1766

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م

المجلد الأول
العقائد



(2) عقيدة الإسلام والمسلمين

[الإسلام خاتم الشرائع ومحمد خاتم الأنبياء والرسل]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الإسلام دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، ﴿يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 16].

فهو الدين الذي ارتضاه الله لجميع الأمم.

يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]. وقال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3].

وهو دين سائر الأنبياء أولهم نوح وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣ [الشورى: 13]. غير أن شرائع الأنبياء تختلف. يقول الله: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا [المائدة: 48]. وقد جاءت شريعة محمد رسول الله مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع قبلها؛ لأن الله أرسله إلى كافة الناس ليظهره على الدين كله ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158].

وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فلا يجوز لأحد أن يعمل أو يحكم بغير شريعته.

ولما رأى النبي ﷺ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطعة من التوراة قال له: «يا عمر لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»[41].

وهو دين اعتقاد وقول وعمل فلا إسلام بدون عمل. وقول النبي ﷺ: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[42] يشير إلى اعتقاد القلب؛ لكون العقائد القلبية تنشأ عنها الأعمال البدنية صحة وفسادًا، فإذا صح الاعتقاد صلح العمل، وإذا فسد الاعتقاد ساء العمل وساءت النتيجة. وقد «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً» كما ثبت ذلك في الصحيح[43] من حديت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

* * *

[41] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [42] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [43] أخرجه مسلم.

حكمَة بعثة الرسُل (إفراد الله بالدعاء فلا يُدعى مع الله أحد)

إن الله سبحانه لم يبعث رسولاً إلا ويأمر قومه بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا. والعبادة أنواع منها: الصلاة والزكاة والصيام وسائر الأوامر الدينية، ومنها الدعاء فإن الدعاء عبادة.

وروى مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «الدعاء عبادة» وقرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [المؤمن: 60]. - أي صاغرين حقيرين ذليلين - ورواه الترمذي بلفظ «الدعاء هو مخ العبادة» ومخ الشيء خالصه، فمتى كان الدعاء عبادة فإن صرف الدعاء لغير الله شرك.

فالذين يدعون عليًّا أو يدعون وليًّا أو عبد القادر أو يدعون الرسول حين يقفون عند قبره ويقولون: يا محمد اشفع لي عند ربك وأغثني، كل هذا من الشرك الأكبر الذي لا يُغفر إلا بالتوبة منه، فإن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. يقول الله: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106].

فسماه الله ظالمًا لكونه صرف هـذه العبادة التي هي من خالص حق الله لغير الله، وقال: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨ [الجن: 18]. وأخبر الله بأنه لا أضل -أي: لا أظلم ولا أجهل- ممن يدعو ميتًا ويسأله قضاء حاجاته وتفريج كرباته، وهو مرهون في قبره بعمله لا يستطيع زيادة في حسنات نفسه ولا نقصانًا من سيئاته، فقال: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6]. وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

الذبح لغَيرِ الله شِرْك

إن الله سبحانه قد شرع الذبح له في القُرب الدينية كذبح متعة الحج والقِران والإحصار، وعن ترك شيء من واجبات الحج أو فعل محظور أو ذبح الأضاحي والعقيقة والمنذورة لله، فكل هذه تدخل في قسم العبادة لله رب العالمين ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي -أي ذبيحتي- ﴿... وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ [الأنعام: 162-163].

فمتى كان الذبح عبادة لله رب العالمين فإن الذبح لغير الله شرك، كالذبح للجن والذبح للزار والذبح للقبر، ومثله الذين يذبحون للجن عندما يستجدون سكنى بيت ولا يسمون على ذبيحتهم، فهذا كله من الشرك، والذبيحة حرام لا يجوز أكلها سواء كانت صغيرة أو كبيرة لأنها مما أهل به لغير الله تعالى.

وفي مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غيّر منار الأرض» أي مراسيمها.

* * *

تعْليق الحجُب والجامعَات والحُروز وما يسمّونه العزيمَة والتعويذة والتميمَة كلّه شرك

إن هذه الأسماء عبارة عما يعلق على الأولاد والأجساد والدواب لدفع الجان وعين الإنسان، وهي من بقايا عمل الجاهلية الأولى، إذا ولد لهم مولود علقوا عليه التميمة -أي الجامعة- لتقيه بزعمهم من الجان ومن عين الإنسان كما قال الشاعر:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
ومعنى نيطت: أي علقت.

وقد تسربت هذه الفكرة الشركية إلى السذج من العوام وضعفة العقول والأفهام، وقد أبطلها الإسلام وعدها من الشرك.

لأن هذا التعليق على اختلاف أنواعه هو مما يقتضي صرف القلب عن الله تعالى، ويجعله متكلاً ومتعلقًا قلبه بهذا التعليق، بحيث يشب عليه صغيرًا ويهرم عليه كبيرًا، وقد يموت وهي معلقة على جسده فيعظم ضرره ويشتد خطره.

روى الإمام أحمد بسند لا بأس به عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ رأى رجلا في يده حلقة من صفر قال: «ما هذه» قال: من الواهنة. فقال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، وإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا».

فنهاه النبي ﷺ عنها لأنه اتخذها معتقدًا بأنها تعصمه من الألم وهي ليست بدواء ولكنها داء.

وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له» وفي رواية «من تعلق تميمة فقد أشرك».

وهذا دعاء من النبي ﷺ على من تعلق تميمة -أي جامعة- أو حرزًا أو تعويذة يريد منها أن تقيه عن الآلام وعن الجان وعين الإنسان، قال: فلا أتم الله له أمره مما يرجوه ويؤمله من العافية والصحة. وأكبر منه قوله: «من تعلق تميمة فقد أشرك»[44] كما قال: «ومن علق ودعة فلا ودع الله له»[45] أي لا جعله في دعة وسكون بل جعله في قلق واضطراب. وعن عبد الله بن عكيم أن النبيﷺ قال: «من تعلق شيئًا وُكل إليه»[46] وهذه الأحاديث تقتضي النهي عن كل معلق سواء كان من القرآن أو من غير القرآن، فلا وجه لتخصيصه بغير تمائم القرآن، إذ لو كان فيها نوع مباح لورد الدليل بإباحته، كما ورد الدليل بإباحة الرقى ما لم تكن شركًا. ولهذا قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن. وعبر بالكراهة عن التحريم كما هي طريقة السلف السابقين، وقد أمر النبي ﷺ بقطعها عن الدواب والأولاد لكونها تضر ولا تنفع وتضعف الإيمان في القلب.

وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة لكونه أنقذه من عبودية الشيطان[47].

والحاصل أن من تعلق شيئًا وكله الله تعالى إلى ذلك، فيقع في قلق واضطراب وفنون من الأضرار والأمراض وداء الصرع وغيره. ومن توكل على ربه، والتجأ إليه وفوض أمره لله كفاه الله كل شر، ﴿وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا ٣ [الطلاق: 3].

إن أكثر من يحسّن للناس هذا التعليق ويعمل عمله في تنظيمه هم القوم الذين يتكسبون به على سبيل التغرير والخداع لضعفة العقول من العوام والنساء كما قيل:
أراد إحراز مال كيف أمكنه
فظل يكتب للنسوان أحرازا
أما الرقية بالآيات القرآنية والأدعية النبوية فإنها مشروعة، فقد رقى النبي ﷺ ورُقي وقال: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»[48]، وقد نزلت المعوذتان أي: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس للرقية بهما. وكان النبي ينفث بهما في كفيه ويمسح بهما ما استطاع من جسده، ولما مرض كانت عائشة تفعل ذلك به، ولما اشتكى رسول الله رقاه جبريل فقال: «بسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك، من كل عين حاسد ومن كل شيطان مارد»[49].

ولما رقى الصحابي اللديغ بفاتحة الكتاب قال رسول الله: «إنها رقية حق»[50].

واشترطوا لصحة الرقية بأن تكون بالآيات القرآنية أو الأدعية النبوية، وأن تكون باللسان العربي مع اعتقاد أن الله هو النافع الضار.

إذ الرقية محض أدعية، والدعاء يدفع شر البلاء ويرفعه، وتأثيرها تعود إلى قوة إيمان فاعلها، والله أعلم.

* * *

[44] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [45] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [46] أخرجه الترمذي وأحمد. [47] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف. [48] أخرجه أبو داود من حديث عوف بن مالك. [49] أخرجه أحمد وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد الخدري. [50] أخرجه أبو داود من حديث علاقة بن صحار.

حـقِيقـة الإسْـلام

إن الإسلام هو هذا الدين السمح السهل الحسن، ليس بحرج ولا أغلال ولا شاق، ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة، بل هو سلّم النجاح وسبب الفلاح. رأسه الإسلام وعموده الصلاة وبقية أركانه الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام مرة عند الاستطاعة، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، بل هي أصل الإسلام لمن سئل عن الإسلام كما في سؤال جبريل حين قال للنبي ﷺ: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً». قال: صدقت. رواه مسلم من حديث عمر، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة. وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».

فهذه الأركان بما أنها البنيان للإسلام فإنها الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وهي محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن للإسلام صوىً ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه، ذلك أن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون اختبارهم على صحة إيمانهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان، وحتى المشركون الوثنيون الذين يتوسلون بأهل القبور ويتضرعون إليهم في قضاء حوائجهم ويطلبون الشفاعة منهم، فإنهم عندما يفرغون من دعائهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فهم مسلمون بألسنتهم، ومشركون بأعمالهم واعتقادهم.

ومن المعلوم أن للإسلام أعمالاً هي بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان، كما روى الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب» ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة هو من يصلي الصلوات الخمس المكتوبة، ويؤدي الزكاة المفروضة، ويصوم رمضان، ويقوم بشرائع الإسلام، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء لله في أرضه، وهذه الأعمال هي بمثابة العنوان لصحة الإيمان بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2]. أي لا يمتحنون ولا يختبرون على صحة ما يدعون ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ -أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع وعمل الواجبات وترك المحرمات- ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ -أي في دعوى إيمانهم فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم فصدق فعلهم قولهم- ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ [العنكبوت: 3]. الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه، فكانوا كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ [البقرة: 8-10].

لهذا نجد كثيرًا من الناس في البلدان العربية يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم من الإسلام سوى محض التسمي به والانتساب إلى أهله، وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقومون بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد خرقوا سياج الشريعة واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

إن الناس على طبقات شتى فمنهم أناس يتسمون بالإسلام، ويصومون رمضان، لكنهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة في أموالهم، كما عليه عمل أكثر أهل البلدان العربية. ومنهم أناس يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ويصومون رمضان، لكنهم لا يؤدون الزكاة الواجبة في أموالهم، وهم أكثر التجار، فهؤلاء كلهم ممن قال الله فيهم ﴿...وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗا [النساء: 150-151].

فلا يكون المسلم مسلمًا حقًّا حتى يأخذ بعزائم الإسلام كلها، وكيف يكون مسلمًا من يصوم رمضان ثم يصر على ترك الصلاة المفروضة التي هي عمود الإسلام والناهية عن الفحشاء والمنكر والآثام، والتي هي آخر ما يُفقد من دين كل إنسان؟! فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين، فلا يستبيح ترك الصلاة مؤمن بوجوبهـا لما في الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، من تركها فقد كفر». وفي رواية: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد أشرك»[51] ؛ لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالإيمان والانقياد له بالطاعة والصلاة والزكاة والصيام.

إن بعض الناس يعتذر عن أداء الصلاة بعدم نظافة ملابسه وعدم طهارة سراويله، وليست هذه بعذر يبيح ترك الصلاة، فإن الصلاة لا تسقط بحال إلا بزوال التكليف كالجنون، ولو خلصت نيتهم وصلح عملهم وصدق عزمهم لبادروا إلى الطهارة التي هي مفتاح الصلاة والتي يترتب عليها تكفير السيئات، ثم بادروا إلى فعل الصلاة ولكن ﴿كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ ٤٦ [التوبة: 46].

ومثله الزكاة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11]. وفي الآية الأخرى ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ [التوبة: 5]. وقد جعل الصحابة أداء الزكاة من حقوق الإسلام الذي يجب الجهاد في سبيله، وقد استباحوا قتال المانعين للزكاة وعدّوهم مرتدين بمنعها، ولهذا قال أبو بكر: والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة[52]، فهي من حقوق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن شرائع الإسلام مثل الصلاة والزكاة والصيام واجتناب الحرام كلها تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر والقمار إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة. فالتخلق بالعمل بالشرائع الدينية هو الذي يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويجعل صاحبه متحليًا بالفرائض والفضائل، ومتخليًا عن منكرات الأخلاق والرذائل. لاسيما الصلاة فإنها تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، وتغرس في القلب محبة الرب، ومحبة الجود والكرم وبغض الهلع والجشع ﴿۞إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٢٢ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣ [المعارج: 19-23]. ولهذا يقال: إن كل متدين متمدن.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
أما عدم الدين فإنه جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد، وإنما تنشأ الحوادث الفظيعة والفواحش الشنيعة من القتل وشرب الخمر وهتك الأعراض ونهب الأموال واختطاف النساء والأولاد من العادمين للدين الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، فلا يرجون عند الله ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، كما قال تعالى في صفتهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٢٠٦

[البقرة: 204-206].

* * *

[51] أخرجه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث بريدة الأسلمي. [52] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

الإيمـان باللّـه ربـًّا

«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً» رواه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

إن معنى الرضى بالله ربًّا هو أن يؤمن ويصدق بوجود الرب الواحد الفرد الصمد، رب العالمين وخالق السموات والأرض، خلق الخلق من العدم بقدرته وربّاهم بنعمته وأوجد لهم جميع ما يحتاجون إليه من المطاعم والمشارب والحيوانات والفواكه والثمرات والخيرات، ليتنعموا بذلك في حياتهم، ويستعينوا بها على عبادة ربهم، ويتمتعوا بها إلى آخرتهم ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ ١٥ [سبأ: 15]. فمن قال: إن السموات والأرض ومن فيهن خلقت بالصدفة أو خلقت بالطبيعة فقد كفر بالله، ويسمون هؤلاء بالدهريين وبالطبيعيين ؛ لأنهم ينسبون كل شيء إلى الطبيعة؛ بدعوى أنها الموجدة لها دون الله عز وجل، وإذا سألتهم عن الطبيعة وما هي لم يجدوا جوابًا إلا أنها محض العدم، ومن المعلوم بالبديهة أن العدم لا يخلق الوجود، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ٣٦ [الطور: 36].
فوا عجبًا كيف يعـصى الإلـ
ـه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
إن الإيمان بالله ربًّا يستلزم التصديق والتسليم بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله ﷺ من إثبات الكلام والاستواء والنزول والوجه والسمع والبصر.

فأهل السنة من هذه الأمة يؤمنون بكل ما جاء في القرآن والسنة من آيات الصفات، ويقولون: إن الحق هو الإيمان بها والتسليم لما جاء عن الله ورسوله فيها، قائلين: آمنا بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.

فكل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه، ليس لأحد أن يفسره، ويقولون: أمرّوا آيات الصفات كما جاءت بلا تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، ﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١ [الشورى: 11].

لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله سبحانه ذاتًا لا تشبه ذات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين، ُ ض ص ش س ز ر! ِ ويقولون كما قال الإمام مالك لما سُئل عن الاستواء. فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذا يقال في جواب السؤال عن النزول وعن الوجه والسمع والبصر، فيقولون: الوجه معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب. وكذا سائر الصفات، فالذين أنكروا وكذبوا بكلام الله اضطروا إلى القول بخلق القرآن ففروا من التشبيه ووقعوا في التعطيل، والكلام صفة كمال، والله سبحانه موصوف بكل كمال.

والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه ذات المخلوقين، ﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١ [الشورى: 11]. وكان الإمام أحمد يقول: ناظروهـم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا. يريد بهذا أن المنكرين للصفات يقال لهم: هل تؤمنون أن لله علمًا يعلم به خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فكذلك المخلوق فإن له علمًا يعلم به ما يمكنه إدراكه وإحاطة العلم به، وعلم المخلوق ليس كعلم الله وكذالك سائر صفات الله لا يشبهها ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١.

فمن آمن بظاهر هذه الصفات ووكل علمها وتفسيرها إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ فقد أحسن حيث انتهى إلى ما سمع وسلم من عناء التعطيل والتحريف والانحراف ومن تكلف الكلام فيما لا علم له به، والذي يشبّه يئول به إلى تعطيل الرب عن صفاته وإلى التكذيب بكلامه ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ [يونس: 39]. وقد قيل:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته
ولا ذاته شيء عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها
وأخبارها للظاهر المتقارب
ونركب للتسليم سفنًا فإنها
لتسليم دين المرء خير المراكب

* * *

ومنَ الإيمان باللهِ الإيمان بالقرآن

إن القرآن كلام الله غير مخلوق ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ [الشعراء: 193-194]. ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ [النحل: 102]. ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤ [فصلت: 3-4]. ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢ [الشورى: 52].

فالقرآن كلامه سبحانه يجب الإيمان به. يقول الله سبحانه: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ [النساء: 164].

وقال: ﴿۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٧٥ [البقرة: 75]. ولأن الكلام صفة كمال، والله سبحانه موصوف بالكمال ومنزه عن النقص، فكلامه سبحانه غير مخلوق.

فمن كذب بكلام الله أو قال: إن القـرآن مخـلـوق، أو إنه شيء فـاض على نفس محمـدﷺ بـدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فقد كذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله وقال بمقالته الوحيد العنيد القائل ﴿إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ٢٥ سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ ٢٦ [المدثر: 25-26]. ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٥ قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦ [الفرقان: 5-6].

رؤيَـة الـربّ في الآخِـرَة

ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣ [القيامة: 22-23]. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»[53] يعني بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر.

أما رؤية الرب في الدنيا ففيها خلاف، والقول الراجح أنه لا يراه أحد، وحكى الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال: ﴿رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي [الأعراف: 143].

وسئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «لا، نور أنَّى أراه»[54] أي حال دون رؤيته نورٌ هـائل يمنـع من رؤيتـه في الدنيا، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه. ثم قرأت قـوله تعالى: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣ [الأنعام: 103][55].

* * *

[53] متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله. [54] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [55] متفق عليه من حديث عائشة.

الإيمـان بالملائكـة الكـرام

إن من أصول الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته. يقول الله تعالى: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177]. وقال: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ [البقرة: 285]. فالإيمان بالملائكة يتفرع عن الإيمان بالله عز وجل وعن الإيمان بالكتب المقدسة النازلة من الله على أنبيائه ورسله.

والملائكة هم عالم غيبي، عاقلون خلقهم الله لخدمته وعبادته، كما خلق الجن والإنس. ومن صفتهم أنهم عقول بلا شهوات، فهم عباد مكرمون ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦ [التحريم: 6].

وقد يتشكلون بأمر الله وإرادته كما نزل جبريل على النبي ﷺ في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، فسأل النبي ﷺ عن أصول الدين والصحابة يستمعون، فلما انصرف قال النبي عليه الصلاة والسلام: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم»[56]. ورئي مرة في صورة دحية بن خليفة الكلبي، ورآه مرة في صورته التي خلقه الله عليها بمنظر هائل.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ [النجم: 13-14].

ولا يتوقف الإيمان بالملائكة على رؤيتهم، فإنهم من عالم الغيب، وقد أثنى الله على المتقين الذين يؤمنون بالغيب، فالإيمان بوجود الرب إيمان بالغيب والإيمان بالملائكة إيمان بالغيب والإيمان بالبعث بعد الموت للحساب وبالجنة والنار إيمان بالغيب.

والناس بين مؤمن موحد يصدق بكل ما أخبر الله به تصديقًا جازما وإن لم يـدركه بحواسـه، إيمانًا ليس مشوبًا بشك ولا ريب ولا مشـروطًا بعدم معارض. وبين مادي ملحد لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه، فهو ينكر كل ما لا يدرك رؤيته فيكذب بوجود الرب ويكذب بالملائكة ويكذب بالجنة والنار وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ١٥٨ [الأنعام: 158].

إن عدم علم الشخص للشيء وعدم مشاهدته له لا ينفي وجوده ولا وقوعه، وقد أنزل الله في المكذبين به قوله تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 39-41].

وهذا التأويل الذي عناه القرآن هو يوم القيامة حين تبدو المغيبات للعيان، فيتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده، وتبرز الملائكة، وحين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وهذا هو معنى التأويل في هذه الآية ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٥٣ [الأعراف: 53].

فإنكار الملائكة أو نسبتهم إلى الأفعال الخيرية في الشخص كما تقوله الفلاسفة هو كفر بهم، يستلزم التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٧ [هود:17].

والمؤمن حقًّا هو من يؤمن بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا جازمًا بدون تردد سواء أدرك ذلك بمشاهده ومشاعره أو لم يدركه؛ لأن الرسل أتت بمحارات العقول من الأخبار بالمغيبات والمعجزات.

* * *

[56] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

الإيمـان باليَـوم الآخِـر

إن الإيمان باليوم الآخر هو الأصل لصلاح الأعمال واستقامتها، والتحفظ على الفرائض والفضائل، والتخلي عن المنكرات والرذائل، ويغرس في القلب محبة الرب والتقرب إليه بطاعته. فهو ينظم الإنسان في حياته أحسن نظام، بحيث يخاف عواقب سيئاته ويرجو ثواب حسناته.أما عدم التصديق باليوم الآخر بالثواب والعقاب والجنة والنار فإنه ينشأ عنه غالبًا الأعمال الفظيعة والفواحش الشنيعة، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ١٣٦ [النساء: 136]. لأن من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ومن خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله لم يضع ما يريد. ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون، وذلك أن المؤمن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ودار فناء وزوال ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧ وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨ [الكهف: 7-8]. وقد سمى الله الدنيا دار متاع ﴿قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ [النساء: 77]. ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ ٢٦ [الرعد: 26]. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه وقتًا من الزمن ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ [التوبة: 38].

ثم إن هذا الموت الذي أفسد على أهل الدنيا نعيمهم ولذاتهم ليس هو فناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ [النجم: 31]. فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا والذي يقول ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا [الجاثية: 24]. فهذا هو المفرط في حياته الذي عمّر دنياه وخرّب آخرته ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١ [الحج: 11]. فيندم حينما ينزل به الموت أشد الندم ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ [الفجر: 24-25]. وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات وكل ما هو آت آت.

والمؤمن يعتقد أن له حياة في الآخرة هي أبقى وأرقى من حياته في الدنيا، والموت وإن كان مكروهًا لدى النفوس لكنه سبب في انتقال المؤمن من دار الشقاء والفناء إلى دار السعادة والبقاء، ولما قال النبيﷺ: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال الصحابة: يا رسول الله كلنا يكره الموت. فقال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة فإن كان من أهل الخير وبُشِّر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن كان من أهل الشر وبُشِّر بالشر فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[57].

إن من كانت عقيدته التكذيب باليوم الآخر وإنكار البعث للحساب والثواب على الحسنات والعقاب على السيئات فإنه ينصرف بعقله وعمله واهتمامه إلى العمل في دنياه واتباع شهوات بطنه وفرجه، ويترك فرائض ربه، وينسى أمر آخرته. وقد حذر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثاله فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 18-19]. أي نسوا حق الله عليهم من صلاتهم وزكاتهم وسائر واجباتهم، فأنساهم الله أنفسهم، أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية، وحذر الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم.

فهؤلاء الذين ينكرون وجود الرب، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار هم عند المحققين من علماء المسلمين أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على الإسلام والمسلمين أشد من ضرر اليهود والنصارى، من أجل أن المسلمين يغترون بهم وينخدعون بأقوالهم. ولم يأمر الله سبحانه على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم عقائدهم وأخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل. فمتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم ترتب على جهرهم فتنة في الأرض وفساد كبير؛ لأن الجهر بالإلحاد هو جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد؛ لأن الناس مقلدون بعضهم بعضًا في الخير والشر.

فمتى وجد من يجاهر الدين بالعداء، ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته، ويدعو إلى الإعراض عنه والتكذيب به وعدم التقيد بحدوده وفرائضه، فأولئك هم نواة الفتنة والمحاربون لله ورسوله، وقد أوجب الله قتلهم وقتالهم وسماهم أئمة الكفر، قال تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ [التوبة: 12].

فسماهم أئمة الكفر من أجل أن الناس يقتدون بهم في كفرهم وضلالهم. وكان من عادة السلف أنهم يكتبون عقيدتهم في صدر وصيتهم ليعلموا الناس أنهم ماتوا على عقيدة أهل السنة، فيقولون: هذا ما وصى به فلان بن فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. شهادة عليها أحيا وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله تعالى... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 19 جمادى الأولى سنة 1396.

* * *

[57] أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت.