مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الثاني
أولاً: قسم العبادات
(2) يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، واستسلمت جوارحه لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي رفع ببعثته عن أمته الآصار والأغلال، فشرع الأحكام، وبين للناس الحلال والحرام، وسكت عن أشياء رحمة منه غير نسيان. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان.
أما بعد، فإن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، بإرسال هذا النبي الصادق الأمين ﴿عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128]. وجعله رحمة لمن اتبعه وسعادة لمن تمسك بهديه، وقال: «بعثت بحنيفية سمحة»[74]فالدين الذي جاء به هو دين السهولة واليسر، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ﴾ [الحج: 78]. وقال: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185]. وقال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨﴾ [الأعلى: 8]. أي للشريعة التي تفضل غيرها بالسماحة واليسر، فمن رأفته وسماحة شريعته أنه يشق عليه كل ما يعنت أمته، وكان يقول لأصحابه: «يسروا ولا تعسروا»[75]، ويقول: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا»[76].
وكل من تأمل شرائع الإسلام التي جاء بها عليه الصلاة والسلام وجدها في مواردها ومصادرها تفر من مضائق الشدة والعنت واليسر إلى فضاء السهولة واليسر.
فما من شيء من العبادات تشق على الناس مشقة زائدة على المعتاد إلا كان لها بدل من التيسير حاضر عتيد، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ﴾ [النساء: 83].
فمن ذلك الصلاة التي هي آكد العبادات، لما كان من شروطها الطهارة بالماء وقد أعوز استعماله، إما لمشقة طلبه، أو لحبس الماء خوفًا على نفسه أو رفقته أو تضرر العضو العليل به، بحيث يخشى أن يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه، قام التيمم بدله. ومثله عادم الطهورين يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه، وكذا القيام في صلاة الفرض فإنه ركن من أركان صحة الصلاة، وينوب القعود عنه عند وجود ما يمنعه، ومثله صيام رمضان، فإنه أحد أركان الإسلام، وقد قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ﴾ [البقرة: 184]. ورخص للشيخ الكبير الذي يشق عليه الصيام فوق المشقة المعتادة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا. وكذا الحج، فإنه فرض في العمر مرة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ﴾ [آل عمران: 97].
وفسر الاستطاعة بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق، ونص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه أو أهله ولو بأخذ خفارة من ماله مجحفة، وقيل: أو غير مجحفة، وهكذا سائر العبادات ما قدر عليه منها فعَله، وما أعجزه سقط عنه، إما سقوطًا كليًّا أو إلى بدل، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء؛ لأن الشرائع منزلة على مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ لأنها إما مصلحة يُطلب جلبها وتكثيرها، وإما مفسدة يُطلب درؤها وتقليلها، فهي دائمًا تطلب الفعل فتعلله بما فيه من نفع، أو تنهى عنه لما فيه من ضر، وهذا الطلب وإن لم يكن مستمرًّا لفظًا، فإنه ثابت حقيقة ومعنى، إذ ليست العقول بقادرة على إدراك جميع أسرار الشرائع.
ولهذا نرى العلماء تختلف أفهامهم في حكمة الشيء الواحد، فيحكي كل واحد منهم الحكمة على حسب ما أدى إليه فهمه، فيفهمون الكلام في حكمة الشيء الواحد في ثلاثة أقوال أو أربعة أو أكثر، فيمكن إدراك تلك الأقوال أو بعضها لسر الحكمة، ويمكن عجزها عن إدراكها، فإن من أسرار الشرائع ما أمكن الناس الوصول إلى معرفته، ومنها ما عجزوا عن أسرار حكمته، لكنهم مع جهلهم بها يؤمنون بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا جازمًا ليس مشروطًا بعدم معارض، وإن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لم يخبر بما يكذبه العقل، ولم يشرع ما ينافي الميزان والعدل، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ﴾ [الأنعام: 115].
ومن ذلك سائر مناسك الحج ومشاعره، مثل التجرد عن الثياب للإحرام، والطواف والاضطباع فيه والرمل والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والحلق وغير ذلك. فهذه وإن خفي على الناس أسرار حكمتها، فإنها إنما شرعت لإقامة ذكر الله وطاعته، وتوجيه جميع المسلمين في صلاتهم وطوافهم إلى قبلة بيت ربهم واجتماعهم في البلد الحرام سواء العاكف فيه والباد والذي من دخله كان آمنًا، فيتذاكرون بهداية الإسلام والقيام بشرائعه على التمام، ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة وقبّل الحجر قال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. [77]
وهكذا سائر أعمال الحج تجري على هذا المنهج كما روى الترمذي في صحيحه عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله عز وجل» يقول الله تعالى: ﴿لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩﴾ [البقرة: 198-199]. ويقول: ﴿۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ﴾ [البقرة: 203].
وقد حكى بعض العلماء الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة: حادي عشر، ثاني عشر، ثالث عشر، ويدل له حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة، أن أناسًا من أهل نجد جاؤوا إلى رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديًا ينادي: «الحج عرفة. من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك»، وقال: «وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه» وأمر رجلاً ينادي بهن ليعرف الناس الحكم. [78]
وذكر الله المأمور به في هذه الأيام المعدودات يشمل الذكر والتكبير في أدبار الصلوات والتكبير عند نحر النسك، والتكبير والدعاء عند رمي الجمار، فهذه كلها داخلة في عموم الذكر المأمور به في الأيام المعدودات، وكان النبي ﷺ يخص الجمرة الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندها للدعاء والتضرع، ويقف الناس معه صفوفًا يدعون ويتضرعون، كما في صحيح البخاري عن ابن عمر، أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم فيُسهِل فيستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله يفعل.
وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو عند الجمار بدعائه الذي يدعو به بعرفة. وفي صحيح مسلم عن نبيشة الهذلي أن النبي ﷺ قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل».
وإنما خص الله الأمر بالذكر في هذه الأيام المعدودات من أجل أن الذكر هو روح الدين، وإنما شرع الرمي للتذكير به، وقد حكى بعض العلماء أنه إنما شرع الرمي حفظًا للتكبير، فمن تركه وكبّر أجزأه، رواه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها، وإنما خص النبي ﷺ طول الوقوف عند الجمار للدعاء والتضرع حتى قيل: إنه وقف بقدر سورة البقرة. كله من أجل أن رمي الجمار ختام عمل الحج، فهو يدعو ويتضرع بقبول عمله، وكذلك أصحابه وقفوا صفوفًا يدعون ويتضرعون، فهذا المشعر الذي شرع للدعاء والتضرع وللذكر والتكبير قد انقلب إلى تزاحم وتلاكم وتدافع وخطر على الأرواح كبير، وصار الناس يذهبون إليها وهم متذمرون للمدافعة وقصد المغالبة، يؤيد بعضهم بعضًا، وصار أكثر الناس لا يباشرون الرمي بأنفسهم خوفًا على حياتهم، وإنما يستنيبون الأقوياء الجلداء في الرمي عنهم، وأكثرهم تقع جمارهم بعيدة عن الأحواض من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.
ومن شرط صحة الرمي العلم بحصول الجمار في المرمى، كما نص على ذلك الفقهاء، وليس كذلك الزحام في الطواف، فإن الناس يسيرون فيه ولا يقفون، وكل المسجد الحرام مجال للطواف وليس الطواف محصورًا بوقت دون وقت، بخلاف رمي الجمار، فإن الجمع كثير وحوض المرمى صغير، وزمن الرمي قصير، وكل واحد يقف حتى يتمم رمي جماره واحدة بعد أخرى.
فهذا العمل بهذه الصفة قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق، لكون هذا الوقت القصير لا يسع أداء واجب الخلق الكثير.
ثم إن هذا التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا القياس ولا الإجماع، فلا تجوز نسبة القول به إلى الشرع أو إلى الدين، مع عدم ما يدل على صحته، وصار الحكم بالإلزام به مستلزمًا للعجز عنه، إذ هو من تكليف ما لا يستطاع، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ [البقرة: 286].
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[79] فلا يقول بالإلزام به في مثل هذا الزمان إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم:
إذا شئتَ أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فَمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
[74] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [75] أخرجه مسلم من حديث أنس. [76] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [77] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [78] أخرجه النسائي والترمذي من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. [79]متفق عليه من حديث أبي هريرة.
والنبي ﷺ قد بين للناس في حجهم جميع ما يحتاجون إليه، وما يجب أن يفعلوه وما ينبغي أن يتقوه، فحدد لهم المواقيت الزمانية والمكانية، وحدد لهم الوقوف بعرفة زمانه ومكانه، فقال: «عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة»[80]، وقال: «من جاء ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك»[81] وقال: «أيام منى ثلاثة أيام، من تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه»[82]، ونهى أن تصام هذه الأيام إلا لمن لم يجد الهدي، وقال: «منى مُناخ[83] لمن سبق»[84]، وقال: «فجاج مكة كلها منحر»[85]، وقال: «لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئًا مسه الزعفران ولا الورس»[86].
خطب بهذا في المدينة، لكنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، قال: سمعت رسول الله يخطب بعرفة يقول: «السراويلات لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعلين»، وروى مسلم عن جابر بلفظ: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل»، ولم يذكر قطع الخفين، وهذا هو آخر الأمرين من رسول الله ﷺ، وقال في الذي وقَصَتْه ناقته بعرفة فمات: «غسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه - أو قال: في ثوبين - ولا تخمروا رأسه، وجنبوه الطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا»[87].
وروى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي، قال: خطبنا رسول اللهﷺ ونحن بمنى ففتحنا أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع إصبعيه السبابتين، ثم قال: «بحصى الخذف - وفي رواية: بمثل حصى الخذف - فارموا وإياكم والغلو» إلى غير ذلك من التعليمات الكافية الشافية.
فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لحذر منه النبي ﷺ أمته، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وهذا واضح جلي، لا مجال للشك في مثله.
والذي جعل الأمر يشكل على بعض الناس هو أن النبي ﷺ إنما حج حجة واحدة، من أجل أن قريشًا صدته عن الحج فلم تمكنه من دخول مكة حتى فتحها عام ثمانية من الهجرة، وفي السنة التاسعة أمر رسول الله ﷺ أبا بكر بأن يحج بالناس، وأمر عليًّا - رضي الله عنه - بأن ينادي في الناس بسورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد فأجله إلى مدته، قال تعالى: ﴿أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ﴾ [التوبة:3]..
* * *
[80] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عباس. [81] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الرحمن بن يعمر. [82] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الرحمن بن يعمر. [83] مُناخ: أي موضع إناخة الإبل، والمقصود عدم جواز البناء في منَى؛ لأنها موضع العبادات من رمي وذبح وحلق، حتى لا يضيق على الحجيج. [84] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة [85] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح من حديث جابر. [86] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [87] متفق عليه من حديث ابن عباس.
وفي السنة العاشرة أذن في الناس أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويعمل مثل عمله، فخرج رسول الله ﷺ من المدينة حتى نزل ذا الحليفة وبات بها حتى طلعت الشمس ثم اغتسل وتطيب، قالت عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. لهذا كان يُرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم، ولبس ثياب إحرامه إزارًا ورداء، ثم صلى ركعتين في مسجد ذي الحليفة، وتسمى بركعتي الإحرام، ثم أهلّ بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، وأهلَّ الناس بالذي يهلون به ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.
وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، وأرسلت إلى رسول الله ﷺ: كيف أصنع؟ فقال: «اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي»[88].
ثم إنه لقي ركبًا بالروحاء، فقال: «من القوم؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أنا رسول الله» فرفعت امرأة إليه صبيًّا، فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر»[89].
واعترضت له امرأة من خثعم، وقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نعم حجي عنه»[90]. وذلك في حجة الوداع، وسألته امرأة من جهينة وقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: «نعم، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»[91].
وسميت هذه الحجة بحجة الوداع لكونه ودع الناس فيها وقال: «لعلكم لا تلقوني بعد عامي هذا»[92]، وأنزل الله عليه بعرفة يوم الجمعة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: 3] ، كما أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [سورة النصر]، وفي هذه السورة الإشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسرها بذلك ابن عباس.
ولهذا توفي النبي ﷺ بعد حجته ببضعة وثمانين يومًا، وكان غالب من حج مع النبي ﷺ هم أهل المدينة ومن حول مكة من الأعراب؛ لكونه لم يُفتح في زمنه شيء من البلدان ما عدا الطائف.
ولهذا يعد العلماء تحديد المواقيت من معجزات نبوته، حيث حددها قبل إسلام أهلها، فوقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، فمن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ولهذا قال ابن عبد القوي:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
فالناس لا يعرفون أحكام حجة الإسلام إلا من طريقه ﷺ فهم يتبعونه في سائر أفعاله من الواجبات والمستحبات، كما يتبعونه في الصلاة، ولهذا توسع الخلاف جدًّا بين الأئمة وفقهاء المذاهب في مسائل الحج كلها اختلافًا لا يعهد له نظير في سائر العبادات، اختلفوا في إحرام رسول الله ﷺ، فمنهم من قال: أحرم مفردًا. ومنهم من قال: أحرم متمتعًا. ومنهم من قال: أحرم قارنًا. واختلفوا في إحرام التمتع، فمنهم من قال باستحبابه، ومنهم من قال بمنعه، واختلفوا في السعي بين الصفا والمروة، فمنهم من قال: هو ركن. ومنهم من قال: هو واجب. ومنهم من قال: مستحب. واختلفوا هل يجب على المتمتع طوافان وسعيان أم يكفيه طواف واحد وسعي واحد كالقارن، إلى غير ذلك من الاختلاف.
والأمر الثابت عن رسول الله ﷺ أنه تجرّد لإحرامه واغتسل وتطيب ثم أحرم ولبى قارنًا، وكذا أمر عائشة، حين حاضت (بسَرِف) بأن تدخل عمرتها على الحج حتى تصير قارنة، وأن تفعل ما يفعل الناس غير ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، وقال لها: «إن طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك»[93]. وطاف رسول الله طواف القدوم وطاف الناس معه، ثم صلى ركعتي الطواف بالمقام، ثم خرج إلى الصفا فسعى بين الصفا والمروة سبعًا، وعند انتهائه قال لأصحابه عند المروة: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» حتى قال سراقة بن مالك بن خثعم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لا بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»[94]. فحل الناس كلهم وقصروا إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، حتى قال رجل: يا رسول الله، الحل ماذا؟ فقال: «الحل كله»[95] فحلوا من إحرامهم ولبسوا ثيابهم ودارت المجامر بينهم، وأوجب الله عليهم عن هذا الترفه والتمتع ذبح هدي لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.[البقرة: 196].
وفي اليوم الثامن أحرم بالحج كل الذين حلوا من إحرامهم وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها، حتى إذا كان يوم عرفة أتى إلى نمرة، حتى إذا زاغت الشمس صلى بالناس الظهر والعصر جمع تقديم بأذان وإقامتين، ثم خطب الناس وعلمهم كيفية حجهم من وقوفهم وانصرافهم، ولم يزل واقفًا بعرفة يدعو ويتضرع حتى غابت الشمس، فانصرف وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحل رسول الله ﷺ وهو يقول: «أيها الناس السكينة السكينة» [96]. كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء قصرًا وجمعًا بأذان وإقامتين، ورخص رسول الله للضعفة وللنساء أن يدفعن قبله ليلاً، وبات هو وأصحابه بمزدلفة حتى وصلوا بها الفجر، ثم وقف يدعو ويستغفر الله حتى أسفر جدًّا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى منى، فبدأ برمي جمرة العقبة فرماها ضحى بسبع حصيات وهو على راحلته، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه (وعدده مائة بدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بدنة بيده وكن يزدلفن بين يديه، أي تبرك الناقة قبل الأخرى، ووكل عليًّا فنحر الباقي)، ثم حلق رأسه ثم حل من إحرامه، ولبس ثيابه وتطيب.
ثم خطب الناس يوم العيد وبين لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وجعل الناس يسألونه، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج». فبعد أن أكل من لحم هديه، وشرب من مرقه، ركب راحلته ودفع إلى مكة والناس معه، فطاف بالبيت طواف الإفاضة، وصلى ركعتي الطواف عند المقام، ثم أتى بني عبد المطلب، وهم يسقون في زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم[97]، ثم صلى بالناس الظهر في المسجد الحرام قصرًا، وقال: «يا أهل مكة أتموا، فإنا قوم سفر»[98]، ثم رجع إلى منى وبات فيها.
وفي اليوم الثاني جعل الناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج» حتى قال رجل: يا رسول الله، رميت بعدما أمسيت، فقال: «ارم ولا حرج» رواه البخاري من حديث ابن عباس، والليل يدخل في مسمى المساء. حتى إذا زالت الشمس قام لرمي الجمار وقام الناس معه، فبدأ بالجمرة الأولى فرماها بسبع حصيات، ثم وقف عندها طويلاً يدعو ويتضرع، ووقف الناس صفوفًا يدعون ويتضرعون، ثم رمى الثانية مثل ذلك ووقف عندها طويلاً يدعو ويتضرع، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها، قيل: من أجل ضيق المكان. ثم انصرف إلى مسجد الخَيْف فصلى بالناس الظهر ركعتين قصرًا من غير جمع؛ لأن من هدي رسول الله ﷺ أنه كان يقصر الصلاة في منى ولا يجمع، وإنما يصلي كل فرض في وقته، قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ففعل في اليوم الثاني والثالث مثل ذلك، يرمي الجمار بعد الزوال ثم ينصرف إلى مسجد الخَيْف فيصلي بالناس الظهر، وكأنه حاول الرفق بالناس ليخرج بهم مخرجًا واحدًا لرمي الجمار وللصلاة في مسجد الخَيْف لكون حجه صادف شدة حر، حتى إن بلالاً يظلله عن الشمس عند الجمار. ولهذا نرى كثيرًا من الفقهاء يذكرون في كتبهم استحباب الصلاة بعد رمي الجمار في مسجد الخَيْف، تأسيًا بفعل النبي وأصحابه، ثم إنه عمِلَ الخلفاءُ الراشدون بمثل عمله، يرمون الجمار بعد الزوال ثم يصلون صلاة الظهر في مسجد الخَيْف.
ثم أخذ أمراء الحج من بني أمية وبني العباس يعملون بمثل ذلك، ثم استمر عمل الناس على ذلك؛ لأن مجموع الحاج كانوا قليلين بالنسبة إلى هذه السنين، فيختارون للرمي من الوقت أفضله، ويتمكنون من القيام بمشروعيته: الدعاء والتضرع، والذكر والتكبير عند هذا المقام من أجل قلتهم وسعة المكان، وقبل أن يوجد في منى شيء من البنيان.
* * *
[88] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [89] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عباس. [90] أخرجه النسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس. [91] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [92]أخرجه أبو يعلى من حديث جابر. [93] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [94] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [95] متفق عليه من حديث جابر. [96] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [97] أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله. [98] أخرجه الطيالسي في مسنده من حديث عمران بن حصين.
إن في القرن الثاني من خلافة بني العباس، عند ابتداء تدوين العلم والحديث والفقه، قرر الفقهاء في كتبهم تحديد الرمي في أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب اجتهادًا منهم في ذلك، وأخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به والحكم بموجبه، حتى انتشر في كتب الأصحاب من سائر المذاهب، وحتى صار عند كثير من الناس بمثابة الأمر الواجب، ودليلهم في ذلك ما روى البخاري عن جابر قال: رمى النبي ﷺ يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس. وعن ابن عمر وعائشة بمعناه، كلها أحاديث صحيحة، لكنها ليست بصريحة في الدلالة على التحديد بما ذكروا.
لهذا ظن من ظن أن هذا حكم عام لازم للناس في جميع الأحوال والأزمان، وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزئه.
وخفي عليهم أن هذا التحديد جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء، يؤجرون على اجتهادهم فيه ولا يجب أن يتابعوا عليه، إذ ليس بلازم أن يقبل ما يقوله الفقيه بدون دليل يؤيده، ولا قياس يعضده، لكون التحديد بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لاسيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظر يقاس عليه، ولو فرض أنهم وجدوا دليل ابتدائه بالزوال، استنادًا واستدلالاً بفعل رسول الله ﷺ وأصحابه، لن يجدوا دليل انتهائه بالغروب؛ لأنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير لم نجد عن النبي ﷺ حديثًا صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًا، يأمر فيه بتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب حتى نلتزم العمل به طاعة لله ورسوله، ومع عدمه فإنه لا يجوز لنا أن نسمي ما قبل الزوال وقت نهي بدون أن ينهى عنه رسول الله ﷺ.
وغاية الأمر أنه مسكوت عنه رحمة منه بالناس، كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها»[99]. والنبي ﷺ رمى الجمرة يوم العيد قبل الزوال، ثم رمى بقية أيام التشريق بعد الزوال، ففعْلُه في هذا وهذا هو مشروع منه بسعة وقته لأمته، تأجل العمل بالرمي به إلى وقت الحاجة إليه، فمن قال باختصاصه قبل الزوال بيوم العيد دون أيام التشريق استدلالاً واستنادًا منه إلى فعل النبي ﷺ لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة يوم العيد، كما فعل رسول الله ﷺ، ولزمه أن يقول بوجوب الحلق يوم العيد ضحى، ووجوب النحر يوم العيد ضحى، كما فعل رسول الله ولم يقل بذلك أحد، بل جعله العلماء موسعًا يفعل في أي ساعة من أيام التشريق ليلاً ونهارًا، وكذلك الرمي إذ هو نظيرها في الحكم والوجوب، إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال إلى الغروب كان على المؤمنين كتابًا موقوتًا، كيف والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد وخطبهم في أوسط أيام التشريق، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج»[100]. وهذا النص قاطع للنزاع ودافع للخلاف إلى مواقع الإجماع.
وأما اختياره لما بعد الزوال للرمي في أيام التشريق، فقد ذكرنا سببه، وأنه أراد أن لا يحرج أمته، بل يخرج بهم مخرجًا واحدًا لرمي الجمار ولصلاة الظهر في مسجد الخَيْف، لكون حجه صادف شدة الحر، على أن هذا فعْل، والفعل لا يقتضي تحديد المفعول فيه بمجرده، لكون الأفعال الصادرة من رسول الله ﷺ موقوفة على دلائلها، فما كان منها للوجوب صير إليه أو للاستحباب صير إليه أو للإباحة صير إليه.
ثم إن القائلين بوجوب الرمي بعد الزوال، وأنه لو رمى قبل الزوال فعليه دم؛ استدلالاً بحديث جابر أن النبي ﷺ رمى جمرة العقبة يوم العيد ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس[101]. فإنهم يخالفون هذا الحديث نفسه، حيث يرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء، عملاً بظاهر المذهب من أنه يجوز رميها بعد نصف الليل، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز رميها بالليل، ولا يعتد به؛ لما روى أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: أرسلنا رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُراتٍ لنا من جمع بليل، فجعل يلطح على أفخاذنا ويقول: «أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» قال الترمذي: حديث صحيح، وهذا النص يقتضي المنع لكون الرمي لجمرة العقبة يعتبر من عمل يوم العيد أشبه النحر والحلق، ولأنه عمل يفعل قبل التحلل من الحج، فناسب الاحتياط فيه، ولهذا خرج النهي مخرج الزجر عنه، وإنما رخص للنساء في الرمي بالليل من أجل ضعفهن عن مزاحمة الناس.
قال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن: إن حديث ابن عباس هو أصح من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت[102]، لأن ابن عباس من جملة المدفوعين وقد جرى الحديث على يده، فهو أعرف الناس به، وحديث أم سلمة فيه اضطراب، ثم على تقدير فرض صحته، فإن الجمع بين الحديثين ممكن، وإن وقت الرمي يدخل بطلوع الشمس في حق من لا عذر له من الصبيان والرجال، أما النساء فإنه يجوز لهن الرمي قبل طلوع الشمس للخوف عليهن من زحمة الناس.. انتهى.
ويدل له ما في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر، أنها دفعت ليلة جمع من مزدلفة بعدما غاب القمر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم رجعت فصلت الصبح وقالت: إن رسول الله أذن للظُّعُن[103]. والمقصود أن هؤلاء الذين يدفعون من مزدلفة بالليل ويرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء قد خالفوا في سُنَّتين صحيحتين من سنن الحج:
إحداهما: دفعهم بالليل وهو خلاف عمل رسول الله ﷺ وعمل خلفائه وأصحابه، كما أنه خلاف نص القرآن في قوله: ﴿لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩﴾ [البقرة: 198-199]. والناس هم الرسول وأصحابه، وإنما أفاضوا من مزدلفة بعدما صلوا الصبح بغَلَس، ثم وقفوا يذكرون الله ويستغفرونه ويدعونه، ثم دفعوا إلى منى بعدما أسفروا جدًّا.
والمخالفة الثانية: رميهم جمرة العقبة بالليل، وقد نهى رسول الله ﷺ عن ذلك بصيغة الزجر، وقال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس»[104].
والمخالفة الثالثة: طوافهم للإفاضة الذي هو ركن الحج بالليل من ليلة العيد، وإنما طاف رسول الله وأصحابه ضحى يوم العيد، فتساهلوا فيما ينبغي الاحتياط فيه وشددوا فيما ينبغي التساهل فيه، فإن رمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج فناسب التسهيل فيه وعدم التشديد.
فبما أنه ثبت عن رسول الله ﷺ أنه نحر يوم العيد ضحى، وحلق يوم العيد ضحى، وطاف طواف الإفاضة يوم العيد ضحى، وسكت عن التحديد فجعله العلماء موسعًا يُفعل في أي ساعة من أيام التشريق، فكذلك الرمي، ويدل لذلك ما روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر عن وبرة قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ فقال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدتُ عليه المسألة، فقال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا. فهذا ابن عمر الذي هو أحرص الناس على اتباع السنة قد أحال هذا السائل على اتباع إمامه فيه عند أول سؤاله، لعلمه بسعة وقته، ولو كان يرى أنه محدد بالزوال كوقت الظهر لما وسعه كتمانه؛ لأن العلم أمانة، ولأنه لو سأله سائل فقال: متى أصلي الفجر ليلة المزدلفة؟ لم يجز أن يقول: إذا صلى إمامك فصلِّ؛ لكونه يعرف أن من الأئمة من يؤخر الصلاة عن وقتها، وقد يقدمها قبل وقتها كما أخبر النبي عنهم، وكذلك الرمي، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولم يكن من كلام رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فإن التحديد بهذا الزمن القصير قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق حتى شغلتهم شدة الزحام عن الذكر والتكبير وعن الدعاء والتضرع عند هذا المقام، بل وعن العلم بوقوع الجمار في موقعها المشروع من الأحواض، وهذا الزحام من المحتمل أن يزداد عامًا بعد عام، متى كان التحديد على هذه الحال، وذلك لعوامل تساعد على ذلك لم تكن معروفة في السنين السابقة، فمنها فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة، وكأن عواصمها بيوت متقاربة، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشيء قبل وقوعه، كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلاً، أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن لها أشراط وتقـارب أسواق»، وفي البخـاري: «من أشراطها تقارب الزمان»[105]، وليس من الممكن أن يفسر (تقارب الأسواق) بانضمام الأرض بعضها إلى بعض، ولكن بالآلات البرية والبحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات والتي كان الناس قبلها يقاسون الشدائد في الأسفار، يسيرون المدة الطويلة من الزمان ولا يبلغون منتهى قصدهم من وصول مثل هذه الديار، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار، وما يلاقونه من المخاوف والأوجال، لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفًا للأغراض، ونهبًا للأعراب، يعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم الأعمال، ولا يعولون عليه في منع هذا الظلم المستمر سوى تعززهم بالخفراء المستأجرين، على أنه لا يدفع عنهم الخطر بجملته، لكنه قد يقلله ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين بالنسبة إلى هذه السنين؛ لأنه لا يحج في الغالب إلا الناس المعدودون بالقرب من مكة، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر، لبعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق، فهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلا.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها
قلل الجبال ودونهن حتوف
الرِّجل حافية وما لي مركب
والكف صفر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات، ودكت عقبات التعويق وقطع دابر قطاع الطريق، وزد عليه حصول الأمن المستتب في أنحاء الحرم وسائر السبل المفضية إليه حتى إن الناس فيه آمَنُ منهم في أوطانهم، فمن أجله وفد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون وهم من كل حدب ينسلون وفي كل زمان يزيدون فاشتد الزحام عند هذا المقام وشق الرمي على الخاص والعام، من أجل أن الفقهاء حددوه بما بين الزوال إلى الغروب، وهو لا يسع الخلق الكثير فصار من تكليف ما لا يستطاع، وأن القول به مستلزم للعجز عنه في هذا الزمان. والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ومن المعلوم أن للفقهاء - رحمهم الله - تحديدات وتقييدات يستيقن العلم الصحيح نفيها، ويقوى في القياس ضعفها، كما حددوا مسافة السفر المبيح للقصر بيومين، وكما حددوا الإقامة الموجبة لإتمام الصلاة بأربعة أيام، وكما حددوا صحة الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها، إلى غير ذلك من التحديدات والتقييدات التي لا أصل لها.
وتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب هو نوع من ذلك، وقد خطب النبي ﷺ يوم عرفة ثم يوم العيد، ثم أوسط أيام التشريق، وبيَّن للناس ما يحتاجون إليه، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج»، حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعدما أمسيت؟ فقال: «ارم ولا حرج». رواه البخاري من حديث ابن عباس، والليل يدخل في مسمى المساء.
فنفى رسول الله ﷺ وقوع الحرج من كل ما يفعله الحاج من التقديم والتأخير لأعمال الحج التي تُفعل في يوم العيد وأيام التشريق.
وهذا الحكم قاطع للنزاع، يعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة وارد مورد التشريع العام، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وأما الاستدلال باستمرار عمل الناس على الرمي بعد الزوال زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه وأصحابه إلى هذه السنين.
فجوابه: أننا لا ننكر أن ما بعد الزوال هو أفضل ما يرمى فيه لو وسع الناس كلهم، لكننا لا نقول بفرضه فيه، وإنما غاية ما يقال: إن ما بعد الزوال هو وقت فضيلة، وما قبل الزوال وبالليل وقت إباحة، أشبه الوقوف بعرفة، فإن ما بعد الزوال إلى الغروب هو أفضل ما يوقف فيه اقتداءً بفعل رسول الله ﷺ وفعل خلفائه وأصحابه، والليل كله إلى فجر يوم العيد وقت إباحة للوقوف، وإن لم يستمر عليه عمل الناس.
والحالة الآن هي حالة ضرورة توجب على العلماء والحكام إعادة النظر فيما يزيل هذا الضرر ويُؤَمِّن الناس من مخاوف الخطر الحاصل من شدة الزحام والسقوط تحت الأقدام، إذ شدة هذا الزحام تزداد عامًا بعد عام، كما أنها لو ضاقت منى عن مناخ الناس كان من الجائز أن ينزلوا بما قرب منها، حتى ولو في وادي محسر؛ لأن ما جاور الشيء يعطى حكمه، كما قالوا في زوايد المسجد الحرام على حدوده السابقة، بأن حكم الزائد حكم المزيد في الحد والفضيلة.
ولأن المقصود من نزول منى هو إتمام أعمال الحج المتعلقة في مثل النحر والحلق والرمي، ولأنها حالة ضرورة، وقد قيل: إن الحاجة هي أم التحقيقات، وللضرورة حالات، ويتعلق بها أحكام غير أحكام السعة والاختيار.
ولو فكروا في نصوص الدين بإمعان ونظرٍ لوجدوا فيه الفرج من هذا الحرج؛ لأن نصوص الدين كفيلة بحل كل ما يقع الناس فيه من الشدات والمشكلات، يؤكده أن الرمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج، بحيث يباح للحاج أن يفعل كل شيء من محظورات الإحرام حتى النكاح، ولكون الإنسان إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه فقد تحلل التحلل الأول لحديث عائشة أن النبي ﷺ قال: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء». رواه أبو داود. فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث لو مات لحكم بتمام حجه، فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد، إذ هي من فروع المسائل الاجتهادية، يوضحه أن الفقهاء من الحنابلة والشافعية قالوا: إنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد فرماها في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأت أداء؛ لاعتبار أن أيام منى كلها كالوقت الواحد، قاله في المغني والشرح الكبير، وكذا في الإقناع والمنتهى، وهو المذهب، وحكى النووي في المجموع: أنه الظاهر من مذهب الشافعي.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن أيام منى كالوقت الواحد حسبما ذكروا، فإذًا لا وجه للإنكار على من رمى قبل الزوال والحالة هذه، فإن من أنكر الرمي قبل الزوال أو بالليل بحجة مخالفتها لفعل النبي ﷺ وفعل أصحابه، وقال بجواز رميها مجموعة في اليوم الثالث، فإنه من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه، فإن رمي كل يوم في يومه ولو قبل الزوال أقرب إلى إصابة السنة، بحيث يصدق عليه أنه رمى في اليوم الذي رمى فيه رسول اللهﷺ، لاسيما إذا صحب هذا الرمي ما يترتب عليه من الذكر والتكبير والدعاء والتضرع، بخلاف جمعها ثم رميها في اليوم الثالث في حالة الزحام، حتى لا يدري أصاب الهدف أم وقعت بعيدًا منه، فإن جمعها ثم رميها في اليوم الثالث إنما ورد في حق المعذورين برعاية الإبل من أجل غيبتهم عن منى، على أن كُلًّا من الأمرين صحيح إن شاء الله، لدخول الناس كلهم في واسع العذر بداعي مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.
وكل من تأمل الفتاوى الصادرة من النبي ﷺ بعد التحلل الثاني يجدها تتمشى على غاية السهولة واليسر، فقد استأذنه العباس في أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له، على أن هذا الإذن مستلزم لترك واجبين وهما المبيت والرمي، ولم يأمره في أن يستنيب من يرمي عنه ولا من يسقي عنه، على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة، وقيل له: إن صفية قد حاضت، قال: «فهل طافت طواف الإفاضة؟». قالوا: نعم، قال: «فلتنفر إذًا»[106]. فأسقط عنها طواف الوداع وهو معدود من الواجبات، ولم يأمرها في أن تستنيب من يطوف بدلها، ورخص لرعاة الإبل في المبيت عن منى، بأن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا جمار الأيام الثلاثة يرمونها يوم النفر في أي ساعة شاؤوا من ليل أو نهار.
واختلف العلماء في المعذور مثل المريض الذي لا يستطيع الرمي والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وكل من لا يستطيع الوصول إلى الجمار: هل يسقط عنه الرمي سقوطًا كليًّا أم يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه؟ فعند الفقهاء من الحنابلة والشافعية أنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه كالمعضوب، فإن لم يفعل فعليه دم، وبنوا على ذلك كون العذر في المبيت يسقط الإثم والدم، والعذر في الرمي يسقط الإثم دون الدم، وهذا تفريق بين متماثلين لا يقتضيه النص ولا يوافقه القياس، فإن النبي ﷺ لم يأمر العباس في أن يستنيب من يرمي عنه، ولم يأمر الحائض في أن تستنيب من يطوف عنها طواف الوداع، وهو معدود من الواجبات.
على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة؛ يؤكده أن ما تُرك من الواجبات للعذر وعدم القدرة على الفعل، فإنه بمنزلة المأتي به في عدم الإثم، ولأن الدم إنما يجب في ترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهذا لم يترك مأمورًا ولم يفعل محظورًا باختياره، وإنما تركه عجزًا، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[107]؛ لأن الله سبحانه إنما أوجب فرض الحج على المستطيع، وقد نص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه، أو أهله، أو ماله، فإذا كان هذا السقوط في أصل الحج فما بالك بفرعه، ولأن العبادات كلها ما قدر عليه منها فعله وما أعجزه سقط عنه، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء؛ ولهذا تجب الصلاة بحسب الإمكان، وما عجز عنه من شروطها وواجباتها سقط عنه. على أن شروط الصلاة وواجباتها آكدُ من شروط الحج وواجباته، فإنه لو ترك شيئًا من واجبات الصلاة عمدًا بطلت صلاته، بخلاف لو ترك شيئًا من واجبات الحج عمدًا، فإنه لا يبطل بذلك حجه ويجبره بدم.
وأما الاستدلال على وجوب الاستنابة بحديث جابر قال: حججنا مع رسول الله ﷺ ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. رواه أحمد وابن ماجه، فهذا لا يدل على الوجوب قطعًا، فإن أصل الحج لا يجب على الصبي وكذلك فرعه، ولأن التلبية عنهم ليست بواجبة وكذلك الرمي، وغاية الأمر أن يقال: إن استنابة المعذور من يرمي عنه أحوط خروجًا من خلاف من قال بوجوبه.
وأما الاستدلال بحديث: «خذوا عني مناسككم»[108]، وأن الرمي بعد الزوال هو من المناسك التي فعلها النبي ﷺ والتي أمر أن تؤخذ عنه.
فالجواب: أن هذه كلمة جامعة، فإن المناسك التي نسكها رسول الله ﷺ والتي أمر أن تؤخذ عنه تشمل الواجبات والمستحبات مثل الاغتسال للإحرام، والتلبية، والاضطباع في الطواف، والرمل، وتقبيل الحجر، وصلاة ركعتي الطواف، وغير ذلك من العبادات التي نسكها رسول الله في حجه وهي من المستحبات، وكل من عرف قواعد الشريعة وأصولها المعتبرة وما تشتمل عليه من الحكمة والمصلحة والرحمة ومنافاتها للحرج والمشقة؛ عرف حينئذ تمام المعرفة أن في الشريعة السمحة ما يخرج الناس عن هذه الشدة والمشقة التي يعانيها الناس عند الجمار؛ لأن الدين عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية، ومن قواعده أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: 78] ، وقال: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185].
فهذه المشقة التي يعانيها الناس عند الجمار لا يجوز نسبة القول بها إلى الشرع، إذ لا دليل على هذا التحديد لا من الكتاب ولا من السنة ولا قياس ولا إجماع. غاية القول فيها أنه جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء الذين ليسوا بمعصومين من الخطأ، وليس من كلام رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فإن رمي النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيما بين الزوال إلى الغروب هو بمثابة وقوفهم بعرفة فيما بين الزوال إلى الغروب، على أنه لم ينته بذلك حد الوقوف، بل الليل كله وقت للوقوف.
وبما أن الرمي من واجبات الحج، فإنه يتمشى مع نظائره من الواجبات مثل النحر والحلق والتقصير فيدخل بدخولها في الزمان، ويجاريها في الميدان، إذ الكل من واجبات الحج التي يقاس بعضها على بعض عند عدم ما يدل على الفرق، وقد دلت نصوص الشريعة السمحة على أن الصواب في مثل هذه المسألة هو وجوب التوسعة، وعدم التحديد بالزوال، بل يجوز قبله وبالليل، كما دلت عليه نصوص طائفة من العلماء، فلم تُجمع الأئمة - ولله الحمد - على المنع ولا على وجوب هذا التحديد، إذ كانوا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى الرسول، فيتبين لهم بذلك كمال دين الله وحكمة شريعته وكونه صالحًا لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في شؤون عباداتهم من حجهم وصلاتهم وصيامهم.
وبالجملة، فإن القول بجواز الرمي أيام التشريق قبل الزوال مطلقًا هو مذهب طاوس وعطاء، ونقل في التحفة عن الرافعي أحد شيخي مذهب الشافعي الجزم بجوازه، قال: وحققه الأسنوي وزعم أنه المعروف مذهبًا.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال للمستعجل مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد، ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمْيُ متعجل قبل الزوال، قال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال، وقال في الواضح: ويجوز الرمي بعد طلوع الشمس في الأيام الثلاثة، وجزم به الزركشي، ونقل في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل أو أية ساعة من النهار، قال الموفق في كتابه الكافي: وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم، قال: فيرمون كل يوم في الليلة المستقبلة، قال في الإنصاف: وهذا هو الصواب، وقاله في الإقناع والمنتهى وهو المذهب.
فعلم من هذه الأقوال أن للعلماء المتقدمين مجالاً في الاجتهاد في القضية وأنهم قد استباحوا الإفتاء بالتوسعة، فمنهم من قال بجواز الرمي قبل الزوال مطلقًا، أي سواء كان لعذر أو لغير العذر، ومنهم من قال بجوازه لحاجة التعجل، ومنهم قال بجوازه لكل ذي عذر، كما هو الظاهر من المذهب، فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وآكدُ من كل عذر، فيدخل فيه جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب، والنبي ﷺ ما سئل يوم العيد ولا في أيام التشريق عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج»[109] فلو وجد وقت نهي غير قابل للرمي أمام السائلين لحذرهم منه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، فسكوته عن تحديد وقته هو من الدليل الواضح على سعته، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين عن الخطأ ولم يكن من كلام من لا ينطق عن الهوى. فإن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوا الله على عافيته ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
حرر في 5 شعبان عام 1393هـ.
[99] رواه الدارقطني والطبراني في المعجم الكبير عن أبي ثعلبة. [100] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو. [101] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث جابر. [102] أخرجه البيهقي في السنن الصغرى من حديث عائشة. [103] الظُّعُن: النساء، واحدتها: ظعينة. والحديث متفق عليه من حديث أسماء. [104] أخرجه أصحاب السنن من حديث ابن عباس. [105] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [106] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [107] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [108] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث جابر. [109] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.
الحمد لله ونستعين بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما بعد:
فإنني رأيت في جريدة الأهرام أقوالاً متعددة صادرة من علماء بلدان متباعدة كلها تحوم حول موضوع دماء المناسك والهدايا التي تذبح بمنى وقت موسم الحج، وينددون بأن تركها بعضها فوق بعض أنه إضاعة للمال، وينددون كما يُرددون بأن إهمالها بهذا الوضع أنه من مناهي الشرع، ويُنحون بالملام على تركها بهذه الصفة، وينقل بعضهم عن بعض صورة البشاعة والشناعة، وقد قلد بعضهم بعضًا في الحملة عليها، وهم مجتهدون ويغفر الله لنا ولهم.
وإن المشكلة كل المشكلة فيها هو شدة الزحام حيث يطأ بعضهم بعضًا بالأقدام، والذي لم يُعهد له نظير في شيء من الأزمان أو البلدان، حتى لو كان بين الرجل وبين ذبيحته عشرة أقدام لما استطاع الوصول إليها بالسهولة، ولا ما تمكن من حملها إلى محله، والحجّاج في يوم العيد هم أجوع ما يكونون للحم لعدم توفره لديهم وعدم قدرتهم على الوصول إليه وعلى حمله إلى منازلهم؛ لهذا يشتد شوقهم إلى أكل اللحم في يوم العيد، وينظرون إليه نظر الحِدأة، ولا يُسعَد بالتنعم بأكله في خاصة هذا اليوم إلا الجُلداء الأقوياء الذين يشقون الصفوف الزحام ويخوضون الدماء بالأقدام، فينقلون منه ما يشتهون أكلاً وادخارًا وبيعًا، غير أن الذبح والسلخ والتنظيف ليس من الشيء الهيّن، ولا كل أحد يستطيعه، فيأخذ أحدهم في عملية الذبح والسلخ والتنظيف والتقطيع قدر ساعة كاملة، فما بالك بالملايين من ذبح الإبل والبقر والغنم إذ تنظيمها في مثل هذا المكان الضيق والوقت القصير مُشق إلى حد النهاية، فهم يعجزون كل العجز عن توصيل هذه اللحوم إلى الحجاج في منى وإلى الفقراء من أهل مكة، ولا شك أن المطالبة بذبحها وسلخها وتنظيفها أنه أشق، إذ هو من تكليف ما لا يُستطاع، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولو فرضنا أن الحكومة عملت عملها في تنظيم هذه اللحوم لتوزيعها فلا شك أن فقراء الحرم هم أحق بها وأهلها، إذ هم المخصوصون بها في كتاب الله وسنة رسوله فلا معنى لعدولها عنهم.
ولو وزِّعت هذه اللحوم المركومة لما وَسِع الشخص الواحد من الحجاج مثقال بيضة من اللحم، وقد أدخل علماء السنة الذبح في عقائدهم، فقرّروا أن من الشرك بالله الذبح لغير الله؛ لقوله سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2]. وقوله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ﴾ [الأنعام: 162-163]، وعن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غير منار الأرض». رواه مسلم.
إن الأمم في قديم الزمان كانوا يقدمون قرابين من الإبل ومن البقر والغنم وغير ذلك من الشيء الكثير، فمتى قُبلت منهم قرابينهم نزلت نار من السماء فأحرقتها، وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ﴾ [آل عمران: 183]. لقد استفحل أمر ذبح القرابين عند العرب وعلى قبور عُظمائهم وهي قرابين شركية، يقول بعضهم:
وإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم[110] الهجان وكل قرن سابح
فحرم الإسلام سائر الذبح لغير الله كالذبح للقبر والذبح للزار فكلها من الذبح لغير الله.
ولما قدم وفد خولان على النبي ﷺ مسلمين فقال لهم رسول الله: «ما فعل عم أنس» وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه (عم أنس). فقالوا: قد أبدلنا الله به ما جئتنا به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكين به ولو قدمنا عليه لهدمناه فإننا منه في غرور وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» فقالوا: لقد أسنتنا - يعني أجدَبنا سنة - حتى كنا نأكل الرمة فجمعنا ما قدرنا عليه حتى اشترينا مائة ثور ونحرناها كلها قربانًا لعم أنس وتركنا السباع تردها ونحن والله أحوج إليها من السباع، ولقد رأينا العشب يواري محازم الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا (عم أنس)، وهذا من فنون عملهم وتوسعهم في شركهم، حكاه العلامة ابن القيم في كتاب الوفود من زاد المعاد ص50 الجزء الثالث.
فأبطل الإسلام سائر الذبائح الشركية وحرّم أكلها على اختلاف أنواعها، وأثبت الذبائح الشرعية كنُسك التمتع والقران، وكذا ما أُهدي للحرم من إبل وبقر وغنم، وكجزاء الصيد ودم الإحصار، وما وجب بترك واجب أو فعل محظور، ومثله الأضحية والعقيقة والمنذور ذبحه لله، فكل هذه من الذبائح الشرعية التي أثبتها الإسلام ونزل فيها القرآن، وكان النبي ﷺ يبعث جملة كثيرة من الإبل إلى البيت حتى قدرت بمائة ناقة، وكان هديه فيها أن يعلق النعل على رقابها ويشق طرف سنامها حتى يسيل منه الدم، فيعرف الناس أنها هَدي فيحترمونه. تقول عائشة: فتلت هَدي قلائد النبي ﷺ فلم يمتنع من شيء كان مباحًا له. ([111]) وكان يأمر سائق الهدي متى عطب شيء منه بأن يذبحه ولا يأكل هو ولا رفقته شيئًا منه، فلو عطب الهدي كله، لذبحه، ولم يأكل هو ولا رفقته شيئًا منه وترك السباع تأكله، لكونه قد بلغ الهدي محله، فبلغت النية مبلغ العمل فيه، قالت هذا الكلام في معارضتها لما رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إذا دخل هلال ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئًا»، وقالت عائشة: إنما قال هذا فيمن أحرموا بالحج، أما الأضحية والأمر بكف اليد عن أخذ الشعر والظفر فلم يثبت عنه شيء من ذلك، تعني أن الحديث انقلبَ على أم سلمة، وعائشة هي أعلم بالحديث من أم سلمة.
وقد نحر الرسول وأصحابه هديهم بالحديبية حين صدهم المشركون عن إتمام عُمرته، وحيث جرى عقد الصلح بينه وبين سهيل بن عمرو نيابة عن قريش، فنحر هديه وحلق رأسه ولبس ثيابه ورجع إلى بلده المدينة، وترك الهدي مذبوحًا يأكله من رغب فيه، والحديبية تقع خارج الحرم، حتى إنهم إذا أرادوا أن يصلوا فريضة من الصلاة دخلوا في الحرم.
وأهدى عام حجّة الوداع مائة بَدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده عدد عمره الشريف، وهي صواف على قوائمها الثلاثة معقولة يدها اليسرى، وكان يطعنها بالحربة بين أصل العنق والصدر، ووكّل عليًّا فنحر ما بقي منها، ومن جملتها بعير في أنفه بُرّة من ذهب لأبي جهل. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ﴾ [الحج: 36]. - أي قائمة على ثلاث قوائم - ﴿...فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٣٧﴾ [الحج: 36-37]. فشرع الله سبحانه هذا الذبح للحيوان تشريفًا وتكريمًا ليوم عيد الحج الأكبر وأيام مِنى حتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين وما يقربونه فيها لآلهتهم من القرابين، كما قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ﴾ [الحج: 34]. ثم ذكر سبحانه أن تعظيم هذا الذبح في مثل هذا اليوم وفي أيام التشريق أنه من تعظيم حرمات الله، ومن الدليل على إيمان القلب وانقياد الجسم لطاعة الله عز وجل. فقال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ ٣٢﴾ [الحج: 32]. وفسّر ابن عباس تعظيم الشعائر باستسمان الهدي واستحسانه. وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمرٌ منه سبحانه بإباحة الأكل من هدي المتعة والقران، والأمر للإباحة، والقانع هو: السائل، والمعتر هو: الذي يتعرض لك لتراه فلا تنساه من لحم الهدي. وفي هذه الآية الرد الصريح على من زعم عدم التوقيت لمكان ذبح مناسك الحج وكونه محجوجًا بالقرآن في قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ ٣٣﴾ [الحج: 33]. ثم وضّحت السنة ذلك فيما رواه أبو داود وابن ماجه أن النبي ﷺ قال: «منى كلها منحر، وفِجاج مكة كلها منحر» فلم يُصب من زعم عدم التوقيت لمكان الذبح.
فالقول بإخراج الهدي الواجب كهدي المتعة والقِران عن محله بمكة إلى البلدان البعيدة لإنقاذ أهلها من الجوع - من الخطأ الواضح الذي لا مبرّر له إلا التقليد.
وإن الناس بمكة وبمنى وقت الحج أكثر من أن يُحصوا، وكلهم في حاجة إلى اللحم، وقد لا يستطيع أكثرهم الحصول عليه من أجل شدة الزحام الذي يزداد عامًا بعد عام لعوامل لم تكن معروفة في السنين السابقة، منها، فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات والسفن وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر، حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها بيوت متقاربة، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشيء قبل وقوعه كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلاً أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن لها أشراط وتقارب أسواق»، وفي البخاري: «من أشراطها تقارب الزمان» وليس من الممكن أن يفسر تقارب الأسواق بانضمام الأرض بعضها إلى بعض، ولكن بالآلات البرية والبَحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات، والتي كان الناس قبلها يُقاسون الشدائد في الأسفار، يسيرون مدة طويلة من الزمان ولا يبلغون منتهـى قصدهم من هذه الدار، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار، وما يُُلاقونه من المخاوف والأوجال، لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفًا للأغراض ونهبًا للأعراب، ويُعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم وسائل الكسب، ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين، ولا يَحج في الغالب منهم إلا من كان قريبًا من مكة، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر لبُعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق، فهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
كيف الوصول إلى سُعاد ودونها
قُللُ الجبال وَدونهن حتُوف
الرجل حافية وما لي مركب
والكف صفر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان فقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات ودُكت عقبات التعويق وقُطع دابر قطاع الطريق، وزد عليه حصول الأمن المُستتب في أنحاء الحرم وسائر السبل المفضية إليه، حتى إن الناس فيه آمن منهم في أوطانهم، فمن أجله وفد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون وهم من كل حدب ينسلون وفي كل عام يزيدون. يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ ٢٨﴾ [الحج: 27-28]. والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، ومنها يوم عرفة الذي هو أفضل أيام الدنيا، كما أن الأيام المعدودات المذكورة في قوله سبحانه: ﴿۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ﴾ [البقرة: 203]. يعني بالأيام المعدودات أيام التشريق.
وحكى القرطبي عن الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام مِنى وهي أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى الثالث عشر منه.
ويؤيده حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم قال: إن أناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديًا ينادي «الحج عرفة، من جاء ليلة جَمْع - أي: مزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة أيام: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ﴾ [البقرة: 203]. وأردف رجلاً ينادي بهن بهذه الكلمات ليعرف الناس الحكم. وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر بها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام مِنى ثلاثة وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له. ومن تأخر إلى الثالث جاز له. بل هو الأفضل لأنه الأصل وفيه زيادة في العبادة. فالحديث مفسر للأيام المعدودات وعليه العمل عند أهل العلم كما قال الترمذي في جامعه. وبيّنت السنة أيضًا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التكبير أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال.
فمن أجله اشتد الزحام وشق على الخاص والعام، وقد بذلت حكومة المملكة العربيّة السعودية حرسها الله جميع وسائل التسهيل والتنظيف ووسائل الصحة ومحاربة الأوبئة نسأل الله أن يوفقهم لسعادة الدنيا والآخرة.
والحاصل أن هذه اللحوم بمنى والتي يستبشع الناس رؤيتها ويتمنون نقلها إلى البلدان الضعيفة أهلها؛ أنها لو قُسمت هذه اللحوم بين الحجاج والمقيمين بمكة لما وسع الشخص الواحد قدر بيضة منها، وأن الحكومة وغير الحكومة عاجزون عن إيصالها إلى الفقراء الموجودين بمنى وبمكة، فما بالك بتكليفهم بتنظيمها في المعلبات ثم إرسالها إلى الخارج، إن هذه الدعوى تستحق أن لا يستجاب لها، ولو فرضنا أنه لا يأكلها إلا الكلاب والسباع فإن في كل كبد رطبة أجر كما روى البخاري في صحيحه في قصة المرأة البغي حيث رأت كلبًا يلهث عطشًا فنزعت له موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها. وفي رواية: قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: «في كل كبد رطبة أجر»[112]. فالهدي متى بلغ محله وسمى الله صاحبه عليه ثم نحر فإنه يُجزئ سواء أكل أو تُرك، وقد روى ثابت بن ضحاك أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة - وهي موضع معروف - فقال رسول الله ﷺ: «أفيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟» قال: لا. قال: «هل فيها عيد من أعيادهم؟» قال: لا. قال: «فأوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في ما لا يملك ابن آدم». ولم يستفصل رسول الله عن هذه الإبل وهل يوجد فقراء يأكلونها أو لا يوجد، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه قال: انحرها سواء أكلها الأوادم أو بهائم الوحوش.
وسئل أحد العلماء عن رجل نحر هديه وتركه ولم ير أحدًا أكل منه، فأجاب بأنه يضمنه بمثله أن يذبح بدله، وهذا الجواب واقع غير موقعه الصحيح لأنه بمثابة من يوجب على كل شخص حراسة هديه في تلك البقعة المخاضة من الدماء إلى أن يجد من يأكله، وهو من تكليف ما لا يطاق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فالأكل مباح وليس بواجب.
ثم نرجع إلى بقية الكلام في الدماء الواجبة فجزاء حلق الرأس للمحرم يفعل في أي مكان في الحرم وخارجه، كما نحر رسول الله ﷺ دم الإحصار في الحديبية، أما جزاء الصيد فإنه وقت نزول القرآن كان الصيد يمشي بين الإبل بحيث تناله أيدي الناس ورماحهم كما قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ﴾ [المائدة: 94]. وفي هذا الزمان قد انقطع الصيد فلا نطيل الكلام في موضوع جزاء ما هو معدوم، ومثله الهدي الذي يساق إلى الحرم.
يبقى الذبح المستحب كذبح الأضحية، فالعلماء لا يستحبون الجمع بين ذبح المتعة والقران وذبح الأضحية، بل يكفي ذبح المتعة والقران عن ذبح الأضحية، كما في البخاري أن النبي ﷺ ضحى عن نسائه ببقر. يعني بذلك نسك الحج، فالهدية التي تُهدى إلى الحرم قد انتهـى عمل الناس بها في هذا الزمان لانتهاء من يعمل بها مع كونها سنة مشهورة معمولاً بها في صدر الإسلام ولا تزال باقية. أما جزاء اللبس والطيب وحلق الرأس فإنه يفعل في أي مكان في داخل الحرم وخارجه، ومثله المحُصَر. وقد نحر رسول الله ﷺ هديه بالحديبية وحلق رأسه ولبس ثيابه. ثم رجع إلى المدينة، ولا نطيل الكلام في موضوعه وهو واضح مشهور.
وقد قال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين في شأن ذبح القرابين من الهدايا ودماء النسك والأضاحي: ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تُساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها؛ فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده. وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلو دينه على كل دين، فهـذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بها ولله الحمد.
وقد وُجد من العلماء من يقول بجواز ذبح النُّسك كدم المتعة والقران في اليوم السابع والثامن والتاسع من عشر ذي الحجة أخذًا منه برواية عن الإمام الشافعي بناءً على أن دم المتعة والقران هو دم جُبران.
والنبي ﷺ خطب الناس يوم عيد النحر فقال: «أيّ يوم هذا؟» فسكتوا، فقال: «أليس يوم النحر؟»[113]؛ لأن كل الناس من الحجاج والمقيمين وسائر أهل الأمصار كلهم يذبحون لله في هذا اليوم وفي سائر أيام التشريق فُسمي يوم العيد بيوم النحر، واليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر، واليوم الثاني يسمى يوم النفر، واليوم الثالث يسمى يوم الرؤوس، ثم ينتهي الذبح بغروب الشمس. وحقق العلامة ابن القيم في زاد المعاد أن ذبح النُّسك في المتعة والقران أنه دم نسك وليس بدم جبران، لكون الحج والعمرة في حق المتمتع والقارن تامين بدون نقص.
والحق أن من قال بجواز ذبح النسك في أيام السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة فإنه بمثابة من قال بجواز ذبح الأضحية قبل عيد النحر، والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد فقال: «إنا نريد أن نصلي ثم ننحر، من فعل هذا فقد أصاب سُنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله»[114]. ولما طاف النبي ﷺ بالبيت ومعه أصحابه وسعوا بين الصفا والمروة فقال لهم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا؟ فقال: «بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»[115] فحل الناس كلهم وقصروا رؤوسهم ولبسوا ثيابهم ما عدا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي كأبي بكر وعلي، فقد بقوا على إحرامهم ولم يحلوا منه إلا يوم العيد بعدما رموا جمارهم ونحروا هديهم؛ لقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥ﴾ [البقرة: 196] ومحله المكاني هو منى ومكة، ومحله الزماني هو يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة.
وأما تشنيعهم بإحراق اللحوم بمنى أو بدفنها، فإن الخطب فيها يسير إذ هي من الأمر الحقير فلا تحتمل النكير، إذ كل شيء يضر ولا ينفع فالنار أولى به. والقصد من هذا التحريق أو الدفن للحم هو اتقاء تعفن اللحم الذي ينشأ عنه الوباء، وقد حرّق الصحابة المصاحف المخالفة لمصحف عثمان صيانة لمصحف الإمام عن الزيادة فيه أو النقصان وهي أعلى وأجل من تحريق بقايا هذه اللحمان، ولأن مكة كسائر بلاد الحجاز معروفة بشدة الحر، ويسرع تعفن اللحم إليها في أول يوم تذبح فيه الدابة، وهو لحم وما لجرح بميت إيلام، ثم إن نحر مناسك الحج كدم المتعة والقران هي من أعمال التحلل من الحج كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وحلق الرأس وطواف الإفاضة كلها تفعل في الحرم في خاصة يوم العيد وأيام التشريق، فلو أخرها عن هذه الأيام لم تصح، أو أخرج نحر النسك إلى بلدة فإنما هي شاة لحم قدمهما لأهله وليست من النسك في شيء.
أما إخراج لحوم الهدايا والنسك والهدايا إلى البلدان الضعيفة أهلها فإنه جائز، فقد رأينا الناس في السنين السالفة ينشرون اللحم لتجفيفه في منى ثم يحملونه معهم إلى بلدهم بدون نكير، وإنما سُميت أيام التشريق لكون الناس يشرقون أي يجففون فيها اللحم، وقد ضاقت الأرض على الناس اليوم بما رحبت فلم يتمكنوا من عمل كانوا يفعلونه سابقًا. والنبي ﷺ كان قد نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاثة أيام من أجل الدافة التي دفّت من فقراء اليمن، ثم إنه رخص لهم في ادخارها فقال: «كلوا وادخروا»[116]. لهذا كان الصحابة يحملون معهم قديد اللحم إلى المدينة، ولا شك أن إرسال هذه اللحوم إلى البلدان الضعيفة خير من إحراقها أو دفنها، وسيأتي الزمان الذي تتمكن فيه الحكومة أو إحدى الشركات من تنظيم هذه اللحوم للانتفاع بها والتمتع بأكلها وما ذلك على الله بعزيز.
ولسنا في رسالتنا هذه نحاول تفتير الهمم ولا حلَّ عزائم الأمم، وإنما نتكلم على الأمر الواقع الذي نشاهده بالعيان، وكونه من الصعب بمكان لقوة معارضة المانع للمقتضى، وقد تَسنَح الفرصة للحكومة أو لإحدى الشركات في تنظيم هذا العمل على حَسب ما يرضي الناس، ثم إرساله إلى المستحقين من المستضعفين في الخارج، وما ذلك على الله بعزيز، إذ هذا أفضل من دَفنه وإحراقه الذي هو ضياع المال وقد قيل:
ولم يُحفظ مُضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المُضاع
وقد رأيت في إحدى المجلات بالمملكة العربية السعودية بيان إحصاء ما يذبح في موسم الحج فأفاد قائلاً: إنه يتم ذبح سبعمائة ألف رأس من الإبل والبقر والغنم في عيد يوم النحر، وفي اليوم الثاني مائتي ألف رأس، وفي اليوم الثالث مائة ألف رأس من الحيوان، ولهذا كانت المشكلة في تراكم هذه الأعداد الضخمة في هذا الوقت القصير، والناس لا يتمكنون من الذبح والسلخ والتنظيف إلا خلال أربع ساعات تقريبًا، ثم يفرون ويهربون من الشمس إلى الظل وأكثر العمال مشغولون بالعيد في بيوتهم.
وأفاد صاحب المقالة بأن هذا الحيوان يفسد أي يسرع إليه التعفن في مدة ساعتين من الذبح كما هي تحت ظروف درجات الحرارة العالية، وكذلك لا يوجد في العالم أجمع مصنع أو مجموعة مصانع تعمل لمدة ثلاث ساعات فقط أو ست ساعات لتصنيع سبعمائة ألف من الحيوان ثم يقف بقية العمل. انتهى.
وهذا هو السبب الذي قلنا: إن تنظيم هذه اللحوم في هذه الأيام القصيرة وفي خاصة مِنى المزحومة بالخيام وبالحبال وبالأوتاد حتى لا يوجد بقعة خالية لنشر اللحم بها. لهذا قلنا: إن تنظيم اللحم متعذر فهو من تكليف ما لا يستطاع.
إذا شئت أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
قلنا هذا إيضاحًا للعذل وإثبات واسع العذر مما قد يرجف به المرجفون، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
[110] يعني بالكوم: السمان من الإبل، والقرن السابح: الحصان. [111] ) أخرجه النسائي من حديث عائشة بلفظ مقارب، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين. [112] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [113] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [114] أخرجه ابن حبان من حديث البراء بن عازب. [115] أخرجه مسلم من حديث جابر. [116] أخرجه النسائي وأحمد من حديث عائشة.
سئل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية - رحمه الله - عن طواف الحائض لتكميل حجها، فأجاب بما يدل على جواز طوافها للضرورة والحاجة، ويتم بذلك حجها... في كلام له طويل ممتع موشح بالدلائل الجلية، والبراهين القطعية، أورد هذه المسألة والأجوبة عليها من ابتداء صفحة 436 إلى 456 من المجلد الثاني الطبعة القديمة من الفتاوى، وهذا ملخص كلامه على سبيل الاختصار - رحمه الله - قال:
ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت»[117]، وقال لعائشة: «اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري»[118]، وصح عنه أنه قال: «لا يطوف بالبيت عريان»[119]. قال: ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر الطائفين بالوضوء كما أمر المصلين بالوضوء، فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت إما أن يكون لأجل اللبث في المسجد، لكونها منهية عن اللبث فيه وفي الطواف لبث، أو عن الدخول في المسجد مطلقًا لمرور أو لبث، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنص والإجماع، ومس المصحف عند عامة العلماء، وكذلك قراءة القرآن في أحد قولي العلماء.
فإن كان تحريمه لأجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ورواه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وهذا الحديث قد تُكلِّم فيه، فإنه لم يحرم عليها عند الضرورة والحاجة، وروى مسلم في صحيحه وغيره عن عائشة قالت: قال لي رسول الله ﷺ: «ناوليني الخُمْرة من المسجد»، فقلت: إني حائض. فقال: «إن حيضتك ليست في يدك».
ولهذا ذهب أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث جمعًا بين الأحاديث، وأباح أحمد وغيره اللبث في المسجد لمن يتوضأ، لما رواه هو وغيره عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، لكونه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء فلا تبقى جنابته تامة - يتوضأ كما ثبت من حديث عمر وعائشة - قال: وأما الحائض فحدثها دائم ولا يمكنها الطهارة، فهي معذورة في مكثها ونومها، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب، مع حاجتها إلى المسجد، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ولهذا كان أظهر قولي العلماء: أنها لا تمنع من قراءة القرآن إذا احتاجت إليه، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد، وعلى هذا متى احتاجت إلى الفعل من المكث في المسجد والطواف أو القرآن استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لأجل الضرورة.
ومن المعلوم أن الصلوات هي أكبر الواجبات على الإطلاق وتجب في اليوم والليلة خمس مرات، وأجمع العلماء على اشتراط الطهارة لها، وتباح بل تجب للحاجة لعادم الطهورين الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، والصلاة إلى غير القبلة للضرورة، وصلاة العريان عند عدم ما يستر به عورته، ونحو ذلك مما أجمع العلماء على جواز فعله للضرورة، وطواف الحائض أولى بالجواز من هذا كله. فلا ينبغي للعالم أن ينظر إلى الحدث المقتضي للحظر ولا ينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن، كل ما تحرم معه الصلاة فإنها تجب معه عند الحاجة، إذا لم تمكن الصلاة إلا كذلك، وكذلك الطواف.
وذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن سليمان فيما رواه أحمد عنهما إلى أن الطواف للمحدث غير محرم، قال عبد الله في مناسكه: حدثني أبي عن سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة عن حماد ومنصور، قال: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسًا. وكذا قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، فعلى قول هؤلاء لا يحرم طواف الحائض والجنب، إذا اضطرا إلى ذلك، ومتى كان الجنب وكذا الحائض إذا عدما الماء صليا بالتيمم، وإذا عجزا عن التيمم صليا بلا غسل ولا تيمم، وهذا هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، فلا شك أن الحائض متى عجزت عن الطهارة، فإنه يجوز لها أن تطوف والحالة هذه، إذ الصلاة آكد في الوجوب من الطواف، وقد صلى عمرو بن العاص بأناس من الصحابة وهو جنب وعنده الماء، لكنه خاف على نفسه من استعماله من شدة البرد فتيمم، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «ما حملك أن تصلي بأصحابك وأنت جنب؟!» قال: يا رسول الله تذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾[النساء: 29] فتيممت، فضحك النبي وأقرّه على صلاته ولم يأمره ولا من معه بالإعادة. [120]
فطواف الحائض التي لا يمكنها الطهارة والحالة هذه أولى بالجواز، وإذا كانت إنما منعت عن الطواف لأجل المسجد، فمعلوم أن إباحة ذلك للعذر أولى، كما أبيح لها قراءة القرآن للحاجة ومس المصحف للحاجة، لهذا نقول: إنها إذا اضطرت إلى الطواف، بحيث لا يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض ويتعذر المقام عليها إلى أن تطهر فهذا الأمر دائر بين أن تطوف مع الحيض وبين إلزامها بالمقام بمكة حتى تطهر، وهذا من الضرر الذي ينافي الشريعة. وكثير من النساء إذا لم ترجع مع من حجت معه لا يمكنها بعد ذلك الرجوع، ولو قدر أنها رجعت قبل كمال حجها، فإنه يبقى وطؤها محرمًا وهي عند أهلها، وهذا من أعظم الحرج الذي لا يوجب الله مثله، إذ هو أعظم من إيجاب حجتين، ويحتمل متى رجعت إلى الحج أن يقع بها مثل ما وقع بها من الابتلاء بالحيض.
وأما وجوب القضاء على المفسد لحجه فمن أجل تفريطه بإفساده لحجه، وهذه لم تفعل ما تلام عليه من تفريط أو إفساد. وقد تنازع العلماء في قراءة القرآن للحائض وليس في منعها من القرآن سنة أصلاً، فإن قوله: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن»[121] حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وليس لهذا أصل عن النبي ﷺ ولا حدَّث به أحد من المعروفين بنقل السنن، وقد كانت النساء يحضن على عهد رسول الله، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة والصيام لكان هذا مما بينه النبي لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين عنه، وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي ﷺ في ذلك نهيًا لم يجز أن تحل حرامًا، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه، علم أنه ليس بمحرم. وإنما منعت الحائض من الطواف إذا أمكنها أن تطوف وهي طاهر؛ لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه وليس كالصلاة من كل الوجوه، والحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس: الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، قد قيل: إنه من كلام ابن عباس، والله سبحانه إنما فرض في الحج طوافًا واحدًا ووقوفًا واحدًا، فكذلك السعي، حتى أحمد في نص الروايتين عنه لا يوجب على المتمتع إلا سعيًا واحدًا، إما قبل التعريف وإما بعده، بعد الطواف. ولهذا قال أكثر العلماء: إن العمرة لا تجب كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وهو الأظهر في الدليل، فإن الله لم يوجب إلا حج البيت ولم يوجب العمرة، وإنما أوجب إتمام الحج والعمرة على من يشرع فيهما. وهذا مما يفرق به بين طواف الحائض وصلاة الحائض، فإنها تحتاج إلى الطواف الذي فرض الله عليها مرة في العمر، وقد تكلفت السفر الطويل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، فأين حاجة هذه إلى الطواف الذي يكمل به تمام حجها، وقد تقدم القول الراجح في أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن لحاجتها، وحاجتها إلى هذا الطواف أعظم.
ثم إن اشتراط الطهارة من الحدث للطواف، كالطهارة للصلاة فيه نزاع والاحتجاج بقوله: «الطواف بالبيت صلاة»[122] حجة ضعيفة، فإن نهايته أن يشبه بالصلاة وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، فمن أوجب له الطهارة فلا بد له من دليل شرعي وما أعلم ما يوجب ذلك، ثم إني تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه، ولا نسلم أن جنس الطواف أفضل من جنس الصلاة، بل جنس الصلاة أفضل منه، وقد صحت في حالة الضرورة بدون وضوء ولا تيمم كعادم الطهورين، فكيف لا يصح طواف الحائض مع الضرورة والحالة هذه؟ فإنها إذا اضطرت إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقًا كان أولى بالجوار.
فقول النبي ﷺ: «الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت»[123]، وقوله لعائشة: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري»[124] هو من جنس قوله: «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ»[125]. وقوله: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»[126]، وقوله: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب»[127]، فإذا كان قد حرم المسجد على الحائض والجنب ورخص للحائض أن تناوله الخُمْرة من المسجد، وقال لها: «إن حيضتك ليست في يدك»، وقد أُبيح المرور للجنب، وكان الصحابة يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا مع أنه لا ضرورة إليه، فإباحة الطواف للضرورة لا يتنافى تحريمه بذلك النص كإباحة الصلاة بدون وضوء ولا تيمم للضرورة وإباحة صلاة المرأة بدون خمار للضرورة. ولم تأت السنة بمنع المحدث من المسجد، وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولى والأحرى، كقراءة القرآن. فلو حرم الطواف عليها مع الحيض، فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة، ومن جعل حكم الطواف كحكم الصلاة فيما يحل ويحرم، فقد خالف النص والإجماع.
وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ولا يحتج بها. ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول ﷺ وتلقته الأمة بالقبول، وبين ما قاله بعض العلماء مع تعذر الحجة على صحته، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، والمقلد ليس معدودًا من أهل العلم. وإذا دار الأمر بين أن تطوف طواف الإفاضة مع الحيض للضرورة وبين ألا تطوف، كان أن تطوف مع الحيض أولى، فإن في اشتراط الطهارة للطواف نزاعًا معروفًا، وكثير من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون: «إنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها وعليها دم مع قولهم: إنها تأثم بذلك، وأهل هذا القول يقولون: إن الطهارة واجبة فيها لا شرط، والواجبات كلها تسقط بالعجز، وحينئذ فهذه المرأة المحتاجة للطواف مع الحيض أكثر ما يقال: إنه يلزمها دم، كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وإلا قيل: إنه لا يلزمها دم مع الضرورة.
وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالإجزاء مع الدم ولم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزئها إلا الطواف مع الطهر مطلقًا، وحينئذ فليس مع المنازع - القائل بمنعها من الطواف حتى تطهر، ولو كانت مضطرة - نص ولا قياس ولا إجماع، وقد بينا أن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث، هل هي واجبة للطواف؟ وأن قول النفاة للوجوب أظهر، فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة عليها ولا على الطهارة شرط في الطواف.
وذكر أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن الميموني، قال لأحمد: من سعى وطاف طواف الواجب على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال: الناس في هذا مختلفون، وذكر قول ابن عمر وما يقوله عطاء وما يسهل فيه، ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف أنهـا تتم طوافها ويصح منها، وهذا صريح من عطاء أن الطهارة مع الحيض ليست بشرط.
والحائض أحق بالعذر من الجنب، لكون الجنب يقدر على الطهارة، وهذه عاجزة عنها، فهي معذورة، كما عذرها من جوّز لها قراءة القرآن؛ لأن عذرها بالعجز والضرورة أولى من عذر الجنب بالنسيان. ومن نسي الطهارة للصلاة عليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر، بخلاف العاجز عن الشرط والواجب كالعاجز عن الوضوء والتيمم أو عن قراءة، أو استقبال القبلة، فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه، ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه، لقول الله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16]، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ [البقرة: 286]. وفي الحديث: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»[128].
وقد قال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إذا طاف طواف الإفاضة على غير طهارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع، فإنه لا شيء عليه، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه. وبالجملة هل يشترط في الطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
أحدهما: يشترط لقول مالك والشافعي وغيرهما.
والثاني: لا يشترط وهو قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين للطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلا قوله: «الطواف بالبيت صلاة» [129]. وهذا لو ثبت عن النبي ﷺ لم يكن لهم فيه حجة لمخالفته لشؤون الصلاة. فإذا طافت الحائض مع العجز عن الطهارة، فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا. والأشبه أنه لا يجب عليها الدم؛ لأن الطهر واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ لأن الدم إنما يجب بترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهي لم تترك مأمورًا ولم تفعل محظورًا في هذه الحال بالاختيار، وإنما هي مغلوبة على أمرها لا تستطيع رفع الحدث الحيض عنها، فمنعها من الطواف هو من جنس منعهـا من اللبث في المسجد والاعتكاف فيه وقراءة القرآن ومس المصحف، وهذه كلها يجوز للحائض فعلها بلا دم عند الحاجة إليها.
فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا لأمرت بطواف القدوم وطواف الوداع، والنبيﷺ أسقط طواف الوداع عن الحائض وأمر عائشة لما كانت متمتعة وقد حاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج؛ فلعله أنه لا يمكنها الطواف. فالجواب: أن الطواف مع الحيض محظور، إما لحرمة المسجد أو للطواف أو لهما، والمحظورات لا تباح إلا في حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف الوداع، ولا إلى طواف القدوم؛ لأن طواف الوداع ساقط عن الحائض بالنص وطواف القدوم مستحب وليس بواجب وليست مضطرة إليه، ولو قدم مكة وقد ضاق الوقت فبدأ بالوقوف بعرفة ولم يطف للقدوم صح حجه بخلاف طواف الفرض، فإنها مضطرة إليه ولا يتم حجها إلا به، والحاصل أن القول بأن هذه المرأة العاجزة عن الطهر ترجع محرمة، أو تكون كالمحصر أو يسقط عنها طواف الفرض أو الحج كله، أو تلزم بالتخلف عن رفقتها والجلوس بمكة حتى تطهر وتطوف، كل هذه الأقوال مخالفة لأصول الشرع، مع أنني لم أعلم إمامًا من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة، وكان في زمنهم يمكنها أن تطوف بعدما تطهر، بحيث إن الأمراء يلزمون الأجراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحُيَّض ويطفن.
ولهذا ألزم الإمام مالك وغيره المُكاريَ أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف، ثم إن أصحابه قالوا: لا يجب على مُكاريها في هذه الأزمان أن يحتبس معها لما يلحقه في ذلك من الضرر، فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة شرطًا أو واجبًا في حقها، كان مع القدرة على أن تطوف طاهرًا، لا مع العجز عن ذلك، فلو قدر تحريم الطواف عليها مع الحيض في حالة الاختيار، فإنه لا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة، وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة للنص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه، مع تعذر الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته، فإنه يعد من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره.
انتهى كلامه مختصرًا، رحمه الله وعفا عنه، وأسكنه فسيح جنته، ونفعنا وسائر المسلمين بعلومه.
ولابن القيم - رحمه الله - في الإعلام نحو من هذا الكلام في جواز طواف الحائض وكونه يتم بذلك حجها.
* * *
[117] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث عائشة. [118] متفق عليه من حديث عائشة. [119] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [120]أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن العاص. [121] أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر. وقال الألباني: منكر. [122] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [123] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [124] متفق عليه من حديث عائشة. [125] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [126] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [127] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [128] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [129] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عباس.