1790

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م

المجلد الثالث

قضايا معاصرة

(3) الجندية وعموم نفعها وحاجة المجتمع لها

الجندية وعموم نفعها وحاجة المجتمع لها

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، ثم الصلاة والسلام على محمد رسول الله.

أما بعد:

فإن من واجب العالِم أن يبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم من كل ما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم، نصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ لورود الوعيد الشديد في وجوب البيان وتحريم الكتمان، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠ [البقرة: 159-160].

وإن دين الإسلام الذي نعتقده وندين الله به هو كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع مستقبلاً، فمتى أُخذ الدين على وجهه الصحيح فإنه دين السعادة ودين السياسة والسيادة يهدي للتي هي أقوم.

وقد أخطأ من ادعى عزل الدين عن الدولة فإنه لا دنيا إلا بدين، وإلا بقي الناس كالبهائم الهائمة، لكنه متى ادعى الدين من لا يحسن حمله، ولا يخشى الله فيه، ويجعل الدين سُلَّمًا إلى نيل مقاصده السيئة، فإنه حينئذ تذهب نضارته، وتسوء سمعته، ويحتقب الناس عداوة أهله، حتى يصيروا فتنة لكل مفتون. وقد قيل: إن محاسن الإسلام تختفي بين الجاحدين والجامدين.

وما يشعرني أن أحدًا هؤلاء عندما يقرأ هذه الرسالة أنه يتناولني بالملامة، ويقول: ما للشيخ ابن محمود وإدخاله الجندية في الدين وهي ليست منه؟ حتى كأنها بظنه في معزل عن الدين.

وأقول لمن لامني: إليك عني، فإنني إنما استخرجت القول فيها من مفهوم قول النبي ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»([73]). وليس الفقه في الدين بمقصور على الفقه في أحكام الصلاة والصيام والحج، بل هو أعم وأشمل. فهذا القرآن مملوء بذكر القتال والجهاد والاستعداد بأخذ القوة له وأخذ الحذر. والنبي ﷺ قد حذر وأنذر من الفتن التي ستثور وتكثر في آخر الزمان، مما يصدقها الواقع المحسوس بالعيان. فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر: قال: كنا مع النبي ؟ في سفر، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. فاجتمعنا فقال: «إنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة قد جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمور تنكرونها، تجيء الفتن يرقق بعضها بعضًا». ومعنى الحديث: «يرقق بعضها بعضًا» يعني أن الآخرة شر من الأولى، ويكون نتيجتها القتل والقتال حتى يقل الرجال ويكون لخمسين امرأة قيم واحد، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، حتى كأن الأمر يزداد جلاءً وظهورًا على سبيل التدريج.

ولما جيء بكنوز كسرى فوضعت بين يدي عمر بن الخطاب بكى، قيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الدين وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟ فقال: نعم، ولكنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنها لن تفتح الدنيا على قوم إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء، فهذا الذي أبكاني»([74]).

فمتى كان الأمر بهذه الصفة أفليس من الحزم وفعل أولي العزم أن يؤخذ لهذا الإنذار والتحذير عدته، بما يستطاع من الحيلة والحول والقوة وغير ذلك من كل مما يقي الناس ويقويهم ويرقيهم؛ لكون الأمور في النجاح بعد الله منوطة بالأسباب والوسائل؟ كما قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نُجْح الأمور بقوة الأسبابِ
ثم إن الله سبحانه أضاف تسمية الجنود إلى نفسه الكريمة إضافة تشريف وتكريم، فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ١٧٣ [الصافات: 173]. سواءٌ حملناه على الصحابة أو على الملائكة ﴿وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31]. وكان الصحابة يسمون جنود الله وجنود الإسلام وجنود المسلمين، فلا أعلى من مزيتهم ولا أرفع من منزلتهم، لكونهم حماة الدين والوطن. مما يدل على أن الجندية تسمية شريفة شرعية. ومن صفة المسلم الصبر على البأساء والضراء وحين البأس. فالجندية وإن رأى الجبناء المترفون أن فيها تعرضًا للقتل والقتال لا يصبر عليه إلا الفقراء والفاشلون في التعلم، لكن المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ﴿قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡ [آل عمران: 154]. وطعم الموت في أمر عظيم كطعم الموت في أمر حقير.

فالدين يجعل المسلم مطمئنًا في سرائه وضرائه، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له؛ وليس ذلك إلا للمؤمن، والأنبياء هم أشد الناس بلاءً في الدنيا ثم الأمثل فالأمثل، والناس في الدنيا بين حارث وهمام كما في الحديث: «أصدق الأسماء حارث وهمام»([75]). فالهمام هو الذي يهم بقلبه سأفعل كذا وكذا، والحارث هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى ما يوجهه إليه قصده ورغبته من علو همته أو دنوها. ومن المشاهد بالتجربة والاعتبار أن الغرق في الترف والميل إلى الميوعة في النعيم والراحة والرفاهية غاية في إفساد بنية الجسم وعدم صحته، فجنايته على نفسه هي أعظم من جناية عدوه عليه. كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجِدهْ
مفسدة للمرء أيّ مفسدهْ
يقول حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه([76]). ولما قال رجل لبعض السلف: لا أراك الله مكروهًا. قال: يا أخي إذا لم أعرف المكروه وقعت فيه.

هذا وإن الحاجات هي أم الاختراعات، وقد قيل: لله در النائبات فإنها
صدأُ الجبان وصيقل الأحرارِ
لذا يجب على جميع المسلمين أن لا ينخدعوا بالراحة والرفاهية والترف، وأن لا تسحرهم لذائذ النعم ورخاء العيش فتشغلهم عن الاستعداد بعمل ما ينفعهم أو يدفع الضر عنهم.

وإن أشد ما يبتلى به الشاب هو العطالة والبطالة اللتان ينشأ عنهما العجز، ثم حديثه نفسه بأنه لا يستطيع هذا العمل لمشقته، أو لا يستطيع عمل هذه الصنعة لمشقتها، أو لا يستطيع الجهاد والتمرن على وسائل القتال لصعوبتها وخطر النفس فيها، أو لا يستطيع التجند لصعوبته، وغير ذلك من حديث النفس الذي يقضي على الشخص بالمهانة والحرمان، وكل هذا نتيجة العجز الذي استعاذ النبي ﷺ منه بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»([77]). وهو لا يستعيذ إلا من الشر، وقد قيل:
العجز ضرٌّ وما بالحزم من ضررٍ
وأحزمُ الحزمِ سوءُ الظن بالناسِ
لا تترك الحزم في أمرٍ تُحاوله
فإن أَمنْتَ فما بالحزم من باسِ
ولقد رأينا شعراء العرب يجعلون الميل إلى الراحة زراية ومذمة، كما قيل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولما أنشد الشاعر هذا البيت، شكاه المقول فيه إلى عمر، قال عمر: يا حسان، هل هذا البيت مدح أو قدح؟ فقال حسان: يا أمير المؤمنين، ما ذمه ولكنه سلح([78]) على رأسه. فدعا به عمر فجلده الحد.

ومثله هجاء جرير لقوم حين يقول:
إني رأيت من المكارم حسبكم
أن تلبسوا خَزَّ الثياب وتشبعوا
فالاشتغال بتنويع الثياب وتعديلها وتبديلها هو شغل شاغِل عن المكارم، ولا ينافي هذا حديث «إن الله جميل يحب الجمال»([79]) ولكن كل ما خرج عن حده فإنه يقع في ضده.

ولما أحس عمر بن الخطاب بانزلاق الناس في هذا النعيم والترف، وخشي عليهم أن تنحل عزائم حزمهم وقوتهم، كتب إلى عتبة بن فرقد يأمره بالرجوع إلى ما كانوا عليه أولاً من خشونة العيش، ويأمره بأن يرموا ويتسابقوا وينزوا على الخيل ويتمعددوا ويمشوا حفاة ومنتعلين؛ حرصًا منه على بقاء خشونة الرجولة وعدم ما يضادها من الميل إلى الميوعة فيها التي من لوازمها استرخاء الأعضاء بعد صلابتها.

وفي مسلم عن أبى عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه: يا عقبة بن فرقد، إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير.

وهو في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح، كما في الفروع: أما بعد؛ فاتزروا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم. وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب و انزوا وارموا الأغراض.

وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك، وأن عتبة بن فرقد قد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود، فلما رآه عمر قال: أَيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال لا. قال: عمر: لا أريده. وكتب إلى عتبة أنه ليس من كدك... الحديث([80]).

هذا وإن الفرص تمر كمر السحاب، وإن غالب هذه الأشياء التي نحث على فعلها وعلى التخلق بها والقدوة عليها، كلها منوطة بشرخ الشباب الذي يتمنى كل شيخ الرجوع إليه وعوده إليه.

ثم إن من الحزم وفعل أولي العزم كون الرجل العاقل المفكر يقدر وقوع ما عسى أن لا يقع، ثم يمثل حاله فيه عند فرض وقوعه، وما عسى أن يصنع من الحول والقوة في سبيل دفاعه عن أهله ووطنه، إذ الحوادث تفاجئ الناس وهم في غفلة ساهون.
تأتي المصائب حين تأتي جملةً
وأرى السـرورَ يجيء في الفلتاتِ
هذا وإن من المعلوم أن كل دولة لديها جنود يحمون حدودها وحقوقها ويقومون بحفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، بحيث يلجأ الناس إليهم عند أدنى حادث يهمهم، فهم رحمة للعباد والبلاد ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251]. وبعض الناس يرتضيها له عملاً ومكسبًا، فيقيم فيها عشر سنين وعشرين عامًا بحيث يشتهر بالتسمي بها، فلا كلام في هؤلاء، وإنما نتكلم في الشباب المجانبين لها من أهل البلد، وأن الأفضل دخولهم فيها ولو سنتين أو ثلاث سنوات، ليتفقهوا ويفقهوا أحكام الجندية وما تشتمل عليه من وسائل السلاح وأدوات القتال، كما ارتفع عن الناس اسم الأميّة لما احتاجوا بداعي الضرورة إلى الكتابة، فأصبح أكثرهم الآن عارفًا بالكتابة لأن العلم بالتعلم، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

إن المكارم منوطة بالمكاره، وإن السعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٤٢ [آل عمران: 142]. وقال: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤ [البقرة: 214]. والنبي ﷺ قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»([81])، وذروة السنام هو أعلاه. والجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في كل ما ينفع الناس من أمور الدنيا والدين، وهو فرض عين عليهم إذا دهمهم العدو في بلادهم، وفرض كفاية في غير ذلك. ولا نقول: إنه قد مضى وانقضى فإنه على رجعه لقادر، وقد فاز به السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. فقد باعوا أنفسهم إلى الله وحبسوا أبدانهم في حراسة الرُّبط في سبيل الله.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
والجهاد قولي وفعلي يكون بالسيف والسنان، ولا يتم الجهاد عن خاصة الدين والوطن إلا بتمام الاستعداد بوسائل الحرب وأسبابه، إذ العلم بالشيء ليس كالجهل به.

وإن من واجب المسلمين في كل بلد أن يتمرن شبابهم وذوو القوة منهم على معرفة ملاعبة السلاح بأنواعه وأدوات القتال بأنواعها من طائرات حربية ودبابات ومدافع وسلاح على اختلاف أنواعه، إذ التعلم لهذه الأشياء واجب على العموم، لا نقول: على كل فرد، وإنما نقول: على سبيل العموم. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ [المزمل: 20]. وقال: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢ [التوبة: 122].

يقول العلماء المحققون: إن كل ما يأمر الله به في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يتعلق بالقتال أو الصناعة وخاصة صناعة الأسلحة على اختلاف أنواعها وكذا الزراعة، فإنه من أمر الدين الذي يجب تعلمه وتعليمه وإلا أثم الناس بتركه، وخسروا حياتهم وعزهم بإهماله، إذ هو مما يحتاج إليه الناس بداعي الضرورة واختلاف الأحوال وإثارة الفتنة. ولكم في كتاب الله أسوة حسنة.

يقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ [الأنفال: 60]. وهذا أمر من الله يقتضي الوجوب. والقوة شاملة لكل ما يتقوى به الناس على عدوهم، من طائرات ودبابات ومدافع وأنواع السلاح والسفن البحرية والمراكب البرية، لكون القوة تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومدار القوة على العلم بالصنائع والمخترعات وعلى المال الذي يستجلب به الصانع والمصنوع كما قيل:
بالعلم والمال يبني الناس مَجْدَهُمُ
لم يُبنَ مجد على جهل وإقلالِ
والنبي ﷺ قال: «ألا إن القوة الرمي»([82]) ففسر القوة بالرمي، ولم يبين كيفية الرمي به لتنوعه بتجدّد الزمان.

لقد أثبت التاريخ في حروب الأمم السابقة مع أنبيائهم أن قتالهم كان بمجرد الحصى، يترامون به بطريق المقلاع وبالأيدي، وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُ [البقرة: 251]. قالوا: داود قتله بحجر في مقلاع حتى أصابه في رأسه فقتله. وقد قال الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصا
وإنما القوة للكاثرِ
وقد قيل: أليس لكل زمان ما يلائمه فإنما يُرمى الجندل بالجندل والحديد بالحديد. ثم تطورت الأحوال حتى توصلوا إلى النبال، وقد حاربوا به زمن النبي ﷺ، وكان عدة ما يقاتلون به مع النبال هي الرماح والسيوف وليس عندهم سلاح غيرها، ثم توصلوا إلى معرفة الدبابة في ذلك الزمان، وقد نصبها رسول الله ﷺ على أهل الطائف فأحموا لها النبال بالنار حتى خرقوها، ومنها المنجنيق يملؤونه حجارة ثقيلة ثم ينسفونه على أهل البلد، وقد حارب به النبي ﷺ أهل الطائف، وهو يقوم مقام المدفع في هذا الزمان إلا أن المدفع أشد منه، ثم دار الزمان بدورته حتى أوجدوا سلاحًا يسمى الفتيل وفيه يقول النصارى: لا تشتغل بسب عدوك ولكن أوقد الشمع يندفع عنك.

وإن كل عاقل سيدرك معي عظمة الفرق بين قتال المتقدمين وسلاحهم وبين المتأخرين، وإن صناع هذا العصر قد اختلقوا سلاحًا فتاكًا على اختلاف أنواعه، لا يُبقي ولا يَذر، وهو غلق صعب لا يعرفه إلا من اعتاد التمرن على مزاولته؛ لأن كثرة المزاولات تعطي الملكات، ويهدد بالقضاء على البشر لارتقاء أهله في العلوم المادية وهبوطهم في الأخلاق الدينية.

وإن من المعلوم اليقيني أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد جناية عليهم وعلى الإنسانية من جناية عدوهم عليهم، إذ إن توسعهم في العلوم والفنون واختراع الأسلحة الثقيلة التي يستعدون بها للحروب الكبيرة التي يدمرون بها في الأيام القليلة صروح العمران ومشيد البنيان من كل ما شيدته العصور الطويلة، وناهيك باختراع القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين المسالمين غير المحاربين من بين النساء والحوامل والشيوخ والأطفال والبهائم، وتفسد الحرث والنسل، ونزفها لمعظم ثروة الشعوب في سبيلها، وفي سبيل ظلمها للشعوب التي ابتليت بالسلطان الجائر الذي يحاول سلبهم حريتهم في دينهم ودنياهم، وصارت الدول الكبرى التي اخترعت هذه الأدوات اليوم هم أشد خوفًا على أمتهم، وقد وقع بهم وسيقع في مستقبل الأمر ما حذرهم ربهم من وقوعه بقوله: ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ [الرعد: 31].

لكون هذا السلاح موضوعًا للبيع ويتسرب أكثره إلى البلدان العربية.

وإنه من الواجب على عموم الناس ولا نقول بوجوبه على كل فرد، وإنما يجب على العموم، بأن يوجد منهم من يتفرغ من شبابهم لسياسة هذا السلاح وثقافة العلم به بمهارة، بحيث يعلم بعضهم بعضًا، وإذا تركوا هذا التعلّم أثموا وخسروا شبابهم وعزهم؛ لأن كل ما أمر الله به فإنه من ديننا الذي يجب أن نتعلمه وأن نعلم الناس به.

إن أكثر بلدان العرب المسلمين تغص من كثرة الأجانب الغرباء متفرقين في سائر الأعمال والمعامل، وكثير منهم يدخلون في الجندية لكنهم عندما يحسون برائحة الحرب في البلد فإنهم يفرون إلى أهلهم وبلادهم، ويتركون نار الحرب تغلي أكباد أهل البلد، فهم الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل حماية بلدهم وحياة أهلهم وأولادهم ويقولون:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكبِ
ومتى أمسك هذا السلاح الغلق الصعب من لا يحسن سياسته فإنه يبقى كعصا في يده لكون صُناعه عملوا على حساب أن لا يفهمه أكثر الناس.

إن الناس يستبشعون سماع الجندية ويستوحشون من الدخول فيها، وخاص الأسر والعوائل الفاضلة. وكنت ممن يكره ذلك، وقد طلب مني أحد أولادي الالتحاق بها فمنعته، لكنه لما راجعني الفكر الصحيح عرفت تمام المعرفة وجوب دخول بعض أولادي فيها؛ لكونها من باب الجهاد في سبيل الله دون الأنفس والوطن ودون الحدود والحقوق، ويكتسب منها حذاقة ومعرفة لسائر ما يجب أن يعلمه من وسائل القتال وسياسته، ومن المعلوم فضل العالم على الجاهل، فيترقى بها الإنسان إلى زيادة المعرفة في مواد القتال وفي ميادين الحركة والقوة والسياحة والسباحة وسائر ما يتمنى الإنسان الإحاطة بعلمه، ويكتسب بها الترقي في الراتب والرتبة.

والجندية مشتقة من التجند للقتال، وكان العلماء يسمونها بالفروسية، و لهم فيها مؤلفات في المسابقة والمصارعة والسباحة والحذق بمعرفة مواد القتال. فالجندية فيها فضل وشرف وحذق وَظَرف يستحقه من تسمى بها.

وعلى كل حال فإن من التحق بها وأصلح نيته وعمله فيها فإنه يستوجب الثناء والمدح ولا يلام ولا يذم لكونها من أشرف الأعمال.

يبقى الكلام فيما للحكومة مع الرعايا إذا استعصت عليها وامتنعت عن الالتحاق بها، فهل يسوغ للحكومة أن تجبر الشباب الصالح للدخول فيها أم لا؟

فالجواب: إنه متى حصل الدخول بالاختيار أو بطريق الترغيب بزيادة الأجر فإنه أفضل، إذ ما يعطونه في سبيل ذلك فإنه نافع وعائد بالنفع على أهلهم وعيالهم وأولادهم، فينبغي للحكومة أن تقدر قدرهم وأن ترفع شأنهم برفع مرتباتهم؛ لكونهم يفنون أعمارهم في سبيل حراسة الوطن وأهله، ومن العادة أن الجندي يشدّد عليه من قبل رئيسه بحيث لا يزول ولا يحول عن عمله ومكانه، فهو بذلك يستحق أن يكرم.

كما يجب على رؤساء القبائل أن يخضعوا لهذا العمل الشريف، وأن يعملوا عملهم في التحاق أولادهم فيه وما هي إلا ساعة ثم تنقضي. فمتى طلبت الحكومة أعيانًا تنتقيهم من أولاد القبائل فإن من واجب الجميع السمع والطاعة فيما يحبون وفيما يكرهون في العسر واليسر، لكون هذا من مصلحة الشباب، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذ لا يتم الاستعداد بالقتال دون حماية الدين والوطن إلا بمعرفة وسائله وأسبابه ثم الدخول فيه من بابه، وفي هذا من مصلحة الشباب أنفسهم ومن مصلحة جميع الناس ما لا يخفى، فما يضر التاجر أو الأمير أو القاضي متى التحق ولده أو أولاده بالجندية سنتين أو ثلاثًا يتدرب فيها ويتعلم مواد القتال وسياسة الرمي بفنون السلاح مما يجعله أن يكون شجاعًا فارسًا حاذقًا.

وقد جعل النبي ﷺ من الصدقة أن تصنع لأخرق([83])، والأخرق هو الساذج غير الحاذق، إذ الفرق واسع بين المثقف العارف بسياسة الرمي والقتال ووسائله وبين الأخرق الساذج عديم المعرفة.

وفي سبيل الترغيب في صناعة السلاح لموجبه أخبر النبي ﷺ أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله([84]). يبقى مراعاة الجند لواجباتهم الدينية فيما بينهم وبين ربهم، والتي هي رأس سعادتهم في دينهم ودنياهم.

[73] متفق عليه من حديث معاوية. [74] رواه مسلم. [75] رواه أبو داود من حديث أبي وهب الجشمي. [76] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث حذيفة بن اليمان. [77] متفق عليه من حديث أنس. [78] سلح: بال أو تغوط. وتستعمل للطير والبهائم ولا تستعمل للإنسان إلا مجازًا وتحقيرًا. [79] وتمام الحديث أن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر» فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» رواه مسلم. [80] ص227 (مطلب بيان فضل التواضع في اللباس) الجزء الثاني من كتاب غذاء الألباب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي. [81] رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. [82] رواه مسلم وغيره. [83] متفق عليه من حديث أبي ذر. [84] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر.

حاجة الجنود إلى التدين الصحيح

إن حاجة الجنود إلى التدين الصحيح هي حاجة ضرورية، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ لأن الدين الصحيح يجعل للمؤمنين من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلوى عافية، فمتى صلح العمل بالدين صار آلة رقي ونشاط.

فجميع التواريخ المشهورة تشهد للإسلام لما كان يعمل به على التمام بأنه لا طاقة لأحد بمصارعته، ولا محيص لأحد عن التزام طاعته، سواء قلنا بحمل الجمع على الجمع أو بحمل الأفراد على الأفراد. وقد أوجب الله على المسلمين بأن لا يفر المائة منهم من مائتين، ولا الألف من ألفين؛ لقوله سبحانه: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٦٦ [الأنفال: 66].

ولم يزل هذا النصر في ازدياد ونشاط زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه الراشدين إلى ثلاثة قرون أو أربعة قرون، لما كان قتالهم للدين وفي سبيل الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع الكافرين بالتي هي أحسن.

وقد أنجز الله لهم ما وعدهم به بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]. وبقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا [المؤمن: 51]. وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧ [محمد: 7].

ونصر الله هو أن يقصد بالحرب الدعوة إلى الدين وحمايته، وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، فالإيمان بالله وحده هو من أعظم الأسباب والوسائل المقتضية للنصر، ولكن لا بد مع هذا من الاستعداد بما أمر الله به من أخذ أهبة الحرب وإعداد عدته؛ لقوله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60].

والقوة تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولكل زمان دولة ورجال، ذلك أن المؤمن إذا آمن بالله وتوكل عليه ولم يستعد للأمر بأخذ أهبة الحرب حسب سنة الله في الأسباب والمسببات فإنه يخفق سعيه، ويخيب ظنه، ويكون ملامًا شرعًا وعقلاً على تفريطه وإلقائه بيده إلى التهلكة، ولا ينفعه والحالة هذه إيمانه ولا توكله:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
ولهذا يقول العلماء: إن التوكل على الله لا يكون صحيحًا إلا بعد اتخاذ الأسباب والوسائل التي تؤهله من الوصول إلى مقصوده، وإلا كان توكله عجزًا. ولما أخلى الرماة من الصحابة مراكزهم في فم الشعب الذي أمرهم رسول الله بحراسته يوم أُحد، فدخلت الخيل من جهته قتلوا سبعين من الصحابة وشجوا رأس رسول الله ﷺ وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة وظنوه ميتًا، لهذا وقع التفكير من الصحابة في سبب هذه المصيبة والهزيمة، وهم أصحاب رسول الله ويقاتلون في سبيل الله ويظنون أنهم لن يغلبوا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ [آل عمران: 165]. أي بسبب تفريطكم بإهمال ثغركم، لهذا صار الصحابة بعد هذه الوقعة أشد احتراسًا باستعمال الأسباب والوسائل؛ لأن ذنوب الجيش جند عليهم.

وقد أوجب الله إقامة فريضة الصلاة حال التحام القتال وتقابل الصفين، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ [النساء: 102]. لكون الصلاة نعم العون على ما يزاوله الإنسان من أمور الحياة، ولأنها صلة بين العبد وبين ربه، لهذا يجب على الجنود متى بعثوا فرقة إلى مكان أن يؤمروا عليهم أحدهم وأن يأمروا بأداء فريضة الصلاة عند دخول وقتها.

كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص قال: أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحروب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفرة المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون على عدوكم.

فما أشد حاجة الجنود ورعاية الشباب وأهل المدارس وسائر الدوائر الحكومية إلى التدين الصحيح الذي تنجم عنه آثاره، وعلى القائمين عليهم أن يمرنوهم على أداء الواجبات الدينية من الفرائض والصلوات في أوقاتها، فإنها نعم العون على ما يزاولونه من أمر دينهم ودنياهم، كتمرينهم لهم على الفنون العسكرية، فإن من شب على شيء شاب على حبه، وإنه من المؤلم جدًّا حينما نرى نسبة المسلمين المصلين من الضباط والجنود قليلة جدًّا جدًّا بالنسبة إلى من لا يصلون، ولعل هذا التفريط في الترك ما علق بهم في بداية نشأتهم في تجندهم فنشؤوا عليه في حالة كبرهم، حيث لم يجدوا ما يزعهم في بداية تجندهم. وإن من الواجب على ولاة الأمر أن يصدروا قانونًا ملزمًا للجنود ولرعاية الشباب وللمعلمين بأداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، ويكون عندهم إمام يذكرهم بالصلاة عند دخول وقتها إذ الوعظ والإرشاد لا يكون مفيدًا بدون وازع. وإن الجنود والمعلمين الذين يفرطون في الصلوات الواجبة التي هي عمود دينهم وأمانة ربهم سيكونون أشد تفريطًا في غيرها من سائر واجباتهم.

ردّ شبهة النصارى على المسلمين في عقيدة القضاء والقدر

يقول النصارى في تحاملهم على المسلمين: إنما ضعفوا وتأخروا وساءَت حالهم كلها من عدم تعلمهم للصنائع والمخترعات في هذا العصر اتكالاً منهم على عقيدة القضاء والقدر.

ونقول: إن المسلمين لا يحتجون بالقضاه والقدر في كل ما يحاولونه من أعمالهم، فهم يلومون ويذمون كل من يحتج بالقدر في ترك الأمر وارتكاب النهـي، وأنه لا حجة في ذلك بل حجته داحضة عند ربه.

وقد أمر رسول الله أمته بأن يأخذوا بالكَيْس والحزم وفعل أولى العزم في جميع أعمالهم من أمور دينهم ودنياهم، وأن يأخذوا حذرهم ويستعدوا بالقوة لعدوهم وبما استطاعوا من الكيد والقوة، ونهى عن الكسل والعجز وأخبر أن الله يلوم عليه، كما أرشدهم ودلهم على الدواء عند الحاجة إليه، وقال: «إن الله لم ينزل من داء إلا وأنزل له دواء»([85]). وقال: «تداووا، ولا تداووا بحرام»([86]).

ونهى أشد النهي عن أن يتكلوا على القضاء والقدر في شيء من أعمالهم، بل قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق الله»([87]). وقال رسول الله ﷺ: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»([88]). وهذا هو مناط التكليف الشرعي وبه تتم الحكمة والعدل والمصلحة، وعليه مدار عقيدة المسلمين. وقد قيل: العاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.

أما عقيدة الجبر كالذين يحيلون جميع تصرفاتهم في ترك واجباتهم وارتكاب محرماتهم إلى القضاء والقدر، فهذا الاعتقاد قد انقرض أهله من سنين طويلة، غير أنه في هذا الزمان نشأت طائفة من الناس الماردين والمارقين عن الدين، يحتجون بالقدر في ترك الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات، ومتى عذلته أو نهيته عن سوء عمله قال: هذا أمر كتبه الله عليَّ، فيجعلون عجزهم توكلاً، وكفرهم وفجورهم قضاءً وقدرًا، وسُمع من بعض الملاحدة أنه يقول: الذنب ذنب الذي خلق إبليس ليس ذنبي، وهؤلاء يعدهم المسلمون ملاحدة ليسوا من المسلمين.

إن اعتقاد القضاء والقدر الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة وتتبعه الصفات الحميدة، من بسط اليد في النفقة والصدقة والجرأة والإقدام وخلق الشجاعة على اقتحام الممالك في سبيل الحق وحماية الدين والوطن، ويلهج أهله بقولهم: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١ [التوبة: 51].

إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم وتحمل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، ويحلي الأنفس بحلية الجود والسخاء، لاعتقاده أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه، كما يحمله على التضحية بالروح في سبيل الحق عن الدنيا وزينتها.

فالمسلم الذي يعتقد هذا الاعتقاد، وأن نواصي الخلق بيد رب العباد يتصرف فيها كيف يشاء، وأن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وأن الدنيا دار متاع يتمتع بها صاحبها برهة من الزمن ثم يزول عنها، وأن الآخرة هي دار القرار، وأن كل امرئ مجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فهذا الاعتقاد متى رسخ في قلب المؤمن فإنه لا يرهب الموت أبدًا، ولا يجزع منه إذا نزل به؛ لاعتقاده أن له دارًا هي أبقى وأرقى من دار الدنيا، وعيشًا ونعيمًا هو أرغد وأنعم من عيش الدنيا، فإنه لن يجزع من فراق الدنيا والحالة هذه.

ثم إن هذا الموت ليس بفناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، فهذا يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الفوت وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي.

لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في أوائل نشاطهم في القرن الأول والثاني والثالث بشجاعة باسلة وقلوب ثابتة وإيمان راسخ، فاندفعوا إلى الممالك البعيدة في مشارق الأرض ومغاربها وبأيديهم القرآن يفتحون به ويسودون ويدعون الناس إلى العمل به، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، حتى استطاعوا أن يثلوا عروش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وهم أرقى الأمم حضارة وقوة ونظامًا وعددًا وعدة.

فما كان خوضهم لهذه المعارك التي هي غاية في اقتحام المهالك إلا من أجل إيمانهم بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح، وأنها لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فهذا الاعتقاد هو الذي ثبت أقدام المسلمين مع قلتهم وضعفهم أمام جيوش أعدائهم التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فكشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا التوحيد والصلاح والسعادة في سائر البلدان، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 41].

* * *

[85] رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء. [86] رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء. [87] متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب. [88] رواه مسلم.

اللعب بالكرة وذم الإسراف فيه

لقد كان عند المتقدمين ألعاب يرتاحون إليها في سبيل لهوهم وفراغهم، مما يهيئ البسط لهم، فمنها ما يسمونه الشطرنج، ومنها ما يسمونه النرد، ومنها ما يسمونه اللعب بالجوز. وكل هذه إذا دخلها العِوَض صارت باطلة، لحديث: «لا سَبَق -والسَّبَق بفتح الباء هو العوض- إلا في خف أو نصل أو حافر»، ويدخل في مسمى النصل والمراهنة عليه جميع البنادق لكونها بمعناه.

أما اللعب بالكرة المعروفة فإنه ليس له ذكر في ألعاب المتقدمين إلا عند النصارى. ولما كثر اختلاط المسلمين بالنصارى في بلادهم، وشاهدوا ما يعتادون فعله وما يتمرنون عليه ويوحون إلى الناس أنه من الرياضة المصححة الجسم، وصاروا يكتسبون به الأموال الطائلة في سبيل الرهان والمقامرة، لذلك انطبع في قلوب الناس محبته والتدرب عليه في بلاد المسلمين ومع أولاد المسلمين، وصار يُدعى له وإلى العمل فيه الجلداء الأقوياء الصحيحة بنيتهم، والذين يرجى منهم النفع ودفع الضر في غير هذا العمل الذي هو محض ضرر بلا نفع، إذ ليس هذا مما يفيد المجتمع ولا مما يحمى به الدين والوطن، وما هو إلا محض لهو وغفلة وكسر همة ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ إنه يجب إدخال الإصلاح والتعديل في رعاية شباب المسلمين. وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو الأخذ بالقسم الكبير من الجلداء الأقوياء الصالحين للتمرن على التدريب في سائر مواد القتال، وإن هذا يعد من باب الإنقاذ من المهانة إلى الارتفاع في العز والكرامة، وهم له كارهون، وبذلك ينصرفون عن الدناءة، ويشتغلون بما هو أصح وأصلح لهم ولجميع الناس معهم.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
ثم إن الله سبحانه في كتابه المبين قد نهى عن كل لعب محرم يفسد العقل والمال ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وإنه لأضر من اللعب بالقمار، وهو المسمى بالميسر في القرآن، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ [المائدة: 90-91].

إنه لا يشك كل عالم عارف بأن الكرة متى دخلها العوض فإنها نَفْسُ الميسر الذي نهى عنه القرآن، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

وأنها تقضي بالفناء المعنوي من ريعان الشباب القوي حتى لا يحسن شيئًا من الرجولة إلا اللعب بالكرة، وأن شباب هذا الزمان يعجز آباؤهم عن تدريبهم فيما يجب لهم من المحافظة على الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل بداعي الضرورة ويحتاجون إلى المساندة والمساعدة من الحكومة، فإن الله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن.

أخبر الله سبحانه أن الخمر والميسر رجس، والرجس هو النجس الخبيث، وأنه من عمل الشيطان فلا يدمن شرب الخمر واللعب بالقمار إلا من هو شيطان. ثم قال: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ وهو أبلغ من قوله: دعوه أو اتركوه؛ لأنها من المجانبة أي المباعدة، كأنه يقول: ابعدوا عنها كل البعد وكونوا في جانب وهي في جانب، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر. الله أكبر وكلام الله حق، لقد شاهدنا العداوة بين المسلمين حقيقة، جلية للعيان، فإن الشخص متى كان عفيفًا عنها وفي فسحة حينئذ يعيش مع الناس عيشة مرضية وبأخلاق كريمة زكية وبعقل وأدب وحسن خلق وظرف يتمتع في دنياه متاعًا حسنًا، يحبه أهله وجيرانه وأقاربه، ثم توضع له المودة في الأرض فيحيا حياة طيبة، يجد لذتها في قلبه وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، فإذا انزلق في شرب الخمر وتخمر في قلبه حبها وأدمن شربها، فإنه ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل وترك الفرائض، ويبغض أهله وأقاربه وجيرانه ويبغضونه، ثم تحل الكآبة على وجهه وتخيم الوحشة والخوف على أهل بيته، بحيث يتوقعون سطوته؛ لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله به وألحق نفسه بالمجانين. وكيف يرضى بجنون من عقل.

وأما اللعب بالكرة والقول بدخولها في مسمى الميسر، فإننا عندما نتكلم عليها فإنما نذم الإسراف فيها، والاهتمام المبالغ بها، وتفريق الشباب حولها إلى ما يسمى بالنوادي والفرق، وأن تصبح غاية في حد ذاتها، فهـي بذلك ذميمة تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتستغرق جهد الشباب ووقته وفكره وتصبح شغله الشاغل، بحيث يمر الوقت والوقتان من الصلاة وكل إنسان آخذ مقعده في مكانه، لا يبرح عنه ولا يزول عنه، والعيون والقلوب شاخصة إلى اللعب واللاعبين، والألسنة لاغية والقلوب لاهية: ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19].

وقد زاد الناس إسرافًا في حبها والولوع بها كونهم يتناوبون اللعب بها، فتكون سنة في هذه البلاد والسنة الأخرى في بلد آخر، وكل بلد تعمل عملها في تلقي هؤلاء وعمل اللازم في إكرامهم واحترامهم، مع ما ينفق في ذلك من أموال طائلة. ولعل أحد الشباب بمهارته وقوته يتحصل على الفوز بالظفر في لعبة فتضج معه الدنيا من شتى البقاع، حتى كأنه فتح للمسلمين أكبر الأمصار، ويعود سائر المغلوبين بالهم والغم، مما عسى أن يكون سببًا في العداوة والبغضاء بينهم، ووقوع المشاحنات والتقاتل بين أنصار الفريقين، والشواهد على ذلك واضحة جلية، فكم من حوادث وقعت ودماء سالت عقب اللعب خاصة في البلدان الكبيرة العدد والتي أطارت الكرة بعقول أبنائها، حتى وصلت العداوة بين أبناء الأسرة الواحدة وبين الزوج وزوجته، لتشجيع كل فرد للفريق الذي يحبه، مما عسى أن يكون سببًا في العداوة والبغضاء بينهم كما أُخبَرُ بذلك. لهذا قلنا: إن من الخطأ تسامح الحكام لقبول هذه الدورات في سبيل اللعب بالكرة، إذ إنها في حقيقتها لا تزيد الناس إلا شحناء وعداوة وبغضًا.

أما إذا أصبحت الكرة ضمن برامج إعداد الشباب، ومجالاً لحركتهم ونشاطهم، مع ضرورة المحافظة على أوقات الصلاة وتدريبهم، وتشجيعهم بالتمرن على وسائل القتال والرمي وملاعبة السلاح، فلا أرى بأسًا من وجودها.

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].