلاب عندهم وفي بلدهم لما يكتسبونه على أثرهم من المادة.
وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع، ولا يستعيذ إلا من الشر، إذ الغاذي شبيه بالمغتذى، فمن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.
إنه من المعلوم أن الشباب يفضلون السفر إلى الخارج للتعلم مهما كانت مضرته وسوء عاقبته؛ لكونهم يفتخرون به ويرونه سببًا ووسيلة إلى رفع رتبهم ومرتباتهم، فصاروا يفضلونه على التعلم في بلادهم. وكان بدء فتح هذا الباب للسفر للخارج في البلدان العربية حينما ابتدئ بفتح المدارس فيها على اختلاف أنواعها وعلومها، ولم يكن لديهم في ذلك الوقت كفاءة من المعلمين، ففتحوا هذا الباب للطلاب ليتعلموا شتى العلوم والفنون كي يستغنوا بعلمهم وتعليمهم في الخارج.
فاستمر هذا الفتح إلى حد الآن يقتدي الناس بعضهم ببعض فيه دون أن يفكروا في الاستغناء عنه.
وإن من الرأي السديد والأمر المفيد وجوب غلق هذا الباب عن سائر الطلاب لحصول الكفاءة التامة بالمعلمين من داخل البلدان العربية، والاستغناء بهم عن السفر للخارج بالكلية، فياليت شعري من الذي يفوز بالسبق إلى غلق هذا الباب الذي أحدث القلق والاضطراب في عقائد الطلاب، فإن خير الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.
وإن الحكام متى اخترعوا أمرًا وشرعوا مشروعًا مما يتطلع إليه الطلاب، ويؤملون نجاحهم على أثره برفع راتبهم ومراتبهم وقبول دوائر الأعمال لهم، فإنه من المعلوم أن الناس يندفعون إليه بشغف وشدة بحيث يطأ بعضهم أعقاب بعض في طلبه حتى ولو كان سيئ العاقبة في نفس الأمر. والواقع إن فعل الحكومة لهذا الشيء بهذه الصفة هو غاية في التشجيع والتنشيط للطلبة، لكنهم متى سدوا عنهم هذا الباب وصرفوا عنه الطلاب بالإياس منه، وفتحوا لهم ما هو أرفق وأوفق بهم وأصلح لهم في أمر دينهم ودنياهم ومجتمعهم، فإنهم عند ذلك يحمدون عاقبة أمرهم ثم ينشر الثناء والشكر لمن تسبب في سد هذا الباب بحيث يذكر به في حياته وبعد وفاته.
وربما كان مكروه النفوس إلى
محبوبها سببًا ما مثلُه سببُ
إن الحاكم يجب أن يكون بمثابة العقل المفكر والرأي المدبر لشؤون أمر رعيته وبلده، فيفتح أبواب العلم والتعليم لمختلف العلوم والفنون على مصارعها، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه من صنائع وصناع وأطباء وأساتذة لسائر العلوم والفنون، ثم يوعز للطلاب بأن يتعلموا ويعلموا في بلادهم بين أهلهم وأقاربهم، ليكون احتفافهم بأهلهم وبني جنسهم أعون على تهذيبهم وتأديبهم، لاندماج الأخلاق بالأخلاق، وعلى الحكومة أن تعمل في غلق هذا الباب، ولا تسمح لسفر أي طالب من الطلاب، إلا من يسافر في عمل وتعلم شيء لا يمكن إدراك الحصول عليه في البلد كعلم الطب أو شيء من علم الهندسة؛ لاعتبار هذا من الأمور الاستثنائية - إذ لا بد من استثناء بعض التخصصات - ثم يحكم غلق الباب عن سفر الطلاب فيما عدا هذه الأمور الضرورية.
ثم ينبغي للحكومة أن تصرف عنايتها واهتمامها للمتعلمين داخل البلاد بحيث لا يكون المتخرج في الخارج أرقى راتبًا ورتبة من المتخرج في الداخل؛ لكون التفوق للخارج في الراتب والرتبة يوهن تعلم الداخل في البلد ويجعله يكسل عن مواصلة عمله في تعلمه.
ثم إن الحكومة تستفيد اختصار النفقات العظيمة من المرتبات وأُجور الطائرات، كما تستفيد أيضًا طرح شيء كثير من العناء والشغل في سبيل سفرهم وذهابهم وإيابهم. وكما يستفيد أهل الطالب عدم الانشغال بسفر ولدهم وتوفير ما كانوا يوافونه به من النفقات. فإن أكثر الطلاب لا يكفيه راتبه الشهري على كثرته بل لا يزال يلاحق أهله في إرسال زيادة على مرتبه، مع العلم أن مؤن المعيشة وأجور المساكن تزداد غلاء كل يوم، خاصة في تلك البلدان.
فمتى عملت الحكومة عملها في سبيل التعلم في بلادها، وصرفت مرتبات الطلاب الشهرية لهم في بلدهم، فإن الطالب يستفيد منها أكثر كما أن أهله يستفيدون منها، وتستفيد البلاد من انتشار هذه الرواتب الكثيرة فيها وتستفيد الحكومة شيئًا من الراحة من العناء والشغل في دائرة أعمالها.
لقد عرفنا من أخلاق حكامنا الأكرمين رسوخ الحب في قلوبهم لرعاياهم، وأنهم يحبون أن يوصلوا إليهم كل ما ينفعهم ويدفعوا عنهم كل ما يضرهم بكل سبيل حسب استطاعتهم، وأنهم متى تنبهوا لمثل هذا الرأي السديد والأمر المفيد، فأسفر لهم صبحه واتضحت لهم مصلحته وعموم منفعته في أمر الدنيا والدين، فإنهم يستقبلونه في صالحهم وصالح رعيتهم، ثم يتواصون ويتناصحون بالعمل به واعتماد تنفيذه؛ لاعتبار أنه حق يجب اتباعه وما بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون؟!
غير أن مثل هذا الرأي قد لا يوافق أذواق الكثير من الطلاب، وتنابذه نزعاتهم، ولا عجب فإن الحق لا يتمشى على رغبة الناس، وقد يكون الخير في ضمن ما يكره الناس، وما أنا إلا صديقهم الحفي أُخلص لهم نصحي حتى ولو كان مرًّا في حلوقهم، فإن الصديق المخلص هو من يجرع صديقه الدواء المر ليقيه من الوقوع في الضر.
فإن المُرَّ حين يَسُـرُّ حُلْوٌ
وإن الحُلْوَ حين يَضُـرُّ مُرُّ
وإننا متى قابلنا بين المتخرجين في بلدان أوربا وبين المتخرجين في الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية بالبلدان الإسلامية، فإننا نجد بينهما فرقًا واسعًا وبونًا شاسعًا في التفاوت في العلوم والفنون وفي العقائد والأخلاق؛ إذ المتخرج في بلدان أوربا ليس معه سوى اللغة الإنجليزية، وما خسره من نسيان العلوم الشرعية أكثر مما استفاده، ولن تسمع عن أحد من المتخرجين بها شيئًا من النبوغ في شيء من العلوم التي تنفع الناس أبدًا؛ لكون عادم العلم لا يعطيه، ولأن علماء أوربا الذين تخرج الطلاب من أبناء المسلمين عندهم جهلاء بكل العلوم النافعة، مما يتعلق بالشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، وحتى علم البلاغة والبيان، فهم يزيدون الطالب جهلاً على جهله.
أما المتخرج من الجامعات والمعاهد الإسلامية وكليات الشريعة، فإننا نجد عند أحدهم ما يشفي ويكفي من العلوم والفنون، سواء في التفسير أو الحديث أو السيرة أو التاريخ أو اللغة فتجد عنده ثمرة من العلوم النافعة كل على حسبه وعلى قدر موهبته من ربه وخاصة القدامى الذين تخرجوا منذ حوالي ثلاثين أو عشرين سنة فإنهم أرقى في العلوم والمعرفة من المتخرجين في هذه السنين؛ لكونه قد تغير أسلوب التعلم والتعليم في البلدان العربية كغيرها، وصاروا يسلخون ويمسخون الكتب والفنون؛ حتى أبقوا المنهج شبه الرمز والصورة للعلوم والفنون، ومع هذا كله فإن أقل المتخرجين معرفة في البلدان العربية هم أرقى من المتخرجين في بلدان أوربا. والحاصل أن الحكام متى أهملوا تربية الشباب فلم يهذبوهم على فعل الصلاح والتقى ولم يردعوهم عن مراتع الغي والردى، فإنهم سيعودون إلى أهلهم وهم نكبة ونقمة على العباد والبلاد، والدفع أيسر من الرفع.
وإن مما يؤكد الخطر ويوقعهم في الضرر على الأخلاق والعقائد كون أكثر هؤلاء الطلاب يسافرون إلى الخارج وهم صغار الأسنان، لم ترسخ في قلوبهم تعاليم دين الإسلام، وقبل أن يتربوا على العلم بفرائضه وفضائله تربية عملية. ثم التحقوا بالمدارس النصرانية، واختلطوا بالمعلمين والمتعلمين بها فجالسوهم ووانسوهم وانطبع فيهم شيء من أخلاقهم وملؤوا أفكارهم من الإلحاد وفساد الاعتقاد؛ كجحود الرب والتكذيب بالقرآن والتكذيب بالرسول ﷺ والتكذيب بالبعث بعد الموت والتكذيب بالجنة والنار فلقنوهم هذه العقيدة على سبيل الصداقة فصادفت منهم قلبًا خاليًا فتمكنت، فرجعوا إلى بلادهم وهم يهرفون بما لا يعرفون. وناهيكم بالسذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة، فإن القاصرة عقولهم والناقصة علومهم ينقدح الشك في قلب أحدهم بأول عارض من شبهه، فيؤثر معهم هذا التضليل فيزيغهم عن الحق وسواء السبيل، فيتبعون أساتذتهم في أسوأ العادات وترك العبادات.
ومما لا شك فيه أن إرسال أولادنا وبناتنا للتعلم في بلدان أوروبا والبلدان الشيوعية له مخاطره في تكوين عقولهم، وله آثاره في بناء شخصيتهم.
فالطالب يجد نفسه يتلقى فلسفة الغرب المادية والعلمانية وعقيدته السيئة الخاصة به ويتشبع من هذه الفلسفة ويعود إلى بلده بشخصية مختلفة تهدم ولا تبني، حيث إنه قد عاد بأفكار مغايرة لعقيدة أهل بلده وعاداتهم وتقاليدهم.
وهناك فرق بين نوعين من العلوم التي يتوجَّه أبناؤنا لتحصيلها. فالعلوم الإنسانية مثل الأدب والتاريخ والفلسفة والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والقانون. فهذه العلوم لا حاجة لأبنائنا في تحصيلها من علماء لا عقيدة لهم ولا أخلاق، حيث إنهم يتأثرون بأفكارهم وميولهم ويشربون من موردهم من الفلسفات والآراء الهدامة التي تحطم كل القيم والآداب.
أما العلوم التطبيقية والعلمية البحتة كالطب والهندسة فإن سعيهم لاستكمالها يغدو وفق شروط معينة ضرورة ملحة.
ولسنا نقول ذلك ونطالب به إلا انطلاقًا من حرصنا على مستقبل شبابنا رجال المستقبل الذين يؤتمنون على تربية رجاله المقبلة.
فالعائد من الخارج يأخذ مركزه القيادي والتربوي ولا تقصر الدولة في إعطائه مكانته في قيادة البلاد والعباد سواء في مجال التعليم أو التصنيع أو العمل الإداري.
فإذا عاد إلينا بعقيدة ممسوخة، وبأفكار تغاير مبادئنا وأخلاقنا وديننا، فإنه لا محالة سيؤثر في نفوس الكثيرين ويقودهم إلى المهالك.
ونحن نعلم أن مؤسسات الاستعمار ومراكز توجيهه تتلقى الطلاب والطالبات هناك، وتحوطهم بكل وسائل الإغراء والفتنة من كل لون؛ الفكري والجنسي والنفسي، وقليلون من ينجون من شرهم.
والصهيونية بألاعيبها وحيلها توقع كثيرًا منهم في حبالها تحت بريق العلم والخداع، وغير ذلك من النوادي الليلية التي يديرونها لجر أرجل هؤلاء الطلاب وصرفهم عن تلقي العلم المبتعث من أجله.
والبلدان الشيوعية الماركسية تحرص كل الحرص على تلقبن المبتعثين من بلادنا أفكارهم وآراءهم وفلسفتهم المادية الملحدة، فيعود المبتعث وهو ناقم على دينه وعادات أهله وتقاليدهم، فيخرب ويهدم، وذلك من جراء إرسالنا لأولادنا وتركهم في أحضانهم، وناهيك عن وسائل التدمير في هذه المجتمعات التي أصبح شرب الخمر والمخدرات كتناول الخبز والماء، والاتصال بين الرجال والنساء سهل ميسر.
ومن يمارس هذا الحرام يسهل قياده ويعود مفقود الإحساس بالكرامة، ويفرط في كل شيء في سبيل شهوته ونزواته، إذْ إن إدمان رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الإنسان فلا يحس أنها منكرات، ولا يمر بفكره أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التميز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر المساس قل الإحساس.
ولا حجة لمن يقول: إن الطالب أو الطالبة لا يتغير مادام متحصنًا بالثقافة الإسلامية في بلده؛ لأنه مهما تحصن وتحصل له من ثقافة إسلامية، فإنه في ظروف الغربة والضغوط والتأثيرات والإغراء في مجتمع متحلل لا بد أن يؤثر فيه أو يشوه عقليته.
وما حاجتنا إلى أن نلقي بفلذات أكبادنا في هذه المجتمعات التي هي غاية في مهالك الأخلاق، ونحن قادرون على تلقينهم العلوم في بلدهم وجلب القدرات العلمية إلى بلادنا بشروط توافق عقيدتنا وتقاليدنا، ويكونون تحت بصرنا فنسلم من شرهم ونأمن عواقب أفكارهم.
أما سفر البنات الطالبات إلى الخارج فإنه أشد ضررًا وأكبر نكرًا؛ لأننا وإن قلنا: إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح وتعلم سائر العلوم والفنون كالرجال، فهذا صحيح والعلم النافع مطلوب ومرغوب فيه في حق الرجال والنساء. غير أن هذا العلم من الممكن تحصيلها له في بلدها بمراجعة الكتب والفنون وسائر المؤلفات، وبسؤال العلماء عن المشكلات فإن هذا هو طريقة حصول العلم للرجال والنساء.
فالراسخون في العلم والمتوسعون فيه إنما توصلوا إلى ما تحصلوا عليه بهذه الطريقة. فلماذا تترك المرأة هذا ثم تحرص ويحرص أهلها على سفرها وحدها الذي حرمه الشارع بقوله: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا وليلة إلا مع ذي محرم». رواه البخاري ومسلم. خصوصًا مثل السفر البعيد الذي تتعرض فيه إلى الأخطار والأضرار، ثم إلى فتنتها والافتنان بها الناشىء عن وحدتها والخلوة بها، وعن اختلاطها بالرجال في الملاهي والمجتمعات، وسائر الأحوال والأوقات؛ تقليدًا بما يسمونه تحرير المرأة عن رق أهلها وزوجها، وهن ناقصات عقل ودين، والمشبهة عقولهن بالقوارير في سرعة تكسرهن وميولهن، وليس من شأنها أن تطلب علمًا يوصلها إلى سطح القمر بحيث لا تجده إلا في الخارج، وما عداه فإنه موجود في بلدها بدون سفر. لهذا يحرم على حكام المسلمين تمكين النساء من السفر إلى الخارج، كما يحرم إعانتهم لهن في سبيل هذا السفر؛ لاعتبار أنه سفر معصية بلا شك. وبالله قل لي ماذا ينفع العائلة الحسيبة المسلمة من سفر ابنتهم إلى المدارس النصرانية تتربى بأخلاقهم ومساوئ آدابهم وعوائدهم.
إن أكبر ما تستفيده هي اللغة الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب بها أمها ولا أباها ولا أخواتها، وإذا رجعت من سفرها إلى أهلها رجعت إليهم بغير الأخلاق والآداب التي يعرفونها عنها، فترى أهلها كأنهم عالم غير العالم الذي نشأت فيه، وتحمل في نفسها الكبر والازدراء لأهلها، فتعيب عليهم كل ما يزاولونه من معيشتهم وأخلاقهم وآدابهم وعوائدهم،ثم تقع العداوة والتنافر بينها وبينهم في كل شيء وغايتها أنها تبغض أهلها وأقاربها ويبغضونها.
وحتى الأزواج الأكفاء تعزف نفوسهم عن خطبتها والرغبة فيها؛ لعلمهم بأنها متبرجة ومتفرنجة لا تخضع لطاعة الزوج، وتكلفه شيئًا من المشاق في السفر بها دائمًا إلى البلدان الأجنبية، ومتى تقلدت عمل الوظيفة فإنه أبعد لها عن الزوج، وعن تدبير شؤون بيته وعياله أفلا يكون سفرها للتعلم على هذه الحالة شقاء وضلالة وقطعًا لأواصر الزوجية والعيال، وما تستفيده من مرتباتها فإنها ستكون أبعد عن أهلها ويتضخم به خبالها وعدم اعتدالها.
وإننا باعتبار أننا مسلمون على الحقيقة فإنه يجب علينا امتثال مأمورات دين الإسلام واجتناب منهياته، فقد نهى رسول الله أن تسافر المرأة يومًا وليلة إلا مع ذي محرم، ونهى أن يخلو الرجل بالمرأة، وقال: «ما خلا رجل بامرأة إلا والشيطان ثالثهما»([143]). ونهى القرآن عن إبداء زينتهن للرجال، وهذا كله حاصل متيسر منها في سفرها، فإنها تتزيَّا بزي نساء أهل تلك البلاد من التكشف وإبداء مفاتن جسمها غير مبالية بالحياء والستر، وإنما نهى رسول الله عن هذه الأشياء لكونها كالمقدمات لما بعدها كما في البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «العين تزني وزناها النظر، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»، فلا ينهـى الشارع عن شيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة. والنبي ﷺ قال: «الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته ومسؤول عن رعيته»([144]). فلا أَدري ما حجة هذا الرجل الذي جعله الله راعيًا على أَهل بيته متى سئل عن سفر ابنته لبلدان أوربا، وهل يصدق عليه أنه قام بواجب رعايته في أمانة تربية ابنته فأحاطها بحفظه وصانها حسب استطاعته، وفاء بصدق أمانته وحسن رعايته؟ أم ضيع ما استؤمن عليه وفرط في رعايته وقذف بابنته في هاوية الفتنة والافتنان بها، وتركها تتصرف كيف شاءت بدون مراقب ولا وازع؟
ومن يُثني الأصاغرَ عن مرادٍ
إذا جلسَ الأكابرُ في الزوايا
إنه لا ينبغي لنا أن نحسن الظن بها والحالة هذه، بل يجب أن نحسن العمل برعاية حمايتهن عن مراتع الفتن فإن من وقع في الشبهات وقع في الحرام.
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظنّ شرًّا وكن منها على حذرِ
وكذا يقال في الأئمة الذين جعلهم الله رعاة على عباده أنه يجب عليهم أن يغرسوا في نفوس رعاياهم التخلق بمحبة الفرائض والفضائل، وحمايتهم عن منكرات الأخلاق والرذائل باستعمال الأسباب والوسائل، فإن الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع. أولم يكن الأوفق والأليق لهذه البنت ولأهلها أن تتعلم مبادىء العلوم والشريعة عند أهلها وفي مدارس بلدها لتستعين بالبيئة والمجتمع على تهذيبها وصيانتها وحسن تربيتها وحسن الظن بها؟ وحتى تكون في بيت أهلها وزوجها صالحة مصلحة تعاملهم وتعاشرهم بالحفاء والوفاء بدون نفرة ولا جفاء، وحتى تكون مثلاً صالحًا لأخواتها وأهل بيتها، وكاليد الكريمة لزوجها في إدارة شؤون بيتها وعيالها فتعيش سيدة بيت وسعيدة عشيرة ولا يوفق لهذا إلا خيار النساء عقلاً وأدبًا ودينًا.
إن تحويل النساء المسلمات عن أخلاقهن الإسلامية يقع بتأثير أخلاق أرواح أجنبية غايتها تحويل المسلمات عن دينهن وجميل أخلاقهن إلى اتباع الأوروبيات وتقليدهن في عاداتهن، وكل ما ذكرنا من خطورته على العفاف والدين فإنه من البراهين التي لا مجال للجدل في صحتها. إن النصارى لا يعدون الزنا جريمة، وإن الاختلاط بين الطلاب من الشباب والشابات واحتكاك بعضهم ببعض جنبًا إلى جنب وجريان الحديث والمزاح بينهم، ثم المصاحبة والخلوة كما تستدعيه المجالسة والمؤانسة، عمل ضار في ذاته ومؤداه إلى الفاحشة الكبرى في غايته وسوء عاقبته؛ لأنه يعد من أقوى الأسباب والوسائل لإفساد البنات المصونات وتمكن الفساق من إغوائهن، فهل أنتم منتهون؟ ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة: 92].
فهذه نصيحتي لكم والله خليفتي عليكم وأستودع الله دينكم وأمانتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *
[143] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بلفظ: «دخل الشيطان بينهما». [144] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.