1756

الغلاف

ردُّ قَرَوِيّ على السيد المَحَلَّاتِي




تأليف

حيدر ﻋﻠﻲ قلمداران القُمي


المترجم

د. سعد محمود رستم

مقدمة المشروع

الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الإسلام، واختار منهم أفضل عباده وأطهرهم لإبلاغ رسالة الحرية والتحرُّر من كل عبودية سوى عبودية الله، والصلاة والسلام على أهل بيتِ نبي المحبة والرحمة الكرام الأطهار، وعلى صحبه الأجلاء الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن الدينَ الذي نفخر به اليوم ثمرةٌ لجهاد رجال الله وتضحياتهم؛ أولئك الذين كانت قلوبهم مُتَيَّمةً بحب الله، وألسنتهم لَـهِجَةً بذكر الله، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ رسالات الله ونشرها، واضعين أرواحهم وأموالهم وأعراضهم على أكفهم ليقدِّموها رخيصةً في سبيل صون كلمة الله سبحانه و سنة نبيه الكريم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.

أجل، هكذا قامت شجرةُ الإِسْلاَمُ العزيز واسْتَقَرَّت ضاربةً بجذورِها أعماق الأرض، بالغةً بفروعها وثمارها عنان السماء، مُعْليةً كلمة التوحيد والمساواة.

ولكن في أثناء ذلك، تطاولت على قامة الإسلام يد أعدائه الألدَّاء، وظلم علماء السوء وتحريف المتعبِّدين الجَهَلة، فَشَوَّهُوا صورة الإسلام الناصعة بشركهم وغلوهم وخرافاتهم وأكاذيبهم، إلى درجة أن تلك الأكاذيب التي كان ينشرها المتاجرون بالدين غطَّت وجه الإسلام الناصع. وقد اشتدَّ هذا المنحى من الابتعاد عن حقائق الدين وعن سنة رسول الله الحسنة، بمجيء الصفويين إلى حكم إيران في القرن التاسع الهجري ثم بقيام الجمهورية الإسلامية في العصر الحاضر، حتى أصبحت المساجد اليوم محلاً لِـلَطْمِ الصدور وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحلَّت الأحاديث الموضوعة المكذوبة محل سنة النبيص، وأصبح المدَّاحون الجهلاء الخدّاعون للعوام، هم الناطقون الرسميون باسم الدين؛ وأصبح التفسير بالرأي المذموم والروايات الموضوعة المختَلَقة مستمسكاً للتفرقة بين الشيعة والسنة، ولم يدروا للأسف من الذي سينتفع ويستفيد من هذه التفرقة المقيتة؟

إن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تُرْفع اليوم في إيران، ليست سوى ضجَّة إعلامية ودعاية سياسية واسعة، القصد منها جذب الأنظار وإعطاء صورة جيدة عن حكومة إيران الشيعية في العالم. إن نظرةً إلى قادة الشيعة في إيران وزعماءهم الدينيين ومراجعهم تدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والأخوَّة والمحبَّة الدينية بين المسلمين، على منهج حُكَّام إيران الحاليين، ليست سوى رؤيا وخيالٍ وشعارات برَّاقة لا حقيقة لها على أرض الواقع.

في هذا الخِضَمّ نهض أفراد مؤمنون موحِّدون من وسط مجتمع الشيعة الإمامية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، ونبذ البدع الطارئة والخرافات الدخيلة، وإصلاح مذهب العترة النبوية بإزالة ما تراكم فوق وجهه الناصع منذ العصور القديمة من طبقات كثيفة من غبار العقائد الغالية والأعمال الشركية والبدعية، والأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة، والعودة به إلى نقائه الأصلي الذي يتجلى في منابع الإسلام الأصيلة: القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة على صاحبها آلاف التحية والسلام وما أيَّدهما من صحيح هدي أئمّة العترة الطاهرة وسيرتهم؛ وشمَّر هؤلاء عن ساعد الجِدّ وأطلقوا العِنان لأقلامهم وخطبهم و محاضراتهم لإزالة صدأ الشرك عن معدن التوحيد الخالص، ولسان حالهم يقول: «انهض أيها المسلم وامحُ هذه الخرافات والخزعبلات عن وجه الدين، واقضِ على هذا الشرك الذي يتظاهر باسم التقوى، وأعلن التوحيد وحطِّم الأصنام».

لقد اعتبر «حيدر علي قلمداران القمِّي» - وهو أحد أفراد تلك المجموعة من الموحِّدين المصلحين - في كتابه «طريق الاتحاد»، أن سبب هذه التفرقة هو جهل المسلمين بكتاب الله وسيرة نبيه، وسعى من خلال كشف الجذور الأخرى لتفرُّق الفرق الإسلامية، إلى التقدّم خطوات مؤثرة نحو التقريب الحقيقي بين المذاهب. ولا ريب أن جهود علماء الإسلام الآخرين مثل آية الله السيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي، والسيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، وآية الله شريعت سنكلجي، ويوسف شعار وكثيرين آخرين من أمثال هؤلاء المجاهدين في سبيل الحق، أسوة ونبراس لكل باحث عن الحق ومتطلِّعٍ إلى جوهر الدين، كي يخطوا هم بدورهم أيضاً خطوات مؤثرة في طريق البحث والتحقيق التوحيدي، مُتَّبِعين في ذلك أسلوب التحقيق الديني وتمحيص الادِّعاءات الدينية على ضوء التعاليم الأصيلة للقرآن والسنة، ليعينوا ويرشدوا من ضلوا الطريق وتقاذفتهم أمواج الشرك والخرافات والأباطيل، ليصلوا بهم إلى بر أمان التوحيد والدين الحق.

إن المساعي الحثيثة التي لم تعرف الكلل لِرُوَّاد التوحيد هؤلاء لَهِيَ رسالةٌ تقع مسؤوليتها على عاتق الآخرين أيضاً، الذين يشاهدون المشاكل الدينية لمجتمعنا، ويرون ابتعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام الحيَّة، لاسيما في إيران.

هذا ولا يفوتنا أن نُذَكِّر هنا بأن هؤلاء المصلحين الذين نقوم بنشر كتبهم اليوم قد مرُّوا خلال تحوُّلهم عن مذهبهم الإمامي القديم بمراحل متعددة، واكتشفوا بطلان العقائد الشيعية الإمامية الخاصة - كالإمامة بمفهومها الشيعي والعصمة والرجعة والغيبة و... وكالموقف مما شجر بين الصحابة وغير ذلك - بشكل متدرِّج وعلى مراحل، لذا فلا عجب أن نجد في بعض كتبهم التي ألفوها في بداية تحولهم بعض الآثار والرسوبات من تلك العقائد القديمة لكن كتبهم التالية تخلَّصت بل نقدت بشدة كل تلك العقائد المغالية واقتربوا للغاية بل عانقوا العقيدة الإسلامية الصافية والتوحيدية الخالصة.

***

الأهداف

تُمثِّلُ الكتبُ التي بين أيديكم اليوم سعياً لنشر معارف الدين وتقديراً لمجاهدات رجال الله التي لم تعرف الكَلَل. إن الهدف من نشر هذه المجموعة من الكتب هو:

1- إمكانية تنظيم ونشر آثار الموحِّدين بصورة إلكترونية على صفحات الإنترنت، وضمن أقراص مضغوطة، و بصورة كتب مطبوعة، لتهيئة الأرضية اللازمة لتعرُّف المجتمع على أفكارهم التوحيدية وآرائهم الإصلاحية، لتأمين نقل قِيَم الدين الأصيلة إلى الأجيال اللاحقة.

2- التعريف بآثار هؤلاء العلماء الموحِّدين وأفكارهم يشكِّل مشعلاً يهدي الأبحاث التوحيدية و ينير الدرب لطلاب الحقيقة ويقدِّم نموذجاً يُحْتَذَى لمجتمع علماء إيران.

3- هذه الكتب تحث المجتمع الديني في إيران الذي اعتاد التقليد المحض، وتصديق كل ما يقوله رجال الدين دون تفكير، والذي يتمحور حول المراجع ويحب المدَّاحين، إلى التفكير في أفكارهم الدينية، ويدعوهم إلى استبدال ثقافة التقليد بثقافة التوحيد، ويريهم كيف نهض من بطن الشيعة الغلاة الخرافيين ، رجال أدركوا نور التوحيد اعتماداً على كتاب الله وسنة رسوله.

4- إن نشر آثار هؤلاء الموحِّدين الأطهار وأفكارهم، ينقذ ثمرات أبحاثهم الخالصة من مقصِّ الرقيب ومن تغييب قادة الدين والثقافة في إيران لهذه الآثار القَيِّمة والتعتيم عليها، كما أن ترجمة هذه الآثار القَيِّمة لسائر اللغات يُعَرِّف الأمّة الإسلامية بآراء الموحدين المسلمين في إيران وبأفكارهم النيِّرة.

***

آفاق المستقبل

لا شك أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ تماماً من الخرافات والبدع وإلى المدينة الفاضلة التي تتحقق فيها الطمأنينة في ظلِّ رضا الله سبحانه وتعالى، إلا باتِّباع التعاليم النقيَّة الأصيلة للقرآن الكريم وسنة نبي الرحمة والرأفة ص. إن هدف القائمين على نشر مجموعة آثار الموحِّدين هو التعريف بآثار هؤلاء المجاهدين العلميين الكبار، كي تكون معرفة الفضائل الدينية والعلمية لهؤلاء الأعزاء، أرضية مناسبةً لنموّ المجتمع التوحيدي والقرآني في إيران وقوّته، وذلك لنيل رضا الخالق وسعادة المخلوق.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لعلوّ درجات أولئك الأعزاء، وأن يمنّ علينا بالعفو.

مقدمة الناشر

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة العبودية له، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وآخر رسل الله محمد المصطفى وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.

وبعد، فقد كان المسلمون طول القرون المنصرمة سبَّاقين للآخرين في تحصيل العلم والمعرفة وتعلُّم العلوم المختلفة، وذلك ببركة تعاليم الإسلام العزيز واتِّباعاً منهم لكلام رسول الله ص، حتى صار العلماء المسلمون في أواخر فترة الخلافة العباسية سادة العلوم في عصرهم، وتحول بيت الحكمة الذي تأسس في بغداد في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني في عهد خلافة هارون الرشيد العباسي، إلى أكبر مؤسسة علمية وبحثية في العالم، ولا يزال بيت الحكمة يُعتَبر مظهراً من مظاهر الحضارة الإسلامية وذلك بفضل نشاطاته الثقافية والعلمية في المجالات المختلفة من تأليف وترجمة واستنساخ وأبحاث متنوعة في المجالات العملية المختلفة سواء الطب والهندسة أم العلوم الإنسانية.

ولا شك أن هذه القوة العلمية للمسلمين كانت بمثابة شوكة في أعين أعداء الإسلام، لذلك سعوا من خلال بثِّ أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين إلى تحطيم عَظَمَة الإسلام هذه وسؤدده الذي يعود الفضل فيه إلى وحدة المسلمين وتماسكهم والأخوة السائدة بينهم، فأثار أعداء الإسلام عواصف النزاعات والتفرقة بين المسلمين كي يحجبوا جمال الحق عن أبصارهم، ويخفوا شمس الدين المشعة خلف غيوم البدع والخرافات. وكما يقول الشيخ سعدي الشيرازي: الحقيقــة مكـان مزَينٌ ألا ترى أن كل مكان اعتلاه الغبار لكن الهوى والرغبات أثارا الغبار فوقه لا يقع عليه النظر ولو كان الرجل بصيراً إن المساعي المخطط لها وعلى المدى الطويل لأعداء الإسلام، لأجل إغلاق أعين المسلمين عن حقيقة الدين وإضعاف المسلمين عن تعلُّم معارف الدين ونشرها، وإبعادهم عن سنة النبي الأصيلة الهادية، أدت إلى حدوث فجوة عميقة واختلاف كبير في أمة الإسلام وأصبح أبناء الإسلام اليوم يعانون بشدَّة من تبعات هذه الفجوة وآثارها المشؤومة.

وبموازاة مساعي أعداء نبي الإسلام ص العِدائية الرامية إلى تحريف تعاليم الإسلام وتشويهها وإدخال البدع المختلفة في الدين، أدرك أشخاصٌ مؤمنون أطهار شفيقون هذا الخطر، ونهضوا مشمِّرين عن ساعد الجِد والجهاد المتواصل لإحياء معالم الإسلام والسنة النبوية الأصيلة، وتناولوا بأيديهم -بشجاعة منقطعة النظير- أقلامهم وأخذوا يكتبون ويؤلفون في نشر ثقافة الإسلام الأصيلة والعقائد الإسلامية الصحيحة النقية بين أوساط الشيعة عُبَّاد الخرافات، وصدحوا بينهم بنداء التوحيد بصوت عال أيقظ المتاجرين بالدين والبدع من نوم غفلتهم مذعورين! لقد ضحى هؤلاء الموحدون الطالبون للحق والحقيقة بمصالحهم الشخصية فداء للحقيقة، وقدموا أرواحهم في هذا السبيل هديةً رخيصةً للحق تعالى، وصاروا عن حق مصداقاً لقوله تعالى:﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس/62].

إن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى غيضٍ من فيض المعارف الإلـهية، ومُنْتَخَبٍ من آثار الموحدين الطالبين لله تعالى الذين كانوا ينتمون في بداية أمرهم لطائفة الشيعة. لقد أشرق نور الله في صدورهم، وصار التوحيد نبراس حياتهم المباركة. لقد تم تحرك هؤلاء الأفراد الذين كانوا جميعاً في بداية أمرهم من الطراز الأول من علماء الشيعة في إيران، في مسيرتهم التحولية من مذهبهم القديم، خطوةً خطوةً؛ بمعنى أن نظرتهم إلى المسائل العقائدية لم تتحول بشكل فجائي مرةً واحدةً، بل حَصَل هذا التحول بمرور الزمان وعلى إثر المطالعة والدراسة المتأنية والتواصل مع من يوافقهم في أفكارهم، لذا من الطبيعي أن لا تنطبق بعض رؤى وأفكار هؤلاء الإصلاحيين في بعض مراحل حياتهم وكتاباتهم، مع عقائد أهل السنة والجماعة واتجاهاتهم الفكرية بشكل كامل؛ لكن رغم ذلك قمنا بنشر هذه المؤلفات كما هي نظراً لأهميتها في هداية شيعة إيران وغيرهم من الناطقين باللغة الفارسية. كما أنه من الجدير بالذكر أن الرؤى والمواقف الفكرية المطروحة في هذه الكتب، لا تنطبق بالضرورة مع رؤى الناشر والقائمين على نشر هذه المجموعة من الكتب، هذا على الرغم من أن هذه الكتب تمثل بلا ريب نفحةً من نفحات الحق و نوراً من جانب الله لهداية طالبي الحقيقة البعيدين عن العصبيات والظنون التاريخية الطائفية.

إن النقطة الجديرة بالتأمّل هي أنه للوقوف بشكل صحيح على رؤى وأفكار هؤلاء الأفراد، لا يمكن الاكتفاء بقراءة مجلد واحد من آثارهم؛ بل لا بد من قراءة حياتهم بشكل كامل، كي يتم التعرُّف بشكل كامل على كيفية تحولهم الفكري، ودوافعه وعوامله. فعلى سبيل المثال، ألف آية الله السيد أبو الفضل البرقعي في الفترة الأولى من بداية تحوله الفكري كتاباً بعنوان «درسى از ولايت» أي «درسٌ حول الولاية»، بحث فيه موضوع الأئمة وادعاء الشيعة حول ولايتهم وإمامتهم ورئاستهم المباشرة للمسلمين بعد نبي الله ص. واعتبر أن عدد الأئمة 12 إماماً، مصحِّحاً بذلك الاعتقاد بوجود محمد بن الحسن العسكري وحياته حتى الآن، بوصفه الإمام الثاني عشر. لكن المؤلِّف نفسه ألف بعد عدة سنوات كتاباً باسم «تحقيق جدي في أحاديث المهدي» ووضع تحت تصرف القراء نتائج بحثه التي توصل إليها في هذا المجال، وهي أن جميع الأخبار والروايات التاريخية المتعلِّقة بولادة ووجود المهدي إمام الزمان، روايات وأخبار موضوعة وكاذبة. من هذا المثال ومن أمثلة مشابهة أخرى يتبيَّن أن أفضل طريق لمعرفة المسيرة التحولية لأفكار هؤلاء الموحدين وآثارهم هي قراءة مجموعة كتاباتهم بشكل كامل، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم كل مؤلَّف من مؤلَّفاتهم أو تأخّره زمنياً.

نأمل أن تكون آثار هؤلاء المؤلّفين الكبار ومساعي القائمين على نشرها، سبباً للعودة إلى مسيرة الأمن الإلـهية وعبادة الحق سبحانه وتعالى الخالصة.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لغفران ذنوبنا وأن يسامحنا إذا وقعنا في خطأ أو زلل، وأن يرحم أرواح أولئك المؤلفين الأعزَّاء ويجعلهم في جوار رحمته، إنه رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.

ترجمة مختصرة للأستاذ حيدر علي قلمداران رحمه الله

الحمد لله الذي يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، والصلاة والسلام على من أرسل لتبليغ الدين بدعوته، وعلى جميع الأطهار الأخيار من صحبه وعترته.

وبعد:

فالهداية نعمة إلهية ومنة ربانية، لا يملكها ولا يستطيع التصرف فيها حتى الملائكة والأنبياء عليهم السلام كما قال سبحانه: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦[القصص: ٥٦].

عدة سنوات مرَّت على وفاة المفكر الإسلامي والعالم الداعية الأستاذ حيدر علي قلمداران رحمة الله عليه، وقد كُتِبت سيرة مختصرة عن حياته النضالية وآثاره العلمية وفاءاً لبعض خدماته الغالية النادرة الخالصة التي قدمها للإسلام والشريعة الإسلامية المقدسة في إيران.

• المولد والمنشأ

ولد حيدر علي بن إسماعيل قلمداران في عام 1292 ه‍.ش الموافق 1332ه‍.ق في قرية «ديزيجان» على بعد 55 كم من طريق قم- أراك من أعمال مدينة قم في أسرة فقيرة نسبياً، تشتغل بالزراعة. وأصله من مدينة »تفرش« لأن جده لأبيه المرحوم الحاج حيدر علي - وكان رجلاً سخياً جداً، يقضي حاجات الناس ويحل مشاكلهم - انتقل من تفرش إلى ديزيجان.

توفيت أمُّه وهو ابن خمس سنوات، ولم يكن بإمكانه أن يسجل في الكتّاب عِندَ عجوزةٍ معلًّمة كانت تُدعَى بين الناس «زن آخوند» بالفارسية، التي كانت تدرّس الأبناء وبنات الحي؛ لأنه لايستطيع أن يدفع الأجرة الشهرية، وكان يقف خلف الباب ويستمع إلي دروس العجوزة، ومرّة حينما عجز الطلاب عن إجابة ما تسأله العجوزة وأجابها «قلمداران» الصغير من خلف الباب، سمحت له أن يحضر الدروس مجاناً. ولكنه بسبب عدم امتلاكه ثمن الدفاتر والأقلام، وشدَّة شغفه بالتعليم كان يستخدم الدخان الأسود لنار الحمام كحبر، وأعواد الثقاب كأقلام، والأوراق الزائدة التي يرميها أصحابها في الشوارع، بدل الكراسات، ليستمرّ في دراسته.

كان حيدر علي قلمداران الولد الوحيد المتبقي لأبيه من أصل ثلاثة عشر ولداً ذكوراً وإناثاً توفوا جميعاً في الصغر بسبب الأوبئة والأمراض الفتاكة، ثم فقد قلمداران والدَه وهو ابن خمسة عشر سنة. وكان والده رجلاً سريع الغضب ويعترض على حضور ابنه الحلقات التعليمية ويرغب بأن ينصرف ابنه إلى مساعدته في الأعمال الزراعية فحسب. فكان الشاب قلمداران يضطر إلى حرمان نفسه من تناول طعام الفطور كي يتمكن من الذهاب للمكتب للتعلم في الصباح الباكر كي لا يأخذه والده معه للزراعة في أول النهار.

• الدعوة والنشاط عند الأستاذ قلمداران

تزوّج «قلمداران» بعد مضي سبعة وعشرين ربيعاً من عمره، ورزقه الله ثمانية أولاد (خمسة ذكور وثلاث إناث). وفي سن الثلاثين من عمره استُخدم في مديرية التربية في مدينة «قم»، فعُيِّن في بداية أمره كاتباً لحسن خطه، ثم أصبح معلماً في المدارس الثانوية التابعة لمديرية التربية.

ولما نضج علمه وانبرى في ميادين الثقافة بدأ يكتب مقالات في بعض الجرائد مثل: جريدة «استوار» وجريدة «سرچشمه» في مدينة قم، وصحيفة «وظيفة» في مدينة طهران.

وكانت مجلة «يغما» أيضا تطبع الأشعار الرائعة والمقالات القيمة للأستاذ «قلمداران»، وكانت مجلة «الحكمة» تنشر المقالات الفقهية التي يكتبها الأستاذ، وكان آية الله «طالقاني» والمهندس «مهدي بازركان» -رحمهما الله- يكتبان في هذه المجلة.

كان كثير الشغف بالقراءة والبحث ومطالعة الكتب الإسلامية منذ صغره، وما لبث -وهو في ريعان الشباب- أن قرض الشعر وأصبح كاتباً في عدد من المجلات التي كانت تصدر في عصره في قم وطهران، وعمل في سلك التدريس في مدارس مدينة قم، وكان يسخِّر قلمه لكتابة المقالات الإسلامية التي يدافع فيها عن تعاليم الدين الحنيف، ويردّ على مخالفي الإسلام، ويدعو لإصلاح الأوضاع وإيقاظ همم المسلمين.

فمرّةً نشرت مديرية الثقافة في مدينة قم مقالاً ينال من الحجاب الإسلامي، فكتب الأستاذ رداً قاطعاً على ذلك المقال ونشرت مجلة «استوار» ردَّه هذا. فغضب رئيس إدارة الثقافة في قم على الأستاذ وهدده بالطرد من الإدارة أمام الجميع.

يقول الأستاذ: فاستأذنت ووقفت أمام المنصة الخطابية ورددت على كلامه السخيف وتهديداته الواهية، وانتهت الجلسة بعد كلامي، ولم يستطع أن يفعل شيئاً؛ بل بحمد الله نُقل إلى مدينة أخرى.

• علاقة الأستاذ قلمداران بالخميني

قال الأستاذ قلمداران: يحتمل أن السيد روح الله الخميني كان وراء نقل رئيس مديرية الثقافة في قم، إذ كان السيد الخميني في ذلك الوقت يعطي دروساً في الأخلاق في قم، وكنتُ أحضَرُ دروسه أحياناً. وعندما سمع بقضية مديرية الثقافة، أرسل إليَّ شخصاً يقول إن السيد الخميني يريد أن يلقاك ويكلّمك، فلمَّا ذهبتُ إليه استفسر مني عن الموضوع (أعني موضوع المقالة ضد الحجاب وردِّي عليها)، فلمَّا بيَّنتُ له القصَّة قال لي: لا تخف أبداً فإنهم لن يستطيعوا فعل شيء ضدَّك، ولن أسمح ببقاء هذا الرُّجَيل (تصغير رجل، ويقصد به رئيس مديرية الثقافة في قم) في قم، فإن قال شيئاً حول هذا الموضوع مرَّةً أخرى فرُدَّ عليه ولا تخشى شيئاً. (وبالمناسبة أشار الأستاذ قلمداران مرَّةً إلى أن السيد الخميني قال مرةً في أحد دروس الأخلاق تلك، في معرض حديثٍ له عن الولاية ومقام الولي: "إذا نفخ الوليُّ بفمه انطفأ مصباح الخليقة!" قال الأستاذ: فلما رأيت هذا النمط من التفكير لديه، لم أعد أحضر دروسه).

• الأستاذ قلمداران والشعر

رغم أن الأستاذ قلمداران لم يكن شاعراً بالمعنى الأخص للكلمة، إلى أنه كان يمتلك قريحة شعرية حسنة، فكان يَنْظِمُ أحياناً بعض الأبيات الشعرية، وكما ذُكِرَ سابقاً كانت مجلة «يغما» تنشر بعض أشعاره.

• صلة «قلمداران» بالشخصيات المعاصرة

تَعرَّف الأستاذ قلمداران رحمه الله بعدد من الشخصيات المعروفة في عصره منهم:

1- العلامة الشيخ محمد الخالصي (رحمه الله)

آية الله العظمى محمد بن محمد بن مهدي الخالصي المولود عام 1888م في مدينة الكاظمية بالعراق درس على كبار علماء عصره وحاز على درجة الاجتهاد في سنٍ مبكرة جداً، له آراء إصلاحية كثيرة، توفي في بغداد عام 1963م[1].

العلامة الشيخ محمد «الخالصي» من العلماء المجاهدين في العراق. بدأت معرفة الأستاذ بالعلامة الخالصي بسبب ترجمة كتابه «المعارف المحمدية»، واستمرّت بعد ترجمة كتاب «الإسلام سبيل السعادة والسلام» وكتاب إحياء الشريعة في ثلاث مجلدات والآثار الأخرى للعلامة الخالصي. وأعقبت هذه الأعمال الثقافية إرسال الرسائل واللقاء بين الأستاذ والعلامة؛ حتى أن السيد الخالصي تأثر بأفكار الأستاذ المنوِّرة الإصلاحية، ونستطيع أن نشاهد علائم هذا التغيير في الآثار التي نشرها الخالصي فيما بعد، وكذا نرى هذا التأثير المشهود من المقدمة التي كتبها العلامة الخالصي على كتاب «أرمغان آسمان = تحفة السماء» للأستاذ «قلمداران»، وهو يكتب:

"شابٌّ مثل الأستاذ حيدر علي«قلمداران» في عصر الغفلة وتجاهل المسلمين، وفي عصر نسيان المسلمين للتعاليم الإسلامية؛ بل في عصر الجاهلية، يوضح الحقائق الإسلامية وينشرها بالشجاعة التامة وبدون أي خوف من المعاندين الجهال، فكيف نستطيع أن نشكر هذه النعمة العظيمة؟!"

تأثّر المؤلف كثيراً بالمرجع الشيعي المصلح آيـة اللـه الشيـخ محمد مهدي الخالصي (رحمه الله) وقام بترجمة أغلب كتبه إلى الفارسية، لكنه تجاوز شيخه الخالصي بخطوات أكثر انفتاحاً وخرج عن إجماع الإماميّة في بعض المسائل كنفيه وجوب أداء خمس المكاسب والأرباح، وقوله بأن الأئمة الاثني عشر ليس منصوصاً عليهم من قبل الله تعالى ورسوله ص، بل هم علماء ربانيون وفقهاء مجتهدون فحسب، وأفضل أهل عصرهم وأولاهم بالاتباع، وألف في هذا الموضوع كتابه الشهير «طريق الاتحاد» وقد تعرض بعد نشره إلى محاولة اغتيال فاشلة من بعض المتعصبين الغلاة.

كما قال قلمداران بأنه لا ثبوت لإمامٍ غائبٍ مستترٍ إلى الآن ولا رجعة ولا عصمة مطلقة لأحد إلا عصمة رسول الله ص في تبليغ رسالات ربه، ورأى كذلك من خلال دراسته لتاريخ زيارة القبور في الإسلام، عدم صحة نصب القباب وإقامة الأضرحة على قبور الصالحين سواء من أئمة آل البيت أو أولادهم وجعلها مزارات يحج لها الناس ويطوفون بها داعين مستغيثين ورأى ذلك من مظاهر الشرك في العبادة، وألف في ذلك كتابه «بحث حول زيارة المزارات».

التقى الأستاذ «قلمداران» في أسفاره إلى بعض المدن العراقية وخاصة مدينة كربلاء بكاشف الغطاء وهبة الدين الشهرستاني مؤلف كتاب «الهيئة والإسلام» وهما من العلماء الأكابر عند الشيعة الإثني عشرية وتعرّف بهما من قريب، وكان يراسل العلامة الخالصي وأحيانا الشهرستاني ويناقشه في بعض المسائل الكلامية.

[1] انظر ترجمته وآراءه ودعواته الإصلاحية في كتاب أعلام التصحيح والاعتدال للبديوي، ص 278-337.

2- المهندس مهدي «بازركان»

المهندس مهدي بازركان المولود عام 1905م في طهران والحاصل على الدكتوراه في الهندسة من فرنسا.

الأستاذ بنفسه ينقل لنا كيف تعرّف على المهندس بازركان، ويقول: بينما كنت واقفاً على الشارع بين القرية ومدينة قم وأنتظر وصول الحافلة وكنت أقرأ كتابا كي أستفيد ولا أضيع وقتي بالانتظار، مرّت سيارة أمامي فيها بضعة أشخاص، ثم وقفت السيارة ورجعت إلى الخلف ووقفت أمامي، وطلب ركابها مني أن أركب معهم.

وأثناء الطريق انتبهتُ إلى أن أحد الركاب هو المهندس بازركان (أول رئيس وزراء في إيران بعد انتصار الثورة، عام 1979م)، و كان رئيس «صناعة البترول» آنذاك (سنة 1370 أو 1371ه‍) وكان عائداً من مدينة عبادان أثناء مهمة رسمية للأمور المتعلقة بالنفط. وقال السيد بازركان لي: تعجبتُ جداً، لما رأيت شخصاً قروياً يغرق في المطالعة وهو ينتظر الحافلة. وكان هذا الحدَث سبباً في عقد الألفة والمحبة بيننا حتى أن السيد بازركان استفاد كثيراً من كتاب «الحكومة في الإسلام» في تأليف كتابه «البعثة الإيديولوجية». وكان السيد بازركان معجبا بكتاب «ارمغان آسمان= بشرى السماء» تأليف الأستاذ «قلمداران» وعرَّف الدكتور علي شريعتي على هذا الكتاب و وصفه له.

ومن الجدير بالذكر أنه بعد إطلاق سراح المهندس مهدي بازركان من السجن جاء على الأقل مرتين إلى قم لزيارة الأستاذ قلمداران.

3- الدكتور علي شريعتي

الدكتور علي شريعتي المولود عام 1933م في خراسان، والذي يعتبر ملهم الثورة الإيرانية التي قامت عام 1979م رغم أنه توفي قبلها بسنتين تقريباً، عام 1977م في لندن. عدَّه هاشمي رفسنجاني مَعْلماً أساسياً في إرساء النهضة الإيرانية، له أفكار إصلاحية كثيرة نشرها في عدة كتب من أهمها كتاب التشيع العلوي والتشيع الصفوي.

رأى الدكتور علي شريعتي كتاب «ارمغان الهي» تأليف الأستاذ «قلمداران»، وبعدما سمع عن كتاب «ارمغان آسمان» من الباحثين والمفكرين وأساتذة الجامعات، وخاصة من المهندس بازركان، تأثر أكثر فأكثر بالأفكار المنوِّرة الإصلاحية التي يحملها الأستاذ «قلمداران»، وهذا الأمر بالذات حمل الدكتور شريعتي على كتابة رسالة إلى قلمداران من باريس يطلب فيها منه إرسال الكتاب المذكور إليه. (أدرج نص هذه الرسالة في كتاب «ذكريات مانا» - كُتَيِّب نشر في ذكرى شريعتي- ).

ولما رجع الدكتور شريعتي إلي إيران قال لأحد أصدقائه وهو الدكتور «أخروي» الذي كان يعرف «قلمداران» من قريب، إن لقلمداران دور كبير في اتجاهاتي الفكرية وأشتاقُ لرؤيته، فهلا يسرتم لي اللقاء به، لكن هذا اللقاء لم يتحقق مع الأسف، ولبى الدكتور شريعتي نداء ربه، رحمه الله.

4- الأستاذ الشيخ مرتضي «مطهري»

الأستاذ مرتضى مطهري المولود عام 1338هـ في خراسان، تتلمذ على كبار علماء الشيعة كصدر الدين الصدر والخميني، وكان من الأعضاء البارزين في إدارة الحكم بعد قيام الثورة وقد تم اغتياله في طهران عام 1399هـ، وله مؤلفات كثيرة[2].

كان الأستاذ الشيخ مطهري أيضاً من المعجبين بقلمداران، ولكنه لم يكن يظهر حبه للأستاذ قلمداران خوفاً من لوم زملائه من علماء الدين. وكما قال السيد «قلمداران» إن مطهري قال له مرةً حينما التقيا في أحد الشوارع بعد الخروج من إحدى المحاضرات: "بخٍ بخٍ! أحسنتَ يا سيد قلمداران، لقد قرأتُ كتابَكَ «ارمغان آسمان» فاستمتعت به جداً و وجدته كتاباً ممتازاً".

[2] انظر ترجمته في كتاب تراجم الرجال لأحمد الحسيني 2/817.

5- آية الله العظمى حسينعلي منتظري

كان بين هذا الفقيه القدير رفيع الشأن والمرحوم قلمداران صداقة ومودَّة متميَّزة منذ سنوات قبل الثورة، وكان منتظري يحب كتابات قلمداران ونظرته الدينية، دون أن يفصح عن ذلك للآخرين. والشواهد الدالَّة على هذا المُدَّعى هي التالية:

ألف) عندما سمع الشيخ منتظري بقضية طباعة ونشر كتاب «الخُمس» للأستاذ قلمداران في أصفهان، أرسل عن طريق المرحوم السيد هاشمي مبلغ 1000 ريال وقال: هذا أيضاً مشاركة من قبلي في تكاليف طباعة كتاب الخُمْس!

وأذكر أن المرحوم قلمداران كان يقول: لما أُطلِق سراح الشيخ منتظري من السجن قُبَيل انتصار الثورة جاء إلى منزله في قم الكائن في حي «عشقعلي». فلما ذهبتُ إلى لقائه في منزله رحب بي أشدّ الترحاب وأبدى سروره البالغ بهذا اللقاء ثم قال لمن حوله - وأكثرهم من طلاب العلوم الدينية - مبتسماً مازحاً بلهجته الحلوة: هذا هو الأستاذ قلمداران الذي أخذ منا الخُمس وحرمنا منه!

فهذا يدل على أن هذا الفقيه الكبير كان واقفاً تماماً على الرأي الاستثنائي الذي لا سابقة له للأستاذ قلمداران حول انحصار الخمس في غنائم الحرب.

ب) طبقاً لقول المرحوم قلمداران، كان الشيخ منتظري منذ سنوات قبل انتصار الثورة يدَرِّس طلابه في مدينة «نجف آباد» كتاب «الحكومة الإسلامية» المثير والفريد الذي ألفه قلمداران.

ج) من الجدير بالذكر أنه بين السنوات 1363 حتى 1367هـ.ش. (الموافق لما بين عامي 1984 إلى 1988م) وبعد أن تعرض المرحوم قلمداران 3 مرات للجلطة الدماغية، وأصبح طريح الفراش في المستشفى، قام الفقيه الشيخ منتظري بلطفه وكرمه بإرسال مبلغٍ كبيرٍ من المال لأسرته، مرتين متواليتين - عبر أحد علماء الدين -، خشية أن يكون بحاجة إلى المال لأجل الدواء والعلاج. وقد شكرت أسرة المرحوم قلمداران في كلتا المرتين لطف الشيخ المنتظري وثمَّنت موقفه، واعتذرت عن قبول المال لعدم حاجتها إليه. هذا أيضاً علامة أخرى من علامات المحبة بين الأستاذين المرحومين. رحمهما الله!

• حادثة اغتيال الأستاذ «قلمداران» والحوادث المؤلمة الأخرى في حياته

1- عندما نشر الأستاذ «قلمداران» كتابه «طريق الاتحاد - دراسة نصوص الإمامة» -قُبَيل انتصار الثورة - أرسل الشيخ مرتضي حائري نجل آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم رجلاً إلى الأستاذ وطلب منه أن يأتيه إلى بيته، ولما ذهب الأستاذ إلى بيت الحائري، قال له الحائري: أأنت ألفت كتاب «نصوص الإمامة»؟ فأجاب الأستاذ: أنا لا أقول أنا لم أكتبه! ولكن لا يُرى اسمي على الكتاب! قال له الحائري: يمكن أن تُقتل بسبب تأليف هذا الكتاب! قال الأستاذ: ما أسعدني! لو أُقتل من أجل عقيدتي، ثم قال له الحائري: لو بإمكانك أن تجمع الكتاب من السوق فافعل، ثم ادفنه أو أحرقه! فأجاب الأستاذ: ليس هذا بإمكاني، طبعه رجلٌ آخر ونشره، وأنت لو بإمكانك اشتر جميع النسخ واحرقها، ومن جانب آخر يطبع آلاف الكتب للدعاية للشيوعية وتبليغ البهائية، فلماذا لا تقفون أمام هذه الكتب ومؤلفيها؟!

وبعد مُضِيّ بضعة أشهر على انتصار الثورة، وفي ليلة العشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1358 هجرية شمسية (1979م) عندما كان الأستاذ على عادته يأتي في هذا الشهر إلى مسقط رأسه قرية ديزيجان ويقيم فيها، دخل رجلٌ مأجور -أرسله المتعصبون عُميُ البصيرة وأفتوه بجواز قتل المرحوم قلمداران- بيتَ الأستاذ في منتصف الليل وأطلق عليه رصاصةً وهو نائم، ثم فرّ، ولكن رغم قرب المسافة من الهدف، جَرَحَت الرصاصُة بشرةَ رقبة قلمداران فقط واستقرَّت في أرض الغرفة!.

ونُقل عن الأستاذ أنه قبل يوم من حادثة الاغتيال جاءه رجلٌ من مدينة قم وسأله عن آرائه وعقائده، وكذا سأله عن الكتاب أيضاً!

مما لاشك فيه أن تأليف كتاب الخمس وطريق الاتحاد كانا من الأسباب الرئيسية لمحاولة اغتياله تلك.

على كل حال، لم يشأ الله أن يُقتل الأستاذ، وبعد هذا الحادث كان يأتي القرية ويداوم على أنشطته كما في السابق مؤمناً بقوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَا[التوبة: 51].

طبقاً لرواية شهود العيان من أهل القرية الذين كانوا في تلك الليلة مشغولين بسقاية بساتينهم، يمكن شرح حادثة الاغتيال تلك بالصورة الآتية:

دخل ثلاثة أو أربعة أشخاص راكبين سيارةً إلى القرية في ليلة العشرين من شهر رمضان، وأوقفوا السيارة على جسر القرية جاهزةً ومستعدةً للفرار السريع. ودخل اثنان منهم منتصف الليل بيتَ الأستاذ وكَمَنَا في حديقة البيت بين الأشجار، وكان أبناء الأستاذ يقفلون الباب مرات عديدة من الداخل، ولكنهم كانوا يرون متعجبين أن البابَ مفتوحٌ، لكنهم لم ينتبهوا أصلاً إلى الكارثة التي تنتظرهم. وفي منتصف الليل بعدما رأى المهاجمون أن الكل قد ناموا، دخل الضارب معه المصباح الكاشف و مسدّسه، غرفةَ النوم الخاصة بالأستاذ. وكانت زوجة الأستاذ قلقة كثيرا تلك الليلة لا تستطيع النوم، وحينما رأت الوارد ظنت أنه ابنه علي فنادت: علي!

وخاف القاتل وأطلق النار بسرعة على الأستاذ وفرّ من البيت، وكانت زوجة الأستاذ تصرخ ولا تستطيع أن تتكلم من شدّة الفزع. وكذا الأولاد بعدما سمعوا صوت الطلقة النارية كانوا يصرخون ويقولون: قتلوا الحاجَ السيد، واجتمع أهالي القرية ونقلوا الأستاذ من القرية إلى مدينة قم وأدخلوه في مستشفى «كامكار». وبعد أيام جاء شابٌّ ومن ظاهره أنه كان من طلبة العلم وسأل عن الأستاذ، وتابعه ابن الأستاذ «قلمداران» فرأى أنه دخل إحدى الحوزات العلمية في محلة «يخجال قاضي» في مدينة قم.

2- والحادثة المؤلمة الأخرى التي أثرت على حياة الأستاذ هي وفاة أحد أبناءه في سنة 1360ش/1399ه‍، وتألم الأستاذ كثيراً بسبب هذا الحادثة المؤسفة، حتى أدى ذلك إلى إصابته بجلطة دماغية، ولم يستطع أن يستمر في التأليف ولكنه لم يترك القراءة إلى حد الإمكان.

3- الحادثة المؤسفة الأخرى في حياة السيد «قلمداران» هي سجنه في سجن «ساحل» قم.

ذكر الأستاذ هذه الواقعة وقال: كنت في أحد الأيام مستلقياً على سرير المستشفى إثر السكتتين اللتين أصبت بهما، فجاء رجلان من قبل محكمة الثورة واعتقلاني بتهمة معارضة الثورة، وظفرا ببعض كتبي ونقلاني إلى السجن، وحتى أنهما لم يسمحا لي بأخذ الأدوية التي كنت أحتاج إليها، وكنت في ذاك الوقت مصابا بأمراض خطيرة وحتى أنني لم أستطع أن أسيطر على بولي، وكنت أحمل الجهاز الخاص للمواقع الضرورية. وفي السجن لم يكن معي إلا بطانية صغيرة، وكان زجاج الغرفة مكسوراً، وعانيت حتى الفجر من البرد القارص. و لم أستطِع أن أتناول طعام العَشاء؛ لأن بقية المسجونين نهبوا الطعام. ناولني فقط أحد المسجونين بقية طعامه. ولما رأيت الوضع في السجن نويت الصيام من فجر اليوم التالي.

وذهب أولادي إلى بيت آية الله المنتظري وكان آنذاك نائبا عن الخميني (وجديرٌ بالذكر أنه كان بين آية الله المنتظري وبين الأستاذ «قلمداران» معرفة قديمة وكان الأستاذ يقول: أن آية الله المنتظري كان يدرّس كتابي «الحكومة في الإسلام» في نجف آباد إصبهان)، وفي الصباح رأيت أن بعض حرس الثورة دخلوا السجن مضطربين وقدَّموا الاعتذار وأخرجوني من السجن واتصلوا بأبنائي كي يحضروا لي بعض الألبسة، ثم رهنوا وثيقة استملاك البيت وأطلقوني.

الآن تصوروا لولا فضل الله، ولو لم تكن هناك علاقات ودية بين الأستاذ وبين آية الله المنتظري كيف كانت الثورة وحرسها سيتعاملون معه؟!

وجديرٌ بالذكر أن إدارة الثقافة في قم أقامت معرضا باسم «مجاهدتهاي خاموش = المجاهدات الصامتة» في هذه المدينة ووضعوا بعض كتب الأستاذ على مرأى الناس كأن هذه الكتب تحمل الأفكار والعقائد الانحرافية، كما أنهم وضعوا بعض الوثائق والمستندات ضد آية الله المنتظري في هذا المعرض أيضاً.

• الخلق الرفيع عند الأستاذ «قلمداران» وحرّيته

كان رحمه الله طوال حياته رجلاً صادقاً، عفيفاً، صادق الوعد، عابداً، زاهداً، شجاعاً، سخياً وصريحاً. وجميع من كان لهم صلة بالأستاذ كانوا يبجلونه ويعرفون عنه أنه رجل عظيم، بسيط العيش، بعيد عن الرياء والتكلفات الاجتماعية وغير معتنٍ بالطعام واللباس؛ كأنه اقتدى بالأخلاق الحسنة بأكابر الدين الحنيف، وكانت حياته تشبه حياة السلف وقائدي الأمة الإسلامية.

ومع أنه كان رجلاً قد طبَّقَت شُهرتُه الآفاق وكان باستطاعته أن يقفز إلى المدارج الحكومية الرفيعة ويوفر لنفسه ولأسرته حياةً مرفهةً، إلى أن زهده في الدنيا منعه من أن يضحي بالعلم والتقوى في سبيل التقية والخرافات والأباطيل المروّجة في البيئة الإيرانية؛ بل وقف مع الحق صامدا ًورفض المتع المادية الحقيرة. فما أسعده!

• الآثار العلمية وتأليفات الأستاذ «قلمداران»

إضافة إلى المقالات والبحوث التي كان الأستاذ يكتبها في الجرائد والمجلات المختلفة، ترك لنا أيضا ثروة ثمينة من الكتب؛ ألف بعضها وترجم البعض الآخر من العربية إلى الفارسية، وكلها كتب نفيسة، منها:

1- ترجمة كتاب «المعارف المحمدية» وهذا الكتاب من آثار العلامة الخالصي، وقد ترجم وطبع قبل سنة 1335 ه‍. ش. حسب التقويم الإيراني (يطابق سنة 1956م).

2- ترجمة كتاب «إحياء الشريعة» تأليف العلامة الخالصي، وكان كرسالة يوضح فيها العلامة الخالصي بعض المسائل الفقهية، وترجمه الأستاذ بعنوان: «آئين جاويدان» وطبعه.

3- «آيين دين يا أحكام اسلام» ترجمة كتاب «الإسلام سبيل السعادة والسلام» وهذا الكتاب أيضا من مؤلفات العلامة الخالصي، وترجمه الأستاذ «قلمداران» وطبعه في سنة 1376ه‍.

4- تأليف كتاب «أرمغان آسمان = بشرى السماء» المشهور في سنة 1961م. وهذا الكتاب قد نشره من قَبل ضمن سلسلة مقالات في جريدة «الوظيفة».

5- «ارمغان إلهي» في إثبات وجوب صلاة الجمعة، وهذا الكتاب ترجمة لكتاب «الجمعة» تأليف العلامة الخالصي.

6- رسالة في الحج أو المؤتمر الإسلامي العظيم في سنة 1362ه‍.

7- رسالة «الاستملاك في إيران من وجهة النظر الإسلامي»، وهذا الكتاب مخطوط بخطه ولم يطبع إلى الآن.

8- قيام الإمام الحسين ÷.

9- تأليف المجلد الأول من كتاب نفيس باسم «حكومت در اسلام = الحكومة في الإسلام» ودرس أهمية الحكومة وكيفية تأسيسها في ضمن 68 مبحثا، ولم يكتب مثله مِن قبل في إيران، بل وإلى الآن ليس لهذا الكتاب نظير في المحافل العلمية في إيران.

وسُمع من الأستاذ أنه قال: كان آية الله المنتظري يدرّس هذا الكتاب في نجف آباد إصبهان قبل ثورة الخميني.

وبين الأستاذ السبب الدافع لتأليف هذا الكتاب وقال: رأيت في المنام ليلة الإثنين السابع والعشرين من شهر محرم سنة 1384 من الهجرة أنني مع بعض الإخوة في كربلاء، وكأنه توفي الحسين وأنا لابدّ أن أغسل جثمانه وسائر الإخوة يساعدونني في هذا المهام، فتهيأت نفسي وقصدت الوضوء قبل كل شيء. فاستيقظت من النوم. وعبّرتُ نومي بأني سأغسل وجه الإسلام من الخرافات والأوهام بتأليف هذا الكتاب والكتب الأخرى وأظهر للناس الوجه الحقيقي الساطع للإسلام. فشكرا لهذه النعمة بدأت بصلاة قيام الليل، والحمد لله.

ثم من الغد بدأت بتأليف هذا الكتاب وكنت في قرية «ديزيجان» في العطلة الصيفية.

10- رسالة «هل هؤلاء مسلمون؟»، هذا الكتيب الصغير ترجمة لوصية العلامة الخالصي في المستشفي سنة 1377ه‍ وقد أملاه سكرتيره، ثم طبع بعنوان: «هل هم مسلمون؟» وفي ضمنه رسالة قصيرة باسم: «ايران در آتش ناداني = إيران في نار الجهل» وهي ترجمة بعض المواضع من كتاب «شر وفتنة الجهل في إيران» من مؤلفات العلامة الخالصي.

11- مجموعة «راه نجات از شر غلات = طريق النجاة من شر الغلاة» في خمس مجلدات يشتمل على المباحث التالية: 1- علم الغيب، 2- الإمامة، 3- بحث في الولاية وحقيقتها (لم يطبع بعد)، 4- بحث في الشفاعة، 5- بحث في الغلو والغلاة وطبع ضمن بحث الشفاعة، 6- بحث في حقيقة الزيارة وعمارة المقابر وطبع باسم «زيارت وزيارتنامه». (طبع بالآلة الكاتبة القديمة وصورت منه 50 نسخة تقريبا و نشر بين محبي قلمداران فقط).

12- كتاب «الزكاة» وطبع بمساعدة المهندس بازركان في شركة الأسهم، ومنعت السلطة الدينية نشر هذا الكتاب إلى حين.

13- كتاب «الخمس» ألفه الأستاذ بعد كتاب الزكاة، ولم يطبع هذا الكتاب لأن الحوزات وعلماء الشيعة لهم حساسية خاصة حول هذا الموضوع، ونسخه بعض زملاء الأستاذ بالآلة الكاتبة في إصفهان ونشروه، وكتب آية الله «ناصر مكارم شيرازي» و «رضا استادي» وغيرهما ردودا على هذا الكتاب القيم، وأجاب الأستاذ «قلمداران» عن جميع هذا الردود وضمها إلى كتابه «الخُمْس».

14- كتاب «شاهراه اتحاد = طريق الإتحاد»، ومن المعلوم أن الشيعة تشتعل بسرعة عند سماع مسألة الإمامة. وهذا الكتاب اشتمل على مباحث الإمامة والوقائع بعد رحلة الرسولص، واجتماع الصحابة في سقيفة بني‌ساعدة، وموضوع الخلافة والإمامة. وهذا الكتاب نُشر من قِبَل بعض زملاء الأستاذ بأعداد قليلة.

15- قبل الثورة بعدّة أعوام كتب «ذبيح الله محلاتي»، -من الرجال المذهبيين الشيعة- رسالةً باسم «ضرب شمشير بر منكر غدير = ضربة السيف على منكر الغدير» وأدرج في رسالته مباحث زائفة تخالف الحق والعقل. فأجابه الأستاذ «قلمداران» برسالة عنوانها: «پاسخ يك دهاتي به آية الله محلاتي = ردٌّ من رجل قروي على آية الله محلاتي».

16- المجلد الثاني من كتاب «الحكومة في الإسلام» ودرس فيه مهام الحكومة الإسلامية والحاكم المسلم.

17- رسالة «سنة الرسول من عترة الرسول ص».

كان هذا نموذجاً مختصراً عن مؤلفات الأستاذ قلمداران[3].

ومن الجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى المؤلفات والمصنفات وترجمةِ الكتب ونشر المقالات والبحوث الدينية والذب عن حوزة الدين، كان الأستاذ يلقي الخطب والدروس الدينية والثقافية العديدة في طهران (مسجد كذر وزير دفتر أيام آية الله البرقعي) وفي تبريز وأصفهان، وكذا ألقى خطبة مهمة في صحن قبر الحسين في كربلاء حينما زارها، وطبعت هذه الخطبة مع كتاب «زيارت و زيارتنامه».

[3] بعض كتب الأستاذ طبعت ضمن هذه المجموعة، ومنشور في موقع مجموعة الموحدين على شبكة الإنترنت: http://www.mowahedin.com

• وفاة الأستاذ

توفي هذا العالم النحرير في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1409ه‍ (15 ارديبهشت 1368 ه‍ ش) وقد مضى من عمره 76 سنة بعدما تحمل المشاق والمتاعب في سبيل نشر الحقائق الإسلامية والوقوف أمام البدع والخرافات الموجودة في المجتمع، وكان عمره ستّ وسبعون سنة، ودفن عصر ذلك اليوم في مقبرة قم في آخر شارع (جهارمردان)، بعدما حضر بعض أصدقائه وتلاميذه جنازته.

وكان حفلاً بسيطاً خالياً عن جميع مظاهر البدعة المروّجة في المجتمع الإيراني، وقد صلى عليه العلامة الموحد مصطفى حسيني طباطبائي.

فرضي الله عنه وعن سائر الدعاة المصلحين.

الدكتور حنیف

20/4/1431 هـ. ق. المطابق لـ 5/4/2010 م، و 16/1/1389هـ. ش.

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

هو الشيخ ذبيح الله بن محمد علي بن علي أكبر المحلاتي، وُلد في عام 1310 هـ بمدينة محلات (من مدن المحافظة المركزية الإيرانية، والتي تبعد عن طهران العاصمة حوالي 262 کیلو مترا). وبها ابتدأ دراسة مقدمات العلوم الحوزوية ثم انتقل إلى النجف واستفاد من دروس عدد من المراجع ورجال الدين الشيعي، ومنهم: عبدالحسين الرشتي، وحسن الصدر، ومحمد جواد البلاغي، وأبو الحسن الأصفهاني.

ثم رحل إلى سامراء بعد إحدى عشرة سنة من إقامته في النجف ودراسته في حوزتها ونيله شهادات الاجتهاد وإجازات الرواية، وتتلمذ هناك عند آغا بزرگ الطهراني ثُمّ صارت له حلقته الدراسية الخاصة وألّف عدداً من كتبه هناك. وارتحل إلى طهران بعد خمسة وعشرين سنة من إقامته في سامراء وواصل هناك أعماله الدينية والتأليف.

وهو رجل دين وفقيه ومحدث ومؤرّخ شيعي ومؤلف لعدد من الكتب في مجال التاريخ والفقه والعقيدة بالعربية والفارسية، منها: الحق المبين في قضية أمير المؤمنين، والسيوف البارقة على حام الصوفية المارقة (بالفارسية)، أُلفه في الرد على الصوفية، ساحل النجاة (بالفارسية) حول مضرّات الخمر والترياك، مآثر الكبراء في تاريخ سامراء (يقع في سبع مجلدات)، رياحين الشريعة في مآثر الفضليات من نساء الشيعة، (يقع الكتاب في خمس مجلّدات)، وغيرها.

مات الشيخ المحلاتي بإيران في عام 1403 هـ.

(من مصادر ترجمته: ‫درگذشت محقق برجسته علامه "ذبيح اللَّه محلاتي" (1364 ش)، معجم المطبوعات النجفية. محمد هادي الأميني، طبع النجف - العراق، 1385 هـ، منشورات مطبعة الآداب). [مُصحح]

مقدمة آية الله البرقعي

قبل حوالي سنتين من الثورة أرسل إليّ أخونا الأستاذ الفاضل المرحوم قلمداران (رحمه الله) رسالةً صغيرةً عنوانها «رَدُّ قَرَوِيٍّ على السيد المحلاتِيّ» كي أقوم بطباعتها وتوزيعها. ولكن قبل أن أقدِم على هذا الأمر طلب مني أحد الأصدقاء الفضلاء أن يستعير مني تلك الرسالة ليقرأها، ثم اضطر بسبب المشاکل التي تعرّض لها إلى السفر إلى خارج البلد (إیران) وبقيت تلك الرسالة عنده مع الأسف.

بعد سجني للمرة الرابعة، أعاد لي ابنه الذي جاء لزيارتي وعيادتي، تلك الرسالة، فسُرِرت بها للغاية. وقمت بكتابة حواشٍ مختصرة عليها وأخرجتها بهذه الصورة الحالية. وألحقت بها خلاصة لكتاب (الخمس) الذي ألفه الأستاذ المرحوم قلمداران أيضاً، لأنها ذات ارتباط وثيق بالقسم الثاني من هذه الرسالة، أعني رسالة «رَدُّ قَرَوِيٍّ على السيد المَحَلاتِيّ».

أسأل الله أن يُيَسِّر لنا نشر هذه الرسالة المفيدة وتكثيرها. وما توفيقنا إلا بالله العلي العظيم.

سيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي

بسم الله الرحمن الرحيم

[رَدُّ قَرَوِيٍّ على السيد المَحَلاَّتي]

الحمدُ لِـلَّهِ رَبِّ العالمين، وَصَلَّى اللهُ على مُحمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

في هذه الأيام (ذي القعدة الحرام 1395 هـ.ق، الموافق لشهر آذر 1354 هـ.ش.)، استلمتُ من أحد الأصدقاء كتاباً بعنوان: «رَدٌّ على المناقشات بشأن خطبة الغدير ووجوب خمس أرباح المكاسب ومسألة الشفاعة. تأليف المحدِّث الخبير ثقة الإسلام الحاج الشيخ ذبيح الله محلاتي».

رغم أنني لم ألتقِ بالحاج الشيخ ذبيح الله المحلاتي سوى أني كنتُ قد رأيت كتباً له في بعض مكتبات بيع الكتب، والتقيت به أقل من ساعة على مائدة طعام، ودار بيننا في ذلك الوقت القصير حوارٌ حول موضوع «أولي الأمر»، فوقفتُ على مدى حظه من العلم من خلال هذا اللقاء القصير، ولكنني لم أكن أتصوّر أنه متعصِّبٌ ولجوجٌ وقليلُ البضاعة من العلم إلى هذا الحدّ الذي يجعله يؤلف كُتَيِّباً بذلك العنوان وباسم «المحدِّث الخبير»! لأن أقل ما يتوجَّب على من يُطلِق على نفسه لقب المحدِّث أن يكون ذا بضاعة علمية بصحة الحديث وسقمه وذا بصيرة بأحوال الرجال، عندئذ يمكنه أن يأخذ القلم ويدافع عن حديث أو يردّه وينقده.

كتب المؤلف المذكور (السيد المحلاتي) كتابه ذاك رداً على مقال العلامة السيد «أبو الفضل البرقعي» الذي نشره في مجلة «رنگين كمان» (مجلّة قوس قزح) ورَدَّ فيه خطبة الغدير المنسوبة إلى رسول الله ص.

اتَّبَع المؤلِّفُ (السيد المحلاتي) طريقة وضع السؤال على لسان العلامة البرقعي ثم الردّ عليه بعد كلمة: الجواب! ولكنه لا يخفى على المُطَّلعين وأولي الألباب، أن المؤلف بتأليف كتابه هذا لم يزد أهلَ العلم إلا معرفةً بتعصبه وقلة معرفته، كما سيتبين ذلك عن قريب إن شاءالله.

لقد أصبح موضوع «الغدير» منذ الأيام الأولى، أي بعد مضي أكثر من مائة عام على هجرة رسول الله ص، مُسْتَمْسَكاً سياسياً وعدائياً لمن كانوا معارضين للحكم والحكام في تلك الفترة من تاريخ الإسلام، وقد عمل أعداء الوحدة الإسلامية على تقوية هذا الموضوع، وعلى إثر ذلك خرجت تلك الواقعة التاريخية عن صورتها الحقيقية وأصبحت حربة بأيدي الساسة، وأخذت معنى ومنظوراً آخر. وجاء كل مغرض ومتعصِّب فأضاف إليها أشياء من عنده حتى وصلت إلى ما وصلت إليه!!

كانت واقعة الغدير واقعةً ذكر فيها نبيّ الإسلام الأكرم ص بضعة جمل في فضل مولى الموحِّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ أبرزها تلك الجملة التي ذكرها معظم مؤرخي ومحدِّثي الإسلام ورواها عدة أشخاص من أصحاب الرسول المختار الأجلاء وهي التي قال فيها رسول الله ص: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاَهُ»، وكما روى كثير من المحدِّثين أيضاً الجمل اللاحقة التي قال ص فيها: «اللهم وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ». وهذه الجملة الأخيرة أفضل قرينة على المعنى المقصود من كلمة (مولى) التي ذكر لها علماء اللغة أكثر من عشرين معنى.

لو تركنا الهوى والتحيّز جانباً وقرأنا بتجرّد وإنصاف تاريخ الإسلام والواقعة التي كانت الدافع وراء قصة الغدير، لتبيّن لنا بوضوح أن تلك المسألة كانت صحيحة في موضعها ولا ينكرها أي مسلم بل أي إنسان ذي وجدان، وهو أنه في سنة حجة الوداع التي كان النبي ص قد أرسل فيها علي بن أبي طالب إلى اليمن والقبائل المحيطة هناك بمهمّة جباية الزكاة والصدقات، وبعد أن قام عليّ بالمهمة المطلوبة وَجَمَعَ أموالَ الزكاة، أرسلَ إليه رسولُ الله ص يدعوه إلى الحضور لأداء مناسك الحج معه في مكة، فاضطر عليٌّ، كي يصل إلى مكة سريعًا، إلى أن يعهد بأموال الزكاة -التي كان أكثرها من الإبل والبقر والضأن وسائر المواشي- إلى أصحابه في ذلك السفر، وكان فيهم خالد بن الوليد وبُريدة الأسلمي، من كبار الشخصيات في ذلك السفر. وبعد الانتهاء من الحج، لما عاد عليٌّ إلى القافلة وهي كانت على مشارف مكة، رأى أنهم قد تصرّفوا ببعض أموال بيت المال فوبَّخهم، فَكَبُرَ عليهم ذلك إذ كانوا يرون أنفسهم شخصيات ذات شأن ومقام، فذهبوا إلى رسول الله ص وشكَوا علياً إليه، وقالوا في شأنه أمورًا ذكرتها كتب التاريخ، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بالإساءة إلى علي والقدح به بين الناس، ولما مهّدوا بهذه الأقاويل أرضية البغض والعداوة لشخص هو حبيب الله وحبيب رسوله، رأى رسول الله ص أنه من الضروري، رداً على ما تعرّض له عليٌّ من ذمٍّ وقَدْحٍ من أمثال خالد وبُريدة أن يحذّر أصحابه من معاداة علي قبل أن يصلوا إلى المدينة وذلك في منطقة غدير خم وأن يدعوهم إلى موالاته ومحبته ويرغّبهم بها.

إن موضوع غدير خم وما جاء فيه من خطب أيًّا كانت، لا علاقة له بموضوع الخلافة والنص على عليٍّ، حتى يأتي من يفسّر تلك الخطبة على أنها كانت تعيينًا وتنصيبًا لخليفة رسول الله ووليّ عهده، لأن تعيين الخليفة وتنصيبه طبقاً لنصوص القرآن وسنة الرسولص وسيرة المسلمين في صدر الإسلام إنما يتم من خلال الشورى، كما يدل عليه العقل والنقل والوجدان والتاريخ.

[أدلة الأخذ بالشورى في تعيين الحاكم]

أما الدليل العقلي:

1 - إن دين الإسلام ونظام الحكم فيه ليست مثل طريقة الملوك وسنّة السلاطين وأباطرة قيصر وكسرى كي يقوم الملك فيها بتعيين ولي عهده، بل لا بد أن يتم تعيين الحاكم من خلال الشورى وأن يتم انتخاب أفضل شخصية وأكثر الناس أهلية ممن يتمتع بصفة العلم والتقوى لاستلام زمام أمور المسلمين وحكمهم، وطالما كان ذلك الحاكم والزعيم يحكم الناس بما أنزل الله من أحكام والتي مصدرها الأساسي القرآن الكريم، كان من الواجب على عامة المسلمين طاعته كما يطيعون الله ورسوله، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ÷ في كلماته التي تحدّث فيها عن خليفة زمانه فقال: «أَطَعْتُهُ فِيْمَا أَطَاعَ اللهَ»، فإذا عدل الحاكم عن طريق الحق فعلى خبراء المسلمين أن ينصحوه وينهوه ويدعوه إلى العودة إلى طريق الحق فإن عاد فبها ونِعْمَتْ، وإلا حرُمَت طاعته ووجب عصيانه.

2 - الدليل الآخر أنه لو عُيِّن حاكم المسلمين وإمامهم بعد رسول الله ص مِنْ قِبَل الله تعالى فإن هذا الأمر سيجعل المسلمين في حالة من الجبر وفقدان الاختيار بشكل مطلق، خاصَّةً أنَّ الحاكم والإمام – حسب عقائد الشيعة اليوم - عالمٌ بالغيب وقادرٌ على فعل كل ما يريده. وعندئذٍ ستزول قضية الابتلاء التي هي غاية خلق الإنسان والهدف من خلق الحياة والموت كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ... [الملك: 2]؛ ذلك أن الإمام العالم بالغيب لا يترك مجالاً للمعصية الاختيارية للإنسان كي يتبين العاصي من المطيع، إذ إن على كل شخص أن يطيع الإمام شاء أم أبى، وإلا لقضى عليه الإمام العالم بالغيب القادر على كل شيء، ومثل هذه الطاعة والعصيان لا يُمدح صاحبها أو يُذَمّ، وهي جبرٌ مُطلقٌ.

3- الإمام الذي يتم تعيينه - حسب مذهب الشيعة - بالنص وينصبه الله في هذا المقام، يتَّبِعُ، طبقاً للأحاديث الواردة، كتاباً خاصاً به نزل إليه من السماء وأُمِرَ بالعمل به، ولما كانت أوامر ذلك الكتاب لا تتفق مع أوامر القرآن بل تختلف عنها، لأنها لو كانت مطابقة للقرآن لما احتاج الأمر إلى ذلك الكتاب الخاص، فإن هذا الأمر سيخلق وضعًا شاذًا غير سويٍ، إذْ يجب على المسلمين حسب قاعدة [المعلوم من الدين بالضرورة] أن يتبعوا القرآن، وعندئذ فإن القرآن سيأمرهم بعمل والإمام سيأمرهم بعمل آخر، ولا يمكن أبدًا حل هذه المشكلة.

4- العيب الآخر للقول بالأئمة المنصوص عليهم هو أن هذا الإمام سيكون مأموراً بأمور غير التي يؤمر بها الإمام الآخر، كما يقول الشيعة بشأن أحوال عليٍّ والحسن والحسين عليهم السلام وأفعالهم. فالمسلمون في زمن كل إمام، إضافة إلى تركهم أوامر كتاب اللهِ، سيضطرون إلى العدول عن طريقة حكم الإمام السابق ونظامه واِتِّبَاع حكمٍ أو نظامٍ مخالفٍ له، وهذا أمرٌ عجيبٌ ومشكلةٌ لا تنسجم مع أي عقل أو منطق.

إضافة إلى ذلك، فحسب قول الشيعة فإن الأئمة الاثني عشر المنصوص عليهم رحلوا جميعاً عن الدنيا بعد 260 عاماً من الهجرة النبوية، وبقي واحد منهم فقط كي يأتي في آخر الزمن ويحكم سبع سنوات، فيكون مجموع مدة حُكم الأئمة هو 267 سنة فقط! فهل الإسلام الذي ينبغي أن يبقى حلاله وحرامه وحكومته إلى يوم القيامة، عليه أن يبقى كل تلك السنوات الباقية والمدة الطويلة دون حكومة، وعلى الأمة أن تبقى تائهة حائرة دون حاكم ينفذ فيها الشريعة الإسلامية بل تبقى الشرائع معطلة[4]، كما حصل فعلاً، ومئات التوابع المَعيبة الأخرى لهذا الأمر مما لا مجال لشرحه هنا. فإن قلتَ: يجب على المسلمين في هذه المدَّة أن ينتخبوا مَنْ يدير مجتمعهم وينفِّذ الأحكام الشرعية بينهم بصورة أخرى؛ فأقول: ما هي الطريقة الأخرى؟ وما الفرق بين المسلمين قبل 260 عاماً وبعدها؟!

5- لم تكن مثل هذه الحكومة والخلافة التي يدَّعونها في أي شريعة من شرائع الله ولم يعمل بمثله أي نبي من أنبياء الله. فمثل هذا الادعاء كذب محض ولا دليل عليه.

[4] يُنْظَر: كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 567- 606، دراسة باب 119 من كتاب الكافي. (البرقعي)

أما من حيث النقْل:

لا توجد في كتاب الله، وهو أهم وأعظم مُسْتَند وحُجَّة لدى المسلمين، أدنى إشارة إلى مسألة الخلافة والوصيّة لأحد بالحكم بعد رسول الله ص، وكل ما يتمسَّك به مُدَّعو الخلافة ليس سوى أمور وضعها واخترعها أصحاب الأغراض والأهواء الذين فسروا بعض آيات القرآن حسب تخيُّلهم ورأيهم وكل ذلك تقوّل وكذب على الله، إذْ لا نجد في سيرة النبي ص والمسلمين والمؤمنين بجنابه، أيَّ كلام حول هذا الأمر، كما أنه لم يدَّعِ أحدٌ لا في زمن رسول‌اللهص ولا بعد رحيله على أنه أوصى لأحد بالخلافة، ولا استشهد أحدٌ على ذلك بواقعة غدير خم، وحتى أمير المؤمنين علي ÷ ذاتُه لم يذكر تلك الواقعة [كدليلٍ على أن رسول‌اللهص نصبه خليفةً وحاكمًا على المسلمين] بل اتَّبع عليٌّ سبيلَ المؤمنين وبايع أبا بكر وقام بمعاونة الخلفاء ونصرتهم بكل إخلاص وصدق ولم يُرَ منه ÷ أي تمرُّدٍ على حكمهم أو معارضةٍ له، أو ذمٍّ للخلفاء الثلاثة الذين سبقوه في الحكم سوى أنه كان معارضًا لبعض أعمال عثمان مع نصحه له بتركه. وما جاء في كتب الحديث من نصوص على إمامته ÷ وإمامة أولاده كله أخبار موضوعة وأكاذيب افتراها أصحاب الأهواء كما أثبتنا جَعْل تلك الروايات بالدلائل الواضحة في كتابنا «شاهراهِ اتِّحاد» [أي طريق الاتِّحاد].

أما الدليل على أن القول بالإمامة المنصوصة مخالفٌ للوِجْدان:

إن التاريخ الواضح لصحابة النبيِّ الكرام وإيمان أولئك الأجلَّاء الراسخ بالنبي ص، وآيات القرآن المباركة التي هي أفضل شاهدٍ على إيمانهم ووفائهم وتضحياتهم في سبيل الإسلام، إذْ جاءت عشرات الآيات في القرآن الكريم في مدح أولئك الرجال العظماء والثناء عليهم، كلُّ ما سبق دليلٌ قويٌّ وبرهانٌ ساطعٌ وَسَنَدٌ قاطعٌ على أن قصة الغدير لم تكن على ذلك النحو الذي يقولونه، إذ كيف يمكن التصديق بأن أولئك المسلمين الذين وضعوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأنصارهم وديارهم وأعراضهم وحيثياتهم وشخصياتهم على طبق من الإخلاص وقدموها فداء للإسلام، والذين وصلوا إلى ذلك المستوى العالي من الإيمان، إلى الحد الذي أثار إعجاب أهل العالَم وحيرتهم وحسرتهم، يُقْدِمون - دون أن يكون في ذلك أي فائدةٍ لهم - على إنكار خلافة عليٍّ التي تمَّ بيانها بتلك الصورة الواضحة في خطبة غدير خم المزعومة، هذا رغم أنه لم يكن قد مضى على وفاة نبيِّهم وعلى إلقائه خطبة الغدير الطويلة تلك سوى 70 يوماً؟!

بغض النظر عن أمر الله وإبلاغ الرسول، لو أن قَصَّاصًا ألقى خطبةً مثل هذه الخطبة في مقهى من المقاهي على الحاضرين ممن كان معظمهم مشغولین باحتساء الشاي أو تدخين الأفيون ومحادثة بعضهم الآخر، فهل من الممكن أن لا يتذكر أحد من أولئك الحاضرين تلك الخطبة بعد سبعين يوماً من إلقائها وينكرونها جميعًا؟!

فكيف بشأن خطبة الغدير التي حضرها أكثر من سبعين ألف شخص، وفي رِوَايةٍ أن عددهم كان مائة وثمانين ألف شخص، وألقيت فيهم خطبة مفصلة كل ذلك التفصيل، ثم بعد ذلك قام أولئك الحاضرون وبايعوا عليًّا بإمارة المؤمنين وفي إحدى الروايات أنهم توقفوا لأجل تلك البيعة ثلاثة أيام في الصحراء، وحتى النساء بايعنه أيضاً، ولكن بعد سبعين يوماً (أي من 18 ذي الحجة إلى 28 صفر) نسوا جميعاً تلك الحادثة رغم كل أهميتها أو تناسوها؟!

لم يُرْوَ مثل هذا التناسي أو تغيُّر القلوب في معجزة أي نبي من الأنبياء، وإذا كان له أساس من الواقع فيجب أن يُعَدَّ من المعجزات بل أكبر معجزة وآية لمنكري خلافة علي ÷-أياً كانوا- لأن هذه المعجزة لو كانت لأبي بكر وعمر وأنه اجتمع مائة ألف مخٍ ثم أصيبوا جميعاً بالنسيان أو كتمان الحق حتى صاحب الحق نفسه أي عليّ بن أبي طالب أصيب بالنسيان أيضًا فلم يذكر كلمة عن تلك الحادثة أصلاً بعد وفاة النبي ص ولم يشر إليها لا في السر ولا في العَلَن إلا أنه بعد 30 عامًا من وقوعها، استشهد بها في رحبة الكوفة وطلب من أشخاص مثل زيد بن أرقم وأنس بن مالك أن يشهدوا بها، ومع الأسف كتموها فدعا عليهم عليٌّ [5] فابتُليَا بالعمى والبرص؟!

لستُ أدري! هل يمكن لمن يدعي مثل هذا الادعاء أن يتصور إمكانية وقوع مثل هذا الأمر في عالم الرؤيا والخيال؟ كيف وبأي جرأة يستطيع أولئك الذين يدّعون ذلك الادعاء أن ينكروا القرآنَ الكريم الذي ذُكرت فيه عشرات الآيات في مدح صحابة رسول الله ص والثناء عليهم، وكيف يتجاهلون تضحيات أصحاب رسول الله ص وإيمانهم وإيثارهم وبذل أرواحهم التي قد حيرت العقول والتي يشهد لها التاريخ، ويصدِّقون خلاف ذلك؟ ولماذا؟ ألأجل أن يثبتوا بعد 1300 عام خلافة علي÷ المنصوص عليها، في حين أنه لم تبقَ اليوم خلافةٌ ولا عليٌّ ولا عَمَرُ، ومثل هذا النقاش والجدال والكتابة فيه وتبليغه ونشره لا يزيد إلا الفتنة والعداوة والفرقة والبغضاء والتشتت بين المسلمين ويسبب تسلَّط الأعداء عليهم. هل رأيتَ مجنونًا يعمل ذلك على نفسه؟ وهل لهذا العمل من نتيجة سوى خلْق البغضاء والعدواة والفرقة بين المسلمين وسيطرة الاستعمار عليهم؟! إضافة إلى كل ذلك، فإنكم بهذا الادعاء تُصَوِّرون أميرَ المؤمنين علياً بأنه كان -نعوذ بالله- رجلاً ضعيفًا غيرَ كُفْء للخلافة بل تتهمونه بالضلال وإضلال الأمة!! لأنه لو كانت إمامةُ ذلك الإمام أصلَ الدين فعلاً، وكانت مفروضةً مِنْ قِبَلِ الله وكان الناس قد بايعوه بها، فإن واجبَه أن يقوم -على أقل تقدير- بالوقوف في وسط الناس مرارًا وتكرارًا ويخاطبهم بكلامه البليغ الفصيح -الذي عرفناه عنه في نهج البلاغة- ويذَكّرهم بحقوقه، ويذكّرهم بشكل خاصّ بغدير خم، ويُتم عليهم الحجة، لا أن يذهب ويجلس في بيته ويسكت عن حقه ولا يتكلم عن ذلك أبدًا، فإنه لو فعل ذلك فسيكون -حسب ما تفضَّل به أحد أحفاده، وهو الحسن المثنى بن الحسن المجتبى- مِن أعظم الناس خطأً ويعد ذنبه من أكبر الذنوب، فقد سُئِل الحسن بن الحسن المثنى هل كان هناك نصٌّ على خلافة أمير المؤمنين علي ÷ في قصة الغدير فأجاب قائلاً: «لَوْ كَانَ النَّبِيُّ ص أَرَادَ خِلاَفَتَهُ لَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! هَذَا وليُّ أَمْرِيْ وَالْقَائِمُ عَلَيْكُمْ بَعْدِيْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيْعُوا».

(ثم أضاف):«أُقْسِمُ باللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَه لَو آثَر عَلِيًّا لِأَجْلِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَقْدِمْ عَلِيٌّ لَكَانَ أَعْظَمَ النِّاسِ خَطَأً»[6].

نعم، أي خطأٍ أكبرَ وأي ذنبٍ أعظمَ من أن يُسبِّب الإنسانُ ضلالَ الأُمَّة ولا يخبر الناسَ بأن رسول الله ص -تنفيذًا لأمر الله له- نصب عليًا في ذلك المقام الإلهي! والعجيب في الأمر أن الإمام علي÷ لم يقم بأدنى ادعاء في هذا المجال بل كما قال- حسبما رواه عنه قيس ابن عباده -: «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ[7]، لَوْ عَهِدَ إليَّ رسولُ اللهِ عَهْداً لَجَالَدْتُّ عَلَيْهِ وَلَمْ أَتْرُكْ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ يَرْقَى فِيْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِنْبَرِهِ»[8].

هذا ما قاله أمير المؤمنين، أما هؤلاء الذين هم - كما يُقال- أكثر مَلَكِيَّةً مِنَ المَلِكِ(!)، فقد جاءوا بعد 1300 عام يبثون العداوة والبغضاء بين المسلمين بكتابة مثل هذه الأكاذيب ونشرها بين الناس فأصبحوا يتناغمون دون أن يشعروا مع رغبات أعداء الإسلام ولا يدرون ماذا يفعلون! وكل من أراد أن يوقظ المسلمين من سباتهم العميق حتى لا يكونوا أُلعوبةً بأيدي أعداء الإسلام، فإن حُرَّاس الأساطير والخرافات بنشرهم لهذه الترهات والأوهام، حالوا بينه وبين سعيه ذاك، بل أثاروا عامة الناس الجهلة ضدَّه وأشعلوا نار الفتن!

ذكر السيد المحلاتي في كتابه (ص 4) قول العلامة البرقعي على طريقة السؤال، فقال: إن خطبة غدير خم كلها موضوعة ومخالفة للقرآن الكريم. ثم شَرَعَ المحلاتي بالإجابة عن ذلك السؤال المفترض فقال: الجواب: تفضل أيها السيد (البرقعي) وبَيِّن لنا أيًّا من عبارات خطبة الغدير مخالفٌ للقرآن الكريم كي أجيب عن ذلك؟

ونقول في الرد على السيد المحلاتي: إن ما مرَّ ذكره في ما مضى من صفحات هذه الرسالة وإن كان مختصراً إلا أنه يكفي الشخص المنصف والمطلع كي يعلم أن موضوع خطبة الغدير بالكيفية التي تدعونها، ليس حديثًا موضوعًا ومخالِفاً للقرآن فحسب، بل مخالف للعقل والوجدان أيضًا، ولا يمكن لأي مسلم أن يصدقه فحسب، بل لا يمكن لأي إنسان أيضاً أن يصدقه!

سؤال: نحن لا نظن أن لهذه الخطبة سند.

جواب السيد المحلاتي: ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف:5]. من هنا يتبين أن جناب السيد البرقعي لم يرَ المجلدين المتعلقين بقضية غدير خم من كتاب «عبقات الأنوار» تأليف آية الله مير حامد حسين (قُدِّسَ سِرُّهُ)، حيث أورد في المجلد الأول منه أسماء جميع رواة خطبة الغدير.

ردُّ الرجل القروي على كلام السيد المحلاتي: كان الأولى بكم أن تستعملوا هذه الآية بحق أنفسكم لأن ادِّعاءَكم يشبه ادعاء من نزلت الآية في ذمهم، إذ إن الآية التي جاءت قبلها هي قوله تعالى: ﴿وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا [الكهف: 4].

نعم، إن الذين يعتبرون علياً ÷ وأبناءَهُ الكرام «خلفاء الله في الأرض والسماوات» يعلمون أنهم يشابهون الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا، لأن الابن خليفةُ أبيه ووصيه وولي عهده، وتعالى اللهُ عُلُوَّاً كبيراً أن يمنح مقامه لأحد وأن يسمح لأحد أن يحل محله ليكون خليفته، فالذين أثبتوا لِـلَّهِ الولد استحقوا ذمَّ رب العالمين لهم واستحقُّوا قولَه تعالى في حقِّهم: ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5]، فهذه الآية تنطبق على الذين أثبتوا لِـلَّهِ الخليفة والابن ولا تنطبق على العلامة البرقعي.

أما تقصير العلامة البرقعي فهو أنه لم يبيِّن للقرَّاء سند هذه الخطبة الغديرية ولو فعل ذلك لما احتاج إلى كتابة تلك المقالة في مجلة «رنگين كمان» (قوس قزح)، لأن سند هذه الخطبة مفتضح إلى درجة أن الإتيان بذلك السند والتعريف برجاله يغني عن الحاجة إلى الردّ على متن تلك الخطبة[9].

[5] بل الروايات الصحيحة خلاف ذلك، لأن زيد بن أرقمس كان ممن شهد لعليس بالرحبة على أنه سمع هذا الحديث من رسول الله ج، كما روى الإمام أحمد في مسنده: عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، قَالا: نَشَدَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي الرَّحَبَةِ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ إِلا قَامَ، قَالَ: فَقَامَ مِنْ قِبَلِ سَعِيدٍ سِتَّةٌ، وَمِنْ قِبَلِ زَيْدٍ سِتَّةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: «أَلَيْسَ اللهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ؟» قَالُوا: بَلَى قَالَ: «اللهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». (مسند أحمد ج2، ص262، قال محقق المسند: صحيح لغيره). وممن رُوي عنه هذا الحديث بأسانيد صحيحة هو زيد بن أرقم. وأما أنس بن مالك س، فقد شهد لعليس أيضًا بذلك كما ورد في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (ج5، ص26)، عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ نَاشَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ: أَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُمْ حَوْلَ الْمِنْبَرِ، وَعَلِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَحَوْلَ الْمِنْبَرِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ، هَلْ سَمِعْتُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»؟ فَقَامُوا كُلُّهُمْ فَقَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ...». (المُصحح) [6] يُنْظَر: عبد القادر بدران، تهذيب تاريخ دمشق، ط 2، بيروت، دار المسيرة 1399هـ/1979م، ج4 /ص 169. أو ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر، ج13/ص70 -71. [7] وبَرَأَ النسمةَ: أي خلَقَ ذاتِ الروح، وكثيراً ما كان يقولُها إذا اجتهد في يمينه. (النهاية، 5/49). (المترجم). [8] رواه المتقي الهندي، كنز العمال، ج5/ص656، حديث رقم 14152، وذكر في بيان مصدره: (أبو طالب العشاري في فضائل الصديق). ونقله القاضي نور الله الشوشتري في كتابه: الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة (ص 281، مطبعة النهضة/طهران، 1367 هـ. ق.) عن كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي الذي أورده بقوله: وأخرج الدارقطني وروى معناه من طرق كثيرة... فذكر الحديث. (المترجم) [9] هذا العبد الفقير بصرف النظر عن السند قمت بدراسة نقدية واضحة لمتن الحديث وأعتقد أن هذه الدراسة مهمة وقد ذكرت عيوب متن خطبة الغدير الطويلة في حاشية الكتاب (شاهراه اتحاد) (ص145 فما بعد) (البرقعي).

السند الفاضح لخطبة الغدير

العجيب أن السيد المحلاتي، كان عنده – طبقا لادّعائه- المجلدان من كتاب عبقات الأنوار تأليف مير حامد حسين، ولكنه لم يستطع أن يأتيَ بسند خطبة الغدير، ولو أتى به فلكونه قليل البضاعة من علم الرجال لن يستفيد من ذلك السند شيئًا لأنه لو كان يعلم أي أشخاص مفتضحين كذابين وضعوا تلك الخطبة الطويلة لما تجشم عناء كتابة كُتَيِّبِهِ ذاك، ولما أهدر أمواله وأضل الناس، ولو أتى آيةُ الله مير حامد حسين وَأَلْفُ آية الله آخرون ذلك السند أيضًا واعتبروه حُجَّةً فإنهم بفعلهم هذا قد حاولوا أن يفضحوا أنفسهم، لأن كل من يَتَّشَبُّثُ برواة غلاة وعديمي الدين والأخلاق وكذّابين ووضّاعين ويروي عنهم لا تجلب على نفسه إلا الفضيحة والخسران، وخاصة إذا كانت رواية حديث أمثال أولئك الرواة سببًا لإيجاد العداوة والفرقة بين المسلمين، وتجعل منهم على ما هم عليه الآن من الاختلاف والفرقة بحيث أصبحوا - رغم بلوغ عددهم ما يفوق الـ 900 مليون نسمة- مغلوبين ومنكوبين على أيدي حفنةٍ من اليهود المجرمين مصاصي الدماء.

نعم، إن نشر مثل هذه الكتب والخطب في مثل هذه الأيام التي يحتاج فيها المسلمون أكثر من أي وقت مضى إلى الوفاق والاتحاد، وتُعَدُّ وحدتهم فيها أخطر على اليهود من آلاف صواريخ أرض-جو وأرض-أرض وسائر العتاد الحربي، وأصبح أشخاص مثل ذلك الكاتب -شعروا أم لم يشعروا- ألعوبةً بيد أعداء الإسلام. فهنيئًا لأعداء الإسلام على وجود أمثال هؤلاء الأشخاص [بين المسلمين الذين يعملون لمصالح الأعداء ولتحقيق أهدافهم]!!

إنك عند الاحتجاج على العلامة البرقعي تواجهه بكتابه [العقل والدين] وتذكر له أن آراءه في ذلك الكتاب مخالفة لآرائه في مقاله المنشور بمجلة «قوس قزح»، واعتبرتَ ذلك تناقضًا بين آرائه، ولكنك لم تعلم أن للتناقض ثمانية شروط لا ينطبق معظمها في هذا المورد. لقد كتب العلامة البرقعي كتابه «عقل و دين» في زمن تعصبه المذهبي، وهو اليوم قد استبصر ويبين الحق بكل شجاعة وصرامة، فأكثر الانتقادات التي وجهتها له في كُتَيِّبك لا محل لها.

الآن دعونا نبدأ بدراسة سند الخطبة الغديرية.

روى هذه الخطبة كلٌّ من الكُلَيْنِيّ، والصدوق، والمفيد. وأقدم كتاب نقل هذه الخطبة هو كتاب «الاحتجاج على أهل اللجاج» تأليف أحمد بن علي بن أبي طالب الطَّبْرَسِيَ - الذي عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس -، ثم نقل الآخرون تلك الخطبة عنه[10].

أورد صاحب الاحتجاج تلك الخطبة تحت عنوان: «اِحْتِجَاجُ النَّبِيِّص يَومَ الْغَدِيْرِ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَفِيْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ بِولاَيِةِ أَميرِ الْـمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ÷ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ وُلْدِهِ الْـمَعْصُوْمِينَ».

ثم بدأ بذكر الخطبة بالسند التالي:

«حَدَّثَنِيْ السَّیِّدُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ أَبُوجَعْفَرٍ مَهْدِيّ بْنُ أَبِيْ حَرْبٍ الْحُسَيْنِيّ الْمَرْعَشِيّ.... قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْهَمَدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْطَيَالِسِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَيْرَةَ وَصَالِحُ بْنُ عُقْبَةَ جَمِيْعًا عَنْ قَيْسِ بْنِ سَمْعَانٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيّ[11] عَنْ أبِيْ جَعْفَر مُحَمَّدٍ بْنِ عَلِيّ»[12].

بعد ذلك ذكر قصة حج رسول الله ص الذي أُمِر فيه بتبليغ قومه أحكام الحج والولاية وفيه أورد الخطبة التي انتقدها العلامة البرقعي ودافع عنها السيد المحلاتي.

سنصرف النظر هنا عن الرواة الأوائل لتلك الخطبة الذين هم من العلماء المحدِّثين - رغم أن بعضهم قد ورد جرحهم في كتب الرجال - وسنقتصر على بيان حال محمد بن موسى الهمداني الذي بين حاله جميع علماء الرجال، كما يلي:

1- في "تنقيح المقال" للممقاني (ج3/ص194)، والظاهر أن السيد المحلاتي مطلع على هذا الكتاب، فإن الممقاني ضمن بيانه لحال الرجل قال عنه: "إنه وضع كتابا باسم زيد النرسي وضع فيه أحاديث كثيرة!".

2- قال مير مصطفى التفرشي في كتابه "نقد الرجال" (ص336): "محمد بن موسى الهمداني ضعَّفه القُمِّيُّون بالغلوِّ وكان ابن الوليد يقول: إنه كان يضع الحديث... ضعيف يروي عن الضعفاء".

3- في قاموس الرجال للعلامة التستري (ج 8/ ص 409)، بعد أن ترجم له فقال: "فضعفه اتفاقي، قال به ابن الوليد وابن بابويه وابن نوح وفهرست الطوسي والنجاشي وابن الغضائري".

4- وأورده ابن داود الحلي في "رجاله" (ص512) في القسم الثاني المخصص للمجروحين والمجهولين وذمه بوضع الحديث والغلو.

5- مجمع الرجال والرواة للقهپائي[13] (ج6/ص57): "محمد بن موسى بن عيسى السمَّان أبوجعفر الهمداني: ضعيفٌ يروي عن الضعفاء".

6- رجال النجاشي في (ص 260): "محمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الهمداني: ضعَّفه القميُّون بالغلوِّ وكان ابن الوليد يقول: إنه كان يَضَعُ الحديث".

7- جامع الرواة للأردبيلي (ج2/ ص 205): "محمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر السمَّان الهمداني: ضعيفٌ يروي عن الضعفاء ".

والحاصل أن هذا الراوي في رأي كافة علماء الرجال رجل ضعيف وغالٍ وحذّاق ماهر في وضع الحديث، فهل يمكن الاعتماد على حديث مثل هذا الراوي أو على الخطبة التي وضعها؟! بالطبع لا، وليس هذا فحسب بل من الحيف أن يصرف الإنسان وقتًا من عمره في رد حديث مثل هذا الشخص.

في رأينا كان على العلامة البرقعي أن يبدأ بنقد سند هذه الخطبة وأن يعرِّف بمن وضعها لأنه عندئذ سيكون في غنى عن تجشُّم عناء الردّ على كل فقرات الخطبة فقرة فقرة حتى لا يدع مجالاً للأشخاص ذوي الاطلاع الضعيف ومن يسترزقون من أموال الناس باسم الدين ويستشعرون الخطر على باب رزقهم أن يتفوهوا بالترهات ويعمدوا إلى الافتراء والتهمة والشتيمة.

8- وأورده الشيخ طه نجف أيضاً في "إتقان المقال" (ص 361) في قسم الضعفاء والغلاة.

وعلى كل حال، فقد روى محمد بن موسى الهمداني حديثه عن محمد بن خالد الطيالسي وهو عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة.

[10] ومن جملة هؤلاء الذين نقلوا هذه الخطبة هو العالم المعجب بالخرافات الذي عاش في القرن السادس الهجري، السيد «ابن طاووس» الذي ذكر هذه الخطبة في كتابيه «اليقين» و «التحصين». ففي الكتاب الأول تضمن سند الخطبة عيوبَ سند خطبة الغدير في كتاب الاحتجاج ذاتها، وفي الكتاب الثاني نجد في سند الخطبة راويًا ساقط الاعتبار هو أبو المفضَّل محمد بن عبد الله الشيباني الذي تمّ بيان حاله في الكتاب القيّم: «معرفة الحديث» للأستاذ محمد باقر البهبودي (ص209، رقم 121). (البرقعي). [11] علقمة هذا مجهول الحال أيضاً. (البرقعي). [12] أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي (ت القرن 6 هـ)، الاحتجاج، ج1 /ص 133 - 162. (المترجم) [13] هو زكي الدين المولى عناية الله علي القهپائي (ت 1016 هـ.)، من رجاليي الشيعة الإمامية، جمع في كتابه المذكور ما ذَكَرَتْهُ الأصول الرجالية الشيعية القديمة الخمسة أي: رجال النجاشي ورجال الكِشِّي ورجال الطوسي وفهرسته ورجال ابن الغضائري. (المترجم)

وفيما يلي بيان حال سيف بن عميرة:

1- ذكره الشيخ طه نجف في "إتقان المقال" (ص 299) ضمن الضعفاء.

2- قال الممقاني في تنقيح المقال (ج2/ص 79): "نُقِلَ عن الشهيد تضعيفه، وعن موضع من كشف الرموز أنه مظنون وعن موضع آخر أنه مطعون فيه وملعون"!.

و أما صالح بن عقبة، فقد عرَّفَتْه كتب الرجال على هذا النحو:

1- أورده العلامة الحلي في خلاصته (ص 230) في القسم الثاني الخاص بالضعفاء وقال: "صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان، روى عن أبي عبد الله ÷، كذَّابٌ غالٍ لا يُلْتَفَتُ إليه".

2- أورده ابن داود في الرجال (ص 462) في القسم الثاني الخاصّ بالمجروحين والمجهولين وقال عنه: "ليس حديثه بشيء، كذّابٌ غالٍ كثيرُ المناكير".

3- في مجمع الرجال (ج3/ص206): "صالح بن عقبة بن قيس بن السَّمْعان أبي ربيحة مولى رسول الله، روى عن أبي عبد الله ÷، غالٍ، كذَّابٌ، لا يُلتَفَت إليه!".

4- نقد الرجال للتفرشي (ص 170): "صالح بن عقبة بن قيس بن سَمْعان أبي ربيحة مولى رسول الله، غالٍ، كذَّابٌ، لا يُلتَفَت إليه!".

5- إتقان المقال للشيخ طه نجف: " صالح بن عقبة بن قيس بن سَمْعان، غالٍ، كذَّابٌ، لا يُلتَفَت إليه!".

تلك كانت أحوال بعض رجال سند حديث خطبة الغدير التي انتقدها العلامة البرقعي ودافع عنها السيد المحلاتي!!

نعم، كان أولئك هم علماء الرجال الشيعة وكان ذلك كلامهم بشأن رواة هذه الخطبة، وقد بيّنوا أن رواتَها غلاةٌ وكذَّابون. فإذا كان الأمر كذلك فليت شعري كيف يعتبر السيد المحلاتي نفسه محدثاً خبيراً (؟!) ولا يدري حال أولئك الرواة بل ينبري للدفاع عن تلك الخطبة؟!! فإن دفاعه عن خطبة كهذه لا يرفع من شأنه ولن يمنح الخطبة قيمة واعتبارًا.

هل استطاع آية الله مير حامد حسين اللكهنوي الذي كتب مجلَّدَيْن من كتابه «عبقات الأنوار» حول موضوع الغدير وأورد فيهما مثل هذه الروايات والخطبة، ثم جاء السيد المحلاتي وكتب كُتَيِّبه الذي يقع في 130 صفحة وخصص 70 صفحة منه للدفاع عن خطبة الغدير، وقد كُتبتْ -قبل ذلك- آلاف المجلّدات من الكتب في إثبات هذا الأمر، وهل تمكّن كل تلك الكُتب أن تُثبت أمراً مجهولاً؟! ولا ريب أن ذلك البناء المتزلزل الذي بُني على روايات وأقوال حفنة من الغلاة وأصحاب الأهواء الذين عرفنا أحوالهم لا يمكنه أن يُبطل حقًا أو يُـحِقّ باطلاً، وينطبق عليه المثل الذي يقول: يُمكن طرد ألف غراب بحجر واحد، ولكن كل ما في الأمر أنه يُمكن بهذه الكتابات إضلال العوام إلى فترة من الزمن والعمل بما يفيد أعداء الإسلام. وفعلا قد تحقق هذا الغرض. وحتى لو فرضنا ثبوت صحة هذه الخطبة فما الفائدة من قيامكم بترويجها وتبليغها وأي دواء تحمل في طياتها لداء المسلمين وآلامهم ومشاكلهم سوى أنه يستفيد منها أعداء الإسلام لصالحهم لأن الاختلاف بين المسلمين أفضل وسيلة يستطيعون من خلالها أن يسودوا عليهم ويحكموا على رقابهم.

إلقاء نظرة على قسم آخر من كُتَيِّب السيد المحلَّاتي

خصَّصَ السيد المحلاتي القسم الآخر من كُتَيِّبه للرد على كتابٍ في نفي وجوب دفع خمس أرباح المكاسب! لمؤلف مجهول الهوية، على حدِّ قول السيد المحلاتي.

في هذا القسم يذكر المحلاتي في تعريفه للكتاب أن صاحبه قام بطباعته على الآلة الكاتبة بشكل غير قانوني لأن الكتاب ممنوع [من الطباعة والنشر]، ونسج في خياله أموراً حول تأليف هذا الكتاب وأطنب في الكلام في الرد على جزء من هذا الكتاب الذي يتعلق بالزكاة وقد أجبنا عن كلامه في كتابنا الذي ألّفناه حول فريضة الزكاة والذي طُبِع ولله الحمد وسوف يُنتشر إن شاء الله تعالى وبعونه، ونحيل القراء إليه، ونحن على يقين أن السيد المحلاتي، وليس هو فحسب بل أولئك الذين ذكرهم في قسم من كتيّبه أيضاً عاجزون عن الرد عليه.

أحد الأمور التي تشبّث بها السيد المحلاتي واستطاع أن يوجِّه إليها سهام نقده، هو أن مؤلف كتاب الخُمْس ذَكَرَ اسمَ «عَليِّ بن الحسن بن فضّال» بصورة: «علي بن فضّال» أي لم يذكر اسم أبيه: «الحسن» بعد اسمه. وقد تتبع هذا الأمر في أكثر من موضع من كتيّبه ظنًّا منه أنه ظفر بخطأ فاحش وقع به مؤلف كتاب الخمس! ولكنه لو قرأ بدقَّة الصفحتين 45 و 46 من كتاب الخمس لما فضح نفسَه وكشف عن قلة علمه إلى هذا الحد: فأولاً: وَرَدَ اسمُ «علي بن الحسن بن فضّال» في كثير من كتب علماء الشيعة الكبار بصورة: «علي بن فضّال»، كما نجد ذلك في كلام العلامة الحِلِّيّ في كتابه منتهى المطلب (ص 534) - خلال مناقشته لرواية إعطاء الزكاة لبني هاشم -: "وفي طريقه ابن فضال وهو ضعيف". وقال العلامة الحِلِّيّ أيضاً في كتابه مختلف الشيعة (ج2/ ص7، الطبعة القديمة)[14] - [في تعليقه على رواية رواها علي بن فضال عن محمد بن مسلم وأبو بصير وبريد والفضيل أنهم سألوا الإمام الصادق عن الأشياء التسعة]، فقال: "والرواية ممنوعة السند، فإن في طريقها علي بن فضال، وفيه قولٌ".

وقد اكتفى أكثر كتب الفقه والرجال بذكر «علي بن فضّال» فقط. فإذا كان ذكر «علي بن فضّال» بدلاً من «علي بن الحسن بن فضّال» عيبًا يُعاب به مؤلف كتاب الخمس فإن هذا العيب سيلحق بعلماء الشيعة الكبار أيضًا أمثال العلامة الحلي والآخرين الذين لم يطَّلِع السيد المحلاتي على كتبهم وأقوالهم.

وإذا كان السيد المحلاتي قد طار صوابه عندما رأى كتاب الخمس؛ لأنه أدرك أن انتشار ذلك الكتاب سوف يغلق حانوت سهم الإمام والخمس الذي يسترزق منه، فهذا شأنه. ولو أنه كان قد رجع إلى كتاب الرجال للمامقاني ورأى أنه من الصفحة 40 من كتاب الكُنَى فما بعد، ذَكرَ عددًا كبيرًا من الرجال والعلماء الكبار بكُنَى الابن ونسبهم إلى الجد لاسيما في الصفحة 44 السطر 12 حيث جاء: "ابن فضّال، هو علي بن الحسن بن علي بن الفضّال"، عندئذ كان سيدرك أن ذكر "علي بن فضّال" ليس عيباً في حقّ مؤلف، لأن كنية «ابن فضال» وحدها - فما بالك بِـ«علي بن فضّال» - لا تُطلَق إلا على شخص واحد، وهو «علي بن الحسن بن الفضّال»، كما أن ابن حمزة اسمه محمد بن علي بن حمزة الطوسي، وابن داود اسمه الحسن بن علي بن داود أو اسمه محمد بن أحمد بن داود، وابن زهرة هو حمزة بن علي بن زهرة، وابن شهرآشوب اسمه محمد بن علي بن شهرآشوب، وابن طاووس هو علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس، وابن بابويه اسمه محمد بن الحسين بن موسى بن بابويه، وآلاف أمثال هؤلاء الأشخاص.

بناء على ذلك، فإن ذكر اسم علي بن فضال بعبارة «ابن فضال» أو «علي بن فضال» ليس عيبًا في حق من ذكره، فلا يحق لأحد أن ينكر ذلك.

أيها السيد المحلاتي! لو أنك اطلعت على كتاب «تراجم الرجال» للعلامة البرقعي لرأيت أنه عَنْوَن لمئات الأشخاص بصيغة الابن ونسبه إلى الجد وعندئذ كنتَ قد وفَّرتَ على نفسك تسويد صفحات كُتَيِّبِكَ.

وأما استشكال السيد المحلاتي بأن هذا الشخص (علي بن فضال) قد أثنى عليه المامقاني في رجاله وقال عنه كذا وكذا، فنحن لا نعتبر المامقاني ولا السيد المحلاتي أبداً في مستوى علماء من أمثال العلامة الحلي والمحقق السبزواري وصاحب السرائر، الذين جرحوا «علي بن فضال» وذمُّوه وضعَّفوا حديثه واعتبروه ضالاًّ مُضِلاًّ. فإن كان السيد المحلاتي يريد أن يخطِّئ العلامة الحلي[15] وصاحب الحدائق[16] وصاحب المدارك[17] وصاحب الذخيرة[18] وصاحب السرائر[19] فلا كلام لنا مع مثل ذلك الشخص، وإلا فإننا لم ندَّعِ شيئاً من عند أنفسنا رغم أننا أثبتنا في كتبنا الأخرى[20] بالدلائل والمستندات، أن «علي بن فضَّال» كان من القائلين بإمامة جعفر الكذاب، ولكن السيد المحلاتي قليل العلم قبل أن يكلف نفسه عناء المطالعة والقراءة قال في مؤلف كتاب الخمس: "إن هذا الجاهل اعتبر هذا الرجل الجليل ضالاً ومضلاً إما جهلاً منه أو تجاهلاً".

أقول: أيها السيد المحلاتي! يجب أن تعلم أن مؤلف كتاب الخمس ليس هو من اعتبر ابن فضَّال ضالاًّ ومُضلاًّ بل الذي اعتبره كذلك -كما هو مذكور في الصفحة 40 و 104، من كتاب الخمس- هو المرحوم محمد بن إدريس[21] الذي كان من أعيان علماء الإمامية في عصره، وأغلب الظن أن السيد المحلاتي لا يعرفه وإلا لما تجرأ على مثل ذلك الكلام، ولو كان للسيد المحلاتي الهمة الكافية للمطالعة فليحصل على كتاب «السرائر» الذي طبعته دار «كتابفروشي اسلاميه» قبل عدة سنوات وليقرأ ما قاله ذلك العالم في صفحة 115 حيث قال: "وراوي أحدهما فطحيُّ المذهب، كافرٌ ملعونٌ، وهو علي بن الحسن بن الفضَّال[22]، وبنو فضَّال كلُّهم فطحيةٌ، والحسنُ رأسُهُم في الضلال...".

وإذا كان السيد المحلاتي يستطيع الرد على كلام صاحب كتاب السرائر فليفعل وإلا عليه أن لا يذهب بماء وجهه بتسويد صفحات من كتابه في الدفاع عن رجل كان هو وأبوه كافرَين ملعونَين [حسب وصف صاحب كتاب الأسرار]، وليعلم أن ما كتبه مؤلف كتاب الخمس ليس من هوى نفسه، بل هو قائم على الدليل والبرهان، ويدرك مؤلف كتاب الخمس جيدًا أنه لا يكتب شيئًا في ظلمات عصر ما قبل التاريخ وأن الناس ليسوا مثل مريدي المحلاتي يتبعونه إتباعاً أعمى!

وأفضل دليل على قلة علم السيد المحلاتي أنه كتب في الصفحة 45 من كُتَيِّبِهِ أن الإمام الصادق ÷ قال: حدثوا بكل ما رواه الفطحية! وتابع المحلاتي هذا الأمر في الصفحة 51 من كُتَيِّبِهِ فيقول: إن الإمام الصادق قال: دعوا آراء الفطحية وخذوا بروايتهم، هذا في حين أنه لو كان للسيد المحلاتي اطلاعٌ على كتب الملل والنحل لعرف أن الفطحية كانوا من القائلين بإمامة ابن حضرة الإمام الصادق ÷ عبد الله بن جعفر، وهؤلاء نشأوا ووُجدوا بعد وفاة الإمام جعفر الصادق ÷، فلم يكن في زمن الإمام الصادق أيُّ فطحيٍّ حتى يقول الإمام دعوا رأيهم وخذوا بروايتهم!! ﴿فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا؟! [النساء: 78].

فتَـبَيَّن أن السيد المحلاتي جاهلٌ بعلم الملل والنحل بقدر جهله بعلم الرجال وأنه أقدم على الكتابة دون أن يعي جيداً بما يكتب، والعجيب أنه رغم عدم اطلاعه على التاريخ والرجال والملل والنحل اعتبر نفسه ابن حلال وكأنه يريد أن يقول إن مخالفيه هم من أولاد الحرام. وأقول: إذا كان الجهل وعدم المعرفة تعنيان أن يكون الإنسان ابن حلال فهينئًا للسيد المحلاتي هذه الصفة!!

لقد كتب السيد المحلاتي جزءاً من كتابه بهدف الدفاع عن الخمس وبدأ ذلك من الصفحة 38 وانتهى في الصفحة 70، وفي هذه الـ33 صفحة ضرب يميناً وشمالاً وخبط خبط عشواء!! فأحياناً دافع عن راوٍ سيئ السمعة مثل علي ابن فضال وفي موضع آخر دافع عن أحاديث حصر الزكاة بالأشياء التسعة مع أن معظم رواتها فطحيو المذهب وهم - على حد قول صاحب السرائر - كفرة ملعونون، واستشهد بشكلٍ ناقص بأحاديث لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالأمر الذي يريد إثباته وأحياناً دافع عن مراسم العزاء وعن الطلاب العاطلين الطفيليين [الذين يسترزقون من الخمس] واعتبر أن العادة المروجة في الغيبة الكبرى أن يأخذ [الفقهاء والسادة] سهم الإمام ويأكلوه، وأن ذلك دليلٌ على أن هذا العمل حق!! وأنكر تحليل الخمس مِنْ قِبَل الأئمَّة عليهم السلام !! ولكنه لم يجرأ أن يأتي حتى بحديث واحد بصورة كاملة من حوالي (30) حديثاً، أوردها صاحب كتاب الخمس، في حِلِّيَّة الخمس وإباحته للشيعة، وأَوَّلَ تلك الأحاديث واتهم شريعة الإسلام بأنها كذا وكذا دون أن يأتي بدليل على كلامه أو يبرز لنا مستنداً ومستمسكاً، مع أن مؤلف كتاب الخمس أثبت (في الصفحات 174 حتى 182) أن النبيَّ ص لم يطلب أجراً على رسالته من أحد، وأن آية المودة (سورة الشورى: آية 23) لا علاقة لها بما يقولونه، بل إن علماء الشيعة الكبار أمثال الشيخ المفيد والشيخ الطَّبْرسي قالوا: إن الآية تتعلق بمحبة المؤمنين ومودتهم بعضهم بعضا تقرباً إلى الله.

ثم لجأ المحلاتي إلى التُرَّهات من خلال السب والشتم واستخدام عبارات مثل مجهول الهوية والكاذب والخائن وقليل الحياء، فشفى غليله بأمثال هذه الشتائم وخدع عوام الناس، ولابد أنكم سمعتم أن السبّ سلاح العاجزين.

وقد أتى المحلاتي في رده على كتاب الخمس في (الصفحة 53 من كُتَيِّبِهِ) بأحاديث حسب تصوره، في حين أنه قد ذُكر في كتاب الخمس ذاته أن الأحاديث المتعلقة بخمس أرباح المكاسب ليست سوى عشرة أحاديث، خمسة منها في إثبات خمس أرباح المكاسب وخمسة أخرى تريد أن تثبت أن خمس أرباح المكاسب حق الإمام فقط وليس لأحد آخر حقٌّ فيه. لكن هذا الكاتب قليل الاطّلاع كالغريب الذي يتشبث بالقشة لأنه أخذ يحشد الأحاديث الدالة على تحليل الخمس أو الدالة على أن زكاة المعادن هي الخمس أو أن زكاة المال المخلوط بالحرام هو الخمس ليستدل بها على خمس أرباح المكاسب!!

ورغم أن مؤلف كتاب الخمس ذكر في الصفحة (210) من كتابه، أنه يوجد في كتاب الكافي وحده 28 حديثاً حول الخمس وأن المجلسي اعتبر في كتابه «مرآة العقول» اثنين منها صحيحًا فقط، أحدهما يتضمن أن تقسيم الخمس كان يتم بيد النبيص والإمام، في حين يتضمن الآخر أن خمس المعادن وغيرها إنما يؤدَّى بعد وضع المؤونة، وكذلك ذكر صاحب كتاب الخمس حوالي ثلاثين حديثًا في إباحة الخمس فضلاً عن الأحاديث المتعلقة بخمس المعادن وغيرها التي تدخل تحت الزكاة. ولكن هذا الذي أصبح عالماً قبل أن يكون متعلما، ذكر 33 حديثاً بصورة ناقصة ومبتورة للمتن والسند حتى يثبت فيها ذلك الخمس الذي يدعيه في حين أن بعض تلك الأحاديث لا يتعلق بخمس أرباح المكاسب كالأحاديث 2 و3 و6 و12 و13 و15 و17 و18 و24 و25 و26 و27 و29 و30 و31 و33، والتي ليس فيها أي شيء مما يريده السيد المحلاتي، لأن بعض هذه الأحاديث يتعلق بالخمس الذي يجب إعطاؤه من محصول المعادن والغوص والمال المخلوط بالحرام باسم الزكاة (ولم يفرِّق السيد المحلاتي بين الخمس الذي هو عدد رياضي ويُقْصَد منه 1 من 5 والخمس الذي وضعه المشايخ وأصبح من فروع الدين، لأن الخمس بالمعنى الرياضي إنما ذكر في بعض الروايات تحت عنوان الزكاة) والبعض الآخر من تلك الأحاديث يتعلق بخمس غنائم دار الحرب التي لا وجود خارجيَّ لها، ولا يتعلق أيٌّ من تلك الأحاديث الـ 33 بخمس أرباح المكاسب، ولو تعلق بها فهو حديثٌ أحلَّهُ الإمام في في آخر الحديث. فماذا نفعل إذا كان المَلِكُ يتنازل عن حقه والشيخ علي خان (فرد من عامة الناس) لا يتنازل عن حق المَلِك؟!!

[14] أو في (ج3/ ص 184) من الطبعة الجديدة لكتاب "مختلف الشيعة" والذي طُبِعَ في 9 مجلدات، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، قم. (المترجم) [15] هو الفقيه الأصولي والعلامة الرجالي الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي المعروف اختصاراً بالعلامة الحلي (ت 726هـ.)، زعيم فقهاء الإمامية في عصره وصاحب عشرات الكتب في الفقه والأصول ‏والعقائد والكلام والرجال. (المترجم) [16] هو الفقيه الأخباري الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني (ت 1186هـ)، المعروف اختصاراً بالشيخ يوسف البحراني صاحب موسوعة «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» في الفقه الاستدلالي، والتي تقع في 25 مجلَّداً. (المترجم) [17] أي الفقيه المحقِّق السيد محمد بن علي الموسوي العاملي (ت 1009هـ .) مؤلف كتاب «مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام» في الفقه الاستدلالي، ويقع في 8 مجلَّدات. (المترجم) [18] هو المولى محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني المعروف بالمحقق السبزواري (ت 1090هـ)، مؤلف كتاب «ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد» [أي شرح كتاب إرشاد الأذهان]، ويقع في مجلدين. (المترجم) [19] هو الفقيه الأصولي محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلي المعروف اختصاراً بابن إدريس (ت 598هـ)، مؤلِّف كتاب «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى»، طُبع في 3 مجلدات. (المترجم) [20] مقصود المؤلف كتابه القيم «الزكاة». وكتاب «الزكاة» وكتاب «الخمس» كتابان مرتبطان ببعضهما أحدهما يكمِّل الآخر وقراءتهما توضِّح لكل منصف الأهمية الكبيرة للتحقيق الدقيق والعلمي الذي قام به جناب الأستاذ قلمداران. "وأنا لا أعرف نظيراً لهذين الكتابين". (البرقعي) [21] هو الفقيه محمد بن إدريس الحلي، من كبار فقهاء الإمامية في القرن السادس الهجري وصاحب كتاب السرائر الذي عُرِفَ فيه بآرائه الجديدة الجريئة في الفقه وانتقاده لمن سبقه من الفقهاء، توفي سنة 598هـ. (المُتَرْجِمُ) [22] علما أن هذه العبارة في النسخة المتداولة لكتاب السرائر هكذا: «وراوي أحدهما فطحي المذهب، كافر ملعون، مع كونه مرسلا وهو الحسن بن الفضال، وبنو فضال‏ كلّهم‏ فطحية، والحسن رأسهم في الضلال»، ولکن الصحيح في الرواية التي يشير إليها مؤلف كتاب السرائر، وكما هي في تهذيب الأحكام للطوسي، هو علي بن الحسن بن الفضال وليس أباه الحسن. فالصحيح هو علي بن الحسن بن الفضال، كما ذكره المؤلف (قلمداران) وليس الحسن بن الفضّال كما هو في النسخة المتداولة لكتاب السرائر. (المُصحح)

خيانة السيد المحلاتي في نقل الشواهد

كتب السيد المحلاتي حول موضوع إباحة الخمس، في ص 44 من كُتَيِّبِهِ، مُعَلِّقاً على الحديث الذي يقول: «أَبَحْنَا لِشِيعَتِنَا لِتَطِيْبَ وِلَادَتُهُمْ»: كان المسلمون في زمن الأئمة عليهم السلام يذهبون لمحاربة الكفار وكانوا يأتون بالغنائم ومن جملتها السبايا (الإماء) وكانت تلك السبايا، إما كلها أو خمسها، مُلْكاً للإمام، وكان الشيعة يشترون تلك الإماء فَأَحَلَّ الإمامُ لهم خمس هذه الغنائم كي يكون أولادهم أولاد حلال!

وأقول: على السيد المحلاتي أن يعلم أن الخائن ليس مؤلف كتاب الخمس بل الخائن هو الذي يقتبس من كتابٍ حجمه أكثر من 230 صفحة عدة جمل مبتورة ويريد أن يصطاد بها مريديه. نعم! لقد ارتكب المحلاتي مثل هذه الخيانة بالنسبة إلى ما ورد في ذلك الكتاب لأنه لم يأتِ بما ذكره صاحب كتاب الخُمْس تماماً كما ذكره بل أتى بِـجُمَلٍ ناقصةٍ ثم هجم على المؤلف هجومًا عنيفًا وكأنه يرقص على أجساد الموتى، ثم ذهب وحده إلى القاضي [ليحكم على خصمه حسب دعواه]!

لو لم تكن خائنًا أيها السيد المحلاتي وكنت تعتقد حقاً أن محتويات كتاب الخُمْس غير صحيحة وأنك أهلً للردّ المُفْحِم عليه، لكان الأجدر بك أن تنقل من كتاب الخُمْس الذي يتجاوز عدد صفحاته عن 230 صفحة، صفحةً واحدةً أو أكثر بأمانة ودون أية خيانة، ثم تقوم بالردّ عليه إن وجدتَّه غير صحيح أو تترك لقرائك ومريديك الحُكْم فيه، ثم تحتمل حضرتك أن يوجد بين قُرَّاء كُتَيِّبِك أشخاصٌ لهم من العلم نصيب بقدر ما لك أو أكثر، على نحو يستطيعون به أن يُمَيِّزوا الصحيح من السقيم، لا أن تقتبس من كتاب كبير بِضْعَ جُمَلٍ ناقصة وتقول إنَّكَ تصفّحتَ الكتابَ حتى صفحة 164 وتتجاهل أكثر من 60 صفحة باقية منه، مع أنّ جواب كل ما قمت به من كَرٍّ وَفَرٍّ موجود في تلك الصفحات الستين الأخيرة من الكتاب، لأن كل كتاب أو مقال إنما تأتي نتائجه في آخره.

نعم، لو لم تكن خائنًا لكان من الجدير بك أن ترجع بشأن ما ادَّعيتَه من أن الإمام أحل لشيعته السبايا (الإماء) اللواتي أُخِذن كغنائم حرب وأن ما عدا ذلك لم يُحَلّ للشيعة، أن ترجع إلى الصفحات (من 260 وحتى 271) من كتاب الخُمْس كي ترَى بنفسك أن الإشكال الذي ذكرته، فقد ذكره صاحب كتاب الخُمْس بأوضح بيان ثم أجاب عنه بأفضل حجة ودليل. ولكنك لما أُصبْتَ بالصدمة من مشاهدتك لكتاب الخُمْس ولم تطق قراءته حتى آخره أو قرأته ولكن لم يكن من مصلحتك الرد عليه. على كل حال، فإننا نُحِيلُكَ إلى تلك الصفحات من ذلك الكتاب. ففي الصفحة 260 نقل صاحب كتاب الخمس الحديثَ الأولَ في تحليل الخمس للشيعة من كتاب «التهذيب» للشيخ الطوسي، وقال فيه أمير المؤمنين علي ÷: "هَلَكَ النَّاسُ فِي بُطُونِهِمْ وفُرُوجِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤَدُّوا إِلَيْنَا حَقَّنَا، أَلَا وإِنَّ شِيعَتَنَا مِنْ ذَلِكَ وآبَاءَهُمْ فِي حِلٍّ".

ومن الواضح أن عبارة «فِيبُطُونِهِمْ» لا تتعلق بسبايا غنائم دار الحرب. بل كل ما أُكِل من حقوق إذا كان الآكل من الشيعة فهو في حل مما أكله!

وفي نفس الصفحه ذُكِرَ الحديث الثاني الذي يتضمَّن نفس المعنى.

وفي الصفحة 261 ذُكِرَ فيها الحديث السابع الذي قال الإمام ÷ فيه: "هِيَ وَاللهِ الْإِفَادَةُ يَوْماً بِيَوْمٍ إِلَّا أَنَّ أَبِي جَعَلَ شِيعَتَهُ فِي حِلٍّ لِيَزْكُوا". إذن، الإمام قد أحل لشيعته الفوائد اليومية أي التي يكسبها الإنسان كل يوم أياً كان نوعها ولا علاقة لهذا - كما هو واضح - بسبايا دار الحرب.

وفي الصفحة 263 ذُكِر الحديث الخامس عشر الذي ورد في كتابَي التهذيب والاستبصار [للشيخ الطوسي] وكتاب «من لا يحضره الفقيه» [للشيخ الصدوق] والذي يقول: "عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ القَمَّاطِينَ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ تَقَعُ فِي أَيْدِينَا الأَرْبَاحُ والْأَمْوَالُ وتِجَارَاتٌ ...."، إذن، كل ما كان من الأموال والأرباح والتجارات أُبيح للشيعة فلا تقتصر الإباحة على السبايا (الإماء).

ونقرأ في الصفحة 264 أيضاً من كتاب «التهذيب»: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ لَنَا أَمْوَالًا مِنْ غَلَّاتٍ وتِجَارَاتٍ ونَحْوِ ذَلِكَ وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَكَ فِيهَا حَقّاً قَالَ: فَلِمَ أَحْلَلْنَا إِذاً لِشِيعَتِنَا؟!". فهذا يبيّن أن الذي أُحلّ هو الأموال والغلات والتجارات وأمثالها ولا ينحصر بسبايا الغنائم الحربية.

وفي الصفحة ذاتها الحديث 18 الذي قال حضرة الصادق ÷ فيه: "إِنَّ أَشَدَّ مَا فِيهِ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا قَامَ صَاحِبُ الخُمُسِ فَقَالَ: يَا رَبِّ! خُمُسِي، وإِنَّ شِيعَتَنَا مِنْ ذَلِكَ فِي حِلٍّ". إذن، أُحِلّ للشيعة كلُّ ما يشمله الخمس ولا نجد في الحديث أي كلام عن سبايا الحرب.

وفي الصفحة 265 من كتاب الخمس نقرأ الحديث 20 الذي قال الإمام فيه: "الأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا، فَمَا أَخْرَجَ اللهُ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَنَا. قَالَ قُلْتُ لَهُ: أَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ المَالَ كُلَّهُ. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا سَيَّارٍ! قَدْ طَيَّبْنَاهُ لَكَ وحَلَّلْنَاكَ مِنْهُ فَضُمَّ إِلَيْكَ مَالَكَ وكُلُّ مَا كَانَ فِي أَيْدِي شِيعَتِنَا مِنَ الأَرْضِ فَهُمْ فِيهِ مُحَلَّلُونَ ومُحَلَّلٌ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَقُومَ قَائِمُنَا...". إذن، فكل ما هو فوق الأرض وكل ما يخرج من الأرض وحتى قيام القائم حلال للشيعة ولا خمس فيه ولا ينحصر الأمر بسبايا الحرب.

وأخيراً ما أورده صاحب كتاب الخمس في الصفحة 268 عن الإمام التاسع والإمام الثاني عشر يصرِّح بحلية الخمس للشيعة وأنه ليس واجباً عليهم، وخاصة توقيع الإمام الثاني عشر، فإنه يصرح بقوله: "وأَمَّا الخُمُسُ، فَقَدْ أُبِيحَ لِشِيعَتِنَا وجُعِلُوا مِنْهُ فِي حِلٍّ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُنَا لِتَطِيبَ وِلَادَتُهُمْ ولَا تَخْبُثَ". فالتحليل عام ولا ينحصر بالإماء المشتريات من غنائم الحرب.

والآن قد تبين لنا أن ما أحله الإمام إن كان خمس أرباح المكاسب بشكل عام، فقد حلله الإمام للشيعة، لأن صريح الأحاديث يثبت أن مثل هذا الخمس كان خاصاً بالإمام؛ وإذا كان ذلك خمس غنائم الحرب فقد أُحِلّ للشيعة أيضًا بالنص الصريح لهذه الأحاديث، وأن الإمام -في النهاية- قد وَهَب للشيعة كل حق، فلا مجال بعد ذلك للتخبط والتشبث ولا يُثْبِتُ كل ما ذكره المحلاتي شيئاً مما يدعيه، فالذين يأخذون مثل هذا الخمس من الناس قد ظلموا الشيعة على أقل تقدير، لأنه حقٌّ وهبه صاحبه للناس، فجاء آخرون وأخذوه من الناس بغير حق!!

إن على إخوتنا في الدين أن يعلموا أن كتاب الخُمْس الذي أُلِّف حديثاً قد بَحَثَ مسألة الخُمْس بشكل مفصَّل وأثبتَ بالأدلة الدينية الشرعية، أي بآيات القرآن وسنة الرسولص والأحاديث المعتبرة والعقل، أن أنبياء الله لم يطلبوا أجراً من أممهم وأنّ رسول الله ص وأمير المؤمنين علي ÷ لم يأخذوا من أحد من الكاسبين والتجار شيئاً باسم الخمس وسهم الإمام، والذي جاء في القرآن بشأن الخمس هو آية واحدة تتعلق بخمس غنائم الحرب وهي تندرج تحت عنوان زكاة الغنائم ولا تختص بالسادات [أي الهاشميين] من آل محمد أو بالإمام. إنه كتاب مستَدَلٌّ وَمُسْتَنِدٌ إلى دلائل قوية وعلى كل إنسان أن يقرأه كي يقف على أهميته وأن يقرأه بتجرد وإنصاف لا بروح البغض والعداوة والتعصب.

إن الأمر المسلَّم به أن السيد المحلاتي قد خان قُرَّاءَه في كُتَيِّبِهِ، فإما أنه لم يفهم كتاب الخُمْس أو لم يوضّح مضمونه كما ينبغي لمريديه. هذا على الرغم من أنه من الممكن أن يكون هذا العمل بذاته سبباً لأن يسعى قراؤه إلى الحصول على كتاب الخمس وعندئذ سوف يدركون حقيقة الأمر وسوف ينقطع رزق الذين يخافون من نشره.

وهنا من المفيد أن نذكر خلاصة كتاب الخُمْس بصورة رؤوس أقلام في بضعة أسطر ونضعها أمام أنظار السيد المحلاتي ومريديه، فإن كان لديهم جواب عمّا فيه فليتفضلوا به، وإلا فليلزموا الصمت لأن المسلم أُمِر أن يقول خيراً أو أن ليصمت، وحتى يكون قراء كُتَيِّبِ المحلاتي على بينة من الحقيقة في هذا الأمر.

فهرس محتويات كتاب «بحث عميق في مسألة الخُمْس في الكتاب والسُنَّة»

1- جاء في بداية الكتاب أن دليل حكم «الخُمْس» ومستنده في كتاب الله هو الآية 41 من سورة الأنفال التي تقول: ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ [الأنفال:41]. بيد أن الآيات التي قبلها وبعدها بل صدر الآية ذاتها وذيلها[23] يتعلق بالحرب والقتال. بناء على ذلك فسياق الآيات يتعلَّق بالجهاد والقتال، أي أنها نزلت في موضوع القتال، وأهل العلم يعلمون أن تعميم موضوع حُكْم من الأحكام، وتسرية حكمه إلى موضوعات أخرى، بحاجة إلى دليل، ومثل هذه الموارد لا تشملها قاعدة «المورِد لا يُخصِّصُ الوارد»[24] إلا إذا أراد شخصٌ ما أن يخدع عامة الناس. والدليل الآخر على عدم جواز تسرية الحكم هو أن كل الآيات القرآنية التي فيها «الغنائم» و«المغانم» فإنها وردت بين آيات الجهاد والقتال. وكلُّ عاقل -ما لم يُخَرِّب شياطينُ الإنس والجنّ مُخَّهُ!- يدرك أن كلمة الغنيمة في القرآن تتعلق بغنائم دار الحرب التي تُؤخذ من الكفار، ولا تشمل أرباح مكاسب المسلمين. وكلُّ من يقول غير ذلك فقد قال ظُلماً و زُوراً وَحَمَلَ الآيةَ الكريمةَ عَلَى الرأي [المذموم].

2- لا يوجد ضمن الأحاديث التي نسبها الفريقان [أهل السنة والشيعة] صدقاً أو كذباً إلى رسول الله ص حتى حديثٌ واحدٌ ولو ضعيف السند ذَكَرَ فيه رسولُ الله ص ولو كلمةً واحدةً بشأن خُمس أرباح المكاسب، فضلاً عن أن يكون قد أخذ ص من أي مسلم ديناراً أو حبَّةً تحت هذا الاسم، والأمر ذاته ينطبق على علي بن أبي طالب ÷ في زمن خلافته.

أما قول المحلاتي في ص 45 من كُتَيِّبِهِ: ما الذي كان يملكه مجموعة من الجياع في المدينة حتى يستطيعوا أن يدفعوا الخُمْس؟ فالجواب عنه ذُكر في الصفحة (47) من مقدمة كتاب الخُمْس، وقد ذكر هذا الإشكال أحد العلماء الآخذين للخُمس وقال إن المسلمين زمن رسول الله ص كانوا في غاية الفقر واضطراب الحال، لذا لم يكن بينهم من يشمله واجب أداء الخُمْس.

والجواب الذي رد به صاحب كتاب الخُمْس على هذا الإشكال أن هذا الكلام أقرب إلى الهذيان! إذْ كان في زمن رسول الله ص كثيرون ممن يدفعون الزكاة مع أن الزكاة لا تجب إلا على أغنياء الأمة ممن يملكون النصاب الذي هو عشرون ديناراً من الذهب أو مائتا درهم من الفضَّة أو أربعين شاةً أو ثلاثين أو أربعين بقرةً سائمةً، وكان رسول الله ص يأخذ الزكاة منهم، فكيف يُقال إنه لم يكن بين المسلمين زمن النبي ص حتى شخص واحد يملك درهماً يدفع خمسه؟! من البديهي أن كلَّ حمَّال وبقَّالٍ وحطَّابٍ وكل امرأة تعمل بالغزل تملك خمسة دراهم على الأقل وَمِنْ ثَمَّ كان عليهم أن يدفعوا خمسها أي درهما منها إلى رسول الله ص وخلفائه، فلماذا لم يأخذ النبيُّ ص وخلفاؤُه مثل هذا الخُمْس من أحد؟! حقَّاً لم نر قلَّة حياء إلى هذا الحدّ!! وليت شعري! هل يمكن التحاور مع أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين إلى هذا الحد؟

3- جاء في كتاب الخُمْس أنه إذا كانت كلمة ﴿ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ تتعلق بأقرباء رسول الله ص فإن كلمات «الْيَتَامَى» وَ «المَسَاكِينِ» وَ «ابْنِ السَّبِيلِ» تشمل بعمومها جميع المسلمين، وقد أورد مؤلف كتاب الخُمْس نَظَرَ مفسري الشيعة وأحاديث الأئمَّة عليهم السلام في هذا الأمر، وإذا وُجِدت أحاديث معارضة لها فلابدَّ من ردِّها؛ لأن لدينا في جهةٍ أصل اللغة و قول المفسِّرين وأحاديث الصادقين وفي الجهة المقابلة توجد أحاديثٌ - بغض النظر عن عدم صحَّتها - مخالفةٌ للقواعد في هذا الأمر، فسيرة رسول الله ص تُبيِّن أنه لم يفعل ذلك أبداً في خمس غنائم الحرب، ولم يعْطِ منه أيَّ أحدٍ من أقربائه، فضلاً عن أن يعطي الْيَتَامَى والمساكينَ وَأبناءَ السَّبِيلِ منهم شيئاً، وحتى لو أعطى ذلك فإن ذلك يتعلَّق بخمس غنائم الكفار لا أرباح مكاسب الحمَّالين والبقَّالين من المسلمين.

4- جاء في كتاب الخُمْس أن حرمة الزكاة على أهل بيت رسول الله ص كانت خاصَّةً بزمنهص وكان ذلك أمرٌ عمل به رسول الله ص بنفسه الشريفة، أما كتاب الله وسيرة الأنبياء فليس فيها أي تحريم للزكاة على أقرباء الأنبياء -إن كانوا فقراء يستحقون الزكاة - وبعد رحيل النبيِّ ص استفاد جميع أهل بيته ص من مال الزكاة. وقد أثبتَ كتاب الخُمْس هذا الأمر بالدلائل الواضحة والبراهين المُتْقَنَة، فإما أن السيد المحلاتي لم يقرأ هذه الأدلة أو قرأها ولم يفهمها، أو فهمهما لكن وجد أن التطرق إليها ليس في صالحه!!

5- جاء في كتاب الخُمْس أن شعار الأنبياء جميعاً كان ﴿لَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا، وَمِنْ ثَمَّ فلا مجال لاختصاص جماعةٍ من الأفراد بخُمْس الثروة الموجودة على الأرض، وقائل ذلك يوجّه تهمةً لرسول الله ص بأنه اختصَّ أقرباءه وذريته من بعده بهذا الميراث العجيب [خمس ما يوجد على الأرض من مال]، ولعمري إن هذا افتراء على دين الإسلام بأنه دينٌ يقول بالتمييز العنصري!!

لكن السيد المحلاتي يلجُّ في الخصام ويقول إن آية ﴿إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰ [الشورى: 23] تكفي في إيجاب الخُمْس. ويقول في ص 44 من كُتَيِّبِهِ: "[إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰ:] يعني أجر الرسالة".

أقول: يا للعجب! إذا كان ذلك الرسول الكريم ص لم يطلب أجراً سوى أنه طلب خمس الثروة التي على الأرض، فماذا يكون حال الناس لو طلب منهم أجراً فعلاً!! لعله كان عليهم أن يدفعوا له جميع ثرواتهم أجراً على رسالته!! هل يرضى أيُّ إنسان عديم الدين بمثل هذه التهمة لرسول الله ص التي تجعل من الرسول الكريم الذي وصفه ربه بأنه ﴿رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ، تجعل منه زحمةً للعالمين!! بئس ما يفترون.

6- جاء في كتاب الخُمْس أن أحاديث خُمْس المعادن تتعلق بزكاة الأموال التي ينالها المسلمون بتعب أقل من الأموال التي يحصِّلونها بالعمل والجهد، لأن المعادن والغوص والمال المخلوط بالحرام كانت في الأصل جزءاً من أموال بيت المال، ويجب صرفها في مصالح المسلمين العامَّة من الفقراء والمساكين والغارمين وفي سبيل الله، وَقد ذَكَرَ صاحب كتاب الخُمْس الأدلةَ على ذلك، فلْيُراجِعْها من شاء.

7 - جاء في كتاب الخُمْس أنه على فرض صحة أحاديث إيجاب خمس مكاسب الأرباح، فإن ذلك يتعلَّق -حسب قولكم- بالإمام بشكل خاص، وقد وهب الأئمَّة عليهم السلام هذا الحق، سواء في حضورهم أم في غيبتهم، إلى شيعتهم وحللوه لهم، وذكر كتاب الخُمْس في هذا الأمر 30 حديثاً مقابل 5 أو 10 أحاديث حول إيجاب الخُمْس، وقد تجاهل السيد المحلاتي هذه الأحاديث الثلاثين لأنها ليست في صالح آخذي الخمس و آكليه!!

8- وأخيراً ذَكَر كتابُ الخُمْس فتاوى 17 نفراً من علماء الشيعة الكبار مثل ابن أبي عقيل العُمَاني (ت القرن 4 هـ)، وابن جنيد الإسكافي (ت 381هـ) والشيخ الصدوق (ت 381هـ) والشيخ الطوسي (ت 460هـ) والشيخ سلار الديلمي (ت 463هـ) والمُحَقِّق الكَرَكي (ت 940هـ) والمُحَقِّق السبزواري (ت 1090هـ) والمُقَدَّس الأردبيلي (ت 993هـ) وصاحب المعالم (ت 1011هـ)[25] وصاحب المدارك (ت 1009هـ)[26] وغيرهم، لم يروا وجوب الخُمس في زمن الغيبة.

إذن، أولئك الذين ذكر السيد المحلاتي أسماءهم في آخر هذا البحث ممن أوجبوا الخمس، بعضهم ليس أهلاً حتى أن يحمل حذاء أولئك العلماء الكبار، هذا عدا عن أن فتوى مدَّعي الخمس لا تُعَدُّ دليلاً شرعياً مُتْقنًا لأنها تتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله ص إضافةً إلى أن في هذه الفتوى مصلحة لمن أفتى بها، والفتوى بلا دليل غير مقبولة.

ولو لم يكفنا في يوم من الأيام كتابُ الله وسنةُ رسوله ص أو وضعناهما جانباً - لا قدَّر الله- فإننا عندئذٍ نتَّبِع أولئك العلماء الأجلاء ولا نتَّبِعُ الشيخ شعبان الرشتي أو الشيخ علي القوچاني!!

والسلام عليكم وعلى من اتَّبَعَ الهُدى

ألتمس القارئَ أن يدعو لي.

قم: حيدر علي قلمداران

[23] أي قوله تعالى في آخر الآية ذاتها: ﴿وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ... [الأنفال:41]. (المترجم) [24] و يُعَبَّر عنها أيضاً بقاعدة : «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». (المترجم) [25] هو الفقيه العلامة الشيخ حسن بن زين الدين (ابن الشهيد الثاني) المعروف بـ «صاحب المعالم» إشارة إلى كتابه معالم الدين في جزءين أحدهما معالم الأصول في أصول الفقه، والآخر معالم الفقه في الفروع، وله في الحديث كتاب قيم هو «منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان». [26] هو الفقيه المحقِّق السيد محمد بن علي الموسوي العاملي (ت 1009هـ) صاحب كتاب مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، شرح فيه كتاب شرائع الإسلام للمحقق الحليّ.