مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الأول
العقائد
(10) الرد بالحق الأقوى على صاحب بوارق الهدى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سلام الله ورحمته عليهم أجمعين.
أما بعد:
فإن مما يجب التنبيه إليه، أنه خرج في هذه الأيام كتاب سماه صاحبه بوارق الهدى في تفسير السماوات العلى ويستحق أن يسمى بوارق الضلال والظلام مؤلفه / محمد عزت نصر الله -من أهل طرابلس- وهذا المؤلف قد أبشع وشنع في كتابه على جميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، حتى الصحابة والتابعين وحتى رسول رب العالمين، ونسبهم إلى الجهل بتفسير آيات القرآن الحكيم استدعاء منه إلى الإقبال والقبول على تفسيره، المبنية قواعده على الكفر بالآيات والتكذيب بالنبوات والتعلق بالمحالات والمجهولات، وعلى قلب الحقائق في المعقول والمنقول وأنه للخرافات والترهات أشبه منه بتفسير الآيات، لاعتقاده في مخالفته لجميع علماء المسلمين أنه قد وضع ناموسًا للناس بعقله، فهو يخالف الحقائق مخالفة غير خافية لأحد على حد ما قيل: خالف تذكر.
لهذا يجب التنبه لهذا الكتاب بمنعه من دخول بلدان المسلمين صيانة لأسماعهم وأبصارهم عما وضع فيه من فنون الأباطيل وركوب التعاسيف في التأويل والتبديل والزيغ عن سواء السبيل.
ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا، والله خليفتي عليكم وأستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم.
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة مبرأة من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه واختاره لأعباء نبوته وتبليغ رسالته، فأوحى إليه ما أوحاه... اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وعملوا بمقتضاه.
أما بعد:
فإن الله سبحانه بحكمته وعدله قد نصب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم. فمن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها علانية إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، قال تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٠﴾ [محمد: 29-30].
إن الناس متفاوتون في هذا الدين وفي كتاب الله المبين؛ ما بين محب له يدافع عنه ويشرحه ويبشر به ويحمله على المعنى المراد منه بدون تحريف ولا تبديل ولا ميل عن سواء السبيل، وبين كاره له يحاول أن يحرفه عن المعنى المراد منه ليبدل كلام الله، فهو ينقصه ويشينه بكل سبيل. وقد رأيت كتابًا سماه صاحبه بوارق الهدى في تفسير السماوات العلى لمؤلفه الدكتور محمد عزت نصر الله -من أهل طرابلس- شنع فيه على جميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وأن تفاسيرهم كلها تعتمد على الإسرائيليات في تفسير الآيات، ويزعم أن تفاسير ابن عباس وجميع الصحابة والتابعين -أنها كلها باطلة- وأنهم يعرفون معاني القرآن بالكلية.
ثم ذكر تفسير ابن كثير وقال: إنه أقل التفاسير احتواء للإسرائيليات، لكنه رغم ذلك نراه يقع في شَرَك الإسرائيليات وخلفياتها الفكرية فينكر أي رواية تنص على ما يخالفها أو ينقضها، كما أنكر القول الصحيح الذي قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠﴾ [يس: 40]. أي بين السماء والأرض فعده ابن كثير من الغريب جدًّا. قال: الواقع أن ابن كثير يعتمد في تفسيره على الروايات والأقوال أكثر من اعتماده على اللغة والاجتهاد الخاص فهو ناقل لجملة تفاسير يقول بها غيره وليس بمفسر مجتهد إلا فيما ندر من ترجيح أو اجتهاد... انتهى.
وأقول: إنه لو اقتصر في لومه على ابن كثير فحسب لكان أسهل، لكنه تعدى فبغى وطغى على جميع علماء المسلمين من المفسرين المتقدمين والمتأخرين، فسجل عجزهم عن فهم القرآن المبين وعن فهم اللغة العربية، وأنه لم يكن لهم دور في الفهم المستقل للآيات الكونية... وأشار إلى أنه سيصنع منهجًا جديدًا في التفسير يعتمد على التحليل وفهم القرآن عن طريق دراسة اللغة العربية.
يريد بذلك تفسيرًا يخرج القرآن عن معانيه الصحيحة المتبادرة إلى الأذهان وإلى ما يسبق إليها فهم كل إنسان، ولا علاقة لها بالدين؛ بالأحكام ولا أمور الحلال والحرام... وإنما يتمحض في العلوم المادية والكشوف الكونية والنجوم الخفية وسائر علوم الفلك والطبيعة كتفسيره بوارق الضلال.
وإننا لم نر في سائر كتب المؤلفين المخالفين للمسلمين في الدين أبشع ولا أشنع من هذا الكتاب الذي استخرجه محمد عزت نصر الله وانتهك فيه حرمات جميع المسلمين وجميع المفسرين من المتقدمين والمتأخرين حتى الصحابة والتابعين.
... وإنه لا يحل لحكام المسلمين وعلمائهم أن يسمحوا بدخول هذا الكتاب إلى بلادهم اتقاء الفتنة به واتقاء تأويله وتحريفه.
يا فرقة جهلت نصوص نبيها
وقصوده وحقائق القرآن
فسطوا على أتباعه وجنوده
بالبغي والتكفير والطغيان
فكلامه في ابن كثير والحط من قدره وتفسيره إنما هو بمثابة التمهيد منه لهدم سائر التفاسير الإسلامية المتضمنة لمعاني القرآن الحكيم، فهو يريد تحطيمها لقطع صلة الناس بها، ويستدعي إلى الإقبال والقبول لتفسيره الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا... فتفسيره لا يمت للتفسير الشرعي بصلة ولا للغة العربية، بل هو أجنبي وغريب عن معرفة معاني الآيات القرآنية واللغة العربية.
سبكناه ونحسبه لجينًا
فأبدى الكير عن خبث الحديد
فدونك نص لفظه الدال على شدة ضغنه وبغضه لجميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وكأنه قد أخرج نفسه برغبته واختياره عن المسلمين.
قال في الصفحة الثالثة من مقدمة كتابه: (إن المسلمين المفكرين في زماننا شأنهم كشأن المسلمين المفكرين القدامى قد عجزوا تمامًا رغم التقدم الملحوظ في علوم الفلك والطبيعة عن فهم الآيات الكونية في القرآن الكريم فهمًا صحيحًا، وعجزوا بالتالي عن المساهمة في تقدم هذه العلوم مما يدل على أن هذا العجز الإسلامي في التفكير غير متعلق بتقدم هذا العلم أو ذلك).
ثم عاد يقول: (كذلك عجز العلماء والمفكرون من المسلمين قديمًا وحديثًا، لأنه لم يكن لهم دور في الفهم المستقل غير المرتبط بالإسرائيليات والنظرات الضيقة والروايات المنسوبة لكبار المفسرين والعلماء والمفكرين كابن عباس والسدي وغيرهما فلم يفرقوا بين الغث والسمين).
ثم عاد يقول: (إن التصور القديم والحديث لدى علماء الدين والمفكرين المسلمين للسموات والأرض هو تصور خاطئ ويقوم في مجمله على أسس واهية من الفكر السطحي، وها هي كتبهم القديمة وسجلاتهم تبث حيرتهم البالغة في تفسير السموات والأرض.
وإنه بسبب هذا العجز البالغ وتلك الحيرة ظل الفكر الإسلامي مقيدًا ومغلولاً وغير قادر على حسم الموقف الفكري الحديث لصالح الهدى والإيمان بالله).
ثم عاد يقول: (فإذًا لا بد من تحرك فكري سريع يأخذ زمام المبادرة الفكرية من أيدي الحيارى والعاجزين).. انتهى.
وأقول: إن هذا الكاتب قد كشف للناس لباسه وأبدى لهم سوأة التباسه، سقط من قمة الهدى فهوى، ثم امتطى غارب الغي فغوى. فدونكه يسير هائمًا في مهامه الجهالة والضلالة لم يلجم نفسه بلجام التقوى فنزعت به إلى شر غاية وأبعد أمد. ﴿إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓ﴾ [يوسف: 53]. وأنه قد أثارها حربًا شنعاء على الدين وعلى القرآن الحكيم وعلى كافة علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين حتى الصحابة والتابعين وحتى رسول رب العالمين بعبارات تقتضي الجنف والجفاء، وتنافي الإنصاف والحفاء، قد جعل الجد عبثًا والتبر خبثًا والحق باطلاً والباطل حقًّا.
ومن المعلوم أن قبح الجفاء ينافي الحفاء، وأن نجوم الظاهر يدل على خبث الباطن، وأنه لم يجترم أحد جريمة يعم بها جميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين كجريمة هذا الكاتب الذي ينبض قلبه بالضغن وقلمه بالطعن على كافة علماء المسلمين المفسرين، حيث سجل عجزهم وحيرتهم عن فهم القرآن الكريم، يريد بذلك فهمًا وتفسيرًا يخرج القرآن عن معانيه الصحيحة إلى العلوم الطبيعية الكونية والنجوم الخفية وسائر العلوم والفنون المادية.. فكلامه يعد من الباطل المكشوف الذي يؤكد بعضه بعضًا في البطلان ومن أنه لم يبق من لدن نزول القرآن إلى هذا الزمان من يعرف معاني القرآن حتى ولا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن هذا من لوازم قوله. ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥﴾ [الكهف: 5].
نعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
إن الناس كلهم يعرفون العلماء وفضلهم وعلو قدرهم وعموم نفعهم، وأنهم حملة الحجة والبيان والسنة والقرآن، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فسعادة العباد والبلاد بوجودهم، فلحومهم مسمومة، وعادة الله في عقاب منتقصهم معلومة.
لهذا وجب علينا أن نذب عن عرضهم وأن نحمي كرامتهم من هذا الأفاك الأثيم، وأن نبين بطلان ما اقترفه عليهم من الكذب والبهتان المبين، إذ لولا من يقيمه الله لدفع ضرر المعتدين ودحض المبطلين لفسد الدين. وقد ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: « من حمى مؤمنًا من منافق يريد شينه حمى الله لحمه من نار جهنم»[204] فما بالك بحماية كرامة جميع علماء المسلمين الذين من عاداهم فقد بارز الله تعالى بالحرب.
ثم قال الكاتب في تفسيره: (وإني وقد حالفني التوفيق في وضع هذه الدراسة والحمد لله ـ لا أدعي لنفسي الكشف في الوصول إلى ما لم يصل إليه أحد قبلي من العلماء والمفكرين وحتى من مدعي الكشف والولاية، ولكن أقولها صراحة: إن جميع البوارق وهي الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب قد لمعت في خاطري فأنارت بصيرتي فسجلتها في فقرات على قدر استطاعتي).
وأقول: إن هذا التفسير الذي رفع عقيرته بمدحه هو ليس بتفسير للآيات القرآنية ولا للأحاديث النبوية ولا اللغة العربية ولا يمت للتفسير بصلة... وإنما هو خطرات من وساوس فكرية يتقلب فيها مع الأهواء ويخبط خبط العشواء.. كتب يدعي في تفسيره بأنه قد وصل إلى معرفة أسرار السموات بما لا يعرفه الرسول ولا الصحابة والتابعون ولا سائر علماء المسلمين المفسرين، فهو تفسير منكور يشتمل على بدع من القول والزور. هو للخرافات أقرب منه لتفسير الآيات.
أقام يعمل أيامًا رويته
ففسـر الماء بعد الجهد بالماء
لأن التفسير الذي لا يعرفه الرسول ولا الصحابة ولا التابعون ولا سائر علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ويخرج القرآن عن معانيه المتبادرة إلى الأذهان وإلى ما يسبق إليه فهم كل إنسان، فإنه ليس بتفسير أبدًا وإنما هو من وساوس الشياطين، كهذا التفسير الذي حمل رايته وبادر بفكرته فإنه مبنية قواعده على الكفر بالآيات والتكذيب بالنبوات والتصديق بالمحالات والمجهولات، وعلى قلب الحقائق في المعقول والمنقول.
وكل من له أدنى مسكة من عقل متى تأمل كلامه يتبين له بطريق الوضوح أنه اختار تكذيب القرآن على الإيمان به، وأنه اختار العمى على الهدى، والقبيح على الحسن، والباطل على الحق.
وقد صرح تصريحًا ليس بالتلويح بأن جميع علماء المسلمين من لدن نزول القرآن حتى الآن أن تصورهم للسموات والأرض تصور خاطئ ويقوم في مجمله على أسس واهية من الفكر السطحي.
يعني بذلك رسول الله ﷺ أولاً ثم سائر أصحابه وجميع علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين، فإن هذا صريح من قوله، والجنون فنون.
لأن من كان في أصل عقيدته التي ينتحلها أن الله سبحانه لم يخبر في كتابه بحقيقة السموات والأرض... وإنما أخبر الناس بما لا يعرفون وبما ظاهره باطل... فإن هذا كفر بالله وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، فإن من لوازم هذا القول أن الله سبحانه لم يوح هذا القرآن إلى نبيه للإيمان به والعمل بموجبه.
وإنما أراد من خلقه أن يطلقوا أذهانهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير معناه، وينتحلوا له وجوه الاحتمالات المنكرة والتأويلات المستكرهة التي هي بالأحاجي والهذيان أشبه منها بالحقيقة والبرهان.
[204] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث معاذ بن أنس.
فإن من لوازم هذا القول أن الله سبحانه لم يبين الحق باللفظ الصريح الذي يحفظ عن الوقوع في الباطل، حتى جاء هذا الكاتب فعبر عن الحق بصريحه دون الله ورسوله وأصحابه ودون سائر علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين... وهذا التفسير للسموات العلى يظهر بطلانه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓ﴾ [النحل: 12].
قال: (مسخرات لتكوين وتشكيل حجارة جهنم وحرها وعذابها، فهي مسخرة لتوليد الطاقة الهائلة التي تتجمع في السماء وتنصب يوم القيامة داخل جهنم وتكون وقودًا للنار). فيقال لهذا الأفاك الأثيم: من أنبأك بهذا والله يقول: ﴿۞مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [الكهف: 51]. فهذا كله من التخرصات الكاذبة. والله يقول: ﴿قُتِلَ ٱلۡخَرَّٰصُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي غَمۡرَةٖ سَاهُونَ ١١﴾ [الذاريات: 10-11]. أي من الجهل ساهون.
فهو من جهله ببلاغة معاني القرآن وجهله باللغة العربية يعيب الفصحاء البلغاء المتبحرين في العلم بمعاني القرآن المبين. فهو كما قيل: أنف في السماء واست في الثرى.
ويرى أن الهدى والحق في كلامه وعباراته دون كلام الله ورسوله، وهذا ظاهر كلام الملحدين والحيارى المكذبين كهذا وأمثاله. قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ ١١٢ وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفِۡٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ ١١٣﴾ [الأنعام: 112-113].
فيالك من آيات حق لو اهتدى
بهن مريدُ الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة
فليست وإن أصغت تجيب المناديا
فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين، يعرف العوام على سذاجتهم وبديهتهم أكثر معانيه وما يشتمل عليه من الأحكام وأمور الحلال فضلاً عن العلماء الأعلام. وكان الصحابة يسألون رسول الله ﷺ عما أشكل عليهم من القرآن، يقول ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن[205]. وقد وصف الله كتابه بالبيان أي: الجلاء والظهور. فقال سبحانه: ﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢﴾ [القصص: 2]. أي: البين الواضح.
[205] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث ابن مسعود.
وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ [النحل: 44]. فالقرآن أكثره آيات محكمات ظاهرات جليات يدل لفظها على معناها، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. وقد اشتمل القرآن على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأحكام العبادات، وحل المشكلات، ودحض الشبهات، وتحقيق البعث بعد الوفاة للجزاء على الأعمال، والإيمان بوجوب الرب والملائكة والجنة والنار، وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي، وكونه هداية عامة للبشر كلهم.
فهو رحمة للعالمين، وهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، والواقي من الوقوع في الرذيلة. يوازن بين ما كان عليه المسلمون السابقون من السيادة والعزة والقوة لما كانوا مؤمنين به متبعين لأمره ونهيه ﴿ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 40-41].
وبين ما حل بخلفهم في هذا العصر من الضعف والعجز والشقاق لما ضعف عملهم به وساء اعتقادهم فيه. وبيان موافقته لصالح البشر كلهم في علاج عللهم وإصلاح مجتمعهم بانطباق عقائده وشرائعه على العقل والفطرة، وجلب المصلحة ودرء المفسدة. وهذه هي الحكمة التي أنزل الله بها كتبه وأرسل بها رسله ﴿مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ﴾ [النساء: 165].
فهو صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان... فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء.
وليس من شأن القرآن الكريم ولا من شأن علماء المسلمين المفسرين بأن يبينوا للناس ما يصلون إليه بكسبهم وأفكارهم وتجاربهم من كشوفهم واختراعاتهم وصنائعهم وسائر ما يدركونه من الأشياء الغامضة والنجوم الخفية وغيرها.
لأن هذه من شأن الباحثين في علوم الطبيعة والفلك وسائر الأمور الكونية، ولا تعلق لها بأمور الدين ولا القرآن المبين. والناس منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا وهم يستخدمون أفكارهم وتجاربهم في تطوير المخترعات من الصناعات وكشف غوامض الآيات والخفيات.
وقد أخبر الله سبحانه عن مبدأ آدم وحواء وأنهما بداعي الحاجة عملا لهما لباسًا من ورق الشجر يستر سوأتهما -أي ثيابًا من الخوص تستر عوراتهما- وهذه هي مبدأ الصنائع في الدنيا وخاصة الملبوسات التي تستر بها العورات، كما أن الأواني التي يطبخون فيها ويأكلون ويشربون فيها هي من الطين، فهذه من أمور الحياة التي تدعو إليها الحاجات إذ الحاجة هي أم الاختراع. وتدخل في عموم قوله ﷺ: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»[206]. وفي عموم قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٩٦﴾ [الصافات: 96]. وقوله سبحانه: ﴿يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ ٧﴾ [الروم: 7].
ونحن لا نكابر في إنكار ما أدركه هؤلاء من علم الكون وما اكتشفوه من الأسرار والآيات، وما عسى أن يكتشفوا فيما هو آت من كل ما يعد من خوارق العادات، ومن كل ما يؤهلهم للوصول إلى الغايات الداخلة في حدود مقدرتهم، فقد رأى الناس عجائب ما صنعوه من الطائرات الهوائية تجارية وحربية حيث تحلق في الأجواء حتى تتجاوز المحيط الهوائي، والغواصات البحرية التي تغوص في أقصى قعر البحار بحيث يعلوها بمن فيها الماء والأمواج، ويتخاطبون من أقصى البقاع بحيث يتحدث أهل المشرق مع أهل المغرب.
وفي بلدان أوربا وأمريكا يتكلم مع من في نجد والخليج والحجاز، بحيث يكلم أحدهما صاحبه بكلام جلي غير خفي وبينهما الوديان الساحقة والجبال الشاهقة والبحار المضطربة والسحب المتقصفة والأهوية المزعجة، كل هذه لم تكن حائلة دون سماع أحدهما لخطاب الآخر. فلو تحدث متحدث بذلك قبل وقوعه وقبل وقوف جميع الناس على حقيقته لأنكروه أشد الإنكار لاستبعادهم إمكانيته وعدم اتساع عقولهم لقبوله.
وحسبك ما في الكهرباء من الأسرار وعموم المنافع الكبار، وكل من هذه من الحقائق التي لا يسمو إلى جوها غبار، فلا مجال للشك فيها، وهي من مكملات الكرامة والراحة والرفاهية للناس، توجب الشكر والعبادة لله رب العالمين الذي خلق موادها يوم خلق السموات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس لها، والمكتشفون يعترفون بأن ما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما يعرفون، وأنهم كلما أوغلوا في كشف شيء تبين لهم من جهلهم ما لم يكونوا يحتسبون.. ومن طبيعة النفوس التطلع إلى كل مستور عنها من كل ما تظنه في متناولها.
[206] أخرجه مسلم من حديث أنس وعائشة.
هذه كلها من النعم التي أكرم الله بها عباده والتي توجب عليهم الشكر والطاعة لله رب العالمين لدخولها في عموم قوله سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠﴾ [الإسراء: 70].
غير أنه بمقتضى الاختبار وعلم اليقين نجد الناس وخاصة هؤلاء المكتشفين يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضائل والدين على نسبة عكسية مطردة في ارتقائهم في الاختراعات والصنائع والكشوف وسائر العلوم المادية، فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل، وجرأة على ارتكاب فنون الجرائم، فضلاً عن ترك الفرائض والفضائل، حتى كاد الكثير منهم يفضل الإباحية المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وخلق وآداب ودين، ويحبون أن يعيشوا عيش البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢﴾ [محمد: 12].
وقد دعا الله عباده إلى النظر والاعتبار في مخلوقاته ليزدادوا بذلك إيمانًا ويقينًا وعبادة، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١﴾ [آل عمران: 190-191].
وقال سبحانه: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١﴾ [يونس: 101]. وصدق الله ورسوله فإن الآيات والعبر والتفكر المعتبر إنما تستفيد به النفوس الخيرة النيرة المستعدة لقبول الحق والتوجه إلى طلبه واتباعه.
أما النفوس الشريرة فإنها تزداد به طغيانًا وكفرًا وعتوًّا ونفورًا، فهي تحيل كل شيء إلى الطبيعة وينسبون آيات الله ومخلوقاته في أرضه وسماواته إلى الطبيعة، بمعنى أنها الموجدة لها دون الله عز وجل، ويسميهم العلماء بالطبعيين فهؤلاء لا تزيدهم الآيات والعبر إلا نفورًا واستكبارًا وجحودًا وعنادًا ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ١٤﴾ [النمل: 14]. ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧﴾ [يونس: 96-97].
أقلقتم السابح في لجة
أطرتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم عرضة للفنا
فكيف لو عمرتم يا وقاح
مع العلم أن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس كما قال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾ [فصلت: 53].
فيذكر سبحانه جميع أنواع المخلوقات من الجبال والجماد والنباتات والحيوانات والناس، ويصف سبحانه خلق السماوات وشمسها وقمرها ونجومها والأرض والهواء والسحاب وخلق الماء فيه والبحار والأنهار، وقد عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون عن أن يغيروا بناء آية من آيات الله أو ينقضوا حكمًا من أحكامه.
والحاصل أنه لا يجوز تحريف القرآن الكريم وصرفه عن معانيه المتبادرة إلى الأذهان لأجل تطبيقه على العلوم والفنون والكشوف والصنائع وسائر ما يتجدد بتجدد الزمان، فقد اتفق المسلمون على الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهدي سلف الإسلام الصالحين، وعدم الاعتداد بإسلام من لا يهتدي بالكتاب والسنة ولا بمن يحرف القرآن بتفسير يخالف قواعد اللغة وضروريات الدين.
وقد عمل بعض المفسرين من المسلمين المتأخرين عمله في تطبيق الآيات القرآنية على الكشوفات والمخترعات العصرية وسائر ما يتجدد من أمور الحياة لمناسبة بعيدة. كتفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ويقع في ثلاثة عشر مجلدًا. وهو كتاب حاوٍ لسائر العلوم والفنون العصرية، وقد أدرك العلماء عليه تكلفه في صرف الآيات القرآنية عن المعنى المراد منها ويغفر الله له، وقد سئل عنه صاحب المنار.. فأجاب قائلاً: تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي فيه كل شيء إلا التفسير.
ورأيت رسالة مختصرة للشيخ محمود شكري عنوانها ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب في الرد على المنطقيين ضمنه كثيرًا من البحوث والكشوف والعلوم الكونية ويقع في مجلد. وله رسالة سماها عرش الرحمن تكلم فيها عن الأفلاك وقولهم: إنها تسعة. وقال: إنه ليس لهم دليل لا عقلي ولا نقلي في حصر هذا العدد، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، وقد يتفرع عن الفلك الواحد عدة أفلاك.
وقوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠﴾ [يس: 40]. يقتضى أنها في فلك مستدير كما قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل.
قال: والفلكيون يستدلون بما يشاهدونه من الحسيات ولا يعلمون ما وراء ذلك مثل علمهم أن البخار المتصاعد من البحار ينعقد سحابًا وأن السحاب إذا اصطك بعضه ببعض حدث عن اصطكاكه صوت الرعد وسنا البرق. وهو قول باطل لم يجدوا ما يعللون به صوت الرعد.
ثم تناول كلامه وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال وهو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية، قال: فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين فكما أن جوانب الأرض التي عليها الناس فليس بعضها فوق بعض ولا تحته. فكذلك من يكون على الأرض من الناس والنبات لا يقال: إنهم تحت أولئك ولا أن أولئك تحتهم. وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فنحن نرى السقف فوقها وهي تراه تحتها وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في إحدى جانبي الأرض أن الجانب الآخر تحته، انتهى.
وكل ما قاله شيخ الإسلام في الأرض فهو مبني على كونها كرة كما جزم به علماء الهيئة وبعض المفسرين أخذًا من قوله سبحانه: ﴿يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ﴾ [الزمر: 5]. وقوله: ﴿يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ﴾ [فاطر: 13].
وأقول: إن علماء الكون في هذا الزمان قد خالفوا الفلكيين الأوليين، فأثبتوا كون الرعد والبرق يحدث من اشتعال الكهربائية باحتكاك الإيجابي منها بالسلبي فيحدث صوت الرعد عند ذلك كصوت المدفع عند انطلاقه. والله أعلم.
وقد ينتحل المرء في نفسه ما يقلده عن غيره فيظنه حقًّا وكشفًا صحيحًا وهو باطل في نفس الأمر والواقع.
وللعلامة ابن القيم رحمه الله كلام طويل في مفتاح دار السعادة يتعلق بالبحوث والكشوف وعلم الكون من خلق السماء والشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والسحاب وخلق الماء فيه وسائر ما يتعلق بعلم الآفاق والأنفس لا يوجد له نظير.
وبما أن الكاتب قد أنحى بالملام وتوجيه المذام على ابن كثير ونسبه في تفسيره إلى التقصير وأنه كغيره من المفسرين يفسر الآيات بالإسرائيليات وهذا كذب مفترى. فإن جميع العلماء يعرفون طريقة ابن كثير في التفسير وأنه يفسر الآيات بالآيات ويفسرها بالأحاديث وبأقوال الصحابة والتابعين، ولا نعلم له آية تتعلق بالعقائد والعبادات والأحكام وأمور الحلال والحرام قد بنى قواعد تفسيرها على الإسرائيليات، وإنما يذكر حديث بني إسرائيل إذا ذكره في سبيل الاعتضاد لا الاعتماد عندما يراه موافقًا للقرآن. أما إذا خالف القرآن فإنه لا يذكره قطعًا وعنده رخصة في ذلك وهو قول النبي ﷺ: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»[207].
[207] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة.
وله في تفسيره اجتهادات في علم الكون والكشوف والسموات لا بد من الإشارة إلى ذكر بعضها.
من ذلك قوله في تفسير قوله سبحانه:
﴿أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ﴾ [الأنبياء: 30].
قال: أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض ومتلاصقًا متراكبًا بعضه فوق بعض في ابتداء الامر ففتق الله هذه من هذه، فجعل السموات سبعًا والأرض سبعًا وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض فذلك قوله ﴿كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ﴾. وكانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت.
ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات، ثم ساق عن ابن عباس وعن سعيد ابن جبير معنى ذلك.
وقال في تفسير قوله: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى﴾ [لقمان: 29].
قال: روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها. قال: وكذلك القمر، إسناده صحيح. انتهى.
فتفسير ابن كثير بهذا يوافق ما ذكره عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠﴾ [يس: 40]. أي: بين السماء والأرض، وإنما استغربه ابن كثير من أجل نكارة سنده، وإلا فإن معناه صحيح كما مر وصححه في هذه الآية.
ثم ذكر على قوله سبحانه: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ١٥ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦﴾ [النوح: 15-16].
قال: طباقًا. أي: واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط أو هو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكشوفات فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضًا. فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة. والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة، وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت، والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي، والفلك التاسع وهو الأطلس الأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك.
وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق، وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ومعها تدور سائر الكواكب تبعًا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها فإنها تسير من الغرب إلى الشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، ذلك بحسب اتساع أفلاكها، وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة.
هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ١٥ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦﴾ [النوح: 15-16]. انتهى كلام ابن كثير.
وفي تفسير المنار لمؤلفه محمد رشيد رضا الشيء الكثير مما يتعلق بعلم الكون والكشوف سلك فيه مسلك الاعتدال في التعبير وحسن التفسير.
ثم تكلم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ﴾ [الحجر: 22].
فقال: المراد بها الرياح التي تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى كل شيء بحسبه، كما أنها تثير السحاب وتلحقه بالماء، ولم يكن هذا معروفًا قبل نزول القرآن حتى قال رجل مستشرق اسمه (مستر اجيزي) وكان أستاذًا للغة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي قال: إن رعاة الإبل يعني العرب قد عرفوا أن الرياح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعرفها علماء أوروبا بثلاثة عشر قرنًا.
وهذا من حكمة إنشاء النشء أن يكن بين زوجين وهو شيء يعرفه أهل الحرث حيث يضعون بنات الذكر في الأنثى فيما يسمونه التنبيت والتلقيح، يقول الله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٤٩﴾ [الذاريات: 49].
وقال تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا يَعۡلَمُونَ ٣٦﴾ [يس: 36].
ثم تكلم على قوله سبحانه: ﴿يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ...﴾ [الزمر:5]. قال: فتكوير الليل على النهار نص في إثبات كروية الأرض مأخوذ من تكوير العمامة على الرأس إذا غطته ومثله ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ ٦١﴾ [الحج: 61]. بمعناه مع العلم أن القرآن يشتمل على بيان الشيء الكثير من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، يقول الله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ [فصلت: 53]. انتهى.
وحسبك أنهم بذلوا جهودهم الضائعة في الصعود إلى القمر حتى وصلوا بزعمهم إلى سطحه ولكنهم لم يغيروا شيئًا من حكمه. بل قرروا بأنه غير صالح لشيء أبدًا سوى ما خلق لأجله في قوله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥﴾ [يونس: 5].
وبالجملة فإن المكاتب الإسلامية وغيرها مملوءة من كتب المسلمين التي تبحث عن الأفلاك وعلم الكون والطبيعة بما لا يستطيع هذا الكاتب أن يأتي بمثله، ولو أنصف لعرف ولكنه جنف فحرف.
ولنعرض الآن على القراء الكرام نبذًا من مهمات تفسيره ليقابلوا بينها وبين تفسير علماء المسلمين حتى يعلموا بطريق اليقين بأنه ليس على شيء، وأن تفسيره بالخرافات والترهات أشبه منه بتفسير الآيات، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا.
قال الكاتب في صفحة (21، 19، 18، 17).
على قوله سبحانه: ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا﴾ [النمل: 61].
وقوله: ﴿ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗا﴾ [الرعد: 3].
وقوله: ﴿وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ﴾ [الأنبياء: 31].
قال: فالرواسي التي جعلت في الأرض هي جاذبية الأرض نفسها. قال: والشمس أكبر رواسي الأرض على الإطلاق فهي بجاذبيتها راسية للأرض أي مثبتة لها.
قال: فالشمس والقمر والكواكب تعتبر رواسي للأرض كيلا تميد.
وقال في صفحة (23):
وليست الجبال من الرواسي المجعولة في الأرض أو الملقاة فيها فهي جزء من الأرض نفسها. انتهى.
وأقول: إن هذا من فنون تفسيره الدال على جهله وعدم نصيبه من العلم والمعرفة ومخالفته للحق والحقيقة مخالفة غير خافية على أحد لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس بتفسيره.
لأن هذا الكاتب لما حتم نفسه بأن يأتي بتفسير لم يسبقه إلى القول به أحد من المفسرين ولا من علماء المسلمين، اضطر أن يتقلب مع الأهواء وأن يخبط خبط العشواء، فيركب التعاسيف في التأويل ويورد من الأقوال ما يشهد العقل والنقل ببطلانه لكونه عاريًا عن الدليل، غارقًا في التبديل. ومن ديدن الحائر المبهوت أن يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.
فتفسير الرواسي بالجبال هو من الأمر المستقر في نفوس العلماء والعوام والخاص والعام؛ لأنه من التفسير الذي يعرفه العرب بلغتهم ولا يعذر أحد بجهله، وقد كرر الله سبحانه ذكر رواسي الأرض في عدد من آيات القرآن الحكيم.
فقال سبحانه: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ ٧﴾ [ق: 7].
فتفسير الرواسي يظهر صريحًا من تلاوة الآيات إذ هو من التفسير الذي لا يقبل التغيير، لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين يفسير بعضه بعضًا. فإن قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ﴾ [الأنبياء: 31]. أي: لئلا تضطرب. لأن الميد هو الحركة والاضطراب، فالجبال راسية بنفسها ومرسية للأرض لئلا تتكفأ وتضطرب.
ولا تسمى السفينة راسية إلا إذا وقفت بمرساها في الميناء وأمسكت بأشطان الحبال لتقف ولا تتحرك.
يقول الله سبحانه: ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ﴾ [هود: 41]. وقد سمى الله الجبال أوتادًا أخذًا من أوتاد الخيمة التي تثبتها في قوله سبحانه: ﴿ أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧﴾ [النبأ: 6-7].
لكون الجبال هي التي تثبت الأرض وترسيها لئلا تضطرب بالناس، ومن المعلوم بالمشاهدة والحس أنها متى أصيبت الأرض برجة أو زلزال فإن الناس يفزعون ويضطربون ويفرون عن منازلهم خوفًا من سقوطها عليهم، فمن رحمته أن ثبتها بالجبال كما تثبت الخيمة بالأوتاد والحبال. قال الشاعر: والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وفي جامع الترمذي وغيره من حديث أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الله الجبال عليها فاستقرت».
وقد رأينا أرباب السفن متى كانت سفينة أحدهم خالية عن الحملان حمل عليها شيئًا من الحصى أو الرمل ليثبتها عن الاضطراب والميد، وكذلك الجبال في الأرض، ولا علاقة للشمس ولا للقمر في مرساها بل هو من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل الزائغ عن سواء السبيل.
ومتى انقضى عمار الدنيا وأراد الله سبحانه فناءها وانتقال أهلها عنها إلى دار الآخرة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار.
فعند ذلك يأمر الله سبحانه بقلع الجبال عن أماكنها كما يقلع المسافر أوتاد خيمته حين يريد الانتقال عن مكانه.
يقول الله سبحانه: ﴿وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡجِبَالِ فَقُلۡ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسۡفٗا ١٠٥ فَيَذَرُهَا قَاعٗا صَفۡصَفٗا ١٠٦ لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجٗا وَلَآ أَمۡتٗا ١٠٧﴾ [طه: 105-107].
وقال سبحانه: ﴿إِذَا رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ رَجّٗا ٤ وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ بَسّٗا ٥ فَكَانَتۡ هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا ٦﴾ [الواقعة: 4-6].
وقال سبحانه: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٣ يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ ٤ وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ ٱلۡمَنفُوشِ ٥﴾ [القارعة: 1-5].
وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ ٧ فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ ٨ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ ١٠﴾ [المرسلات: 7-10].
فالقرآن يفسر بعضه بعضًا ويدل بمنطوقه ومفهومه على أنه متى انتهى عمار الدنيا وأراد الله عليها وعلى من فيها الفناء فعند ذلك يزيل الجبال من أماكنها فتضطرب الأرض وتتزلزل لتلقي الناس على ظهارها. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ ١ يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ ٢﴾ [الحج: 1-2].
وقد وصف الله القيامة بأسماء وأوصاف متعددة متنوعة تدل بمعانيها على أنها شيء عظيم. فوصفها بالطامة الكبرى وبالصاخة وبالزلزلة والقارعة والواقعة.. فقال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٣﴾ [الواقعة: 1-3]. وقال: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢﴾ [القارعة: 1-3]. تعظيمًا لشأنها وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض فترجها رجًّا وتبسها بسًّا ويكون هباءً منبثًا وكالفراش المبثوث فيكور بالشمس ويخسف بالقمر وتتناثر النجوم لبطلان ما ركبه الله من سنة إمساكها المقتضي إثباتها وقد بطل ذلك عند القضاء بفناء الدنيا وخراب العالم وعدم الاحتياج إلى شيء من ذلك.
وقال سبحانه: ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ٣ وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ ٤﴾ [الإنشقاق: 1-4]. أي ألقت جميع ما على ظهرها من جبال وأناس وتخلت عنهم لكون الناس يحشرون على أرض بيضاء لم يعص الله عليها.
والحكمة في هدم الأبنية وتسيير الجبال ودك الأرض وشق السماء ونثر النجوم وتكوير الشمس وخسوف القمر وتخريب هذا العالم بأجمعه أن الله سبحانه لما بنى للناس دار الدنيا للسكنى بها والتمتع بخيراتها وجعلها وما فيها زينة للأبصار وعظة للاعتبار والاستدلال بها على وحدانيته وجميل صنعه بما يقتضى الإيمان به وإخلاص العبادة له. فلما انقضت مدة السكنى بها وحقت كلمة ربك على فنائها أجلاهم سبحانه منها وخربها لانتقالهم منها إلى غيرها. ﴿يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ ٤٨﴾ [إبراهيم: 48]. وأراد أن يعلمهم بأن في إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وتعريض ذلك الصنع العجيب للزوال كله بيان لكمال قدرته ودوام بقائه، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وأن عنده سبحانه لعباده دارًا هي أسمى وأرقى وأجل وأجمل من دار الدنيا.
﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩﴾ [المؤمن: 39].
فسمى الله الدنيا متاعًا مأخوذًا من متاع المسافر، ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨﴾ [التوبة: 38].
فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع من لقاء ربه إلا الذي لم يقدم عملاً صالحًا لآخرته ويقول: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ﴾ [الجاثية: 24]. فهذا ينتقل من خراب الدنيا إلى عذاب الآخرة.
ثم قال في صفحة (39) على قوله سبحانه: ﴿وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ ٢٢﴾ [الذاريات: 22].
قال: وما توعدون أي يوم القيامة.. بالعذاب في السماء الدنيا.
قال: من الواضح أن النجوم مسخرات الآن لتوليد الطاقة الكونية الكبرى الهائلة التي تتجمع الآن في السماء لتلقى يوم القيامة في جهنم مع أجرام النجوم والكواكب التي ترمى وتنصب في جهنم وتكون وقودًا للنار فيها.
وقال في صفحة (57) على قوله سبحان: ﴿وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ﴾ [النحل: 12].
قال: والنجوم وتوابعها ممسوكة ومسخرة لتكوين حجارة جهنم.
قال: والنجوم كما هو معلوم كثرة هائلة من النار الموقدة المسخرة بأمر الله وكذا قوله: ﴿وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ﴾ [النحل: 12]. أي: لتوليد الطاقة الكبرى التي تتجمع في السماء لتلقى يوم القيامة في جهنم.
ويقول في صفحة: (11):
(وها نحن نوضح بما لا لبس فيه من أن النجوم مسخرات لتكوين حجارة جهنم وحرها وعذابها وهي مسخرة لتوليد الطاقة الكبرى الهائلة التي تتجمع وتنصب يوم القيامة داخل جهنم). انتهى كلامه.
وأقول: سبحان الله ما أجرأ هذا الكاتب على القول على الله وعلى تحريف كلام الله بلا علم بمجرد الرأي الذي ليس له مستند لا من القرآن ولا من السنة ولا من اللغة العربية ولا من قول أحد العلماء، وإنما يتكلم بفنون من الجنون في التفسير.
لكون ما يتكلم به هو من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا هو: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ﴾ [النمل: 65]. إذ ليس عندنا ما يدل على أن هذه النجوم مرصدة ومسخرة لتكوين طاقات العذاب يوم القيامة في نار جهنم.
ولا يعني القرآن بهذا التفسير في التسخير، بل هي من الجمادات التي يقول الله لها: كوني ترابًا. فتكون ترابًا وعند ذلك يقول الكافر: ﴿إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا ٤٠﴾ [النبأ: 40]. ولم يثبت ما يدل على أنها مسخرة كالصناع لتوليد طاقة العذاب لتكون وقودًا في نار جهنم.
وقد أخبر الله سبحانه عن تكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم في عدة آيات من القرآن الحكيم.. كقوله سبحانه: ﴿إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ ١ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُيِّرَتۡ ٣ وَإِذَا ٱلۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ ٤ وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ ٥ وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ ٦ وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ ٧ وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ ٨ بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ ١٠ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتۡ ١١ وَإِذَا ٱلۡجَحِيمُ سُعِّرَتۡ ١٢ وَإِذَا ٱلۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ ١٣ عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّآ أَحۡضَرَتۡ ١٤﴾ [التكوير: 1-14]. وكذا قوله. ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتۡ ١ وَإِذَا ٱلۡكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ فُجِّرَتۡ ٣ وَإِذَا ٱلۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ ٤ عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ وَأَخَّرَتۡ ٥﴾ [الإنفطار: 1-5]. وفي المرسلات. ﴿فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ ٨ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ ١٠ وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ ١١ لِأَيِّ يَوۡمٍ أُجِّلَتۡ ١٢ لِيَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ ١٣ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ١٤ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٥﴾ [المرسلات: 8-15].
ولم يذكر سبحانه بأن هذه الكواكب من الشمس والقمر والنجوم بأنها مسخرة لتوليد أدوات العذاب في نار جهنم.. وما كان ربك نسيًّا.
قل فأتوا بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين.. وقد قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].
فأخبر سبحانه أن الناس من وقود النار كالحجارة وقال: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ ٩٨﴾ [الأنبياء: 98]. والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي: ترمى به وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به قاله في الصحاح.
والحق أن تسخير الشمس والقمر والكواكب، الذي عناه القرآن بقوله ﴿وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ﴾ [الأعراف: 54]. هو أن الشمس مسخرة بأمر الله ومخلوقة لمصالح العباد في الدنيا في حكمة الله وتسخيره لها، أنها تطلع على جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها فتوزع ضوءها بينهم بنظام واعتدال لا يحول ولا يزول ولا يتبدل، فتطلع وتشرق على ما قابلها من الأفق الغربي ليصيب نصيبه من مصلحة ضوئها.
ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة وقطرًا بعد قطر حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها من المشرق فيختلف بذلك الليل والنهار.
فلو كانت الشمس واقفة لا تتعدى مكانها لما وصل ضوؤها إلى كثير من الجهات وبذلك يسوء الزمن ويكون الليل دائمًا سرمدًا على من تطلع عليهم الشمس ويكون النهار سرمدًا دائمًا على من طلعت عليهم الشمس فيفسد بذلك نظام الدنيا.
ولذا ساقه سبحانه في معرض الامتنان به على عباده فقال سبحانه: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلَّيۡلَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِضِيَآءٍۚ أَفَلَا تَسۡمَعُونَ ٧١ قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِلَيۡلٖ تَسۡكُنُونَ فِيهِۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٧٢ وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٣﴾ [القصص: 71-73].
أي في الليل ﴿وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ أي: في النهار ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٣﴾. فلولا غروب الشمس لكانت الأرض تحمي بداوم شروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات.
وكذلك حكمته سبحانه في تسخير سير القمر كما قال سبحانه: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩﴾ [يس: 38-39].
وقال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ﴾ [يونس: 5]. فسخر القمر في أن ينزل في الشهر ثماني وعشرين منزلة ينزل كل ليلة منها منزلة مرسومة لا يتخطاها ولا يقصر دونها ليعلم الناس بذلك حساب الشهر، وقالوا: إن القمر يقطع الفلك في كل شهر مرة.
ومثله في خلق النجوم وأن منها السيارات التي تطلع وتغيب على حسب سنة الله في تسخيرها، ومنها الثوابت التي لا تبرح مكانها مثل بنات نعش، والفرقدين وتسمى الحويجزين، والجدي التي لا تغيب عن أعين الناس لقربها من مركز خط الاستواء فصارت بمثابة الأعلام التي يهتدي بها الناس في الظلمات وفي الطرق المجهولة في البر والبحر فيهتدون بها حيث شاءوا، وهذا كله من حكمة خلق الله لهذه الأفلاك وتسخيرها بأمره، حكمة بالغة فما تغنى النذر.
وقد أعطاها سبحانه هذا النور كي يراها الناس مع بعد منازلها فيهتدون بها كما قال سبحانه: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦﴾ [النحل: 16]. وقد اتفق علماء الهيئة المتقدمون والمتأخرون أن النجم أكبر من الدنيا، ويحسبه أكثر الناس صغيرًا في مناظرهم كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
الذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وقال الكاتب في صفحة (43) عند تفسيره لقوله سبحانه: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦﴾ [النحل: 16].
(وقد اكتشفوا عام 1975 حقلاً نجميًّا بواسطة (معهد التكنولوجيا) في كاليفورنيا يبعد عن الشمس مائة ألف سنة ضوئية.
وقد اكتشفوا كذلك أنجمًا مع المجرات تنضم إلى تجمعات أكبر منها فيحتوي التجمع الواحد على عشرات التجمعات.. وقد احتسبوا عدد الشموس الفرادى التي تماثل شمسنا في نظام المجرة فوجدوها حوالي خمسة عشر ألف مليون شمس. وكانت الشموس التي تدور حول مركز المجرة تقدر بحوالي مائة مليون شمسٍ.
والشموس الفرادى في نظام التتابع تبلغ عشرين مليون شمس. ومن النجوم المزدوجة في المجرة نجم (الشعرى) اليمانية وهو يبعد عن الأرض تسع سنوات ضوئية ويفوق الشمس بسبع وعشرين مرة في لمعانه، وقالوا: إن درجة حرارة الشعرى تبلغ عشرة آلاف كما تبلغ سرعته خمسة كيلو، وقدرت كتلته بحوالي مائتين وخمسين ألف مرة قدر وزن الأرض.
وهناك نجم (القرينة) الذي يفوق الشمس لمعانًا بألف وخمسمائة شمس ويبعد عنا مائة سنة ضوئية.
والنجم (زحل) الجبار ـ يفوق ضوؤه ضوء الشمس بأربعين ألف شمس ويبعد عنا بثمان مائة سنة ضوئية). انتهى كلام الكاتب.
لهذه نماذج من أوضح تفسيره ويسير في بقيته على هذا النمط:
تخرصًا وأحاديثًا ملفقة
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
ويظهر من كلامه أنه مقلد للبحاثين وعلماء الفلك ينقل عنهم كل ما يقولون، يلقط لفظهم كل ما لفظوا، ويتبع ظلهم أينما انبعثوا، والمقلد لا يعد من أهل الفن، وعلماء البحث في نظرياتهم يحققون الشيء ويؤكدونه ثم يعودون فينقضونه ويكذبونه دائمًا لكون نظرياتهم بعيدة عن التثبت واليقين وإنما يبنونها على الخرص والتخمين ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَيۡقِنِينَ ٣٢﴾ [الجاثية:32]. فقد يحقق الإنسان فيما يقلده عن غيره فيظنه حقًّا وكشفًا صحيحًا وهو لا حقيقة له في نفس الأمر والواقع.
ثم يقال: من حدثك عن هذه الشموس التي تبعد بخمسة عشر ألف مليون شمس والتي الواحدة منها تماثل شمسنا التي نشاهدها بأعيننا؟ ومن الذي حسبها وحصرها في هذا العدد؟ ومن الذي حدثك بالشموس التي تدور حول مركز المجرة، والتي تقدر بحوالي مائة ألف مليون شمسٍ؟ وهل هي نظريات خطؤها أكثر من صوابها؟.
ثم يقال: ما الفائدة في العلم بهذه النجوم والشموس والمجرات الخفية التي لا نراها وليست بزينة للسماء ولا علامات يهتدى بها وأنت تفسر قوله تعالى: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦﴾ [النحل: 16]. فاكتشاف هذه الخفيات والغيبيات من النجوم والشموس والمجرات التي لا ترى إلا بالمناظير المكبرة، فإن تكلف العلم بها لن يعود على الناس بمنفعة، وقد خلق الله النجوم زينة للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يهتدى بها. فحسبنا منها ما نشاهد بأعيننا، وما عرفناه لمواقيت زماننا من نجوم الشتاء والصيف والربيع والخريف، وما يصلح للزراعة وغرس الأشجار، وما يستدعينا إلى التفكر والاعتبار في صنع الله الخالق الجبار.
يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١﴾ [آل عمران: 190-191].
وقوله: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا ٦١﴾ [الفرقان: 61].
وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٥٤﴾ [الأعراف: 54].
ومن شعر أبي العلاء المعري:
عجبي للطبيب يلحد في الخا
لق من بعد درسه التـشريحا
ولقد علم المنجم ما يو
جب للدين أن يكون صحيحًا
من نجوم نارية ونجوم
ناسبت تربة وماء وريحا
وإن تفسير هذا الكاتب لهذه الآية بالاكتشافات الخفية من الشموس والنجوم والمجرات الغيبية التي لا تدركها الأبصار هو بعيد جدًّا عن معاني القرآن وتحريف له عن المعنى المراد منه.
فإن ما لا يدركه كل الناس بأبصارهم ليس بعلامات لهم ولا زينة للسماء ولا بالنجوم التي يهتدون بها في ظلمات البر والبحر.. والله سبحانه لا يكلف عباده في البحث عما خفي عليهم من أسرار النجوم والمجرات التي لا يشاهدونها إذ هذا من تكليف ما لا يستطاع والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
فالاستقصاء في اكتشافها غير نافع للناس، وعدم اكتشافها غير ضار إذ هي من الأشياء التي العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر.
فالخير كل الخير في اكتشاف الأرض التي خلقها الله لعباده وأودع فيها جميع ما يحتاجون إليه من الكنوز والنفائس، ومن كل زوج بهيج ومن كل شيء موزون. يقول الله سبحانه: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا﴾ [فصلت: 10].
فهذه البركة التي أودعها سبحانه في أرضه ولا يزال الناس يتطلبونها بالكشف والتفتيش من لدن خلق الله آدم إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة. فتحصلوا على ما توصلوا إليه من خزائن الأرض وبركاتها التي خلقها الله يوم خلق السموات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس إليها، والمكتشفون يعترفون بأن ما خفي عليهم من أسرار الكون وخزائن الأرض أكثر وأكبر مما اكتشفوه، وأنهم كلما أوغلوا في كشف شيء تبين لهم مما خفي عليهم أكثر مما يحتسبون.
وما أحسن ما قال الشافعي في هذا المعنى:
كلما أدبني الدهـ
ـر أراني نقص عقلي
وكلما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي
فهذا هو الكشف الذي تعم منفعته وتحسن عاقبته ويتمتعون بما خلق لهم ربهم من أزواج ومن كل شيء موزون.
يقول الله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29].
وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥﴾ [الملك: 15].
فكل ما يتمتع به الناس من الذهب والفضة والحديد والنحاس والخشب والرصاص والمعادن الجامدة والسائلة والبترول والأدوية والحبوب والثمار والفواكه والحيوانات وسائر أنواع الخيرات، كل هذه أوجدها الله في أرضه ليتنعم بها عباده ويتمتعوا بها إلى ما هو خير منها في آخرتهم.
﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧﴾ [العنكبوت: 17].
﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١﴾ [طه: 81].
هذا... ولعل ما بقي من خزائن الأرض أكثر مما اكتشفوا بأضعاف مضاعفة.
أما اكتشاف النجوم والشموس والمجرات الخفية وسائر الأفلاك الغيبية التي لا يشاهدها الناس بأبصارهم ولا يصل إليهم شيء من نفعها فإنها من الأشياء التي العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر.. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشیخ
عبدالله بن زید آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية