مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الثالث
قضايا معاصرة(6) حماية الدين والوطن من غزو أفلام الخلاعة والفتن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آ له وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن نصوص الكتاب والسنة توجب على الأمة الإسلامية أن يكون منهم أمة صالحة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ لأن هذا هو سبب صلاح الناس وفلاحهم، وعليه مدار سعادتهم في قديم الزمان وحديثه، قال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾ [آل عمران: 104]. فعلق سبحانه فلاح الناس ونجاتهم ونجاحهم بوجود جماعة مؤمنة يأمرون بالخير وينهون عن الفساد في الأرض، فهم يسعون في نجاة أنفسهم وإنجاء الناس معهم، فكانوا من أنفع الناس للناس، يهدون بالحق وبه يعدلون.
وأخبر سبحانه أن هذا هو سنته في خلقه من لدن القرون السابقة، وأنه ينجي الناس بوجود الرجال الصالحين الذين يأمرون بالخير وينهون عن الشر، ويسعون في البلاد بالإصلاح ومنع الفساد، فقال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ ١١٦﴾ [هود:116]. فأخبر سبحانه بأنه لولا وجود رجال صالحين ينهون عن الفساد في الأرض لعم الناس الهلاك والبلاء، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]. فالأمر بالخير والنهي عن المنكر واجب على كل أحد بحسبه، كوجوب الصلاة والصيام؛ لأنه سنام الإسلام وقوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، وهو الإلف المألوف المؤمِّن من كل خوف، به تألفت القلوب والتأمت الشعوب، وشمل الناس التلاطف والتعاطف والتواصل والتناصح، إذ هو بمثابة الدواء الذي يعالج به سائر الأدواء في رفعها ودفعها، أو من تقليلها وعدم فشوها وانتشارها، إذ المؤاخذة إنما تقع بطريق المجاهرة، فمن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ﴾ [التوبة: 71].
والمعروف هو ما عرفت العقول السليمة والفطر المستقيمة حسنه وصلاحه وعموم نفعه، والمنكر هو ما أنكرت العقول السليمة والفطر المستقيمة قبحه وفساده ومضرته من سائر الأعمال على اختلاف أنواعها، ومن صفة المنافقين ما أخبر الله عنه بقوله: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡ﴾ [التوبة: 67]. أي نسوا ما ذكروا به مما يعود بصلاحهم وفلاحهم، ثم صلاح الناس معهم، فنسيهم الله وتركهم في طغيانهم يعمهون. ولهذا يقول بعض السلف في العصاة: إنهم هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم، ولهدا نسيهم الله في عصيانهم وحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 18-19]. أي إنهم لما نسوا حق الله الواجب عليهم أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية؛ لكون الجزاء من جنس العمل.
إن النهي عن المنكر هو مما يقلل فشوه وانتشاره وسلامة الناس من أضراره وآلامه، والشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، والمنكر متى ترك بحاله ولم يقم أحد من الناس بمنعه ودفعه، فإنه بمقتضى السكوت عنه ينتشر ويشتهر في العباد والبلاد على سبيل العدوى والتقليد الأعمى.
وإن الأمراء والعلماء والرؤساء ومجالس الشورى هم بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن دخول الفساد والإلحاد، وما يعود بخراب البلاد وفساد أخلاق النساء والأولاد، ولا يتصف بالقيام بهذا العمل وحماية الدين والوطن إلا خيار الناس قولاً وعملاً، يقول الله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]. فهذه الخيرية الجميلة لا تدرك إلا بهذه الأعمال الجليلة التي من جملتها الأمر بالخير والنهي عن الشر، فإذا لم يتصفوا بذلك ولم يوجد منهم من يقوم بهذا الغرض، فإنهم يكونون من شر الخلق والخليقة؛ لأن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، يقول الله تعالى: ﴿لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ٦٣﴾ [المائدة: 63]. فأخبر الله أن نهي الربانيين والأحبار لهم قد قلل من فشو شرهم وفسادهم، وإنما دخل النقص على بني إسرائيل من أجل سكوتهم عن المنكرات حتى فشت وانتشرت وعم عقابها الصالح والفاسد، يقول الله تعالى: ﴿كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٧٩﴾ [المائدة: 79]. وليس مخصوصًا هذا بهم دون غيرهم، بل هو شامل لكل من اتصف بصفتهم؛ لأن الاعتبار في القرآن بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد:
إياك أعني واسمعي يا جارة
وخير الناس من وعظ بغيره، فكل ما قص الله عن بني إسرائيل فإنما يعني به هذه الأمة، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ [المائدة: 68]. فمعناه بالضبط: يا أهل القرآن ويا أهل الإسلام لستم على شيء حتى تقيموا القرآن. فمتى قصر الناس في واجبهم ولم يقوموا بحماية دينهم ووطنهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم، والحوانيت تفتح لبيعها، بحيث تكون في متناول كل يد من صغير وكبير، وتركوا الأفلام الخليعة والفواحش الشنيعة تنتشر بينهم، بحيث تغزوهم في عقر دورهم بدون أن ينكروا منكرها، وبدون أن يتناصحوا في شأنها، ويمنعوا ما يقبح منظره منها، فإنهم يعتبرون بأنه قد استودع منهم، وإن هذا العمل والسكوت عليه مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير، وهؤلاء الرؤساء يلامون على سكوتهم عنه، إذ لا نجاة لهم ولا للناس معهم إلا بأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر.
إن عرض الأفلام الخليعة التي فيها النساء الراقصات العاريات اللاتي يسبحن في البحار ويلاعبن الرجال باللمس والتقبيل والاضطجاع جميعًا وتشرب معه كأس الخمر، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق والأفعال والفواحش المكشوفة التي يشاهدها الصغار والكبار من الفواحش التي لا تبقي من الأخلاق ولا تذر. وقد قيل: حسبك من شر سماعه. فما بالك برؤيته.
ويعظم أمرها ويعم ضررها بالجهر بها لكون المؤاخذة إنما تقع بطريق المجاهرة، لكونها تعتبر بمثابة التمرين لفعل هذه الأعمال الشنيعة وعدم اتباعها بالنفرة عنها، بحيث يتعلمها النساء والأولاد للعمل بها حتى تكون لهم خلقًا، فهي بمثابة الدروس التي تنطبع محبتها في النفوس وتؤثر فيها كتأثير خمر الكؤوس، وبإدمان فعلها واستمرار رؤيتهم لها يزول عنهم الحياء والغيرة والخلق الحسن؛ لأن كثرة رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى أنها منكرات ولا يمر بفكره أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
فنشر هذه الأفلام الخليعة وعمل التسهيل لبيع الخمور الخبيثة جرثومة الفساد وخراب البلاد، وفساد أخلاق العباد وخاصة النساء والأولاد، خصوصًا نشر الأفلام الخليعة، فإنها أشد وأشر من الزنا وشرب الخمر، لكون الزاني لا يضر بفعله إلا نفسه، وزناه إنما يقع في حالة الخفية، والمعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، أما إذا أظهرت ولم تُغيّر ضرت العامة بسكوتهم عنها، كما ثبت بذلك الحديث.
وإن هذه الأفلام الخليعة تهدف إلى تعميم نشر الفواحش الشنيعة والأعمال الفظيعة بين الصغار والكبار، وهي من الفتن التي تُعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، حتى تجعل القلوب منكوسة سودًا لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، ولا يزال العقلاء في شتى البلدان يشكون الويلات على إثر الويلات من جراء ما أفسدت عليهم الأفلام من أخلاق البنين والبنات وسائر بيوت العائلات؛ لأنها مشهد زور ومدرسة فجور، تبعث في نفوس النساء والشباب ريح العشق والميل إلى الفجور.
فإذا أردتم أن تعرفوا عظم مضارها وتأثيرها في الأخلاق والعقيدة والدين، فانظروا إلى البلدان التي ضعف فيها الإسلام واستباح أهلها الجهر بمنكرات الفواحش والعصيان، ثم انظروا إليهم كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض فكانوا كالأنعام، بل هم أضل، قد ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم.
وهذه من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ بأنه يرقق بعضها بعضًا، وحتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من يصلح جشره ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة، قال: فاجتمعنا، فقال: «إنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، تجيء الفتن يرقق بعضها بعضًا»، ومعنى يرقق بعضها بعضًا: أن الآخرة شر من الأولى.
وقد يظن بعض الناس حينما يسمعون بخروج الفتن التي أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان والتي حذر عنها أمته أنها الحروب المشتملة على الضرب بالبنادق والمدافع والقنابل والسيوف والخناجر، وليس الأمر كذلك، بل إن هذه منها وليست مقصورة عليها، بل هي أشد وأشر من هذه كلها، وهي الفتن التي تفسد الأخلاق والعقائد والأديان وتوقعهم في الافتنان؛ لأن الفتنة في الدين أشد من القتل، ولا أشد ولا أشر من الفتن التي تغزو الناس في عقر دورهم، وتفسد أخلاق ذراريهم ونسائهم كفتنة الأفلام الخليعة التي هي مشهد زور ومدرسة فجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخلي شجيًّا تساوره الهموم والغموم، ويبتلى بالسهر وطول التفكير وحرمان لذة النوم من أجل شغل قلبه بما يشاهده، فهي بمثابة شرك الكيد وحبائل الصيد للقلوب الضعيفة من النساء اللاتي هن ناقصات عقل ودين، وقد وصفهن رسول الله في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من الغناء والألحان المطربة، وما يفعلونه من التعاشق والتعانق، كل هذا مما يضعف الإيمان ويستدعي الميول إلى الفسوق والعصيان، فيغرق الناس جميعًا في حضيض الذل والهوان، فتنقطع من بينهم روابط الزوجية الشرعية وتدنيهم من الإباحية المطلقة.
فمتى كان القائمون ببث الأفلام الخليعة ممن لا حظ لهم من الأخلاق والدين، يحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين، فإنها تصير فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء. وإني أنصح المراقبين عليها بتقوى الله في عرض ما ينفع ويجمل ويزين من الأخلاق الفاضلة والعلوم النافعة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض المنكرات والأخلاق الساقطة، والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، كما أنني أنصح الحكومة بنصب رقابة عدلية تمنع نشر الفواحش وتمنع نشر ما يقبح منظره ويسوء خبره، كرامة للدين والوطن، واستبقاء لحسن السمعة واتقاء الفتنة، وإن الحكومة إن لم تقم بمنع ما يجب منعه فإن الناس سيغرقون جميعًا في فساد أخلاق النساء والأولاد، ويصدق عليهم ما حذرهم منه نبيهم عليه الصلاة والسلام حيث قال: «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يسعى في دفع المنكرات وإزالتها- والواقع فيها - أي الذي يفعل المنكرات- كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فأراد الذين في أسفل السفينة أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه الماء من عندهم، قال: فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يصنعون هلكوا وهلكوا جميعًا». رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير.
وهذا مثل مطابق للواقع، فإن الناس متى سكتوا عن نشر مثل هذه الأفلام الخليعة والفواحش الشنيعة وتركوها تسطع في دورهم بين نسائهم وأولادهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم والحوانيت تفتح لبيعها، فإن الفساد حينئذ يعمهم ويصير ما يشاهدونه خُلُقًا لهم، يشب عليه صغيرهم، ويهرم عليه كبيرهم، ولهذا قال النبي ﷺ: «لتأمرن بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا - أي تلزمونه به إلزامًا- أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده»([126])، وهذا العذاب قد يكون في الأبدان وقد يكون في الأخلاق والعقائد والأديان، فإنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والصيام الفرضية، واستباحوا شرب المسكرات والجهر بالمنكرات، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب، ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25].
إن بعض الناس عند سماع مثل هذا يعللون أنفسهم بالأعذار الباردة، ويقولون: هذا آخر زمن وهذا تيار جارف ويفعل مثله في بلد كذا وكذا، وقد بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فاتخذوا هذا الحديث بمثابة التخدير والتفتير، يحاولون أن يسقطوا به ما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ولعباده المؤمنين ولأئمة المسلمين، كأن الرسول ﷺ بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف في المسلمين والغربة للدين، حتى لا يسعى أحد بحوله وقوته وبجهده وجهاده لدفعه ورفعه، وهذا خطأ واضح في فهم الحديث، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما قصد به التمسك بالدين وعدم الاغترار بضعفه وغربته في آخر الزمان وإعراض أكثر الناس عنه، فقد قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء». قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»، وفي رواية: «يصلحون ما أفسد الناس»، وفي رواية: «هم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير»([127])، فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم وفعل أولي العزم عن وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، كما قال: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد»([128])، فمعنى الحديث يحث على التمسك بالدين عند ضعفه وغربته والسعي في إصلاح ما أفسد الناس منه.
وإن هذا الضعف وهذه الغربة وصف عارض تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وقد تقع ثم تزول ويعود الدين إلى قوة ونشاط وانتشار، كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ وارتد العرب كلهم عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد عبد القيس بجواثى المعروف بالأحساء، وعلى إثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره، كما قال أنس بن مالك: إنه لما توفي رسول الله ﷺ كنا كالغنم المطيرة فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة، وثبت في الصحيح: «إنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»([129])، فالعاقل لا يستوحش غربة الإسلام لقلة المتمسكين ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]. فانتبهوا من غفلتكم وحافظوا على فرائض ربكم وتمسكوا بدينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
حرر في 1 رمضان المبارك سنة 1396هـ.
* * *
[126] أخرجه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان، ومن حديث ابن مسعود. [127] قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء: أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا وهو بتمامه عند الترمذي من حديث عمرو بن عوف وحسنه. [128] أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى من حديث عمر. [129] أخرجه الطبري في تهذيب الآثار من حديث ابن عمر.