مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الثالث
قضايا معاصرة(1) الجهاد المشروع في الإسلام
هذه الرسالة تبحث في مسألة قد طال فيها الجدل بين العلماء مع العلماء، وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب، فكل إنسان يعبر عنها بما يعتقد في نفسه، وهي مسألة الجهاد المشروع في الإسلام، وما سببه وموجبه، وكيف كانت سيرة النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيه، ومن يستحق القتال ومن لا يستحقه، وكون الإسلام يسالم من يسالمه، وإثبات الأمر اليقين في ذلك، وإزاحة الشك والإشكال والكذب، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غيرها من كل ما يقطع النزاع، ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، وكل عالم نحرير، وكل أديب حاذق بصير، فإنه لن يستغني عن مراجعتها والتزود من فنون ثمرتها. لكنه يحتاج إلى فهم حاذق وفكر ناقد ودراسة عميقة خالية عن التعصب للشيوخ والمذاهب، ولا أقول بعصمته، فقد يخفى على قائله ما عسى أن يظهر لقارئه، وفوق كل ذي علم عليم.
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد الله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد:
فقد حصل النزاع بين بعض الإخوان والمشايخ الكرام في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار، وأن القتال إنما شرع للدفاع عن الدين، وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه.
فاستنكر هذا القول واستكبره بعض العلماء المتأخرين، حتى خرج لإنكاره كتابان من عالمين جليلين يحققان فيهما أن هذه الرسالة مكذوبة على شيخ الإسلام، وأنها ليست من كلامه لاعتقادهما أن القتال سببه الكفر. وعلى أثر هذا التكذيب للرسالة ساءت السمعة بسائر رسائل شيخ الإسلام رحمه الله.
ونحن بكلامنا في تحقيق هذه الرسالة لسنا نريد التصدي للانتصار لشيخ الإسلام في كل ما يقوله في الرسالة وغير الرسالة، وإنما نؤم علم الحق متى رُفِعَ لنا لنكون تحت لوائه ومن أنصاره وأعوانه.
لقد عشنا زمانًا طويلاً ونحن نعتقد ما يعتقده بعض العلماء وأكثر العوام من أن قتال الكفار سببه الكفر، وأن الكفار يقاتلون حتى يسلموا، لكننا بعد توسعنا في علم الكتاب والسنة، والوقوف على سيرة الرسول ﷺ وأصحابه في حروبهم وفتوحهم للبلدان، تبدل رأينا وتحققنا بأن القتال في الإسلام إنما شرع دفاعًا عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين. قال شيخ الإسلام في رسالته: الصحيح أن القتال شرع لأجل الحرب لا لأجل الكفر، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وهو مقتضى الاعتبار، وذلك أنه لو كان الكفر هو الموجب للقتال لم يجز إقرار كافر بالجزية. انتهى.
فمن زعم أن لشيخ الإسلام كلامًا يخالف هذا في السياسة الشرعية أو في الجواب الصحيح فقد غلط عليه وأدلى بما لم يحط بعلمه.
وقد قال بعض العلماء من المتأخرين: إن دعوى القتال للإكراه على الدين إنما دخل على المسلمين عن طريق النصارى، حيث كانوا يشنعون به دائمًا على الإسلام والمسلمين، ويجعلونه في مقدمة تبشيرهم إلى دينهم، وينشرونه في كتبهم ويلقنونه للطلاب في مدارسهم، لقصد تنفير الناس عن دين الإسلام واحتقاب العداوة لأهله، فهو أكبر مطاعن النصارى على الإسلام وعلى المسلمين. فسرى هذا إلى اعتقاد بعض العلماء وأكثر العامة؛ لظنهم أنه صحيح واقع، ومن طبيعة البشر كراهة اسم الإكراه والإجبار مهما كانت عاقبته، وصاروا يتناقلون هذا القول في كتبهم حتى رسخ في قلوب العامة وبعض العلماء.
وإننا متى قلنا بهذا القول فقد اشتركنا مع القسيسين والمبشرين في التنفير من الدين، وإنه ينبغي لنا متى تصدينا للدعوة إلى دين الإسلام أن نصف الإسلام بما هو أهله، وبما هو معلوم عن محاسنه، واتصافه بالرأفة والرحمة لسائر الناس؛ لقول الله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107]. - أي للخلق أجمعين - بدلاً من أن نصفه بالعقاب والشدة لكل من لقيه من الكفار. فنصفه بأنه دين البشرية كلهم عربهم وعجمهم لا دين لهم سواه؛ لقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [البقرة: 85].
فهو دين الله الذي ارتضاه لجميع خلقه، فقال سبحانه: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]. لأنه دين الرحمة المهداة من الله لجميع الناس بواسطة محمد ﷺ. فهو دين الحق الذي نظم أحوال الناس في حياتهم وبعد وفاتهم أحسن تنظيم. صالح لكل زمان ومكان، وقد سماه الله سلمًا فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]. فهو يحب السلم ويكره الحرب إلا في حالة الضرورة.
فلا يكره أحدًا على الدخول فيه لكون الدين هداية اختيارية لا إكراه فيها ولا إجبار، يقول الله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وقال: ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]. ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ﴾ فيؤمن به وبأمره ونهيه، ﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا﴾ [الأنعام: 125]. عن أمره ونهيه وفرائضه ونوافله.
إن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته ويقطع السبيل في منع إبلاغها للناس، فإنهم بمنعهم إبلاغها يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين؛ لأن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين وتبشير جميع خلقه به فقال سبحانه: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعوا أهلها إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على دمائهم وأموالهم، وقد فتح المسلمون كثيرًا من البلدان بهذه الصفة، مما يسمى صلحًا.
أما إذا نصبت لهم المدافع، ووجهت نحوهم أفواه البنادق، وسلت في وجوههم السيوف، ومنع الدعاة منعًا باتًّا عن حرية نشر دعوتهم وعن الاتصال بالناس في إبلاغهم دين الله الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم، فإنهم يعتبرون حينئذٍ معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين.
فعند ذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله، وفي سبيل إبلاغ دين الله حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]. وقال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191].
﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4]. فقتالهم والحالة هذه هو في سبيل الله، ولا يبالون بما أصابهم في ذات الله؛ لأن الله سبحانه قد اشترى من المؤمنين أنفسهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فهم يتمنون الشهادة في سبيل الله كما يتمنى أكثر الناس الحياة؛ لعلمهم أن لهم حياة أخرى هي أبقى وأرقى من حياتهم في الدنيا، وقد باعوا أنفسهم لله في سبيل الحصول عليها، يقول سبحانه: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١١﴾ [التوبة: 111]. فهذا طريق دعوتنا إلى دين الإسلام.
وقد سئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال ﷺ: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى.
يبقى الكلام في البحث عن حقيقة رسالة شيخ الإسلام في قتال الكفار وعدم نسبتها إليه، فقد تحصلت والحمد لله على هذه الرسالة، ووقفت على حقيقة ما تقتضيه من الدلالة، فوجدتها صحيحة في معناها وحسنة في مبناها، ويظهر من دلائل استنباطاته وبراهين بيناته أنها خرجت من مشكاة معلوماته، وكل متخصص بدراسة كتبه فإنه سيعرف منها ما عرفنا؛ لكون عباراته لا يماثلها كلام غيره، وقد وافق العلامة ابن القيم شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القضية، وحقق أن الإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، وأنه يسالم من سالم، كما سيأتي كلامه مستوفى عن قريب إن شاء الله.
فدعوى التزوير بعيدة جدًّا عنها، فلا تحوم التهمة والشك حولها، وقد قال في كتابه السياسة الشرعية ما يوافق قوله في هذه الرسالة حيث قال: إن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، فمن لم يمنع مسلمًا من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. كما سيأتي كلامه مستوفى في موضعه.
وقد قيض الله سبحانه لحفظ رسائل شيخ الإسلام وكتبه علماء جهابذة نقادًا في زمانه يحبهم ويحبونه، فكانوا يعتنون أشد الاعتناء بنقل كتبه ورسائله ثم نشرها في الآفاق، كما قيض الله له أميرًا عدلاً في زمانه، كان يحث العلماء على التحفظ بكتب شيخ الإسلام والاعتناء بنقلها. وأشد من بالغ في هذا الأمر هو العالم الإمام شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فقد وجه نداء إلى العلماء في زمانه قرب وفاة شيخ الإسلام قائلاً فيه: لا تنسوا تقريرات شيخنا الحاذق الناقد الصادق قدس الله روحه، فالطريق في حقه هو الاجتهاد العظيم في كتابة مؤلفاته الصغار والكبار على جليتها وحالها من غير اختصار ولا تصرف فيها، ولو وجد فيها كثير من التكرار، ومقابلتها بنظائرها، ثم إشاعتها ونشرها لعموم الانتفاع بها. واحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله -يعني ابن القيم- وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموا لهذا الأمر المهم الجليل أكثر ما تقدرون عليه؛ لأنه قد بقي وحيدا في فنه، فريدًا في دهره، ولا يقوم غيره مقامه من سائر الجماعات، وكل أحوال الوجود لا بد فيها من العوارض والأنكاد، فاحتسبوا مساعدته عند الله واكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم، وأنا أستودع الله دينه ودينكم، وما عنده وعندكم، والسلام عليكم. انتهى.
وأقول عن شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله: إن كل عالم مخلص خلي من الغرض والهوى يعترف بكبر قدره، وغزارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف.
ولا ينفرد بمسألة كمسألة قتال الكفار أو غيرها بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج على ما يقول بالقرآن والحديث والقياس.
ولم يسجل التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها بعد رسول الله وخلفائه وأصحابه أكثر مما سجل له من قوة الإبداع، وتجلية الحق، والبصيرة في النقد، والعدالة في الحكم، ومطابقة النقل للعقل.
وقد تصدى لمحاربة البدع على اختلاف أنواعها حيث غزاها في عقر دارها وفند آراء المؤيدين لها.
عاش رحمه الله في زمان قد تفرق أهله في النزاعات والمذاهب والآراء، فحمل راية الإسلام بالحجة والبيان، والسنة والقرآن، والسيف والسنان، مما جعله في مقدمة الأبطال الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فهو بطل دين، وعلم من أعلام الفكر العالي بآرائه الحرة التي لا تخرج غالبًا عن حدود الحق، ولكنه لم يسلم من أذى الخلق في زمانه وفي هذا الزمان، سنة الله في ابتلاء المجاهدين في سبيله، يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١﴾ [محمد: 31].
إن الناس يستفيدون من المتحررة آراؤهم والمستقلة أفكارهم في حدود الحق كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأشباههما، أكثر مما يستفيدون من المقلدة لشيوخهم وعلماء مذاهبهم؛ إذ المستقل بفكره هو من يستفيد من بحث غيره بصيرة وفكرة وزيادة معرفة، ولا يقلدهم في كل قول يقولونه، وإنما يعمل بما ظهر له من الحق، فعدم وجود المستقلين ضار بالإسلام والمسلمين؛ لأنهم حملة الحجة والبرهان. والمقلد لا حجة له، وإنما غاية علمه وعمله أن ينقل حجة غيره، فإذا طرأت شبهة على الدين كهذه لم يجد جوابًا لها منقولاً عمن يقلدهم من الفقهاء، فيبقى حائرًا محجوجًا مبهوتًا، أو يستدل بما لم يحط بعلمه.
ولم يتناول دُرة الحق غائصٌ
من الناسِ إلا بالروية والفكر
إن طريق الانتفاع بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المجتهدين هو أن يفرغ الإنسان قلبه مما يعتقده قديمًا مما قد يظن في نفسه أنه حق، ثم يقدر الاحتمال لعدم صحة ما يعتقده، فينظر من جديد في الأدلة التي يوردها المجتهد بدون أن يتلقاها بالنفرة والكراهية الشديدة لها، فإن الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء لم يكد يسمعه ولا يبصره، فيفوت عليه مقصوده وثمرته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار:اختلف العلماء في قتال الكفار وهل سببه المقاتلة أو مجرد الكفر على قولين مشهورين للعلماء.
أحدهما: سبب المقاتلة هو الاعتداء على الدين وأهله، وهذا هو قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم.
والثاني: أن سببه الكفر، وهو قول الشافعي، وربما علل به بعض أصحاب أحمد من أن السبب في القتال مجرد الكفر.
قال: وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة:190].
فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال، وقوله: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾ فسره بعض العلماء بقتال من لم يقاتل وبالمثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والرهبان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان، فدل على أن قتال من لم يقاتل عدوان، وهذه الآية هي محكمة وليست منسوخة على قول الجمهور، ثم استدل بقوله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]. قال: والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه كما كان المشركون يفتنون كل من أسلم عن دينه بصده عنه، ولهذا قال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191].
وقوله: ﴿وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ وهذا يحصل إذا ظهرت كلمة الإسلام وكان حكم الله ورسوله غالبًا، فإنه قد صار الدين لله. وأما قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»([1]). هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم. وليس المراد منه أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية، فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه لم يفعل هذا قط بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله. انتهى.
وقال أيضًا في السياسة الشرعية: وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين. وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمنى ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال الله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة: 190]. وفي السنن أن النبي ﷺ مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه وقد وقف عليها الناس، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل». وفيها أيضًا عنه ﷺ أنه كان يقول: «لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة». وذلك أن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، والفتنة أكبر من القتل، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. انتهى.
إن الإسلام جعله الله رحمة للعالمين، وقد حرم حرب الاعتداء والظلم، وقصر الحرب المشروعة على تقرير المصالح ودفع المفاسد؛ لأن الإسلام هو دين السلم والسلام، ولا يمكن تمتع العالم بالسعادة والراحة والرحمة إلا بهداية الإسلام، وقد أمر الله عباده بأن يؤثروا السلم على الحرب، فقال تعالى: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61]. لأن الإسلام يكره إراقة الدماء إلا لضرورة تقتضيها المصالح ودفع المضار، والضرورة تقدر بقدرها. ولهذا أمر الله عباده المؤمنين بأن يشدوا الحملة بالقوة والشدة في حالة قتال عدوهم، وأن يتصفوا بما وصفهم الله به بقوله: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡ﴾ [الفتح: 29].
ومتى كان الغلب لهم في القتال واستولوا على عدوهم فإنه ينبغي أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر، ثم ينظروا في أمر الأسرى على سبيل التخيير، إما بالمن عليهم بإطلاقهم بدون فداء كما منّ رسول الله على قريش وأهل مكة فقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»([2]). وإما بأخذ الفداء منهم كما أخذ النبي من أسرى بدر، قال تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَا﴾ [محمد:4]. ولم يقل: فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ولا تطلقوهم حتى يسلموا أو يقتلوا، كما يقوله من يرى أن القتال سببه الكفر.
وقد أذاع أعداء الإسلام فيما تجنوا به على الإسلام أن القرآن يأمر أتباعه بأن يقتلوا الكفار حيثما لقوهم مستدلين بمثل هذه الآية، حتى إن علماء النصارى والمبشرين منهم يلقون هذا الكلام في معرض طعنهم على الإسلام لقصد التنفير عنه وعن المنتسبين إليه.
وإنما المراد من هذه الآية وأمثالها هو لقاء المحاربين للدين وللمسلمين لكون الكفار في شرع الإسلام ثلاثة أصناف: محاربون للمسلمين فيقتلون حيثما ثقفوا كما يفعلون بنا. ومعاهدون ومنهم المسالمون فلا نتعرض لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه. وذميون لهم ما للمسلمين، فالإسلام يسوي بينهم وبين المسلمين في جميع أحكامه القضائية؛ يوجب حمايتهم والدفاع عنهم حتى بالقتال، وحرمة مالهم ودمائهم كحرمة المسلمين ودمائهم، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
وقد رُفع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله مسألة حاصلها هو: أنه تخاصم رجل مسلم مع رجل نصراني في قضية فلم يجد النصراني عند المسلم ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به المسلم ضربًا وقال: هذا جواب مسألتك. فقال النصراني: صدق قومنا إذ يقولون: إنما قام الإسلام بالسيف ولم يقم بالكتاب. فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب.
قال: فشمر المجيب عن ساعد العزم ونهض على ساق الجد ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، فإن هذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى الضعف. وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
ولأجل هذه القضية عمل العلامة ابن القيم عمله في تأليف كتابه هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى وجعله كالجواب للقائلين: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف ولم يقم بالكتاب، وكلامه فيه يوافق ويطابق كلام شيخ الإسلام في رسالته قتال الكفار كما تراه مفصلاً فيما يلي:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله([3]): أكثر الأمم دخولاً في الإسلام طوعًا ورغبةً واختيارًا لا كرهًا ولا اضطرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ رسولاً إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف قد طبقوا الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أممًا وسلبهم الملك والعز.
وأما النصارى فكانوا أطبق الأرض فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والجزيرة وأرض نجران وغيرها من البلاد.
وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها.
وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم.
وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها، وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة. ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة.
وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان، كما قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧﴾ [الحج: 17]. فلما بعث الله رسوله ﷺ استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر أهل هذه الأديان طوعًا واختيارًا، ولم يكره أحدًا على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه؛ امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وهذا نفي في معنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول كل من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار فلا يكرهون على الدخول في الدين. بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.
وكل من تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله وأما من هادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته، ولم ينقض عهده بل أمره الله أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 7]. ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهدهم وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم. وكذلك لما عاهد قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بالقتال حتى بدؤوا هم بقتاله، نقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر.
والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقًّا، فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية ثم دخلوا في دين الإسلام من غير رغبة ولا رهبة. فلم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال ضعف المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفقتهم بالمال والبدن، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام، لا لرياسة ولا لمال، بل ينخلع من الرياسة والمال، ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه. وهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام، ثم صاروا مسلمين إلا النادر، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلى الله فأطبقوا على الإسلام، ولم يتخلف منهم إلا النادر، وصارت بلادهم بلاد إسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة.
فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، حيث دخلوا في دين الله أفواجًا. حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد تبين أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم على الكفر أقل القليل. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
* * *
[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [2] سيرة ابن هشام 2/412. [3] من هداية الحيارى (ص22).
إن الجهاد هو سنام الإسلام، وهو قولي وفعلي، يكون باللسان وبالحجة والبيان والسنة والقرآن، ويكون بالسيف والسنان. والجهاد باللسان وبالحجة والبيان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان، ولهذا أمر الله به في السور المكيات قبل أن يفرض القتال، فقال تعالى: ﴿وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢﴾ [الفرقان: 52]. فأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادًا كبيرًا.
وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والبيان نظير قوله: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣﴾ [النساء: 63]. أي يبلغ من أفهامهم ويعلق بأذهانهم، ومنه علم البلاغة، فالجهاد باللسان وبالحجة هو جهاد أنبياء الله ورسله وخاصة عباده، إذ تطهير سبيل الله ودينه وشرعه واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ومن الجهاد في سبيل الله جهاد الإنسان نفسه على فعل الأوامر وترك النواهي، ثم جهاد أهله وعياله على المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، ثم أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لكل أحد حسب استطاعته، ومنه تعلم العلم وتعليمه وكتابته والدعوة إليه، كل هذا من الجهاد في سبيل الله، وروى الترمذي عن فضالة ابن عبيد أن النبي ﷺ قال: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل»، وقال رسول الله ﷺ: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»([4]).
كما يجب على العلماء جهاد عقائد الإلحاد والملحدين المضلين الذين يضلون الناس بالشبهات والتشكيكات من كل ما يزيغهم عن معتقدهم الصحيح، ثم يقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل.
ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر الكافرين، ودحض حجج المبطلين، لفسد الدين. وعن كعب بن مالك مرفوعًا: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه». رواه في شرح السنة، وعن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم». رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم.
فبدء القتال إنما يكون بالحجة والبرهان، لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة إلى دين الله الذي أوجب الله أن ينذر به ويبلغ جميع خلقه فقال الله تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. ومتى هُدِّد الدعاة أو قُتلوا أو مُنِعوا من دخول البلد لنشر الدعوة وتبليغ الهداية، فإنهم بمنعهم لهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين، فعلينا أن نقاتلهم لحماية الدعوة والدعاة لا للإكراه على الدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وقال: ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس:99]. لأن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والدفاع عن الدين أوجب من الدفاع عن الأنفس والأموال، فكيف إذا اجتمع الاعتداء على الدين وعلى الأنفس والأموال، فالإسلام لم يدع إلى قتال اليهود والنصارى إذا هم أذعنوا لبذل الجزية التي هي بمثابة الرمز للعقد والعهد ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشكهم وتشكيكهم.
* * *
[4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: غريب.
إن الله سبحانه لما أوحى إلى نبيه ورسوله محمد ﷺ وأظهر دعوته إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، فتألبت عليه قريش بالعداوة لولا أن أقاربه من بني هاشم وخاصة عمه أبا طالب حيث أصروا على منعه وعدم تمكينهم منه، وما زالوا يكيدون له حتى ائتمروا على قتله بصفة يضيع بها دمه، وذلك بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً فيضربونه بسيوفهم معًا في وقت واحد حتى يضيع بينهم دمه. فأطلع الله نبيه على كيدهم وأنزل الله ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30]. هذا وجميع عرب الحجاز ونجد مع قريش عليه، فهاجر النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، وهاجر السابقون الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج بمكة، وقد بايعوا النبي ﷺ على أن يمنعوه من كل من يعتدي عليه كما يمنعون أهلهم وأولادهم وأنفسهم، ولذلك صار حربًا لقريش خاصة وللعرب عامة، وصاروا يعدون أنفسهم محاربين له لا يقصرون عن كل ما يستطيعون من أذى ينالونه به وبأصحابه إلا فعلوه.
وكان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة والعفو والصفح والصبر على أذى المشركين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم تكن الحال إذ ذاك مناسبة للقتال لقلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، وكونهم في بلد حرام لم يكن القتال فيه مناسبًا، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي ﷺ بمكة فقالوا: يا رسول الله، كنا أعزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم». فلما حوله الله إلى المدينة وصارت لهم دار منعة وأنصار فرض الله عليهم القتال، فجزع بعضهم من فرضه وخافوا من مواجهة الأعداء خوفًا شديدًا؛ لأن فيه سفك الدماء ويتم الأولاد وتأيم النساء، فكانوا يكرهون فرضه عليهم بعد أن كانوا يتمنون قتال المشركين، فأنزل الله ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧ أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ﴾ [النساء: 77-78].
وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال هي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 39-41]. قال العوفي عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وهي أول آية نزلت في القتال.
ثم إن المشركين هم الذين بدؤوا المسلمين بالقتال لإرجاعهم عن دينهم، ولو لم يبدؤوا في كل وقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وتمالؤهم على قتله، وفتنة المؤمنين في دينهم وإيذائهم بضربهم وأخذ أموالهم ومنعهم من الدعوة إلى سبيل ربهم، وكانوا ينهون الناس عن استماع القرآن خشية الإيمان به كما قال تعالى: ﴿وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنَۡٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٢٦﴾ [الأنعام: 26]. لكان كل ذلك كافيًا في اعتبارهم معتدين، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30]. وحسبك من الأذى كونهم وضعوا سلى الجزور على رأس رسول الله ﷺ وهو ساجد. فقتال النبي ﷺ لهم كله مدافعة عن الحق وأهله. وكذلك كانت حروب الصحابة لأجل حماية الدعوة ومنع الفتنة وحماية المسلمين من تغلب القوم الكافرين، والله تعالى يقول: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]. أي حتى لا يفتن المسلم في دينه ولا يمنع من الدعوة إليه. فهذا هو الغاية من القتال بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، وعبادة المسلمين ربهم، وإعلائهم كلمته، وتنفيذ شريعته، وبذلك يكون الجهاد لله وفي سبيل الله، وتكون كلمة الله هي العليا، ولا عبرة بما يهذي به العوام وبعض العلماء، حيث يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأنهم في فتوحهم يجعلون القرآن في يد والسيف في اليد الأخرى، ومن لم يؤمن بالقرآن حكموا فيه السيف، فهذا لا أصل له، والقرآن بجملته وتفاصيله يرده، فلا إكراه في الدين، ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]. وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢﴾ [الغاشية: 21-22]. أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلبهم.
فهذا القتال وإن ظنه بعضهم هجومًا لكنه حقيقة في الدفاع لشرهم، وقتال الدفاع لا يشترط أن يعلن به في كل حركة ولا في كل معركة؛ إذ العدو يترقب الفرصة لمواثبة عدوه، ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ لَن تَنفَعَكُمۡ أَرۡحَامُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡۚ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَفۡصِلُ بَيۡنَكُمۡ﴾ [الممتحنة: 2-3]. فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ [التوبة: 5]. وهذه الآيات هي معنى قول النبي ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
ويريد بهذا الأمر عرب الجزيرة، بحيث لا يبقى فيها إلا دين الإسلام. بخلاف اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، فإنهم لا يُطالبون بمدلول الحديث من الإقرار بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإنما يُكتفى منهم بالجزية فقط، ثم يقرون على دينهم الباطل. وألحق بعض العلماء بهم المشركين في غير جزيرة العرب، فإنه يُكتفى منهم بأخذ الجزية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ويدل له حديث بريدة في صحيح مسلم حيث قال: «فإن لم يقبلوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم». وسيأتي بتمامه في موضعه.
ولما عزم النبي ﷺ على فتح مكة أخفى سفره، فكتب حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بذلك، فأنزل الله سورة (الممتحنة) وفيها التصريح بالنهي عن موالاة المشركين، وخص هذا النهي بالذين قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، ثم قال: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 8-9].
وقال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]. وحتى لانتهاء الغاية بحيث يكون ما بعده نقيضًا لما قبله كأنه يقول: متى زالت الفتن عن الدين وعن عباد الله المؤمنين فلا قتال.
فالقتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. فمعناه الصحيح قتال الذين يفتنون المسلم في دينه، ويصدونه عن سبيل ربه، ونشر الدعوة إلى دينه، وهذا هو القتال في سبيل حرية الدعوة إلى الله وإلى دينه.
وكل من نظر بعين البصيرة إلى مقاصد الشريعة علم أن الدين إنما اشتهر وانتشر بالدعوة والتبليغ لا بالإكراه والإلزام، فقد قال الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وهي محكمة وليست منسوخة في قول جمهور العلماء.
وسبب نزول النهي عن الإكراه معلوم؛ وهو أن رجلاً من الأنصار من بني سالم بن عوف له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلمًا، فقال للنبي ﷺ: ألا أستكرههما على الإسلام فإنهما أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ وفيها روايات متعددة بمعنى ذلك، وأن الابنين متهودان.
ثم إن الحرب شر عظيم يترتب عليها سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، وأن القرآن لم يأذن بالجهاد إلا للضرورة التي هي المدافعة عن الحق الذي يعتقد الموحد أن فيه سعادته وسعادة البشر كلهم، فالحرب ضرورة يقتضيها جلب المصالح ودفع المفاسد، والسلم هو الأصل الذي يترتب عليه راحة الناس واطمئنانهم.
وقد سمى الله الإسلام سلمًا فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]. أي في الإسلام لأنه دين السلام والأمان، ولهذا أمر الله بإيثارها على الحرب فقال: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61].
وابتداء القتال مشروط بتقدم الدعوة إلى الإسلام، وعدم قبول المخالف للدخول في الذمة المعبر عنها بالجزية، وهي نزر يسير، بمثابة الرمز للخضوع للإسلام، وعدم الاعتداء عليه وعلى أهله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كانت سيرة رسول الله ﷺ أن من سالمه لم يقاتله. قال: ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن رسول الله ﷺ أنه أكره أحدًا على الإسلام لا مقدورًا عليه ولا ممتنعًا، ولا فائدة في إسلام المكره. ثم استدل بقوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. وبقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4].
فأمر الله عباده متى مكنهم الله من غلب عدوهم والاستيلاء عليه بأن يشدوا الوثاق -أي الأسر- ويرفعوا القتل، ثم يفعلوا معهم إحدى الحسنيين؛ إما المن عليهم بدون شيء بأن يسرحوهم بإحسان إلى أهلهم، أو يضربوا عليهم الفداء، كل واحد بحسبه، كما فعل رسول اللهﷺ مع أسرى بدر. وهذه الآية محكمة وليست منسوخة على القول الصحيح، ولم يقل سبحانه: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ولا تطلقوهم حتى يسلموا أو يقتلوا، كما يقوله من يرى أن القتل سببه الكفر، يؤكده قوله: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء: 90]. وهذه الآية مسبوقة بقوله: ﴿۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨ وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٨٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء:88-90].
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في طائفة من الكفار وهي الطائفة المسالمة للرسول وأصحابه، فما جعل الله للمؤمنين سبيلاً في قتالهم لكونهم قد سلموا المسلمين من شرهم، فلم ينقصوهم شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، ولم يتعرضوا للطعن في دينهم، فصاروا مستحقين للسلامة والمسالمة، ويعني بالمنافقين الذين بمكة لا المنافقين في دار الهجرة.
ثم قال في الفئة المحاربة: ﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١﴾ [النساء: 91]. فهؤلاء هم المحاربون للمؤمنين، وقد جعل الله للمؤمنين سلطانًا؛ أي حجة بينة في قتلهم وقتالهم لاعتبار أنهم محاربون لله ورسوله ودينه ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويزيده وضوحًا قوله تعالى: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨﴾ [الممتحنة: 8]. فهؤلاء هم المسالمون للرسول وأصحابه، فهم يستحقون الإكرام والاحترام والصدقة والإحسان لعدم عدوانهم على المسلمين، ثم قال في ضدهم: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 9]. فهؤلاء هم المحاربون لله ورسوله ودينه وعباده المؤمنين، فيستحقون القتال لكف ظلمهم وعدوانهم.
إن الله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه، غير مبخوس ولا منقوص ﴿وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩﴾ [الكهف: 49]. وهذه الآيات هي بمثابة ميزان العدل والحكم بالحق بحيث تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع في كل من يستحق القتل والقتال ومن لا يستحقه.
غير أن بعض العلماء من المفسرين والفقهاء المتقدمين يقابلون مثل هذه الآيات الواردة في محاسن الإسلام وسماحته كآية: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ [البقرة: 190]. وقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. وقوله: ﴿إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: 4]. وقوله: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]. و قوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 7]. فكل هذه الآيات وأمثالها يعارضونها بدعوى نسخها ليثبتوا الحكم بأضدادها تمشيًا على ما يعتقدونه في نفوسهم، فهم يريدون أن يبدلوا كلام الله، على أن دعوى النسخ غير ثابتة؛ إذ لا يعرف الناسخ المتأخر إلا بالخطاب الثابت، فأين شروط النسخ والحالة هذه؟
وذكر ابن جرير في التفسير عن ابن عباس وقتادة: أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام خداعًا، ويعينون المشركين على المسلمين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم وإن المؤمنين لما أخبروا بخروجهم من مكة، قالت فئة منهم: اطلبوا الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله تقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم من أجل أنهم لم يهاجروا فتستحلوا دماءهم وأموالهم! فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى أحد الفريقين، فتنزلت هذه الآيات وفيها التصريح بمن يباح قتله وقتاله ومن لا يباح قتله وقتاله.
وفيها أقوال أخرى غير أن ابن جرير رجح هذا التفسير عن ابن عباس وقتادة. وذهب الجمهور إلى أن هؤلاء الذين استثناهم الله هم من الكفار، وكانوا كلهم حربًا للمؤمنين، يقتلون كل مسلم ظفروا به، فشرع الله للمؤمنين معاملتهم بمثل ذلك، وأن يقاتلوا من يقاتلهم، ويسالموا من يسالمهم.
ولهذا قال سبحانه: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء: 90]. أي في قتالهم والاعتداء عليهم؛ لأن أصل الشرع في القتال أن لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم، ولا تعتدوا إلا على من يعتدي عليكم.
ثم قال في المحاربين: ﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ﴾ [النساء: 91]. أي المسالمة، ﴿وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ﴾ أي عن قتالكم والمساعدة على حربكم، ﴿فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١﴾.
وروى ابن جرير عن مجاهد أنهم أناس يأتون النبي ﷺ فيسلمون خداعًا، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الكفر وعبادة الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا من كلا الجانبين، فهم مذبذبون بين المؤمنين والكافرين، فأمر الله سبحانه بقتالهم إن لم يعتزلوا ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين، أو عن عمل الدسائس للمسلمين، وهذه الآيات كلها هي محكمة وليست بمنسوخة على القول الصحيح.
وقد اتخذ كثير من الناس دعوى النسخ سُلمًا إلى إبطال كثير من حكم الآيات والسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن كثيرًا من المتعصبين إذا رأوا آية أو حديثًا يخالف مذهبهم يقابلونه بالتأويل، ويحملونه على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلاً، فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزعوا إلى دعوى الإجماع على خلافه، فإن رأوا من الخلاف ما لا يمكنهم معه دعوى الإجماع فزعوا إلى القول بأنه منسوخ، بدون أن يوجدوا ناسخًا صحيحًا صريحًا متأخرًا، إذ محال على الأمة أن تحفظ المنسوخ الذي بطل حكمه وتضيع الناسخ الذي يلزمها حفظه والعمل به، وليست هذه طريقة أئمة الإسلام بل كلهم على خلاف ذلك، وإنهم إذا وجدوا آية أو سنة صحيحة لم يبطلوها بتأويل ولا دعوى إجماع ولا نسخ. انتهى([5]).
لهذا يظهر للقارئ مما قدمنا أن الغاية في القتال في الإسلام هو ما يعبرون عنه بحرية دعوة الدين لإعلاء كلمة الحق على الأديان كلها، ومنع فتنة أي أحد في دينه دين الحق أو محاولة إرجاعه عنه، كما أن المشركين يضطهدون المسلمين بكل ما يقدرون عليه من أنواع التضييق والإحراج والتعذيب والإيذاء لأجل ردهم عن دينهم. ولهذا أوجب الله القتال في الإسلام دفعًا لهذا الظلم والعدوان.
أما المسلمون فإنهم لم يضيقوا على أحد أو يحرجوه لأجل خروجه عن دينه ودخوله في دين الإسلام؛ لأن الله سبحانه قد نهى عن ذلك بقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. بخلاف مشركي العرب فإنه لم يكن لهم دين مبني على عبادة أو معرفة. ولم يكونوا يؤمنون بالبعث والحساب ولا يصدقون بالجنة ولا بالنار ويسكنون في جزيرة العرب التي هي دار الإسلام ومأرز المسلمين، والتي لا يترك فيها إلا مسلم، وقد أوصى النبي ﷺ بإخراج اليهود والنصارى منها بحيث لا يبقى فيها دينان، إلا دين الإسلام، وهذا معنى ما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبيﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
فالمراد بالناس في هذا الحديث هم مشركو جزيرة العرب من إطلاق الكل ويراد به البعض، وهم الذين أنزل الله فيهم سورة براءة التي هي من آخر القرآن نزولاً وهي قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥﴾ [التوبة:5]. إذ من المعلوم أن الله سبحانه لم يحكم بإلزام الناس كلهم بمدلول هذا الحديث أو الآية من قتالهم حتى يقروا بالشهادتين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن سائر الأمم من اليهود والنصارى والمجوس يُكتفى منهم بالجزية ثم يُقرّون على دينهم الباطل الذي هو عدم الإقرار بالشهادتين وعدم الصلاة والزكاة، نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ [آل عمران: 173]. وهؤلاء الناس الذين أجمعوا على حرب رسول الله والصحابة هم أبو سفيان ومن معه دون سائر الناس،
إنه لولا إذن الله للناس بهذا الجهاد -الذي هو حقيقة في الدفاع عن الحق والحقيقة- لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا؛ ببغي أهل الطغيان وعبدة الأوثان ومنكري البعث للجزاء على الأعمال التي تبيح للناس جميع المنكرات والفواحش والآثام وسائر ما يفسد الأخلاق والأديان والآداب وروابط الاجتماع، والله يقول: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ﴾ [النساء: 76]. والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان.
أما حروب الدول الأوربية فإن دول النصارى في فتوحها تحرص على نشر تعليم لغاتها وتاريخ عظمتها وعظمائها وسياسة ملكها، وينالون من الإسلام بهضمه وذمه وصد الناس عنه، وقد بقوا فوضى وحيارى ليس لهم دين يعصمهم، ولا شريعة تنظمهم، وإنما يتوارثون الكفر من بعضهم عن بعض، وينالون من الإسلام بالطعن فيه، لأجل هدم مقومات دين الإسلام وعظمته وعظمائه، ليبقوهم في رق الاستعمار وذل الاستعباد، ويلوِّحون للشباب المتعلمين في مدارسهم بأن دين الإسلام هو الذي حكم على أهله بالذل والضعف، حتى يبقوهم على حالهم فلا يتطاولون عليهم في العلم والثروة والعزة والقوة.
* * *
[5] ص143 من كتاب الصلاة.
إن مشركي العرب كانوا حربًا لرسول الله ﷺ وأصحابه لأن ولاءهم ومحبتهم ونصرتهم لقريش على حرب رسول الله وأصحابه، يقول الله تعالى: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2]. وقد شاركوا قريشًا في الهجوم على خزاعة، وهي داخلة في عهد الرسول وعقده، ثم شاركوهم في التحزب معهم يوم الأحزاب عام الخندق، ثم أرسل النبي ﷺ سبعين من القراء إلى نجد فيهم خبيب يدعون الناس إلى الدين ويعلمونهم أحكام عبادتهم، فتمالؤوا على قتلهم، فقتلوهم كلهم إلا خبيبًا فإنهم باعوه لقريش ليقتلوه في قتيل لهم فقتلوه، فقنت عليهم النبي ﷺ يدعو عليهم شهرًا. فهم الأعداء الألداء لم يبقوا صلحًا مع النبي وأصحابه، وقد أنزل الله فيهم صدر سورة التوبة وهي قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ [التوبة: 5]. وهم الذين قال النبي ﷺ فيهم: «أمرت أن أقاتل الناس([6]) حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
فهذا إنما أراد به مشركي العرب الذين لم تقبل منهم الجزية، وذلك بعد الإذن بقتالهم. وما أذن الله لنبيه وللمسلمين بقتالهم إلا بعد أن آذوا النبي ﷺ وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقعدوا لهم كل مرصد، ووقفوا في سبيل الدعوة، فلم يكن الإذن بقتالهم إلا للدفاع عن الحق وأذى الخلق، يقول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]. وكان النبيﷺ يقول: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك»([7]).
يقول بعض من يعترض على هذا ممن يحاول الطعن في الدين: إن الرسول وأصحابه قد أكرهوا مشركي العرب على الإسلام، وإنهم لم يقبلوا منهم إلا الإسلام أو السيف كالمرتدين عن دين الحق إلى الكفر، بينما القرآن يترك إكراه آخرين على الإسلام بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم الباطل كأهل الكتاب.
والجواب عن هذا أن جزيرة العرب هي دار الإسلام ومأرز المسلمين وعقر دارهم فلا ينبغي أن يترك فيها إلا مسلم، وقد أوصى النبي ﷺ بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا يبقى فيها إلا دين الإسلام. وجزيرة العرب هي الحجاز ونجد بلا خلاف، وفي غيرهما الخلاف المشهور. قال في فتح الباري: لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة. إذ هذه مساكن العرب من قديم الزمان والعرب فيها هم من أرفع الناس رأسًا وأقواهم بأسًا.
ولما اختلف الناس على الإمام علي رضي الله عنه في حرب الجمل وصفين تمنى أن ينحاز بقومه إلى جزيرة العرب أو الشام وأنشد:
ولو أني أُطعتُ عصمتُ قومي
إلى ركن اليمامة أو شآمِ
ولكني إذا أبرمتُ أمرًا
يخالفه الطَّغام بنو الطغامِ
إن قيام الدين وانتشاره واتساع رقعة الإسلام إنما هو بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر الله نبيه بقوله: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125]. لا بالسيف والإكراه كما يعتقده بعض الناس وأكثر العوام، وإنما السيف بمثابة الناصر للإسلام الذي يذب عنه العدوان عندما توقدت بالغيظ والحقد والحسد قلوب أهل الطغيان حتى قلوب الأقربين من قريش الذي عزه عزهم، وشرفه شرفهم كما قيل([8]):
حسد العشيرة للعشيرة قرحة
تَلِدتْ وسائِلُها وجرحٌ أقدمُ
تلكم قريش لم تكن آراؤهـا
تهفو ولا أحلامها تتقَسَّمُ
حتى إذا بُعِثَ النبي محمـد
فيهم غدتْ شحناؤهم تتضرَّمُ
عزَبتْ عقولهمُ وما من معشـرٍ
إلا وهم منهم ألبُّ وأحزَمُ
لما أقام الوحيُ بين ظهورهم
ورأوا رسول الله أحمدَ منهمُ
إن مشركي العرب غارقون في فنون الشرك وعبادة الأوثان من الأحجار والأشجار والقبور وسائر وسائل الافتتان، وما يفسد العقول والأذهان ويفسد أخلاق الصغار والكبار، ويصير العاقل إذا عمل به أخرق، والرشيد سفيهًا؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي انتحلها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بنسبته إلى العدم وعدم الجزاء على العمل، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى الدين، وإلى عباد الله المؤمنين، وأن يعاملهم بضد صفاتهم الجميلة وأفعالهم الحميدة، إذ لا يمكن اتحاد وحدة الجميع على التوحيد مع الاختلاط بهؤلاء، مع العلم أن الأخلاق تتعادل، فلو لم يجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى لكانوا لذلك أهلاً إذ الضرورة تقتضي قطع العضو المتآكل متى خيف سراية ضرره إلى سائر الجسم.
من ذلك أن وفد خولان لما قدموا على النبي ﷺ مسلمين فقال لهم رسول الله: «ما فعل عم أنس». وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه عم أنس، فقالوا: قد أبدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكين به ولو قدمنا عليه لهدمناه، فإننا منه في غرور وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟». فقالوا: لقد أسنتنا -يعني أجدبنا- سنة حتى كنا نأكل الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه حتى اشترينا مائة ثور ونحرناها كلها، قربانًا لعم أنس وتركنا السباع تردها ونحن والله أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا ولقد رأينا العشب يواري الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس([9]).
وهذا من فنون عملهم الذي يوقع عامتهم في الافتتان به، والله يقول: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193].
وإنما شرع القتال للدفاع عن الدين وعن أذى المعتدين وهو ما يعبرون عنه بحرية الدعوة إلى الدين، وإعلاء كلمة الحق على الأديان كلها، ومنع الفتنة فيه بحيث لا يفتن المسلم في دينه، ولا يجبر على الرجوع عنه إلى الكفر.
كما كان المشركون من قريش والعرب يضطهدون المسلمين بكل ما يقدرون عليه من أنواع الإحراج والتضييق والإيذاء والتعذيب، لأجل ردهم عن دينهم، كما فعلوا مع بلال وصهيب وسمية، من تعذيبهم لهم بالنار، بقصد ردهم عن الإسلام. ولأجل دفع الأذى والاضطهاد والعدوان شرع الله القتال في الإسلام، وجعله مفروضًا، وسماه سنام الإسلام، وأمر بإعداد القوة له لقصد إظهار الحق ونفع الخلق وإرهاب الأعداء بإخافتهم من عاقبة التعدي على دين المسلمين وبلادهم، وأفرادهم أو حدودهم وحقوقهم ومصالحهم، حتى ولو في غير بلادهم -بلاد العرب- فإن التعدي على أحدهم كجميعهم؛ لاعتبار أن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله. حتى تكون أمة الإسلام آمنة في عقر دارها، آمنة على أموالها ومصالحها، مطمئنة في حرية دينها.
وإنما اشتبه على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء بما فهموه من بعض الغزوات والسرايا التي يُظن منها بدء المسلمين بها، حيث توهموا بأنها هجوم محض وأن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون. وذهلوا عن بداءة حالة الحرب بينهم وبين المشركين باعتداء المشركين عليهم وتحزبهم مع قريش على حرب الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، كما أنهم نقضوا عهد صلح الحديبية، وهجموا على خزاعة مع أبي سفيان وقومه فقتلوهم وقد دخلت خزاعة في عهد رسول الله وعقده. واستمروا على هذا العداء والمظاهرة في ذلك الوقت، فهم أعداء للرسول في كل حال وفي كل محل إلى أن فتح الله مكة.
وكان العرب من أهل الحجاز ونجد يتربصون بإسلامهم واستسلامهم فتح مكة وظهور النبي على قريش، ويقولون: إن كان محمد نبيًّا فسيظهر على قريش، وإن كان غير نبي فستظهر عليه قريش، فلما فتح الله مكة في العام الثامن واستقر الإسلام بها ومَنّ على أهلها بالعفو، أقبل العرب من كل صوب يظهرون إسلامهم واستسلامهم لرسول الله، وسمي العام التاسع بعام الوفود، وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين.
* * *
[6] الألف واللام في كلمة الناس للعهد ويعني بالناس قريشًا نظيره قوله: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ [آل عمران: 173]. والقائلون: إن الناس قد جمعوا لكم، هم فرد أو أفراد من الناس، كما أن الناس الذين جمعوا لقتالهم هم أبو سفيان ومن معه. [7] رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. [8] من شعر أبي حاتم. [9] ذكره في زاد المعاد في وفد خولان.
اشتبه على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين بما فهموه من بعض الآيات وبعض الغزوات والسرايا، مما يوهم أن المسلمين بدؤوا بالحرب لسائر الأمم، وخاصة حروبهم في فتوح البلدان زمن الخلفاء الراشدين، فيظنون كل الظن أنه هجوم محض.
وخفي عليهم سبب بدأ حالة الحرب بينهم وبين المشركين، وبينهم وبين فارس والروم بتسلط النصارى على المسلمين بقتلهم كل من أظهر إسلامه في سائر البلدان التي سيطروا عليها في الشام وغيرها.
فهذا وإن ظنه الناس هجومًا، لكنه حقيقة في الدفاع لشرهم، وقتال الدفاع لا يشترط له تقدم الدعوة، ولا أن يكون في كل معركة ولا في كل حركة، إذ العدو يتحين غفلة عدوه لمواثبته والعدوان يقابل بمثله، يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧﴾ [الأنفال: 57]. ويقول: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾ [البقرة: 194].
ولما عزم النبي ﷺ على فتح مكة أخفى سفره، وأنزل الله ما أنزل في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب لقريش يخبرهم بعزم رسول الله على غزوهم، فأطلع الله نبيه على ذلك قبل وصول الكتاب إليهم، وكان يقول: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها»([10]).
وذكر يحيى بن سلام في تفسيره: أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب لقريش: أما بعد؛ يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام.
إن الغرض من الحرب ونتيجتها هو دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، وعبادة المسلمين ربهم آمنين في دينهم ووطنهم، وإعلاء كلمة الحق ودعوة الدين وتنفيذ شريعته. وكل هذا تعود مصلحته إلى البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، إذ هو دين الله لكافة البشر والذي قال الله فيه: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. إذ لولا هذا القتال الذي شرعه الله ﴿لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠﴾ [الحج: 40-41]. ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته.
أما حروب الصحابة لفارس والروم فإن الأصل فيها أنها لما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة على الإسلام وعلى التمسك به والعمل بموجبه، صار أولئك الجيران أعداء لكل من أظهر الإسلام فيؤذونهم ويضربونهم، وقتل النصارى بعض من أسلم من المسلمين بالشام، فهم بدؤوا بحرب المسلمين بغيًا وظلمًا، فأرسل رسول الله ﷺ سرية أمر عليهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون مع النصارى بمؤتة من أرض الشام.
ولما كان العدو حربًا لعدوه حيث كان وفي كل مكان، كان لا بد للمسلمين من أن يؤيدوا دعوتهم ويكفوا الاعتداء عن كل من ينتسب إلى دينهم، فيؤيدوا نشر هذه الدعوة بكل ما يستطيعون من قوة من كل ما يزيغ عنها الفتنة، والفتنة أشد من القتل.
وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر وفارس والعراق قد اعتدوا على بعض من أسلم من المسلمين فأخضعوهم لسلطانهم.
وكانوا يكتبون لبعض المسلمين يدعونهم إلى دينهم، كما كتبوا لكعب بن مالك لما هجره رسول الله ﷺ على تخلفه عن غزوة تبوك، وكان الصحابة بترقبون هجوم غسان عليهم وهم ملوك الشام لما بلغهم أنهم ينعلون الخيل لغزوهم، حتى أصيبت المدينة بالخوف الشديد من ترقب هجومهم، وعند ذلك أمر النبي ﷺ بغزوة تبوك لما بلغه أن الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة بالشام، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين وساعدهم على ذلك متنصرة العرب.
ولهذا أمر النبي ﷺ بالخروج في ذلك الوقت الشديد، وكان المسلمون في شدة من العسرة والمجاعة وانقطاع الظهر وسميت غزوة العسرة، وهي الغزوة التي ظهر فيها صدق المؤمنين ونفاق المنافقين.
وقد أرسل النبي ﷺ شجاع بن وهب الأسدي بكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام.
وكانت غسان هم ملوك عرب الشام، وكانوا حربًا لرسول الله، قال شجاع: فوجدتهم ينعلون خيولهم لمحاربة رسول الله وأصحابه. قال: فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقدوم قيصر وقد أقبل من حمص إلى إيلياء. قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه. فقال: إنك لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا أو كذا، وجعل حاجبه -وكان روميًّا- يسألني عن رسول الله، فكنت أحدثه عنه وما يدعو إليه فيرق قلبه حتى يغلب عليه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أومن به وأصدقه لكني أخاف من الحارث أن يقتلني متى علم بإسلامي.
قال شجاع: وخرج الملك -أي الحارث الغساني- يومًا فجلس فوضع التاج على رأسه وأذن لي بالدخول عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه ثم رمى به كالكاره له، وقال: من ينتزع مني ملكي؟! وقال: إني سائر إلى صاحبك ولو كان باليمن، ولم يزل تُعرض عليه الخيول ويأمر أن تنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، وما عزم عليه من غزو الرسول وأصحابه وأجابه قيصر وقال: لا تَسرْ ولا تعبر إليه والْهَ عنه. فلما جاءه كتاب قيصر دعاني فقال: متى تريد أن ترجع إلى صاحبك؟ فقلت: غدًا. فأمر لي بمائة مثقال ذهبًا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال حاجبه: اقرأ على رسول الله مني السلام. فقدمت على رسول الله وأخبرته خبره، فقال رسول الله: «باد ملكه»([11]). وفي أثناء هذه المدة أرسل ملك غسان إلى كعب بن مالك يطلبه للحاق به حينما هجره النبي ﷺ ضمن الثلاثة الذين خلفوا.
إنه من المعلوم أن فارس والروم كانتا أمتي حرب وقتال ولديهما الاستعداد التام بالعدد والعتاد وقد ضربتا بجيرانهما على ما جاورهما من بلاد العرب، وقد سعيا سعيهما في إضلال العرب وفي فساد دينهم وفي تنكرهم على رسول الله، وعدم إجابتهم له، والعرب مستذلون تحت سلطانهم وسيطرتهم، ولم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بعد الإسلام، فلما علما بإسلام العرب أخذا يعملان عملهما في التضييق عليهم، والتعذيب لهم، كي يرجعوا عن دينهم؛ لأنه ساءهما دخول أكثر العرب الإسلام، وخشوا صولة الدين عليهما وخافا أن يقوض ممالكهما، فكان كل منهما يهدد دعوة الإسلام في بلاده وبجواره، ويمنعون أشد المنع من نشرها في بلادهم، وكانوا يؤذون كل من يظنون أنه أسلم. فكانت حرب الصحابة كلها لأجل حماية الدعوة وحماية المسلمين من تغلب القوم الظالمين، لا لأجل العدوان أو الإكراه على الدخول في الدين. إن التنازع بين الناس في مرافق الحياة ووسائل المال والجاه والسلطان غريزة من غرائز البشر، وقد يفضي التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات، كما هي عادة البشر من قديم الزمان، وقد يكون التنازع والتقاتل لسبب تملك الأقطار واتساع العمران وتسخير الناس للسلطة الظالمة والسلطان الجائر فيكون ضرره كبيرًا وشره مستطيرًا، أما القتال المذكور في القرآن وفي سيرة الرسول وخلفائه وأصحابه فإنه مبني على قواعد العدل والرحمة، وعموم المصلحة للبشر كلهم، فما كان النبي ﷺ يطلب بالقتال ملكًا ولا مالاً ولا سلطانًا، وقد عرض عليه رؤساء قريش كل ذلك على أن يكف عن دعوته فلم يقبل، وإنما يطلب أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر. وكان قتاله ودفاعه في سني الهجرة دفاع الضعيف للقوي إلى أن أظفره الله وأظهره على قريش بفتح مكة عنوة.
إن المسلمين في دعوتهم لأمتي فارس والروم لم يستعملوا القوة في بداية أمرهم وإنما يطلبون إلى الممتنعين أن يسمحوا لهم بنشر دين الله دين الحق ودين جميع الخلق والذي أوجب الله أن ينذروا به ويبلغوه جميع الخلق، يقول الله: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. فهم ينذرون ويحذرون بقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦﴾ [المائدة: 15-16].
﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩﴾ [المائدة:19].
﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64].
وحيث أمر الله بإبلاغ القرآن والإنذار به والدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن، فمتى مُنِع المسلمون من ذلك وهُدد الدعاة أو مُنِعوا من نشر دعوتهم في البلاد، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى عباد الله المؤمنين بقطع سبيل الدعوة إلى ربهم، وإلى ما فيه صلاحهم وصلاح البشر كلهم، فيقاتلون دفاعًا لشرهم فإن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والفتنة فيه أشد من القتل، ولا أشد من فتنة المضلين الذين يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، يقول الله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193].
فالإسلام لم يدع إلى قتال الكفار إذا هم أذعنوا ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشركهم وتشكيكهم ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن أجابوا الدعوة قُبِل منهم وكانوا مسلمين وإن امتنعوا طُلِب منهم الجزية، وهي نزر حقير ترمز لخضوعهم للإسلام وارتباطهم بعهده وعقده وكف الأذى والاعتداء على الدين وعلى المسلمين مع بقائهم على دينهم، ثم إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
فمطالب الإسلام والمسلمين هي من الأمور السمحة السهلة، غير أن الأمم المخالفة قد جاهدوا أشد الجهاد في منع الدعوة وقبول الهداية؛ لعلمهم أن ما يدعون إليه هو الحق الذي يقبله الذوق السليم ويستسلم له العقل الحكيم لأنه دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، وأن الناس ينصاعون لاستجابة دعوته، ومن لوازمه تقويض دعائم ملكهم وسلطانهم، وحتى النصارى في هذا الزمان فإن أشد ما يقع بأسماعهم هو الدعوة إلى الدين.
وهذه هي غاية القتال لأهل الكتاب المشار إليها بقوله تعالى: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩﴾ [التوبة: 29]. إن قيام الإسلام إنما هو بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع في بلدان العالم إنما هو لموافقته للفطرة والمصلحة ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19]. ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85].
فكان الصحابة في فتوحهم لا يتقدمون خطوة إلا والدعاة من خلفهم يبينون للناس الإسلام وأحكامه وفرائضه، وما يترتب عليه من الأجر والفضل في الدنيا وفي الآخرة، وبسبب هذا القتال في سبيل الله وفي سبيل حرية الدعوة حصل ما ترتب عليها من الفتوح للأقطار وسائر الأمصار، حتى انتشر فيها الإسلام وصار أكثر النصارى من الأمم حنفاء لله يعبدونه ولا يشركون به شيئًا.
ثم إن المسلمين عاملوا من دخل تحت سلطانهم معاملة حسنة بمقتضى العدل والإنصاف، حيث ساووهم بأنفسهم في جميع معاملات الحياة، وأقاموا أنفسهم مقام الحماة لهم دون دمائهم وأموالهم، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، وحتى احترام معابدهم فلا يتعرضون لهدمها، ولا يمنعون أهلها من دخولها، وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وهذا مما تواترت به الأخبار والتاريخ تواترًا صحيحًا لا يقبل الشك في جملته. والحاصل أن المسلمين إنما شهروا سيوفيهم لضرورة الدفاع عن أنفسهم وكف العدوان عنهم وعن دين الله الذي أمروا أن يبلغوه، فهم لم يستعملوا القوة إلا عند الحاجة وفي حالة الضرورة، وقد فتحوا بعض البلدان بدون قتال، لموافقة أهلها على دخولهم ونشر دعوتهم فيها، وسيرة النبي ﷺ وأصحابه في القتال مبنية على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة لكافة البشر من غير اعتداء على دين أحد أو ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده.
ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن أخبرونا بالذي تريدون منا وما الغرض من إقدامكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: إننا نريد أن نخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ونريد أن نُخرج الناسَ من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، ونريد أن نخرجكم من ضيق الدنيا إلى سعتها.
فهذا صنيع سلف المسلمين الكرام من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان والسنة والقرآن والسيف والسنان حتى اتسعت رقعة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
ولا ننكر أن ملوك الطوائف من المسلمين قد شاب فتوحاتهم في آخر السنين لنشر دعوة الإسلام شيء من حب سعة الملك وعظمة السلطان، وحكم العدل وميزان القسط هو ما قدمنا من صفة سيرة رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه في فتوحهم.
ثم إن الحروب بين المسلمين والكفار يكون لها أسباب تثيرها وتهيجها سوى ما ذكرنا مما يدخل تحت الدفاع عن حقوق سائر المسلمين لاعتبار أنهم متكافلون، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
فمتى هَمّ العدو الطامع باغتصاب بلادنا أو شيء من حقوقنا، أو أراد العدو الباغي استذلالنا أو العدوان على استقلالنا بقطع حرية دعوتنا، فإنه يجب عند ذلك أن نتحلى بحلية الشجاعة والقوة والعزة، فنقاتل في سبيل ذلك حتى تكون حقوقنا محفوظة، وكرامتنا مصونة، وهذا من القتال في سبيل الله لقصد إرهاب الأعداء، وإخافتهم من عاقبة التعدي على المسلمين، وعلى بلادهم وأفرادهم، حتى في غير بلادهم؛ لاعتبار أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله([12]).
* * *
[10] سيرة ابن هشام 2/397.
[11] ذكره العلامة ابن القيم ص20 من المجلد الثاني من زاد المعاد في فقه غزوة تبوك.
[12] من ذلك ما ذكره أهل التاريخ قالوا: أسرت الروم امرأة شريفة هاشمية، وكانت ممتلئة الصدر بالعزة والأنفة والشجاعة. وفي ضحوة يوم من آخر أيام الشتاء كان المعتصم بن هارون الرشيد جالسًا في مقره ومن حوله حشمه وخدمه فجاء حاجبه وقال له: يا أمير المؤمنين، هنا شيخ عربي بالباب هارب من أسر الروم يريد المثول بين يديك. فقال: ائذنوا له. فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، جئتك من عمورية المجاورة لأنقرة، وكنت أسيرًا فيها، فسمعت امرأة سيدة هاشمية من أسرى زبطرة تنادي رغم ما بينك وبينها من جبال ومفاوز: وامعتصماه، فجئتك هاربًا من أسرهم مقتحمًا صنوف الأخطار لأبلغك صوتها. فلما سمع المعتصم مقالته نهض في الحال مجيبًا: لبيك لبيك، ثم دعا عبد الرحمن بن إسحاق قاضي بغداد وشعبة بن سهل أحد كبار العلماء وثلاثمائة وثمانية وعشرين رجلاً من أهل العدالة وقال لهم: إني ذاهب في سبيل الله لإنقاذ الهاشمية من وراء أعماق بلاد الروم وقد لا أعود إليكم. فأوصاهم بما أوصاهم به، وقد اتفق المنجمون أنه إن خرج المعتصم لفتح عمورية هذا الوقت، فإنها تكون عليه الدائرة، فإنه لا يمكن فتحها إلا وقت نضوج التين والعنب، فخالفهم وخرج لفتحها ففتح الله عليه ما كان مغلقًا، وأصبح كذب المنجمين محققًا، ثم أمر بالنفير، وأصدر أوامره بأن تتوالى الجيوش خلفه، وتكون أعظم جيوش سالت بها الأباطح قبل هذا اليوم، فما زالت الجيوش تتبعه حتى وصلوا إلى أنقرة، فدمرها على رؤوس أهلها ثـم انتقل إلى عموريـة، فنزل على حصونها وأبراجها وأسوارها، وكانت أمنع أسوار عرفت في ذلك العهد، وما زال يلح عليها بدبابته ورهيب آلاته حتى دخلها في ربيع الأول سنة 223هـ، وكان أول ما طلب الوصول إلى المرأة الهاشمية في سجنها، وفي ذلك يقول أبو تمام قصيدته الرائعة التي مطلعها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
أجبته معلنًا بالسيف منصلتً
ولو أجبت بغير السيف لم تجب
الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون الغالبون على الأمم المغلوبة لقصد إرهابهم وإضعافهم، وتضخم مالية الدولة بما يصنعونه، فضلاً عن الغرامات التي يرهقونهم بها بما يسمونه خسائر الحرب، وإنما هي نزر يسير بمثابة رمز للخضوع والطاعة لحكومة المسلمين، وهي تشبه بالتقريب ورقة التجنس التي يعرف من حملها بأنه من أفراد الدولة الملتزم لنظامها وطاعتها مع بقائه على ديانته، لكون الإسلام يقرهم على دينهم، إذا بذلوا الجزية فتؤخذ من أغنيائهم في آخر الحول، ولا جزية على الصبيان ولا على النساء ولا على الفقراء، وهي مأخوذة من الجزاء؛ أي جزاء حقن الدم، أو جزاء الحماية لهم والدفاع عنهم، أو جزاء مساواتهم بالمسلمين. ويستفيدون بها التزام الحكومة الإسلامية بدخولهم في ذمتها وعهدها بحيث يمنعونهم من كل ما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، ويحمونهم ممن يعتدي عليهم، ويحترمون معابدهم، ولا يكلفونهم التجند للقتال معهم عند حاجة المسلمين إليهم. ويستفيدون بهذه الجزية بأنهم كحالة المسلمين في سائر تصرفهم في أمور دنياهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويبقون محترمين من نالهم بسوء غرم وأثم، وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أخفر معاهدًا في ماله ودمه، وقد أوصى عمر بن الخطاب بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
حتى إن المسلمين يعولون العجزة منهم ويعيشونهم، وكتب خالد بن الوليد بعد فتح العراق: أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًّا فافتقر وجعل أهل دينه يتصدقون عليه، فإنها تطرح جزيته، يعال هو وعياله من بيت مال المسلمين ما دام مقيمًا بدار الهجرة وبدار الإسلام.
وهذا هو الذي جرى عليه العمل من سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين في فتوح الأمصار، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة وأعدلهم في تنفيذها.
وأما ما يذكره الفقهاء في كتبهم من إطالة وقوفهم وجر أيديهم، فهذا لا أصل له في الشريعة، وإنما هو من توليد بعض الفقهاء أخذًا من مفهوم قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩﴾ [التوبة: 29]. ففسروا هذا الصغار بما وصفوه من الذل والاحتقار، وليس كذلك، وإنما معناه حتى يعطوا الجزية عن طاعة وإذعان للإسلام.
وكتب خالد بن الوليد لنسطونا وقومه: إن عاهدتكم على الجزية والمنعة فلكم الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية عليكم وإلا فلا. وهذا دليل على أن الجزية جزاء عن الحماية والمنعة تدوم بدوامها وتزول بزوالها.
وأنه يجوز للإمام إسقاطها في حالة الصلح والمصلحة وعدم القدرة على الحماية.
وقد جرى العمل بذلك من الصحابة فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان والأزدي في فتوح الشام: أن الصحابة لما عجزوا عن حماية أهل حمص حين اضطروا إلى ترك مركزهم لحضورهم وقعة اليرموك بأمر أبي عبيدة بن الجراح؛ ردوا إلى أهل حمص ما كانوا أخذوه منهم من الجزية، فعجب نصارى حمص ويهودهم من رد أموالهم إليهم وأخذوا يدعون لهم ويستغيثون بنصرهم على أعدائهم من الروم.
وقد خصَّ الفقهاء أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس فقط دون عبدة الأوثان، مستدلين بأن الله لما خص أهل الكتاب بأخذ الجزية دل على أنها لا تؤخذ من غيرهم، وقالوا: إن النبي ﷺ لم يأخذها من مشركي العرب، وقال شيخ الإسلام في رسالته قتال الكفار: ولقد تتبعت ما أمكنني في هذه المسألة فما وجدت لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في أخذ الجزية بين أهل الكتاب وغيرهم. وقال: وقد توفي رسول الله وما بأرض العرب مشرك تؤخذ منه الجزية، غير أن جزيرة العرب خاصة لا يبقى فيها دينان، وقد أمر رسول الله بإخراج اليهود والنصارى منها لأنها عقر دار المسلمين ومأرزهم. انتهى.
يشير في كلامه إلى أن الجزية تؤخذ من المشركين عبدة الأوثان في غير جزيرة العرب، كما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس لا فرق في ذلك. ويدل على ذلك ما روى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا فقال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو: خلال- فأيتهن أجابوك منهم فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا».
فقد عرفت من هذا الحديث في بعث رسول الله سراياه إلى المشركين أنه يأمر أمير السرية متى نزل بقوم أن يدعوهم إلى الإسلام فإن هم أبوا الدخول فيه دعوهم إلى التحول إلى المدينة دار المهاجرين ليسمعوا القرآن، فإن هم امتنعوا دعاهم بأن يكونوا كأعراب المسلمين يمضي عليهم حكم الإسلام، فإن امتنعوا ولم يقبلوا هذا كله، ولا شيئًا منه، سألهم الجزية مع بقائهم على دينهم الباطل. وهذا كله دليل على أن القتال لم يشرع للإلزام بالإسلام، وإنما شرع لكف العدوان عن الدين، وعن عباد الله المؤمنين، وأنه يجوز أخذ الجزية من المشركين في غير جزيرة العرب كما قدمنا، وهذه الجزية هي قدر يسير ونزر حقير لا يسمن ولا يغني من جوع([13]).
نظم يوسف بن يحيى الصرصري الحنبلي فقال:
وقاتل يهود والنصارى وعصبة الـ
مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد
على الأدون اثني عشـر درهم افرضنْ
وأربعةً من بعد عشـرين زَيّدِ
لأوسطهم حالاً ومن كان موسرًا
ثمانية مع أربعين لتَقْتدِ
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم
وشيخ لهم فَانٍ وأعمى ومقعدِ
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم
ومن وجبت منهم عليه فيهتدِ
* * *
[13] قدر جزية الغني ثمانية وأربعون درهمًا وهي تعادل ما يقدر باثني عشر ريالا فضة سعوديًا أو اثنتي عشرة روبية فضة إنجليزية. والوسط منهم على النصف من ذلك أي ما يقدر بستة ريالات فضة سعودية أو ست روبيات فضة إنـجليزية. وعلى الأدون منهم اثنا عشر درهمًا وقدرها ثلاثة ريالات فضة سعودية أو ثلاث روبيات فضة إنـجليزية.
لقد من الله على المؤمنين ببعثه هذا النبي الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، والعرب يومئذٍ مضطهدون مستذلون بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تتحدث الأمم بدولتهم وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام، وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
فالإسلام والعمل بالقرآن أنشأ العرب نشأة مستأنفة، خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، ويدعون الناس إلى العمل به فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ومجد وعرفان، وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗا﴾ [النور: 55].
وصدق الله وعده فأعزهم بعد الذلة وكثرهم بعد القلة، فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم ستر عورته وشبع جوعته، يقول الله تعالى: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ ٤﴾ [قريش:3-4].
وقد ذكرهم الله بهذه النعمة فقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦﴾ [الأنفال: 26]. قال قتادة: كان العرب قبل الإسلام أذل الناس ذلًّا وأشقاهم عيشًا وأجوعهم بطونًا وأعراهم ظهورًا وأبينهم ضلالاً، يأكلون ولا يؤكلون، والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس.
فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر.
وكم بدوي في الفلا خلف نوقه
يبول على الأعقاب أغبر حافيا
تلافاه في وادي الضلالة هاديا
فأصبح نجمًا في الهداية عاليا
وقد بشرهم النبي ﷺ بهذا الفتح قبل وقوعه، وفي حال قلتهم وضعفهم وفقرهم وبعدهم عن وسائل الملك والسلطان، ففي البخاري عن أنس قال: كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان وكانت تحت عبادة بن الصامت، فنعس ثم ضحك فقالت: يا رسول الله، وما يضحكك؟ قال: «أناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوك على الأسرة». أو: «مثل الملوك على الأسرة». فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أنت منهم». فركبت البحر زمن معاوية غازية فصرعت عن دابتها فماتت رضي الله عنها.
كتب الله القتال على المؤمنين وهو مع كراهيتهم له خير لهم، وخير للبشرية كلهم حيث هدى الله به وبدينهم ودعوتهم أعظم شعوب الأمم، من النصارى والعجم وسائر الأمم، فأسلموا وحسن إسلامهم، حيث فتحوا الكثير من ممالك الشرق والغرب حتى استولوا على بعض بلاد أوربا وفارس، ونظموا فيها دولة عربية مسلمة كانت سعادة للبشر كلهم، وكانت زينة الأرض في العلوم والفنون والحضارة والعمران.
وإنما كانوا يفضلون أعداءهم بصلاح أرواحهم الذي يتبعه إصلاح أعمالهم، وذلك أن المسلم العربي يتولى حكم ولاية أو بلد أو بلدان وهو لا علم عنده بشيء من قوانين الحكومة ولم يمارس أساليب السياسة ولا طرق الإدارة، فيصلح الله به تلك الولاية، فيزيل فسادها ويحفظ أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من أموالها ومظالمها، وإنما يخرج من عمله بثوبه الذي دخل به، فيسعد الله به رعيته؛ لكون النفس إذا صلحت أصلحت كل شيء وإذا فسدت أفسدت كل شيء.
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم
ويسعد الله أقوامًا بأقوام
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب بلده ويطلب منه مالاً يعمرها به فكتب إليه: شكوت إليَّ خراب بلدك وتطلب مني مالاً لتعمرها به، فإذا جاءك كتابي هذا فحطها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه عمارها، والسلام.
إن طلب العلوم والفنون وحمل شهادة النجاح فيها مع إهمال التربية الصالحة والمصلحة للنفس وللناس لم يحل دون فنون وعوامل الاستعباد، لهذا ترى الرجل المتعلم المتفنن يتولى ولاية فيكون غاية همه ونهايـة عمله تأسيس ثروة واسعة لنفسه وعيـاله، بما يسمونه تأمين مستقبله، مع توسعه في التمتع بالشهوات واللذات وزينة الحياة.
إن أكبر عامل ساعد الصحابة على فتح البلدان وتوسع الناس في الدخول في الإسلام في كل مكان هو تأثر الأمم بسماع القرآن، إذ كانوا يتلونه حق تلاوته في صلاتهم المفروضة، وفي تهجدهم وفي سائر أوقاتهم، فسرعان ما دخلت محبته في قلوب الخاص والعام، فرفع أنفس الكثير عن غفلتها وجهالتها وطهرها عن خرافات الوثنية المستعبدة لها.
وكان النبي ﷺ يؤتى بالأسير من المشركين فيأمر بربطه في إحدى سواري المسجد ليسمع القرآن، فلا يلبث بعد سماعه إلا أن تسبق هداية الإسلام والإيمان بالقرآن إلى قلبه، كما في البخاري أن خيل النبي ﷺ جاءت بثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فأمر به رسول الله ﷺ أن يربط في سارية المسجد ليسمع القرآن، فبعد أسره جاءه رسول لله ﷺ فقال: «ما عندك يا ثمامة؟». فقال: يا محمد، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسل من المال تعط منه ما تشاء. فتركه رسول الله ﷺ، ثم جاءه في اليوم الثاني فقال: «ما عندك يا ثمامة؟». فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسل من المال تعط منه ما تشاء. ثم جاءه في اليوم الثالث فقال مثل مقالته فقال رسول الله: «أطلقوا ثمامة». فقال: ما كنتم تقولون إذا أراد أن يسلم أحدكم؟ قالوا: يتشهد شهادة الحق. فقال: يا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك وقد أصبح دينك أحب الأديان إليّ، والله ما كان على وجه الأرض بلد أبغض إلي من بلدك وقد أصبحت بلدك أحب البلدان إلي، وقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة. فقال رسول الله ﷺ: «اعتمر». فلما دخل مكة قالت له قريش: صبئت يا ثمامة. فقال: ما صبئت ولكني أسلمت، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله. ومثله جبير بن مطعم أنه أتى رسول الله ﷺ في فدى بدر - قال ابن جعفر: في فدى المشركين- وما أسلم يومئذ، فدخلت المسجد ورسول الله ﷺ يصلي المغرب فيقرأ بـ (الطور)، قال: فكأنما صدع عن قلبي حين سمعت القرآن([14]). وكانت سبب إسلامه.
فالقرآن هو معجزة النبي العظمى التي صار بها أكثر الأنبياء أمة وتبعًا، كما في البخاري و مسلم أن النبي ﷺ قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثر تابعًا يوم القيامة».
فالصحابة الكرام فتحوا الكثير من البلدان بالقرآن أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان؛ لأنه المعجزة الخالدة العامة الباقية، ولا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بإثبات نبوة محمد ﷺ وإثبات القرآن الذي قص علينا خبر الأمم قبلنا، خبر المعجزات التي جاء بها كل نبي تشهد بصدق نبوته، وتكون حجة على الجاحدين والمعاندين له، ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧﴾ [النمل: 76-77].
* * *
[14] أخرجه أحمد من حديث جبير بن مطعم، وهو في البخاري بغير هذا اللفظ.
إن رسول الله ﷺ قد سَنّ لأصحابه وأمته سنة الفتح للبلدان وذلك بفتحه مكة عنوة، وصلى ثماني ركعات في بيت أم هانئ شكرًا لله، وذلك ضحى يوم الفتح. وأمر بلالاً بأن يؤذن على رتاج الكعبة أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. وقد امتن على كافة قريش وأهل مكة سوى سبعة نفر بالغوا في إيذاء النبي ﷺ منهم عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على رأس النبي ﷺ وهو ساجد بالمسجد الحرام.
وقال لسائر قريش وأهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»([15]). فسموا الطلقاء من ذلك اليوم، وتركهم على علاتهم بدون أن يسأل أحدًا منهم عن عقيدته أو إسلامه حتى أسلموا باختيارهم من تلقاء أنفسهم.
وقد جعل الصحابة هذا الفتح وهذا التصرف فيه نصب أعينهم، وغاية قصدهم وعليه سير عملهم.
وقد سار الصحابة رضي الله عنهم بسيرة رسول الله في فتوحهم للبلدان المملوءة بالسكان، فلم يكرهوا شخصًا واحدًا على الدخول في الإسلام، بل تركوهم على ما هم عليه من مختلف الأديان، وعهدوا لهم بأن لا يؤذوا المسلمين ولا يفتنوهم عن دينهم ولا يتعرضوا للطعن في الدين، ثم هم آمنون على دمائهم وأموالهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وسموا أهل الذمة؛ لأن لهم ذمة الله ثم ذمة المسلمين، من رامهم بسوء غرم وأثم. فهذا الأمر الثابت في فتوح المسلمين ومعاملتهم للذميين، وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا وأن يعاملوا بإحسان.
ولما انتشر الإسلام بين هؤلاء، وعرفوا محاسنه، وذاقوا حلاوته وعدل سادته، وتعلموا لغته، أخذوا يدخلون فيه أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، ومن اختار منهم البقاء على دينه فإنه آمن على ماله ودمه، فعاش هؤلاء في ظل الإسلام والمسلمين في أمن وأمان وسعادة واطمئنان.
* * *
[15] سيرة ابن هشام 2/412.
إن العلماء المنصفين والمؤرخين الصادعين بالصدق بدون تبديل ولا ميل عن سواء السبيل يشهدون للإسلام بأنه ما عُرِفَ فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا من المسلمين حين دخل الإيمان قلوبهم، بل ولا أعدل ولا أرحم منهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان بالله وحده، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم، ويدينون بدينهم، ويتعلمون لغتهم، إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.
فهذا هو السبب الأعظم الموجب لدخول الناس من جميع الأمم في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، وهذا أمر مشهور مشهود به يعرفه ويعترف به كل من عرف الإسلام وأهله، وقد قال عظيم من عظماء النصارى هو نابليون: إن العرب المسلمين قد فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن لا غير. وقال غوستاف لوبون وهو من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران والتاريخ من الإفرنج: إنه ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب المسلمين في فتوحاتهم.
وقال آخر هو ولز الإنجليزي ص303 من كتابه مختصر التاريخ العام: إذا كان القارئ يتخيل أن موجة الإسلام قد غمرت بهذا الفيض الذي فاضته بعض مدنيات شريفة فارسية أو رومانية أو يونانية، فيجب أن يرجع عن خياله هذا حالاً، فإن الإسلام قد ساد لأنه أفضل نظام اجتماعي وسياسي تمخضت به الأعصر، وإن الإسلام قد ساد لأنه وجد أممًا استولى عليها الخمول وكان فاشيًا بها الظلم والنهب والعسف وكانت بدون تهذيب ولا ترتيب، فلما جاء الإسلام لم يجد إلا حكومات مستبدة ومستأثرة منقطعة الروابط بينها وبين رعاياها، فأدخل الإسلام في أعمال الخلق أوسع فكرة سياسية عرفها البشر، وقد مد إلى البشرية يد المعونة. ولم يبدأ الإسلام بالانحطاط إلا عندما بدأت البشرية تشك في صدق القائمين به.
وقال لوثروب ستودارد الأمريكي في مقدمة كتابه حاضر العالم الإسلامي:
كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دوى في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلادًا منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض ممزقًا ممالك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادمًا أديانًا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيرًا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيًا عالمًا حديثًا متراص الأركان هو عالم الإسلام.
كلما زدنا استقصاء باحثين في سر تقدم الإسلام وتعاليمه زادنا ذلك العجب العجاب بهرًا فارتددنا عنه بأطراف حاسرة عرفنا أن سائر الأديان العظمى إنما نشأت ثم أنشأت تسير في سبيلها سيرًا بطيئًا ملاقية كل صعب، حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين ثم أخذ في تأييده والذب عنه بما استطاع من القوة والأيدي، وليس الأمر كذلك في الإسلام، إنما الإسلام نشأ في بلاد صحراوية تجوب فيافيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في جهات الأرض مجتازًا أفدح الخطوب وأصعب العقبات دون أن يكون له من الأمم الأخرى عون يذكر ولا أزر مشدود.
وعلى شدة هذه المكاره فقد نصر الإسلام نصرًا مبينًا عجيبًا، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين حتى باتت راية الإسلام خفاقة من البرانس حتى هملايا، ومن صحارى أواسط آسية حتى صحارى أواسط إفريقية.
كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق عوامل ساعدت عليه أكبرها أخلاق العرب، وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته، والحالة العامة التي كان عليها المشرق المعاصر في ذلك العهد.
إن العرب وإن كان ماضيهم ما برح منذ عهد متطاول في القدم حتى عصر الرسالة ماضيًا غير مشرق باهر، فقد كانوا أمة استودعت فيها قوة عجيبة تلك القوة الكامنة التي بدأت منذ نشوء الإسلام تظهر جلية إلى عالم الوجود، فقد ظلت بلاد العرب أجيالاً طوالاً من قبل محمد مباءة يشتد فيها تزخار القوى الحيوية.
وكان العرب قد فاقوا آباءهم وأجدادهم إيغالاً في الشرك والوثنية، مضى عليهم وهم على هذه الحال عهد ليس بالقليل حتى استحالت عناصر أمزجتهم من شدة ذلك كله. ولما صاح فيهم نفير الإسلام أن محمدًا رسول الله، وهو عربي من العرب، استطاع محمد أن يبشر بالوحدانية تبشيرًا عاريًا عن زخارف الطقوس والأباطيل، وأن يستثير حق الاستثارة من نفوس العرب الغيرة الدينية، وهي الغيرة الكامنة المتمكنة على الدوام في كل شعب من الشعوب السامية.
وإذ هب العرب لنصرة دعوة محمد بن عبد الله، من بعدما ذهبت من صدورهم الإحن المزمنة، والعداوات الشديدة التي كان من شأنها الذهاب بحولهم وقوتهم. انضم بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص تحت لواء صاحب الرسالة في رأسه نور للناس وهدى للعالمين، أخذوا يتدفقون تدفق السيل من صحاريهم في شبه الجزيرة ليفتحوا بلاد الإله الأحد الفرد الصمد.
أجل هبّ الإسلام من شبه الجزيرة هبوب العاصف المزعزع، فلاقى في سبيله جوًّا روحانيًّا خاليًا.
في ذلك العهد كانت مملكتا فارس وبيزنطة باديتين للعيان كأنهما اللحاء الجاف عوده لا نمو فيه ولا حياة، وكان الدين في هاتين المملكتين صار دينًا يزرى عليه ويسخر منه، أما فارس فقد كان دين المزدكية القديم قد انحط انحطاطًا كبيرًا حتى أصبح مجوسية باطلة، وصناعة خداعة بين أيدي الموابذة يظلمون به الخلق ويضطهدون بكل قوة، فكره الناس ذلك الباطل كرهًا شديدًا ومقتوه مقتًا عظيمًا.
أما في القسم الشرقي من المملكة الرومانية فقد ألبس الدين فيها لباسًا غير لباسه الأول، فاستحال إلى الأباطيل الشركية، وانتشرت فيه الأوهام والخزعبلات التي كان يقوم بها علماء الدين اليونانيون ذوو العقول السخيفة والآراء الفاسدة فغدت النصرانية عبثًا وسخرية.
وفي الجملة فقد كانت البدع والضلالات قد مزقت المزدكية الفارسية والنصرانية البيزنطية شر ممزق، وبذرت في كل منهما بذور الاضطهادات الهمجية والعداوات الوحشية، فنمت تلك البذور نموًا هائلاً.
هكذا كانت حالة العالم لما غشيه طوفان الإسلام، وعلى هذا الاعتبار ترى أن العاقبة التي رآها العالم بعد ذلك كانت مما لا بد منه، ولا مندوحة عنه، وجميع ما في الأمر أن كتائب المملكة الرومانية الشرقية ومتدرعة فارس كانت من قبل خواضة حرب فتاكة، ولم تقدر الآن على صد حملة الحاملين عليهما من أمة الصحراء، فسقطت أمام الفاتحين العرب سقوط التلاشي والإعياء.
فلهذا لم يدافع المغلوبون عن أوطانهم حمسًا أبطالاً، بل إن هذه الأمم التي كانت حتى الفتح الإسلامي مدقوقة العنق من جانب ملوكها، قبلت الفاتحين مستسلمة، فقام عديد من أرباب البدع يتهللون فرحًا وسرورًا لنجاتهم من نيران المضطهدين لهم الممقوتين.
وقد عرف العرب بدورهم كيف يسوسون الحكم ويوثقون السلطان حتى دانت لهم أمور الملك واستقرت نقطة دائرتها في أيديهم.
فالعرب المسلمون في فتوحهم لم يكونوا قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعًا، وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة؛ الحضارة العربية، وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي، ذلك الجماع الذي نفخ فيه العرب روحًا جديدة، فنضر وازدهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامية، فاتحد وتماسك بعضه ببعض، فأشرق وعلا علوًّا كبيرًا.
وقد سارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقيًّا، وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء ومختزن العلوم يشعان إشعاعًا باهرًا، طول هذه القرون الثلاثة ما انفك الشرق الإسلامي يضيء على الغرب النصراني نورًا، ثم غابت كواكبه وأفلت أنجمه، حتى أدركته لياليه السود وأجياله المظلمة.
إلى أن قال: كان العرب في عصر صاحب الرسالة أمة كريمة الأخلاق سليمة الطباع نيرة السجايا، مقاديم يركبون كل صعب، تحركهم روح الرسالة بغاية غاياتها، وتبعث فيهم عزمًا شديدًا وغيرة متوقدة، كانوا أشداء العصبية الدينية، وعلى شدة هذه العصبية فإنهم لم يكونوا فيها على غير هدى، بل كانوا مستبصرين يستنيرون بنور العقل وهدايته متمسكين تمسكًا شديدًا بمعتقدات دينهم وأركانه وأصوله، وإن دينهم هذا إنما كان دينًا سهل الاكتناه والمأخذ واضحًا جليًّا، كان جوهر تعاليم محمد الوحدانية مع السنة المعلومة، فالاعتقاد كل الاعتقاد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله كما أنزل في القرآن، والقيام بالفرائض المسنونة المعينة كالصلاة والصوم والزكاة والحج.
فالإسلام هو هذا الدين البين الصريح ما كان ليقيد عقل العربي ويلقي عليه سجوفًا فوق سجوف. والعربي كان قد أدرك حالاً ثار فيها جده واشتعلت غيرته، فبات تواقًا إلى اقتباس العلوم واجتناء ثمراتها والتبسط في شئون الحياة وتوفير أحوالها، والتكيف على حديث مقتضياتها، والخروج بها عما ألفه أزمانًا في فيافي الصحراء وكثبانها.
لهذا لما نشر العرب فتوحهم ومدوا سلطانهم على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على التنعم بالنعم المادية واستلذاذ الترف ورخاء العيش فحسب، بل عكفوا جادين على ترقية الفنون والعلوم والآداب وآراء الحضارة القديمة، فنشأ عن جميع هذا الجد والترقيات أن أخرج للناس تهذيب عربي سام، فأضاءت به العقول وازدهرت ازدهارًا كان فخر الحضارة العربية وواسطة قلادتها ودرة تاجها، فسادت الحرية وابتكرت الآراء والأفكار العلمية ووضعت القواعد والأصول واستنبطت الأحكام، بيد أن هذا لم يكن من صنيع العرب وحدهم بل شاركهم فيه كثير ممن كانوا متظللين ظل دولتهم من النصارى واليهود والفرس الذين كانوا في عهد ملوكهم قبل الفتح الإسلامي يذوقون الأمرين، ويسامون خسفًا شديدًا في سبيل آرائهم ومعتقداتهم الدينية التي كانوا يخافون فيها النصرانية والمجوسية والفارسية، على أنه كان لهذا العصر الزاهر حد وقف عنده ثم عرى شمسه كسوف فظلام مطبق. انتهى كلامه في كتابه حاضر العالم الإسلامي.
وأقول ليعتبر العاقل في كلام هذا الناقد الخبير بأحوال العرب في جاهليتهم وإسلامهم تراه يتكلم بخلوص نية وصحيح رواية وروية ونفي للغرض، مع أنه معدود من جملة الأضداد البعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، ويؤيد هذه الشهادة العقل كالنقل، فإنه لولا فضائلهم الدينية ورأسها الإيمان بالله وحده، لما أمكنهم أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وقد كانت حكوماتهما أرقى حكومات الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا، فتلاشت أمام المؤمنين بالله واليوم الآخر.
وقد ثل هذين العرشين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر به النبي ﷺ قبل وقوعه، وفي زمان ومكان استبعد السائل إمكانه، ومن المعلوم في العادة أن العرب في الجاهلية لا طاقة لهم بقتال هاتين الأمتين، وإنما قهروهم بعز الإسلام الذي أكثرهم الله به بعد القلة، وأعزهم به بعد الذلة، وأغناهم به بعد العيلة، وأزال به عن قلوبهم الإحن والشحناء، وجمعهم على كلمة البر والتقوى. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا عبيدة، إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم.
وبالجملة فالإسلام هو الذي أوقد نار العرب وأشاد منارها وخلد فخارها ووسع دارها، وبه صاروا هم السادة المطاعون، والقادة المتبعون، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 41].
فهم بهذه الصفات فتحوا الفتوحات ودانت لهم الأمم طوعًا من جميع الجهات، وبتركها سلب أكثر ملكهم والباقي على وشك الزوال. نسأل الله الهدى ونعوذ به من الضلال.
وأما الحضارة التي هي في عرف أهل هذا العصر استبحار العمران ورفاهيته السكان وانتشار العلم والعرفان، فقد ذكر المؤخرون في هذا الشأن أنه قد حصل للإسلام من ذلك دور خطير ونصيب كبير لا يستطيع مكابر أن يكابر في إنكاره، سواء قلنا في الفتوحات الروحية أو العقلية أو المادية، على أن شأن الإسلام وشأوه هو نشر العقائد الصحيحة المزيلة للأوهام والخرافات، وتشريع الأعمال الصالحة الصارفة عن الفواحش والمنكرات، وسن الأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والعهود والمعاملات، فالعلم بهذه الأشياء مقدم على سائر العلوم والفنون والصناعات وسائر أمور الحياة.
وأما سرعة انتشار الإسلام في الأقطار فسببه هو أن القرآن قد فتح الكثير من الأمصار والأقطار بدون أن تصل إليها سيوف المهاجرين والأنصار، وذلك أن هؤلاء المغلوبين بعد أن دخلوا في الإسلام أخذوا يجوبون خلال الديار الغربية البعيدة للتجارة وللسياحة وينشرون فيها الإسلام ومحاسنه ويقرؤون القرآن، فسرعان ما انتشر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ودخل الناس فيه طائعين مختارين؛ لأنه دين الحق القويم الذي يقبله الذوق السليم والعقل المستقيم، وهو المعجزة العظمى للنبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن به البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
ذلك بأنها لما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش وتزويق الأبنية وخزن النقود فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين، وترقية سائر العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية، ونصب القضاة لتنفيذ الأحكام الشرعية والحقوق المالية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام بهذه الأعمال رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى.
فاختطوا المدن وأنشؤوا المساجد وأشادوا المكارم والمفاخر، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة.
مكث المسلمون ثلاثة قرون أو أربعة قرون وهم المسيطرون في الأرض لا يضاهيهم مضاهٍ، أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالتهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، هذا كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله.
فضعف المسلمين لم يكن من الدين، بل من أجل جهلهم بالدين، أو من أجل الإعراض عنه، أو من أجل عدم إجراء أحكامه كما ينبغي، فلما ضعف عملهم بالقرآن ونبذوا عزائم الدين، ذهب وحيهم وضعف سلطانهم، وانتقص الأعداء بعض بلدانهم.
وكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسب ما فيه من ولاية الله ونكاية أعدائه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل من عرف سير الملوك والأمم رأى أن كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادًا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله، كان أعظم نصرة وطاعة وحرمة، من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإلى هذا الزمان، وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله، وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء، بما قاموا به من الدين، وليعتبر بسيرة من والى النصارى وباع لهم بلاد المسلمين كيف أذله الله وكبته وسلبه ملكه. انتهى.
* * *
كان المسلمون في فتوحهم وفي معاهداتهم مع المشركين وأهل الكتاب يحترمون العهود أشد الاحترام ويقفون على حدودها، قال تعالى: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا﴾ [النحل: 91]. حتى إنه لو أحسوا بنقض العهد من العدو فإنهم يجب أن يشعروهم بنقض العهد حتى يكونوا وإياهم على العلم به على حد سواء، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ ٥٨﴾ [الأنفال: 85]. وروى الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي الفيض، عن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم عهد إلى أمد، فأراد أن يدنو منهم حتى إذا انقضى الأمد غزاهم من قريب، فإذا بشيخ على فرس يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر يا معاوية، إن رسول الله قال: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمد العهد أو ينبذ لهم على سواء»([16]) قال: فبلغ ذلك معاوية فرجع بجيشه، فإذا بالشيخ هو عمرو بن عبسة رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله ﷺ يدعوهم فقال: إنما كنتُ رجلاً منكم فهداني الله للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية، وإن أبيتم نابذناكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام.
وقد بلغ من تأكيد الوفاء بالعهود في الإسلام أن الله سبحانه نهانا أن ننصر إخواننا المسلمين على القوم الذي بيننا وبينهم عهد من الكفار، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ﴾ [الأنفال: 72]. فلا يباح لكم نصر المسلمين على المعاهدين، وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ: «إن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»([17]).
* * *
[16] أخرجه الطيالسي والإمام أحمد والترمذي من حديث عمرو بن عبسة. [17] أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد من حديث علي بن أبي طالب.
الحمد الله، والصلاة والسلام على سائر أنبيائه، ومن آمن بهم، واتبع هديهم، ولم يفرق بين أحد منهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله.
أيها المسلمون وأيها المستمعون، إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي دين الإسلام إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
وإن الدين هو هذا السمح سهل الاكتناه والعمل ليس بشاق ولا حرج، عموده الصلاة وبقية أركانه الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام مرة واحدة عند الاستطاعة، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.
لكون الإسلام ليس هو محض التسمي باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون العمل.
إن دين الإسلام هو دين الحق الذي ارتضاه الله لجميع الخلق فقال سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آلعمران: 85]. وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ﴾ [الأنعام: 125]. فيفرح بذكره ويندفع إلى القيام بفروضه ونوافله طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ﴾ [الزمر: 22].
الإسلام يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، يأمر بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وينهي عن منكرات الأخلاق والرذائل.
الإسلام دين السلام والأمان يحب السلم ويكره الحرب إلا في حالة الاضطرار. وقد سماه الله سلمًا فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]. أي في الإسلام.
الإسلام دين العزة والقوة والنظام المطهر للعقول من خرافات البدع والشرك والضلال والأوهام.
الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالطاعة والإيمان.
الإسلام يحترم الدماء والأموال ويقول: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام»([19]) ويقول: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»([20])؛ أي بموجب الرضاء التام. وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ﴾ [البقرة: 188].
الإسلام دين السعادة والسيادة من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد، يقول تعالى: ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨﴾ [الحج: 18].
الإسلام شريعة الله في أرضه، شرعه لعباده لمصالحهم الدينية والدنيوية، فقد نظم حياة الناس أحسن نظام، ولولا الإسلام وما فيه من الشرائع والأحكام، وأمور الحلال والحرام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى الحق.
الإسلام كفيل بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمنة، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم.
وإننا في دعوتنا إلى دين الإسلام لسنا ندعو إلى قومية عربية، ولا إلى أحزاب شعبية، ولا إلى مذاهب فقهية، وإنما ندعو إلى دين الحق، دين الله الذي ارتضاه لجميع الخلق، دين عيسى وموسى وسائر الأنبياء وخاتمهم محمد ﷺ، يقول الله سبحانه: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣﴾ [الشورى: 13].
فأمر الله سبحانه بإقامة الدين والاجتماع على كلمته ونهى عن التفرق فيه بأن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفروا ببعض، أو يؤمنوا ببعض الكتب ويكفروا ببعضها، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يقولوا: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
إنه من يكذب نبيًّا من الأنبياء فإنه يعتبر مكذبًا لسائر الأنبياء وكافرًا بالله عز وجل، فالذين يكذبون بنبوة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أو يكذبون بمعجزاته التي أثبتها القرآن فإنهم يعتبرون مكذبين لسائر الأنبياء وكافرين بالله عز وجل، ومثلهم كالذين يكذبون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام أو يكذبون بالقرآن النازل عليه من الله، أو يزعمون أنه شيء فاض على نفس محمد بدون أن يوحي به الله إليه أو ينزل به جبريل عليه، فإنهم يعتبرون بهذا مكذبين بنبوة عيسى ابن مريم ونبوة موسى وسائر الأنبياء؛ لأن من كذب نبيًّا واحدًا كذب سائر الأنبياء؛ ولأن التكذيب بمحمد أو التكذيب بالقرآن النازل عليه يستلزم التكذيب بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والتكذيب بمعجزاته التي أثبتها القرآن الحكيم. وإنني أعجب أشد العجب من عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم والذين برعوا في الذكاء والفطنة وعرفوا اللغة العربية، وقد كثر في هذه الأزمنة اختلاطهم بالعرب المسلمين وتعلموا لغة العرب التي يتمكنون بها من معرفة أحكام الإسلام وبلاغة القرآن، وشمول نفعه، ومحاسن أحكامه وحكمته، وعموم دعوته، وكونه رسالة رحمة وهداية من الله لجميع خلقه، وأنه المعجزة الخالدة لنبوة محمد ﷺ والمصدق لسائر الأنبياء قبله، ومع هذا كله نراهم يستكبرون ويصرون على التكذيب به وعلى التكذيب بالقرآن النازل عليه تقليدًا منهم للمكذبين من القسيسين والمبشرين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144]. ويقول: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]. نظير قوله: ﴿مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75].
على أن الكثيرين من عقلائهم يعترفون بدين الإسلام ويصدقون بنبوة محمد عيله الصلاة والسلام، وأن ما جاء به هو دين الحق الذي لا سعادة للبشر إلا باعتناقه واعتقاده. وأخذ بعضهم ينادي بعضًا بالرجوع إليه واتباع أحكامه وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين، ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩﴾ [الأنعام: 89].
يا معشر النصارى، لقد تعصبتم وما أنصفتم، وإن موضوع العجب منكم هو القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام كله نضال وجهاد وجدال عن نبوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، يحقق صدق نبوته وكرامة نشأته وطهارة مولده وبراءة أمه مريم البتول عليها السلام، وأن الله سبحانه خلقه بيد القدرة من أم بلا أب كما خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن. فكان، وأن الله أيده بالمعجزات الباهرات الدالة على صدق رسالته فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم مع تكليمه الناس في المهد، وقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا ٣٣ ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ ٣٤﴾ [مريم: 30-34].
كل هذه المزايا من الصفات والمعجزات قد أثبتها القرآن وآمن بها المسلمون ومن كذب بها فقد كفر، ولا توجد هذه الصفات وهذه المعجزات بالإنجيل الذي بأيديكم؛ لأن الله ذكر في كتابه المبين أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
على أن الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن ليس هو الإنجيل النازل على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وإنما هو مبدل منه وفيه التحريف الكثير والكذب على الله وعلى الأنبياء، كما يعترف العقلاء من علمائهم بذلك، يقول الله تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩﴾ [البقرة: 79].
لأن النصارى يجيزون للقسيسين أن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، فيجعلون الحرام حلالاً؛ لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فجعلوا المسيح هو الله، وجعلوه ثالث ثلاثة، والقرآن والإنجيل بريئان من ذلك، ﴿لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢﴾ [المائدة: 72]. ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ﴾ [النساء: 171].
وهذا القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام هو معجزة الدهور وآية العصور محفوظ في المصاحف وفي الصدور منذ نزل إلى يوم القيامة، لا يستطيع أحد أن يقحم فيه حرفًا أو يحذف منه حرفًا؛ لأن الله سبحانه تولى حفظه فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحجر: 9].
والقرآن هو أساس دين الإسلام مع سنة محمد عليه الصلاة والسلام، لولا هذا القرآن لكذب الناس بنبوة عيسى ابن مريم وبمعجزاته كما كذب بها اليهود وغيرهم، ورموا أمه بالمفتريات والعظائم، طهرها الله وأعلى قدرها عما يقولون علوًّا كبيرًا، أفيجازى محمد رسول الله الذي جاهد أشد الجهاد في الدفاع والنضال عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأن تقابلوه بتكذيبه والتكذيب بالقرآن النازل عليه والذي هو المعجزة العظمى له؟ وقد تحدى الله جميع الخلق وأنتم منهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، يقول الله سبحانه: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨﴾ [الإسراء: 88]. أي عونًا.
مع العلم أنه كان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وليس في بلده ولا زمنه مدارس ولا كتب، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩﴾ [العنكبوت: 48-49]. فعلم منه أن هذا القرآن وحي من الله أوحاه إليه بعد أن بلغ الأربعين من عمره، لا يقال: إن هذا القرآن شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي الله به إليه وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن القول بهذا حقيقة في التكذيب به، ومن قال به كفر وأصلاه الله سقر.
إن الله سبحانه ختم الرسل بنبوة محمد ﷺ، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]. كما ختم الشرائع بشريعته الشاملة الكاملة التي لا يجوز لأحد أن يتعبد بغير شريعته؛ لأن الله سبحانه أرسله إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فكما أنه رسول للمسلمين فإنه رسول للمسيحيين واليهود ولسائر الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فهو رحمة الله المهداة لجميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107]. ويقول سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28].
وأنزل الله عليه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]. وقد أثنى الله سبحانه على الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة». فهو رحمة من الله مهداة لجميع الناس، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28].
فلو كان موسى أو عيسى موجودين بالأرض لما وسعهما إلا اتباع محمد والعمل بشريعته، ولما رأى النبي ﷺ مع عمر قطعة من التوراة قال له: «يا عمر، لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»([21]).
إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق دين الإسلام واعتقاده وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن النازل عليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بقولهم بأنه رجل عاقل، وأنه عبقري وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه أو ينزل به جبريل عليه تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.
فهم يتلقون هذا التكذيب من القسيسين والمبشرين، مما جعلهم يتأثرون به ويتربون في حالة صغرهم على اعتقاده. فهذا التأثر والتأثير قد أشربته قلوبهم، حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
والأمر الثاني هو أن تكذيب أذكيائهم والمفكرين منهم إنما نشأ عن عدم معرفتهم باللغة العربية التي هي لغة الإسلام، والتي يعرف بها بلاغة القرآن لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين.
فبلاغة القرآن بلغته ومعرفة أحكامه وحكمته، وعموم هدايته ومنفعته وذوق حلاوته، كل هذا إنما يدرك عن طريق لغته، كقوله سبحانه: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤﴾ [فصلت: 3-4].
إن عدم معرفة الأمم للغة العربية، التي هي لغة القرآن أكثف حجاب يحول بينهم وبين اعتناق الإسلام واعتقاده والتصديق بالرسول وبالقرآن النازل عليه.
أما ترجمة القرآن الموجودة بأيدي النصارى الآن -وقد ترجم عدة تراجم- كلها ليست بقرآن وتبعد جدًّا عن بلاغة القرآن، وفيها الشيء الكثير من الخبط والخلط الخارج عن معاني القرآن، فلا تسمى قرآنًا.
وإنني أنصح عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم بأن يوجهوا عنايتهم ورغبتهم إلى تعلم اللغة العربية، فإن تعلمها يعد من الأمر الواجب على كل أحد، وخاصة من يرغب في الدخول في الإسلام، وبها يعرف أحكام العبادات من الصلاة والزكاة والصيام ويتبين له بطريق الوضوح أن دين الإسلام هو الدين القويم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم؛ لأنه دين سعادة وسيادة وسياسة صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء لأنه يهدي للتي هي أقوم.
إن كثيرًا من أذكياء النصارى قد تغيرت أفكارهم بعدما تعلموا اللغة العربية، فظهر لهم من فضل الإسلام وصدق القرآن ما خفي على سلفهم، لهذا أخذوا يدعون قومهم إلى الرجوع إلى الإسلام وإلى العمل بما شرعه من الأحكام؛ لكونهم أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم، وقد كثر الداخلون في الإسلام في هذا الزمان وأخذوا يزدادون في الدخول عامًا بعد عام.
إن تعلم اللغة العربية أصبح ضرورة من ضرورات النصارى الاجتماعية، وفيه لهم مصلحة مفيدة فيما يتعلق بالكسب ووسائل الحياة لكثرة اختلاطهم بالعرب المسلمين في بلادهم وشدة حاجتهم إلى التخاطب معه، كما أن العرب المسلمين لما احتاجوا إلى التعامل معهم فيما يتعلق بالتجارة والصناعة والطب، أخذوا يعلمون أولادهم لغتهم لداعي الضرورة والحاجة إلى ذلك، كما علم النبي ﷺ زيد بن ثابت اللغة العبرانية لحاجته للتخاطب مع اليهود.
إنما انتشر الإسلام في بداية نشأته لانتشار اللغة العربية في البلدان الأجنبية، فعرفوا بها حقيقة أحكام الإسلام وبلاغة القرآن، وأنه دين الحق القويم، الذي نظم حياة الناس أحسن تنظيم، وبذلك دخل الناس في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، وسيكثر الداخلون فيه من شتى الأمم ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.
إن النجاشي ملك الحبشة، وأحد ملوك النصارى القدماء، لما كان عارفًا باللغة العربية من أجل مجاورته لبلدان العرب، فقرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فجعلت عيناه تذرفان من البكاء خشوعًا وخشية لله لحسن ما سمعه من كلام الله، فلما فرغ من قراءتها أخذ عودًا فرفعه ثم قال: إنه لم يزد على ما جاء به عيسى ولا مثل هذا العود. فأخذت بطارقته ينخرون استنكارًا واستكبارًا لقوله، فقال: وإن نخرتم وإن نخرتم، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي من رامكم بسوء غرم. وأنزل الله في فضله وتصديقه قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٤﴾ [المائدة: 84]. قرآنًا يتلوه المسلمون في صلاتهم، وخارج الصلاة، يشيد بفضل النجاشي وسبقه إلى الإسلام، وإيمانه بالقرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
وإن هذا التأثر والتأثير من النجاشي بسماع القرآن قد حمله على الدخول في الإسلام، حتى صلى عليه النبي ﷺ وأصحابه بعد موته.
إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان ومن التدليس والكتمان، حيث وصفوا الإسلام بأنه دين تكاليف شاقة وأغلال، وبأنه دين حرب وقتال، وأنه إنما انتشر بالسيف والإكراه، وأن أهله يعرضون الشخص على السيف ويقولون له: إما أن تسلم وإلا قتلناك، ونحو ذلك من الأقوال البعيدة عن مواقع الصدق في المقال، وقصدوا بها صد الناس عن الدين، فهم ينهون عنه، وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولا عجب فهم قد تحاملوا عليه بالطعن فيه لصد الناس عنه وقد قيل:
صديقك لا يُثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدوَّ يقولُ
والحق أن الإسلام إنما انتشر بالقرآن وأنه فتح من البلدان أكثر مما فتح بالسيف والسنان، وأن السيف بمثابة الناصر له في كف الأذى عنه والعدوان، وفي محكم القرآن ما يدل على منع الإكراه في الدين يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. ويقول: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]. ويقول: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١﴾ [الغاشية: 21]. أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم، إن عليك إلا البلاغ.
وقد سن رسول الله ﷺ طريقة الفتح للبلدان بفتحه لمكة عنوة، ولما فتحها قال لأهلها: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»([22]) وسموا في ذلك اليوم الطلقاء، ولم يوقف واحدًا منهم لإلزامه بالدخول في الإسلام بل أبقاهم على حالهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم، لكون القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله وإظهار دينه وقد حصل ذلك.
والإسلام هداية اختيارية، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦﴾ [القصص: 56].
* * *
[18] هذه كلمة ألقاها المؤلف في المركز الإسلامي في لندن حين صلى بالناس صلاة عيد الأضحى في سفره للعلاج سنة 1394هـ وقد نقلتها إذاعة لندن. [19] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [20] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [21] أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية. [22] سيرة ابن هشام 2/412.
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص فقال: أما بعد؛ فإني آمرك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش جند عليه، وهي أخوف منهم على عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لربهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وإننا إن استوينا نحن وإياهم في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شرٌّ منا فلن يسلط علينا، فرب قوم قد سلط عليهم من هو شرٌّ منهم، كما سُلّط على بني اسرائيل كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً. انتهى.
وأقول: ألا ما أشد حاجة الجند، وطلاب المدارس إلى التدين الصحيح، ويجب على القائمين عليهم أن يمرنوهم على أداء الفروض، كتمرينهم لهم على الفنون العسكرية، وإنه لمما يؤلمني جدًّا أن رأيت نسبة المسلمين المصلين من الضباط والجند نسبة قليلة جدًّا بالنسبة إلى من لا يصلي.
وإنه من الواجب أن يصدر قانون عام ملزم للمعلمين والمتعلمين وللجنود بإلزامهم بأداء الفروض الدينية في أوقاتها، وأن تكون عنايتهم بها أشد واهتمامهم بأمرها آكد، إذ الوعظ والإرشاد لا يكفي بدون وازع، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
إن المعلم أو الجندي الذي يفرط في الصلاة وفي سائر الواجبات، فإنه سيكون أشد تفريطًا في غيرها من سائر وظائف عمله؛ لكون المفرط في حقوق ربه جديرًا بأن يكون أشد تفريطًا في حقوق وطنه، والخائن لأمانة ربه وعمود دينه جديرًا بأن يخون أمته وأهل وطنه، والله أعلم.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
حرر في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة ست وتسعين بعد الثلاثمائة والألف.
* * *
الحمد لله، ونستعين بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد: فإن من حكمة الحاكمين أن أوجب الله على عباده المؤمنين جهاد الكفار والمنافقين ليمتحن بذلك صحة إيمان المدعين، وليعلم الكل علم اليقين أن الدنيا ابتلاء وامتحان والعاقبة للمتقين، ﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4]. ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [محمد: 31].
والجهاد هو سنام الإسلام؛ لأن الدين رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، والجهاد يكون بالحجة والبيان ويكون بالقوة والرجال ويكون بالمال. ولكل مقام مقال؛ لأن الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق ونصر دينه والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم. والمسلم يجاهد بسيفه ولسانه وماله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»([24]).
وأخبر النبي ﷺ أنه: «ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلًّا لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم»([25]).
وفي القرآن والسنة تكرر فضل الجهاد والمجاهدين، وأخبر الله في كتابه الحكيم أن الجهاد هو التجارة الرابحة في الأجر، كما أنه من أسباب العز والنصر، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ١٠ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١١ يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣﴾ [الصف:10-13].
إن السلف الصالحين من الصحابة والتابعين لما سمعوا آيات الجهاد تتلى عليهم قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا﴾ [البقرة: 285]. فساحت أيديهم بالنداء وسمحت نفوسهم بالفداء، فمنهم البائع نفسه، ومنهم الباذل ماله؛ حمية دينية ونخوة عربية، لعلمهم أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فمن أخبارهم الشهيرة ومآثرهم المنيرة أن رجلاً من الصحابة جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت إن قاتلت فقتلت صابرًا محتسبًا ماذا أكون؟ فقال: «في الجنة». وكان في يده كسرة تمرة فقال: والله لئن بقيت حتى آكل هذه الكسرة إنها لحياة طويلة، ثم رمى بها وهز سيفه وأقبل يرتجز ويقول:
ركضًا إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعمل المعادِ
والصبر في الله على الجهادِ
إن التُّقى من أفضل المزادِ
فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
ثم إن النبي ﷺ حثهم على الجهاد في سبيل الله في غزوة العسرة، وكانت زمن جهد ومجاعة، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم جاء بصرة دنانير كادت كفه تعجز عنها فوضعها بين يدي رسول الله، فجعل رسول الله يقلبها ويقول: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم، غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت»([26]).
وقدمت عير من الشام لعبد الرحمن بن عوف تقدر بسبعمائة بعير تحمل من كل شيء، فتصدق بها كلها في سبيل الله.
فبالله قل لي: كيف عاقبة أمرهما بعد هذا الإنفاق الطائل؟ أجبك بأنهما توفيا وهما من أحسن الناس حالاً. وتصدق عمر بشطر ماله.
إن الله سبحانه قد ضمن النصر للمؤمنين المجاهدين، فقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١﴾ [المؤمن: 51]. وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]. فهذا النصر المضمون للمؤمنين هو مشروط بنصرهم لدين الله وحمايته والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم، وأن يجاهدوا أنفسهم على القيام بواجبات دينهم قبل أن يجاهدوا عدوهم حتى يكون الله وليهم وناصرهم والمعين لهم على عدوهم ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ [محمد: 7]. ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته ولا بد مع هذا من الأخذ بأسباب عدته من الوسائل من الحزم والحذر والاستعداد بالقوة، كما أرشد إليه الكتاب العزيز في قوله: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء:71]. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60]. والقوة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان ولكل زمان دولة وقوة ورجال تناسب حالة القتال، وفسر النبي ﷺ القوة بالرمي، وهو حق، ولم يذكر المرمي به لكونه يختلف باختلاف الزمان والمكان.
أما إذا تخلف عملهم عن واجبات دينهم أو لم يستعدوا بالحزم والقوة لجهاد عدوهم، فإنه يتخلف عنهم هذا النصر المضمون لهم من أجل إخلالهم بواجبات عملهم، وعدم امتثالهم لأمر ربهم، ابتلوا بهذه المصائب ليطهرهم من المعايب كما قيل: كم ضارة نافعة؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، والاتكال على الإيمان بدون عمل يعتبرعجزًا ومخالفة لأمر الله ورسوله، فلا يصح التوكل ولا يصح إلا بعد الأخذ بالأسباب المؤهلة من النصر.
لهذا يجب التفكير في سبب تخلف هذا النصر عن المؤمنين طيلة هذه السنين في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]. ولن يخلف الله وعده، وإن تخلف هذا النصر هو من أجل تخلف إصلاح الأحوال والأعمال، فتسلط الأعداء عليهم في حال تقصيرهم بواجبات دينهم وعدم استعدادهم بالقوة لمجابهة عدوهم، ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠﴾ [الشورى: 30]. إن الشيء بالشيء يذكر، والدنيا كلها عبر.
إنه لما كانت وقعة بدر وكان أصحاب رسول الله ﷺ قلة وفي حالة ضعف وذلة وأقبل المشركون بخيلهم وخيلائهم وهم محدقون بالسلاح التام يريدون أن يستأصلوا شأفة رسول اللهﷺ وأصحابه، وأن يبيدوا خضراءهم، فصف رسول الله ﷺ المقاتلة، ثم قام يدعو ويتضرع إلى ربه حتى سقط رداؤه من طول قيامه للدعاء، فلما التقى الجمعان أنزل الله النصر على نبيه وأصحابه، فقتلوا سبعين من عظماء المشركين، وأسروا سبعين وضربوا عليهم الفداء.
وبعد هذا النصر والظفر دخل في قلوب الصحابة شيء من قوة الإيمان بالله والتوكل عليه وظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من أجل إيمانهم وكونهم حزب رسول الله ويقاتلون في سبيل الله، مما جعلهم يكسلون عن الاحتفال بالأسباب وأخذ الحذر والاحتفاظ عن غوائل عدوهم.
وفي وقعة أحد صف رسول الله ﷺ المقاتلة في مصافهم وأمّر عبد الله بن جبير على سرية وجعلهم في فم شعب وقال لهم: «احموا ظهورنا ولا تبرحوا عن مكانكم حتى لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تنصرونا، أو رأيتمونا نغنم فلا تشركونا»([27])، وكانت الغلبة للنبي وأصحابه أول النهار حتى كسروا تسعة ألوية للمشركين، وانهزم المشركون وجعل السلاح والمتاع يتساقط منهم والناس يحوزونه، فقال أصحاب عبد الله بن جبير بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة. فذكرهم أميرهم بقول رسول الله ﷺ فعصوه وأخلوا مركزهم، فدخلت خيل المشركين من جهته فقتلوا سبعين من الصحابة وشجوا رأس رسول الله ﷺ وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا، وصرخ الشيطان: قتل محمد.
وبعد هذه الهزيمة أخذ الصحابة يتفكرون في سببها وقد عرفوا أنها إنما حصلت عليهم بسبب ذنب اقترفوه في إخلاء مركزهم الذي أمروا بحفظه، وأنزل الله كالتأنيب والتأديب: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ﴾ [آلعمران: 165]. أي بسبب تقصيركم بواجبكم.
فهذه الكبوة وما حصل على أثرها من النكبة قد أورثت الصحابة شيئًا من الحزم وفعل أولي العزم من أخذ الحذر والاستعداد بالقوة، واستعمال وسائل الكيد لعدوهم مما جعلهم يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه من فتح مشارق الأرض ومغاربها، حتى استطاعوا أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمن، وهم من أرقى الأمم حضارة ونظامًا وقوة وعتادًا وعددًا، وذلك بأنه لما انتشرت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد المبطلين ونشر الأحكام الشرعية، وتعميم اللغة العربية، فاختطوا المدن وأنشؤوا المساجد وأشادوا المكارم والمفاخر وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، فكانوا من قال الله فيهم: ﴿... وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠﴾ [الحج: 40]. فمن قام بالله عز، ومن كان مع الله كان الله معه.
إن المصارعة بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار لا تزال قائمة وموجودة من لدن خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة، وحتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦﴾ [البقرة: 216]. ويترتب على هذه الحروب حكم ومصالح لا يعلم غايتها إلا الله الذي قدر سببها ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]. فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو ظن أن الله يديل اليهود على المسلمين إدالة مستمرة، فقد ظن بالله ظن السوء، لكن الله سبحانه يؤدب عباده، فإذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والباطل لا تقوى شوكته ولا تعظم صولته إلا في حال رقدة الحق وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]. غير أن للباطل صولة نعوذ بالله من شرها، لكن عاقبتها الذهاب والاضمحلال، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥﴾ [آلعمران: 175]. أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في نفوسكم، ومن هذا التخويف ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم وألسنتهم حتى ظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من شدة كيدهم ومكرهم وتوفر وسائل القوة لديهم، وقد غزوا قلوب الناس بالرعب والرهب منهم، ونسوا أن الله سبحانه قد وعد عباده المؤمنين بالنصر عليهم، فقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١ ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُ﴾ [آل عمران: 111-112]. ونسوا قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ﴾ [الأعراف: 167]. وصدق الله العظيم، فإن هذا العذاب الذي وعدهم الله بأن يساموا به هو ضربة لازب في حقهم، لا يفارقهم ولا يزال ملازمًا لهم كما هو الواقع بهم الآن بأيدي المسلمين، وما سيقع بهم إلى يوم القيامة أكثر وأعظم، ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
إن هذا الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الفتك والسفك والعدوان الواقع من اليهود على العرب المسلمين طيلة هذه السنين حتى أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم إلى الصحراء، واستولوا عليها قسرًا وقهرًا، وأخذوا يسومونهم سوء العذاب من القتل والتضييق والإرهاق، حتى بلغ الأمر بهم إلى أشد الاختناق وإلى حد ما لا يطاق، حتى لقد أنكر أمرهم وبغيهم وطغيانهم جميع دول العالم ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40].
وقد عرف العقلاء أن هذا التغلب والاستيلاء من اليهود إنما حصل بسبب ذنب من المسلمين اقترفوه، وذلك حينما ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بفرضه ونفله، وعلى أثره حصل الاختلاف بين الحكام والزعماء نتيجة الاختلاف في النزاعات والأهواء، فتقطعت وحدة جماعة المسلمين إربًا وأوصالاً وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسبب هذا الاختلاف حصل الاعتلال والاختلال.
وهي فرصة سنح للعدو فيها المواثبة فقويت شوكته وعظمت صولته، وتسلط على العرب المسلمين بجبروته وقوته، حتى أخذ الناس يقولون: ﴿مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤﴾ [البقرة: 214].
وبسبب هذه الحوادث والنقمات وما نجم عنها من الكبوات والنكبات، حصل رجوع الكثير من الناس إلى ربهم والقيام بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم، فعملوا أعمالهم في إصلاح أعمالهم رجاء أن يصلح الله أحوالهم، لعلمهم أنه ما نزل بهم بلاء إلا بذنب، ورب ضارة نافعة، والمكارم منوطة بالمكاره.
كما حصل التقارب بين قلوب حكام المسلمين وزعمائهم وإزالة الإحن والشحناء من بينهم فتكاتفوا وتساعدوا وتعاضدوا على قتال عدوهم؛ لأن المؤمنين ﴿بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ﴾ [التوبة:71]. ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ﴾ [المائدة: 54].
وهذا الرجوع إلى الله وما يتبعه من التعاضد والتساعد في القتال في سبيل الله هو مؤذن ومبشر بنصر من الله وفتح قريب إن شاء الله، كما أنه مؤذن ومبشر بانتهاء نصر اليهود واقتراب مصرعهم بحول الله، وكل شيء فمرهون بوقته ومربوط بقضاء الله وقدره: ﴿إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦ﴾ [آل عمران: 160].
إن هذه الأمة الباغية الطاغية التي حلت بساحة العرب المسلمين تقتل الأنام وتحاول أن تجتث أصل الإسلام، ينسلون للتعاون من كل حدب ويتواثبون على أهل الإسلام من كل جانب.
فإن جهاد هذا العدو الصائل واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن تعذر عليه ببدنه تعين عليه بماله؛ لأن ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 111].
ولأن المال بمثابة الترس للإسلام يستجلب به العدد والعتاد وسائر وسائل الجهاد، ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد، فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب، والمسلم يجاهد بنفسه وماله، وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبًا مفروضًا يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله، وفي المال حق سوى الزكاة، فمن لم يكن عنده زكاة وجب أن يساهم بقدر استطاعته، كل على حسب مقدرته والدرهم بسبعمائة درهم وعند الله أضعاف كثيرة.
ولست أقول: إن مساعدة هؤلاء المجاهدين مستحبة فحسب، إنما أقول: إنها واجبة كوجوب الصلاة والصيام؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام والنبي ﷺ قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»([28]).
إنه من بعد حروب الصحابة والتابعين، ثم حروب صلاح الدين مع التتر والصليبين حينما أجلاهم عن بلدان العرب المسلمين لم نسمع بالجهاد في سبيل الله الصحيح الحقيقي إلا في هذا القتال الواقع بين المسلمين مع اليهود، فهذا هو الجهاد في سبيل الله حقًّا والذي يجب أن يضحى في سبيله بالنفس والنفيس.
لأن هؤلاء المجاهدين المباشرين للقتال هم بمثابة المرابطين دون ثغور المسلمين، يحمون حدود المسلمين وحقوقهم، فهم يحاربون دون أديانكم وأبدانكم، يحاربون دون ذراريكم ونسائكم، يحاربون دون مجدكم وشرفكم وحسن سمعتكم. وقد طلبوا النجدة والمساعدة من إخوانهم المسلمين، وقد أوجب الله عليكم نصرتهم، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ﴾ [الأنفال: 72]. والنصر يكون بالقوة والرجال ويكون بالمال، ﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡ﴾ [النور: 33]. فمن العار أن تنعموا وهم بائسون، أو تشبعوا وهم جائعون، أو يضعفوا وأنتم مقتدرون، والمسلم كثير بإخوانه قوي بأعوانه.
وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق كالجهاد في سبيل الله إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، والناس إنما يستحبون اقتناء المال لحوادث الزمان، وهذا القتال هو أشد حادثة وقعت على الإسلام والمسلمين في هذه السنين، وله ما بعده من العز والذل، نعوذ بالله من الخذلان.
إن في العهد الذي عهده رسول الله لأمته أن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم، ومعنى كونهم يد على من سواهم، أنه متى نبغ عدو على المسلمين كهؤلاء اليهود فإن من الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره؛ لأن المسلم للمسلم كالبنيان، ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2].
لقد بلغكم من الأخبار المشهورة والجرائد المنشورة أن مدار قوة اليهود تتركز على مساعدات قومهم لهم، أفلا يكون المسلمون أحق بالسبق إلى هذه الفضيلة التي أوجبها عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأنتم تقاتلون على الحق وهم على الباطل!
إن الله سبحانه قد أوجب الجهاد وأمر بالاستعداد له بالقوة، ومن المعلوم أنه لا قوة بعد الله إلا بالمال وبدونه يقع الناس في الذل والضر ولا بد.
وكيف يصولُ في الأيام ليثٌ
إذا وهتِ المخالبُ والنيوبُ
إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه نخوة دينية أو غيرة عربية، فساهموا في الفضل وتنافسوا في البذل، فمنهم من ضحى بالنفس ومنهم من جاد بالنفيس؛ لأنه لا خبيئة بعد بؤس ولا عطر بعد عرس، والمال لا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وناهيك بالحاجة إليه في أزمة القتال.
لا تثمروا المال للأعداء إنهمو
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جُدعا
﴿هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم ٣٨﴾ [محمد: 38].
﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16].
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جيوش المسلين نصرًا عزيزًا، اللهم افتح لهم فتحًا مبينًا، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبيل الحق والعدل والسداد.
اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، وثبت أقدامهم وأنزل السكينة في قلوبهم، اللهم إنا نستعين بك ونستنصرك على الذين كذبوا رسلك وآذوا عبادك، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصر المسلمين عليهم بحولك وقوتك إله الحق.
* * *
[23] خطبة ألقاها المؤلف يوم الجمعة حينما حمي وطيس الحرب بين المسلمين واليهود في العاشر من رمضان عام 1393هـ، وكانت بعنوان (الجهاد في سبيل الله وفضل النفقة فيه). [24] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس. [25] أخرجه الطبري في تهذيب الآثار من حديث عبد الله بن عمر. [26] أخرجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة. [27] رواه الإمام أحمد وغيره ولفظ أحمد: «إن رأيتم العدو والطير يخطفنا فلا تبرحوا». [28] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في ذلك قولان مشهوران للعلماء:
الأول: قول الجمهور، كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم.
الثاني: قول الشافعي، وربما علل به بعض أصحاب أحمد.
فمن قال بالثاني قال: مقتضى الدليل قتل كل كافر، سواء كان رجلا أو امرأة، وسواء كان قادرًا على القتال أو عاجزًا عنه، وسواء سالمنا أو حاربنا، لكن شرط العقوبة بالقتل أن يكون بالغًا، فالصبيان لا يقتلون لذلك. وأما النساء فمقتضى الدليل قتلهن، لكن لم يقتلن لأنهن يصرن سبيًا بنفس الاستيلاء عليهن، فلم يقتلن لكونهن مالاً للمسلمين، كما لا تهدم المساكن إذا مُلكت.
وعلى هذا القول يقتل الرهبان وغير الرهبان لوجود الكفر؛ وذلك أن الله علق القتل لكونه مشركًا بقوله: ﴿فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]. فيجب قتل كل مشرك، كما تحرم ذبيحته ومناكحته لمجرد الشرك. وكما يجب قتل كل من بدل دينه لكونه بدله، وإن لم يكن من أهل القتال، كالرهبان، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في المرأة المرتدة خاصة.
وقول الجمهور: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله سبحانه قال: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ إلى قوله: ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٩٤﴾ [البقرة: 190-194]. فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال.
ثم قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾ والعدوان مجاوزة الحد، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان، ويدل عليه قوله بعد هذا: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾ [البقرة: 194]. فدل على أنه لا تجوز الزيادة.
وقوله بعد ذلك: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ [البقرة: 191]. ولم يقل: قاتلوهم، أمر بقتل من وُجِد من أهل القتال حيث وجد وإن لم يكن من طائفة ممتنعة.
ثم قال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39]. والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه، كما كان المشركون يفتنون من أسلم عن دينه، ولهذا قال تعالى: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾، وهذا إنما يكون إذا اعتدوا على المسلمين، وكان لهم سلطان، وحينئذ يجب قتالهم حتى لا تكون فتنة، حتى لا يفتنوا مسلمًا، وهذا يحصل بعجزهم عن القتال. ولم يقل: وقاتلوهم حتى يسلموا.
وقوله: ﴿وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193] وهذا يحصل إذا ظهرت كلمة الإسلام، وكان حكم الله ورسوله غالبًا، فإنه قد صار الدين لله.
ويدل على ذلك أنا إذا قاتلنا أهل الكتاب فإنا نقاتلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وهذا المقصود يحصل إذا أدوا الجزية عن يد وكانوا صاغرين. وقول النبي ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»([29])، هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم، والمعنى: إني لم أومر بالقتال إلا إلى هذه الغاية. ليس المراد أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية. فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه لم يفعل هذا قط، بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله.
وقد ثبت النص والإجماع أن أهل الكتاب والمجوس إذا أدوا الجزية عن يد وهم صاغرون حرم قتالهم.
وقد ادعى طائفة أن هذه الآية منسوخة([30])؛ يعني قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ [البقرة: 190].
قال أبو الفرج: اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين: أحدهما: بأنها منسوخة. واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين:
أحدهما: أنه أولها، وهو قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ قالوا: وهذا يقتضي أن القتال مباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل. وهذا منسوخ بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ [البقرة: 191].
الثاني: أن المنسوخ منها ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان:
أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل.
الثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف.
قال: والقول الثاني أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال كالرهبان والشيوخ الفناة والزمنى والمكافيف والمجانين، فإن هؤلاء لا يقاتلون. فهذا حكم باق وغير منسوخ.
قلت: هذا القول هو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل وغيرهم.
والقول الأول ضعيف؛ فإن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل، وليس في القرآن ما يناقض هذه الآية، بل فيه ما يوافقها، فأين النسخ؟
وقولهم: هذه تقتضي أن القتال مباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾.
يقال: قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ مذكور في موضعين: أحدهما هذا الموضع وهو قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ﴾ [البقرة: 191]. وهذا متصل بقوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ﴾ [البقرة: 190-191]. فالضمير عائد إلى هؤلاء الذين يقاتلون المؤمنين، هم الذين قال: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾، وهذا لا يناقض ما تقدم، بل من كان من المحاربين المقاتلين للمؤمنين فإنه يقتل حيث ثُقِف، وليس من حكمه أن لا يقاتل إلا في حال قتاله، بل متى كان من أهل القتال الذي يخيف المسلمين، ومن شأنه أن يقاتل، قُتِل قائمًا أو قاعدًا أو نائمًا، وهو يقتل أسيرًا، فقد قتل النبي ﷺ غير واحد بعد الأسر، مثل، عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، وحكم سعد بن معاذ في بني قريظة لما نزلوا أن يُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقتلهم كلهم وكانوا مائتين([31]).
ثم ذكر رحمه الله حديث الصعب بن جثامة أن النبي ﷺ سئل عن أهل الدار من المشركين، يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم؟ فقال: «هم منهم»([32])، قال: وهذا لا يناقض نهيه عن قتل النساء والصبيان، فإن هذا إذا أصيبوا بغير تعمد لهم، وذاك إذا تعمدوا، قال: فإنهم ليسوا كصبيان المسلمين وذريتهم، ولا كأهل العهد، فإن لهؤلاء عصمة مضمونة ومؤتمنة بالأيمان والأمان، ونساء أهل الحرب وصبيانهم ليس لهم عصمة مضمونة ولكن لا يحل قتلهم عمدًا إذا كانوا ليسوا من أهل القتال. وإذا قتلوا في الحصار والبيات فليس على المسلمين أن يدعوا ما أمروا به من الجهاد لئلا يصاب مثل هؤلاء.
فمن قال: إن قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ [البقرة: 190]. منسوخ بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ إن كان قد ظن أن قوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ أنهم لا يقتلون إلا حال قتالهم، فقد غلط في فهم الآية، وكيف تكون منسوخة بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ اللهم إلا أن يكون قائل هذا القول ممن يُسمي تقييد المطلق وتخصيص العام نسخًا، حتى قد يسمي الاستثناء نسخًا، وهذا اصطلاح جماعة من السلف، فكل آية رفعت ما يظن من دلالة أخرى قالوا: إنها نسختها. وتسمية هذا نسخًا مطابق للغة، كما سمى الله رفع ما ألقى الشيطان نسخًا بقوله: ﴿فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ﴾ [الحج: 52]. وكذلك قول من يقول: قوله: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16]. ناسخ لقوله: ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ﴾ [آل عمران: 102]. مع أن هذه في آل عمران وهي مدنية، وتلك في التغابن وهي مكية، أو بعضها.
والنسخ هو الرفع والإزالة، فإذا جاءت آية رفعت ما يُظن دلالة تلك الآية عليها كانت رفعًا لهذا الظن، وهذا بيان.
وعند كثير من الناس أن النسخ هو بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان مع تراخيه عنه، وهو نوع من التخصيص، ولكن يشترط فيه التراخي.
ومنهم من يقول: لا بد عند نزول المنسوخ من الاستعارة بالناسخ.
وعلى هذا فالنسخ عند هؤلاء من جنس تقييد المطلق، وهو بيان ما لم يرد بالخطاب. وهذا النسخ لا ينكره أحد، لا اليهود ولا غيرهم. وتسمية هذا النوع نسخًا جائز لا نزاع فيه، لكن قول من يقول: لا نسخ إلا هذا، هو محل النزاع، فإن الطائفة الأخرى تقول في النسخ: هو رفع للحكم بعد شرعه، ولهذا يجوز النسخ قبل مجيء الوقت وقبل التمكن، كما نسخ الله أمر إبراهيم بالذبح قبل التمكن، ونسخ الصلوات الخمسين إلى خمس قبل مجيء الوقت. وهذا قول أكثر الفقهاء، وكثير من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر، وهو قول ابن عقيل والغزالي وأبي محمد المقدسي وغيرهم.
والقول الأول هو قول المعتزلة، وقد وافقهم عليه طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ كأبي الحسن الجزري والقاضي أبي يعلى وغيرهما من أصحاب أحمد، وكأبي إسحاق الإسفرائيني وأبي المعالي.
لكن هؤلاء تناقضوا، فإنهم يجوزون النسخ قبل مجيء الوقت، والتخصيص لا يكون برفع جميع مدلول الخطاب.
وطائفة طردت قولها كأبي الحسن الجزري من أصحاب أحمد وغيره، فإن هؤلاء وافقوا المعتزلة في المنع من النسخ قبل التمكن من الفعل وقبل حضور الوقت. وهذا في الحقيقة موافقة منهم لمن منع النسخ من اليهود، ومن حُكي عنه من المسلمين المنع من النسخ كأبي مسلم الأصفهاني، فهذا حقيقة قوله إذ كان التخصيص المتصل لا يمنعه أحد من عقلاء بني آدم. ومن لم يجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب، ولا في النسخ، كأبي الحسين البصري، فإنه يقول: لا بد إذا ورد خطاب، وهو يريد أن ينسخه فيما بعد، أن يشعر المخاطبين بنسخه؛ لئلا يفضي إلى تجهيلهم باعتقاد تأبيده.
والجمهور يقولون: من اعتقد تأبيده بغير دليل كان قد فرط وأُتي من جهة نفسه.
فالذين قالوا: هذا منسوخ بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ قد أرادوا أن قوله ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ﴾ بين معنى قوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾، ونسخ ما يظن من أنهم لا يقاتلون إلا حال المسايفة، وهذا معنى صحيح لا يناقض ما ذكرناه.
وأما قول من قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾ منسوخ. فهذا ضعيف، فإن الاعتداء هو الظلم، والله لا يبيح الظلم قط، إلا أن يراد بالنسخ بيان الاعتداء المحرم، كما تقدم.
وقد ذكر أبو الفرج في الاعتداء أربعة أقوال:
أحدهما: أنه قتل النساء والولدان. قاله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم. قاله سعيد بن جبير وأبو العالية وابن زيد.
والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه. قاله الحسن.
والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الشهر الحرام([33]).
وقد ذكر عن بعضهم أن الثاني والرابع منسوخ بآية السيف.
فيقال: كثيرًا ما يقول بعض المفسرين: آية السيف، وآية السيف اسم جنس لكل آية فيها الأمر بالجهاد، فهذه الآية آية سيف. وكذلك غيرها، فأين الناسخ؟ وإن أريد بآية السيف قوله في براءة: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ﴾ [التوبة: 5]. فتلك لا تناقض هذه، فإن ذاك مطلق. والمشرك له حال لا يجوز قتاله فيها، مثل أن يكون له أمان أو عهد، كذلك إذا لم يكن من أهل القتال. وهذه الآية خاصة مقيدة، وتلك مطلقة. لم يصرح فيها بقتله. وإن كان شيخًا كبيرًا فانيًا، أو مجنونًا، أو مكفوفًا، لا يقاتل بيد ولا لسان، مثل دريد بن الصمة فإن المسلمين قتلوه لكونه ذا رأي، وكذلك المرأة إذا كانت ذات رأي تُقاتَل، كما أهدر النبي دم هند وغيرهما ممن كان يقاتل بلسانه. فمن قاتل بيد ولسان فقد قوتل.
وأيضًا ففي الصحيح أن النبي ﷺ مر في بعض مغازيه على امرأة مقتولة، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل». فعلم أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتل، لا كونها مالاً للمسلمين.
وأيضًا ففي السنن عن أنس أن النبي ﷺ قال: «انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً، ولا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين». رواه أبو داود.
وأيضًا فقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وهذا نص عام أنا لا نكره أحدًا على الدين، فلو كان الكافر يقتل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين.
وإذا قيل: المراد بها أهل العهد. قيل: الآية عامة، وأهل العهد قد علم أنه يجب الوفاء لهم بعهدهم فلا يكرهون على شيء.
فإن قيل: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة، كما ذكر ذلك من ذكره ممن يقول بإكراه المشركين.
قال أبو الفرج: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية فذهب قوم إلى أنه محكم، وإلى أنه من العام المخصوص، فإن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام، بل يخيرون بينه وبين الجزية، فالآية مختصة بهم.
قال: وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية ليس الدين ما تدين به من الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين المنعقد بالقلب.
قال: وذهب قوم إلى أنها منسوخة وقالوا: هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال. فعلى قولهم يكون منسوخًا بآية السيف. وهذا مذهب الضحاك والسدي وابن زيد.
قيل: جمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة، بل يقولون: إنا لا نكره أحدًا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، فإن أسلم عصم دمه وماله، ولو لم يكن من فعل القتال لم نقتله، ولم نكرهه على الإسلام.
وأيضًا فالذين نقاتلهم لحرابهم متى آتوا الجزية عن يد وهم صاغرون لم يجز قتالهم إذا كانوا أهل كتاب أو مجوسًا باتفاق العلماء، وإن كانوا من مشركي الترك والهند ونحوهم فأكثر العلماء لا يجوزون قتالهم حينئذ، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وهي المنصوصة عنه صريحًا، والأخرى هي ما ذكره الخرقي وغيره.
وقول القائل: إن هذه كانت قبل الأمر بالقتل. يحتاج إلى بيان ذلك، ثم إلى بيان أن الأمر بالقتال يوجب نسخها، وكلاهما منتف، كيف وقد عرف أن هذا غلط! فإن سورة البقرة مدنية كلها، وفيها غير آية تأمر بالجهاد، وفيها: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ﴾ [البقرة: 216]. فكيف يقال: إنها قبل الأمر بالقتال؟!
ثم سبب نزول الآية يدل على أن هذا كان بعد الأمر بالجهاد بمدة. وقد ذكروا في سبب نزولها أربعة أقوال، كلها تدل على ذلك، فأشهرها ما قاله ابن عباس وغيره، قالوا: إن المرأة من الأنصار كانت تكون مقلاة - لا يعيش له ولد - فتحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه؛ لأن اليهود كان لهم كتاب بخلاف المشركين، فكانوا أقرب إلى العلم والدين منهم. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم أناس من أبناء الأنصار، فقال الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا. فنزلت هذه الآية. ثم ذكر عن الشعبي ومجاهد وغيرهما نحو ذلك، ثم قال: والمملوك المسترق لا يكره على الإسلام بالاتفاق، وإذا لم يجز إقرار المشركين بالجزية ففي جواز استرقاقهم قولان، هما روايتان عن أحمد.
وقد كان النبي ﷺ والمؤمنون معه يأسرون الرجال والنساء من المشركين، ولا يكرهونهم على الإسلام، بل قد أسر النبي ﷺ ثمامة بن أثال وهو مشرك، ثم مَنّ عليه ولم يكرهه على الإسلام حتى أسلم من تلقاء نفسه، وكذلك منّ على بعض أسرى بدر.
وأما سبي المشركات فكان كثيرًا، ولم يُكره امرأة على الإسلام، فلم يكره على الإسلام لا رجلاً ولا امرأة.
ثم ذكر فتح مكة، وأنه ﷺ منّ عليهم ولم يكرههم على الإسلام، بل أطلقهم بعد القدرة عليهم، ولهذا سُموا الطلقاء، وهم مسلمة الفتح، والطليق خلاف الأسير، فعُلِمَ أنهم كانوا مأسورين معه، وأنه أطلقهم كما يطلق الأسير ولم يكرهم على الإسلام، بل بقي معه صفوان بن أمية وغيره مشركين حتى شهدوا معه حنينًا، ولم يكرههم حتى أسلموا من تلقاء أنفسهم. فأي شيء أبلغ في أنه أكره أحدًا على الإسلام من هذا!
ولا يقدر أحد قط أن ينقل أنه أكره أحدًا على دخول الإسلام، لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من أسلم قُبِل منه ظاهر الإسلام، وإن كان يظن أنه إنما أسلم خوفًا من السيف، كالمشرك والكتابي الذي يجوز قتاله، فإنه إذا أسلم حرم دمه وماله، كما قال النبي ﷺ، «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»([34])، وأنكر على أسامة بن زيد لما قتل رجلاً قد أسلم وقال: إنما قالها خوفًا من السيف. ولكن فرق بين أن يكون هو أو أحد أكرههم حتى يسلموا، وبين أن يكون قاتلهم ليدفع ظلمهم وعدوانهم عن الدين، فلما أسلموا صاروا من أهل الدين فلم يجز قتلهم. وكان من يعلم من أنه لا يظلم الدين وأهله لا يقاتله، لا كتابيًّا ولا غير كتابي.
ثم ذكر قصة خزاعة وسرية ابن الحضرمي وقصة بدر وبني النضير وقريظة وغيرها، ثم قال: وكانت سيرته أن كل من هادنه من الكفار لا يقاتله، وهذه كتب السير والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا، وهذا متواتر من سيرته، فهو لم يبدأ أحدًا بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كل كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال.
ثم قال: وأما النصارى فلم يقاتل أحدًا منهم إلى هذه الغاية حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى قيصر وإلى كسرى والمقوقس والنجاشي وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم من كبرائهم بمعان. فالنصارى حاربوا المسلمين أولاً، وقتلوا من أسلم منهم بغيًا وظلمًا، وإلا فرسله أرسلهم يدعون الناس إلى الإسلام طوعًا لا كرهًا، لم يكره أحدًا على الإسلام. فلما بدأه النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمر عليها زيد بن حارثة ثم جعفرًا ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام، واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء $ج وأخذ الراية خالد بن الوليد، وكان خالد قد أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة، فسلم الله المسلمين ورجعوا، وهذا قبل فتح مكة وبعد خيبر.
ثم تكلم على أول سورة براءة ثم قال: فدلت الآيات على أن البراءة كانت إلى المعاهدين الذين لهم عهد مطلق غير مؤقت، أو كان مؤقتًا ولم يوفوا بموجبه، بل نقضوه.
وهنا للفقهاء ثلاثة أقوال:
قيل: لا يجوز العهد المطلق، كما يقوله الشافعي في قول وطائفة من أصحاب أحمد. وهؤلاء يقولون: إنما قال النبي ﷺ لليهود: «نقركم ما أقركم الله»([35]). لأن الوحي كان ينزل.
ثم العهد المؤقت قد يجوز للإمام أن ينقضه بلا سبب، كما يحكى عن أبي حنيفة. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: 58]. فإن هؤلاء عهدهم كان مؤقتًا ونقضه.
والثالث وهو قول الأكثرين أنه يجوز المطلق والمؤقت، وأن المؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به، ما لم ينقضه العدو، ولِمَا يجب الوفاء بسائر العهود اللازمة.
وأما المطلق فهو عقد جائز إن شاء فسخه وإن شاء لم يفسخه، كما في العقود الجائزة، كالوكالة والشركة ونحو ذلك.
وهذا هو القول الآخر في مذهب أحمد، وهو قول الشافعي. والآية تدل على هذا القول، فإن الله أمره بنبذ العهود إلا من كان له عهد إلى مدة ثم وفى بموجبه، فلم يترك ما أوجبه العهد، فلم ينقض شيئًا ولا أعان عدوًّا.
وأما قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍ﴾ فتلك في سورة الأنفال، وهي متقدمة، ونحو ذلك في العهود المطلقة متى خاف منهم خيانة، فإنه ينبذ إليهم على سواء، ولا يجوز أخذهم بغتة؛ فإنهم يعتقدون أنهم آمنون.
وأما العقود اللازمة هل يجوز فسخها بمجرد خوف الخيانة؟ هذا فيه قولان، والأظهر أنه لا يجوز؛ لأن سورة براءة توجب الوفاء.
إلى أن قال: والمراد بالأشهر الحرم في قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ﴾ [التوبة: 5]. هي أشهر السياحة عند جمهور العلماء، وعليه يدل الكتاب والسنة، وقد ظن طائفة أنها الحرم الثلاثة ورجب، ونقل هذا عن أحمد، وهؤلاء اشتبه عليهم الحرم بالحرم، وتلك ليست متصلة بل هي ثلاثة سرد وواحد فرد، وهو قد ذكر في هذه أشهر السياحة فلا بد أن يذكر الحكم إذا انقضت، فقال: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾. إلى أن قال: فلم يبق من أولئك المشركين طائفة تقاتل البتة، بل قهر جميع المشركين ومن لا عهد لهم، وهم من أهل القتال، فلهذا قال: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖ﴾ [التوبة: 5]. ولم يقل: فقاتلوهم؛ فإنه لم يكن فيهم طائفة تقاتل، بل أمر بقتلهم حيث وجدوا وأخذهم، وهو الأسر وحصرهم في أمكنتهم، كما حصر أهل الطائف.
ثم قال: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ ولم يقل: قاتلوهم حتى يقيموا الصلاة؛ إذ لم يكن هناك من يقاتل، وإنما أمر بقتلهم وأخذهم وحصرهم؛ لأنهم مشركون من أهل القتال، ولو قدروا على فساد الدين وأهله لفعلوا ذلك.
إلى أن قال رحمه الله: ثم إنه بعد أن ذكر أمر المشركين قال: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [التوبة: 29]. الآية، فذكر قتال النصارى، وتخصيصهم بالذكر لا يجوز أن يكون لاختصاصهم بالحكم. فإنه يجوز قتال اليهود والمجوس بالنص والإجماع حتى يعطوا الجزية، وهذا قول جمهور العلماء، وبعضهم يقول: إنما تؤخذ ممن له كتاب، وإن المجوس لهم كتاب مبدل، أو لهم شبهة كتاب، وإن آية براءة تقتضي التخصيص. وليس كذلك، بل هي تدل على أن هؤلاء إذا وجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، ولم تجز معاهدتهم بلا جزية فغيرهم من الكفارأولى، فإن المشركين والمجوس شر منهم، واليهود أشد عداوة للمسلمين منهم، كما قال الله تعالى: ﴿۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ﴾ [المائدة: 82].
فإذا كان هؤلاء إذا كانوا متحابين وجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، فغيرهم أولى إذا كان محاربًا أن يُقاتل حتى يعطي الجزية.
وعلى هذا حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي الذي في صحيح مسلم قال: كان النبي ﷺ إذا أمر أميرًا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو: خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم». وذكر الحديث. ولم يكن في الحديث قتال مصافة. وهذا - والله أعلم- لأنه لم يكن قد بقي طائفة ممتنعة تقاتل مصافة، وإنما لجأ الكفار إلى حصونهم فكانوا يحصرون، وهو المحصر الذي ذكره.
وقد بين في هذا الحديث أن المحصور إما أن يسلم ويهاجر، أو يسلم ويكون أعرابيًّا غير مهاجر، أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، فإن امتنع من الثلاث قوتل.
وبريدة ممن ذهب مع علي إلى اليمن، وعلي قاتل باليمن وسبى وغنم، وقدم إلى النبي ﷺ في حجة الوداع، فلم يُذكر في شيء من الأحاديث أن النبي ﷺ فرق في أخذ الجزية بين كتابي وغير كتابي، ولا عهد إلى علي ومعاذ وغيرهما، مع علمه بأن اليمن فيه مشركون وفيه أهل الكتاب، ولما أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافر لم يذكر فرقًا. والمجوس من جنس سائر المشركين ليس لهم مزية يحمدون بها. والحديث الذي يروي أنه كان لهم كتاب فرفع، قد ضعفه أحمد، وبتقدير صحته فالعرب كانوا على دين إبراهيم، فلما صاروا مشركين ما بقي ينفعهم أجدادهم، وكذلك أهل الكتاب لو نبذوا التوراة والإنجيل لكانوا كغيرهم من المشركين.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن دين المرء يعتبر بنفسه لا بأجداده، وما ذكر في قوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. يدل على ذلك، فإن أولاد الأنصار دخلوا اليهودية بعد النسخ والتبديل، ولعل فيهم من دخل فيها بعد مبعث النبي ﷺ، وقد روي أنه كان من أبناء الأنصار من دخل مع بني النضير حينئذٍ كان فيهم عرب. ومع هذا فالنبي ﷺ جعل الجميع أهل كتاب، لم يحرم ذبيحة أحد منهم، ولا استحل قتله، دون من كان أجداده قد دخلوا في الدين قبل النسخ والتبديل.
والذين قالوا: إن من دخل في أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل لا تعقد لهم ذمة ولا تؤكل ذبائحهم. بنوا ذلك على أصلين ضعيفين: أحدهما أن العبرة في الدين بدين الأجداد. وقد بينا أن هذا خلاف الكتاب والسنة، وخلاف قول جمهور العلماء، مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. ولكن هذا قاله طائفة من أصحاب أحمد موافقة للشافعي وأخذه الشافعي عن عطاء. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
والأصل الثاني أن الجزية لا تقبل من غير أهل الكتاب. والنزاع في هذا أشهر، لكن جمهور العلماء أيضًا على خلافه، وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة. وقد تتبعت ما أمكنني في هذه المسألة فما وجدت لا في كتاب ولا سنة ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في أخذ الجزية بين أهل الكتاب وغيرهم، والنبي ﷺ قبل نزول آية الجزية كان يقر المشركين وأهل الكتاب بلا جزية، كما أقر اليهود بلا جزية، واستمروا على ذلك إلى أن أجلاهم عمر. وكان ذلك لحاجة المسلمين إليهم. ولما نزلت آية الجزية كان فيها أن المحاربين لا يعقد لهم عهد إلا بالصغار والجزية، ورفع بذلك ما كان النبي ﷺ يعقده لأهل الكتاب وغيرهم من العهد؛ لكون الإسلام كان ضعيفًا.
ومما يبين الأمر في ذلك: أن المجوس هم في التوحيد أعظم شركًا من مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن خالق العالم واحد، كما أخبر الله بذلك عنهم في غير موضع، ولم يكونوا يقولون: إن للعالم صانعين، وهم وإن كان فيهم من جعل لله أولادًا، وقالوا: الملائكة بنات الله، فلم يكونوا يقولون: إن الملائكة يخلقون معه، بل هم معترفون أن الله خالق كل شيء، كما ذكر الله ذلك عنهم، لكن كانوا يجعلون آلهتهم شفعاء وقربانًا، كما قال تعالى: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ﴾ [يونس: 18]. وقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ﴾ [الزمر: 3].
وأما المجوس فهم يقولون بالأصلين: النور والظلمة، ويقولون: الظلمة خلقت الشر والنور خلق الخير، ولهم في الظلمة قولان؛ قيل: قديمة أزلية، وقيل: بل محدثة عن النور، وقيل عنهم: إن النور فكر فكرة ردية فحدثت الظلمة. وهم يجعلون الظلمة شريكًا لله في خلق العالم، فقد نقلوا عنهم أن الظلمة عندهم هي الشيطان إبليس، فجعلوا إبليس شريكًا لله في الخلق. هذا على قول من يقول: الظلمة محدثة، والقول الآخر: إنها قديمة أزلية، فهذا أعظم شركًا، وهذا الشرك لا يعرف في العرب، بل العرب كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء. ولهذا إنما يذكر مثل هذا القول عن الزنادقة، كما ذكر بعض المفسرين كابن السائب في قوله: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡ﴾ [الأنعام: 100]. قال: نزلت في الزنادقة، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق، فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب. ومعلوم أن هذا القول هو معروف عن المجوس، ليس هو معروفًا عن مشركي العرب.
فتبين أن المجوس أعظم شركًا من مشركي العرب والهند ونحوهم ممن يقولون: إن الله خالق كل شيء.
وهم أيضًا من عُبّاد ما سوى الله؛ يعبدون الشمس والقمر والنيران وكانت لهم بيوت عظيمة للنار يعبدونها، وهذا عبادة للعلويات والسفليات من جنس إشراك قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الكواكب، ويعبدون الأصنام الأرضية، وهذا الشرك أعظم نوعي شرك أهل الأرض.
فإن الشرك أصله نوعان: شرك قوم نوح، وكان أصله تعظيم الصالحين الموتى وقبورهم والعكوف عليها، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. وهذا النوع واقع في النصارى، ولكن لا يصنعون أصنامًا مجسدة([36]) بل مرقومة، فإن الروم واليونان قبل أن يدخل إليهم دين المسيح كانوا يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر، فلما دخل إليهم التوحيد ابتدعوا نوعًا من الشرك خلطوه بالتوحيد، قال الله تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 31]. وقد وقع كثير من الضلال المنتسبين إلى الإسلام في نوع من ذلك مضاهاة للنصارى، وصاروا يصلون إلى المشرق، فجعلوا السجود إلى جهة الشمس والقمر لا من السجود لها، وأين هذا من نهي النبيﷺ أمته عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يشبهوا من يسجد لها حينئذٍ؟ وكذلك نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد، يحذر أمته ما فعلوا؛ لئلا يشبهوا من يدعو أهل القبور، ويجعلهم شفعاء يستشفع بهم وقربانًا يتقرب بهم، كما يفعله النصارى. فنهاهم عن سبب الشرك الذي كان في قوم نوح، وسبب الشرك الذي في قوم إبراهيم، عن الشرك الأرضي والسمائي؛ سدًا لذريعة الشرك.
والمجوس مشركون أعظم من شرك النصارى، ولهذا كان ماني - الذي ينتسب إليه المانوية - أحدث دينًا مركبًا من دين المجوس ودين النصارى، أخذ عن المجوس الأصلين النور والظلمة، وخلطه بدين النصارى، فكانت المانوية أكفر من النصارى، والعرب كان شركهم عبادة الأوثان، وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس وغيره أن أصنام قوم نوح صارت إليهم، وهي: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهؤلاء كانوا قومًا صالحين وكان شركهم من جنس شرك قوم نوح بالصالحين.
وأول من نقل الأصنام إلى مكة عمرو بن لحي سيد خزاعة، وهو أول من غير دين إبراهيم، نقل الأصنام من الشام من أرض البلقاء، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار». وهو أول من أحدث الشرك والتحريم فحرم السائبة والوصيلة.
وقد ذكر جماعة أن اللات كان يلت السويق لأهل الطائف، فشرك العرب كان بالأصنام المجعولة تماثيل للصالحين، ومنها أصنام جُهِل أهلها، لكن الشرك الغالب في أرض العرب كان بالأصنام الأرضية التي جعلت تماثيل للصالحين، ولا يعرف فيهم صنم مشهور بأنه جعل طلسمًا للشمس أو القمر أو نحو ذلك مما هو شرك غيرهم كالكلدانيين.
والمجوس شركهم كان عبادة الشمس والقمر والنار. وهذا أعظم من عبادة الصالحين، فإن عُباد الأنبياء والصالحين يجعلونهم شفعاء وقربانًا كما كانت العرب تقول في أوثانها، وأما هؤلاء فيطلبون من الشمس والقمر والكواكب الأفعال، ويعتقدون أنها مدبرة لهذا العالم، ولا يتقربون بعبادتها إلى الله، ولا يتخذونها شفعاء.
فتبين أن شرك المجوس كان أعظم من شرك مشركي العرب، وكانوا يعادون أهل الكتاب كالنصارى، ولا يقرون بنبوة المسيح ولا موسى ولا إبراهيم الخليل، وكان العرب يعظمون إبراهيم الخليل، وهم على بقايا ملته مثل حج البيت والختان، وتحريم نكاح ذوات المحارم، وكانوا يسمون حنفاء، لكن حنفاء مشركين ليسوا حنفاء مخلصين.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا العباس، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة قال: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات، وما حرم الله، والختان. فكانت حنيفية في الشرك، كانوا أهل الشرك، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات والبنات والخالات والعمات، وكانوا يحجون البيت، وينسكون المناسك.
فاسم الحنفاء في الأصل لمن كان على ملة إبراهيم، وهم الصابئون الحنفاء مثل أولاد إسماعيل قبل أن يحدث فيهم الشرك كانوا على ملة إبراهيم حنفاء مخلصين وهم من الصابئين الذين أثنى الله عليهم بقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢﴾ [البقرة:62]. فهؤلاء الصابئة من الحنفاء المخلصين، وأما الصابئون المشركون فهم الذين أشركوا من الحنفاء، كما تقدم.
وأما المجوس فلم يكن عندهم شيء من آثار الأنبياء، بل كانوا يستحلون نكاح ذوات المحارم، ولهذا اتفق الصحابة على تحريم ذبائحهم ومناكحتهم وأنهم ليسوا من أهل الكتاب، وتكلموا في جبنهم لأجل الأنفحة؛ لأن ذبائحهم كذبائح المشركين، وجبنهم كجبن المشركين، ولهذا لما بلغ أحمد أن أبا ثور يجعلهم من أهل الكتاب ويبيح ذبائحهم دعا عليه أحمد، وذكر إجماع الصحابة على خلاف ذلك، وهذا القول قولٌ مُحْدَثُ في الإسلام، وهو قول أبي ثور وداود وابن حزم، وحُكي قولاً للشافعي، وجعل ابن حزم بينهم زرادشت، واحتجوا بما روي عن علي: أنهم كان لهم كتاب، فلما استحلوا نكاح ذوات المحارم رفع ذلك الكتاب.
والإمام أحمد ضعف هذا الحديث، وبتقدير صحته فإذا رفع الكتاب ولم يبق من يعرفه ولا هم مستمسكون بشيء من شرائعه لم يكونوا من أهل الكتاب، ولم يكونوا خيرًا من العرب المشركين، فإنهم كانوا على ملة إبراهيم، ثم لما بدلوها لم ينفعهم ما كانوا عليه قبل الشرك، ولم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنهم جعلوا زرادشت نبيًّا صادقًا، بل المشهور عنه أنه من الكذابين، وقد قال تعالى: ﴿أَن تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلۡكِتَٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيۡنِ مِن قَبۡلِنَا﴾[الأنعام:156].
والمجوس كانوا من أعظم الأمم، فلو أنزل عليهم كتاب لكان قد أنزل على ثلاث طوائف، فدل على أنه إنما أنزل على طائفتين، وقد احتج بهذا غير واحد من أهل العلم على أنه لا كتاب لهم، ولكن إنما وقعت الشبهة منهم لطائفة من أهل العلم، لما اعتقدوا أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب وقد أخذت منهم بالنص والإجماع، صاروا تارة يقولون: لهم شبهة كتاب، وتارة يقولون: هم مختلف فيهم، وقال بعضهم: هم من أهل الكتاب.
واحتجوا بالحديث المعروف فيهم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»([37]). وهذا الحديث إسناده منقطع، فإن جعفرا رواه عن أبيه عن عبد الرحمن، وأبوه لم يدرك عبد الرحمن، وبتقدير ثبوت لفظه فهو دل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، لكن المراد أنه تؤخذ منهم الجزية، كما تؤخذ من أهل الكتاب، ثم تخصيص أهل الكتاب بالذكر في آية الجزية فَهِم منه طائفة أن غيرهم يقاتل مطلقًا وإن أدى الجزية عن يد وهو صاغر، وفَهِم الأكثرون منه أن هذا من باب تنبيه الخطاب وفحواه، فإنه إذا كان أهل الكتاب لا يجوز مهادنتهم إلا مع الجزية والصغار فغيرهم أولى بذلك. فهو نهي عن مهادنة الكفار بغير جزية وصغار، كما كان الأمر عليه أولاً في حالة ضعف الإسلام، كان يهادن الكفار من المشركين وأهل الكتاب بغير جزية وصغار. وأهل خيبر بعد فتحها أقرهم فيها بغير جزية فنسخت آية الجزية ذلك. ولهذا أخذ الجزية من المجوس وليسوا من أهل الكتاب، وهذا مذهب الأكثرين؛ أنه يجوز مهادنة جميع الكفار بالجزية والصغار، وهذا يناسب الأصل الذي قال به الجمهور، وهو أنه كان القتال لأجل الحرب، فكل من سالم ولم يحارب لا يقاتل، سواء كان كتابيًّا أو مشركًا، والجمهور يقولون بهذا، وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
ثم ذكر أن عمر لم يأخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي ﷺ أخذها من مجوس هجر.
ثم قال: فإذا عرفت حقيقة السنة تبين أن الرسول لم يفرق بين عربي وغيره، وأن أخذه للجزية من المجوس كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا، وحديث عمرو بن عوف في قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين معروف في الصحيحين. وما الذي جعل عبد الرحمن بن عوف أعلم بهذا من سائر المهاجرين والأنصار الذين كانوا أعلم بهذا منه، مثل أبي عبيدة الذي هو قدم بالجزية، والأنصار الذين وافوه لما سمعوا بقدوم المال؟ وهذا يحتمل بسطًا كثيرًا، لكن الإنسان قد ينسى ما وقع له، كما نسي عمر ما جرى له ولعمار في التيمم، وقد يذهل عن الآية من القرآن حتى يذكر بها، كما جرى لعمر في الصداق لما أراد أن يقدر أكثره ويجعل الزيادة في بيت المال، فلما ذُكّر بقوله تعالى: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا﴾ [النساء: 20]. رجع عن ذلك، فقد كان في مجلس فأخبره عبد الرحمن بن عوف، وإلا فهذا كان معروفًا عند عامة الصحابة. وكان في مغيب أبي عبيدة أو بعد موته، وإلا فأبو عبيدة هو قدم بالجزية، وعمر كان يقدمه على عبد الرحمن بن عوف وغيره، وهذا أمر كان معروفًا في الصحابة، وتوقف عمر في أخذ الجزية من المجوس أولاً إذ كان القرآن ليس فيه نص فيهم، وإنما النص في أهل الكتاب، ومن هنا حصل الاشتباه لكثير من العلماء؛ فمنهم من قال: لما خصهم بالذكر دل على أنه لا يؤخذ من غيرهم. ثم اضطربوا في المجوس كما تقدم أن النبي ﷺ لم يأخذها من مشركي العرب، بل أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومات النبي ﷺ وما بأرض العرب مشرك.
وأما جمهور العلماء فعلموا أنه لا فرق بين المجوس وسائر المشركين وهم شرٌّ من غيرهم كما تقدم، فإذا أخذنا منهم فمن غيرهم بطريق الأولى.
ثم من هؤلاء من ظن أن النبي ﷺ خص العرب بأن لا يقبل منهم فاستثناهم فقال: تقبل النبي من كل مشرك، إلا من مشركي العرب، كما يقوله طائفة.
وآخرون قالوا: لا يستثنى أحد، ومشركو العرب لا تؤخذ منهم؛ لأنه لم يبق منهم إلا من أسلم. وهذا أصح الأقوال.
فإن النبي ﷺ لم يخص العرب بحكم في الدين، لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق، ولا تقديمهم في الأمان، ولا بجعل غيرهم ليس كفوًا لهم في النكاح. ولا بجعل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم، بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن، كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر.
إلى أن قال: ثم إذا عاهد المسلمون طائفة فنقضت العهد، لم يجب على المسلمين أن يعاهدوهم ثانيًا، بل لهم قتالهم، وإن طلبوا أداء الجزية، وللإمام أن يقتلهم حتى يسلموا وله أن يجليهم من ديار الإسلام إذا رأى ذلك مصلحة، فإن النبي ﷺ لما نقضت النضير العهد حاصرهم وأجلاهم، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر، وقريظة لما نقضت العهد عام الخندق حاصرهم بعد هذا حتى نزلوا على حكمه، فشفع حلفاؤهم من الأوس فيهم، فأنزلهم على حكم سيدهم سعد بن معاذ، فحكم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم.
فإذا نقض أهل الذمة وغيرهم العهد لم يجب على الإمام أن يعقد لهم عقدًا ثانيًا، بل يجوز قتل كل من نقض العهد وقتاله، وإن بذل الجزية ثانيًا، قال تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 12]. أي لا وفاء لهم بالأيمان، فهذا أمر بقتال الناكثين للعهد مطلقًا.
فالمعاهدون إلى أجل مسمى إن أسلموا فهم إخوان في الدين، وإن نكثوا أيمانهم وجب قتالهم. وإن وفوا بالعهد وُفِّيَ لهم بعهدهم، وإن كانوا قد عوهدوا بلا جزية فكذلك من عاهد بالجزية. والصحيح أن العهد المطلق جائز.
والعهود التي كانت بين النبي ﷺ وبين المشركين كانت مطلقة ولم تكن مؤقتة. والقرآن قد فرق بين المؤقت منها والمطلق؛ فأجاز نبذ المطلق، وأوجب الوفاء بالمؤقت، وهذا هو مقتضى الأصول كسائر العهود المطلقة والمؤقتة.
فهذا الأصل الذي ذكرناه، وهو أن القتال لأجل الحراب لا لأجل الكفر، هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وهو مقتضى الاعتبار، وذلك أنه لو كان الكفر هو الموجب للقتل بل هو المبيح له، لم يحرم قتل النساء، كما لو وجب أو أبيح قتل المرأة بزنا أو قود أو ردة. فلا يجوز مع قيام الموجب للقتل أو المبيح له أن يحرم ذلك؛ لما فيه من تفويت المال، بل تفويت النفس الحرة أعظم وهي تقتل لهذه الأمور.
والأمة المملوكة تقتل للقصاص وللردة، ولهذا لما كانت الردة المجردة موجبة للقتل لم يجز استرقاق المرتدة عند الجمهور الذين يقتلون المرتدة، وإنما يُجوّز استرقاقها من لا يوجب قتلها، فأما الجمع بين هذا وبين هذا فمتعذر.
ثم يقال: فإن كان مجرد الكفر هو الموجب للقتل، فما المانع من قتل المرأة الكافرة؟ فإذا قيل: لأنها صارت سبيًا للمسلمين. قيل: إنما صارت سبيًا لحرمة دمها. فإذا قيل: حُرّم دمها لكونها تصير رقيقة، كان هذا دورًا؛ فإنه تعليل لاسترقاقها بحرم دمها، وتعليل لحرمة دمها باسترقاقها ومصيرها مالا.
فإن قيل: بل العلة هي إمكان استرقاقها وأن تصير مالاً. قيل: وهذه العلة موجودة في الرجال، فيمكن استرقاقهم واستعبادهم. ولهذا يخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء.
فإن قيل: إنما يسترق الرجل إذا أمنت غائلته، والمرأة مأمونة. قيل: فقد عاد الأمر إلى خوف الضرر، وأن الرجل إنما قتل لدفع ضرره عن الدين وأهله، فمن أمن ضرره الدين وأهله لم يقتل، ومعلوم أن كثيرًا من الرجال يؤمن ضرره أكثر من كثير من النساء، ولهذا تقتل المرأة إذا قاتلت وإذا كانت مدبرة بالرأي، مثل هند. وقد أباح النبي ﷺ عام الفتح دم عدة نسوة فيهن هند.
فإن قيل: المرأة إذا قاتلت تقتل دفعًا لصولها فإذا أسرت لم تقتل. قيل: لا نسلم؛ فإن هذا وإن قاله الشافعي، فالأكثرون يبيحون قتل من قاتلت بعد الأسر كالرجل، وكما أمر النبي ﷺ بقتل هند وغيرها من النسوة، وكان قد أمن من لم يقاتل، ولم يؤمن من قاتل، لا من الرجال ولا من النساء.
فدل ذلك على أنه أباح قتل أولئك النسوة، وإن لم يكن حينئذ يقاتلن لما تقدم من قتالهن بألسنتهن، فإن القتال باللسان قد يكون أعظم من القتال باليد.
وأيضًا فقد دلت النصوص على أن من تاب قبل القدرة عليه وهو ممتنع فإنه يعصم دمه وماله، بخلاف من تاب بعد القدرة عليه.
فلو أسلم الأسير بعد أسره لعصم دمه ولم يعصم استرقاقه، بل قيل: يصير رقيقًا. وقيل: يخير الإمام فيه، وإنما عصم دمه لأن الكفر شرط في حل دم المقدور عليه، حتى إن المسلم إذا حارب جاز قتاله، فإذا قدر عليه لم يحل قتله، فإن الإسلام عاصم، ففي الحديث «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان، أو أن يقتل نفسًا فيقتل بها»([38]) كما جاء مثل هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي ﷺ من حديث ابن مسعود.
فالمحارب إذا كان كافرًا جاز قتله، وإذا أسر جاز قتله لحربه المتقدم، ودفعًا لشره في المستقبل. فإنه إذا مُنّ عليه أو فودي فقد يضر بالمسلمين. وأما المسلم إذا جاز قتاله لحرابه، مثل قتال البغاة والعداة، فإذا أسر لم يجز قتله لحرابه المتقدم، ولكن إذا كان له فئة ممتنعة فقيل: يجوز قتله لحرابه المتقدم، وقيل: لا يجوز.
وأيضًا فإن الله تعالى قال في قتال الكفار: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: 4]. ولو كان الكفر موجبًا للقتل لم يجز المنّ على الكفار ولا المناداة به، كما لا يجوز ذلك ممن وجب قتله، كالزاني المحصن والمرتد. وقد منّ النبيﷺ على غير واحد من الكفار وفادى بكثير منهم، ففادى بالأسرى يوم بدر، ولو كان الكفر موجبًا لوجب قتل كل أسير كافر، وقد منَّ على أبي عزة الجمحي وعلى ثمامة بن أثال وغيرهما.
فإن قيل: المن والفداء منسوخ. قيل: هذا ممنوع، فأين الناسخ؟
وبتقدير نسخه فذاك لأن له فئة يعود إليهم فيقويهم. وأبو حنيفة يقول بمنع المن والفداء لهذه العلة، كما يقتل الأسير المسلم إذا كان له فئة ممتنعة، وإلا فيجوز استرقاقه، فلو كان القتل موجبًا لما جاز استرقاقه.
وأيضًا فلو كان مجرد الكفر مبيحًا لما أنزل النبي ﷺ قريظة على حكم سعد بن معاذ فيهم. ولو حكم فيهم بغير القتل لنفذ حكمه، بل كان يأمر بقتلهم ابتداء. وإنما قال له لما حكم فيهم بالقتل: «لقد حكمت فيهم بحكم الله»([39]). لأن قتل تلك الطائفة المعينة من الكفار كان في نفس الأمر مما أمر الله رسوله به. وكان أرضى لله ورسوله. فإنهم لو أطلقوا لعاد على الإسلام من شرهم ما لا يطفأ، ولكن هذا ما كان ظاهرًا، وكان لهم من حلفائهم في الجاهلية من المسلمين من يختار المن عليهم. فلما حكم فيهم سعد بالقتل قال النبي ﷺ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله». وهذا يدل على أن بعض الكفار يتعين قتله دون بعض. وهذا حجة لكون مجرد الكفر ليس من الموجب للقتل. وإنما الموجب كفر معه إضرار بالدين وأهله. فيقتل لدفع ضرره وأهله، لعدم العاصم، لا لوجود الموجب، فإن الكفر - وإن يكن موجبًا - فصاحبه ليس بمعصوم الدم ولا المال، بل هو مباح الدم والمال، فلم تثبت في حقه العصمة المؤثمة، فلو قتله قاتل ولا عهد له لم يضمنه بشيء، حتى نساؤهم وصبيانهم لو قتلهم قاتل لم يضمنهم، وما نعلم في هذا نزاعًا بين المسلمين، مع أنه لا يحل قتلهم، مثل كثير من الحيوان لا يحل قتله، ولو قتله قاتل لم يضمنه بشيء، وهو مباح الدم والمال، كما نقول فيما خلق من النبات والصيد: هو مباح. ثم مع هذا لا يجوز إتلافه بلا فائدة. فلا يجوز قتل الصيد لغير مأكله، ولا إتلاف المباحات لغير منفعة، فإن هذا فساد، والله لا يحب الفساد.
كذلك الكافر الذي لا يضر المسلمين وهو غير معصوم، بل مباح. وهو من حطب جهنم، لكن قتله من غير سبب يوجب قتله فسادٌ لا يحبه الله ورسوله، وإذا لم يقتل يرجى الإسلام كالعصاة من المسلمين، والله تعالى أباح القتل؛ لأن الفتنة أشد من القتل، فأباح من القتل ما يحتاج إليه. فإن الأصل أن الله حرم قتل النفس إلا بحقها. وقتل الآدمي من أكبر الكبائر بعد الكفر، فلا يباح قتله إلا لمصلحة راجحة، وهو أن يدفع بقتله شر أعظم من قتله، فإذا لم يكن في وجود هذا الشر لم يجز قتله، قال تعالى: ﴿مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ [المائدة: 32]. فلم يبح القتل إلا قودًا أو لفساد البغاة وسعيهم في الأرض بالفساد، مثل فتنة المسلم عن دينه، وقطع الطريق. وأما ذنبه الذي يختص به ولا يتعدى ضرره إلى غيره، فهذا يسمى فسادًا بخلاف الداعي إلى الكفر والنفاق والزاني. فإن هذا أفسد غيره، فلولا عقوبة الزناة لكان من اشتهاه يدعو إليه من يجيبه إليه، فيفسد كل منهما الآخر، ويفسدان الناس، فإذا قتل فاعله انتهوا عن الفساد.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن لا يقتل تارك الصلاة لأن ضرره على نفسه. قيل: من يقول: إنه يكفر. يقتله لردته. ومعلوم أنه لا يدعى أحد إلى الصلاة فيمتنع عنها حتى يقتل إلا وهو كافر. ونحن لا نقتله ابتداء، بل يدعى إليها، ويعاقب بما دون القتل، فإن صلى وإلا فإذا أصر حتى يقتل ولا يصلي فهو كافر قطعًا. ومن ظن أنه مع صبره على القتل يكون مسلمًا في الباطن، فخطؤه ظاهر. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «بين العبد وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»، وقال: «إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»([40]).
وأما من قتله لترك الصلاة مع اعتقاده أنه قتل مسلمًا، فهذا مما أنكره كثير من العلماء، وقالوا: هو خلاف النصوص.
وأيضًا دم المسلم لا يحل إلا بردة أو زنا مع إحصان أو قتل نفس. ولهذا كان المانعون للزكاة عند الصحابة والمسلمين مرتدين، لم يجعلوا فيهم أحدًا مسلمًا. فمن منع الزكاة حتى قتل ولم يزك لم يكن إلا كافرًا، وكذلك الصوم والحج لو قدر أنه قيل له: إن لم تصم وإلا قتلناك. فامتنع من الصيام والحج حتى قتل، كان كافرًا.
ومثل هذه الأمور التي بني الإسلام عليها فهي كالشهادتين، فلا يكون مسلمًا بدونها.
ودار الإسلام لا يترك فيها إلا مسلم أو كافر بجزية وصغار. وهذا إذا لم يكن كافرًا بجزية وصغار فهو مسلم، فلا يكون مسلمًا حتى يقوم بمباني الإسلام، فصار قتل هذا كقتل من أتى بإحدى الشهادتين دون الأخرى، وكقتل من كذب بالقرآن أو بعضه، أو جحد وجوب الصلاة، فإن هذا يقتل بالإجماع لكونه كافرًا وليس بمسلم.
ومن قال هذا يقول: قوله ﷺ: «لا يحل دم امرئ مسلم»([41]) لا يدخل فيه من ترك إحدى المباني؛ لأن هؤلاء غير مسلمين، وهذا قد يقال: إنه يعود إلى أنهم مرتدون. وقد يقال: ليسوا مرتدين. ولكن أتوا ببعض الإسلام وتركوا بعضه، فيقتلون على ما تركوه. والمنافقون ظاهرهم الإسلام وهم كفار في الباطن. وكذلك الأعراب الذين قالوا: آمنا. فقيل لهم: ﴿لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾ [الحجرات: 14]. فهؤلاء ليسوا كفارًا مباحي الدماء، وليسوا أيضًا مؤمنين مستحقين للثواب، بل قد يستوون مع المسلمين في الدنيا. والمنافقون يكونون في الآخرة مع الكفار. فمن لم يأت بالمباني يشبه هؤلاء، أما من ترك المباني أو بعضها فهذا قد يكون منافقًا يحشر مع المنافقين، ولا بد من عقوبته، فإن أصر حتى قتل فهذا كافر، إما منافق، وإما مرتد، وإما زنديق ظهر نفاقه وزندقته. ونحن قدمنا أن مجرد الكفر ليس موجبًا بل الموجب هو الكفر المغلظ، وتغليظه تارة يكون بحرب صاحبه، وتارة بردته عن الإسلام، ثم المرتد نوعان: ردة مجردة، وردة مغلظة، فصاحب الردة المغلظة يقتل بلا استتابة، وإن استتيب صاحب المجردة كما أمر النبي ﷺ بقتل مقيس ابن صبابة وعبد الله بن خطل من غير استتابة. وكان أيضًا قد أهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح. فلو قتله قاتل من غير استتابة لجاز، لكن جاء بعد فقبل توبته. وهذا يدل على أن الاستتابة وقبول التوبة ليس واجبا لكل مرتد، ولا محرمًا في حق كل مرتد، بل صاحب الردة المغلظة قد يقتل ولو تاب، وقد يقتل بلا استتابة، ولكن لو تاب لم يقتل، وقد يؤمر باستتابته.
وهذا التقسيم موجود في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقد بُسِطَ ما يناسب هذا في الصارم المسلول على شاتم الرسول فكذلك الكفر.
وأيضًا فلو كان مجرد الكفر موجبًا للقتل لم يجز إقرار كافر بالجزية والصغار. فإن هذا لم يبذل الكفر. ولهذا لما كانت الردة موجبة للقتل لم يجز إقرار مرتد بجزية وصغار.
وبهذا يظهر الجواب عما أورده بعض الزنادقة - قيل: هو ابن الرواندي - على قوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيًۡٔا إِدّٗا ٨٩ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا ٩٠ أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا ٩١ وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ٩٢ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا ٩٣ لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا ٩٤ وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا ٩٥﴾ [مريم: 89-95]. فقال: هذا كله يزول إذا أدى دينارًا في السنة، أو ما يشبه هذا.
فيقال لهذا الملحد: الجزية والصغار لم تكن جزاء كفره، وإنما جزاء كفره نار جهنم خالدًا فيها أبدًا. ونحن قد بينا أن القتال لم يكن على مجرد كفره. فغاية الجزية والصَّغار أن تكون عاصمة لدمه من السيف، والسيف لم يجزه على كفر ولا دفع به عنه عقوبة الآخرة، بل أريد دفع شره وعدوانه، وصده لغيره عن الدين. وهذا الشر يزول بالصغار والجزية مع العهد، فإنه بالصغار مع العهد كف يده ولسانه.
ثم إنه ليس من أهل القتال، بل المسلمون يقاتلون عنه ويحفظون دمه وماله من عدوه. فإذا أخذ منه ما يكون فيئًا يستعين به أهل الجهاد كان هذا من تمام الإحسان إليه.
والجزية فعلة من الجزاء، يقال: جزى هذا عني، أي قضى عني، كما سميت الدية دية لأنها تؤدى يقال: أديت هذا إذا قضيته وأعطيته. ويقال للوظائف المؤقتة: الإتاوة؛ لأنها تؤتى، والمؤدى؛ لأنها تؤدى.
فهذا اللفظ يقال على ما يوظف على الإنسان، فيؤدى بحيث يطلب منه أن يقضيه، فكأنه قال: حتى يعطوا ما عليهم من الحق الذي يجزي أي يقضي. ثم مقداره بحسب المصلحة.
فلما كان يجزي بها عن نفسه- أي يقضي بها ما وجب عليه- سميت جزية.
قيل: الجزية أجرة، فلا تسقط بالإسلام. وقيل: هي عقوبة على الكفر. فتسقط بالموت، كما تسقط بالإسلام.
وقيل: بل يقضي بها حقن دمه بإقراره والقتال عنه. فتجب بالموت لأنه حقن دمه. ولا تجب مع الإسلام؛ لأنه وجد العاصم بنفسه الموجب للجهاد عليه.
ومن قال: هي عقوبة - كما قال أبو الخطاب وبعض أصحاب أحمد - فقد ناقض أصله، فإن من أصله أن مجرد الكفر لا يوجب العقوبة. وهؤلاء مع العهد والصغار إنما معهم الكفر. فكيف يعاقب عليه؟
ومن قال: إنها أجرة. قيل له: فكان ينبغي أن تؤخذ من النساء.
ومن قال: إنها عصمة. فإنها تجب على من يجوز قتله، فقد اطرد أصله، فإن الإسلام عاصم، والجزية والصغار عاصم إذ كان لا بد إما من عبادة الله، وإما من نفع المؤمنين، فالمؤمن عَبَد الله، فقام بحقه، وهذا لم يعبد الله فنفع المؤمنين بإيتاء ما يجزيه عن نفسه، فلهذا أُقر، ولعل الله يهديه ويتوب عليه، ولأن مع أهل الكتاب من الكتب والمنقولات ما يدل على نبوة محمد ﷺ، فأقروا لهذه المصالح، وعقوبتهم على الكفر لم تزل بشيء من ذلك، ولا زال عنهم قبح ما ارتكبوه من الكفر.
والحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
تمت الرسالة
* * *
[29] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [30] راجع في ذلك زاد المسير لابن الجوزي، طبع المكتب الإسلامي: 1/197-201. [31] الذي في المغازي وكتب السير أنهم كانوا ستمائة، أو أكثر إلى تسعمائة. [32] أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد من حديث الصعب بن جثامة. [33] انظر: زاد المسير: 1/197-201. [34] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [35] أخرجه البخاري من حديث عمر. [36] لعل الشيخ لم يدخل كنائس النصارى، فإنه لو دخلها لوجد فيها من التماثيل المقدسة عندهم والأصنام المعبودة مثل ما عند غيرهم سواء. [37] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف. [38] متفق عليه من حديث ابن مسعود، بلفظ قريب من هذا. [39] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. [40] أخرجه النسائي وغيره من حديث بريدة. [41] متفق عليه من حديث ابن مسعود.