1765

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م

المجلد الأول
العقائد



(1) الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر

مقَـدّمة إلى العلماء المحترمين وإلى الشباب المثقفين وإلى الناس أجمعين

أما بعد:

فإن هذه الرسالة النفيسة تبحث عن مسألة عويصة قد اضطرب الناس في حقيقتها والأجوبة عليها، وهي مسألة القدر وما وقع فيها من اضطراب البشر، وأن العلم الصحيح المستند إلى النصوص النقلية والعقلية هو أعظم نافع وأقوى رادع لما يعرض للإنسان في حياته من فتن الشبهات والتشكيكات التي يثيرها أهل الجدل من الملاحدة والقدرية، مما يزيغ الأذهان ويوقع في الافتتان، وخاصة العوام وضعفة العقول والأفهام، بل قد تزيغ المسلم عن معتقده الصحيح، ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل.

فمتى لم يرسخ في قلب الإنسان معرفة الحق بدليله، ويميز بين صحيحه وعليله، مما يتعلق بعقائد الدين وما يدعمها من الحجج والبراهين، فإنه سيصاب بالارتباك والخجل وعقدة الوجوم والوجل عند أول ملاقاة لأهل الجدل، فيبقى صريعًا لجهلهم قد استحوذ عليه باطلهم لعدم وجود ما يصول به ويجول من علم اليقين والبصيرة في الدين، إذ العلم الصحيح سلاح الدنيا والدين وصلاح المخلوقين به تستنير البصيرة وتقوى الحجة.

وإن مما ندركه على بعض الشباب المثقفين المتخرجين، وعلى بعض علماء المسلمين، كون أحدهم متى ظفر برسالة هامة تكشف له الإشكالات وتزيل عن قلبه الشكوك والشبهات، وهي صغيرة الحجم غزيرة العلم بحيث يستطيع دراستها في مجلس واحد بدون مشقة ولا عناء، فيكون حظه منها هو النظر منه إلى عنوانها وعسى أن ينشط لدراسة الوجه الأول والثاني منها ثم يصفق بأجنحتها[1] بعضها على بعض ثم يضعها في سلة المهملات، وذاك آخر العهد بها، فيعود جهد صاحبها ضياعًا وعلمه عيالاً، أشبه من يزف امرأة حسناء إلى عنين أو كالمطر الوابل في الأرض السبخة [2]، لكونه لا قيمة للعلم عنده.
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي
فقيمة كل الناس ما يحسنونه

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

[1] أي يطويها، كأنه طائر يصفق بجناحيه. [2] هي الأرض المالحة، ولا تنبت إلاَّ قليلاً.

[جدال الملاحدة بالقدر لصد الناس عن الدين بوقوع الشك فيه]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد: فإن القضاء والقدر قد ضل فيه خلق من البشر، حيث حملوه على غير المعنى المراد منه، فتفرقوا فيه شيعًا ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢ [الروم: 32].

﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣ [البقرة: 213]. وقد صار من سيما الملاحدة - أهل الجدل- شدة اللحاح في السؤال عن القضاء والقدر، لا لأجل الاستفادة والاستفسار عن الحق وإنما هو لأجل التضليل به والتشكيك فيه، فعندما تلقى أحدهم فإنه يبادرك بالسؤال عن القدر لكونهم وجدوا فيه -لظنهم- نوعًا من العذر لهم في إسقاط الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات. حتى إذا أمرت أحدهم بالخير أو نهيته عن الشر قال: هذا أمر كتبه الله علي. يريدون أن يلقوا جريمتهم على كاهل القضاء والقدر، لاعتقادهم أن القضاء والقدر بمثابة الغل في أعناقهم والقيد في أرجلهم، وحجتهم به داحضة عند ربهم؛ لأنهم على طريقة المُجْبِرة فما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون ﴿يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ ٦ [الأنفال: 6].

وقد يتجارى بهم الهوى والتوسع في فنون الفجور فيقولون: كيف يكتب الرب علينا الشقاء ثم يعذبنا بالنار؟!

وسُمع من بعض الملاحدة قوله: كيف يخلق الله إبليس ويسلطه على الناس ثم يعذب من أطاعه بالنار، والذنب ذنب الذي خلق إبليس؟!! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا. وهؤلاء يسميهم العلماء مجوس هذه الأمة؛ لأنهم على طريقة المجبرة يرون أنهم مجبورون على فعل الجرائم بطريق القضاء والقدر.

قال الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد وقهره على فعل ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون وإنما معناه الإخبار بسبق علم الله بما يكون من إكساب العبد وصدورها عن اختيار منه. والله سبحانه قد أعذر وأنذر لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فأنزل القرآن فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، يفرق الله فيه بين طريق أهل الكفر والإيمان والهدى والضلال، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ [النحل: 36]. وأنزل الله على سبيل الإعذار والإنذار: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ [الأعراف: 27].

[الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له السمع والبصر والعقل ليتمكن بذلك من فعل ما ينفعه والتباعد عما يضره]

والله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان، وخلق له السمع والبصر والعقل ليتمكن بذلك من فعـل ما ينفعه والتباعد عما يضره في أمر دنياه وآخـرته، إذ هو مختار فـي عمله ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦ [فصلت: 46]. ثم إن الله سبحانه خلق الإنسان وخلق الشيطان ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ وَلَئِن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٧ [هود: 7]. كما خلق الجنة جزاء وكرامة لمن أطاعه واتقاه، وخلق النار عقابًا وعذابًا لمن أطاع الشيطان. والناس بين مؤمن تقي وفاجر شقي ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3].

وأنزل الله تعالى: ﴿۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٦٠ وَأَنِ ٱعۡبُدُونِيۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ ٦١ وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا كَثِيرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ ٦٢ هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٦٣ ٱصۡلَوۡهَا ٱلۡيَوۡمَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ ٦٤ ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٦٥ [يس: 60-65]. فأخبر الله سبحانه أن اعتناقهم للكفر ودخولهم النار حصل عليهم بسبب كسبهم واختيارهم لأنفسهم، حيث اختاروا الكفر على الإيمان، واستحبوا العمى على الهدى، كما قيل: لا إدانة إلا بعد التحقيق.

وقد حقق سبحانه ذلك بقوله: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ [الأنعام: 104]. ﴿جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ وقال: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]. فعلى الله قصد السبيل وعلى العبد العمل.

وحتى إن إبليس يتبرأ يوم القيامة من الذين اتبعوه وأشركوا به ﴿وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ -أي دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار- ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ -أي وعدكم وصدقكم- ﴿وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٢٢ [إبراهيم: 22].

أفصح إبليس عن نفسه بأنه لايخرج إلى الناس بمدافع وبنادق يحدوهم بها بطريق الجبر إلى طاعته، وإنما غاية كيده وعمله هو الوسوسة في الصدر فقط فلا حجة لهم في الاعتذار به.

﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ [الكهف: 29].

* * *

حقيقـة القـدر

إن الكلام في القضاء والقدر قد صار مثارًا للجدل بين المتقدمين والمتأخرين حتى افترقوا فيه على مذاهب شتى ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢ [الروم: 32]. ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣ [البقرة: 213].

ونحن وإن قلنا: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وإتقان وإنه يرجع إلى قدرة الله وإنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد. أو إنه يرجع إلى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وإنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون... فكل هذه من الصفات الداخلة في قدر الله تعالى.

والقدر هو من عالم الغيب الذي ينبغي للإنسان أن لا يشغل ذهنه بالتفكير في كنهه.

وكان الصحابة لا يخوضون في موضوع القضاء والقدر لكونه من عالم الغيب ومن الأمور الخفية عن العيان، كما قال الشاعر زهير:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني
سعيُ الفتى وهو مخبوء له القدر وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه وسبق علمه بكل شيء، وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد. ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلاً: القدر قدرة الرحمن. وقد أخذها العلامة ابن القيم فقال:
فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرحمنِ
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
لما حكاه عن الرضى الرباني
قال الإمام شفى القلوب بلفظة
ذات اختصار وهي ذات بيانِ

* * *

القدَر هوَ قُدرَة الرحمن

وهو أن تعلم وتؤمن بأن الله على كل شيء قدير، يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون. ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلاً: القدر هو قدرة الرحمن. قال ابن عقيل: إن الإمام أحمد شفى القلوب بلفظة مختصرة وهي ذات بيان وشمول معان.

قال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن: القدر يدل على القدرة وعلى المقدور. وفي فتح الباري عن أبي المظفر السمعاني قال: إن معرفة القضاء والقدر تتوقف على الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه عليهما ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العليل.. انتهى.

وصدق أبو المظفر، فإن دلائل القضاء والقدر يجب أن تؤخذ من الكتاب والسنة، إذ هما الدليل الكافي والدواء الشافي، مع قطع النظر عن كلام بعض المفسرين في معنى القضاء والقدر، إذ هو كلام بشر ينقل بعضهم عن بعض القول به فيشتهر وينتشر وربما كان غير صحيح.

إن القدر يدل بمنطوقه ومفهومه على قدرة الرب سبحانه، وعلى تقديره للأشياء بنظام وإتقان وإحكام. وكل من تتبع نصوص القرآن يجدها تدور على هذا البيان. فالقضاء في سائر استعمالاته هو بمعنى الفراغ من الشيء.

فالقضاء والقدر معناهما: أن الله سبحانه قد أوجد هذا العالم مقدرًا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل، وأنه قد فرغ من ذلك فراغًا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص، ﴿وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ ٨٨ [النمل: 88].

يقول الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ٢ [الفرقان: 2]. أي جعله مقادير منظمة متقنة محكمة. كقوله: ﴿ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨ [الرعد: 8].

ومنه قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. أي بتقدير ونظام متقن، كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئًا بطريق الصدفة ولا الطبيعة. قال ابن جرير في التفسير: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه. وبعض المفسرين يغلطون في تفسير هذه الآية حيث يحملون تفسيرها على القضاء والقدر، ثم يتوسعون في سياق الآثار الواردة في القضاء والقدر، كأن الآية سيقت لذلك وهو خطأ، فإنه لا تعلق للآية بالقضاء والقدر الذي يعنونه، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ [المؤمنون: 18]. أي بقدر حاجة الناس، ليس بالكثير المنهمر المستمر فيهلك حرثهم ومواشيهم، ولا قطعة واحدة فيضر البنيان، وإنما ينزله رشاشًا قطعًا على حسب ما يخرج من فتحات المنخل بحيث يروي الأرض وتسـيل منه الأودية؛ لأنه لو نزل كتلة واحدة لضر الأنام والأنعام والحرث، ولزال منه الانتفاع المطلوب.

نظيره قوله تعالى: ﴿۞وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ ٢٧ [الشورى: 27].

وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ [المؤمنون: 18]. هو نظير قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. لفظًا ومعنى.

وهو يرجع إلى قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ٢ [الفرقان: 2]. أي جعله ذا مقادير متناسبة ثابتة. ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ [النمل: 88].

نظيره قوله تعالى: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ [يس: 39]. أي جعلناه ذا مقادير ينزل كل ليلة منزلة منها لا يتخطاها ولا يقصر عنها، ومنه قوله: ﴿ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ ٤٠ [طه: 40]. أي على موعد قدرنا مجيئك فيه، وذلك أن الله وعده بأن يكلمه بعد أربعين ليلة، قال تعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ [الأعراف: 142].

ومثله قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٢٠ فَجَعَلۡنَٰهُ فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ ٢١ إِلَىٰ قَدَرٖ مَّعۡلُومٖ ٢٢ فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَٰدِرُونَ ٢٣ [المرسلات: 20-23]. وقرئ {قدّرنا} - بالتشديد - أي قدّرنا ذلك تقديرًا متقنًا فنعم القادرون، وقرئ بالتخفيف من القدرة أي قدَرنا على خلقه وتصويره في أحسن صورة، فنعم القادرون.

فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن، ومنه قول الشاعر:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقا عن غرة زلجا
وأما القضاء فإنه الفراغ من صنع هذه المخلوقات، وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿۞قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ ١٠ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ ١١ فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢ [فصلت: 9-12]. فذكر القضاء في قوله: ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢ كما ذكر القدر في قوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ ١٠، ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢. فهـذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان، كل شيء بحسبه وهذا معنى ما في الصحيحين من أن النبيﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض». وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله، وهو معنى قول أحدنا: قدر الله وما شاء فعل، قدرة الله أي وسابق علم الله تعالى.

[قول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمهور أهل السنة في معنى القدر]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن جمهور أهل السنة المثبتة للقدر يقولون: إن العبد فاعل حقيقة، وإن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يقرون بما دل عليه العقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء من السحاب، وينبت النبات بالماء. ولا يقولون: إن قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرون أن لها تأثيرًا حقيقيًّا كتأثير الأسباب في مسبباتها، والله سبحانه خالق السبب والمسبب... انتهى.

ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر قال: القدر قدرة الرحمن. واستحسن ابن عقيل هذه الكلمة، إن الإمام أحمد شفى القلوب بهذه الكلمة المختصرة، وأخذها العلامة ابن القيم فقال: فحقيقة القدر الذي حار الورى
في شأنه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
لما حكاه عن الرضى الرباني
قال الإمام شفى القلوب بلفظة
ذات اختصار وهي ذات بيانِ
* * *

كتابـة المقَـادير

[كتابة الله للأشياء إشارة إلى سبق علم الله بسائر المعلومات من لدن خلق الله الخلق إلى يوم القيامة]

ثبت في الكتاب والسنة كتابة المقادير كقوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا [التوبة: 51]. وقوله: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢ [الحديد: 22].

وقوله تعالى: ﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٥٩ [الأنعام: 59]. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسمائة عام». وجاء في حديث آخر: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. »[3].

وإننا عندما نقرأ أو نسمع ما ثبت عن الله ورسوله في كتابة المقادير يجب أن نفهم بأن هذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نقيسها على الكتابة التي نكتبها بأيدينا، ولا على القلم الذي نكتب به، بل هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، فإنه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون. فهـي بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله تعالى، عبر عنها سبحانه بالكتابة، كما يقول الرجل لصاحبه: حاجتك مكتوبة في صدري. إذا أراد الاعتناء بها، على أن من طبيعة الإنسان النسيان، وبه سمي إنسانًا، قيل: من أجل نسيانه. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا ١١٥ [طه: 115]. وأنشدوا: وما سمي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
وقيل: من أجل أنه يأنس بغيره لأنه اجتماعي بالطبع، والله سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم، ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤ [مريم: 64]. ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]. وكتابته للأشياء إشارة إلى علمه بسائر المعلومات لا تخفى عليه خافية من أمر خلقه، فهي كالمكتوب المضبوط في علمه، إذ ليس عندنا وصف الكتابة ولا القلم المكتوب به ولا المكتوب فيه.

[3] أخرجه أبو داود والإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت.

[اختراع هذا المخلوق بصنعته آلات تكتب كل ما تسمعه وتحصي حساب الداخل والخارج من مصاريف الماء والكهرباء بدون قلم ولا مداد وصنع الله الذي أتقن كل شيء هو أعلا وأجل]

وقد اخترع هذا المخلوق بصنعته آلة تكتب كل ما تسمعه من الكلام بدون يد ولا مداد ولا قلم، فتسجل جميع ما تسمعه من الكلام وأهلها نائمون على فرشهم، كما هي معروفة وموجودة في دور الإذاعات، ومثله الآلة التي اخترعوها لإحصاء حساب الخارج من مصاريف الماء والكهرباء بما يسمونه العدّاد، فيكتب كل ما يخرج بدون قلم ولا مداد وأهله غائبون عنه، وهي صنعة مخلوق فما بالك بالخالق القادر على كل شيء، والفعال لما يريد، إذا أراد أمرًا قال له:كن؛ فيكون، ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٦١ [يونس: 61]. ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]. ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٦١ [يونس: 61].

وإنما ذكرت هذا لتقريب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن، فهو سبحانه يعلم بالمصيبة قبل وقوعها. وعلمه سبحانه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها، فإن كان وقوعها بسبب تقصير من الشخص بإهمال الأسباب والوسائل التي تقيه من الوقوع فيها ويأمره دينه باستعمالها، فإنه ملام على تقصيره في حماية نفسه وعدم استعماله للأسباب الطبيعية التي تحفظه ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ [الشورى: 30]. وإن كان لا طاقة له بدفع هذه المصيبة فإنه معذور ويلجأ إلى قوله: «قدر الله وما شاء فعل» والنبيﷺ في الحديث الصحيح قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» [4].

[4] رواه مسلم عن أبي هريرة.

[استعمال الأنبياء للأسباب والوسائل التي تحفظهم وتؤلهم للوصول إلى الغاية مع قوة توكلهم على ربهم]

وقد كان الأنبياء يستعملون الأسباب والوسائل التي تحفظهم من عدوهم مع أنهم مؤيدون بالوحي والحفظ من الله، وقد ظاهر النبي ﷺ في الحرب بين درعين. ولما كانت وقعة أحد أنزل النبي ﷺ الناس منازلهم تجاه عدوهم، وأنزل عبد الله بن جبير بمن معه بفم الشعب وقال لهم: «الزموا مكانكم هذا ولا تبرحوا عنه حتى ولو رأيتم الطير تخطفنا فلا تنصرونا، أو رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» [5] وكانت الغلبة أول النهار للنبي وأصحابه حتى كسروا للمشركين سبعة ألوية أو تسعة، فلما انهزم المشركون أخذت الأسلحة والأمتعة تتساقط من رواحلهم ودب الناس في أخذها، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة. فذكَّرهم أميرهم قول رسول الله فعصوه ودبوا مع الناس في الغنيمة، فدخلت خيل المشركين من ذلك الشعب، فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وشجوا رأس رسول الله وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة ظنوه قتيلاً.

وبعدها أخذ الصحابة يتفكرون في سبب هذه الهزيمة، لظنهم أنهم أصحاب رسول الله وحزبه وأنهم لن يغلبوا أبدًا من أجل إيمانهم فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ [آل عمران: 165]. أي حصلت الهزيمة بسبب تقصيركم في حمايتكم وعصيانكم أمر رسول الله وأمر أميركم.

لهذا كانوا بعد ذلك أشد الناس احتفالاً بالأسباب؛ لأن الله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها ورسول الله سيد المتوكلين، ظاهر في الحرب بين درعين، ومر على حائط مائل فأسرع السير، فقيل له في ذلك فقال: «أخشى موت الفَجْأة»[6] وقدم رجل مجذوم مهاجرًا فرده رسول الله ومنعه من دخول البلد، وقال له: «ارجع فقد بايعناك».[7] وقال: «لا يورد ممرض على مصح».[8] وفي القرآن المنزل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٦٠ [الأنفال: 60]. كل هذه من اتقاء الأسباب التي كان يستعملها رسول الله مع قوة توكله على ربه.

[5] أخرجه الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب. [6] أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة. [7] أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي. [8] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

[حديث احتجاج آدم وموسى وتفسيره بما يبين المعنى المراد فيه]

وهنا حديث يجادل به أهل الجدل من أهل القدر، وهو في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء، فبما أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى رسول الله وكلمك الله تكليمًا وقد قرأت التوراة أفلا وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى، وذلك قبل أن أُخلق بأربعين عامًا. قال: بلى. قال: فلم تلومني على أمر قدره الله علي» قال: «فحج آدم موسى».

[اختلاف العلماء في حديث احتجاج آدم وموسى]

وهذا الحديث من مشكل الآثار، وقد ألحق به ابن حجر في فتح الباري عدة إشكالات كثيرة. أهمها: أنه مخالف لنص القرآن في قصة آدم في قوله: ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ [طه: 121]. وفي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا [الأعراف: 23]. فلم يحتج آدم على ربه بكتابة المقادير بل اعترف بذنبه ولجأ بالتوبة إلى ربه. ومنها أنه يقوي مذهب الجبر المخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة. ثم هذا اللقاء هل هو بالأرواح في الدنيا أم هو يوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم وتسقط عنهم التكاليف الشرعية إلى غير ذلك مما ذكر. ج 11 ص 456.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة في رسالة الاحتجاج بالقدر:

قد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب: فريق كذبوا بهذا الحديث لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه الرسولﷺ بل وجميع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله.

وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد. كقولهم: إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: إن الملام كان بعد التوبة وهو لا معنى له. وقول بعضهم: إن هذا تختلف فيه دار الدنيا والآخرة.

وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء هم الظالمون المعتدون. قال: وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر، وقد علم أن إبليس هو الذي أوقعه في الذنب حيث زين له الأكل من الشجرة التي نُهي عنها ﴿... وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٢٢ [الأعراف: 22-23]. فتاب آدم من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج به ولم يتب إلى ربه ويستغفر من ذنبه... انتهى.

وقال الخطابي رحمه الله: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر هو الإجبار والقهر للعبد على فعل ما قدره الله وقضاه، ويتوهمون أن قول النبيﷺ: «حج آدم موسى» من هذا القبيل، وليس الأمر كذلك، وإنما معناه الإخبار عن تقديم علم الله بما يكون من أفعال الناس واكتسابهم وملابستهم للخطايا عن قصد وتعمد، وتقديم إرادة واختيار منهم لفعلها، والحجة إنما تلزمهم بها واللائمة إنما تلحقهم عليها من أجل فعلهم لها بالاختيار.

وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه قد علم من آدم أنه يتناول أكل الشجرة بداعي شهوته ورغبته واختياره وتزيين الشيطان له، فكيف يمكن أن يرد علم الله فيه... انتهى.

[حديث ابن مسعود في خلق الجنين وأنه يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد]

وأما الحديث الثاني الذي يحتج به القدرية من أمثال هؤلاء فهو في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثني رسول الله وهو الصادق الصدوق «أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»[9].

إن هذا الحديث كثيرًا ما يجادل به الجهلة خاصة الشباب الذين لم يعرفوا حقيقة القدر، لظنهم أنهم مجبورون على أفعالهم الخيرية والشرية، فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل، وآخرين مكتوب لهم الشقاوة مهما عملوا من عمل. فيظنون أن هذا القدر المكتوب هو عبارة عن الجبر وسلب الاختيار.

والتحقيق أن الكتابة نوعان: كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم، فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل.

وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر، بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة، فهي كسبهم، ويترتب الجزاء على ذلك ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦ [فصلت: 46]. ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

والقرآن مملوء بتعليق الجزاء على العمل، وأن كل امرئ مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا نسبة عمله إلى القدر، وحجته به داحضة عند ربه.

[9] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.

[الكتابة التي بيد الملك يقع فيها التبديل والتغيير بإذن الله يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء]

وأما الكتابة التي بيد الملَك كما يفيده الحديث فإنه يقع فيها التبديل والتغيير بإذن الله وبمقتضى سنة الله في الأسباب التي رتبها الله لدفع القدر والقضاء ورفعه، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

[فعل الكفر والإيمان يقع من الشخص باختياره ورغبته ومن كفر فعليه كفره]

وأما قوله: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».

فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان، وذلك أن الرجل يولد مؤمنًا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته ويجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره، ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول، فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته؛ لأن العمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه، وليس سبق الكتاب -الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص- هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة، وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39]. وقد حكى الله عن الغلام الذي قتله الخضر فقال: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١ [الكهف: 80-81].

وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فهو رجل يولد كافرًا ويعيش كافرًا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه، وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك. يقول الله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ [الأنعام: 122]. وهذه الآية نزلت في الكافر يسلم وأنه في حالة كفره كالميت وكالذي في الظلمات، فلما أسلم صار حيًّا وخرج من الظلمات إلى النور ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ [البقرة: 257].

وفي وقعة أُحد جاء الأصيرم إلى النبي ﷺ وكان يقاتل مع المشركين أول النهار فأسلم وأخذ يقاتل مع النبي ﷺ فقتل شهيدًا فقال رسول الله: «عمل قليلاً وأُجر كثيرًا»[10].

وفي حديث أبي سعيد مرفوعًا «إن الرجل يولد مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ثم يموت كافرًا، وإن الرجل يولد كافرًا ويعيش كافرًا ثم يموت مؤمنًا» رواه الإمام أحمد، لأن العمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته، ومن كفر فعليه كفره، ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39]. ولهذا يقول الله: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ [الأنعام: 104].

والله سبحانه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وخلق الإنسان وخلق له السمع والبصر والعقل ليعرف بها المنافع والمضار، وكما خلق الإنسان فقد خلق الشيطان ليمتحن بذلك صحة كل من يطيع ربه ممن يطيع الشيطان. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَيۡهِمۡ إِبۡلِيسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٠ وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيۡهِم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يُؤۡمِنُ بِٱلۡأٓخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِي شَكّٖۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ ٢١ [سبأ: 20-21]. فأخبر سبحانه أن الحكمة في خلق إبليس هو اختبار الناس وامتحانهم على صحة إيمانهم، ليعلم سبحانه من يطيع ربه ويعمل لآخرته وهو مؤمن ممن هو شاك مرتاب في أمر آخرته، والله سبحانه ينادي عباده يوم القيامة عند عرض صحائف الأعمال على سبيل الإعذار والإنذار: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»[11] ولهذا لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم من نفسه أنه مستحق لدخولها بعمله ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ [الملك: 10].

* * *

[10] متفق عليه من حديث البراء بن عازب. [11] رواه مسلم عن أبي ذر.

بطلان الاحتجاج بالقدر: المحتجون بالقدر حجتهم داحضة عند ربهم

إن طريقة أهل السنة في القضاء والقدر هي الإيمان به، وأن الله على كل شيء قدير، وفعال لما يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ولا يحتجون به، فالمحتج به حجته داحضة عند ربه.

والقضاء والقدر الذي أوجب الله الإيمان به ليس معناه أن الله يلزم الناس بما قدره وقضاه عليهم، فقد جعل الله لهذه المقادير أسبابًا تدفعها وترفعها؛ من الدعاء والصدقة والأدوية وأخذ الحذر واستعمال الحزم وفعل أولي العزم وسائر ما يلزم إذ الكل من قضاء الله وقدره حتى العجز والكيس. وفي دعاء القنوت «اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت»[12] فلولا أن الدعاء يدفع شر القدر والقضاء لما شرعه النبي ﷺ لأمته. ويدل له ما روى الترمذي عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وأن الصدقة لتدفع ميتة السوء» فأخبر النبيﷺ أن القدر والقضاء يندفع بهذه الأسباب التي شرعها الله لدفعه ورفعه، فلا يكون لزامًا على الناس من ذلك كتابة الملك على الجنين وهو في بطن أمه حين يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد، فإن هذه الكتابة يعتريها التبديل بإذن الله، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وسمع من دعاء عمر بن الخطاب: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا فامحني وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب[13].

إن من الناس من يكسل ويعرض عن الدعاء اتكالاً منه على القدر والقضاء، ويقول: إن كان هذا الأمر كُتب لي فسيأتيني دعوت أو لم أدع. وهذا غلط وخطأ، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، ولم يشرع الله الدعاء إلا ليثيب الداعي على دعائه ويستجيب له، والدعاء حبيب الله. فليس شيء أكرم على الله من الدعاء وهو سلاح المؤمن. ومن ذلك بعض الأشياء المحبوبة المطلوبة يقدر الله حصولها والفوز بها عن طريق الدعاء، ولا تحصل بدونه، فإذا دعا ربه حصلت له وإن لم يدع لم تحصل، وكل هذه بقضاء الله وقدره.

[12] رواه أهل السنن والإمام أحمد عن الحسن بن علي. [13] رواه الفاكهي وابن بطة عن أبي عثمان النهدي.

[العلم القائم بذات الباري لا يتبدل ولا يتغير]

أما القائم بعلم الله فإنه لا يبدل ولا يغير، فإن الله يعلم أنه سيقع كذا وكذا في وقت كذا وكذا فهذا العلم لا تبديل فيه ولا تغيير، بخلاف الكتابة التي بأيدي الملائكة والتي في اللوح المحفوظ فإنها تتبدل وتتغير بحسب سنة الله في تقدير ما يدفعها ويرفعها كما قال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله[14]. وإنما حكى الله الاحتجاج بالقدر عن المشركين حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ [النحل: 35]. فأخبر الله بأنه ليس من شأن الرب إجبار الشخص على عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، لكون ذلك كله موكولاً إلى فعل الشخص نفسه واختياره لها ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ [الكهف: 29]. وقال الله تعالى: ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39].

وإنما وظيفة الرسل تبليغ الهداية والدعوة إلى العباد يقول تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ [النحل: 36]. ويقول: ﴿فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ ٧ [الشورى: 7].

فالمحتجون بالقدر يسمون جبرية فقول بعضهم: لا يغني حذر عن قدر. ليس على إطلاقه، فإنه قد يندفع القدر بالحذر. وقد أرشد القرآن إليه لما يترتب عليه من النفع ودفع الضر. فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. كما قال عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله. في قضية امتناع عمر والصحابة عن دخول الشام لما وقع بها الطاعون، فنادى في الناس: إني مصبح على ظهر. فتأهبوا للرجوع فتلقاه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فقال له: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟! قال: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله[15].

وقد أرشد القرآن إلى أخذ الحذر الذي من لوازمه عدم الركون أو الركود إلى القدر فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]. لأن الله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، فما أذنب القضاء والقدر ولكن الناس يذنبون. يقول تعالى: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ [النساء: 79]. وقد قيل -والشعر للعلامة ابن القيم رحمه الله-:
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تسدي وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا
ظهيرًا على الرحمن للجبر تزعم
تنزه منك النفس عن سوء فعلها
وتعتب أقدار الإله وتظلم
وتفهم من قول الرسول خلاف ما
أراد لأن القلب منك معجم
بطيء عن الطاعات أسرع للخنا
من السيل في مجراه لا يتقسم
وتزعم مع هذا بأنك عارف
كذبت يقينًا في الذي أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم
وإنك بين الجاهلين مقدم

[14] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف. [15] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

[قول شيخ الإسلام: إن التوكل لا يكون إلا مع الأخد بالأسباب وإلا صار توكله عجزا]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح، والإنسان مأمور بالأسباب، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]. وقال: ﴿فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ [الملك: 15]. وقال لنبيه لوط: ﴿فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ [هود: 81]. وقال لنبيه موسى: ﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِي لَيۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ٢٣ [الدخان: 23]. انتهى.

فالرسل دينهم الأمر والعمل مع إيمانهم بالقضاء والقدر، فالأنبياء وأتباعهم يحاربون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، ويقولون: إن القدر لا يمنع العمل ولا يجب الاتكال عليه، والنبي ﷺ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»[16].

[16] متفق عليه من حديث علي رضي الله عنه.

[قصة عمر بن الخطاب مع السارق المحتج بالقدر على سرقته وجواب عمر له]

فهذه سيرة الرسول وأصحابه وعلماء السنة والجماعة يعملون بالحزم وفعل أولي العزم فعل من يرى أنه لا ينجيه ويسعده سوى عمله ثم يتوكلون على ربهم.

ولما أتي إلى عمر رضي الله عنه برجل قد سرق فقال: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره قال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. فأمر به فقطعت يده[17].

فالاحتجاج بالقدر لا يقبله أي إنسان فيما يقع عليه أو على أهله وماله، فلو تعدى رجل على آخر فضربه أو أخذ ماله وانتهك محارمه فعند سؤاله عن أفعاله قال: حملني عليها قضاء الله وقدره، فإنه لا يقبل منه ذلك. فما بالك بالاحتجاج به على الله في ترك طاعاته وارتكاب محرماته! وما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون. ولما سأل الصحابة النبي ﷺ عن القدر وهل يجوز لهم من أجله ترك العمل؟ قال لهم رسول الله: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»[18]. ولهذا قال الصحابة: كنا بعد علمنا بالقضاء والقدر أشد اهتمامًا منا بالعمل وقالوا: يا رسول الله: أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله، إن كان أحدكم نافعًا أخاه فليفعل»[19] ؛ لأن الله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا؛ لهذا قال: «تداووا ولا تداووا بحرام»[20] وقال: «إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلا الموت»[21] وقد قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
* * *

[17] أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل من حديث عمر. [18] متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب. [19] أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي خزامة. [20] أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء. [21] أخرجه أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن مسعود.

أضرّ مَا ابتلي به الشخص هوَ العَجز اتكالاً على القَدر

إن أكثر الناس يجعل عجزه توكلاً، وفجوره قضاء وقدرًا، فمتى نصحته عن ترك الصلاة أو نهيته عن شرب المسكرات اعتذر إليك بأنه مكتوب علي، فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب الكفر والمنكرات جبري.

وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من العجز والكسل، ويقال: نكح العجز التواني فولد بينهما الحرمان.

فمن نوع العجز الذميم الإعراض عن استعمال الأدوية المجربة لدفع البلاء ورفع الوباء توكلاً منهم بزعمهم على الله تعالى.

[الأدوية التي يستدفع بها البلاء والوباء هي من قدر الله]

والله سبحانه خلق الناس وخلق لهم جميع ما يحتاجون إليه من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية وغير ذلك.

فكل العقاقير والأدوية التي يستعملها الأطباء لعلاج المرضى وللوقاية من البلاء والوباء هي بالحقيقة من مخلوقات الله تعالى التي أنبتها في أرضه رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع بمرض يزيله ويشفيه.

فالمرض هو من قدر الله، والدواء الذي يعالج به ليشفيه هو من قدر الله أيضًا، فهم يسلطون القدر على القدر ويتقون القدر بالقدر، فيشربون الدواء الكريه المر خوفًا من الوقوع في النار، ويرتجزون يقولون:
نحن في دار بليات
نعالج آفاتٍ بآفات
وقد ركَّب الله في الإنسان السمع والبصر والعقل ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه واستعمالها في سبيل وقاية صحته وحفظ بنيته، وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ويقول: «عباد الله تداووا فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء» [22] فاستعمال الأدوية المباحة والوقاية النافعة هي من تحقيق التوحيد، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل؛ لأن كل ما شرعه رسول الله لأمته وأمر به فإنه من الدين الذي يجب اتباعه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105]. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦ [فصلت: 46].

وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٩٢ وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٩٣ [النمل: 92-93].

* * *

[22] رواه الترمذي عن أسامة بن شريك.

التذكير بحديث «المؤمن القويّ أحب إلى الله من المؤمن الضعيف» وفيه بيان القضاء والقدر على الوجه الصحيح

وبما أنه بقي الكلام على موضوع حديث جبريل، وفيه «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» [23]. فقد يشكل على أكثر الناس حقيقة هذا القدر الذي يجب الإيمان به، فيتخبطون في وصفه وتفسيره، بما يبعد عن حقيقته، ويبعد القلوب عن فهمه.. لهذا وجب أن نبين للناس حقيقة القدر الذي يجب الإيمان به، ونقدّم قبله الكلام على حديث «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، إذ فيه بيان حقيقة القدر، ومحاولة محاربته، وعدم الاتكال عليه.

فقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان».

وأقول: إن هذا الحديث، هو من جوامع الكلم، ومهمات الحِكم. فهو بمثابة الموعظة الفصيحة، والنصيحة الصحيحة، التي حث النبي ِﷺ عليها أمته، وأحب منهم أن يتخلقوا بمدلوله الذي فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

بدأه بقوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، لكون القوي يزيد على الضعيف بقوته، والقوة في سبيل الحق والعدل مطلوبة شرعًا، ومحبوبة طبعًا.

ولهذا يستحبون الغزو مع الأمير القوي الفاجر، ويفضلونه على الغزو مع الأمير المؤمن الضعيف. ويقولون: إن إيمان الضعيف، وضعفه يضر بالناس، وإن فجور الأمير القوي لنفسه، وقوته تنفع الناس.

ولهذا كان من سيرة عمر بن الخطاب: أنه كان يفضّل الأمير القوي، ويقدمه في الولاية على الضعيف. كما ولى زياد بن أبيه وأمثاله. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة.

ويستحبون في القاضي: أن يكون قويًّا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، حليمًا، ذا أناة وفطنة. وقد قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
فالقوة الممدوحة هنا، شاملة للقوة في الدين والدنيا، لكونه يقوم في أعماله بجد وعزم، ويأخذ بأسباب الحزم. وقد قيل:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ولهذا قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز».

فهذه من أجمع الكلمات، وأفصح العظات، ترشد الإنسان إلى الحرص فيما ينفعه في أمر دينه ودنياه وبدنه، فمتى احتاج إلى علاج يزيل به ضرره، ويدفع به مرضه، فإنه يبادر إلى الأخذ بأسبابه، والدخول عليه من بابه، لأن دين الإسلام، يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والآخرة. ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «ما نزل داء، إلا وله دواء، علمه من علمه، وجهله مَنْ جهله»[24]. وقال: «تداوَوْا ولا تداوَوْا بحرام»[25]. فيستعمل الدواء الكريه المرّ، خوفًا من الوقوع في الضر. كما قيل:
نحن في دار بليات
نعالج آفات بآفات
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل. والله سبحانه يحب الكَيْس -أي الحزم- ويلوم على العجز. وفي الحديث: «كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكَيْس»[26]. فالعجز هو التواني، والكسل في الأمور، وعدم الأخذ بالثقة، وعمل الحيطة في كل ما يقيه ويرقيه. ولهذا قيل:
الحزم أبو العزم أبو الظفرات
والترك أبو الفرك أبو الحسرات
فقول النبي ﷺ: «احرص على ما ينفعك»، يشمل هذا كله، كما يشمل الحرص على أمر دينه، من المحافظة على كل فرائض ربه التي ينتظم بها أمر حياته وآخرته، فإنها نعم العون على ما يزاوله من أمر الدنيا. وفي الدعاء المأثور «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي»[27]. وقد مدح الله الذين يقولون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٢٠١ [البقرة: 201].

فلا ينبغي للإنسان أن يعجز عما يعود عليه نفعه، من أمر دينه، ودنياه فإن العجز نتيجته الحرمان. وقد قيل:
دع التكاسل في الخيرات تطلبها
فليس يسعد بالخيرات كسلان
ومن دعاء النبي ﷺ: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»[28]

إن أضر ما ابتلي به الشخص، هو العجز والكسل، وأكثر الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاءً وقدرًا.

فمتى صارحت الشخص، ونصحته عن ترك الطاعات كالصلاة مثلاً، أو نهيته عن شيء من المنكرات، كشرب المسكرات، اعتذر إليك قائلاً: إنه أمر مكتوب عليَّ. فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب المنكرات جبري، نظير ما حكى الله عن المشركين، حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ [النحل: 35].

فالمحتج بالقدر حجته داحضة عند ربه، لأنه باحتجاجه بالقدر، يريد أن يبطل الأمر والنهي، اللذين عليهما مدار العبادات والأحكام، وأمور الحلال والحرام، والله سبحانه خلق الإنسان وركّب فيه السمع والبصر والعقل، ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه، واستعمالها في سبيل قوته، ووقاية صحته، وحفظ بنيته. وقد أرشد القرآن الحكيم إلى أخذ الحذر، الذي من لوازمه عدم الركون أو الركود إلى القدر، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]. وقد ظاهر النبي ﷺ بين درعين[29]، وهو محفوظ من الله بكلاءته، وملائكته.

[23] أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب. [24] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [25] أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء. [26] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [27] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [28] رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. [29] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث السائب بن يزيد.

ربط الأسباب بالمسببات

وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله، وأصحابه، وكل ما شرعه رسول الله ﷺ لأمته، وأمر به، فإنه من الدين الذي يجب اتباعه، واستعماله، ويدخل في عموم قوله: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»[30].

فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، وعليه مدار العمل، مع إيمانهم بالقضاء والقدر، فهم يقدمون الأمر، ويحاربون القدر بالقدر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما بلغه أنه قد وقع الطاعون بالشام، فامتنع عن دخول البلد من أجله، وعزم على الرجوع بأصحابه، ولما قال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم، نفرّ من قدر الله، إلى قدر الله[31].

ويقولون: القدر لا يمنع العمل، ولا يجب الاتكال عليه، لا الاحتجاج به، إلا في حالة بذله للأسباب التي تقيه وترقيه وتحفظه، فمتى غلبه الأمر بعد ذلك، فإنه لا يلوم نفسه على تقصيره أو تفريطه، ولن يلومه الناس، إذ قد ينزل بالشخص من البلايا والمحن، ما لا طاقة له به؛ ولهذا قال: «ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا» ؛ لأن هذا من اللوم المذموم. فالعاقل يأخذ في أموره بالحذر والحزم وفعل أولي العزم، فمتى غلبه أمر لا يطيق دفعه، ولا رفعه، فعند ذلك يلتجئ إلى قوله: هذا قدر الله، وما شاء فعل. ليسلّي نفسه.
على المرء أن يسعى ويبذل جهده
وليس عليه أن تتم المقاصد
أما إذا غلبه أمر بسبب ضعفه وعجزه وتقصيره بأخذ الحيطة، ووسائل الوقاية والحفظ فإنه ملام على عجزه، ولا معنى لاحتجاجه بقضاء الله وقدره ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ [النساء: 79].

ولما قصّر الصحابة يوم أُحد في حمايتهم، وأهملوا الشِّعب الذي أمرهم النبي ﷺ بحفظه حتى دخلت عليهم خيل المشركين من جهته، فقتلوا سبعين من الصحابة، وكانوا يظنون أنهم لن يغلبوا، من أجل أنهم جند الله، والمجاهدون في سبيله مع نبيّه، فأنزل الله ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ [آل عمران: 165]. أي بسبب تقصيركم بحفظ بيضتكم، وحماية ثغركم.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب. وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل، لا يكون إلا عن جهل بالشرع، أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب. والعمل بالأسباب، محله الأعضاء والجوارح، والحركة، والإنسان مأمور بالأسباب ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ [العنكبوت: 17]. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ [الملك: 15]. يسأل بعضهم:

[30] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [31] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف.

[هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟]

فالجواب: أن الإنسان مخيَّر، أي فاعل مختار لعمله، سواء كان خيرًا، أو شرًّا، فلا يقع فعل مقصود إلا من فاعل مختار، يقول الله: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]. وقال: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ [الأنعام: 104]. والله سبحانه يقول عند عرض صحائف الأعمال يوم القيامة: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه»[32].

فمن قال: إن الإنسان مسيّر؛ فإن هذه طريقة الجبرية، القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله، وتصرفاته، ويصفونه في تصرفه بالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح اضطرارًا، لا اختيارًا.

وينشدون في ذلك:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إيّاك إياك أن تبتلّ بالماء
وأقول: إن هذا الشعر هو من الكذب المفترى على الله، وعلى رسوله، وعلى القضاء والقدر، فما ذنب القضاء والقدر؟! ولكنهم المذنبون يجادلونك بالباطل ليدحضوا به الحق، فهو بعيد عن الحق، فإن الله سبحانه لم يخلق الإنسان في الدنيا مكتوفًا عن العمل والسعي، والأخذ بأسباب الحول والقوة، وسائر ما يؤهله من السعادة، والوصول إلى الغاية والنعيم في الدنيا وفي الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]. وقال: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨ [النحل: 78]. فهذه هي الوسائل والأسباب التي تنجيه من عذاب الدنيا، وعقاب الآخرة، فيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته.

أما إذا عطّل الإنسان هذه المنافع، ولم يستعملها في سبيل ما خلقت له، من عبادة ربه، واستعمالها في مصالحه، ومنافعه المباحة، فيكون بمثابة الأعمى والأصم، أو كالميت المكتوف. كما قال سبحانه: ﴿..وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡ‍ِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡ‍ِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ... [الأحقاف: 26]. وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44]. وحكى سبحانه عن أهل النار ﴿قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ ٩ وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ [الملك: 9-10].

فقد خلق الله الإنسان، وخلق له السمع والبصر والأفئدة، وخلق له أيضًا جميع ما يحتاج إليه في الدنيا من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية.

فكل العقاقير التي يستعملها الأطباء لعلاج الأمراض، والوقاية من البلاء والوباء، فهي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه، رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بمرض يزاوله ويشفيه، فهي من قدر الله تعالى التي يقدِّر الله بها دفع البلاء ورفعه، لكون الدواء أمانًا للصحة وقت المهلة، فالقائلون: ألقاه في اليم مكتوفًا، هم الجبرية، الذين يحتجون بالقدر، ويحاولون أن ينزهوا أنفسهم عن سوء ما فعلوا من المنكرات، وترك الطاعات. قال الخطابي رحمه الله: قد يحسب كثير ممن لا علم عندهم: أن القضاء والقدر من الله، عبارة عن إجبار العباد وقهرهم على ما قدره وقضاه، وليس كذلك. وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد، واكتسابهم لأعمالهم، والحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، لمباشرتهم تلك الأفعال، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد.

فالقدر بنسبته إلى الله: عبارة عن سبق علم الله بالعباد، وما هم فاعلون وليس علمه بها هو جبر منه لهم على فعلها[33]. انتهى.

ويحيلون جورهم وفجورهم، من تركهم الطاعات، وارتكابهم المنكرات، وشرب المسكرات، إلى القضاء والقدر. وما ذنب القضاء والقدر؟! ولكنهم المذنبون. فلو تعدى ظالم على هؤلاء بضربه، أو أخذ ماله، أو انتهاك محارمه، ثم احتج على سوء فعله بالقضاء والقدر، فإنه لن يقبل منه هذا الاحتجاج، لعلمه أنه احتجاج باطل، حاول به التوصل إلى باطل ببديهة العقل، فكيف يقبل على الله في ترك طاعاته، وارتكاب محرماته[34]؟!.

ولهذا يرى بعض العلماء: أن يُجاوَبَ الجبرية بالصفع على الوجه، ويقال: هذا قضاء الله وقدره، كما كنت تحتج به. ولمّا جيء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسارق قد سرق، واعترف. فقال له عمر: ما حملك على السرقة؟ فقال: حملني عليها قضاء الله وقدره. فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. ثم أمر به، فقطعت يده.

ومثله احتجاج بعضهم بقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
وهذا أيضًا يعد من أفسد الشعر، يتمشى على عقيدة الجبر، كما ذكرنا فيما سبق. وهذا القول، وهذا الاعتقاد، باطل بمقتضى النقل والعقل، فهم يصورون القضاء والقدر في نفوسهم، بمثابة الغُل في العنق، والقيد في الرجل، بحيث لا يتقصى أحد عنه، ولا محيص للناس منه، وهو مدفوع بقول النبي ﷺ في هذا الحديث: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز». والله سبحانه لم يخلق الخلق في الدنيا سدى مهملين مضيعين كالمكتوفين، بل خلقهم عاملين متحركين مختارين.

ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به اتكاله على قضاء الله وقدره.

وحقيقة القدر: هو الإخبار عن سبق علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنه يعلم ما كان، وما سيكون، كيف يكون؛ لأنه لا يخفى عليه خافية من أعمال عباده. فعلمه بالأشياء قبل وقوعها شيء، والجبر منه عليها شيء آخر. فقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمر، أن النبيﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». وهذه الكتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل أن تقع. وهذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نشبه كتابته بكتابتنا، ولا قلمه سبحانه الذي يكتب به بأقلامنا.

قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق، وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا، فأنزل ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠ [الحج: 70]. ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان صفحة 199.

وثبت أن الله يدفع القدر بالقدر، وأن الله يمحو القدر بالقدر، وسمع من دعاء عمر، أنه يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا، فامحني، وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت [35]. والله يقول: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩ [الرعد: 39]. مما يدل على أن هذا المحو قد أزيل به كتاب سابق. وفي حديث ثوبان: أن النبي ﷺ قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الصدقة لتدفع ميتة السوء»[36]. وفي دعاء القنوت «وقنا واصرف عنا شر ما قضيت»[37]، فأثبت في هذا الحديث، كون الدعاء يرد القدر والقضاء، كما أن الصدقة تدفع ميتة السوء. وكذا قوله: «ولا يزيد في العمر إلا البر»، سواء حملناه على زيادة الأيام والليالي، أو على البركة في العمر، والكل واقع بقضاء الله وقدره.

فالأنبياء، والعلماء، دينهم الأمر، ويقدمونه على القدر. فقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
هو قول باطل قطعًا. فلا يكون التحرّك مثل السكون، إذ إن مدار الشرع على الأمر والنهي، وأصدق الأسماء: حارث وهمّام. فالهمّام: هو الذي يهم بقلبه، سأفعل كذا. والحارث: هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى تحقيق آماله، والسعي في أعماله، وقد قيل:
المسلم الحق يصلي فرضه
ويأخذ الفأس ويسقي أرضه
يجمع بين الشغل والعباده
ليكفل الله له السعاده
وقد قلنا بأن المرض الذي يصاب به الشخص، هو من قضاء الله وقدره، وأن الدواء الذي يعالج به ليشفيه، هو من قضاء الله وقدره أيضًا، فهم يشربون الدواء الكريه المرّ ليقيهم من الوقوع في الضر، كما قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـر
فإن المرّ حين يـسر حلو
وإن الحلو حين يضـرّ مر
وقد ثبت في الحديث: «بادروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة»[38]. وفي مراسيل الحسن، أن النبي ﷺ قال: «حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرّع»[39]. والدعاء يتعالج مع البلاء بين السماء والأرض، فلا يعجز أحدكم عن الدعاء، ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي، فسوف يأتيني، دعوت، أو لم أدع. فإن هذه طريقة الملاحدة الذين يحاولون إبطال عبودية الدعاء، وهو مخ العبادة. وقد قدر الله بعض الأشياء، ولا يحصلها الإنسان إلا عن طريق الدعاء. وإن لم يدع لم تحصل له ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ [محمد: 38]. ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[32] رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه. [33] نقله عنه شيخ الإسلام في منهاج السنة . ونقله الخازن في تفسيره على قوله سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. [34] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن القضاء والقدر: القدر نؤمن به، فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول، ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولاً، لقبل من إبليس، وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب الله أحدًا من الخلق لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ولو كان القدر حجة، لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد في جريمة، ولا جوهد في سبيل الله، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر. [35] رواه الفاكهي وابن بطة عن أبي عثمان النهدي. [36] أخرجه أحمد في مسنده من حديث رافع بن مكيث. [37] أخرجه أصحاب السنن من حديث الحسن بن علي. [38] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أنس. [39] رواه أبو داود في مراسيله عن الحسن البصري.

شبهة النصارى على المسلمين في عقيدة القضاء والقدر

عقيدة القضاء والقدر قد كثر من النصارى الخلط والخبط في الطعن على الإسلام والمسلمين فيها، لظنهم فيها الظنون الكاذبة حيث أخرجوها عن حدود ما أنزل الله، وعن حقيقة ما يؤمن به المؤمنون.

وقالوا: إن المسلمين في فقر وفي تأخر في القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم من أجل اعتقادهم بالقضاء والقدر.

لظنهم أن المسلمين كانوا على عقيدة الجبر القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله.

وتوهموا أن المسلمين يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيف تميل، وأنه لا حول لهم ولا قوة ولا اختيار، وإنما ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة. فلا ريب أن تتعطل قواهم ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، ويزول عن خواطرهم داعية السعي والكسب والحرفة، ثم يتحولون من عالم الوجود إلى عالم العدم، ويُسلبون العزة والقوة ويحكم فيهم الضعف والضعة، ورموا المسلمين من أجلها بصفات المذلة وسيما الهوان.

ذلك ظن الذين كفروا في المسلمين، وتبعهم على ظنهم هذا ضعفاء العقول من العرب الذين أولعوا بتقليد النصارى وتصديقهم فيما يقولون، فهم يلفظون لفظهم كلما لفظوا ويتبعون ظلهم أينما انبعثوا.

وأقول: إنهم افتروا الكذب على الله وعلى عباد الله فيما يقولون، فإنه لا يوجد مسلم صحيح الإسلام في هذا الزمان يعتقد مذهب الجبر المحض، ويعتقد سلب القدرة والاختيار عن نفسه أو عن غيره، ولو وجد فإنهم يلحقونه بالمجانين.

وكل الطوائف من المسلمين من زمن الصحابة إلى زماننا هذا يعتقدون للإنسان قدرة واختيارًا، وأن قدرته تؤثر في مقدورها حسب تأثير القوى والطبائع بما يسمى الكسب والاختيار، وهو مناط التكليف الذي عليه مدار الثواب والعقاب والفوز بالجنة والنجاة من النار. يقول الله: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

فهم يعتقدون أنهم محاسبون على ما وهبهم الله من القوى والاختيار، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر والنواهي الربانية، إن أحسنوا فلأنفسهم وإن أساؤوا فعليها.

فهم يلومون ويذمون كل من يحتج بالقدر في ترك الأمر وارتكاب النهي، وأنه لا حجة له في ذلك بل حجته داحضة عند ربه.

وقد أمر رسول الله ﷺ أمته بأن يأخذوا بالكيس والحزم وفعل أولي العزم في جميع أعمالهم من أمور دينهم ودنياهم، وأن يأخذوا حذرهم ويستعدوا بالقوة لعدوهم وبما استطاعوا من الكيد والقوة، ونهى عن الكسل والعجز، وأخبر أن الله يلوم عليه، كما أرشدهم ودلهم على الدواء عند الحاجة إليه، وقال: «إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء»، وقال: «لا تداووا بحرام».

ونهى أشد النهي عن أن يتكلوا على القضاء والقدر في شيء من أعمالهم، بل قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، وهذا هو مناط التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل والمصلحة، وعليه مدار عقيدة المسلمين. وقد قيل: العاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.

أما عقيدة الجبر كالذين يحيلون جميع تصرفاتهم في ترك واجباتهم أو ارتكاب محرماتهم إلى القضاء والقدر فهذا الاعتقاد قد انقرض أهله من سنين طويلة.

غير أنه في هذا الزمان نشأت طائفة من شباب العرب الماردين والمارقين عن الدين يحتجون بالقدر في ترك الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات، ومتى عذلته[40] أو نهيته عن سوء عمله قال: هذا أمر كتبه الله علي. فيجعلون عجزهم توكلاً، وكفرهم وفجورهم قضاء وقدرًا.

وسُمع من بعض الملاحدة أنه يقول: الذنب ذنب الذي خلق إبليس ليس ذنبي!!! وهؤلاء يعدهم المسلمون ملاحدة ليسوا من المسلمين.

[40] عذلته: أي لُـمْتَهُ.

[اعتقاد القدر على الوجه الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة والصفات الحميدة]

إن اعتقاد القضاء والقدر الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة وتَتْبعه الصفات الحميدة من بسط اليد في النفقة والصدقة والجرأة والإقدام وخلق الشجاعة، ويبعث على اقتحام المهالك في سبيل الحق وحماية الدين والوطن، ويلهج أهله بقولهم: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١ [التوبة: 51]. إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم وتحمُّل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، ويحلي الأنفس بحلية الجود والسخاء، لاعتقاده أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه، كما يحملها على التضحية بالروح في سبيل الحق والتخلي عن الدنيا وزينتها.

فالمسلم الذي يعتقد هذا الاعتقاد وأن نواصي الخلق بيد رب العباد يتصرف فيها كيف يشاء، وأن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وأن الدنيا دار متاع يتمتع بها صاحبها برهة من الزمن ثم يزول عنها، وأن الآخرة هي دار القرار، وأن كل امرئ مجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.

فهذا الاعتقاد متى رسخ في قلب المؤمن فإنه لا يرهب الموت أبدًا ولا يجزع منه إذا نزل به، لاعتقاده أن له دارًا هي أبقى وأرقى من دار الدنيا، وعيشًا ونعيمًا هو أرغد وأنعم من عيش الدنيا، فإنه لن يجزع من فراق الدنيا والحالة هذه.

ثم إن هذا الموت ليس بفناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، فهذا يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الموت وهول المطلع فيندم حيث لا ينفعه الندم، ويقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24].

[اندفاع المسلمين بصحة عقيدتهم إلى فتح مشارق الأرض ومغاربها]

لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في أوائل نشاطهم في القرن الأول والثاني والثالث، شجاعة باسلة وقلوب ثابتة وإيمان راسخ، فاندفعوا إلى الممالك البعيدة في مشارق الأرض ومغاربها، وبأيديهم القرآن يفتحون به ويسودون، ويدعون الناس إلى العمل به، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، حتى استطاعوا أن يثلّوا عروش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وهم أرقى الأمم حضارة وقوة ونظامًا وعددًا وعدة.

فما كان خوضهم لهذه المعارك التي هي غاية في اقتحام المهالك إلا من أجل إيمانهم بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح، وأنها لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فهذا الاعتقاد هو الذي ثبّت أقدام المسلمين مع قلتهم وضعفهم أمام جيوش أعدائهم التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فكشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا التوحيد والصلاح والسعادة في سائر البلدان، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 41].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرر في 20 ربيع الثاني سنة 1396 هـ

* * *