1794

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م

المجلد الثالث

قضايا معاصرة

(7) المسكرات والخمور وما يترتب عليها من الأضرار والشرور

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وخذل أهل معصيته فاستحوذ عليهم الشيطان، وحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأنساهم ذكر الله. وأشهد أن لا إله إلا الله ولا رب لنا سواه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه، واختاره لأعباء نبوته وتبليغ رسالته فأوحى إليه ما أوحاه. اللهم صل على نبيك ورسولك وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢ [المائدة: 90-92].

قال بعض السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ فأصغ لها سمعك، فإنها خير تؤمر به أو شر تنهـى عنه.

تحريم الخمر

نادى الله عباده باسم الإيمان بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم، فلا توجد هذه الصيغة إلا في السور المدنيات، وهذه الآيات هي من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها.

وهي نص قطعي في تحريم الخمر، فمن قال بإباحتها فقد كفر. والله سبحانه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة، ومفسدة راجحة، ولا يوجب شيئًا من الواجبات، كالصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة.

وقد حرّم الله الخمر لفنون المضار المتفرعة عنها؛ لأنها أم الخبائث وجماع الإثم، ومفتاح الشرور والداعية إلى الفجور، تهتك الأسرار وتقصر الأعمار، وتولد في الجسم أنواع المضار، تذهب بالثروة وتهدم بيوت الأسرة، وتورث شاربها فنونًا من الجنون والجهالة والغفلة.

ولا يزال الرجل يمشي مع الناس بعفاف وشرف وحسن خلق إلى أن يشرب الخمر ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل ويستوحش من أهله وأقاربه وجيرانه، وتنزل الكآبة وسيما السوء على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، فيبتلون بالخوف الشديد من توقع سطوته؛ لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل التي شرفه الله بها وألحق نفسه بالمجانين، وكيف يرضى بجنونٍ مَن عقل.

الصفات العشر التي وصفت بها الخمر

وحسبكم وصف القرآن لها بصفات عشر كلها تستدعي البعد عنها صيانة لدين المرء وعرضه وبدنه، فوصفها بأنها رجس، والرجس هو النجس الخبيث، فمتى تربى الجسم على هذا الرجس النجس الخبيث صار نجسًا خبيثًا؛ لأن الغاذي شبيه بالمغتذى وحتى إن نسل شارب الخمر من أبنائه وبناته يصيرون معتوهين مشوّهين، معرّضين للأمراض والأضرار والجنون والخبال، لتكوينهم من نطفة نجسة هي بمثابة البذر الخبيث، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.

ثم وصفها ثانيًا بأنها من عمل الشيطان، فلا يحبها ويدمن شربها إلا من هو شيطان مثلها ليس من أولياء الرحمن، وحسبكم ما تحسونه من سوء تصرفات الشيطان، وكونه يسعى دائمًا بفعل الفحشاء والمنكر.

ثم وصفها ثالثًا بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ [المائدة: 90]. وهذه صيغة مبالغة في المباعدة، كأنه يقول: ابعدوا كل البعد عنها، كونوا في جانب وهي في جانب. فقوله: اجتنبوه، أبلغ في الزجر من قوله: دعوه أو اتركوه لعلكم تفلحون، فدلت هذه الآية بطريق الفحوى على أن شارب الخمر بعيد من الفلاح، غارق في الفساد والسفاه، ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِ [المجادلة: 19].

ثم عاد رابعًا إلى الزجر عنها فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ، أما العداوة في الخمر فمعروفة محسومة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر وسكر هذى وافترى وسب وضرب وشتم أهله وعياله، لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله بها.

وكان جماعة من الأنصار جالسين في شرب الخمر في الجاهلية قبل أن يحرمها الإسلام، فشربوا ثم سكروا فعبث بعضهم ببعض وثار بعضهم على بعض بالضرب والقتل، فلما صحوا وزال عنهم السكر، قال بعضهم لبعض: والله ما فعل بي فلان هذا إلا لحقد كامن في قلبه علي قبل السكر، فنشبت بينهم الحرب سنين عديدة حتى أطفأها الله بالإسلام وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام وأنزل الله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا [آل عمران: 103]. وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «ما هذه الشجة التي أرى في وجهك؟». فقال: يا رسول الله إن رجلا من قومي شرب الخمر فسكر، فضربني بلحي جمل حتى شجني. فقال: «نعم قاتل الله الخمر هكذا تفعل بشاربها». وذكر ابن رجب في اللطائف: أن رجلا كان يشرب الخمر وكانت أمه تنهاه عن شربها، فبينما هي ذات يوم وقد سجرت تنورها فجاء ابنها وهو سكران فحمل أمه وقذف بها في التنور فاحترقت.

فهذا من فنون العداوة في الخمر، وأما العداوة في الميسر: فإن الميسر هو القمار، ومتى غلب أحدهما صاحبه في القمار وغبنه ماله، فإنه يحتقب له العداوة والبغضاء من أجل سلبه ماله الذي هو عديل روحه وقوام بنيته وبيته، ولأنه أكل للمال بالباطل، وقد نهى الله في كتابه وعلى لسان نبيهﷺ عن كل عمل وكل كسب يؤول إلى العداوة والبغضاء بين المسلمين.

وأما قوله: ﴿وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ [المائدة: 91]. فإن هذا أمر واقع ومحسوس ملموس، فإنك قلَّ أن تجد السكير أو اللاعب بالقمار في المسجد؛ لكونهما في غفلة ساهين، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ومن المعلوم أنهما لو داوما على الصلاة لنهتهما عن ارتكاب مثل هذه المنكرات، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر.

ثم قال: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢ [المائدة: 92]. فلا أبلغ في الزجر والتحذير من هذه الآيات التي يأمر الله فيها عباده بطاعته وطاعة رسوله، ثم حذرهم أشد التحذير من مخالفة أمره بارتكاب محرماته وترك طاعاته، والآية سيقت لتأكيد تحريم شرب الخمر الذي هو مفتاح كل شر.

إن الله سبحانه لمّا ذكر هذه الزواجر عن هذه الجريمة الأثيمة، قال بعد هذا كله: ﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١، فقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولذا قال عمر بن الخطاب: سمعًا وطاعة لله ورسوله، قد انتهينا، قد انتهينا، قبحًا لها وسحقًا، قرنت بالأنصاب والأزلام. وكان جماعة من الأنصار مجتمعين في بيت أبي طلحة على شرب قبل أن تحرم الخمر، فسمعوا صوتًا عاليًا، فقال أبو طلحة لأنس بن مالك: انظر ما هذا الصوت. فخرج ثم رجع فقال: هذا منادي رسول اللهﷺ ينادي بتحريم الخمر. وكانت الكؤوس بأيديهم فأخذوا يضربون بها الحيطان ويقولون: سمعًا وطاعة لله ورسوله، ثم خرجوا إلى السوق وبه ظروف الخمر، فجعلوا يضربونها بالسكاكين حتى سالت بالأزقة، وكان بعضهم يقول: والله إن كنا لنكرمك عن هذا المصرع قبل هذا اليوم. ولمّا حرم الله الخمر حرم بيعها وشراءها وكل وسيلة تؤول إلى شربها.

وسأل أبو طلحة النبي ﷺ عن خمر لأيتام في حجره، وهل يجعلها خلًّا، فنهى رسول الله ﷺ عن ذلك، ولهذا لعن رسول الله ﷺ الخمر، عاصرها ومعتصرها وساقيها وشاربها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه([130])، كل هؤلاء واقعون في اللعن لتساعدهم على فعل هذه الفاحشة المحرمة. وحسبها قبحًا أن النبي ﷺ قال: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن»([131]).

[130] رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث ابن عمر وأنس بن مالك، ورواه أحمد بسند صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث ابن عباس. [131] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

ليس صحيحًا أن مدمن الخمر لا يستطيع تركها

يقول بعض الناس: إن الخمر متى أدمن صاحبها شربها وتخمر في رأسه حبها، فإنه قلَّ أن يقلع عنها أو يتوب عنها، لأنه كلما اشتكى رأسه من وجعها عاد إلى شربها، على حد ما قيل:
.................................. فداوني بالتي كانت هي الداء
ونحن لا نسلم بصحة هذا القول ولا لهذا الاعتقاد لوقوع العمل بضده، بطريق التجربة والمشاهدة، لكون عمل النفس من صاحبها، فالإقلاع عنها والتوبة منها سهل ميسر مع قوة الإرادة وصدق العزيمة، أما رأيت الصحابة الكرام كيف تربوا على حبها وإدمان شربها في جاهليتهم من حالة صغرهم إلى كبرهم، ثم أقلعوا عنها وتابوا منها بعد الإسلام وبعدما رسخ الإيمان في قلوبهم؛ لكون الإيمان الراسخ هو أعظم وازع على أفعال الطاعات وأقوى رادع عن ارتكاب المنكرات، والصبر المحمود هو الصبر على طاعة الله والصبر عما حرم الله.

إلى حالة أن الصحابة ندموا على الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وهي في بطونهم قبل أن تحرم الخمر عليهم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ [المائدة: 93]. لكون الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ.

فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لم يكن إقلاعهم عنها ثقيلاً في نفوسهم لكون قَوة الإيمان هي أعظم وازع وأقوى رادع عن ارتكاب المنكرات وشرب المسكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيّها
ما لم يكن منها لها زاجرُ
وقد شرع الله الصيام لمغالبة النفس والشهوة والهوى، فيصبر عما حرم الله عليه من كل ما يشتهيه من الطعام والشراب والوقاع والخمر والدخان، حتى لو ضرب المسلم على أن يستبيح الفطر في نهار رمضان، لما استباح الفطر أبدًا، لكون المؤمن يلجم نفسه بلجام التقوى ويكفها من مراتع الغيِّ والردى حتى تتعود الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله، والنفس من صاحبها، فإن أطمعها في فنون المشتهيات وأرخى لها العنان في تناول المطاعم والمشارب المحرمات طمعت واشتهت، وإن ألجمها بلجام التقوى وكبحها عن مشارب الغي والردى سلت وسمحت وانقادت.
وما النفسُ إلا حيث يجعلُها الفتى
فإن أُطمعت تاقت وإلا تسلَّتِ
و ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10].

إن الله سبحانه خلق الإنسان وفضله بالعقل على سائر الحيوان وركب فيه السمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول المنافع والتباعد عن المضار، فمتى وقع في مضار الإسكار لغلبة شهوته على عقله علمنا حينئذ أنه ليس لديه عقل صحيح وأنه استحب العمى على الهدى؛ لأنه إنما سمي العقل عقلاً لكونه يعقل عن الله أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على الفرائض والفضائل ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
والعقل في معنى العقال ولفظِهِ
فالخيرُ يعقل والسّفاه يحلّهُ
يعني أن العقل يعقل صاحبه على فعل الخير واجتناب الشر، وأن السفاه هو الذي يحل هذا العقال ويجعله يتخبط في فنون الضلال والخبال من أنواع الشرور وشرب الخمور، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا [المائدة: 41].
قبحًا لهاتيك العقول فإنها
عِقالٌ على أصحابِها وعقابُ

شرب الدخان أيضًا من الأمور المحرمة

وهكذا يقال في الصبر عن شرب الدخان الذي هو أضر شيء على الأبدان، والدخان هو المسمى بالتبغ، سواء كان من سيجارة أو نارجيلة، وإن كبار الأطباء على اختلاف أوطانهم نجدهم يحذرون أشد التحذير من شرب الدخان لعلمهم بالأضرار الناشئة عنه، من كونه يعبث بالصحة ويحدث فنونًا من الأسقام، فهو من الأشربة المحدثة الضارة للصحة، ولأجل ذلك قال كثير من العلماء بتحريمه، فمن الواجب على العاقل أن يصون نفسه عن مقارفته، وإن كان قد ابتلي به وجب أن يتوب عنه، حفظًا لصحته وحماية لذريته الذين يستنون بسنته ويقتدون بسيرته، وقد قام الطب الحديث في هذا الزمان على تحقيق مضرته وسوء مغبته، وأنه يعجل بهلاك المصدورين، وقد وصفه بعض الأطباء بالحية المنطوية على الجسم.
مُفتّر الجسم لا نفعٌ به أبدًا
بل يورثُ الفقرَ والأسقامَ في البدنِ
تبًّا لشاربه كيف المقامُ على
ما ريحُه شبه السّـرجينِ من عطنِ
ولا يغرنْك من في الناس يشـربُه
الناس في غفلةٍ عن واضحِ السننِ
يقضـي على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
جاء في كتاب الصحة والحياة لمؤلفه الطبيب أ. س. سلمون: إن الناس في مختلف الأقطار مستعبدون لعادتين وخيمتين شديدتي التنكيل بالجهاز التنفسي وهما: تدخين التبغ وتعاطي المشروبات الروحية والمواد المسكرة، ودخان التبغ يؤذي كل عضو من أعضاء الجهاز التنفسي، فهو يحدث التهابًا في الأغشية المخاطية والخاصة بالأنف والحلق والقصبة الهوائية ويسبب السعال ويفتك بغشاء الرئتين فتكًا ذريعًا، بحيث يعرّضها للتدرن وما إليه من الأمراض الفتاكة التي يصعب دفع غوائلها، ويعرّف الأطباء الناس الذين يتعاطون الكحول ويشربون الدخان (التبغ) أنهم معرّضون بسهولة للالتهاب الرئوي وأمراض التدرن، وأن الفرص لشفائهم من هذه الأمراض حين يصابون بها صعبة جدًّا، وهذا دليل ساطع وبرهان قاطع على الضرر البليغ الذي يسببه الكحول والتبغ، وليت مضار الكحول والتبغ تقف عند حد الرئتين، بل إنها تتعداهما إلى جميع أجزاء الجسم.

إن النصارى في هذا الزمان قد صاروا أشد الناس عداوة ومحاربة للكحول والتدخين، فينشرون عنهما من الأضرار الناجمة والمتفرعة عنهما ما يقتضي التحذير والتنفير منهما، من ذلك أنهم منعوا منعًا باتًّا جميع الدعايات إلى الخمور أو التدخين، لا في الألواح ولا التلفزيون ولا السينما، ثم ألزموا الشركات التي تتعامل في الدخان بأن تكتب على كل علبة (احذر شرب الدخان، فإنه يضر صحتك)، وكل ما لا يكتب عليه فإنه يصادر. وهذه من الأسباب التي قللت فشوه وانتشاره في بلدهم، إذ الوقاية خير من العلاج.

فمتى كان الأمر في الدخان (التبغ) بهذه الصفة من تحقيق مضرته وسوء عاقبته، فإن من الواجب على وزارة التربية والتعليم ورعاية الشباب إصدار قرار بمنع التدخين في المدارس من كل أحد احترامًا لها، كما يحترم الناس المساجد بعدم التدخين فيها، ومراعاة لتقليله وعدمه، وإنما أسست المدارس لتعليم الشباب ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم وهذا منها، خصوصًا الأساتذة، فإنه متى قام أحدهم بالتدخين بمرأى من الشباب والمتعلمين، فإن هذا تعليم منه بإباحته، ودعاية سافرة إلى فعله، إذ التعليم والدعاية بالأفعال أبلغ منها بالأقوال، والأستاذ قدوة تلميذه، وثقته به تستدعي قبوله لما يقوله ويفعله، فالتلاميذ مع الأساتذة بمثابة الأعضاء مع اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.

إن في المشروبات المباحة النافعة التي تزيد في صحة الجسم والعقل ما يغني ويكفي عن هذه الأشربة الخبيثة التي ضررها أكبر من نفعها، ولكن حبك للشيء يعمي ويصم، فلا يسمع محبها نداءها، ولا يرى ضررها للغير وإيذاءها، وقد حفت النار بالشهوات.
والنفس كالطفل إن تتركه شبَّ على
حبِّ الرضاعِ وإن تفطمه ينفطمِ

المعيار الشرعي الذي توزن وتميز به الخمر المحرمة

أتدرون ما هي الخمر المحرمة بالكتاب والسنة؟ هي كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر من أي شيء كان، كما ثبت بذلك الحديث، وفي رواية «ما أسكر كثيره فملء الفم منه حرام»([132]).

فهذا هو المعيار الشرعي الذي توزن وتميز به الخمر المحرمة؛ لأن الخمر يكون من التمر ويكون من العنب ويكون من الشعير ومن الذرة، ويكون أيضًا من مشروبات مستحدثة مما يسميه الناس بغير اسمه، فلا تنس أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر، من أي شيء كان، حتى لو وجد عين ماء من شرب منها سكر لحكمنا عليها بأنها خمر محرم اعتبارًا بالميزان الشرعي.

[132] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.

لا عبرة بالأسماء في تحريم الخمر

فما يسمونه البيرة بدون كحول هو خمر محقق لانطباق وصف الخمر المحرم عليه، فقد ثبت بالاختبار والتجربة أن شرب مقدار زجاجتين منها يسكر، وهذا أمر صحيح ثابت، فكتابتهم عليها (بيرة بدون كحول) هو خداع وتغرير لقصد ترويجها بين الناس، وإلا فإنها مشتملة على الكحول المسكر، فهي محرمة قطعًا لاعتبار أنها خمر محرم، ومثله شارب الترياق والحشيشة وغير ذلك من فنون الأشربة المسكرة المستحدثة، ولا ينبغي أن نغفل عن الميزان الشرعي لهذه الأشياء، وهو قول النبي ﷺ: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»([133]). وهو خمر من أي شيء كان.

حرمت الخمر لعموم الأضرار المتنوعة والمتفرعة منها، فضررها على الروح والعقل وعلى الجسم والنسل وعلى المال وعلى الصحة وعلى المجتمع، تقصر الأعمار، وتهتك الأسرار، وتوقع في فنون من الأضرار والأمراض، تطيش بالعقل عن مستواه إلى حالة الطغيان ومجاوزة الحد في الكبر والفسوق والعصيان، حتى يخيل للرجل السافل الساقط أنه ملك قاهر وجبار قادر، كما يقول بعضهم:
ونشـربها وتتركنا ملوكًا
وأُسْدًا لا يُنهْنهُها اللقاءُ
فيندفع إلى تحقيق هذه الخيالات الخمرية، فيغضب ويضرب ويسوء خلقه على أهله وعياله وعلى الناس، ثم يخيم الخوف والوحشة على أهل بيته، بحيث يخافون سطوته، لأنه قد أزال عن نفسه نعمة العقل التي شرفه الله بها وألحق نفسه بالمجانين، وكيف يرضى بجنون من عقل، فإن كان في حالة السكر يقود سيارة من حديد، فإنه ينجم عنه الضر والبأس الشديد، ولأجله اشتد غضب رسول الله ﷺ على الخمر، فقال: «لعن الله الخمر؛ ساقيها وشاربها وبائعها ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه»([134]) كل هؤلاء واقعون في اللعنة. وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر»([135]).

وأخبر «أن الناس في آخر الزمان يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها»([136])، والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها. وأخبر «أن أناسًا من هذه الأمة يبيتون على لعب ولهو وشرب خمر، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير» رواه أحمد والبيهقي وابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة وسنده ضعيف. وهذا المسخ والله أعلم هو مسخ صوري: أي يصبحون في أخلاق القردة والخنازير، ينزو بعضهم على بعض، قد ذهبت منهم المروءة والغيرة والحياء والعفة والخلق الحسن، ويظهر أثر هذا المسخ على سيماهم وأخلاقهم، يعرفه المتفرسون من الناس، وقد يكون هذا المسخ حقيقيًّا، كما وقع لمن قبلهم والله على كل شيء قدير. وقد سئل النبي ﷺ عن الخمر يصفها للدواء فقال: «إنها ليست بدواء ولكنها داء»([137]).

فيا سبحان الله، كم في الخمر من آفات ومضرات، ولكن حبها يعمي ويصم فلا يحس محبها بأضرارها ولا يرى فتكها للغير وإيذاءها.
سكرانِ سكرُ هوىً وسكرُ مُدامةٍ
فمتى إفاقةُ من به سكرانِ
وإلا فإن ضررها يتناول الروح والجسد والمال والولد والعرض والشرف، فكم أزالت من نعمة وكم جلبت من نقمة، وكم خربت من دار، وكم أذهبت من عقار، وكم أفقرت من تجار، وكم نقلت العقل الصحيح من حالة العدل وحسن التدبير وكمال التفكير إلى حالة الجهل والخبال والفساد الكبير.

لهذه الأسباب حرمها كثير من مشركي العرب في الجاهلية على أنفسهم، قبل أن يحرمها الإسلام عليهم، ويقول أحدهم: كيف أشرب ما يزيل عقلي ويلحقني بالمجانين!

وحتى النصارى على كفرهم وضلالهم أخذوا يعقدون الاجتماعات على إثر الاجتماعات في محاولة التحريم لهذه المسكرات حين رأوا فتكها بأخلاق البنين والبنات وإفسادها للبيوت والعائلات، ولكنهم لم ينجحوا في منعها، من أجل تربيتهم على حبها، ومع عدم نجاحهم فإنهم يجاهدون في تقليل شربها، حتى إن الكأس الذي يشرب به أحدهم ليوصف بإصبع الإبهام، وكثير منهم تعففوا عنها.

وحتى كتب الأطباء منهم مملوءة ببيان أضرارها والتحذير منها، وحتى المحاكم الشرعية والقانونية مملوءة من الحوادث والجرائم والفجور الناشئة عن شرب الخمور، وهي من أكبر الوسائل لقطيعة الأرحام وفساد الألفة الزوجية.

وإن العلماء والأمراء والوزراء ومجالس الشورى يجب أن يكونوا بمثابة الحماة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن دخول الفساد وما يعود بخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد.

فمتى قصر هؤلاء في واجبهم وأهملوا حماية وطنهم وتركوا الخمور تجلب إليها والحوانيت تفتح لبيعها، بحيث تكون في متناول كل يد من صغير وكبير، فإنهم حينئذ قد استودع منهم ويعتبرون قد غرقوا جميعًا في غرمها وإثمها، ويصيرون مستعبدين طول حياتهم لأضرارها وأمراضها، وحتى الذين لا يشربونها من الكبار فإنهم يبتلون بمن يشربها من أولادهم وأهل بيتهم، ثم يقود بعضهم بعضًا إليها، حتى يغرقوا جميعًا فيها، والدفع أيسر من الرفع، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].

[133] أخرجه مسلم من حديث ابن عمر عن جابر، أن رسول الله قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان، وروى البخاري ومسلم عن عمر، قال: أنزل الله تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. [134] متفق عليه من حديث ابن عمر. [135] رواه الطبراني من حديث ابن عباس. [136] رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي مالك الأشعري. [137] أخرجه مسلم وأبو داود عن وائل الحضرمي إلى طارق بن سويد سئل النبي عن الخمر يصفها للدواء فقال: «إنها ليست بدواء ولكنها داء». وروى البيهقي وصححه ابن حبان عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم».

حد شارب الخمر

وقد شرع الله على لسان نبيه إقامة الحد بالجلد كفارة عنها، وليكون بمثابة الزجر عن ارتكاب هذه الجريمة الأثيمة؛ لأن دين الإسلام قائم على محاربة الجرائم على اختلاف أنواعها وتقليلها وتطهير المجتمع منها، فشرع الله القصاص صيانة للدماء، وشرع الله حد الزنا صيانة للأنساب والأعراض، وشرع قطع يد السارق صيانة للأموال، بحيث يستتب الأمن ويقل العدوان، وشرع حد الخمر صيانة للعقول والأرواح والأجسام والمجتمع، وأنزل الله ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النور: 2].

وقال في حد الزنا: ﴿وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢ [النور: 2]. ولا تقوم النكاية بالسجن أو تطويله ولا الغرامة بالمال مقام الحد بالجلد، لكون الجلد تكفيرًا للجريمة وزجرًا له عن معاودة فعلها، وردعًا للناس؛ لأن السجن يتعدى ضرره إلى أهله وعياله الذين لا جريمة لهم، بخلاف الحد بالجلد، فإنه مقصور على الفاعل نفسه، ولأن من لا يكرم نفسه لا يكرم، ومن يهن الله فما له من مكرم، و «حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحًا»([138])، كما يفيده إقامة الحد من إصلاح المجتمع وتقليل المفاسد فيه.

والنبي ﷺ جلد في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، والكل سُنَّة، وقال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب الخمر فاجلدوه»([139]). وقال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره»([140]). ولهذا يقول الله تعالى: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَا [البقرة: 229]. وحدود الله محرماته، فإقامة الحد كفارة عن ارتكاب هذا الذنب وتطهير له وزجر عن معاودته، وردع للناس عن مقارفة مثله، وخير الناس من وعظ بغيره، فهو يقلل فشو هذه الجريمة الأثيمة، لاعتباره رحمة للفاعل ولجميع الناس وإن عدوه عقابًا.

فأعداء الإسلام الذين ينسبون إقامة الحدود إلى القسوة والوحشية، هم الذين يسعون في الأرض فسادًا، فهم يسببون تكثير الجرائم بالسكوت عليها وعلى الفاعلين لها، وتلطيف أعمالهم حتى تمتلئ الدنيا فسادًا، فإن كل من أمن العقوبة أساء الأدب، والعصا زجر من عصى، فهم دائمًا يرمون المسلمين بدائهم، فهم الذين صنعوا القنبلة الذرية التي تقضي على الملايين من الآدميين ما بين شيوخ وعجائز وحوامل وأطفال وبهائم ممن لا ذنب لهم وتفسد الحرث والنسل، فهذا والله حقيقة الوحشية والفساد الكبير والله لا يحب المفسدين.

وجميع الناس من الصالحين والفاسقين أصبحوا يتحدثون عن مضار الخمر وخطرها على الأفراد والمجتمع وعلى الشباب والنساء حتى صارت جل حديث القوم في مجالسهم وأنديتهم، كأنها غزو يريد تدمير بلادهم وسبي ذراريهم ونسائهم، ويتزايد ضررها ويعظم خطرها في البلدان الحارة، كبلدان نجد والحجاز والخليج وما جاورها، وإذا اعتاد الشاب شربها في حالة صغره، فإنه ينقصم عمره([141]) في شرخ شبابه، بحيث لا يتجاوز غالبًا سن العشرين إلى الثلاثين من عمره. فهي تعجل بهلاكه لأجل إسرافه في شربها، فهي من ورطات المعاصي التي لا مخلص لمن أوقع نفسه فيها إلا بالتوبة عنها، ولا يزال الشخص يمشي مع الناس بعفاف وشرف وحسن خلق إلى أن يشرب الخمر ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل ويستوحش من أقاربه وجلسائه، وتظهر الكآبة على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، ويبغض الناس ويبغضونه ثم يصير مستعبدًا لهذه العادة الضارة طول حياته، يتمنى الخلاص منها ولا يستطيع، ثم تسري العدوى منه إلى أولاده لاقتدائهم بسيرته وفساد طريقته.

إن الذين يعرفون مضار الخمر وإفسادها للأخلاق والمجتمع وللنساء والشباب، ثم يعللون عملهم في الاتجار فيها والتسامح في تدخيلها إلى بلدهم عن طريق التهريب الخفي مع كونهم مسلمين، إنهم ليس فيهم غيرة دينية ولا حمية وطنية، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وحسبهم من الشر وقوعهم في اللعنة، فقد لعن رسول الله ﷺ الخمر وبائعها ومشتريها كما أن ثمنها حرام، وخطب رسول الله على رتاج الكعبة يوم فتح مكة، فقال: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»([142]).

إن بلد الإنسان بمثابة أمه التي ولدته وغذته بلبانها، فالذي يجلب الخمر إلى بلده هو بمثابة الذي يقود السوء على أمه، لقد كان من واجب المسلم الغيور أن يبر أهل بلده، وأن يوصل إليهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم، لاعتبار أنهم لحمة من جسده يسوؤه ما يسوؤهم ويضره ما يضرهم، وإن إدخال الخمر المحرمة إلى البلد هي أضر على أهلها من إدخال المطاعم والمشارب المسمومة؛ لأن المطاعم والمشارب المسمومة تضر بالبدن فقط وربما يكون الهالك بها شهيدًا عند الله، أما الخمر فإنها تهلك البدن والعقل والدين، ومن لقي الله وهو يستبيح شربها لقيه كعابد وثن، فالأخوة الإسلامية والنخوة العربية توجب النفرة عن الاتجار في هذا العمل الضار، كيف وقد لعن رسول الله الخمر وبائعها ومشتريها، وإن أكل ثمنها وأرباحها حرام، ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ [البقرة: 275].
ألا إنَّ شربَ الخمرِ ذنبٌ معظمٌ
يُزيل صفاتِ الآدمي المسددِ
ويُلحَق بالأنعام بل هو دونُها
يخلّط في أفعاله غير مهتدِ
يُزيل الحيا عنه ويَذهب بالغنى
ويُوقَع في الفحشا وقتل التعمدِ
فكل صفات الذم فيها تجمعتْ
لذا سميت أم الفجور فأسندِ
إن بعض الشباب الطائشين وبعض التجار المترفين قد صرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم إلى تقليد النصارى في جميع أعمالهم وعاداتهم، حتى في سفاسف أخلاقهم، يظنون من رأيهم القصير وعزمهم الحقير أن الحضارة والمدنية والرقي والتقدم هو في التوسع في فنون الترف والفجور ومعاقرة الخمور ومجاراة النصارى في الخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق ومن الغباوة إطباق وغرهم بالله الغرور، تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة وسقطوا في هوة المذلة ورضوا بأخلاق المذمة التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم ولم ينتهوا عما حرم عليهم، فإنهم يصيرون مثالا للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، فانتبهوا من غفلتكم وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

حرر في 1 رمضان المبارك سنة 1396 هـ.

* * *

[138] رواه النسائي مرفوعًا وموقوفًا وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر. [139] أخرجه النسائي من حديث ابن عمر. [140] أخرجه أبو داود وأحمد عن ابن عمر. [141] إن شركات التأمين على الحياة في حالة فحصها على الشخص الذي يريد تأمين حياته عندما تعرف بأنه سكير يشرب الخمر فإنها تمتنع عن التعاقد معه، وخاصة إذا كان شابًّا، لعلمهم أنه سيقصم عمره في شرخ شبابه قبل انقضاء العمر المعتاد فتخسر مالها بخسران حياته، لكون الخمر تعجل بهلاكه. [142] متفق عليه من حديث جابر.