المصلح الديني الكبير آية الله شريعت سنكلجي
مؤسس المدرسة الإصلاحية التوحيدية في إيران
تأليف
د. سعد رستم
الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الإسلام، واختار منهم أفضل عباده وأطهرهم لإبلاغ رسالة الحرية والتحرُّر من كل عبودية سوى عبودية الله، والصلاة والسلام على أهل بيتِ نبي المحبة والرحمة الكرام الأطهار، وعلى صحبه الأجلاء الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الدينَ الذي نفخر به اليوم ثمرةٌ لجهاد رجال الله وتضحياتهم؛ أولئك الذين كانت قلوبهم مُتَيَّمةً بحب الله، وألسنتهم لَـهِجَةً بذكر الله، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ رسالات الله ونشرها، واضعين أرواحهم وأموالهم وأعراضهم على أكفهم ليقدِّموها رخيصةً في سبيل صون كلمة الله سبحانه و سنة نبيه الكريم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.
أجل، هكذا قامت شجرةُ الإِسْلاَمُ العزيز واسْتَقَرَّت ضاربةً بجذورِها أعماق الأرض، بالغةً بفروعها وثمارها عنان السماء، مُعْليةً كلمة التوحيد والمساواة.
ولكن في أثناء ذلك، تطاولت على قامة الإسلام يد أعدائه الألدَّاء، وظلم علماء السوء، وتحريف المتعبِّدين الجَهَلة، فَشَوَّهُوا صورة الإسلام الناصعة بشركهم وغلوهم وخرافاتهم وأكاذيبهم، إلى درجة أن تلك الأكاذيب التي كان ينشرها المتاجرون بالدين غطَّت وجه الإسلام الناصع. وقد اشتدَّ هذا المنحى من الابتعاد عن حقائق الدين، وعن سنة رسول الله الحسنة، بمجيء الصفويين إلى حكم إيران في القرن التاسع الهجري ثم بقيام الجمهورية الإسلامية في العصر الحاضر، حتى أصبحت المساجد اليوم محلاً لِـلَطْمِ الصدور وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحلَّت الأحاديث الموضوعة المكذوبة محل سنة النبيص، وأصبح المدَّاحون الجهلاء الخدّاعون للعوام، هم الناطقون الرسميون باسم الدين؛ وأصبح التفسير بالرأي المذموم والروايات الموضوعة المختَلَقة مستمسكًا للتفرقة بين الشيعة والسنة، ولم يدروا للأسف من الذي سينتفع ويستفيد من هذه التفرقة المقيتة؟
إن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تُرْفع اليوم في إيران، ليست سوى ضجَّة إعلامية ودعاية سياسية واسعة، القصد منها جذب الأنظار وإعطاء صورة جيدة عن حكومة إيران الشيعية في العالم. إن نظرةً إلى قادة الشيعة في إيران وزعمائهم الدينيين ومراجعهم تدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والأخوَّة والمحبَّة الدينية بين المسلمين، على منهج حُكَّام إيران الحاليين، ليست سوى رؤيا وخيالٍ وشعارات برَّاقة لا حقيقة لها على أرض الواقع.
في هذا الخِضَمّ نهض أفراد مؤمنون موحِّدون من وسط مجتمع الشيعة الإمامية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي، وإعادة النظر في العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، ونبذ البدع الطارئة والخرافات الدخيلة، وإصلاح مذهب العترة النبوية بإزالة ما تراكم فوق وجهه الناصع منذ العصور القديمة من طبقات كثيفة من غبار العقائد الغالية والأعمال الشركية والبدعية، والأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة، والعودة به إلى نقائه الأصلي الذي يتجلى في منابع الإسلام الأصيلة: القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة، على صاحبها آلاف التحية والسلام، وما أيَّدهما من صحيح هدي أئمّة العترة الطاهرة وسيرتهم؛ وشمَّر هؤلاء عن ساعد الجِدّ، وأطلقوا العِنان لأقلامهم وخطبهم ومحاضراتهم لإزالة صدأ الشرك عن معدن التوحيد الخالص؛ ولسان حالهم يقول: «انهض أيها المسلم وامحُ هذه الخرافات والخزعبلات عن وجه الدين، واقضِ على هذا الشرك الذي يتظاهر باسم التقوى، وأعلن التوحيد وحطِّم الأصنام».
لقد اعتبر «حيدر علي قلمداران القمِّي» - وهو أحد أفراد تلك المجموعة من الموحِّدين المصلحين - في كتابه «طريق الاتحاد»، أن سبب هذه التفرقة هو جهل المسلمين بكتاب الله وسيرة نبيه، وسعى من خلال كشف الجذور الأخرى لتفرُّق الفرق الإسلامية، إلى التقدّم خطوات مؤثرة نحو التقريب الحقيقي بين المذاهب. ولا ريب أن جهود علماء الإسلام الآخرين مثل آية الله السيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي، والسيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، وآية الله شريعت سنكلجي، ويوسف شعار وكثيرين آخرين من أمثال هؤلاء المجاهدين في سبيل الحق، هي أسوة ونبراس لكل باحث عن الحق ومتطلِّعٍ إلى جوهر الدين، كي يخطوا هم بدورهم أيضًا خطوات مؤثرة في طريق البحث والتحقيق التوحيدي، مُتَّبِعين في ذلك أسلوب التحقيق الديني وتمحيص الادِّعاءات الدينية على ضوء التعاليم الأصيلة للقرآن والسنة، ليعينوا ويرشدوا من ضلوا الطريق وتقاذفتهم أمواج الشرك والخرافات والأباطيل، ليصلوا بهم إلى بر أمان التوحيد والدين الحق.
إن المساعي الحثيثة التي لم تعرف الكلل لِرُوَّاد التوحيد هؤلاء لَهِيَ رسالةٌ تقع مسؤوليتها على عاتق الآخرين أيضًا، الذين يشاهدون المشاكل الدينية لمجتمعنا، ويرون ابتعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام الحيَّة، لاسيما في إيران.
هذا ولا يفوتنا أن نُذَكِّر هنا بأن هؤلاء المصلحين الذين نقوم بنشر كتبهم اليوم قد مرُّوا خلال تحوُّلهم عن مذهبهم الإمامي القديم بمراحل متعددة، واكتشفوا بطلان العقائد الشيعية الإمامية الخاصة - كالإمامة بمفهومها الشيعي والعصمة والرجعة والغيبة و... وكالموقف مما شجر بين الصحابة وغير ذلك - بشكل متدرِّج وعلى مراحل، لذا فلا عجب أن نجد في بعض كتبهم التي ألفوها في بداية تحولهم بعض الآثار والرسوبات من تلك العقائد القديمة لكن كتبهم التالية تخلَّصت منها بل نقدت بشدة كل تلك العقائد المغالية واقتربت من الغاية المنشودة بل إنها عانقتْ العقيدة الإسلامية الصافية والتوحيدية الخالصة.
***
تُمثِّلُ الكتبُ التي بين أيديكم اليوم سعيًا لنشر معارف الدين وتقديرًا لمجاهدات رجال الله التي لم تعرف الكَلَل. إن الهدف من نشر هذه المجموعة من الكتب هو:
1- إمكانية تنظيم ونشر آثار الموحِّدين إلكترونيًا على صفحات الإنترنت، وضمن أقراص مضغوطة، وفي كتب مطبوعة، لتهيئة الأرضية اللازمة لتعرُّف المجتمع على أفكارهم التوحيدية وآرائهم الإصلاحية، ولتأمين نقل قِيَم الدين الأصيلة إلى الأجيال اللاحقة.
2- التعريف بآثار هؤلاء العلماء الموحِّدين وأفكارهم التي تشكِّل مشعلاً يهدي الأبحاث التوحيدية و ينير الدرب لطلاب الحقيقة ويقدِّم نموذجًا يُحْتَذَى لمجتمع علماء إيران.
3- حث المجتمع الديني الشيعي على ترك التقليد وإعادة التفكير في معتقداتهم الدينية لأن المجتمع الديني الشيعي عامة وفي إيران خاصة اعتاد التقليد المحض، وتصديق كل ما يقوله رجال الدين دون تفكير، ويتمحور حول المراجع ويحب المداحين. ولذا فإن هذه الكتب تحث إلى إعادة التفكير في عقائدهم الدينية التي أخذوها من رجال الدين وتدعوهم إلى استبدال ثقافة التقليد بثقافة التوحيد، وتريهم كيف أنه نهض من بطن الشيعة الغلاة الخرافيين، رجال أدركوا نور التوحيد اعتمادًا على كتاب الله وسنة رسوله.
4- إن نشر آثار هؤلاء الموحِّدين الأطهار وأفكارهم، ينقذ ثمرات أبحاثهم الخالصة من مقصِّ الرقيب ومن تغييب قادة الدين والثقافة في إيران لهذه الآثار القَيِّمة والتعتيم عليها، كما أن ترجمة هذه الآثار القَيِّمة لسائر اللغات يُعَرِّف الأمّة الإسلامية بآراء الموحدين المسلمين في إيران وبأفكارهم النيِّرة.
***
لا شك أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ تمامًا من الخرافات والبدع وإلى المدينة الفاضلة التي تتحقق فيها الطمأنينة في ظلِّ رضا الله سبحانه وتعالى، إلا باتِّباع التعاليم النقيَّة الأصيلة للقرآن الكريم وسنة نبي الرحمة والرأفة ص. إن هدف القائمين على نشر مجموعة آثار الموحِّدين هو التعريف بآثار هؤلاء المجاهدين العلميين الكبار، كي تكون معرفة الفضائل الدينية والعلمية لهؤلاء الأعزاء، أرضية مناسبةً لنموّ المجتمع التوحيدي والقرآني في إيران وقوّته، وذلك لنيل رضا الخالق وسعادة المخلوق.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لعلوّ درجات أولئك الأعزاء، وأن يمنّ علينا بالعفو.
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة العبودية له، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وآخر رسل الله محمد المصطفى وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.
وبعد، فقد كان المسلمون طول القرون المنصرمة سبَّاقين في تحصيل العلم والمعرفة وتعلُّم العلوم المختلفة، وذلك ببركة تعاليم الإسلام العزيز واتِّباعًا منهم لكلام رسولاللهص، حتى صار العلماء المسلمون في أواخر فترة الخلافة العباسية سادة العلوم في عصرهم، وتحول بيت الحكمة الذي تأسس في بغداد في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني في عهد خلافة هارون الرشيد العباسي، إلى أكبر مؤسسة علمية وبحثية في العالم، ولا يزال بيت الحكمة يُعتَبر مظهرًا من مظاهر الحضارة الإسلامية، وذلك بفضل نشاطاته الثقافية والعلمية في المجالات المختلفة من تأليف وترجمة واستنساخ وأبحاث متنوعة في المجالات العملية المختلفة سواء الطب والهندسة أم العلوم الإنسانية.
ولا شك أن هذه القوة العلمية للمسلمين كانت بمثابة شوكة في أعين أعداء الإسلام، لذلك سعوا من خلال بثِّ أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين إلى تحطيم عَظَمَة الإسلام هذه وسؤدده الذي يعود الفضل فيه إلى وحدة المسلمين وتماسكهم والأخوة السائدة بينهم، فأثار أعداء الإسلام عواصف النزاعات والتفرقة بين المسلمين كي يحجبوا جمال الحق عن أبصارهم، ويخفوا شمس الدين المشعة خلف غيوم البدع والخرافات.
إن المساعي المخطط لها وعلى المدى الطويل لأعداء الإسلام، بغية إغلاق أعين المسلمين عن حقيقة الدين وإضعاف المسلمين عن تعلُّم معارف الدين ونشرها، وإبعادهم عن سنة النبي الأصيلة الهادية، أدت إلى حدوث فجوة عميقة واختلاف كبير في أمة الإسلام وأصبح أبناء الإسلام اليوم يعانون بشدَّة من تبعات هذه الفجوة وآثارها المشؤومة.
وبموازاة مساعي أعداء نبي الإسلام ص الرامية إلى تحريف تعاليم الإسلام وتشويهها وإدخال البدع المختلفة في الدين، أدرك أشخاصٌ مؤمنون أطهار شفيقون هذا الخطر، ونهضوا مشمِّرين عن ساعد الجِد والجهاد المتواصل لإحياء معالم الإسلام والسنة النبوية الأصيلة، وتناولوا بأيديهم -بشجاعة منقطعة النظير- أقلامهم وأخذوا يكتبون ويؤلفون في نشر ثقافة الإسلام الأصيلة والعقائد الإسلامية الصحيحة النقية بين أوساط الشيعة عُبَّاد الخرافات، وصدحوا بينهم بنداء التوحيد بصوت عال أيقظ المتاجرين بالدين والبدع من نوم غفلتهم مذعورين! لقد ضحى هؤلاء الموحدون الطالبون للحق والحقيقة بمصالحهم الشخصية فداء للحقيقة، وقدموا أرواحهم في هذا السبيل هديةً رخيصةً للحق تعالى، وصاروا عن حق مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٦٢﴾[يونس:62].
إن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى غيضٍ من فيض المعارف الإلـهية، ومُنْتَخَبٍ من آثار الموحدين الطالبين لله تعالى الذين كانوا ينتمون في بداية أمرهم لطائفة الشيعة. لقد أشرق نور الله في صدورهم، وصار التوحيد نبراس حياتهم المباركة. لقد تحرك هؤلاء الأفراد الذين كانوا جميعًا في بداية أمرهم من الطراز الأول من علماء الشيعة في إيران، في مسيرتهم التحولية من مذهبهم القديم، خطوةً خطوةً؛ بمعنى أن نظرتهم إلى المسائل العقائدية لم تتحول تحولا فجائيًا مرةً واحدةً، بل وقع هذا التحول بمرور الزمان وعلى إثر المطالعة والدراسة المتأنية والتواصل مع من يوافقهم في أفكارهم، لذا من الطبيعي أن لا تنطبق بعض رؤى وأفكار هؤلاء الإصلاحيين في بعض مراحل حياتهم وكتاباتهم، مع عقائد أهل السنة والجماعة واتجاهاتهم الفكرية انطباقًا كاملاً؛ لكن رغم ذلك قمنا بنشر هذه المؤلفات كما هي نظرًا لأهميتها في هداية شيعة إيران وغيرهم من الناطقين باللغة الفارسية. كما أنه من الجدير بالذكر أن الرؤى والمواقف الفكرية المطروحة في هذه الكتب، لا تنطبق بالضرورة مع رؤى الناشر والقائمين على نشر هذه المجموعة من الكتب، هذا على الرغم من أن هذه الكتب تمثل بلا ريب نفحةً من نفحات الحق و نورًا من جانب الله لهداية طالبي الحقيقة البعيدين عن العصبيات والظنون التاريخية الطائفية.
إن النقطة الجديرة بالتأمّل هي أنه للوقوف بشكل صحيح على رؤى وأفكار هؤلاء الأفراد، لا يمكن الاكتفاء بقراءة مجلد واحد من آثارهم؛ بل لا بد من قراءة حياتهم قراءة كاملة، كي يتم التعرُّف بشكل كامل على تحولهم الفكري، ودوافعه وعوامله. فعلى سبيل المثال، ألف آية الله السيد أبو الفضل البرقعي في الفترة الأولى من بداية تحوله الفكري كتابًا بعنوان «درسى از ولايت» أي «درسٌ حول الولاية»، بحث فيه موضوع الأئمة وادعاء الشيعة حول ولايتهم وإمامتهم ورئاستهم المباشرة للمسلمين بعد نبي الله ص. واعتبر أن عدد الأئمة 12 إمامًا، مصحِّحًا بذلك الاعتقاد بوجود محمد بن الحسن العسكري بوصفه الإمام الثاني عشر، وأنه لا يزال على قيد الحياة. لكن المؤلِّف نفسه ألف بعد عدة سنوات كتابًا باسم «دراسة علمية لأحاديث المهدي»، يذكر فيه أن جميع الأخبار والروايات التاريخية المتعلِّقة بولادة ووجود المهدي إمام الزمان، روايات وأخبار موضوعة وكاذبة. من هذا المثال ومن أمثلة مشابهة أخرى يتبيَّن أن أفضل طريق لمعرفة المسيرة التحولية لأفكار هؤلاء الموحدين وآثارهم هي قراءة مجموعة كتاباتهم قراءة كاملة، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم كل مؤلَّف من مؤلَّفاتهم أو تأخّره زمنيًا.
نأمل أن تكون آثار هؤلاء المؤلّفين الكبار ومساعي القائمين على نشرها، سببًا للعودة إلى مسيرة الأمن الإلـهية وعبادة الحق سبحانه وتعالى الخالصة.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لغفران ذنوبنا وأن يسامحنا إذا وقعنا في خطأ أو زلل، وأن يرحم أرواح أولئك المؤلفين الأعزَّاء ويجعلهم في جوار رحمته، إنه رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لِـلَّهِ وكفى، وسلامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى، لا سيما خاتم أنبيائه وأشرف رسله محمدٍ الهادي المجتبى وآله أعلام التُّقى ومصابيح الهُدَى، وصَحْبِهِ النجباء أهل الوفاء الذين هاجروا وجاهدوا ونصروا وأعلوا راية التوحيد والتُّقى، وعلى مَنْ بِنَهْجِهِم اهْتَدَى ولآثارهم اقْتَفَى، وبعد،
فلقد شهد القرن الميلادي العشرين منذ بداياته (أوائل القرن الهجري الرابع عشر) ظهور عدد من المصلحين المجدِّدين الجريئين بين علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في كثير من العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، التي أوجدتها النزاعات المذهبية والصراعات الطائفية عبر القرون، وإلى العودة إلى الإسلام الأصيل النقي من البدع الطارئة والخالي من العقائد المذهبية الغالية والأعمال الشركية، كما نادوا برفض الأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة التي تخالف روح القرآن الكريم، وأن الإسلام يقتصر على القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة فقط.
وكان من أعلام هذا الخط التجديدي الإصلاحي التصحيحي ومن أبرز المنادين بالعودة إلى القرآن الكريم والسلف الصالح وترك كل ما يتنافى مع القرآن الكريم من بدع وممارسات مذهبية، آية الله الشيخ شريعت سنكلجي، الذي اعتبره بعض الأساتذة المعاصرين من الشيعة: «مؤسّس المدرسة السلفية القرآنية الشيعية الحديثة»[1]. وقد تأثّر به وواصل دعوته وخطَّه الإصلاحي التصحيحي من بعده عشرات العلماء والأساتذة الفضلاء في إيران، الذين كسروا طوق المذهبية والأطر الشيعية وعادوا بدرجات متفاوتة إلى الإسلام القرآني المحمدي السلفي الأصيل، نذكر منهم -على سبيل المثال لا الحصر-: تلميذَي المرحوم سنكلجي: الشيخ عبدالوهاب فريد تنكابني مؤلف كتاب «الإسلام والرجعة»، والأستاذ الفاضل الحاج يوسف شُعَار التبريزي صاحب كتاب «تفسير الآيات المشكلة» (وسار على نهجه من بعده ابنه الدكتور جعفر شعار)، ومن قبلهما أستاذ سنكلجي: السيد أسد الله خرقاني صاحب كتاب «محو الموهوم وصحو المعلوم» والكثير من الكتب الإصلاحية التجديدية الأخرى، ثم من بعدهم: أحمد كسروي صاحب كتاب «شيعيگري» (الشيعة والتشيع)، الأستاذ علي أكبر حَكَمي زاده صاحب كُتَيِّب «اسرار هزار ساله» (أسرار ألف عام)، والسيد علي أكبر برقعي وآية الله الشيخ المجاهد محمد مهدي الخالصي... وصولاً إلى آية الله السيد أبو الفضل بن الرضا البرقعي والأستاذ حيدر علي قلمداران القُمِّيّ والشيخ إسماعيل آل إسحاق الخوئيني وآية الله السيد محمد جواد الموسوي الغروي الأصفهاني وآية الله الدكتور محمد صادقي الطهراني والأستاذ العلامة السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي ومؤخّرًا الأستاذ أحمد الكاتب وحجة الإسلام محسن كديور... الخ، وكلهم أدلوا بدلوهم في هذا المجال وكتبوا عددًا من الرسائل أو الكتب والمؤلفات التي يطول ذكر عناوينها.
وقد أطلق بعض الباحثين والمؤرخين الإيرانيين على هذا التيَّار الإصلاحي بين الشيعة لقب: «نوگرائي ديني» أي تيار التجديد الديني، في حين سماه آخرون - كالمؤرخ المعاصر رسول جعفريان - بـ«التيارات المطالبة بإعادة النظر في عقائد الشيعة»[2]. وهناك من أطلق على رجال هذا التيار وأتباعه لقب: «القرآنيون الشيعة»، لأن أصحابه اهتموا كثيرًا بترسيخ المرجعية القرآنية، بعد أن أحسُّوا بتغييب القرآن وتعاليمه في الثقافة الشيعية لصالح الروايات والأخبار، فأكد أعلام هذا التيار جميعهم على أن النص القرآني بيِّنٌ بذاته ولا حاجة للحديث لفهمه، نعم قد يحتاج للحديث لتفصيل أحكامه لا أكثر، فالقرآن واضح مفهوم يمكن لجميع الناس أن يفهموا معانيه ويدركوا تعاليمه، كما سعوا ـ من الجهة الأخرى ـ إلى إعادة النظر في التراث الروائي الشيعي ونقده والتشكيك بمكانة معظم الأخبار والأحاديث الشيعية، وإثبات بطلانها ومخالفتها للقرآن الكريم.
أما المتعصبون من علماء الشيعة التقليديين الذين لم يعجبهم هذا التيار الإصلاحي فنعتوه بالتيار الوهابي بين الشيعة (!) وأطلقوا على أتباعه لقب الوهابيين (!) مع أنه لا توجد أي علاقة تاريخية بين أنصار هذا التيار ورجاله وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في نجد وما حولها.
والكتاب الحالي ترجمة لحياة وسيرة أحد أبرز رجال هذا التيار الإصلاحي بين الشيعة ومن كان له فيه فضل الريادة والقدحُ المعلَّى، ألا وهو آية الله الشيخ شريعت سنكلجي. وقد استقينا سيرته من عدد من المصادر الموثوقة؛ أهمها كتبه التي هي مرآة أفكاره ورسالته ودعوته، ثم عدد من المقالات التي كتبها عنه بعض أصحابه المقربين وتلاميذه المحبين ونشروها في عدد من المجلات الإيرانية قديمًا وحديثًا. كما رجعنا إلى بعض الكتب التي كتبها أعداؤه ومخالفوه من الشيعة التقليديين المتعصبين لأنها أيضًا تساعد - بشكل غير مباشر- على معرفة أفكاره وحقيقة دعوته.
نسأل الله العلي القدير أن نكون قد وفَّينا هذا المصلح الكبير شيئًا من حقه، والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
كتبه العبد الفقير الراجي رحمة ربه القدير
د. سعد رستم
[1] انظر: حيدر حب الله، نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي، التَكَوُّن والصيرورة، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2006م، ص 612 فما بعد. [2] انظر: رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، طهران، دار نشر عَلَم، الطبعة الثالثة عشرة، 1389هـ.ش/2010م، الفصل الثامن، ص 1011 فما بعد.
كانت إيران في بداية القرن الرابع عشر الهجري (نهاية القرن التاسع عشر الميلادي) تمرّ في الفترة الأخيرة من حكم سلسلة الملوك القاجاريين، وهي فترة ضعفت فيها الحكومة المركزية، وضعفت سلطة القانون في البلاد، وكان الملوك من آل قاجار منغمسون في ملذاتهم وشهواتهم، وانتشر المتمردون وعصاباتهم في طول البلاد وعرضها لاسيما في الأرياف والنواحي والمناطق البعيدة عن العاصمة، وكثرت أعمال السلب والنهب وقطع الطرق والهرج والمرج.
وفي بداية القرن العشرين الميلادي انطلقت الحركة المطالبة بالملكية الدستورية وتقييد سلطات الملك المطلقة وتحديدها بدستور جديد، وهي الحركة التي عرفت باسم «نهضت مشروطه» أي الثورة الدستورية، والتي نجحت في النهاية وبعد نضالات طويلة في إجبار الملك ناصر الدين شاه قاجار على إصدار مرسوم باعتماد الملكية الدستورية عام 1285هـ.ش (1324هـ.ق/1906م). وتم تدوين دستور جديد وأجريت انتخابات لتشكيل مجلس شورى وطني، لكن الملك محمد علي شاه قاجار الذي اعتلى العرش بعد مقتل أبيه غيلةً على يد أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني، انقلب على الثورة الدستورية وحاول القضاء عليها وعلى سائر مكتسبات الشعب وقصف المجلس النيابي بالمدفعية، لكنه فشل في الرجوع بعقارب الساعة إلى الوراء، إذ قاوم الشعب الذي نال حريته إجراءات «محمد علي شاه» وحارب الثوار قوات الدولة مدة عشرة أشهر، وانتهى الأمر بالشاه في نهاية المطاف إلى لجوئه إلى السفارة الروسية (27 جمادى الآخر 1327هـ.ق). واختار الثوار ابنه «أحمد ميرزا» ذي الثلاثة عشر عامًا وأجلسوه على سرير المُلْك وأوكلوا إلى عضد المُلْك الذي كان رئيس عشيرة القاجاريين منصب الوصاية على العرش والقيام مؤقتًا بمقام المَلِك.
وتوالت الأحداث بعد ذلك إلى أن قام رئيس الوزراء ووزير الدفاع رضا خان سنة 1343هـ.ق/ 1924م بانقلاب عسكري مدعوم من الإنجليز بل مدفوع مِنْ قِبَلِهم، تمَّ على إِثْرِهِ تنحية الملك الشاب أحمد شاه قاجار (حكم في الفترة 1288- 1304هـ.ش/ 1323- 1343هـ.ق)، وبذلك انقرض حكم الملوك من آل قاجار، ليبدأ حكم رضا خان الذي أطلق على نفسه الملك رضا شاه البهلوي، وعاد الاستبداد على أشده من جديد![3]
[3] يُنظر تفصيل هذه الوقائع في كتاب: الدكتور رضـا شـعباني، المنتخب من تاريخ إيران، طهران، معاونيَّة البحوث والتعليم التابعة لرابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، بدون تاريخ، فصل: من الدولة القاجارية إلى الدولة البهلوية.
كان لرجال الدين في تلك الحقبة تدخل كثير في شؤون الناس، وكان كثير من المعممين أو من خطباء المنابر الحسينية من أصناف المتعلمين لا بل من الجهلة المتكسِّبين بالدين الذين يبثون الخرافات بين الناس، وكان الغلو والتعصب المذهبي الشيعي والخرافات الدينية والجهل والبدع وعبادة القبور والاستنجاد بالأموات والاستغاثة بالمقبورين منتشرة بين الناس انتشارًا بالغًا، وزاد الطين بِلَّة أن الملك رضا شاه كان ميَّالاً للغرب والمدنية الغربية اللادينية؛ ولما زار تركيا في بداية حكمه، أعجبه أتاتورك ومنهجه العلماني المعادي للدين ومظاهره، فرجع يريد تطبيق الأفكار ذاتها في بلاده، فأصدر قانون نزع الحجاب من النساء وإجبارهن على التبرج، وإجبار الرجال على لبس القبعة الغربية، وكفَّ يد رجال الدين عن التدخل في كثير من الأمور الاجتماعية وشكل لجنة لامتحان المعممين فمن لم ينجح في الامتحان خُلِع عنه لباس علماء الدين، وفتح البلاد على مصراعيها للأفكار الغربية والإلحادية والداعية للتحرر من قيود الدين وأخلاقه، فانتشر الفساد والتحلل الأخلاقي[4].
[4] المصدر نفسه.
لعل أفضل من يصف لنا الحالة الدينية السيئة التي كان المجتمع الإيراني غارقًا فيها في العهد الذي نشأ فيه الشيخ شريعت وعاش فيه، هو الشيخ شريعت نفسه الذي عايش تلك الأحوال وكان يراقبها عن كثب، ورأى مدى ابتعاد الناس فيها عن تعاليم الإسلام الصحيحة، وكانت تلك الجاهلية الجديدة هي التي دفعته لتكريس حياته للدعوة إلى العودة إلى رحاب الإسلام الأصيل والرجوع إلى القرآن الكريم وإحياء تعاليمه. لقد أشار «شريعت» إلى تلك الأحوال الدينية المتردية في أكثر من موضع من كتابه القيم توحيد عبادت «يكتاپرستي» [توحيد العبادة]، وفيما يأتي بعض ما قاله في ذلك، قال:
«إن مجتمعنا يغصُّ بالمنكرات والبدع وفيه كثير من الزنادقة الذين يحاربون القرآن والإسلام تحت عناوين مختلفة ويقومون بأعمال متنوعة وعديدة تهدم الأخلاق والقيم وتعاليم الدين، فلماذا لا يقوم هؤلاء الذين يحاربوننا بمحاربة أولئك الفجار والتصدي لهم، لماذا لا يحاربون من يذهب إلى المراقص والخمارات ويمارسون أكل الربا والاحتكار وأمثالهم، ولماذا لا يجاهدون لمنع الكتب الضالّة والمقالات الضارّة التي تؤدي إلى زوال الدين من أساسه وإلى القضاء على أعراض المسلمين ونواميسهم، وبدلاً من ذلك نجد أن كلَّ همِّهم هو منع الناس من قراءة كتابي هذا وكتاب «مفتاح فهم القرآن» ومن سماع دروسي ومحاضراتي!»[5]
وقال بعد صفحات مواصلاً وصف حال الناس في عصره:
«إن جميع حوادث العالم خاصةً الحوادث التي نشهدها في هذا العصر -حيث لم يشهد التاريخ مثل هذه الثورات والاضطرابات- امتحانٌ إلهي للناس، فينبغي أن نحذر من تقديم الامتحان بشكل سيء. إننا نجد لسوء الحظ أن معظم أهل الدنيا يقدِّمون الامتحان بشكل سيِّء جدًّا، وكأنَّ شيطان الجهل والرذائل الأخلاقية قد أحكمت سيطرتها على الناس فأصبحوا لا يتورعون عن أي رذيلة وكأنه ليس في قاموسهم شيء اسمه الفضيلة والتقوى! لقد شاع - كما نرى - النفاق والقتل والسرقة وهتك الأعراض والاحتكار وانعدام الرحمة والظلم والشتم والافتراء وأمثالها إلى درجة تُوجب على الإنسان أن يفر إلى الله. ولكن لا يظنَّنَّ الأعداء أن الأمر سيبقى على هذه الحال دائمًا، أو أن بإمكانهم أن يطفئوا نور حقائق القرآن أو يحجبوا كلام الله عن الناس بأكاذيبهم ومفترياتهم، وليعلموا أن الله معنا وأننا سنواصل بحول الله وقوته قول الحقائق وكتابتها ولن تأخذنا في ذلك لومة لائم ولن ترعبنا هجمات الأراذل والسفلة، سائلين العون والتأييد من الله تعالى»[6].
وقال في موضع آخر أيضًا من الكتاب يصف مدى بعد الناس عن الإسلام وضلالاتهم وشدة انتشار البدع بينهم ويصف التفرق والتحزُّب وسيطرة رؤوس الضلال:
«سبحان الله! لقد زالت تعاليم الإسلام وأهداف نبي آخر الزمان ص من بين المسلمين وضاعت ولم يعد بالإمكان وجدانها ولو بواسطة أي مشعل أو مصباح. لقد أحاطت ظلمات الجهل والوثنية بعالم الإسلام وتراكم غبار البدع فوق القرآن فلم يعد من الممكن غسله بأي ماء ولا بيان أهداف ومرامي القرآن المقدسة بأي لسانٍ واستفاد مدعو الباطل والضالون المضلون من جهل الناس بالقرآن والدين وضياع مقاصد سيد المرسلينص، فانقضوا على جماعات من المسلمين الجاهلين وقدموا أنفسهم بوصفهم هداةً ومرشدين لهم فأوقعوا النفاق والبغضاء بين المسلمين وقادوا أولئك الناس الجاهلين المساكين إلى أودية الظلمات وبيادي الضلالات المخيفة وأوصلوهم في النهاية إلى مصير هلاك الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٤٦﴾ [الزمر/46].
لمثل هذا فليبكِ المسلم دمًا! لقد حُرِّف الإسلام وحلَّت الخرافات والأباطيل محل حقائق الدِّين إلى درجة أنه إذا قام شخص بتعريف الناس بالدين الحقيقي، سارع الذين لم يقرؤوا سطرًا من علوم الدين ولا علم لهم بالقرآن ولا بسنة النبي ص ولا بآثار أئمة الدين، والذين تفصلهم عن علوم الإسلام الحقة اليقينية وعن تعاليم خاتم النبيين وعلومه اليقينية مسافات بعيدة، وهم مقيدون بسلاسل الكفر وأغلال الخرافات، بل هم خارجون حقيقةً عن الدين وكافرون بشريعة سيد المرسلين ص، سارعوا إلى تكفير هذا الذي عَرَفَ حقيقة الدين، وحسب أولئك العوام الجهلة أنهم من دعاة الدين وحَمَلَة شريعة سيد المرسلين ص!! (ويلٌ لنا إذا كان لهذا اليوم غدٌ).
كيف يمكن لأناسٍ نسوا التعاليم السماوية واتخذوا القرآن ظهريًا وافتروا بحقه آلاف الافتراءات فقالوا هو محرفٌ أو قالوا هو غير قابل للفهم وله سبعون معنى. أقول: كيف يمكن لأمثال هؤلاء أن يهتدوا إلى الحق؟
يا رب! لماذا يقومون بتخريب دينك؟! يا رب! لماذا يتلاعبون بتعاليمك؟! أيها المسلمون! افتحوا أعينكم ولا تنخدعوا بمثل تلك الكلمات، ولا يبعدنَّكم شيءٌ عن القرآن واستعيذوا بالله المتعال من شرِّ هؤلاء الشياطين!
إنها مقالات زنادقة الإسلام، تلك التي يتفوه بها من يقول إن القرآن أصابه التحريف وهو غير قابل للفهم. هؤلاء يريدون أن يسلبوا منكم مصدر الإسلام الأساسي ليحلوا محله بدعهم وخرافاتهم.
ماذا حل بتاج فخار التوحيد الذي وضعه نبي آخر الزمان ص على رأس أمته؟ لقد تعرض ذلك التاج اليوم إلى لكمات وركلات المال والأوهام والخرافات والوثنيات التي ازدهرت باسم دين الإسلام!
لقد أصبح الإسلام اليوم أشد غُربةً من يوم ظهوره، وهكذا أصبح المسلم الحقيقي اليوم غريبًا وحيدًا بين الناس، وكيف لا يكونون غرباء وقد اتبع الناس في عقائدهم وعاداتهم عشرات الفرق والمذاهب وَالمسالك والطرق؟ بل أكثر من ذلك، أصبح كل جماعة تابعين لشخصٍ أحدث مذهبًا ونشر بدعةً أضيفت إلى البدع الأخرى. وقام أدعياء الباطل بإلباس جسد الإسلام المقدس ألبسةً مختلفةً، وأصبحنا نسمع من كل حدبٍ لحنًا ومن كل صوبٍ نغمةً مرتفعةً فواحدٌ يدعي الألوهية وآخر يدعي النبوة وثالث مسكين يدعي الولاية والإمامة ولكل منهم مريدون وأتباع يضيِّعون عمر العامة من الناس في تقبيل الأيادي والأرجل والسجود لغير الله.
ولا يزدهر سوق هؤلاء إلا إذا خالفوا اللهَ ورسولَه لأن القرآن يخالف مقاصدهم وهواهم فالقرآن ليس له هدف سوى دعوة الناس إلى طاعة الله وإلى إصلاح أنفسهم وإلى التقوى والفضيلة، لذا كان عليهم – كي يتمكنوا من ترويج طريقتهم وتسويق بضاعتهم - أن يسقطوا القرآن من الحُجِّيَّة كي يفتح لهم الطريق أمام نشر بدعهم وضلالاتهم وأوهامهم وخرافاتهم وبيعها للناس، هؤلاء هم الذين سيشتكي منهم الرسول الأكرمص غدًا يوم القيامة في محضر العدل الإلهي: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا ٣٠﴾ [الفرقان/30]»[7].
وحول وقوع عامة المتدينين بورطات الشرك بالله والانحراف عن التوحيد الخالص، قال «شريعت» يصف حال كثير من الناس في زمانه بنبرة متألمة مشفقة على ضياع التوحيد أساس دعوات الأنبياء:
«سبحان الله! ماذا حلَّ بعناء وجهود النبي ص وأئمة الدين (ع)؟ أين ذهبت تعاليم سيد المرسلين؟! لقد أريقت دماء كثيرة حتى استقر التوحيد الحقيقي! فلماذا لا يهتم المسلمون بالحفاظ على هذا التوحيد؟! لماذا لا يقرؤون كتاب الله وسيرة رسوله ص؟! إن الشرك الذي نهى عنه القرآن والسنة أصبح منتشرًا بشكل أكثر بروزًا اليوم بين كثير من المسلمين: عبادة القبور، عبادة الأحجار، عبادة الأشجار، عبادة المرشدين، التبرك بحجر موضع القدم والسبيل والآلاف من أمثال هذه الأمور... يا أيها النبي يا رحمةً للعالمين! يا أهل لا إلـه إلا الله! أيها البدريون! أيها الأحديون! يا شهداء التوحيد! يا أئمة الدين ويا حملة القرآن! انهضوا من قبوركم وانظروا حال المسلمين! انظروا مدى الانحطاط الذي وقع فيه عالم الإسلام اليوم وأين وصل أمر التوحيد فيه! لقد أثَّر الجهل وانحطاط الأخلاق ونشأة البدع وانتشار الخرافات فيه تأثيرًا أصبح من الصعب أن تتعرّفوا عليه إذا رأيتموه! ﴿رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ ٨٩﴾ [الأعراف:89]»[8].
[5] شريعت سنكلجي، توحيد عبادت «يكتاپرستى»، الطبعة الثالثة بهمة محمد باقر سنكلجي، مقدمة المؤلف شريعت سنكلجي على الطبعة الثانية للكتاب بتاريخ 1362هـ.ق/ 1943م، الصفحة «ج». [6] المصدر نفسه، مقدمة الطبعة الثانية، الصفحة «هـ». [7] شريعت سنكلجي، توحيد عبادت «يكتاپرستى» [توحيد العبادة]، مقدمة المؤلف على الطبعة الأولى بتاريخ شوال المكرم 1361 هـ.ق/1942م، صص 4 - 5. [8] شريعت سنكلجي، توحيد عبادت «يكتاپرستى»، ص 24.
وُلِدَ شريعت سنكلجي/ سنة 1271هـ.ش (1310هـ.ق/1892م)، وقيل: سنة 1269هـ.ش (1308هـ.ق/1890م)، في مدينة طهران، في بيت علم وتقوى، فوالده كان آية الله الحاج الشيخ حسن سنكلجي وجدّه الحاج الشيخ «رضا قلي»، كلاهما من العلماء الكبار والفقهاء الأعلام والشيوخ الزهَّاد المعروفين بالفضل والاستقامة والشجاعة[9]. كان جده الشيخ «رضا قلي» من تلاميذ آية الله الشيخ محمد حسن الجواهري صاحب جواهر الإسلام[10]. وكان والده من العلماء المتنورين ومن أصحاب الشيخ هادي نجم آبادي، كما أنه ابن عم الشيخ الشهير فضل الله النوري (ت 1327هـ.ق) صاحب المواقف الشهيرة في محاربة الاتجاه العلماني التابع للغرب الذي آلت إليه الثورة الدستورية في إيران في مطلع القرن العشرين الميلادي.
كان شريعت الابن البكر (من الذكور) لوالده الشيخ حسن سنكلجي، وقد سمَّاه أبوه بـ «آغا رضا قُلي» على اسم أبيه، لكنْ عندما سافر شريعت في عنفوان شبابه برفقة أبيه إلى النجف، وأعطى الابنُ كتابًا من مؤلفاته إلى مرجع الشيعة الكبير في حينه السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (صاحب العروة الوثقى) (ت 1337هـ.ق)، أطلق الأخير عليه لقب شريعت فنُودِي بذلك الاسم منذ ذلك الحين[11].
أنجب الشيخ حسن سنكلجي، بعد «شريعت»، ابنَين آخرَين هما: محمد مهدي سنكلجي ومحمد سنكلجي. واهتم الشيخ حسن بتربية أبنائه الثلاثة وتعليمهم اهتمامًا بالغًا على نحو مكَّنهم من إنهاء مرحلة المقدمات من الدروس الشرعية في مرحلة مبكرة من العمر ليبدؤوا دراساتهم الدينية العليا منذ سن الشباب[12].
تلقَّى «شريعت» علم الشريعة والفقه في البداية على أبيه الشيخ حسن، ثم واصل دراسته للعلوم الشرعية الدينية على يد أكابر العلماء في عصره في مدينة طهران، فتعلَّم المراحل النهائية للفقه على الشيخ عبد النبي المجتهد النوري (1344هـ ق)، ودرس الفلسفة على الشيخ الميرزا حسن الكرمانشاهي (1334هـ ق)، وتعلم الكلام في محضر الشيخ علي المتكلّم النوري وأخذ العرفان من دروس الشيخ الميرزا هاشم الإشكوري (1332هـ ق)[13].
منذ عام 1334هـ.ق (1915م) (قبل سنتين من سفره إلى النجف) ورغم أن عمره لم يكن قد تجاوز الـ 24 عامًا بعد، بدأ شريعت سنكلجي بعمله التبليغي والدعوي فكان يلقي الدروس الدينية في البداية في فناء منزل أبيه في حي سنگلج[14] الواقع في جنوب طهران الحالية، حيث كان يضع للحاضرين كراسي ليجلسوا عليها في فناء المنزل الواسع ويضع لنفسه كرسيًّا فوقه عارضة من الخشب ويجلس عليها ويلقي عليهم دروسه. وكان معظم من يحضر عنده في تلك المرحلة من ضباط الجيش وموظفي الدولة [15].
هنا لا بد من كلمة سريعة عن أهمية حي سنگلج ومكانته التاريخية في طهران.
[9] انظر: حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، طهران، شركت چاپخانه تابان، 1323 هـ.ش/1944م، ص 4. [10] انظر: سيد مقداد نبوي رضوي، نگاهى تحليلي به تكاپوهاى شريعت سنگلجى [نظرة تحليلية إلى جهود شريعت سنكلجى الفكرية]، فصلنامه امامت پژوهى، [مجلة «مباحث الإمامة» الفصلية] السنة الأولى، العدد 4، ص 250. [11] انظر: رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، طهران، دار نشر عَلَم، الطبعة الثالثة عشرة، 1389هـ.ش/2010م، ص 1016 (النص والحاشية)، ناقلًا ذلك عن مجلة «آينده» (السنة 12، العدد 3، ص73). [12] حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، ص 4. [13] المصدر نفسه، ص 4 - 5. [14] مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 194. [15] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، سازمان چاپ وانتشارات فتحي، الطبعة الأولى، خريف عام 1363 هـ.ش (1404هـ.ق/ 1984 م)، ص 159.
يعتبر حي سنگلج من الأحياء الجنوبية العريقة والمهمة المكتظة بالسكان في مدينة طهران. كان ذلك الحي يمتد غربًا من شارع «ارگ سلطنتي» إلى شارع شاهپور (الذي يُسَمَّى حاليًّا شارع الوحدة الإسلامية)، ويمتد شرقًا حتى شارع جليل آباد (الذي يُسَمَّى حاليًّا شارع خيام). وتقع في ذلك الحي بوابة قزوين، وسوق قوام الدولة، و بوابة محمدية. وكان فيه ممرَّان (معبران) كبيران هما ممر تقي خان، و ممر شريف الدولة. كما كان في ذلك الحي عدد من الحمامات الكبيرة ذات خزانات ضخمة للمياه وأحواض واسعة. ومن الرجال والشخصيات الشهيرة التي كانت تسكن في ذلك الحي، هو آية الله محمد الطباطبائي، وآية الله عبد الله البهبهاني، والشيخ فضل الله النوري، والميرزا السيد أبو القاسم سلطان الحكماء النائيني، والآغا حسين نجم آبادي. ومن أسباب شهرة هذا الحي، اللقاء الذي كان يتم فيه في أيام النيروز بين ملك إيران ناصر الدين شاه القاجاري وآية الله الطباطبائي. كانت العادة أن يذهب علماء الدين الكبار للقاء الشاه ناصر الدين في أيام النيروز ثم يرد الشاه لهم الزيارة، فيأتي إلى حي سنگلج ويترجل فيه ليمشي في أزقته الضيقة على قدميه حتى يصل إلى منزل آية الله الطباطبائي[16].
[16] المعلومات حول حي سنگلج مستفادة من عدد من المواقع على شبكة الإنترنت لاسيما موسوعة ويكيبيديا.
عندما بلغ الشيخ شريعت سنكلجي السادسة والعشرين من عمره، رحل برفقة أخيه الشيخ محمد سنكلجي سنة 1297 هـ.ش (1336 هـ.ق/1917 م) إلى النجف لاستكمال المراحل العليا من دراسته الدينية. وفي النجف نال شريعت تحسين وإعجاب الأساتذة والمدرسين الكبار فيها لما لمسوه فيه من علم وفضل وإحاطة، ودرس في النجف على أكابر علمائها فحضر دروس المرجع الكبير السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت 1365 هـ ق) ودروس الآغا ضياء الدين العراقي (ت 1361 هـ ق)[17]. وبعد أن أمضى شريعت في النجف أربع سنوات ونيِّف، قرَّر العودة إلى الديار لاستئناف نشاطه التبليغي ومهمته الدعوية التي نذر حياته لها.
[17] مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 182 – 183. ومن الجدير بالذكر أن مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي كان من تلاميذ شريعت سنكلجي ومن الذين يشاطرونه الفكر والعقيدة؛ لذلك فإن المعلومات التي يذكرها في كتابه عن شريعت سنكلجي تتمتع بأهمية خاصة. وكنموذج لهذه المعلومات المهمة معرفته بدقة للاسم الحقيقي لشريعت الذي ذكرت عدد من المصادر خطأً أنه محمد حسن أو غلام رضى في حين أنه ذكر أن اسمه الأصلي كان ميرزا رضا قلي وأن مرجع الشيعة الكبير السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي هو الذي أطلق عليه لقب شريعت عندما لقيه في سن الشباب ولمس فيه العلم والمعرفة (انظر: محمد حسن شريف الدين مشكور، "نام ونسب شريعت سنكلجي"، مجلة آينده، العدد 12، (فروردين – خرداد 1363 هـ.ش، ص73).
«بعد عودته من النجف إلى طهران حوالي سنة 1300 هـ.ش (1340 هـ.ق/1921 م)، انكب «شريعت» على مطالعة الكتب ودراسة مؤلفات الفلاسفة والحكماء والطبيعيين وأهل المنطق والكلام وكتب المفكرين الغربيين، وكان على اتصال بعلماء الدول الإسلامية والعالمية الكبار واتسعت معارفه الإسلامية اتساعًا كبيرًا ووصل إلى مرحلة من العلم الجامع والشامل الذي يندر نظيره في ذلك الزمن، إلى درجة أنه أصبح صاحب رأي في علوم ما رواء الطبيعة بالإضافة إلى علم الفقه والشرائع، فأصبح فريد عصره ونادرة زمانه. ومحاضراته ومناظراته وحواراته مع بعض علماء الشرق والغرب الكبار ومع ممثلي النصرانية وبعض الرجال والسياح الأوربيين والأمريكان معروفة لدى أهل العلم وموضع تعجب وتقدير واستحسان منه»[18].
كما انصرف «شريعت» بكليَّته -بعد عودته من النجف- إلى الدعوة والتبليغ وإلقاء الدروس. في البداية كان لديه مجلس في أمسيات أيام الخميس في مسجد والده الحاج الشيخ حسن سنكلجي في حي سنكلج، وبعد مدة وجيزة قام بمعونة الأصدقاء وأهل الخير والإحسان ببناء مسجدٍ جديدٍ في مكان المسجد القديم في عبَّارَة تقي خان المعروفة في حي سنكلج وسمّاه دار التبليغ الإسلامي. ونالت دروسه ومجالسه ترحيب الناس وازداد إقبالهم عليها. وبعد هَدْم أجزاء من ذلك الحي، نقل شريعت دروسه إلى مقصورة مَدْرَسة وكيل المُلك الكرماني في مكان آخر من الحي.
ولمَّا اتَّسع الهدم في الحي، وازداد إقبال الناس على دروسه، دفعت همَّة ذلك الأستاذ الكبير ومثابرته وحبه للدعوة والتبليغ إلى أن يقوم بتأسيس بناء خاص ليكون مركزًا لنشاطه الدعوي، فبنى في شارع «فرهنک» - من الشوارع الفرعية ويقع بين شارع شاهپور السابق (حافظ حاليًّا) وشارع أميرية في جنوب طهران - بناءً نموذجيًّا من الناحية المعمارية أَطْلَقَ عليه اسم "دار التبليغ" وعُرِف بين الناس باسم "دار تبليغ شريعت سنكلجي". وأصبحت هذه الدار منذ أوائل سنة 1319 هـ.ش (1359 هـ.ق/1940م) وحتى زمان وفاته سنة 1322هـ.ش (1363هـ.ق/1944م) مكان استقبال محبي دروس الشيخ شريعت والمشتاقين إلى سماع خطبه[19].
كان مبنى دار التبليغ يتألف من طبقتين، الطبقة العلوية تشبه الشرفة الواسعة التي تشرف على الطبقة السفلى. وكان الحاضرون يجلسون على السجاد في الطبقة الأولى؛ أما الذين يجلسون في الطبقة العلوية فكانوا يجلسون على الكراسي ويستمعون إلى خطب ودروس شريعت، فإذا انتهى الشيخ من درسه نزل إلى الطبقة السفلى وجلس على الأرض ليجيب عن أسئلة السائلين[20]. ولايزال هذا البناء باقيًا حتى اليوم في شارع فرهنک في جنوب طهران.
كان «شريعت»، زمن إقامته في حي سنكلج يُلقي دروس تفسير القرآن على بعض أتباعه الخاصين؛ لكنه بعد بنائه لدار التبليغ وانتقاله إليها أصبح يلقي عدة دروس في التفسير لأعداد متزايدة من الناس كما أصبح بعض تلاميذه أيضًا يلقون بعض دروس التفسير في بيوتهم بإذنٍ منه[21].
يقول الأستاذ نور الدين چهاردهي في كتابه «وهابيت و ريشههاى آن» [الوهابية وجذورها]:
«لم يكن مسجد فرهنک واسعًا بمقدار سعة فناء منزل شريعت في سنكلج ولكن في شارع فرهنک بدأ الناس من مختلف الشرائح والطبقات يحضرون دروس شريعت وتعلقت قلوب بعض الشباب بشريعت ودروسه تعلُّقًا شديدًا إلى درجة أن بعضهم أخذ يغلو فيه»[22].
كان شريعت سنكلجي ينقد في دروسه ومجالسه الخرافات والأمور الدخيلة التي أُلصِقَت بالإسلام عبر التاريخ. وكان كثير من الشباب المثقفين الدارسين يحضرون حلقات دروسه ويستمعون إلى خطبه[23]. وقد كتب أحد الذين رثوه بمناسبة الذكرى السنوية لوفاته ما يشير إلى هذا الأمر قائلاً:
«يمكننا اليوم أن نشير إلى ما يزيد على عشرة آلاف شخص عرفوا حقيقة دين الإسلام الحنيف بفضل تربية هذا الرجل العظيم وبفضل دروسه وأخلاقه الصالحة، وتدينوا بالإسلام وتخلقوا بأخلاقه ونالوا السعادة. لقد أطاح المرحوم شريعت سنكلجي بشجاعة منقطعة النظير بجميع الخرافات التي غطّت جوهر الإسلام الناصع عبر القرون دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم، ودون أن يعير أي اهتمام لمعارضة العوام وغوغائهم، وأثبت بالدلائل العلمية والعقلية والقرآنية بطلان كثير من العقائد السيئة والبدع المضرَّة والأساطير والخرافات والأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة. وقد أدى به هذا التصريح ببطلان كثير من الخرافات التي اعتاد الناسُ عليها إلى الاصطدام ببعض من كانت تلك الخرافات تصب في مصلحتهم فحاربوه وعارضوه، لكن ذلك الرجل القوي الشجاع لم يخشَ شيئًا من محاربتهم، وواصل بياناته وأفكاره الإصلاحية التصحيحية بكل صراحة وجسارة... وقد تركت هذه الجهود الإصلاحية أثرها وأصلحت أفكار كثير من الناس. وكلما تعرَّض للأذى كانت روحه تزداد تألُّقًا وفي الوقت ذاته يزداد جسمه النحيف ضعفًا وتزداد صحته تدهورًا، على نحو أصابه بالشيخوخة المبكرة في السنوات العشر الأخيرة من حياته وجهوده، فكان يعاني من المرض في أغلب الأوقات. ورغم كل ذلك لم يترك منبره وكان يصعد المنبر للتدريس والوعظ وهو مصاب بالحمى في أغلب الأوقات، ويواصل جهاده ودعوته»[24].
كان معارضو شريعت سنكلجي يتهمونه بالتأثُّر بعقائد الوهابية[25] وببعض الكُتَّاب العصريين المتجددين في مصر[26]. أما مؤيدوه وأنصاره، فكانوا يرون فيه داعيةً عصريًّا فذًّا أنقذ الشباب المثقفين والمتعلمين في إيران من الوقوع في فخ الأفكار المادية والإلحادية والشيوعية والداروينية[27].
[18] حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، ص 5. [19] انظر: مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 184 – 185؛ رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، حاشية ص 1016. وأشار في ذلك إلى كُتَيِّب يحمل عنوان: «النشرة رقم 1 لدار التبليغ الإسلامي للمصلح الكبير والعلامة الشهير المرحوم آية الله الحاج شريعت سنكلجي، الناشر: محمد باقر سنكلجي وطبع في سنة 1323 هـ.ش». [20] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 161. [21] المصدر نفسه، ص 161 – 162. [22] المصدر نفسه، ص 162 - 163. [23] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، ديباچه بر رهبرى [مقدمة للزعامة]، طهران، مؤسسة مطبوعاتي عطائي، 1348 هـ.ق، [542 صفحة]، ص 137. [24] أبو الحسن بيگدلى، «ضايعه بزرگ اسلامى» [خسارة إسلامية عظيمة]، صحيفة اطلاعات، العدد 17 الصادر في شهر دي من سنة 1322 هـ.ش (1363هـ.ق/1944م)، ص 28. [25] دَرَجَ أهل البدع والأعمال والعقائد الشركية على نبذ كل الذين يدعون إلى الإصلاح وتصحيح العقائد وترك البدع والعودة إلى الإسلام الأصيل والتوحيد الخالص، بالوهابية، الذي يعني بأنهم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (ت 1206)!! مع أن دعاة الإصلاح والتصحيح في إيران وغيرها ربما لا يكون بعضهم قد سمع باسمه، ولا قرؤوا له كتابًا! وإذا كانوا قد دعوا إلى التوحيد الخالص لاسيما توحيد العبادة وإلى نبذ البدع فهذا انطلاقًا من فهمهم للدين وهو من باب التقاء الأفكار وتوافقها وليس من باب التقليد والاتباع له، وربما لا يتفق دعاة التصحيح والإصلاح الديني مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كثير من الأمور العقدية الأخرى أو الفرعية، غير التوحيد ونبذ البدع والأعمال الشركية. هذا بالإضافة إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكن له مذهب خاص به بل كان متبعًا في عقيدته لمذهب السلف، كما كان في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل والحنابلة الجدد كابن تيمية وتلميذه ابن القيم. فنبذ الموحدين والقرآنيين الشيعة بهذه التهمة خطأ من جهتين، فلا هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا هو صاحب مذهب خاصٍّ به!! [26] مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، السنة الأولى، العدد 4، مقال «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، سيد مقداد نبوي رضوي، الصفحات من 249 إلى 271، نقلاً منه عن سيد عبد الحجت البلاغي، تذكره عرفاء [تذكرة العرفاء]، ص 258. [27] مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 181 - 182.
حظي شريعت سنكلجي بالاستفادة من اثنين من رجال وأعلام الإصلاح الديني في إيران قبله: أولهما والده الشيخ حسن سنكلجي، والثاني السيد أسد الله خرقاني، وكان كلاهما من تلاميذ وأصحاب الحاج الشيخ هادي نجم آبادي (أحد أركان دعاة الإصلاح والتصحيح والتجديد الديني في العهد القاجاري)، لذا من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على أفكار أولئك المصلحين الذين سبقوه وتأثر بهم.
يروي أحد تلاميذ شريعت أن والده الشيخ حسن سنكلجي كان من تلاميذ الشيخ هادي نجم آبادي ومن أصحابه[28]، كما كان الشيخ حسن من الأصدقاء المقرَّبين للسيد جمال الدين الأفغاني أيضًا. وكما يقول أخو شريعت: سكن السيد جمال الدين الأفغاني مدَّةً من الزمن في منزل الشيخ حسن سنكلجي، وكان السيد جمال الدين يقرأ القرآن في الليالي فإذا وقف على آية لافتة جذبت انتباهه، أيقظ صاحب المنزل ونبّهه إلى تلك الآية التي وقف عليها! طبقًا لهذه الرواية يمكننا القول إن الشيخ حسن سنكلجي تأثَّر بالأفكار الإصلاحية والتجديدية للسيد جمال الدين الأفغاني [29].
ويعلم الذين لهم اطلاع جيد على التاريخ أن السيد جمال الدين سكن خلال رحلتيه إلى إيران في منزل الحاج محمد حسن أمين الضرب؛ ولكنه خلال مدة الشهور السبعة التي تحصَّن فيها في مدينة ري جنوب طهران - والتي كانت تُمَثِّل ذروة نشاطه المعادي لحكم الملك المستبد ناصر الدين شاه قاجار - كان يعيش في منزل شخص يُدْعى «الشيخ حسن»[30]، وهو في أغلب الاحتمال «الشيخ حسن سنكلجي» لا غير.
[28] مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء]، ص 274. وانظر أيضًا: مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، شيخ هادي نجم آبادي و داستانهايي از زندگي او [الشيخ هادي نجم آبادي وقصص من حياته]، مجله «وحيد»، العدد 19، الصادر بتاريخ ارديبهشت 1352هـ.ش (1393هـ.ق/ 1973م)، ص 59. [29] روى المهندس عزَّت الله سحابي (تُوُفِّي سنة 1390 هـ.ش) هذا الأمر لسيد مقداد نبوي رضوي، قائلاً إن الشيخ محمد سنكلجي (أخو شريعت سنكلجي) أخبره بذلك. (انظر: سيد مقداد نبوي رضوي، مقال «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، في العدد 4 من السنة الأولى من مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، ص 259). [30] ذكر الحاج سياح محلاتي الذي كان من أصحاب السيد جمال الدين الأفغاني المقربين منه أن صاحب المنزل الذي سكن فيه سيد جمال الدين في مدينة ري كان اسمه «الشيخ حسن». (الحاج سياح، خاطرات حاج سياح، ذكريات الحاج سياح، ص 327). وهذا الأمر نقله الباحث سيد مقداد نبوي رضوي في مقاله السابق الذكر في العدد الرابع من السنة الأولى من المجلة الفصلية «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة]، ص 12.
حضر شريعت سنكلجي دروس تفسير القرآن التي كان يلقيها السيد أسد الله خرقاني (ت 1355هـ)، وكان خرقاني من علماء الدين المتنورين المتجدِّدين، والمحيطين بثقافة العصر، ومن دعاة الإصلاح لاسيما إصلاح الفكر السياسي، وكان من نشطاء الحركة الدستورية، وكان من المهتمين بالعودة إلى القرآن وعلومه وتفسيره[31]. ومن أفكار السيد خرقاني الإصلاحية أنه كان يرى أن النظام السياسي الأمثل الذي يجب على المسلمين اتباعه هو ما كان عليه المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين من حكم شوري انتخابي تمثيلي شعبي قريب من الديمقراطية في إطار الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وكان يعتبر عهد الراشدين العصر الذهبي للإسلام، وهذا يدل بوضوح على أنه لم يكن يرى صحة نظرية الإمامة الشيعية لأنها لا تنسجم مع تلك النظرة التي طرحها، فنظرية الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية تطرح نظريةً في الحكم والنظام السياسي أقرب إلى نظام الحكم الثيوقراطي الذي يعطي للحاكم قداسةً ويعتبره ممثلاً لله على الأرض، ولا يربط شرعيته باختيار الشعب الحر أو ممثليه، بل بكونه نائبًا للإمام الغائب، كما أن نظرية الإمامة الاثني عشرية التي تقوم على النص المباشر من الله ورسوله على علي بن أبي طالب وبنيه حكامًا مفترضي الطاعة بعد النبي ص بلا فصل وإلى الأبد تستتبع بالطبع موقفًا سلبيًّا تمامًا من عهد الخلفاء الراشدين وحكم الثلاثة الأوائل منهم.
يقول الباحث سيد مقداد نبوي رضوي في دراسته حول جهود شريعت سنكلجي الفكرية، متحدثًا عن «خرقاني» بوصفه أحد منابع الأفكار الإصلاحية لسنكلجي:
«يمكننا أن نلاحظ نزعات الإصلاح الديني في كتابات ومؤلفات خرقاني. كان خرقاني يلقي دروسًا في تفسير القرآن، كان يطرح خلالها آراءه [الإصلاحية] على جمهور المستمعين، ومن جملة ذلك أنه كان يقول: «كل كلام خارج عن القرآن، مهما كان هذا الكلام وأيًّا كان قائله، يجب يُترك الخوض فيه، وأن تؤخذ جميع العقائد وأصول الدين من القرآن؛ كما فعل أصحاب السعادة، ولا علاج للأمة إلا بذلك»[32]. وكان يعتبر سياسة الخلفاء الأربعة الأوائل حتى سنة أربعين هجرية قائمة على السنة النبوية[33]، ويعتبر أن انحراف الحكم الإسلامي ومشاكل الحكام بدأت منذ عهد معاوية[34]، كما لم يكن يؤمن بالولاية التكوينية[35]، ولم يكن يعتقد بالإمام الحي الغائب![36]»[37].
إضافة إلى ما سبق، فإن خرقاني كان من أصحاب الشيخ هادي نجم آبادي ومن طلابه الفضلاء وخواص أصحابه[38]. كما أنه لما كان السيد جمال الدين الأفغاني مقيمًا في طهران كان خرقاني على صلة وثيقة به[39].
بناءً على ما تقدم، فإن شريعت سنكلجي تأثر عبر واسطة واحدة بكل من الشيخ هادي نجم آبادي والسيد جمال الدين الأفغاني.
[31] انظر: رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1023 - 1030. [32] سيد أسد الله خرقاني، رساله متشابهات در قرآن [رسالة المتشابهات في القرآن]، ص 16. [33] سيد أسد الله خرقاني، روح تمدن وهويت اسلام [روح الحضارة وهوية الإسلام]، ص 25 و 26. [34] سيد أسد الله خرقاني، محو الموهوم و صحو المعلوم، ص 101 و 102. [35] المصدر نفسه، ص 32 - 33. [36] كتب سيد مقداد نبوي رضوي في حاشيته السفلية التي علقها على هذا المطلب: «سمع الأستاذ الدكتور محمد علي موحد هذا الأمر من بعض تلاميذ خرقاني، ونقله لي. كما أنني سمعت هذا الأمر عبر واسطة واحدة عن أحد تلاميذ خرقاني أنه سمعه يقول في بعض مجالسه: «لو كان عندي خمسون فدائيًّا، لأعلنت على رؤوس الأشهاد أنه لا يوجد ثمة إمام زمانٍ (المهدي الشيعي)!» [37] سيد مقداد نبوي رضوي، «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، السنة الأولى، العدد 4، ص 268 - 269. [38] المصدر نفسه، ص 260، نقلاً عن: يحيى دولت آبادي، حياة يحيى، ص 59 - 60. [39] المصدر نفسه، ص 260، وذكر كاتب المقال مصادره لهذه المعلومة في الحاشية على النحو التالي: الميرزا محمد ناظم الإسلام كرماني، تاريخ بيدارى إيرانيان [تاريخ يقظة الإيرانيين]، ص 79 - 80؛ مرتضى مدرسي چهاردهى، سيد جمال الدين وانديشههاى او [السيد جمال الدين وأفكاره]، ص 115 - 116؛ السيد محمد محيط الطباطبائي، سيد جمال الدين أسد آبادي وبيداري مشرق زمين [السيد جمال الدين أسد آبادي ويقظة الشرق]، ص 95.
يُعتبر الشيخ هادي نجم آبادي (أستاذ الشيخ حسن سنكلجي وأسد الله خرقاني) من الرجال الذين تركوا أثرًا واضحًا في تاريخ إيران المعاصر، وهذا الأثر يمكن تلمسه من الروايات التاريخية للذين عرفوه عن كثب. يقول ميرزا محمد خان القزويني - الذي أدرك الشيخ وحضر دروسه[40] : «كان الشيخ هادي نجم آبادي عالمًا مجتهدًا، ولكنه كان في باطن الأمر رجلاً متحرِّر الفكر ومُثقَّفًا عصريًّا متنوّرًا.... كان يُبطل العقائد الوهمية التي يؤمن بها الناس وكان سببًا في يقظة جمع غفير من الناس ووعيهم»[41].
واعتبر مهدي مَلِك زاده -الذي كان أبوه مَلِك المتكلمين من أصحاب الشيخ هادي نجم آبادي-[42] أيضًا أن أكثر المثقفين المتنورين في عهد حكم الملك ناصر الدين شاه القاجاري تَرَبَّوا في مدرسة العالم الديني الكبير الشيخ هادي نجم آبادي[43].
كما يعتقد السيد محمد تقي زاده، أحد نشطاء الثورة الدستورية المعروفين، أن الشيخ نجم آبادي كان من المطالبين بشدَّة، بالحرية شأنه في ذلك شأن جمال الدين، وأنه ترك أثرًا كبيرًا في إيران[44].
الكتاب الوحيد الذي تبقى من الشيخ هادي نجم آبادي هو كتاب «تحرير العقلاء» الذي يمكننا أن نقف فيه على آراء الشيخ وأفكاره. لقد طرح في مواضع عديدة من كتابه هذا أبحاثًا اجتماعيةً وبيَّن فيها أسباب الانحطاط الاعتقادي للأمم السابقة ولمجتمعه[45]. وركز في جزء من الكتاب على تحليل وضع الشيعة فقط وعدد بعض مصاديق ميلهم للشرك[46]. كثير من مصاديق الانحطاط التي ذكرها الشيخ يمكن تلخيصها تحت عبارة «الغُلُوّ». في نظر الشيخ أحد أهم الاعتقادات الباطلة التي أبعدت الشيعة عن أساس الإسلام مغالاتهم وتجاوزهم الحد في تعظيمهم لأولياء الله.
كتب الشيخ هادي نجم آبادي في أحد أقسام كتابه تحرير العقلاء: إن كثيرًا من الشيعة يعتبرون أنهم لن يُعَذَّبوا يوم القيامة وستنالهم شفاعة الأئمة لكونهم من شيعة علي ÷ أو لأنهم يبكون على الإمام الحسين ÷. واعتبر مثل هذا الاعتقاد من «الأوهام» المخالفة للقرآن[47]. ومثل كثير من دعاة الإصلاح الديني كان الشيخ نجم آبادي يرى أن الشيعة يعتقدون أن القرآن ناقض ومحرف وأن القرآن الأصلي والكامل والمرتب حسب ترتيب النزول هو لدى الإمام الغائب فقط. ويرى نجم آبادي أن الشيعة لا يرون أن القرآن كتابٌ مُبَيِّنٌ ومُبِيْنٌ بل اقنعوا أنفسهم بأن ولاية الأئمة تكفيهم للنجاة وأن إقامة مجالس العزاء والبكاء والإبكاء على الإمام الحسين ÷ أعمال عبادية راجحة، ولذلك بدلًا من إنفاق أموالهم على الأعمال المفيدة يقومون بإنفاقها على تلك الأعمال، وهم مسرورو الخاطر بالبكاء والإبكاء معتبرين ذلك دليلاً على أن ولايتهم صحيحة وأنهم مهما عملوا من سيئات فَسَتُغْفَر لهم يوم القيامة بفضل ولائهم للأئمة!
وينفي الشيخ نجم آبادي روايات مثل «حُبُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ»[48] ويكتب قائلاً: «إنه الشرك في أعلى درجاته أن تبذل جهدك وعناءك وتثبت بالأدلة والبراهين والآيات أن هذه هي حقيقة التوحيد»[49]. وفي موضع آخر من الكتاب يعتبر الشيخ نجم آبادي أن الذين يعتقدون بالشفاعة «غافلون عن حقيقة التوحيد» ويأمر أن يكون الإيمان بالله إيمانًا «بغير شفعاء»[50]. ويقول في موضع آخر: «إن الذين يميلون للمعصية يختارون عقيدةً تؤمِّن لهم العفو والخلاص من عذاب الآخرة؛ ومن نماذج هذه الاعتقادات الإيمان بالتطهر من الذنوب بسبب البكاء على الحسين والاعتقاد بأن «حب علي لا تضر معه السيئة»[51].
ما ذُكر كان نماذج وجيزة للإصلاحات الدينية التي كان ينادي بها الشيخ هادي نجم آبادي والتي يمكن أن نجد نظائر لها في سائر أنحاء كتابه تحرير العقلاء. والنقطة الجديرة بالذكر أن هذا الكتاب تم تجميعه من مدونات الشيخ التي كان يمليها على تلاميذه في دروسه[52].[53].
[40] المصدر نفسه، ص 261، نقلاً منه عن: محمد قزويني، بيست مقاله قزويني، صص 8 - 9. [41] المصدر نفسه، ص 262، نقلاً عن: مذكرات الميرزا محمد خان قزويني، في كتاب: ادوارد براون، انقلاب إيران، ص 400. [42] المصدر نفسه، ص 262، نقلاً عن: ابراهيم صفائي، رهبران مشروطه [زعماء الثورة الدستورية]، ص 356. [43] المصدر نفسه، ص 262، نقلاً عن مهدي ملكزاده، تاريخ انقلاب مشروطيت ايران [تاريخ الثورة الدستورية في إيران]، ص 170 - 171. [44] المصدر نفسه، ص 262، نقلاً عن: السيد حسن تقي زاده، زندگى طوفانى [حياة عاصفة]، ص 113. [45] المصدر نفسه، ص 262، نقلاً عن: الشيخ هادي نجم آبادي، تحرير العقلاء، ص 1 - 49. [46] المصدر نفسه، ص 262، نقلاً عن تحرير العقلاء، ص 49 - 53. [47] المصدر نفسه، نقلًا عن تحرير العقلاء، ص 82. [48] ابن شاذان القمي، أبو الفضل شاذان بن جبرئيل (توفي حدود 600هـ.ق)، الفضائل لابن شاذان، قم، منشورات الرضي، ط2، 1404هـ.ق، ص 96؛ علي بن عيسى الإربلي (ت 692هـ.ق)، كشف الغمة في معرفة الأئمة، تحقيق هاشم رسولي المحلاتي، طبع تبريز، نشر بني هاشمي، 1423هـ.ق، ج1، ص 93؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، طبع بيروت، ج 39، ص 248. [49] المصدر نفسه، ص 263، نقلاً عن تحرير العقلاء، ص 133 - 135. [50] المصدر نفسه، نقلاً عن تحرير العقلاء، ص 267 - 268. [51] المصدر نفسه، نقلاً عن المصدر ذاته، ص 294. [52] كتب نور الدين چهاردهى حول هذا الأمر يقول: «طُبِعَت تقريرات الشيخ [هادي نجم آبادي] - الذي كان من الأفاضل الأعلام في إيران - التي كان يلقيها على تلاميذه، في كتاب عنوانه تحرير العقلاء» (نور الدين چهاردهى، سلسلههاى صوفيه در ايران، [سلاسل الصوفية في إيران]، ص17). وقال نور الدين چهاردهى في كتاب آخر له أيضًا: «تم جمع جزء من تقريرات هذا العالم الرباني وطُبعت تحت عنوان تحرير العقلاء». (نور الدين چهاردهى، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص117). [53] سيد مقداد نبوي رضوي، «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، العدد 4 من السنة الأولى، ص 263.
في الشهر الثاني لسنة 1311 هـ.ش (المطابق لِشهر أبريل/نيسان 1932م، ولسنة 1350هـ.ق) قدم إلى إيران الشاعر والفيلسوف الهندي المعروف الدكتور طاغور[54] بناء على دعوة من الحكومة الإيرانية، وتقرر أن تُعْقَد بينه وبين الشيخ شريعت سنكلجي مناظرة أدبية في الجمعية الأدبية في بستان نَيِّر الدولة في طهران، وعُقِد اللقاء الساعة التاسعة صباحًا واستمر حتى العاشرة أي استغرق ساعةً من الزمن، إذْ خرج الدكتور طاغور من الحوار قبل انتهائه.
موضوع الحوار يتعلق بادعاء طاغور بأن الأديان كلها متساوية وأن كل إنسان يكفيه أن يتبع الدين الذي وجد عليه آباءه، أو نشأ عليه في بيئته، حتى ينال السعادة المنشودة. ونتيجة ذلك أنه لا حاجة - في نظر طاغور - للبحث عن الدين الحق واتباع خاتم النبيين محمد ص.
عندما دخل شريعت إلى غرفة اللقاء خلع نعليه وجلس القرفصاء على الكرسي وجرى بينه وبين طاغور حوارٌ بحضور عدد من زملاء شريعت وأصحابه. هذا الحوار الشيق إن دل على شيء فإنه يدل على عمق تفكير الشيخ شريعت وسعة نظره واستقامة فكره وقوة حجّته، ولم يجد الدكتور والفيلسوف طاغور - رغم كل علمه وفلسفته - من سبيل أمام منطق شريعت سوى التهرُّب من الإجابة عن سؤال الشيخ شريعت وقطع الحوار قبل انتهائه. وفيما يلي نص الحوار كما سجله حسينقلي مستعان تلميذ شريعت المقرب الذي كان حاضرًا في الجلسة وشاهدًا عليها.
بدأ شريعت الحوار بتوجيه السؤال التالي:
الشيخ شريعت: أريد أن أسألكم: ما الذي يمنح الإنسان السعادة المادية والمعنوية أكثر من أي شيء آخر، وما هي السعادة العامة للبشر؟
الدكتور طاغور: بالطبع لدي حول هذا الموضوع والمسألة المهمة عقيدة ربما لا تتطابق ولا تتفق مع نتائج أبحاثكم وتجاربكم، ولكن بما أنكم سألتم عن هذا الأمر فسوف أجيبكم. لقد جاء الإنسان إلى هذا العالم من أبدية لا نعلم هويتها ولا شأن لنا بماهيتها وليس لدينا تفكير خاص بها، وهذه الدنيا بالنسبة إلى الإنسان بمثابة مزار أو معبد، والإنسان زائر عليه أن يطوف بهذا المعبد ثم يتركه ويذهب. وهذه هي في الواقع العلة الغائية لخلقة البشر، وهي أن يقوم بهذه الرحلة وأن يؤدي هذه الزيارة. إن توقف الإنسان في هذا المعبد أو المزار توقف مؤقت وعليه أن يغادره. البهائم والحيوانات تأتي إلى هذه الدنيا وتذهب أيضًا ولكن الفرق بينها وبين الإنسان هو أن البهائم تأتي للأكل والنوم فقط ثم ترحل عن هذا العالم، فهي لا تبحث سوى عن الأكل والشرب والمجامعة والنوم، أما الإنسان الذي هو أعلى رتبة من البهائم، أعني الإنسان الحقيقي وليس أي كائن جاء من ظهر آدم، أي الإنسان الذي يتمتع بقوة التعقل والتفكر أو تكون هذه القوَّة لديه أقوى وأعلى مما لدى البهائم على أقل تقدير، فإن سعادته تكمن في أن يصدر منه الخير تجاه البشرية، مما يجعل البشرية تقترب من الألوهية، وفي أن يخدم البشرية على أي نحو استطاع. فكل إنسان، في أي مجال علمي كان وأيًّا كان تخصصه، عليه أن يفيد الناس. الرجل المتأله في الألوهية، والطبيعي في علمه، والرسام برسمه والشاعر بشعره، والموسيقي بآلاته الموسيقية كذلك... والخلاصة أن على كل إنسان أن يخدم البشرية ويساعدها بكل وسيلة ممكنة كي يوصلها إلى غايتها ومقصدها.
إن غاية جميع الناس ومقصدهم غاية واحدة، إنهم يتجهون جميعًا نحو جهة واحدة، وعندما نتحدث عن البشرية فلا شأن لنا بالأفراد وبالمذاهب والمسالك المختلفة، بل نتكلم عن البشرية بمعناها العام.
عنما ذهبتُ إلى أوربا رأيتُ أن عظمة العلوم قد استولت على ذلك الإنسان الأوربي. لقد تقدم الأوربيون في جانب واحد تقدمًا عظيمًا وهو مع الأسف الجانب المادي، أما في الجانب الروحي والمعنوي فلم يحرزوا أي تقدم مع الأسف، والشرق أعظم من الغرب في هذا المجال ومتقدم عليه، وعلى كل حال فهم يخدمون ويقدِّمون للبشرية فوائد كثيرة.
هناك بين الشعوب والأمم أشخاص يتمتعون بمقام أعلى من الآخرين وأسمى، جاؤوا لهداية البشر، وهم يؤدون خدمتهم من خلال هداية الناس. لديهم جانب رسالي وتبليغي وروحي. ثمَّةَ نداء يصل إليهم، وبحكم هذا النداء يقومون بدعوة البشر إلى مبدأ واحد، هو المبدأ ذاته لجميع البشر. وأقصد هنا الروحانية والرسالة الواقعية التي تزيد من إحسان الإنسان وعاطفته تجاه بني نوعه وتلفت نظر الجميع وتشد انتباههم نحو المبدأ الواحد الذي هو المبدأ ذاته بالنسبة إلى الجميع، كل ما في الأمر أن له أسامي مختلفة وكل إنسان يناديه باسمٍ ما، وعلى الأنبياء والرسل وكل من يصل إليه هذا النداء السماوي أن يبين للناس هذا المبدأ، وأنا اعتبر نفسي من هؤلاء الأشخاص الذين جاءهم مثل هذا النداء، أنا لست عالمًا بالطبيعة ولا من علماء الفلك والرياضيات، لدي رسالة وهناك نداء يصل إلي.
إنني أدعو نفسي وأدعو مواطنيَّ إلى السعادة، وأقدم للناس خدمة مختصرة في هذا المجال، أنا زائر جئت إلى هذا المعبد والمزار وفي أثناء توقفي المؤقت فيه أحمل على عاتقي مسؤولية خدمة الناس، وأقوم بهداية الناس. وخلاصة الكلام أن سعادة البشرية ليست سعادة فردية، بل السعادة العامة هي أن يقوم كل إنسان بأداء دوره في خدمة البشرية طبقًا للقوة والمؤهلات والطاقة التي أوتيها، وأن يوصل البشرية نحو الكمال وأن يبرز كل إنسان ما أوتيه من مؤهلات واستعدادات على النحو الأتم والأكمل.
الشيخ شريعت: حسنٌ جدًّا، هذا الكلام حق، وقد قال الصوفي: البحث والتحقيق الذي يقوم به الرجال العظماء بشأن السعادة هو الوصول إلى الكمالات... لكنني أريد أن أسأل ....
الدكتور طاغور: اسمح لي! هناك موانع ومشكلات في طريق الوصول إلى هذه الغاية تعيق الإنسان من الوصول إليها، وأحد هذه الموانع هي الشهوات الإنسانية، والمانع الآخر هو الجهل. وبالطبع لا يتمتع جميع الأفراد بجانب روحاني ومعنوي بل الحيوانية والشهوة مسيطرة على أكثر الناس، فعلى الأفراد أن يصلوا أولًا إلى مقام العقل، عندئذٍ عليهم أن يساعدوا على رفع هذه الموانع وإزالتها، لأنه من الممكن لهذه الموانع والإفراط في الأمور المادية أن تزعزع سعادة الإنسان، فواجب أولئك الأشخاص وأصحاب أولئك النداء، أي الذين يستمعون إلى ذلك النداء أن يعملوا على إزالة هذه الموانع والعوائق، عليهم أن يبلغوا رسالتهم ويدعوا الناس. بهذه الطريقة يكونون قد قاموا بأداء واجبهم.
الشيخ شريعت: هذا الأمر صحيح ولا إشكال فيه، ولكننا نعلم أن هناك طريقًا واحدًا لكمال البشرية وسعادتها الحقيقية، وهو وصولها إلى الكمال اللائق بها، فكل الناس يتجهون - في باطنهم - إلى الكمال ويسعون إليه، وهذا الكمال هو الذي قال الله تعالى عنه في القرآن: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ٦﴾.[55] بعبارة أخرى، الإنسان في حالة سفر إلى الله، أو بتعبير أوضح في حالة سفر نحو الكمال. ولابد للإنسان في هذا السفر من مجموعة من التعليمات والأوامر، أنا أعلم ما هي الموانع الموجودة في هذا الطريق، ولكنني أريد أن أعلم ما الأشياء التي توصلنا إلى هذا الطريق؟ ما الأشياء التي تُكَمِّلُنا وما الأشياء التي تُنْقِصُنا؟ ما هي الأمور التي تبعدنا عن الكمال وما هي الأمور التي تقربنا منه؟ من أين نجد هذه التعاليم؟ وممن نأخذها؟ وأي التعاليم نرجِّح على الأخرى ونوقن بأنها لن تضلنا عن الطريق ولن تحرفنا عن نهج السعادة الحقيقية؟ أي فيلسوف، أي عالم، وأي نبي، بيّن هذا الطريق للبشرية على نحو أفضل وأصح من الآخرين؟
الدكتور طاغور: (يتأمل لحظة، ويضع يده على لحيته، وأصبعه فوق شفته ثم يقول): بالطبع لقد وصل هذا النداء السماوي إلى أشخاص عديدين، منذ بداية تاريخ الإنسان وحتى اليوم، وكل أولئك الأشخاص العظماء كانوا مأمورين بأداء هذه المهمة وهي إزالة هذه الموانع والعوائق. إذن يمكننا أن نقول إن كل الذين استمعوا لهذا النداء هم في رتبة واحدة. كل من خدم زوّار مزار الإنسانية والعابدين في معبد البشرية فقد أحسن صنعًا. كل طريق لهذه الخدمة هو طريق حسن. لقد كان لجميع الأنبياء والرسل مهمة واحدة، وتعاليمهم جميعًا حسنةٌ. وأنا أيضًا أقوم بالخدمة في هذه المرتبة، وعلي أن أؤدي هذا الواجب وهذه المهمة بواسطة الحقيقة وبواسطة كف النفس عن رغباتها وعبر الحب. إن الذي يحمل على عاتقه هذه المهمة يجب أن تكون محبته أكثر من الآخرين، يجب أن يعطي للآخرين ولا يأخذ منهم. ولا يمكننا أن نقول إن أحد الطرق أفضل والطريق الآخر أسوأ.
مثلاً لدي طرق مختلفة لخدمة البشرية. أنا أنتمي إلى أسرة قديمة كبيرة. لقد أنفقت كل إمكاناتي في هذا الطريق. لقد أسست في وطني مدرسة وأقوم بتربية الناس. كل الفلاسفة والعلماء يقومون بخدمة البشرية. أشعاري تُقرَأ في كل أنحاء الدنيا، كل من يقرؤها تزداد عواطفه القلبية وحبه للآخرين. لقد سافرت إلى كل ناحية من نواحي الدنيا، وتكلمت في كل مكان، وأسعى إلى إثارة العواطف البشرية، أقوم بأداء واجبي ومهمتي، وآمل أن أستطيع من خلال هذه التضحيات أن أثير العواطف الصالحة والخيرة لدى البشر وأحركها.
الشيخ شريعت: لم أحصل على جواب عن سؤالي بعد! لعلي لم أستطع أن أُبَيِّن جيدًا ما أقصده. أرجو أن تدققوا معي، لا شك أن طريق الحقيقة وطريق الكمال وطريق النجاة طريق واحد لا أكثر. ومن الجهة الأخرى فإن سادة البشر وعظماءهم - سواء كانوا أنبياء ورسل أم فلاسفة وعلماء - كل منهم بيّنوا الطريق على نحو مختلف، ولذلك نجد اختلافات كثيرة في التعاليم المنسوبة إلى الأنبياء والفلاسفة، فكل واحدٍ منهم يقول شيئًا. فالفلسفة المشائية تأمر بشيء، وفلسفة الإشراق تأمر بشيء آخر. والعرفاء (أقطاب التصوف) يُبيِّنون طريقًا آخر، والتوراة تعرض طريقًا، والإنجيل يبيّن طريقًا آخر، وتعاليم وأوامر محمد بن عبد الله [ص] مغايرة لكل تلك الأمور.
إذا دققنا جيدًا لرأينا أن هناك آلاف الطرق وكثير من الكلام المختلف. نحن طلاب الحقيقة ونبحث عن طريق النجاة والسعادة والكمال. نريد أن نختار طريقًا من هذه الطرق، لقد أصبنا بالدوار والحيرة من كثرة هذه الطرق، فكل واحد من هؤلاء العظماء، أو على حد قولكم من الذين سمعوا النداء السماوي بَيَّنَ طريقًا معينًا.
الفيلسوف الفلاني يقول: ذلك الطريق سيء وهذا الطريق حسن. والفيلسوف الآخر يقول: كلا الطريقين سيئان وطريقي هو الحسن. النبي الفلاني يقول اسلكوا هذا الطريق، والكلام المنسوب إلى نبي آخر يفهمنا أن علينا أن نسلك طريقًا آخر. فأي الطرق علينا أن نقبل به؟ وأيها نسلك حتى نصل إلى غايتنا في وقت أسرع؟!
الفيلسوف الهندي يقول: إن قتل الحيوانات وأكل لحمها أمر سيئ. يجب عليك أن تجتنب قتلها وأكل لحومها، كي تصل إلى الكمال والسعادة المنشودة. نأتي إلى أوروبا فنجد الفيلسوف الأوروبي يقول: لابد من قتل الحيوانات وأكل لحمها، يجب أن تذبح الحيوانات وتأكلها لتصل إلى السعادة. يقول الإسلام: الشيء الفلاني حلال، وتقول ديانة أخرى إنه سيئ. فمن الذي علينا أن نقبل كلامه؟ وما هو الطريق الذي علينا أن نختاره من بين هذه الطرق المختلفة؟ وما هو الميزان لتشخيص الطريق الصحيح من بين هذه الطرق المختلفة؟!
الدكتور طاغور: أولاً: ميزان التشخيص هو عقل كل إنسان. ثانيًا: الطريق يعتمد على المكان الذي وُلد فيه الإنسان، والبيئة التي تربَّى فيها؟ مثلاً، المملكة الإيرانية مسلمة، في الهند هناك دين آخر، هذا الأمر يحصل لكل إنسان بمقتضى الولادة. ومن الجهة الأخرى يجب أن نرى أي فلسفة قرأها الناس! عندما وُلِدت كنت بوذيًّا فبقيت على دين آبائي وأجدادي. فكل إنسان يتبع دين آبائه وأجداده ويؤمن بعقيدتهم، فتعيين الطرق يعتمد على هذا المبدأ العام وهو المكان الذي وُلِد فيه الإنسان والبيئة التي نشأ فيها [56]. ولكن هذا الطريق لا أهمية له بالنسبة إليَّ، أنا شاعر وطريق الشاعر هو العشق، كل من يعشق فإنه يسير في الطريق الحسن الصالح، في أي طريق سار العاشق كان سيره حسنًا، إن الشاعر يخدم الناس بعشقه، وأنا شاعر!
الشيخ شريعت: حتى الآن كان بحثنا بحثًا عقليًّا وفلسفيًّا، وكنا نتكلم استنادًا إلى أسس العقل، لكنك الآن أخرجت الموضوع عن مجرى البرهان والعقل إلى مجال العشق والعاطفة. إن العشق حالة وراء العقل، فمن الجدير أن نقيم نقاشنا وكلامنا على أساس البرهان والاستدلال.
الدكتور طاغور: للأسف، لقد تعبت كثيرًا! أضف إلى ذلك أنني قد أعطيت وعدًا لشخص آخر عند الساعة العاشرة، فأعتذر منك!
قال السيد حسينقلي مستعان -الذي حضر ذلك النقاش الفلسفي وكان شاهدًا عليه وسجل وقائعه بأسلوبه اللغوي الشيق- في ختام مقاله بعد ذكره لنص الحوار:
انتهى الحوار عند هذه النقطة. وقام الدكتور طاغور بوداع جميع الحاضرين بوجه طلق وبلطف ومحبة كبيرة، وودَّع الحاضرين حسب تقليده فردًا فردًا وخرج من القاعة. وقد تأسفتُ كثيرًا لأن الحوار انقطع قبل انتهائه، ولم أوفَّق لرؤية النهاية التي كان سيصل إليها هذا البحث والنقاش الشيق»[57].
[54] روبندرونات طاغور (1861 - 1941م)، شاعر وروائي وكاتب وفيلسوف هندي ولد في كالكتا عاصمة إقليم البنغال في الهند ودرس اللغة السنسكريتية وآدابها، واللغة الإنجليزية ونال جائزة نوبل في الآداب عام 1913، أنشأ مدرسة فلسفية معروفة باسم فيسفا - بهاراتيا (أو الجامعة الهندية للتعليم العالي)، وكان من دعاة نبذ التعصُّب الذي يعاني منه أتباع كثير من الطوائف والأديان في الهند. انظر: موسوعة ويكيبيديا الحرة على شبكة الإنترنيت. [55] الانشقاق، الآية 6. [56] يقول الأستاذ مصطفى الطباطبائي، عن كلام طاغور هذا إنه يذكرنا بقول المشركين: ﴿بَلۡ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ ٢٢﴾ [الزخرف: 22]. [57] مرتضی مدرسی چهاردهی، «شریعت سنگلجی و تاگور» [شریعت سنکلجی و طاغور]، مجلة «وحید» اللغوية والأدبية، 10/ 1352 هـ.ش، العدد 121، ص 1026 - 1032.
«قبل خمس سنوات من وفاته[58]، تشرَّف شريعت بالحج إلى بيت الله الحرام وَعَهِدَ بإدارة أمور دار التبليغ في غيبته إلى أخيه الشيخ محمد سنكلجي»[59]. يقول حسينقلي مستعان: إن شريعت، خلال أدائه مناسك الحج، التقى بكثير من العلماء من الحجاز ومصر وغيرهما فلما عاد إلى طهران عاد بحماس أكبر ونشاط أشد في الدعوة والتربية في دار التبليغ تلك[60].
ويُنْقَل عن الأستاذ الدكتور محمد جواد مشكور - ابن أخت الشيخ شريعت وممن تتلمذوا عليه[61] - أن خاله الشيخ «شريعت» لما ذهب إلى الحج مِنْ قِبَل الميرزا حسين خان مؤتمن المُلك، قرأ هناك بعض كتب ومؤلَّفات علماء الوهابية فتأثر بها وأعجبته ومال إلى الوهابية واعتنق أفكارها [62].
وأقول: إن تأليف الشيخ «شريعت» بعد عودته من الحج لكتابه «توحيد العبادة» الذي لا يخفى أنه يتطابق في جزء كبير منه - من ناحية عناوين المباحث ومن ناحية المتن - مع كتاب أو رسالة «التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي (ت 1206هـ)، بل إن بعض أقسام كتاب «توحيد العبادة» لشريعت لا تعدو نقلاً وترجمةً فارسيةً حرفيةً من كتاب «التوحيد» المشار إليه، يؤكد على ذلك التأثُّر ويثبته. أضِف إلى ذلك، ما صرَّح به الشيخ «شريعت» ذاته، في أحد فقرات كتابه «توحيد العبادة» - الذي سنتحدث عنه لاحقًا - وهي الفقرة التي عنوانها: (من أنواع الشرك لبس الخاتم أو الخيط وأمثالها لرفع البلاء أو دفعه)، من أنه قرأ أثناء سفره من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة كتابًا في الحديث فأثَّر في روحه تأثيرًا عميقًا إلى درجة جعلته يرمي الخاتم - الذي كان يضعه في يده ليتبرك به ويحفظه في البيادي والبحار!– في الصحراء، وهو في الحافلة في طريقه من المدينة إلى مكة، ويستغفر الله عما كان مبتلى به مما رآه متنافيًا مع التوحيد الخالص، وفيما يلي نص كلامه في ذلك، قال:
«لقد كان لي خاتم من حديد صيني، قرأت في الكتب أن له خواصًا، من جملتها أنه يحفظ من يضعه في يده في الصحاري والبحار من الآفات. لذا عندما عزمت السفر إلى حج بيت الله الحرام وضعت الخاتم في يدي، ولما كنت في طريقي من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة؛ بدأت بقراءة كتاب في الحديث وأنا في الحافلة، وإذ بي أُفاجأ برؤية هذه الأخبار التي نقلتُها [في هذا الفصل]، فلما دققت النظر فيها؛ قلت: يا ويح نفسي! كم أنا جاهل بتوحيد الإسلام! أنا مُحْرِم وحاج إلى بيت الله وفي يدي صنم! لماذا لا أعتبر اللهَ رب العالمين حافظي فقط؟ كيف أعتبر حجرًا يحفظني مع أنني أنا الذي أحفظه؟! لقد أحدث هذا الأمر انقلابًا في نفسي يستحيل عليَّ شرحه. فشرعت بالاستغفار ونزعت الخاتم من يدي، ورميته في الصحراء، وأرجعته إلى عالمه، عالم أحجار البادية وحصاها يا ويح نفسي! وقرأتُ هذا البيت:
رسم عاشق نيست با يک دل دو دلبر داشتن
وكعبه دل را از بت انگشتر پاک كردم
أي: ليس من شأن العاشق أن يكون له محبوبان في قلبه، لقد طهَّرْتُ كعبة القلب من صنم الخاتم»[63].
فمن الواضح أن ما قرأه الشيخ شريعت في الحج من كتب حول التوحيد والشرك ومحاربة البدع في بلاد الحرمين قد لقي لديه أرضًا خصبةً ونفسًا مستعدةً، لأنه كان منذ شبابه من دعاة الإصلاح والعودة للقرآن الكريم والمهتمين بمحاربة الخرافات ونبذها - كما مر معنا فيما سبق - فازداد رسوخًا في هذا الأمر، وعاد إلى بلاده إيران بهمة عالية ونشاط أشد في الدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ كل ما يتنافى معه من أعمال شركية وبدع عقائدية.
[58] إذا كان تاريخ وفاة شريعت - كما ذكر تلميذه المقرب حسينقلي مستعان - هو 1322 هـ.ش (1363 هـ.ق/1944م) يكون تاريخ ذهابه للحج إِذَن: سنة 1317 هـ.ش (1358 هـ.ق/1939م). [59] نور الدين چهاردهي، وهابيت و ريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 162. [60] انظر: حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، ص 6. [61] انظر: مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، شيخ هادي نجم آبادي و داستانهايي از زندگي او [الشيخ هادي نجم آبادي وقصص من حياته]، مجله «وحيد»، العدد 19، الصادر بتاريخ ارديبهشت 1352هـ.ش (1393هـ.ق/1973م)، ص 59؛ وانظر أيضًا: گلزار مشاهير، زندگينامه درگذشتگان مشاهير ايران، انجمن آثار و مفاخر فرهنگي، [روضة أزهار المشاهير، تراجم الراحلين من مشاهير إيران، جمعية المؤلفات والمفاخر الثقافية]، ص 216. [62] انظر: رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1016. [63] شريعت سنكلجي، توحيد عبادت «يكتاپرستى» [توحيد العبادة]، الطبعة الثالثة، ص 46.
إن شريعت سنكلجي كان يرى أن التوحيد أساس الدين، وكان يرد على كل ما خالف التوحيد واختلط بشوائب الشرك والخرافات والأساطير وناقض العقل السليم. ولذلك كان يبدّع كثيرًا من عقائد الشيعة ويعتبرها باطلة ومن الخرافات والأساطير، وكان يطعن في كثير من الأخبار والأحاديث التي انبت عليها عقائد الشيعة ويعتبرها مكذوبة موضوعة. ولذا هاجمه معارضوه بشدة وبعبارات قاسية.
يقول في كتابه «توحید العبادة»: «هذا العبد الضعيف [شريعت سنگلجي] قضيتُ سنوات طويلة في دراسة العلوم الإسلامية والتبحّر فيها بعمق، وبذلت قصارى جهدي بقدر الطاقة البشرية في تعلّم التفسير والحديث والكلام والفلسفة والفقه والأصول والتاريخ واجتهدت فيها، وقمت بمطالعات وافية في الملل والنحل والأديان، واهتديت إلى القرآن طبقًا لمفاد قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا...﴾ [العنكبوت: 69]. وحقّقت في دين الإسلام الحنيف وبحثت فيه وميّزت بقدر طاقتي بين الحقّ والباطل وألقيت عن نفسي أثقال الشرك والأوهام وكسّرت سلاسل الخرافات وأغلال الأباطيل، ونهلت من معين القرآن الزلال واهتديت بنوره؛ ولما رأيت أن الأمور التي فهمتها قد شهد على صحتها وحقيقتها شاهدا عدل: العقل والشرع، وأنني إذا لم أظهر الحقيقة للمتعطّشين لها لانطبق عليّ هذا الحديث الشريف: «إِذا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي الدِّينِ فَعَلَى الْعَالِمِ أَن يُظْهِرَ عِلْمَهُ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»[64]، فاستحقت ذلك اللعن الذي أخبر عنه رسولاللهص. لذلك شمّرت عن ساعد الجد وبدأت بما هو الأهم، وهو توحيد الإسلام الذي هو ركن الدين الركين ومحور سعادة الدنيا والآخرة؛ ولكن مع الأسف أصابه التحريف والتبديل وتحوَّل لدى الناس إلى معنىً آخر، إذ انتشر باسمه ألف شركٍ وشرك»[65].
إن شريعت سنكلجي كان يؤكد دائمًا على أنه في بيان عقائده وآرائه لن يستند إلا على القرآن الكريم كمصدر أساسي، وكان يعتقد أنه لا توجد في القرآن آية يعجز البشر عن فهمها، بل إن كل القرآن الكريم قابل للتدبر والفهم.
وإن أهم النقطة التي تترسخ عليها أسس التجديد الديني ويقوم عليها منهج التيار الاصلاحي الشيعي، هي الرجوع المباشر إلى القرآن الكريم وتدبره وفهمه. فالعودة إلى القرآن الكريم هي الميزة الأساسية لهذا التيار الاصلاحي التجديدي بين الشيعة.
يقول الدكتور «ناصر الدين صاحب الزماني»[66] في كتابه «ديباچهاى بر رهبري» [مقدمة على الزعامة]: «إن حركة «شريعت سنكلجي» نهضة مجهولة، وإن شريعت سعى من خلال نقد بعض الأخبار والأحاديث، ومن دون أن يبطل الإسلام، إلى طرح الإسلام للناس بصورة نهضة تقدمية اجتماعية، جاعلاً منه إيديولوجية أو رؤيةً للعالَم مقبولةً لدى الجيل المعاصر». وقال أيضًا: «إن الطريق الذي سلكه شريعت في [تصحيح] الفكر الديني وما طرحه من اجتهادات إسلامية كان طريقًا ثوريًّا». ثم أكّد بعد بضع صفحات أن شريعت كان يهدف إلى «اكتساب الأجيال القادمة، في إيران الإسلامية، للحرية والاستقلال الفكري»[67].
كما يذكر صاحب الزماني أن حركة أحمد كسروي كانت أكثر أنواع التحرك المشابه لحركة شريعت تطرُّفًا وغلوًّا، ويقول:
«بالتزامن مع شريعت، وبشكل آخر ومن النمط المتطرِّف جدًّا، انعكس مثل هذا المسعى في وجود «أحمد كسروي» وشريعة «الدين الطاهر» الذي طرحه، والذي انعكس في كتبه مثل صوفيگري (الصوفية والتصوف) و..... وغيره من كتبه ومؤلفاته»[68].
ويقول بعد صفحات:
«كان لشريعت وكسروي سعيًا تصحيحيًّا متطابقًا ومتناغمًا. كانا يحاولان أن ينقيا مزرعتهما الاجتماعية وينظفاها من الأعشاب الضارة التي يعتقدان أنها نمت حولها عبر القرون وأن يعودا إلى النقاء الديني الذي كان في صدر الإسلام... كل ما في الأمر أن شريعت كان أكثر تحفُّظًا في هذا المسعى في حين أن كسروي كان أكثر حِدَّةً وهجوميّةً، وكانت الإصلاحات التي يقترحها شريعت تنصب في الغالب على إصلاح مؤسسة علماء الدين وإعادة بناء الفكر الديني وتصحيحه، في حين صَرَف كسروي نظره عن علماء الدين تمامًا، وركَّز اهتمامه على ساحة الأدب والسياسة»[69].
ويعقِّب المؤرخ المعاصر رسول جعفريان على تلك المقارنة السابقة بين شريعت وكسروي قائلاً:
«من المؤكَّد به أنه من الظلم مقارنة هذين الشخصين [شريعت وكسروي) أحدهما بالآخر. كل ما في الأمر أن كل واحد من ذينك الشخصين كان يتحرك بهدف الإصلاح حسب ظنه؛ وهي حركة كانت تنتهي بالاصطدام بعلماء الدين التقليديين في نهاية المطاف»[70].
وينقل الباحث الأستاذ «سيد مقداد نبوي رضوي[71]» (في مقاله حول تحليل مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية) عن أحد معارضي شريعت الأشداء وهو «سيد عبد الحجت بلاغي» قوله: «إن أهم المسائل التي كان شريعت سنكلجي ينكرها هي: «غيبة إمام الزمان»، و«الرجعة»، و«المعاد الجسماني»، و«المعراج»، و«الشفاعة»، و«معجزات الأنبياء»، وأن شريعت لم يكن يرى لرسول الله ص معجزةً سوى القرآن»[72].
وأقول: بعض ما في كلامه محض افتراء وإيهام بأمر غير صحيح في حق شريعت، وهذا لا يُسْتَغرب من شخص ذُكِرَ أنه كان يُكِنُّ لشريعت عداءً شديدًا. فشريعت لم يكن ينكر المعراج أو الشفاعة أو معجزات الأنبياء من أساسها أبدًا، نعم ربما كان يعطي بعضها تفسيرًا معيَّنًا قد يختلف عمَّا هو شائعٌ في أذهان الناس أو العوام، أي يصحِّح فهم العوام الخاطئ لها.
وفيما يلي نص حرفي من كلام «شريعت» حول معجزات الأنبياء من كتابه «مفتاح فهم القرآن» يبين بكل صراحة وضوح إيمان «شريعت» بمعجزات الأنبياء وخوارقهم ويكشف مدى افتراء عبد الحجت بلاغي عليه. يقول شريعت في كتابه المذكور في فقرة تحت عنوان: «دليل القرآن على إثبات النبوة»:
«.... إن هذا النوع من الخوارق في وضع الشـرائع وبيان المعارف الحقيقية وحل المشكلات الكونية التي ليست في متناول العقلاء والفلاسفة ولا سبيل لهم إليها، مما يعلنه الأنبياء والرسل للناس استنادًا إلى ما يوحى إليهم من الله، والذي يمكن أن نطلق عليه اسم «المعجزات العقلية»، أوضح في دلالته على النبوة من الخوارق والمعجزات الحسّيّة من قبيل تحويل العصا إلى ثعبان وفلق البحر وأمثالها، التي لا تدل وحدها دلالة ضرورية على النبوة، بل تدل على النبوة عندما تنضم إلى الخوارق العلمية للأنبياء، فمعجزة الرسل أولاً وبالذات هي العلم والعمل، والمعجزات الحسية مؤيدة وداعمة للمعجزات العقلية، ودلالة المعجزات العلمية على النبوة دلالة قطعية أما المعجزات الحسية فهي بمثابة شاهد داعم للمعجزات العقلية»[73].
فبالله عليكم، هل هذا الكلام المتين يفيد أنه ينكر معجزات الأنبياء؟!
بعد أن ذكرنا ما قاله الآخرون عن منهج شريعت الإصلاحي، فلنَرَ ما قاله شريعت نفسه عن معالم منهجه في الإصلاح وجوهر طريق التصحيح الديني الذي هداه الله إليه. قال في مقدمته لكتابه «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن]:
«....... فتوجهت إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب، فوفَّقني الله بحمده لكشف أمر هام وفتح أمامي طريقًا لفهم الدين وتدبر القرآن المبين وهو وجوب أخذ الدين من السلف لا من الخلف، وبعبارة أوضح لا بد أن نرى كيف كان فهم مسلمي الصدر الأول للقرآن وأي دين كان لدى المسلمين قبل أن تنشأ الفلسفة والتصوف والأشعرية والاعتزال؟
بعد أن تفطنت لهذا المعنى وهداني الله إلى طريق الصواب قَطَعْتُ -بحول الله وقوَّته- بالـمرَّة وإلى الأبد قيود التقاليد ومزَّقْتُ حُجُبُ التعصُّب والأوهام، وألقيتُ عن كاهلي حِمْلَ الخرافات الثقيل، وأخذتُ -بعناية الله -الدينَ عن السلف الصالح واهتديتُ بخير الحديث: كتابِ اللهِ تعالى، واهتديت بهداية القرآن، وقلتُ ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ...﴾ [الأعراف:43]»[74].
فالعودة إلى القرآن الكريم: خير الحديث، والاهتداء بهدايته وفهمه كما فهمه السلف الصالح هو الهداية لدى «شريعت» وهو المنهج والطريق، كما هو السبب في نبذه، بالمرة وإلى الأبد، قيود التقاليد: أي الآراء البشرية المُخْتَرَعَة والبدع المذهبية الدخيلة البعيدة عن هداية القرآن وطريق السلف الصالح.
وفيما يأتي نذكر بعض أهم نقاط هذا الإصلاح والتجديد الديني لدى الشيخ «شريعت»[75]:
[64] ورد في الكافي للكليني (1/54)، عن النبي ص: «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ». وانظر الوسائل (16/ 269، 271). [65] مقدمة المؤلف لتوحيد العبادة. [66] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني: باحث وكاتب إيراني معاصر حداثي النزعة، متخصص في الفلسفة وعلم النفس واللسانيات، وله عديد من الكتب وعشرات الأبحاث والمقالات المطبوعة في مجلات إيرانية مختلفة. [67] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، ديباچهاى بر رهبري [مقدمة على الزعامة]، صص 133 - 134. [68] المصدر نفسه، صص 135 - 137. [69] المصدر نفسه، ص140. [70] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، في ص 1018، حاشية رقم 2. [71] باحث في مجال تاريخ الأفكار الدينية في إيران المعاصرة. كما عرَّفت به مجلة «امامت پژوهي» [أبحاث الإمامة] الفصلية التي نشرت مقاله حول تحليل مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية. [72] سيد مقداد نبوي رضوي، «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، العدد 4 من السنة الأولى، ص 253، نقلاً منه عن السيد عبد الحجت بلاغي، تذكره عرفاء (تذكرة العارفين)، ص 257 حتى 260. [73] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن [مفتاح فهم القرآن مع براهين القرآن]، طهران، مؤسسة انتشارات دانش، الطبعة الخامسة بالأفست، بدون تاريخ، ص 211. [74] المصدر نفسه، ص 4 - 5. [75] وسنتحدث لاحقًا عن نقاط أخرى أيضًا من إصلاحه الديني فيما يتعلق بتوحيد العبادة ومنهج فهم القرآن، بشكل أكثر تفصيلاً، وضمن فصلين خاصين بذلك.
وصف الدكتور صاحب الزماني رأي شريعت سنكلجي بقضية المهدي المنتظر وموضوع المهدوية على النحو الآتي: «إنه بإمكاننا أن نطلع على تعاليم شريعت سنكلجي وأفكاره الأساسية في السنوات الأخيرة من حياته من خلال كتاب «الإسلام والرجعة» وكتاب «مفتاح فهم القرآن»، فإنه قد سعى سعيًا حثيثًا استمر فيه حتى وفاته، لينفي عن قضية ظهور المهدي الموعود عناصر القيام بالسيف والظهور المسلح والحرب والانتقام؛ وذلك من خلال نقده لبعض الأحاديث والأخبار المتعلقة بظهور المهدي. وكما سعى إلى حذف جانب الزعامة الشخصية من المهدي وأعطى لهذه الفكرة شكل النهضة التقدمية الجماعية والاجتماعية حتى يكون مقبولا لدى الجيل العصري الحديث»[76].
ويضيف الباحث «سيد مقداد نبوي رضوي» إلى ما ذُكِر أعلاه حول هذا الموضوع، قائلًا:
«لم يكن شريعت سنكلجي يقبل حتى باعتناء محي الدين بن عربي بمسألة الإمام الثاني عشر»[77]. وقال في أحد المناسبات: «نحن لا ننتظر إمام الزمان!»[78]. وطبقًا لكلام آخر، فإن شريعت كان يقول: «سوف يأتي شخص، ولا يهمنا أن نعلم من هو، بل المهم أن يكون شخصًا ربّانيًّا [79]»[80].
ويقول الباحث والمفكر الإيراني المعروف إحسان طبري حول هذه النقطة:
«من الموضوعات الأساسية التي بحثها شريعت في جلساته ودروسه المنتظمة: ملابسات ظهور القائم الموعود. كان شريعت يراعي بالتأكيد الأسس والأصول الإسلامية والشيعية في هذا الموضوع، والأمر الوحيد الذي تدخل به هو إنكار بعض «الخرافات» المتعلقة بالظهور؛ مثل «الرجعة، «ظهور الدجال»، «القيام بالسيف» أي أن المهدي سوف يسفك أنهارًا من الدم حتى من الأشراف الهاشميين الذين ينكرون وجوده! لذا كان يفسِّر مسألة الظهور بأنها غلبة الدين والعدل على الكفر والظلم لا غير»[81].
وخلاصة الكلام إن «شريعت» تناول بشجاعة وجرأة غير مسبوقة بين علماء الشيعة روايات خروج المهدي الموعود؛ مفنِّدًا ما تقوله الروايات الشيعية من أن المهدي تُصاحِب خروجه ثورة مسلحة يضع فيها السيف على رقاب خصومه (والخصوم دائمًا حسب الرواية الشيعية هم أهل السنة)؛ مؤكِّدًا أن خروج المهدي سيأخذ طابعًا نهضويًّا جماعيًّا واجتماعيًّا يلقى فيه قبولاً عالميًّا، مقدمًا بذلك تصورًا جديدًا لمسألة المهدي، تتلاءم مع الرؤية الإسلامية العامة ومخالفة للرواية الشيعية التي تظهر المهدي وكأنه سياف لا هم له سوى القتل والانتقام من خصومه!!
[76] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، ديباچهای بر رهبرى [مقدمة للزعامة]، طهران، مؤسسة مطبوعاتي عطائي، 1348هـ.ق، ص 137. [77] سيد عبد الحجت بلاغي، تذكره عرفاء [تذكرة العارفين]، ص 260. [78] هذا الكلام سمعه الميرزا أبو الحسن خان فروغي من شريعت سنكلجي وحكاه للمهندس عزت الله سحابي؛ ثم نقله المهندس صحابي إليّ [إي إلى كاتب المقال: سيد مقداد نبوي رضوي]. [79] هذا الكلام نقله السيد حسين شاه حسيني (من الرجال السياسيين المشهورين ومن أعضاء نهضة المقاومة الوطنية بعد انقلاب رضا شاه بهلوي بتاريخ 28 مرداد 1332 ونقله بدوره إليّ [إي إلى سيد مقداد نبوي رضوي]). [80] سيد مقداد نبوي رضوي، «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، العدد 4 من السنة الأولى، ص 254 - 255. [81] إحسان طبري، مقال: راه توده - جامعه ايران در دوران رضا شاه [طريق الجماهير - المجتمع الإيراني في عصر رضا شاه]. وهو منشور على شبكة الإنترنت وعنوانه: http://www.rahetudeh.com/rahetude/Tabari/iran-rezashah/html/jameehiran-11.html
يقول المؤرخ الشيعي الإيراني المعاصر رسول جعفريان:
«بالنسبة إلى موضوع الشفاعة، كان لشريعت سنكلجي موقف متشدِّدٌ جدًّا، حيث نفى كل نوع من أنواع الشفاعة»[82].
وأقول: الواقع إن هذا الكلام غير صحيح، وغالبًا ما يُتَّهم دعاة الإصلاح والتصحيح بأنهم ينفون الشفاعة مطلقًا، مع أن ما ينفيه «شريعت» وجميع الذين يشاطرونه الفكر من أعلام تيار المطالبة بإعادة النظر في عقائد الشيعة، ليس مطلق الشفاعة التي أثبتها القرآن الكريم، وإنما ذلك المفهوم الخاطئ للشفاعة الذي انتشر بين أكثر الشيعة والذي يصور أن الشيعي ببكائه على الحسين بن علي عليهما السلام وزيارته لقبره، وبحبه لعلي ÷ واعتقاده بولايته، ينال شيكًا على بياض لدخول الجنة بفضل شفاعة الأئمة له مهما ارتكب من كبائر الإثم والفواحش!! كما أن الذي يردّه «شريعت» ونظراؤه من دعاة الإصلاح الديني وتصحيح العقائد هو ما يفعله عامة الشيعة من استغاثتهم بالنبيص والأئمة والصالحين ودعائهم وطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات منهم بحجة شفاعتهم لمن يدعونهم عند الله كي يقضي لهم حاجاتهم ويكشف كرباتهم، فهم - أي الموحدون المصلحون - يرون أن هذا عين عمل أهل الجاهلية وعقيدتهم التي وصفها الحق عزَّ وجلَّ لنا بقوله: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبُِّٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾ [يونس/18]، ويقول الموحدون: إن الشفاعة لا تحصل بناء على طلب فلان وفلان بل تبدأ من الله الذي يأذن للنبي ومن يشاء من الصالحين يوم القيامة أن يشفع لمن يرتضيه الله تعالى، فالشفاعة لِـلَّه تعالى وحده أولاً وآخرًا، تبدأ منه وتنتهي إليه: ﴿قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٤٤﴾ [الزمر:44]، فهي تنطلق من الأعلى للأدنى وليس العكس، وبناءً عليه فلا معنى لطلبها من غير الله - لا الأنبياء ولا الأئمة ولا غيرهم - ولا يجوز ذلك، لأنهم أولاً لا علم لهم بما في صدور العباد وبحقيقة أعمالهم، فلا يملكون أن يشفعوا لفلان وفلان حسب طلبه!! بل الله تعالى وحده العليم بذات الصدور والخبير بأفعال العباد، وثانيًا: لأن الله تعالى وحده الحاضر الناظر في كل مكان يسمع دعاء الطالبين ومناجاتهم ولا تختلط عليه أصوات الداعين، ولا يملك أحد من الخلق - مهما علا شأنه وارتفع مقامه عند الله - أن يؤثِّر على الله ويحمله على تغيير حكمه بشأن إنسان أو إنقاذ من حق عليه من العذاب: ﴿أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩﴾؟ [الزمر:19].
وفيما يأتي موقف شريعت بشأن الشفاعة، كما جاء في كتاب تلميذه ومقرر دروسه الشيخ فريد تنكابني «اسلام و رجعت»، قال:
«كان اليهود مغترين بشفاعة أجدادهم ويعتقدون أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودات لذا كانوا يعرضون عن الالتزام بأحكام كتاب الله «التوراة». وبعبارة أخرى، كانوا يعتقدون أنهم – بفضل انتسابهم إلى يعقوب «إسرائيل» ÷ وكونهم من ذريته- أحباءُ الله وسينالون الشفاعة، فلذلك أخرجوا أنفسهم من الحدّ الوسط الواقع بين الخوف والرجاء وهو الحالة المعتدلة التي تحرّك الإنسان نحو كل كمال، وتعلّقوا بأماني محضة واتخذوا كتاب الله ظهريًّا وارتكبوا كل قبيح مسرورين بأن يعقوب أخذ عهدًا من الله أن لا يعذب ذريته إلا أيامًا معدودات: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ ٢٣ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٤﴾ [آل عمران: 23-24].
وكذلك فعل إخوتنا في الدين حيث آمنوا -كما نعلم جميعًا- بشفاعة بغير حساب للنبي والأئمة الكرام، وضحُّوا بالقرآن الكريم ومعظم أحكام الإسلام على مذبح محبَّة كاذبة لآل عليٍّ ومشاركة في مآتمهم التي معظمها رياء وتزوير، وقالوا بكل صراحة: إن كل ما بذله النبيُّ وعليٌّ وسائر رجال الإسلام العظام وتحملوه في سبيل نشر الإسلام حتى قضوا نحبهم في سبيل الله بطرق مفجعة: فهذا عليٌّ ÷ الذي ضُرب على رأسه بالسيف وسقط صريعًا في محراب العبادة وذاك الحسين ÷ قُتل في كربلاء وأُخذت نساؤه وأبناؤه وأطفاله أسرى دون ذنب ارتكبوه وغير ذلك من المصائب التي تحملها الأئمة الكرام في سبيل الدين، كل ذلك لم يكن إلا ليشفعوا للعصاة والمذنبين من شيعتهم؛ كل ذلك كان لأجل أن نتمكن نحن شيعة عليّ ÷ أن نرتكب كل قبيح ومنكر في الدنيا، ثم يأتي عليٌّ والأئمة يوم القيامة فيأخذوا بأيدينا نحو غرف الجنة الجميلة ويضعوننا في أحضان الحوريات الجميلات لا لشيء إلا لكوننا قد صرفنا شيئًا من أموالنا في الدنيا في طريق محبة آل عليّ أي خصَّصنا شهرين من كل سنة لإقامة مجالس عزاء الحسين ÷، مجالسَ لا تخلو من مفاسد أخلاقية واجتماعية، هذا على الرغم من وجود فقراء كثر حولنا لا يسمع أحد ضجيج نسائهم الجائعات وأطفالهم الحفاة، أو نقوم بزيارةٍ عبادية ظاهرًا –وللنزهة والتجارة باطنًا- مرَّةً كل بضع سنوات إلى مراقد الأئمة أو أبنائهم أو بناتهم في قم ومشهد والعراق!!
والخلاصة كما أن اليهود - عُبَّاد الدنيا والجاه- تمسكوا بمعنى خاطئ لا أساس له للشفاعة، وتعاملوا نتيجةً لذلك مع تعاليم كتاب الله وشريعتهم بكل استهتار، فإن جماعتنا وإخوتنا [أي الشيعة] استغلوا موضوع الشفاعة أسوأ استغلال وتعاملوا مع معظم تعاليم القرآن والإسلام ببرودة وقلّة اهتمام.
أيها القارئ العزيز! إن الذين لا يهتمُّون بأحكام وتشريعات الإسلام –سوى قلة معدودة يؤدونها بسبب العادة والتقليد- وينتهكون كل يوم حرمة شريعة الإسلام ويرتكبون المنكرات، الأشخاص الذين ابتعدوا عن رحمة الحق بسبب أخلاقهم السيئة وأعمالهم القبيحة، وسلبوا عن أنفسهم أهلية الغفران والعفو، وباختصار الأشخاص الذين لا يقدِّمون من عمل سوى إظهار الحب المزيف للنبيِّ الأكرمص والأئمة الكرام عليهم السلام لا يكسبون من ذلك سوى سَخَط هؤلاء الأطهار عنهم ونفورهم منهم، ويهيئون أنفسهم لعذاب الله الأليم، هل ممكن للنبي والأئمة أن يشفعوا لأمثالهم؟ هؤلاء الذين لا يوجد أي شبه أو تناسب بينهم وبين النبيص والأئمة في محكمة العدل الإلهية؟!
هل يُنال الفلاح والسعادة الأخروية بأشياء مادية كالمال والجاه والمنصب التي تُعطى للناس بواسطة النبي؟ هل يمكن أن نتصور أن الله العادل على الإطلاق والقائل في كتابه: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 7-8]، والقائل في موضع آخر: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا ٧٢﴾ [الإسراء: 72] أن يأذن بالشفاعة لمثل أولئك الناس؟!»[83].
ويعلق نور الدين چهاردهي على هذا الكلام قائلًا:
«لقد تكلَّم شريعت سنكلجي بشكل مفصَّل في منابره وخطبه عن موضوع الشفاعة، وردَّ الشفاعة بكل نحو من الأنحاء، والذي شاهدته هو أن شريعت لم يكن يذكر في ختام خطبه ودروسه مصيبة الأئمة الأطهار أبدًا. وفي هذا الموضوع طرح شريعت سنكلجي ثلاثة مباحث أساسية من عقائد الشيعة مع بعضها ورد خلال صفحات بحثه عن موضوع الشفاعة كلّاً من: إقامة مجالس عزاء شهادة الإمام الحسين بن علي، و[شد الرحال] لزيارة الأماكن المباركة»[84].
وأقول: العلاقة بين نفي الشفاعة ونفي مجالس العزاء الحسيني والتردُّد لزيارة قبور الأئمة ومشاهدهم، هي أن عامة الشيعة يعتقدون أن قيامهم بتلك الأمور الأخيرة تنيلهم حتمًا شفاعة الأئمة وتؤمِّن لهم غفران جميع الذنوب، مما يضمن لهم دخول جنات الخلود! لذا كان شريعت ينفي الشفاعة بهذه الأمور.
ويواصل الشيخ فريد تنكابني شرحه - الذي يعكس عقيدة شيخه شريعت - لحقيقة معنى الشفاعة - في آخر كتابه «اسلام ورجعت»، فيقول:
«وإذا وصل الكلام إلى هنا فمن المناسب أن نوضح باختصار معنى «الشفاعة» بقدر ما يسمح به علمي الضعيف:
كلمة «الشفاعة» مشتقة من «الشفيع» بمعنى القرين. فعندما يجد صاحب الحاجة نفسه وحيدًا فإنه يجعل الشخص الشفيع قرينه، أي عندما يجد أنه عاجز عن قضاء حاجته والوصول إلى مطلوبه وحده، فإنه يمدّ يد التوسّل إلى شخص آخر أي «الشفيع» ويطلب منه مساعدته. ويجب أن نعلم أن نوع شفاعة الشفيع ليس واحدًا في كل مكان، بل تتغير الشفاعة بتغير مورد الحاجة وكونه من الماديات أم من الأمور المعنوية.
فمثلاً التلميذ الفقير الذي يجعل معلمه شفيعًا وواسطة له لدى وزير المعارف لكي يؤمن له وسائل عيشه، تختلف طريقة شفاعة المعلم هنا عن شفاعته عندما يطلب منه أحد أن يتوسط له لدى الوزير ليرفع من مقامه ويرقيه إلى مقام علميّ أفضل، لأنه في الحالة الأولى تكون صورة الشفاعة أن يأخذ المعلم يد التلميذ ويذهب به إلى الوزير ويشرح له أوضاع هذا التلميذ وفقره ويلتمس منه مساعدته في تأمين مصاريف دراسته، أما في الحالة الثانية فلما كان طلب التلميذ يتعلّق بأمور مرتبطة بالروح، وبعبارة أوضح يتعلق بأشياء مرتبطة برقيّ النفس وتنتج عادة عن كمال النفس وباختصار يتعلّق بأمور هي من المقامات النفسية والروحية، فإن شفاعة المعلم في هذه الحالة هي أن يُذكِّرَ التلميذَ بوسائل الرقيِّ بالنفس ومزايا كمال الروح، وشروط أهلية الوصول إلى المقامات العلمية الرفيعة، وبعبارة أخرى أن يجعل التلميذ خاضعًا لتعليمه وتربيته ويعمله أن يأخذ بالأسباب ويتعلّم المزايا العلمية والأخلاقية التي توصله إلى المقام الذي يبحث عنه.
فالآن لو اتبع التلميذ معلّمه بشكل كامل ووضع نصب عينيه على الدوام نصائح وتعليمات معلّمه، وباختصار قَرَنَ روحَه بروح المعلم فإنه سينال أهلية الوصول إلى ذلك المقام الذي يهدف إليه، وعندئذٍ بمجرد أن يُطْلِع الوزيرَ العالمَ على هذا الأمر فإنَّه سيضعه في ذلك المنصب الذي يستحقه. وهنا يجب أن نقول إن المعلم شفع لذلك التلميذ لدى ذلك الوزير ودخل التلميذ في شفاعته، أما لو أن التلميذ أهمل تعليمات معلمه واستهتر في دراسته وأمضى أوقاته بالكسل والبطالة وبدلاً من ابتدائه باتباع أفعال معلمه واهتمامه بأقواله اكتفى بإبراز المحبة له وتوقع في الوقت ذاته أن يقوم الوزير بسبب وساطة المعلم له بمنحه مقام الأستاذية مثلاً، فلا شبهة أن مثل هذا التلميذ قد حرم نفسه بسوء صنيعه من شفاعة المعلم وبالتالي فلا يحق لمثل هذا التلميذ توقع شفاعة المعلم لإيصاله لذلك المنصب ولو توقع مثل ذلك فلا ينبغي أن يُعتبر من العقلاء.
والحاصل أن الشفاعة في الحالة الثانية لها قواعد ومبادئ، وهي في الحقيقة مثل الشجرة التي لها بذور وأغصان وأوراق وثمار، بذرها التعليم الذي زرعه المعلم في أعماق قلب التلميذ، وأغصانها وأوراقها وثمراتها هي المقامات العلمية التي كانت محط نظر التلميذ؛ فإذا قام التلميذ بسقاية تلك البذور العلمية والأخلاقية بأعماله، فلا شك أنه سيتمتع بثمارها في الوقت المطلوب، أي ستقوم روح المعلم أو روح التلميذ ذاته التي هي في الواقع من رشحات ومظاهر روح المعلم بإيصاله قهرًا إلى ذلك المقام العلمي المطلوب. وباختصار ستُدْخِلُ هذا التلميذَ في إطار المعلم وحريم شفاعته.
أيها القارئ المحترم! لا بد أنك أدركت من هذا المثال معنى شفاعة الأنبياء – المعلمون في مدرسة الإنسانية - وفهمت جيدًا أن شفاعتهم ليست عبثيّةً بل لها عدة أسس و مبادئ، ولها بذور وأغصان وأوراق وثمار؛ فبذرها تلك التعاليم التي جاء بها أولئك الأنبياء مربّو البشر، كل واحد منهم بدوره، وبذروها في قلوب الناس، فالذين ربوا تلك البذور في أعماق قلوبهم بعملهم طبقًا لتعليمات الأنبياء، فلا شك أنهم سيتمتعون في نهاية الأمر بشجرة ذات أغصان وأوراق وبالثمار الناتجة عن المشقات والأتعاب التي تحمّلوها في تربية تلك الشجرة وتنشئتها والتي تمثل الفلاح والنجاح، وسوف يعيشون بلا نهاية في ظلها الوارف.
والخلاصة، إن كل من قرن روحه في هذه الدنيا بأرواح الذوات المقدسة للنبي والأئمة الأطهار وسار على هديهم أي جعل القرآن وسنة النبي والأئمة وسيرتهم نبراس حياته وميزان أعماله فإنه سيصل إلى منزل السعادة الأبدية وفي النهاية سيدخل في حريم شفاعتهم ويحشر معهم:
﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١﴾ [آل عمران: 31]
وما جاء في الأحاديث المروية من طرق الشيعة والسنة أن «العلماء» أيضًا سيكونون من الشفعاء يؤيد جيدًا هذا المعنى ذاته، لأن العلماء هم في الحقيقة ورثة الأنبياء، إنهم أولئك الذين يعلّمون الناس ما تعلموه من أولئك المعلّمين الإلهيين، وما درسوه من كتاب الله وسنة النبيّ والأئمّة وسيرتهم، وفي النهاية يبذرون بدورهم بذر الشفاعة في قلوب أفراد البشر، فكلّ مَن اتّبع أولئك العلماء وباتّباعهم اتّبع في الحقيقة النبيَّ وعمل بأقواله، وفي النهاية قرن روحه بأرواحهم فلا شك أنه سيدخل في الآخرة في دائرة شفاعتهم ويحشر في زمرتهم.
فهذا معنى شفاعة الأنبياء والأولياء، وهذه هي الشفاعة التي تدفع الإنسان دائمًا إلى العمل والجدّ والاستكثار من الخيرات، بدلاً من جعل الإنسان يتكل على غيره في أمور الدِّين ويستهتر بتعاليمه ويتكاسل في تطبيق شرائعه، وهذه هي الشفاعة التي تجعل الإنسان يعيش دائمًا بين الخوف والرجاء وهو الشعور الوحيد المؤثّر في دفع الإنسان نحو السعي والعمل، وتجعله ينظر بعين الإجلال والتعظيم لشعائر الله وأوامره واحترام أحكامه، وبالنتيجة يرى نفسه أصغر من أن يمكنه يخطو خطوة في طريق معارضتها ومخالفتها، بدلاً من أن يعيش على الأماني الفارغة التي تغريه بالتساهل في انتهاك نواميس الشرع وبارتكاب المعاصي.
وباختصار هذا هو فقط معنى الشفاعة التي توجب سعادة الدنيا والآخرة للمسلم، وليس قيام النبي والأئمة وجماعة آخرين في الآخرة بالشفاعة لأناس لا لشيء إلا لأنهم كانوا يظهرون محبتهم لهم ولكن في الوقت ذاته يستهترون بجميع أحكام دينهم ويعرِّضون أنفسهم لنار جهنم التي ستكون ملازمة لهم لا تنفك عنهم نتيجة عصيانهم اللهَ ورسولَه وتعدِّيهم حدودَه، فينقذونهم من هذا العذاب ويأخذونهم إلى جنات الرضوان التي لا ينالها إلا من اتبع الله ورسوله، لأنه كما قلنا مرارًا إن السعادة والشقاء الأخرويين –طبقًا لحكم الشرع والعقل ونصوص القرآن الكريم الصريحة- رهينان بأعمال الإنسان:
﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس:54]
﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧﴾ [غافر:17] فذلك اليوم تُجزى فيه كل نفس بما اكتسبته وبما عملته، فتنال فيه جزاءَها الذي تستحقه بالضبط، ولا ظلم اليوم: أي لا تُظلم نفس شيئًا فلا يُنقص من ثواب أحد شيئًا ولا يُعاقب شخصٌ زيادةً على ما يستحق»[85].
بهذا البيان الممتاز المفصَّل أعتقد أن وجهة نظر الشيخ «شريعت سنكلجي» وتلميذه ومقرر دروسه الشيخ تنكابني حول حقيقة الشفاعة أصبحت واضحة تمامًا.
[82] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1019 - 1020. [83] عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، النسخة الفارسية الأصلية المُعاد تنضيدها والمنشورة في موقع «كتابخانه عقيده»: http://www.aqeedeh.com ، ص 244-246. [84] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 188. [85] عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، ص 246-249.
بادئ ذي بدء ينبغي أن نعرف ما هي عقيدة الرجعة التي يؤمن بها الشيعة الإمامية. يقول الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1383 هـ .ق/ 1964م) في كتابه «عقائد الإمامية» تحت عنوان: «عقيدتنا في الرجعة» ما نصه:
«إنّ الذي تذهب إليه الإمامية - أخذًا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام - أنّ الله تعالى يعيد قومًا من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقًا ويذلّ فريقًا آخر، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. ولا يرجع إلاّ من علت درجته في الإيمان، أو مَن بلغ الغاية من الفساد، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنّي هؤلاء المرتجعين - الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله - أن يخرجوا ثالثًا لعلّهم يصلحون: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ؟﴾ [سوره غافر: 11]. نعم، قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتضافرت بها الأخبار عن بيت العصمة، والإمامية بأجمعها عليه، إلاّ قليلون منهم تأوَّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الإمام المنتظر، من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى»[86].
إذا عرفنا ذلك، نقول: كان شريعت سنكلجي يعتبر «الرجعة» من عقائد غلاة الشيعة[87]، وقد فنَّد هذه العقيدة في خطبه ودروسه وأتى على بنيانها من القواعد، كما ذكر ذلك تلميذه عبد الوهاب فريد تنكابني في كتابه «اسلام و رجعت» [الإسلام والرجعة] الذي ألفه في ردّ تلك العقيدة الخرافية مستفيدًا من بيانات شيخه «شريعت» ودروسه حول هذا الموضوع. يقول الشيخ تنكابني في مقدمة كتابه «اسلام و رجعت»:
«ورغم أن المصلح المعظَّم والعلامة المحترم الشيخ «شريعت سنكلجي» نهض منذ سنوات طويلة بإيمان كامل وعزم راسخ إلى شرح حقائق الإسلام وتوضيحها، وإزالة الخرافات والأوهام، وأبْطَلَ منذ مدَّة مديدة، في مدرسته «دار التبليغ»، عقيدةَ «الرَّجْعَة» ببيانات رائعة وجميلة وأتى عليها من جذورها، إلا أنَّني لمّا لاحظتُ أن هذا المطلب لم يتَّضح بعد، وأُسيء فهمه بشكل كامل بل أثّر على جماعات تأثيرًا سلبيًّا، خلافًا لما كان متوقَّعًا، إذْ جعل تلك العقيدة ترسخ فيهم أكثر من قبل! ومن الجهة الأخرى فإن بعض الأشخاص المهووسين الذين يصطادون في الماء العكر، والمنتسبين إلى أطراف نعلمها جميعًا قاموا بنشر هذه العقيدة (أي عقيدة الرجعة) التي كانت منذ زمن بعيد مستورةً ضمن مجموعة من الكتب القديمة التي يعلوها الغبار، وطرحوها بين جماهير العامة على أساس أنها من المباني المتقنة للإسلام ومن مقومات فرقة «الإمامية»!، وباختصار لمّا رأيت أن الإسلام قد أُلبِس هذا اللباس المخجل الذي جعل إخوتنا المصريين الأعزّاء وأبناء البلدان الإسلامية الأخرى يهاجموننا نحن «الإمامية» بسبب هذه العقيدة وبسبب مقولات «الغُلاة» الأخرى، أردتُ أن أوضح أن الإمامية براء ومنزهون من هذه المقولة ولذلك اهتممتُ بهذه العقيدة أكثر من غيرها من مقالات «الغُلاة» وصرفتُ مدة في دراستها ودراسة أطرافها بشكل عميق وخرجتُ بهذا الكتاب طبقًا لما سمح به فكري الضعيف، ووضعته أمام إخوتي في الإيمان ليطالعوه»[88].
هذا ويذهب الكاتب نور الدين چهاردهي، في كتابه «وهابيت وريشههاى آن» [الوهابية وجذورها] إلى أن كتاب «اسلام ورجعت» هو في الواقع من تأليف الشيخ «شريعت سنكلجي» نفسه، ويستدل على ذلك بعدة أمور، منها أنه سأل زملاء دراسة الشيخ فريد تنكابني عندما كان طالبًا للعلوم الدينية في الحوزة العلمية في قم زمن مرجعية آيت الله الحائري، عن رأيهم في كونه هو مؤلف ذلك الكتاب، فقالوا: إن تنكابني لم يكن على ذلك الحد من العلم الذي يجعله قادرًا على تأليف مثل ذلك الكتاب. والدليل الآخر - في رأي نور الدين چهاردهي - أن أساليب الاستدلال وإقامة البراهين وطريقة الكلام المتبعة في كتاب «اسلام ورجعت» تدل على أنه من تأليف شريعت سنكلجي نفسه. ودليله الثالث أنه رأى في أيام شبابه نسخةً مطبوعةً من كتاب «اسلام ورجعت» وعلى غلافها الخلفي كتب شريعت إهداءه الكتابَ لـ«علي مدرّس» أحد علماء طهران المعروفين في حينه، وقال نور الدين چهاردهي: لا يمكن أن يكون الكتاب من مؤلفات أحد تلاميذ شريعت ثم يقوم بإهدائه إلى أحد العلماء، ولو كان من تأليف فريد تنكابني لذكر شريعت ذلك في إهدائه. وأخيرًا استدل نور الدين چهاردهي بأن كتاب «اسلام ورجعت» لو كان قد نُشِرَ دون ذكر لاسم مؤلفه، لَـحَكَمَ كلُّ من كانت له معرفةٌ بأسلوب كلام شريعت ومؤلفاته بأن الكتاب من تأليفه، لاسيما أن أهم آراء شريعت موجودة في هذا الكتاب.
لكن نور الدين چهاردهي استدرك في نهاية كلامه وقال: يُحْتَمَل احتمالاً ضعيفًا أن يكون فريد تنكابني قد دوَّن تقريرات أستاذه شريعت وأنه عرض الكتاب عليه فقام شريعت بتحريره وكتابة بعض الإضافات عليه، ثم نشره الشيخ فريد تنكابني - الذي كان يسكن في منطقة رامسر شمال طهران - باسمه[89].
وأقول: إن ما ذكره تنكابني في مقدمة كتاب «اسلام و رجعت»، التي أوردتُ جزءًا منها أعلاه، ينفي أن يكون شريعت هو الذي ألف الكتاب بقلمه، لأن تنكابني صرح بوضوح أنه كتب هذا الكتاب ليلقي مزيدًا من الضوء على الدلائل على نفي الرجعة، التي ذكرها أستاذه «شريعت» وبيَّنها في دروسه وخطبه المنبرية لكنها لم تكن كافية لاتِّضاح حقيقة المسألة في أذهان الناس بل أساء بعضهم فهم كلامه، فأراد تنكابني أن يعطي المسألة حقها من البحث والاستدلال ويزيدها توضيحًا فألف هذا الكتاب، وليس هناك أي دليل يدعونا إلى عدم تصديق كلام تنكابني هذا أو نسبة الكذب إليه!
وعلى كل حال، يقول الكاتب نور الدين چهاردهي حول الأثر الذي تركه كتاب «اسلام و رجعت» والضجة التي أثارها في أوساط علماء الشيعة التقليديين:
«أثار كتاب بعنوان «الرجعة» نُشر مِنْ قِبَل شريعت سنكلجي، ضجَّةً ولغطًا كبيرًا. حتى ذلك الزمن كان العلماء قد بقوا على الحياد ولزموا الصمت تجاه نظريات شريعت وآرائه وأقواله وكتاباته وطريقته في الدعوة والتبليغ وتنظيم الدروس؛ لكن شريعت شرح في دروسه وبيَّن في خطبه المنبرية المختلفة كل المباحث التي جاءت فيما بعد في كتاب «الرجعة»...... فأثار سخط العلماء عليه، وبلغ السخط ذروته [بصدور هذا الكتاب] مما حدى بتوجيه سؤال رسمي إلى مرجع التقليد الأعلى للشيعة الإمامية في ذلك العصر آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري حول الموضوع، فأجاب بأنه يؤمن بالرجعة، ولكنه لم يكفِّر شريعت سنكلجي الذي أنكرها، لأنه لو أصدر حكمه بتكفير منكر الرجعة لأدى إلى تشدُّد أتباع «شريعت» ولجاجهم في أفكارهم، ولأدى ذلك إلى نشأة مذهب جديد يُضاف إلى المذاهب الإسلامية، وذلك لأن أكثر الضباط والموظفين والمسؤولين الكبار في الدولة والشعراء والكُتَّاب ومدراء تحرير الصحف والشباب الجامعي المثقف كانت قلوبهم قد تعلّقت بشريعت وشُغِفوا بأفكاره، كما ذكرنا ذلك سابقًا.....»[90].
هذا وقد أورد المؤرخ المعاصر رسول جعفريان نص ذلك الاستفتاء الذي طرحه - على حد قوله - أحد طلاب العلوم الدينية المثقفين المتنورين في ذلك الحين وربما كان الهدف منه الدفاع عن شريعت سنكلجي، ونصّ إجابة آية الله الحائري عنه (نقلًا عن مجلة همايون، العدد الخامس الصادر في شهر بهمن سنة 1313 هـ.ش/شوال 1353هـ.ق، ص 2)، كما يلي:
[السؤال: إلى المحضر المبارك لحضرة آية الله الحائري - مُدَّ ظِلُّه العالي-: عذرًا لتصديعي رأسكم، أحتاج إلى سؤالكم حول موضوع «الرجعة الجسمانية» المذكورة في الطريقة الإمامية الشريفة والمذهب الجعفري المُقدَّس. ما هي عقيدتكم في ذلك وما هو الذي يستنبط من الكتاب والسنة في هذا الصدد؟
الجواب: «بسم الله الرحمن الرحيم، يعتقد هذا الأحقر بالرجعة على نحو الإجمال نظرًا إلى كثرة الأخبار الواردة بشأنها، ولكن هذا الأمر ليس لا من أصول الدين ولا من أصول المذهب، ولو فرضنا أن شخصًا لم يعتقد بالرجعة فلا يُعَدُّ بسبب ذلك خارجًا عن الدين أو عن المذهب، كما أن الرجعة ليست من المسائل العلمية التي يجب على الأفراد المكلفين أن يكتسبوا العلم بها اجتهادًا أو تقليدًا. وفي مثل هذا الزمن لا بد من حفظ دين الناس بنحو آخر، والبحث والنقاش في مثل هذه الموضوعات لا يفيد سوى في تفرقة كلمة المسلمين وإيجاد عداوة مضرة بينهم».
الأحقر عبد الكريم الحائري. موضع خاتمه المبارك.][91].
وأضاف المؤرخ رسول جعفريان أن طرح الأسئلة والشبهات حول الرجعة، كان سببًا في تأليف كتب عديدة حول هذا الموضوع في عشرينيات القرن الحالي[92] مِنْ قِبَلِ بعض علماء الشيعة. منها على سبيل المثال: كتاب «بيدارى امت در اثبات رجعت» [إيقاظ الأمة في إثبات الرجعة]، تأليف آية الله السيد محمد مهدي الأصفهاني، ترجمة أبو القاسم سحاب، طهران، 1331 هـ.ش. وكتاب «بيان الفرقان (ج 5)، الغيبة والرجعة»، تأليف الحاج الشيخ مجتبى القزويني، مشهد، 1339 هـ.ش. وكتاب «اثبات رجعت» [أي إثبات الرجعة]، للسيد أبي الحسن الحسيني القزويني، 1369 هـ.ق.[93].
[86] الشيخ محمّد رضا المظفر، عقائد الإمامية، الطبعة الثانية، ص 94 - 95. [87] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1020. [88] عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، ص 7 - 8. ويذكر الباحث سيد مقداد نبوي رضوي - (نقلاً عن كتاب «تذكره عرفاء» للسيد عبد الحجت البلاغي، ص 259) - أن تاريخ كتابة هذه المقدمة هو 1355 هـ.ق؛ أما زمان طبع الكتاب فهو 1358 هـ.ق (1318 هـ.ش). [89] انظر: نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 175 - 176. [90] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 174 - 175. [91] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1017. [92] أي عشرينيات القرن الرابع عشر الهجري الشمسي (ويوافق أربعينيات القرن العشرين الميلادي المنصرم). [93] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1018. وقال: انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج 5، ص 290؛ ج 8، ص 50 و250؛ ج 11، ص 9 و 75 و 112 و 310؛ ج 12، ص 210؛ ج 18، ص 32 و 305؛ ج 24، ص 68. وقال: ومعظم هذه المؤلفات طبعت في الفترة الزمنية بين 1315 إلى 1323 هـ.ش. [يطابق: 1355 - 1363 هـ.ق.].
من مؤلفات «شريعت» التي كتبها قبل وفاته كتاب بعنوان «محو الموهوم» صدرت أول طبعة له في الشهر الثاني من عام 1323 هـ.ش (الموافق لعام 1363 هـ.ق / 1944م)، أي بعد سنة من وفاته، حيث قام أحد مريدي الشيخ سنكلجي وتلامذته المقربين وهو «حسينقلي مستعان» بطباعة الكتاب ونشره.
في تقديمه للكتاب، كَتَبَ حسينقُلي مستعان عن أهميته قائلًا:
«لقد أبطلت محتويات هذا الكتاب بكل صراحة عددًا من الخرافات والأوهام التي زرعها المُفَسِّرُون وعلماء الدين الجهلة المتظاهرون بالعلم، والكُتَّاب والخطباء الجهلة أو المغرضون في أعماق أذهان عوام الناس وقلوبهم منذ قرون عديدة»[94].
في الحقيقة أن هذا الكتاب من الكتب العلمية البديعة الذي يبين قرآنية الشيخ شريعت وحريته الفكرية واستقلاله عن تقليد الآباء والأجداد، وجرأته في الصدع بكل ما يرى صوابه مهما خالف المشهور الذي تعارف عليه المسلمون منذ عهود.
[94] تقديم حسينقلي مستعان على كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، ص 3.
التقليد الأعمى من أهم العوائق التي تحول بين الإنسان وبين العلم والتعقُّل والهداية.
هذا ما يشرحه «شريعت» بالتفصيل في كتابه «كليد فهم قرآن» (مفتاح فهم القرآن)، حيث يعقد فصلاً خاصًّا بعنوان: «التقليد أول مانع من موانع التعقُّل» يبدؤه بالاستشهاد بالآيتين التاليتين اللتين تذمان تقليد الآباء والأجداد:
- قال تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ ٢٣﴾ [زخرف: 23]
- وقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ ١٧٠﴾ [البقرة:170].
ثم يشرع بتحليل آفة التقليد مبيِّنًا منشأها والعوامل التي تساعد عليها وأضرارها. ثم يقول تحت فقرة بعنوان «معالجة القرآن لمرض التقليد»:
«العلاج الحاسم للتقليد هو العلم والمعرفة، لأن الشخص الجاهل وغير المتعلم يقتصر دائمًا على سماع الأساطير والقصص والخرافات من الشيوخ وكبار السن، الذين يقومون بنقل ما سمعوه من آبائهم إلى الأبناء؛ فالأمية والجهل رفيقان للتقليد ومؤيدان للخرافات، وعلى العكس من ذلك فإن العلم والمعرفة عدوَّان للتقاليد وغذاءان للروح والبصيرة، فكما أن الجسم ينمو بالأغذية المادية ويقوى بها، كذلك الروح تَقْوَى بالنظريات العلمية، والعقل يقوى بالمعلومات ويصل إلى كماله اللائق به، فالشخص العالم يُكَسِّـر بفضل علمه قيود الخرافات وأغلالها ويرمي عن كاهله حمل التقاليد فلا تحركه كل ريح، ولا يتْبَعُ كلَّ ناعق.
ومن هنا حرَّم مستعبدو البشر من الكهنة وأرباب الكنيسة العلمَ على الناس وحكموا بنجاسته، كما يقول «لاروس» في دائرة المعارف إن رجال الكنيسة كانوا يقولون إن الشجرة الملعونة التي حرَّم الله ثمرتها على بني آدم هي العلم!»[95]
بعد ذلك يبين «شريعت»: «أن القرآن الكريم الذي نزل على الرسول الأكرم ص لأجل شفاء الأمراض الأخلاقية والاجتماعية دعا الخلائق إلى العلم وأنزل آيات عديدة في فضله كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْ﴾ [فاطر:28]، وقوله سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق:1-5]، وقوله عز من قائل: ﴿وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗا﴾ [البقرة:269]، وقوله تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الزمر:9]. وقوله أيضًا: ﴿هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ﴾ [الأنعام:50]. فكما أنه لا يوجد أي تناسب بين الخبيث و الطيب و بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور وبين الظل والحرور فكذلك لا توجد أي نسبة بين العالم والجاهل. وقال سبحانه: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ﴾ [المجادلة:11]»[96].
وتحت فقرة تالية بعنوان: «الأخبار الواردة في فضيلة العـلم»، يذكر «شريعت» عددًا من الأحاديث النبوية في فضل العلم. ومن الملفت للنظر أن كل الأحاديث التي يوردها مروية عن الرسول الأكرم ص ومنسوبة إليه فقط، ولم يذكر شيئًا من الروايات عن الصادق أو الباقر أو غيرهما من الأئمة عليهم السلام ، خلافًا لعادة علماء الشيعة من خلْطهم بين أحاديث الأئمة من آل الرسول بأحاديث رسول الله ص كما هو معروف. وأعتقد أن هذا الأمر ليس صدفة بل له دلالاته. والله أعلم.
وأخيرًا يختم «شريعت» هذه الفقرة بقوله:
«ينذر القرآن الذين يتكاسلون عن طلب العلم ويعرضون عن تحصيله بسوء المنقلب والطبع على قلوبهم وأن ذلك عاقبته سوء العذاب فيقول: ﴿وَلَئِن جِئۡتَهُم بَِٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ ٥٨ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٥٩﴾ [الروم:58-59]. بمثل هذه الآيات فتح الله أبواب العلم الحقيقي أمام عقول البشر و جعل العلم أعظم ما يمكن أن يُعْبَدَ به خالق العالم، وقد ورد عن النبيّ الأكرم ص قوله: «أفضل العبادة طلب العلم»[97]....»[98].
وفي الفقرة التالية التي عنوانها: «من موانع التفكير: طاعة السادة والكبراء واتباع الأحبار والرهبان» يشرح «شريعت» هذا المانع الثاني من موانع التعقُّل مبتدئًا بالاستشهاد بآيتين هما قوله تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة:31]، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧﴾ [الأحزاب: 67]، ويقول بعد ذلك:
«إن أسوأ وسيلة استخدمها من سعوا إلى إذلال البشـر ليتمكنوا من السيطرة والسيادة عليهم ومن راموا حرمان البشر من حقوقهم الطبيعية وسلبهم خصائصهم الفطرية وكمالاتهم الإنسانية ليجعلوا هذه الحقوق والخصائص تحت تصـرفهم يوجهونها حيثما شاؤوا ويشكلونها كيفما أرادوا بما يوافق هواهم وكبرياءهم، هي وسيلة: «اعتقد وأنت أعمى» أي حمل الناس على الاعتقاد الأعمى والاتباع دون تفكير، بحيث أنه بمجرد أن تنقدح في ذهن الناس بارقة التفكير، وكلمة لماذا؟ والسؤال عن سبب هذا الشيء أو لماذا ينبغي أن تكون هذه المسألة على هذا النحو أو ذاك النحو؟ يُرموا بالكفر والخروج عن الدين ويصبحون طعمة للنيران! لقد كان أولئك العابدين لأهوائهم، والجبابرة والمفسدين في الأرض ومهلكي الحرث والنسل رجال الدين من الكهنة والأحبار والرهبان.
لقد ادعى أولئك الذئاب المضلين للبشر لأنفسهم حق الولاية والقوامة على نوع البشر حتى أنهم كانوا يأخذون أطفال الناس ويربونهم على أوهامهم وآرائهم ويزرعون في أذهانهم أن السعادة والشقاء الأبديين موكولان إلى إرادتهم ومرتبطان بمشيئتهم حتى ادَّعَوْا أنهم شفعاء الخلق عند الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71].
هكذا حقنوا أذهان الناس وربوهم على فكرة أن ليس لديكم روح ولا وجدان مستقل إلا أن تطيعوا أحباركم طاعة عمياء وأن تتعلموا الدين منا تعبُّدًا بلا دليل. وقد نفذت هذه السنة السيئة في أعماق نفوس العامة حتى أصبحوا يقلِّدون كبارهم وأحبارهم تقليدًا أعمى ويطيعونهم في كلِّ شيء دون أن يكون لهم من أنفسهم أي رأي أو تفكير. فتقولب الناس وتشكَّلوا طبقًا للقالب الذي صبَّهم فيه قطّاع طريق الإنسانية أولئك، وانغمس الناس في عبادة الكهنة والدجالين حتى أنه كلَّما ناداهم وجدانهم ودعاهم إلى البحث في أمر من الأمور والتحقيق في عقيدة من العقائد، هتف بهم هاتف التقليد يقول: أيها المتفكر! لا حق لك في التفكير لأنك لا تملك القدرة على التمييز بين الحق والباطل فليس أمامك سوى الطاعة بلا دليل.
ولهذا فإن حرية النفس وما يبتني عليها إنما تنشأ من حرية المدارك التي تربِّي الملكات الفاضلة. ونحن نرى اليوم أن علماء السوء لا زالوا يمارسون تلك الدعوة القديمة على نحو شديد ويقولون للناس إن الدين تعبُّدٌ محضٌ ولابدَّ فيه من التقليد الأعمى! ومن ذلك زرع جهلة المتصوفة في نفوس مريديهم أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه «كالميت بين يدي الغسال»، وأن «مقام المريد عدم الإرادة» وأن المريد إذا لم يفقد الإرادة ولم يستحضر المرشد في الذكر والعبادة ويطيع شيخه طاعة عمياء لن يصل إلى الكمال.
لقد سلبت هذه التعاليم القبيحة من الإنسان حرية نفسه وأخضعت البشر لكل دجال، ومنعت العقل من التفكير والبحث عن الحقائق والتحقيق فيها»[99].
ويخلص في نهاية هذا المبحث إلى القول:
«ولا ريب أن المضلِّين إنما يدينون في رئاستهم وسيادتهم ومنافعهم إلى جهل المجتمع وعدم رشد الناس، لذا فهم يحرصون على إبقاء الناس في الأوهام المختلفة ومنعهم عن التعقُّل والتفكير، كي يستطيعوا الوصول بسهولة إلى أهدافهم البشعة ويحققوا مآربهم الخبيثة، لذا يصرّحون بأن لا حقّ للعقل في تأمّل ما يقوله هؤلاء السادة والكبراء، وإذا قام أحد الناس بالتعقُّل والتفكُّر رموه بالإلحاد والخروج عن الدين، وقالوا الدين هو التعبُّد المحض ولا مجال فيه للتعقُّل»[100].
ولا يخفى أنه بهذا ينسف فكرة التقليد والمرجعية التي يروجها جمهور العلماء التقليديين الشيعة والتي تقول: إن الإنسان إما أن يكون مجتهدًا فلا يُقلِّد، أو عاميًّا فتكليفه هو التقليد المحض للمراجع المجتهدين لا غير، وهي الفكرة التي تقف دائمًا حجة عثرة أمام اهتداء العوام إلى الحق في كثير من المسائل وتسبِّب بقاءهم في ضلالاتهم. مع أن الإمام الهمام عليًّا ÷ يقول: «النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ...»[101]. فلم يقل: الناس إما عالم أو مقلِّد! بل قال: إما عالم أو متعلم وإلا فهم همج رعاع.
[95] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن، [مفتاح فهم القرآن مع براهين القرآن]، طهران، مؤسسة انتشارات دانش، الطبعة الخامسة، ص 162 - 165. [96] انظر المصدر نفسه، ص 166 - 168. [97] رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة، انظر كنز العمال، ح (28821). ولم أجده بهذا اللفظ في أي مصدر شيعي للحديث، والوارد في كتاب «بحار الأنوار» للمجلسي: «وَطَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾». [98] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن [مفتاح فهم القرآن]، ص 170 - 171. [99] المصدر نفسه، ص 174 - 175. [100] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن [مفتاح فهم القرآن]، ص 179 - 180. [101] نهج البلاغة، بتحقيق الشيخ صبحي الصالح، ص 496؛ إبراهيم بن محمد الثقفي (ت 283هـ.ق)، الغارات، ج 1، ص 89. وفي مصادر أهل السنة: الحافظ ابن عساكر الدمشقي من عدَّة طرق، تاريخ مدينة دمشق، ج 50، ص 252 - 255؛ والحافظ أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج 1، ص 79 - 80؛ وعبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي، صفوة الصفوة، ج1 ، ص 127.
يُعَدُّ كتاب «توحيد عبادت» (توحيد العبادة) أشهر الكتب التي ألفها شريعت وعُرِفَ بها، وقد طُبِع في حياته مرتين على الأقل، بدليل تقديمه للطبعة الثانية بتاريخ: 1362هـ.ق، أي قبل وفاته بعام، ثم أعيدت طباعة الكتاب بعد وفاته عدّة مرات أيضًا.
يعالج «شريعت» في كتابه هذا ما انتشر واستشرى لدى عوام المسلمين من أعمال شركية يرى أنها تتناقض تناقضًا صارخًا مع توحيد العبادة الذي يقرون به بألسنتهم، فينتقد كثيرًا من العقائد والممارسات التي أصبحت رائجة بين المسلمين لاسيما بين عوام قومه ومواطنيه من الشيعة الإمامية عند مراقد أئمة أهل البيت عليهم السلام وذراريهم من حجٍّ إلى مشاهدهم والسجود عند عتباتهم والصلاة إلى قبورهم والطواف حول أضرحتهم داعين أصحابها لكشف الكُربات وقضاء الحاجات ناذرين لهم النذور أو ذابحين باسمهم القرابين، متذرِّعين بأنهم إنما يفعلون ذلك ليشفع لهم صاحب القبر عند الله، بل إن بعضهم يرى أن للولي والصالح قدرة على فعل الخوارق والتصرف في الكون بذاته بعد وفاته، كما ينقد توسل العوام بالأحجار والأشجار واعتقادهم بالتنجيم والخرافات وتطيرهم وتعليقهم التمائم التي يتوكلون عليها ويعتقدون التأثير فيها، فيعقد لكل من هذه الأعمال فصلاً يبين فيها أنها أعمال شركية تتنافى مع توحيد العبادة الذي هو أساس الإسلام، ويأتي على ذلك بالأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية.
بدأ «شريعت» كتابه بحديث «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيْبًا وَسَيَعُودُ غَرِيْبًا كَمَـا بَدَأَ....» [102]. فشرح الحديث مبينًا دلالته على غربة الإسلام وأنها نفس الغربة التي ألقت بظلالها على المسلمين في العصور المتأخرة، ولخّص معالم هذه الغربة بإعراض المسلمين عن توحيد الله تعالى، لاسيما «توحيد العبادة» الذي هو - كما قال - قطب رحى القرآن، وعدم إفرادهم الله تعالى بالعبادة، مُبْدِيًا شدة أسفه على تخلي المسلمين عن حقائق دينهم وقبولهم للخرافات والبدع الباطلة إلى درجة صارت فيها أسواق التوحيد كاسدة ومتاجر الشرك مكتظة، الأمر الذي دفعه لتأليف هذا الكتاب.
الجزء الأول من الكتاب: حقائق حول توحيد العبادة
تحدث «شريعت» في هذا الجزء عن مقدمات في توحيد العبادة وهي ضرورة الإيمان بأن القرآن حق لا يأتيه الباطل، وأن الغاية التي بُعث بها الأنبياء -كما في القرآن- دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة وترك عبادة من سواه، كما بيَّن «شريعت» أن التوحيد نوعان هما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة. أو التوحيد العلمي القولي والتوحيد العملي الإرادي. ثم وضّح «شريعت» معنى العبادة وأن أكمل المراتب التي يصل إلى الإنسان هي مرتبة العبودية، وأن عبادة الله واجب لا يسقط إلا بالموت، ثم تحدث «شريعت» عن اختلاف العلماء في أفضل مراتب العبادة وبيّن أن أحسن الأقوال هو أن أفضلها ما كان خالصًا لِـلَّه وكان موافقًا لمقتضى حال كل شخص.
الجزء الثاني من الكتاب: الشرك وأنواعه
تحدث «شريعت» في هذا الجزء عن الشرك، فبين أنه قسمان: الأكبر وهو عند المؤلف شرك التسوية بين الخالق والمخلوق من كل وجه، والأصغر وهو صرف شيء من خصائص الله لغيره، ثم بدأ بشرح نماذج وأنواع من الشرك الذي وقع فيه العوام ومنها: الاعتقاد بالتأثير الغيبي للحِلَقة والخواتم والخيط وأمثالها ولبسها لأجل رفع البلاء ودفع الأخطار، ومثل التبرُّك بشجرةٍ أو حَجَرٍ ونحوها.
ثم عقد فصلاً لبيان أن من أنواع الشرك: الذَّبح وتقديم القرابين لِغَـيْرِ الله، وفصلاً لبيان أن من الشرك أيضًا: النذر لغـير الله تعالى والاستغاثة بغـيره ودعاء أي كائنٍ سواه. واستدل على ذلك كلّه بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث مروية في كتب الفريقين عن النبي ص. والمُلْفِت أنه يستشهد بكثير من الأحاديث الواردة في مصادر أهل السنة، (كما يستدل بالأحاديث الواردة في مصادر الشيعة أيضًا).
ثم عقد «شريعت» فصلاً لبيان أن من الأنواع الأخرى للشرك: «التنجيم» وفصلاً في معنى التنجيم وأنه يتضمن الاعتقاد بتأثير النجوم مما يخالف التوحيد، وهنا استطرد المؤلِّف فبيّن مذاهب الصابئة ومناظرة إبراهيم الخليل ÷ لهم.
بعد ذلك عقد «شريعت» فصلاً في بيان أن من أنواع الشرك الأصغر: التطيُّر والتشاؤم، وضرب أمثلة على ذلك ثم أوضح منهج الإسلام في الحث على التفاؤل.
ثم عقد فصلاً آخر - يشكل أهم موضوعات الكتاب - في بيان أن سبب كفر بني آدم وابتعادهم عن دينهم هو الغلوّ في الأنبياء والصالحين، فشرح حقيقة الواسطة بين الحقِّ والخَلْقِ التي زل في فهمهما كثير من الخَلْق، وأوضح حقائق مهمة حول التوسل والوسيلة بين العبد وربه.
ثم تحدث «شريعت» عن أحد أنواع الشرك الأصغر وهو الرياء، ثم عاد إلى موضوع الشفاعة فعرفها وذكر أنواعها في القرآن، وشروط حصول العبد على شفاعة الشافعين، وأخطاء الناس في التعامل مع الأسباب، وأوضح في هذا الصدد معنى السببية وحقيقتها وخطأ الناس في الأسباب وعدم انتباه المشركين إلى مسبب الأسباب، لينتهي بعد ذلك إلى فصل بين فيه كيفية ظهور عبادة الأوثان بين البشر، وأن ذلك كان بسبب عبادة الأموات وأنه لهذا السبب وضع الإسلام أحكامًا لحفظ التوحيد وسد الطرق التي قد توصل الناس إلى عبادة القبور لأنها كانت السبب في نشأة الشرك من عبادة الأحجار والأشجار، وأشار في هذا المجال إلى تحريم الإسلام لصنع التماثيل والمجسّمات حمايةً للتوحيد وسدًّا لذرائع عبادة الأوثان.
وأخيرًا عقد «شريعت» فصلاً بيَّن فيه أن التوحيد مبدأ الفضائل كلها، وفصلاً آخر بيَّن فيه سبب نشأة الشرك والخرافات بين المسلمين، وبين أن المسلمين اليوم ابتعدوا كثيرًا عن جوهر التوحيد ولم يعد بينهم وبين سائر الملل فرق كبير، ودعا إلى العودة إلى التوحيد الخالص والنقي من خلال نبذ الخرافات وترك تقليد الآباء والعودة إلى التمسك بحبل الله المتين القرآن المبين، وسنة خاتم النبيين ص.
[102] عن أبي بصير عن الصادق ÷ قال: «الإِسْلاَمُ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَـا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». (انظر: بحار الأنوار ج13ص194). ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف أن رسول الله ص قال: «إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي». (جامع الترمذي/كتاب الإيمان، ح2630). ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، ح145، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ص: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
في نهاية الكتاب ذكر «شريعت» قائمةً بمراجعه التي استفاد منها في تأليفه وهي 57 مرجعًا، والملفت أن أغلبها (حوالي الثلثين منها) من مراجع أهل السنة وتفاسيرهم (كتفاسير الطبري وابن كثير والفخر الرازي والبيضاوي والآلوسي.. الخ) أو كتبهم في العقائد (كالفَرْق بين الفِرَق للبغدادي والملل والنحل للشهرستاني والفِصَل في الملل والأهواء النحل لابن حزم) ومصادر الحديث لديهم (كصحيح البخاري وموطأ مالك وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه)، بل لم يجد «شريعت» غضاضة في الإشارة إلى أن أحد مراجعه هو كتاب فتح المجيد (في شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وثلاثة من مؤلفات ابن القيِّم (تلميذ ابن تيمية) (هي: مدارج السالكين، وإعلام الموقعين، ومفتاح دار السعادة)، وكتاب سبل السلام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني.
وأقول، إن من قرأ «كتاب التوحيد حق الله على العبيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (ت 1206هـ.ق)، وشرحه المُشار إليه «فتح المجيد»، يلاحظ بوضوح أنه يشكِّل فعلًا أحد المصادر الأساسية التي استفاد منها المؤلف «شريعت» في جزء كبير من كتابه «توحيد العبادة»، فهناك تطابق بين عناوين بعض فصول الكتابين، ككلام «شريعت» - مثلًا - في فصل: «من أنواع الشرك التبرُّك بشجرةٍ أو حَجَرٍ ونحوها»، أو ما ذكره حول التَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ وأنها شِرْكٌ في فصل «من أنواع الشرك لبس الخاتم أو الخيط وأمثالها لرفع البلاء أو دفعه»، أو ما ذكره في فصل «من الأنواع الأخرى للشرك: النذر لغـير الله»، أو فصل «في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الغلوّ في الأنبياء والصالحين» .....الخ.
يقول الباحث سيد مقداد نبوي رضوي:
«إن تأثر شريعت بتعاليم الوهابية أمر يقر به الموافقون له والمعارضون. فمقارنة فهرس كتاب «توحيد عبادت» (من مؤلفات شريعت الأساسية) بفهرس كتاب «التوحيد» (تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب) يُظهر وجود تطابق كبير بين محتويات الكتابين. وقد أجاب «سنكلجي» عن اتهام أحد معارضيه له بأنه نقل كتابه «توحيد عبادت» من كتاب التوحيد [للشيخ محمد بن عبد الوهاب] بقوله: نعم، بعض أقسام كتابي نقلتُها من كتاب «التوحيد» ولكن ليس كل الكتاب[103].... وعلى هذا الأساس اعتبر بعضهم «شريعت سنكلجي» أول شخص نادى بالعقائد الوهابية في إيران وجمع حوله عددًا من المؤيدين لها»[104].
وأكرر ما ذكرتُه سابقًا من أن وصم الشيخ «شريعت» وأمثاله من المصلحين ودعاة التصحيح بأنهم «وهابيون» أو من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لا يعدو المناكفة والتنابز بالألقاب الناجم عن التعصب، فأولًا: لا يعني الاتفاق مع عالم أو داعية في بعض الأمور اتباعه وموافقته في كل الأمور الأخرى، ومن المقطوع به أن الشيخ شريعت كان صاحب منهج مستقل مُطَعَّمٍ بجذورٍ شيعيةٍ تختلف بالتأكيد مع آراء وعقائد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في بعض الأمور. وثانيًا: لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب دين أو مذهب خاص به، وإنما كان واحدًا من مشايخ أهل السنة، -وكابن تيمية وابن القيم ومن تابعهما- يتَّبِع الإمام أحمد بن حنبل ومدرسة أهل الحديث. وهذه المدرسة كانت موجودة قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي باقية بعده.
[103] سيد مقداد نبوي رضوي، نگاهى تحليلي به تكاپوهاى شريعت سنگلجى [نظرة تحليلية إلى جهود شريعت سنكلجى الفكرية]، فصلنامه امامت پژوهى، [مجلة «مباحث الإمامة» الفصلية] السنة الأولى، العدد 4، ص 269، وقال سيد مقداد نبوي رضوي في الحاشية أن الذي وجه إلى شريعت ذلك الاتهام هو الحاج السيد روح الله كمالوند الذي أصبح فيما بعد من علماء الحوزة العلمية في قم المشهورين. وذكر أن الأستاذ عبد الحسين الحائري الرئيس الأسبق لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي هو الذي سمع من الحاج السيد روح الله كمالوند ذلك الاعتراض والاتّهام ونقله له (أي للسيد مقداد نبوي رضوي). [104] هذا الرأي أعرب عنه نور الدين چهاردهي الذي كان يحضر دروس شريعت سنكلجي دون أن يكون من المعتقدين بأفكاره، وقد حصل على معلومات مهمة عن شريعت بفضل حضوره لدروسه. (انظر: نور الدين چهاردهي، وهابيت و ريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 157).
يقول المؤرخ المعاصر رسول جعفريان في حديثه عن شريعت سنكلجي ضمن ترجمته لأعلام تيار المطالبين بإعادة النظر في عقائد الشيعة في إيران:
«... وينبغي الانتباه إلى أن النزعة العامة التي كانت تُميِّز هذه التيارات [المطالِبة بإعادة النظر في عقائد الشيعة]، أي اعتماد أصحابها الأساسي على القرآن، كانت موجودة لدى شريعت سنكلجي أيضًا، فبالإضافة إلى دروس التفسير التي كان يلقيها بشكل منتظم، فإن كتابه «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن] يدل على هذه النزعة والميل لديه. إن اعتقاد هذه الجماعة بأن جميع الناس يمكنهم أن يفهموا القرآن، وانتقادهم وحملتهم على الذين يعتبرون أن عوام الناس لا يمكنهم فهم القرآن، جعلهم يُضَيِّقون حدود دائرة المتشابه في القرآن. كان سنكلجي يعتبر أن الآيات المتشابهة هي فقط تلك الآيات التي تتعلق بصفات الله[105]. وسوف نرى أن خرقاني كان يعتقد في هذا المجال أن الحروف المقطعة هي فقط الآيات المتشابهات وبقية القرآن كله من المحكم.
وهم يستندون في هذا الصدد إلى الآيات التي تدعو عامة الناس إلى تدبر القرآن. وكان شريعت يقول: لا توجد في القرآن أي كلمة ولا أي آية لا يمكن للبشر أن يفهموها[106]. كما أنه قال: إن المقصود من بطن القرآن ليس تفسيره وتأويله بل بطن القرآن هو هدف القرآن وغايته[107]»[108].
ويصرح رسول جعفريان بعد ذلك بتأثير هذا الاتجاه القرآني لسنكلجي على أحد أشهر المراجع الثوريين في إيران وهو آية الله السيد محمود طالقاني[109] ويقول:
«..... وهذا يدل على أن اهتمام طالقاني بالقرآن واتجاهه القرآني نابع من مدرسة شريعت سنكلجي وخرقاني، وليس نتيجة تأثره بالسيد جمال الدين [الأفغاني] والشيخ محمد عبده، كما ظنَّ بعضهم»[110].
ويقول الفيلسوف والمؤرخ إحسان طبري في كتابه «ايران در دو سده واپسين» [إيران في القرنين الأخيرين] :
«إن شريعت كان يرمي في كتابه «مفتاح فهم القرآن» إلى تحقيق الهدف والغاية ذاتها التي كان مارتن لوثر، وتوماس مونتسر و[جان] كالفان [زعماء الإصلاح البروتستانتي] يهدفون إلى تحقيقها في المسيحية. لقد أرادوا بنشرهم لترجمة الإنجيل[111] بين عامة الناس أن يعيدوا المسيحية إلى نقائها الأولي[112]، وأن يزيلوا عنها الإضافات والتشويهات التي ألصقت بها....» [113].
[105] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن [مفتاح فهم القرآن]، ص 80. [106] المصدر نفسه، ص 100. [107] المصدر نفسه، ص 47. [108] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1018 - 1019. [109] آية الله السيد محمود طالقاني من مؤسسي الجبهة الوطنية الثانية وحزب نهضة الحرية مع مهدي بازركان، كان من العلماء ذوي الفكر المتحرر الإصلاحي لكنه صرف جل اهتمامه في النضال السياسي ضد حكومة الشاه محمد رضا بهلوي حتى قيل: إنه أمضى في سجون الشاه ما مجموعه أحد عشر عامًا. وقد توفي بعد فترة وجيزة من انتصار الثورة في إيران عام 1979م. له تفسير للقرآن باللغة الفارسية طبع مرات عديدة باسم «پرتوي از قرآن» [أي شعاع أو ضياء من نور القرآن] في 6 مجلدات، وهو غير مكتمل بل يشمل تفسير سور البقرة وآل عمران والنساء، ثم تفسير جزء عم فقط. [110] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاى مذهبي-سياسى إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، حاشية الصفحة 1020، وقال فيها أيضًا: انظر: خاطرات پيشگامان (مذكَّرات الرواد)، حاشية الصفحة 87. [111] أي ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلية كالألمانية والفرنسية، بعد أن كان مكتوبًا باللغة اللاتينية، وكانت قراءته وتفسيره وفهمه محصورًا برجال الكنيسة (الإكليروس) وحدهم، وغير متاحًا لعامة الناس. [112] أي إلى ما كان عليه المسلمون (الصحابة والتابعون) في أيام الإسلام الأولى، خير القرون. [113] إحسان طبري، ايران در دو سده واپسين [إيران في القرنين الأخيرين].
بعد تلك الاقتباسات التمهيدية أقول:
يُعتبر كتاب «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن]، الذي ألفه «شريعت» بعد كتاب «توحيد العبادة» وكان من آخر ما ألفه قبل أن ينتقل إلى جوار ربه، من أهم كتب «شريعت» التي تعكس اتجاهه القرآني ونهجه الإصلاحي بكل أبعاده، وقد طُبِع الكتاب برفقة رسالة «براهين القرآن» للمؤلف ذاته أيضًا ضمن كتاب واحد عنوانه «كليد فهم قرآن بانضمام براهين القرآن» [أي: مفتاح فهم القرآن مع براهين القرآن]، وضم الكتاب 249 صفحة من القطع الصغير، وقد أعيدت طباعته مرات عديدة. وفيما يأتي تلخيص أهم النقاط والأفكار التي طرحها «شريعت» في الكتاب:
بدأ «شريعت» كتابه بتوطئة مهمة تحدِّد المنهج الصحيح لفهم القرآن وهو أن نفهم كتاب الله كما فهمه السلف، لا كما فسره الخلف الذين فسروا آيات الكتاب على ضوء ما يحملونه من أفكار مسبقة أتوا بها من الفلسفة أو التصوّف أو الاعتزال، وفيما يلي نص عبارته، قال:
«﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ ٢٤؟!﴾ [محمد: 24]. لقد نبَّهتني هذه الآية وأيقظتني قبل أربعة عشر عامًا إلى ضرورة التدبُّر في كتاب اللهِ والدستور السماوي وأن فهم الدين والعمل بشريعة سيد المرسلين مرهونٌ بتدبُّر آيات القرآن والتعمُّق في كلام الله سبحانه؛ فالقرآن كتابٌ دينيٌّ وفلسفيٌّ واجتماعيٌّ وأخلاقيٌّ وحقوقيٌّ ولا يجوز الاكتفاء بقراءة ظاهرية له، بل لابد أن يتعلم الإنسان جميع شؤون الحياة من القرآن، لأن فلاح الدنيا والآخرة منوط بتعلُّم القرآن، لذا فتدبُّر القرآن واجبٌ على كل مسلم. لكن القرآن أصبح في زماننا مهجورًا ومتروكًا تمامًا، وهذا هو السبب في شقاء المسلمين وهو عدم أخذهم دينَهُم من القرآن وعدم تعمُّقهم في آياته بل اتَّخذَ كلُّ فريق منهم عقائده وآراءه من مصادر غير القرآن مما أوقع خلافات عجيبة بين المسلمين.
والتدبُّر في القرآن يعتمد على تحصيل مقدمات مثل البحث في أحوال الرسول الأكرمص ومعرفة لغة العرب زمن الجاهلية ومعرفة أسباب نزول الآيات والاطلاع على أحوال العرب في عصر الرسالة والرجوع إلى تفاسير السلف الصالح، وقد بذلتُ جهودًا مُضنيةً في تحصيل هذه المقدمات وطالعتُ الكتب المدونة التي تتعلق بهذه الموضوعات، فرأيت أن هذه المقدمات لا تكفي لفهم القرآن بل لا بد من أن يبتعد الإنسان بنفسه عن كل تقليد وأن يدع كل تعصب جانبًا وأن لا يتلقَّى فهم القرآن وتفسيره من مفسري الفرق الذين اتخذ كل منهم عقيدة ومذهبًا ورأيًا وذلك لأن مذاهب الإسلام المختلفة إنما نشأت بعد القرن الثاني وفسَّر كل واحد من أتباعها القرآنَ بما يوافق مذهبه وهواه، فإذا أراد الإنسان أن يفهم القرآن من هذه التفاسير المختلفة وقع في حيرة وضياع، فواحد منهم معتزليّ وآخر أشعريّ وثالث باطنيّ وآخر من الغلاة وَمُفسِّـِرٌ جَهْمِيّ وآخرُ ظاهريٌّ ومفسِّـرٌ زيديٌّ وآخرُ إسماعيليٌّ وَمُفسِّـِرٌ أخباريٌّ وآخرُ أصوليٌّ، وَمُفسِّـِرٌ صوفيٌّ وآخرُ فلسفيٌّ وَمُفسِّـِرٌ قاديانيٌّ وآخر مُرجئيُّ وغير ذلك وبينهم اختلافات كثيرة في فهم الآيات وتفسيرها إلى درجة أنه لو أراد أحد أن يبني عقيدته ورأيه على هذه التفاسير لتاه واحتار وضاع في متاهات الضلال، وربما جرّه هذا الضياع -نعوذ بالله- إلى الإلحاد والخروج من الدين!.
ثم إن الجمود على التفاسير والتعبُد بأقوال المفسِّرين هو في حدِّ ذاته نوع من التقليد في الدين والعقيدة وهو حرام بنص القرآن الذي قال: ﴿إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ ٢٣﴾ [الزخرف:23]. ولما كان الفرار من التقليد والتخلي عن الأفكار المسبقة أمرًا صعبًا، لذا توجهت إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب، فوفَّقني الله بحمده لكشف أمر هام وفتح أمامي طريقًا لفهم الدين وتدبر القرآن المبين وهو وجوب أخذ الدين من السلف لا من الخلف، وبعبارة أوضح لابد أن نرى كيف كان فهم مسلمي الصدر الأول للقرآن وأي دين كان لدى المسلمين قبل أن تنشأ الفلسفة والتصوف والأشعرية والاعتزال؟ أما لو قام من يريد أن يتدبر القرآن بفهم القرآن من كتابات الخلف - لا سمح الله- ولم يولِ أي عناية لفهم السلف الصالح فإنه سيقع أسيرًا بلا ريب لإحدى تلك الفرق، نعوذ بالله من الضلال.
بعد أن تفطنت لهذا المعنى وهداني الله إلى طريق الصواب قَطَعْتُ -بحول الله وقوَّته- بالمرة وإلى الأبد قيود التقليد ومزَّقْتُ حُجُبُ التعصُّب والأوهام، وألقيتُ عن كاهلي حِمْلَ الخرافات الثقيل، وأخذتُ -بعناية الله -الدينَ عن السلف الصالح واهتديتُ بخير الحديث كتابِ اللهِ تعالى واهتديت بهداية القرآن، وقلتُ ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ...﴾ [الأعراف:43]»[114].
بعد ذلك، أول ما افتتح به «شريعت» كتابه إثبات أن النص القرآني غير محرّف، فذكر أدلّته القاطعة القوية على ذلك ورَدَّ بشدة على القائلين بتحريف القرآن، وأورد نصوصًا واضحةً لأعلام الشيعة الإمامية الأصوليين - كالشيخين الصدوق والمفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الطَّبْرَسي صاحب تفسير مجمع البيان والفاضل الجواد الكاظمي والمولى صالح المازندراني والمحدث البحراني والقاضي نور الله الشوشتري والمقدّس البغداديّ والمحقق الكركي والشيخ البهائي .... الخ - ينفون فيها وقوع أي تحريف أو زيادة أو نقيصة في كتاب الله، رادًّا بذلك على جمهور الأخباريين وبعض الأصوليين الغلاة أيضًا من الإمامية الذين يثبتون وقوع ذلك!
النقطة التالية المهمة هي فصل بعنوان «القرآن قابلٌ للفهم» بيَّن «شريعت» فيه بأدلة ممتازة أن القرآن كتاب بيِّنٌ واضحٌ قابلٌ للفهم تمامًا، لا يحتاج إلى غيره، يمكن لكل إنسان أن يفهم معانيه ويتدبَّر آياته بل يجب على كل مسلم أن يتدبره، ويذكر «شريعت» في هذا الصدد 12 آية تفيد هذا المعنى كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ ٢٤؟!﴾ [محمد:24]. وقوله سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢﴾ [النساء:82]، وعلَّق «شريعت» قائلًا: «أمرنا الله تعالى في هذه الآية بتدبر القرآن فلو كان في القرآن آية غير مفهومة فكيف يأمرنا الله بالتدبر فيها؟»[115]. وذكر من الآيات أيضًا قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥﴾ [الشعراء:192-195]، وقوله عزَّ مِنْ قائل: ﴿قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥﴾ [المائدة:15]، وقوله: ﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ ١٧﴾ [القمر: 17]... إلى آخر الآيات التي ذكرها. ويذكر بعدها عددًا من الأحاديث النبوية والأدلة العقلية الممتازة البديعة أيضًا التي تدل على هذا الموضوع.
وردَّ «شريعت» بذلك على غلاة الأخباريين من الإمامية الذين ينكرون حجية ظواهر القرآن ويصورون للناس أن القرآن لا يمكن للعامة فهمه، بل عليهم الرجوع إلى الأحاديث والأخبار والروايات المنسوبة للأئمة لفهم المراد من آياته، مع أن معظمها موضوع مكذوب من مفتريات الغلاة وأكثرها يفسر الآيات بأمور لا تمت لمعانيها بصلة بل تشرق وتغرب بعيدًا عن معاني ألفاظ الآيات الواضحة! كما ردَّ بذلك على كثير من شيوخ الشيعة الأصوليين أيضًا الذي يقولون إنه لا يمكن فهم القرآن إلا بعد إتقان علوم العربية من نحو وصرف وبلاغة، وعلم أصول الفقه بكل تعقيداته وعلم العقائد والكلام... الخ، ونتيجة لذلك حرموا عامة الناس بما في ذلك طلاب العلوم الدينية أنفسهم من تعلم القرآن وتدارسه، وَصَدُّوهم عن تدبره وتعلّم تفسيره، فترى طالب العلوم الدينية يمضي سنوات من الدراسة في الحوزات الدينية في قم والنجف وغيرها دون أن يكون له إلمام بتفسير القرآن أو نصيب من علومه.
وفي الفصول اللاحقة بيِّن شريعت الأدوات المعينة على فهم القرآن فهمًا صحيحًا فذكر منها: معرفة أسباب النزول ومعرفة أحوال العرب في الجاهلية، وعقد لكل واحد من هذين الأمرين فصلاً خاصًّا به.
بعد ذلك عقد شريعت فصلاً بعنوان «القرآن يتضمّن كلّ ما يتعلّق بالدين والشريعة» أعقبه بفصل عنوانه: «أحكام الشريعة في القرآن مجملة وتحتاج إلى السنة»، وبيَّن فيه أننا بحاجة إلى السنة في فهم الشـريعة والأحكام، أما في المسائل الاعتقادية مثل إثبات صانع العالم والتوحيد والنُبُوَّة والمعاد فلما كان القرآن قد تعرَّض لإثباتها بكل تفصيل وأقام عليها براهين ساطعة لم نعد بحاجة إلى الرجوع إلى السنة في هذا المجال. ثم ردَّ على منكري السنة واعتبرهم خارجين عن جماعة المسلمين وقال:
«فإذا عرفنا أن مباحث القرآن كلّيّة ومجملة وأنه لا يمكننا أن نفهمها دون الرجوع إلى السنة اتضح لنا بطلان قول من يسعون إلى تخريب الإسلام وليس لهم في الآخرة نصيب وهم خارجون عن جماعة المسلمين الذين يقولون: إن في القرآن بيانًا لكل شيء وأننا لسنا بحاجة إلى السنة، ثم قاموا بتأويلات باردة للقرآن واتبعوا أهواءهم وآراءهم في فهم كتاب الله. والمراد من السنة فعل النبي ص وقوله وتقريره، قال تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ﴾ [الأحزاب:21]»[116].
[114] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن، ص 3 - 5. [115] المصدر نفسه، ص 17. [116] المصدر نفسه، ص 17.
إحدى الضلالات التي يطرحها غلاة الشيعة حول القرآن، والتي سببت بُعْد جزء مُهِمٍّ من المجتمع الشيعي عبر الزمن عن تعلم القرآن وحفظه وتدارسه، هي الادعاء بأن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وأن الأئمة فقط هم الذي يعلمون باطن القرآن والمراد الحقيقي منه. عقد «شريعت» فصلاً بعنوان: «للقرآنِ ظهرٌ وبطنٌ» أتبعه بفصل عنوانه «المراد بالظاهر هو المفهوم العربي وبالباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه»، نسف فيهما حجج الغلاة الباطنية وفنَّد ادعاءاتهم الباطلة وتأويلاتهم الفاسدة ، فقال:
«من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار، فعن الحسن مما أرسله عن النبي ص أنه قال: «مَا أنزل اللهُ آيَةً إِلَّا وَ لَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ»[117]، وفي رواية أخرى: «إن للقرآن ظهرًا وبطنًا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن»[118].
فإذا كان المراد بالظاهر هو المفهوم العربي وبالباطن فهم مراد الله تعالى من تنزيل كتابه ومن كلامه وخطابه، وبعبارة أخرى أن المراد بالباطن هو الوقوف على مراد المتكلِّم وفهم المقصود من الخطاب فإن هذا القولَ قولٌ صحيحٌ وسديدٌ وفي غاية الإتقان ولا نزاع فيه.
أما إذا كان المراد من باطن القرآن إثبات معنى زائد على ما كان معلومًا عند صحابة النبيص وما تدبَّره التابعون من بعدهم، فلا بد من دليل قطعيٍّ يثبت هذه الدعوى لأنها أصلٌ يُحكم به على تفسير الكتاب فلا يكون ظنيًّا، وسنبيِّن للقرَّاء الكرام ههنا حقيقة هذا الأمر بما يرضي الله ورسوله:
1- الأحاديث التي وردت في هذا الباب والتي تقول إن للقرآن سبعة أبطن أو سبعين بطنًا كلها أحاديث مرسلة وليس لدينا أي حديث صحيح واحد في هذا الأمر أبدًا.
2- هذه الأحاديث من وضع الإسماعيلية ومختلقات فرقة الباطنية، لذا نجدها مذكورة في تفاسير الإسماعيلية وكتبهم، كما نجد في رسائل إخوان الصفاء الذين كانوا من زعماء الباطنية أن الكتب السماوية لها تنزيل ظاهري وهو معاني ألفاظها، ولها تأويلات خفية وهي المعاني المعقولة. وزعموا كذلك أن لواضعي الشـرائع [الأنبياء والرسل] أحكام ظاهرية وجلية، ولهم أسرار باطنية وخفية. وجاء في خطط المقريزي في الدعوة السادسة من دعوات الإسماعيلية التسع أنه عندما يصل المدعو إلى الرتبة الخامسة يبدأ الداعي بتفسير معاني شرائع الإسلام له من صلاة وصوم وزكاة وحج وطهارة وغيرها من الفرائض بأمور تخالف ظاهرها، وإذا طال زمن الدعوة وآمن المدعو بأن وضع أحكام الشريعة كان على سبيل الرمز الذي لوحظت فيه السياسة العامة وأن للشرائع معان غير معناها الظاهري، بدأ الداعي بدعوة المدعو إلى أقوال أفلاطون وأرسطو وفيثاغورث»[119].
ثم استشهد بقول الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية»: «إن رتبة هذه الفرقة أخسّ من رتبة كل فرقة من فرق الضلال، إذ لا نجد فرقةً يُنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه! إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرموز وكل ما يُتصوَّر أن ينطلق به لسانهم إما نظرٌ أو نقلٌ: أمَّا النظر فقد أبطلوه، وأما اللفظ فقد جوَّزوا أن يُراد باللفظ غير موضوعه فلا يبقى لهم معتصمّ[120]»[121].
وختم الفصل بقوله:
«وإذا دققنا النظر بشكل صحيح أدركنا أن التأويلات الباردة التي ابتدعها الباطنية وبعض المتصوّفة واتبعهم في ذلك جماعة من أخباريي الإمامية عن علم أو عن جهل قد وجَّهت ضربة كبيرة للإسلام وسبَّبت وجود مهديين كُثُر وفي النتيجة أضعفت الإسلام وشتَّـتَتْ المسلمين.
وخلاصة الكلام أنه إذا أريد بالباطن ذلك البيان الذي تذكره الباطنية خلافًا للعقل والمنطق والحقيقة فهو كفر وضلال، وأما إذا أُريد بالباطن معرفة مقصد القرآن ومراده فهذا معنى صحيح ومقبول»[122].
وخَلُصَ إلى القول بأن «كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها؛ فهو داخل تحت الظاهر، وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية، والإقرار لِـلَّهِ بالربوبية؛ فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أُنزل القرآن لأجله، لأن هدف القرآن وقصده بث روح الإنسانية لدى البشر وتوجيه الخلائق نحو خالق العالم»[123].
ولأهمية الموضوع زاده شريعت إيضاحًا وتفصيلاً في فصلين تاليين الأول عنوانه «لكلٍّ من ظاهر القرآن وباطنه شرط، فشرط الظاهر أن يوافق لغة العرب ولا يخالف الشرع»، ولخَّصه بقوله: «وخلاصة الكلام، كل معنى يُراد أخذه من ألفاظ القرآن لا بد أن يكون موافقًا لقواعد الكلام العربي وأن يكون معنىً يفهمه المخاطبون، كما أنه إذا كان العرب يستعملون لفظة معينة في معنى خاص لم يجز أن يُعطى لتلك اللفظة معنى آخر اتِّباعًا للهوى».
وعنوان الفصل التالي: «شرط فهم باطن القرآن أن يوافق لغة العرب ويشهد له الشرع، وتأويلات فرق الباطنية باطلة». ومضمونه واضح.
ومن أهم فصول الكتاب الأخرى:
- التفسير بالرأي وتقسيمه إلى جائز وممنوع
- مقاصد القرآن في وضع الشرائع والأحكام
- الناسخ والمنسوخ في القرآن
- المحكم والمتشابه في القرآن وبيان حقيقتهما.
[117] أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن»، ص43، ومن طريقه البغوي في «شرح السنة»، 1، 262، رقم 122، بإسناد ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وهو مرسل. وأخرجه ابن جرير الطبري في «تفسير جامع البيان»، رقم 11، طبعة شاكر، والطبراني في «المعجم الكبير»، رقم 10090، والبزار في «المسند» ، رقم 2312، وابن حبان في «الصحيح»، 1، 276، رقم 75، عن ابن مسعود مرفوعًا: «أُنْزِلَ القرآنُ على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن». وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري. وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره أيضًا، رقم 10، من طريق آخر بإسناد فيه مبهم؛ فهو ضعيف. وتكلم البغويّ على شرح هذا الحديث بكلام مسهب حسن؛ فليُراجَع. وفي مصادر الشيعة الإمامية يروي الحرّ العاملي في وسائل الشيعة، ج 27، ص 196، رواية عن الإمام الباقر في هذا المعنى ونصها: «عَنِ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ؟ قَالَ: ظَهْرُهُ [تَنْزِيلُهُ] وَبَطْنُهُ تَأْوِيلُه». [118] خبر لا أصل له ولا يوجد في أي مصدر حديثي معتبر لا الشيعية منها ولا السنية، ولم أجد من يرويه إلا أحد متأخري الأخباريين وهو ابن أبي جمهور الإحسائي رواه في كتابه، عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج 4 ، ص 107 مرسلاً من دون سند! فلا اعتبار به. [119] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن، ص 41 - 43. [120] أبوحامد الغزالي، فضائح الباطنية، ص 52- 53. [121] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن، ص43. [122] المصدر نفسه، ص 43 - 44. [123] المصدر نفسه، ص 44 - 45.
وهذا الفصل الأخير مهم للغاية لأن موضوع المحكم والمتشابه استغله الغلاة والباطنية الذي وسعوا معنى المتشابه ليجعلوه يشمل معظم آيات القرآن وبالنتيجة فتحوا بابًا واسعًا لتحريف معاني القرآن بأقوالهم المذهبية وتأويلاتهم الباطنية، وكلما اعترض عليهم معترض بأن تفسيركم لهذه الآية لا يوافق معناها اللغوي الظاهر، قالوا: إنها من المتشابهات التي لا يعلم حقيقة معناها إلا الراسخون في العلم وهم النبي والأئمة!!
لذا فصَّل «شريعت» الكلام بشكل علميٍّ ممتاز في هذا الفصل في معنى المحكم والمتشابه وخَلُص في نهايته إلى القول:
«المراد من المتشابه في القرآن هو أن الحقائق المعقولة في مبدأ العالم والدقائق المحسوسة من اللذات والآلام في المعاد، والمعاني والحقائق التي لا يستطيع الناس المتوغلون في عالم الحس والخيال أن يدركوها، يتم تنزيلها في قوالب الأمثلة والعبارات وإظهارها في لباس الكنايات والاستعارات والتشبيهات، كي يسهُل على الناس الجاهلين فهمها ويتم إرشادهم من خلالها إلى الحقيقة وإلى معرفة الله كي يتخلَّقوا بالأخلاق الفاضلة.
إذن لم تنزل المتشابهات على النبيِّص كي لا يفهمها أحد إلا الله وكي يعجز حتى الأنبياء والأولياء والعلماء عن إدراكها، بل نزول المتشابه هو لأجل هداية الجاهلين وعامة الناس.
ومتشابهات القرآن منحصرة في بيان صفات خالق الكون مثل الأذن والعين واليد والوجه والاستواء على العرش وأمثالها، وكذلك في بيان كيفية القيامة والمعاد من مجيء الله والملائكة وكيفية الجنة والحور والقصور والأشجار والأنهار والسندس والإستبرق والأكواب والأباريق وبيان كيفيات جهنم من النار والغسلين والصديد وطبقات الجحيم ودركاتها وأمثال ذلك....
أما الآيات التي تتكلَّم عن الشـريعة وأحكامها وعن الحقوق والسياسات والأخلاق والمعاملات الاجتماعية وتدبير المنزل والمدن، فليست من المتشابهات أبدًا، وكذلك الأمر في آيات إثبات المبدأ والمعاد والنبوَّة، بل كلها آيات محكمة وأم الكتاب وليس أي منها من المتشابهات»[124].
وقال بعد ذكره لأمثلة من القرآن عن المتشابهات: «أما نحن، فعلى طريقة السلف إن شاء الله، فكل ما يتعلق بالله وصفاته وما يتعلق بعالم الغيب نفوِّض حقيقته إلى الحق تعالى»[125].
وأخيرًا في رسالة «براهين القرآن» الملحقة بالكتاب أوضح «شريعت» أن القرآن الكريم ذاته أفضل دليل على عقائد الدين وأصوله، وأن براهين القرآن تمتاز وتعلو على ما تذكره كتب المتكلمين أو الفلاسفة في الاستدلال على صحة أصول الدين، وبين في عدة فصول من هذه الرسالة دلائل القرآن على التوحيد - توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية- وعلى النبوة العامة ونبوة نبي آخر الزمان سيدنا محمد ص، ثم دلائل القرآن الرائعة على البعث ويوم القيامة وبقاء النفس بعد الموت.
وفي الختام من المفيد أن نذكر أن أغلب المراجع التي رجع الشيخ «شريعت» إليها في كتابه هي من مصادر أهل السنة سواء مصادر الحديث أم غيرها، واقتبس منها، مما يدل على اتجاهه الإسلامي المنفتح البعيد تمامًا عن الانغلاق الطائفي، فمن المراجع التي رجع إليها واقتبس منها على وجه القبول والتأييد:
تفسير الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ)، منهاج السنة النبوية، لابن تيمية الحراني (728هـ)، زاد المعاد في هدى خير العباد، لابن قيِّم الجوزية (751هـ)، تفسير المنار، للسيد محمد رشيد رضا (1354هـ)، الملل والنحل للشهرستاني (548هـ)، الفِصل في الملل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم الظاهري (456هـ)، تلبيس إبليس، لابن الجوزي البغدادي الحنبلي(597هـ)، الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار، للحازمي (584هـ)، الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآمدي الشافعي (631هـ)، الموافقات في أصول الأحكام، للشاطبي المالكي (790هـ)، الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي الشافعي، (911هـ)، إحياء علوم الدين، وفضائح الباطنية، وجواهر القرآن، كلها لأبي حامد الغزالي الشافعي (505هـ).
[124] المصدر نفسه، ص 80 - 81. [125] المصدر نفسه، ص 94.
عاصر سنكلجي في العقود الأخيرة من حياته فترة حكم الملك رضاشاه كلها وقرابة ثلاث سنوات من بداية حكم ابنه الشاه محمد رضا بهلوي[126] وقد ذكرنا سابقًا أن فترة حكم رضاشاه اتَّسَمت بنشر العصرنة والتغريب بشكل قسري، وبمعاداة الدين ومظاهره وشعائره.
يقول المؤرخ المعاصر رسول جعفريان متحدِّثًا عن تلك الفترة الزمنية:
«لاشك أن عهد المَلِك رضا خان كان عهد محاربة للدين والقضاء على السنن والتقاليد وعلى المؤسسات الدينية المدنية كالحوزات الدينية ومؤسسة المرجعية الشيعية. لقد كان عهدًا توقفت فيه جميع الحوزات العلمية جراء ضغوطات الشاه رضا خان واستبداده... كانت دولة رضا خان تواصل هذه الضغوطات بشكل رئيسي من خلال الدعاية الإعلامية وعبر وسائل تنفيذية أيضًا، وكانت تستند في ذلك إلى نوع من النظرة العصرية التنويرية المستبدة. كان أنصار الثورة الدستورية من دعاة التحديث والعصرنة، وكانوا مؤيدون جميعًا لتلك الإجراءات؛ لذا نشاهد في كتاباتهم حول الطقوس الدينية وعلماء الدين - سواءً الشعرية منها أم النثرية -، قمة العداوة التي كانت تمارسها تلك الشريحة النخبوية في المجتمع ضد علماء الدين في الفترة الزمنية التي تلت الثورة الدستورية (1906م) وحتى شهر شهريور 1320 هـ.ش (أغسطس/آب 1941م).....
لقد صاغ المثقَّفون التنويريون العصريون الذين تربوا في السنوات التي تلت الثورة الدستورية، خلال فترة حكم رضا خان كلّها، الظروفَ السياسيةَ والاجتماعيةَ والثقافيةَ للمجتمع وصبغوها بصبغة معاداة رجال الدين. في هذا المجال توحَّدت الجماعات المُتَغَرِّبة كلها، سواءً اليمينية أم اليسارية، وسواءً الاشتراكية أم الماركسية المؤيدة للاتحاد السوفيتي، واجتمعت واتفقت كلها على محاربة رجال الدين بل الدين نفسه وكان بينها انسجام وتنسيق في هذا المجال. وبعبارة أخرى، كان اتجاه التحولات الثقافية والسياسية بعد الثورة الدستورية يسير خطوةً خطوةً لغير صالح الدين ويتّجه نحو تقليص نفوذه في المجتمع. عندما كان المثقفون العصريون ذوو التبعية الفكرية للغرب والماركسيون - رغم كل الاختلاف النظري فيما بينهم- يتحدثون في تلك الفترة الزمنية عن عوامل الانحطاط والتخلف وأسبابهما، كانوا يعتبرون أن الدين هو السبب الأصلي لهذا التخلف...»[127].
ثم تحدث رسول جعفريان بعد صفحتين عن انتشار حزب توده الشيوعي في إيران في بداية عهد محمد رضا بهلوي وتمكنه من جذب كثير من الشباب إلى الفكر الإلحادي المادي، ودفعهم إلى رفض الدين وشعائره التي ورثوها عن آبائهم بما في ذلك الصلاة والصوم[128].
من الطبيعي إذن أن تنتشر في هذه الظروف الأفكار الإلحادية واللادينية، وتُثار الشبهات في أذهان الشباب المثقف حول أسس الدين وأصوله العقائدية كوجود الله تعالى والمغيبات مثل الوحي والنبوة، والمعاد (البعث والقيامة).
هنا كان الشباب المتدين الحائر يجدون في الشيخ شريعت سنكلجي ملاذهم، ويطرحون عليه كل ما يُثار في أذهانهم من شبهات بكل حرية فيصغي لهم ويستمع إليهم بكل أناة، ويجيبهم إجابات علمية مقنعة، كما كان يفند في دروسه ومؤلفاته شبهات الملحدين حول أصول الدين. وفيما يأتي بيان لجانب من جهوده في هذا المجال، كما تعكسه رسالته براهين القرآن (الملحقة بكتابه مفتاح فهم القرآن) التي فند فيها شبهات الماديين - لا سيما مذهب المثالية الفلسفية[129] والمذهب التجريبي الحسي[130] وهما من أهم أسس الإلحاد وشبهات الملاحدة في كل عصر حتى اليوم - فلنستمع إلى سنكلجي كيف يفند هذه المذاهب والشبهات تفنيدًا علميًّا ممتازًا، يقول تحت عنوان: «القرآن يحتوي على البراهين على أصول الإيمان»:
«.... منذ أن وضع الإنسان قدميه في عالم الطبيعة الترابي هذا، وهو يبحث عن حقائق الأشياء وعللها، ويلاحظ الكون ويتأمّله، أوّل ما لَفَتَ نظره هو البحث عن إجابة على هذه الأسئلة: ما هي حقيقة هذا الكون وعالم الوجود؟ وما هي نسبتي لهذا الكون؟ وماذا عليّ فعله في هذا العالم؟ هذه الأسئلة دفعت الإنسان إلى البحث والتحقيق، ونشأت لدى البشـر من خلال ذلك آراء وعقائد مختلفة.
فقال بعضهم إنه لا توجد أي حقيقة، ولا سبيل للإنسان للتوصل إلى أي حقيقة، وسُمِّيَتْ هذه الجماعة بالسفسطائية.
وقال آخرون: العالم منحصر بالمحسوس ولا يوجد أي حقيقة أو عالم آخر خارج عالم المادة والحس، وسُمِّي هؤلاء بالحسيين.
وقال فريق ثالث توجد عوالم كثيرة لا حصـر لها غير هذا العالم المحسوس ولا يمكن للحواس أن تلاحظ تلك العوالم، بل البحث في تلك العوالم الغيبية ينحصر بالبرهان العقلي، وسمي هذا الفريق بالفلاسفة الإلهيين.
وقال فريق رابع إن طريق الوصول إلى الحقائق منحصـر بالمكاشفة فقط والاستدلال العقلي استدلالٌ ضعيفٌ وذو أساس مهتز، وهذا الفريق هم جماعة الصوفيّة.
أما القرآن الكريم فقد اعتبر أن الطريق للوصول إلى الحقائق هو الدليل والبرهان بالشـروط التي سنبينها بعد أن نذكر طرق المعرفة المختلفة التي مرّ ذكرها.
طريقة السفسطائية و الردّ عليها:
«..... مذهب «الشك أو اللاأدرية» كان يظهر في كل عصـر من العصور فمثلاً، كان «جورجياس» أحد زعماء السفسطائية يقول: إننا نشك في وجود الأشياء [أي ربما لا يوجد شيء!]، وإن كانت الأشياء موجودة فلا سبيل إلى معرفتها. وإن وجد شيء وأمكن معرفته فلا يمكننا تعريفه للآخرين!. وفي العصور الحديثة كان زعيم الشكّاكين «ديفيد هيوم»[131]، فقد أبان أن وسائل المعرفة التي يعتمد عليها العقل البشـري كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، والجوهر والعرض ونحو ذلك، ليست إلا وهمًا وخداعًا، ومن ثم لا تمكن المعرفة.... وخلاصة ما تقدم أن السفسطائية انقسموا إلى ثلاث فرق:
1- اللاأدرية: الذين يقولون: لسنا ندري ولسنا ندري أننا لا ندري!.
2- العنادية: الذين يقولون لا توجد أي قضيّة بديهية أو نظرية إلا ويوجد لها ما يعارضها، وتوجد معاندة بين القضايا، مثلاً قضية «العالم حادث» وبراهينها تتعارض مع قضية «العالم قديم» وبراهينها، وبما أنه يوجد تعارض وتناقض دائم بين القضايا فلا يمكننا الترجيح بينها، والحكم بشأنها!
3- العندية: الذين يقولون عقيدة كل قوم هي حق بالنسبة إليهم وباطلة بالنسبة إلى خصومهم. [يعني الشيء الواحد يمكن أن يكون حق وباطل في الوقت ذاته! فهؤلاء يقولون بالنسبية المطلقة وإنكار الحقائق الذاتية للأشياء].
إبطال كلام السفسطائية:
ينبغي أن نعلم أن قول السفسطائيين بنفي الحقائق مكابرة للعقل وللحسّ، ويكفي للردّ عليهم أن يُقال لهم: هل قولكم «إنه ليس للأشياء حقيقة» حق أم باطل؟ إن قلتم هو حق فقد أثبتُّم حقيقةً ما ونقضتم قولكم، وإن قلتم هو كلام باطل اعترفتم ببطلان دعواكم أنه ليس للأشياء حقيقة!!
ونقول أيضًا للشكاكين منهم: هل شكُّكُم هذا ثابت وصحيحٌ وحقيقيٌّ أم أنه غير موجود وغير صحيح؟ إن قلتم بل هو موجود وصحيح فقد أثبتُّم حقيقةً من الحقائق، وإن قلتم بل هو غير موجود وغير صحيح فقد أبطلتم شكَّكُم ونفيتموه ومن البديهي أن نفي الشك معناه إثبات الحقائق.
أما قول من قال إن كل قضية هي حق عند من يعتبرها حقًا وهي باطل عند من يعتبرها باطلاً، فجوابه: إن مجرّد الاعتقاد بأن شيئًا ما حقٌّ لا يجعله حقًّا، كما أن مجرد الاعتقاد بأن شيئًا ما باطلٌ لا يجعله في حقيقته باطلاً، بل الحق هو الموجود الثابت في واقع الأمر ونفسه وذاته ولا دخل للاعتقاد في ثبوته أو عدم ثبوته في ذاته، ولا تتغير حقيقة الشيء بسبب الاعتقاد به أو عدم الاعتقاد به، ولو صح كلامكم هذا لكان الشيء الواحد ثابتًا وموجودًا، ومنفيًّا ومعدومًا في الوقت نفسه!! وهذا يؤدي لاجتماع النقيضين وبطلانه من أوضح البديهيات.
طريقة الحِسِّيِّين والتجريبيين وإبطالها:
يرى أصحاب هذا المذهب أنه لا يوجد شيء سوى المادة والأجسام المادية، ويقولون إن الموجودات هي فقط تلك التي تلتقطها الحواس، وليس وراء الحس شيء، ويقولون إن موضوع المعرفة وما يمكن للبشـر أن يصلوا إليه من علم هو الأمور المحسوسة فقط ويعتبرون العلم منحصرًا فقط في حدود المحسوسات التي تقع تحت التجربة ويمكن التحكُّم بها أما ما ليس بمحسوس، فلا يمكن للتفكير العقلي أن يثبت وجوده، وكل علم يستند إلى المعقولات ويدور حولها لا يَعْتَبِرُونه علمًا بل مجرّد وَهمٍ ورَجمٍ بالغيب.
إذن موضوع علم الحِسِّيِّين هو المحسوسات، ويعتبرون أن القوة التي يمكن للإنسان أن يتعرّف بها على الأشياء هي قوة الإحساس والشعور. والحواس في نظرهم ليست شيئًا سوى الأعصاب، وطريقة بحثهم هي طريقة التجربة والحسّ فكل ما أوصلا إليه فهو العلم، لذلك فأصحاب هذا المذهب لا يعتبرون الإلهيات والنبّوات وعلم النفس والأخلاق علمًا لأن مباحثها لا تتعلَّق بالأمور المحسوسة أو التي تقع تحت التجربة والحسّ وخلاصة كلامهم: سلامٌ على الوحي والدين! ......
والدليل على فساد قول الحِسِّيِّين ما يأتي:
1- نحن نعلم بالضرورة أن أفراد البشر مشتركون بحقيقة الإنسانية، وحقيقة الإنسانية هذه إما أن نقول إنها ذات شكل ومقدار وحيّز معين أو نقول ليس لها شكل ومقدار وحيِّزٌ محدَّد.
إن كان لذلك القدر المشترك بين البشر [الإنسانية] شكل وحيز معين للزم من ذلك أن لا يكون مشتركًا لأن كل تشخُّص يخالف التشخُّص الآخر، وإذا لم يكن لتلك الحقيقة المشتركة مقدارًا أو وضعًا وشكلاً مُعَيَّنًا ولا محدَّدًا بأي تحديدٍ خاص، بل يصلح له أي تحديد، فمن المسلم به أنه لن تكون هذه الحقيقة المشتركة عندئذٍ محسوسةً بل ستكون حقيقةً معقولةً، وبالتالي بَطُل قولهم إن كل ما ليس بمحسوس لن يكون معقولاً وليس له وجود. والحقيقة أن البحث والتفتيش في المحسوس ساقنا إلى شيء غير محسوس وهو المفهوم الكلي للإنسان [حقيقة الإنسانية].
2- إن الذي يعترف بالمحسوسات يجب عليه أن يعترف بوجود حقيقة الإحساس والإدراك لأنه لولاها لما وُجدَ المحسوس. وحقيقة الإحساس هذه ليست شيئًا محسوسًا بل معقولاً فالاعتراف بالمحسوس يستلزم الاعتراف بغير المحسوس أيضًا.
3- لا يمكن لأي عاقل أن ينكر تعقُّلَه رغم أن العقل ليس متوهمًا ولا ملموسًا بالحسّ.
4- هناك تعلُّقات للمحسوسات لا تُدرَك بالحس ولا بالتوهم وذلك مثل إدراك الطبائع الكلية مثل العشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة والجبن وأمثالها، لأن العقل هو الذي يدرك كلياتها أما نماذجها وجزئياتها مثل عشق الشخص الفلاني أو الغضب منه أو الخوف من فلان، فلا تدرك بالحسّ بل تُدرَك بالوهم، وإذا ثبت أنه توجد في عالم الوجود موجودات خارجة بالذات عن هذه المراتب مثل الذات الربوبية وعالم الغيب فهي أولى أن تكون معقولةً لا محسوسةً.
أما توهم الحسِّيِّين بأن الفكر ليس في الحقيقة سوى وظيفة لعضوٍ من أعضاء البدن هو المخ تمامًا كما أن وظيفة المعدة والأمعاء هضم الطعام ووظيفة الكبد إفراز الصفراء، ووظيفة الغدد تحت اللسانية إفراز اللعاب، وأن التفكير والاستدلال نتيجة عمل آلة الدماغ ونتيجة تفاعل التأثيرات الواردة عليه؛ فهو توهم في غاية الفساد والبطلان والدليل عليه أن عمليات الهضم وإفراز الصفراء واللعاب ليست من نوع الفكر بل هي أعمال مادية محضة مماثلة لأعمال الطبيعة كنمو النبات والتبخّر لكن عمل الفكر هو عمل معنوي يتضمن الإحاطة بالكون المحسوس والمعقول ولا يوجد أي تناسب بينه وبين الأعمال المادية الصرفة كهضم الطعام وأمثالها.
أضف إلى ذلك أن الدماغ ليس هو المدرك على الحقيقة بل هو وسيلة وآلة للإدراك كما أن العين ليست هي بذاتها المدركة أي المبصرة بل هي آلة للبصر والرؤية.
فإن قيل: إن قدرة الإنسان على التفكير تتبدل مع كبر حجم الدماغ أو صغر حجمه كما أن القدرة على الإدراك تتأثر تمامًا بكمال شكل الدماغ (المخ) وتركيبه الكيميائي. قلنا في الجواب: إن هذا الكلام يماثل قولك إن قوة الإبصار لدى الإنسان تقوى وتتأثر بسلامة عضو العين وصحة عمل أجزائها وشكل ومواد تركيبها الكيماوي، وإن السمع يتأثر سلبًا وإيجابًا بصحة وسلامة وكمال أجزاء الأذن ودقة تركيبها أو وجود خلل فيها. لكننا إذا دققنا في الأمر بشكل كامل لرأينا أن حقيقة المبصر ليس هو العين وأن السامع على الحقيقة ليس هو الأذن لأنه يحدث أحيانًا أن تكون العين في قمّة السلامة والصحة ومع ذلك فالإنسان بسبب انشغاله بأمر مهم أو وقوعه في خوف شديد أو ألم مبرح لا يرى ما يوجد أمام عينيه، وكذلك قد تكون الأذن سالمةً صحيحة ولكن الإنسان بسبب انشغاله واستغراقه بأمر مهم، فإنه لا يسمع حتى ولو صُحْتَ به بأعلى صوت.
وقد يُقَال: إنه بسبب تأثُّر المخ بالألم والفزع الشديد ينصـرف الإنسان عن تمييز المبصـرات والمحسوسات، وعدم الإبصار وعدم السمع سببه هذا الانصراف.
لكن هذا الاعتراض في غاية الضعف فإن الإنسان الذي يملك حظ الانتباه من شغل إلى شغل آخر والتوقف عند أمر دون أمر آخر لا يمكننا أن نقول عنه إنه موجودٌ ماديٌ محض، فنحن لو دقَّقنا في الآلات المادية لأدركنا أنها لا تنصـرف عن عمل إلى آخر إلا إذا وجد حائل مادي، مثلاً المرآة التي تعكس صورة شخص دون شخص آخر، لا تتوقّف عن عكسها صورة الشخص إلا إذا حال بين المرآة وبين الشخص حائل أو حجاب ما، إذن لو كان المخ المادي المحض مثل آلة الساعة أو الآلات البخارية فإنه من الجنون أن نقول إنه ينصرف بسبب الألم والفزع لأن التألم والفزع من الأمور المعنوية والوهمية وهي ليست من خواص المادة والحركة.
والخلاصة إن تركيب المخ والمواد الداخلة فيه وخواصه معروفة فكيف يمكن تصور أن ينشأ جوهرٌ حيٌّ لا حدّ لتصوراته ولا نهاية لمدركاته من مواد جامدة غير مدركة. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ»[132].
بعد ذلك وبعد أن يردّ سنكلجي أيضًا على الصوفية الذين يثبتون الحقائق عن طريق الكشف والشهود ويضعِّفون حجية العقل والبراهين العقلية، ويفنِّد حججهم، يعرض منهج القرآن في إثبات الحقائق، ويبيِّن أنه منهجٌ يقوم على التفكير والاستدلال والبرهان. وبعد أن يبين موانع التعقل والتفكر، يبدأ بذكر أدلة القرآن المتينة القاطعة على أسس الدين وأصوله وأولها إثبات الخالق تبارك وتعالى، فيقول تحت عنوان: «أدلة القرآن على إثبات خالق العالم»:
« يظهر من استقراء الكتاب المجيد إثباته لصانع العالم بأربعة طرق:
1- دليل العناية. 2- دليل الاختلاف. 3- دليل الاختراع. 4- دليل الفطرة.
وفيما يلي بيان هذه الطرق الأربعة:
1- دليل العناية
يعتمد هذا الدليل والبرهان على ملاحظة العناية بالإنسان والاهتمام بخيره وما ينفعه، وأن جميع الموجودات خُلقت لأجله، ومبنى هذا الدليل أمران:
الأمر الأول: أن كل موجودات العالم موافقة لوجود الإنسان ومنسجمة معه، والأمر الثاني: أن هذه الموافقة لا يمكن إلا أن تكون من فعل فاعل قاصد مريد، فلا يمكن أن تحصل هذه الموافقة والانسجام الكامل بالصدفة.
أما الأصل الأول، فإن الليل والنهار والشمس والقمر والفصول الأربعة والكرة الأرضية كلها منسجمة مع وجود الإنسان وملائمة له، كما أن معظم الحيوانات والنباتات والجمادات وأغلب الجزئيات الأخرى كالمطر والأنهار والبحار والماء والهواء والنار، كلها مناسبة تمامًا للإنسان وملائمة له. كذلك إذا تأملنا بدّقة في أعضاء جسم الإنسان والحيوان رأينا أنها جميعًا تتفق مع حياة الإنسان ووجوده، وهذا الأمر واضح كل الوضوح، وكلُّ من أراد أن يعرف الله أكثر وأن يقوى لديه أساس التوحيد ويصل إلى كماله، ما عليه إلا أن يفحص ويبحث في المنافع التي لا حصر لها لأعضاء جسم الإنسان.
ومن هذا الأصل يثبت الأصل الثاني وتتم البرهنة عليه: لأنه من المستحيل أن تجتمع كل هذه الموجودات لأجل منفعة وجود الإنسان دون أن يكون وراء ذلك إرادة فاعل، بل بمجرّد الصدفة. مثلاً إذا رأى شخصٌ صخرةً منحوتةً على شكل كرسيٍّ وموضوعةً لأجل الجلوس عليها، فإنه يحكم أن هذا قد تمَّ بإرادة فاعل، إذا لا يمكن أن يكون نحتها ووضعها على ذلك النحو قد تم بالصدفة المحضة، أما إذا رأى صخرةً عاديةً ليست منحوتةً ولا موضوعةً على نحوٍ يناسب الجلوس عليها، فيمكنه أن يقول إن تلك الهيئة حصلت دون قصد قاصد. كذلك إذا نظر الإنسان إلى العالم ورأى الشمس والقمر والنجوم وفهم كيف تنشأ عنها الفصول الأربعة والليل والنهار وكيف أنها تسبب نزول الأمطار وحركة الرياح وإذا تأمَّل في أطراف الأرض والحيوان والنبات وتأمَّل في الانسجام والتوافق بين الماء وبين الأسماك والحيوانات البحرية والنهرية، والانسجام والتوافق بين الهواء والطيور، فإنه يُقِرُّ ويعترف مباشرةً بوجود صانع للعالم ووجود ربٍّ حيٍّ مريدٍ، ويدرك عناية هذا الربّ بإيجاد هذا التوافق والانسجام والتناسب بين أجزاء عالم الموجودات والإنسان وأن ذلك يستحيل أن يكون وليد الصدفة المحضة بل لا يكون إلا بقصد قاصدٍ وإرادة مريد ....»[133].
ويأتي سنكلجي هنا بعدد من آيات القرآن الدالة على هذا الأمر ويتابع على هذا النحو البرهاني الفذّ بيان دليل الاختلاف ودليل الاختراع ويأتي على كل منها بآيات من القرآن حتى يصل إلى دليل الفطرة فيقول:
«دليل الفطرة لإثبات خالق العالم: يقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَا...﴾ [الروم:30]. ويقول حضرة الرسول الأكرم ص: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»[134].
والدليل على ذلك أن الناس يتَّجهون بطبعهم وغريزتهم ودون إرادةٍ منهم إلى الله تعالى خالق العالم، ويلجؤون إليه ويستغيثون به وحده في الشدائد والبلايا والمُلِمَّات ولا يعتبرون - في أعمق وجدانهم - أحدًا مسبِّبًا للأسباب ومسهلاً للأمور الصعاب، سوى ذاته الأحدية المقدّسة، ويعتبرون أن حلّ المشكلات وقضاء الحاجات وإزالة الكُرَب بيد الله تعالى وفي قدرته، و يعتبرون النجاح والفوز موكولاً إلى إرادة الله ولطفه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠ بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ ٤١﴾ [الأنعام:40-41].
"سَأَلَ رَجُلٌ الإمام الصادق أن يدله على الله وعبادته، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدَ الله! هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: الصَّادِقُ: فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حَيْثُ لَا مُنْجِيَ وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حَيْثُ لَا مُغِيث»"[135].
يتبـيَّن مما ذُكر أن أجلى الموجودات وأظهرها ذات الباري أ، فلا بد إذن أن تكون معرفته أول المعارف البشرية، ومبدأ معلومات الإنسان، ولا بد أن يكون فهمها أسهل المفاهيم لعقول وأذهان البشر، ولكننا نرى أن الأمر على العكس من ذلك، فلا بد أن لذلك سببًا يجب أن نكتشفه.
أما قولنا إن الله تعالى أجلى الموجودات وأظهرها فهذا يمكن إثباته بالمثال الصغير التالي: عندما نرى شخصًا يكتب كتابًا أو يخيطُ لباسًا فإن أظهر وأجلى ما يظهر لنا من صفات هذا الشخص هو الحياة والعلم والقدرة، أما صفاته الباطنية مثل غضبه وشهوته وخُلُقه، ومَرَضِهِ وصحّته فلا تكون معلومة لنا، كما أننا لا نميِّزُ جميع صفاته الظاهرية في المرحلة الأولى، ونشك في بعض صفاته الظاهرية الأخرى، ولكن الصفات التي هي أظهر من جميع الصفات الأخرى، والتي يتوجه إليها ذهننا منذ الوهلة الأولى، أعني صفة وجود الحياة والعلم والقدرة، لا يشك ذهننا فيها أبدًا، علمًا أن الصفات ليست مثل بعض الصفات الظاهرة للعيان، كلون البشرة والطول والعرض التي تدركها حواسنا الخمس فورًا، لكنها صفات ندركها مباشرةً بمجرد ملاحظتنا لحركة يد الكاتب في كتابته أو في خياطته فندرك إرادته وعلمه وحياته.
كذلك إذا ألقينا نظرة على العالم وعلى ما سوى الله وشاهدنا ما تدركه حواسنا الخمس فيه من برٍّ وبحرٍ وجبل وصحراءٍ ونباتٍ وجمادٍ وحيوانٍ وكواكب سماويةٍ ونجومٍ ثابتةٍ وسيّارةٍ وقمرٍ وشمسٍ، وتأملناها بدقة، ولاحظنا هذه الحركة الدائمة وهذه الموجودات والمصنوعات المختلفة وهذه التطورات المتنوعة والتحولات العديدة التي نجدها في أنفسنا وفي بني نوعنا وفي جميع ذرات العالم، أدركنا وجود صانعٍ للعالم ذي حياةٍ وعلم وقدرة، وأقررنا واعترفنا به، بل قبل أن ندرس ونتأمل العالم يمكننا أن تأمل أنفسنا ونتأمَّل الحركات والأطوار الناشئة عنها؛ فبمشاهدة أعضاء بدننا ورأسنا وأيدينا وأرجلنا ورقبتنا ودماغنا وقلبنا ندرك ونفهم أنها مصنوعة من قَبِل صانع قدير عالم حيٍّ، ولما كان العلم بالأنفس من أسبق العلوم كانت نتيجة هذه المشاهدة والعلم - أي الإقرار بوجود صانع حيِّ مدركٍ - أظهر وأسبق وأجلى من جميع المعارف.
وإذا كانت يد الكاتب والخياط تدل على علمه وحياته وقدرته فكيف لا تدل كل هذه الموجودات من بشر وحيوان ونبات وجماد واختلاف للأنواع والأنفس وتركيب الأعضاء واللحم والجلد والعظم والأعصاب، والخلاصة كل الذرات فردًا فردًا، على وجوده تعالى وكيف لا تكون شاهدًا ناطقًا بأعلى صوته على قدراته وحياته وعلمه؟! لقد أذهلت مشاهدة هذا المعنى العقول وأعجزت الأفكار في وادي الحيرة، فأيُّ عينٍ لم تذهلها مشاهدة العظمة وأي عقل لم يبهت ويتحير من مطالعة الجمال والجلال اللامتناهيين»[136].
نكتفي بهذا المقدار من بيان نموذج لجهود سنكلجي في الرد على أسس الإلحاد والمادية، في ومن المفيد جدًّا قراءة ما كتبه في الكتاب ذاته حول إثبات النبوة و إثبات المعاد، وسائر عقائد الدين وتفنيد جميع شبهات المشككين والملحدين.
[126] عزلت قوات الحلفاء [بقيادة إنجلترا] بعد بداية الحرب العالمية الثانية الملك رضاشاه سنة 1320 هـ.ش/1941م ونفوه إلى خارج إيران وجاؤوا بابنه الشاب محمد رضا وأجلسوه على عرش إيران. [127] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، الفصل الأول، ص 24 - 25. باختصار وتلخيص. [128] المصدر نفسه، ص 27، المتن والحاشية. [129] مذهب المثالية الفلسفي له أشكال متعددة، والمقصود منه هنا ذلك المذهب الفلسفي الذي لا يعترف بوجود الحقائق الخارجية ويعتبر أن الموجودات المادية لا وجود لها في الواقع بل في تمثلاتنا الذهنية عنها، ويرى أن كل ما نعرفه عن العالم من مفاهيم وحدوس، هو إنتاج محض للفكر وتمثلات ذهنية وليست الأشياء بذاتها وكما هي فعلاً، لأن معرفة الأشياء بذاتها وكما هي فعلاً أمر غير ممكن. [130] المذهب التجريبي الحِسِّي مذهب فلسفي إلحادي يحصر الحقائق الثابتة فيما يقع تحت إدراك الحواس ويمكن تجربته في المخبر فقط. ويرى أن كل ما عدا ذلك غير ثابت ولا وجود له بل هو وهم وخرافة. [131] ديفيد هيوم: فيلسوف انجليزي ملحد ولد في «ادنبره» عام 1711م. نشـر كتابه «الطبيعة البشرية» عام 1740 ثم لخص بعد بضع سنوات أفكاره الفلسفية في كتاب مبسوط ووجيز هو «أبحاث العقل البشري»، توفي في ادنبره عام 1776م. (تر) [132] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن، ص 127 إلى 140. باختصار وتلخيص. [133] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن، ص 183 إلى 184. باختصار وتلخيص. [134] محمد بن علي بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 49؛ وله أيضًا في: علل الشرائع، ج 2، ص 376. وهو حديث متفق عليه في مصادر أهل السنة رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. [135] محمد بن علي بن بابويه القمي، التوحيد، تحقيق هاشم الحسيني، قم، جماعة المدرسين، ط1، 1398 هـ.ق، ص 231. [136] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين القرآن، ص 193 - 195. باختصار وتلخيص.
للشيخ «شريعت سنكلجي» بحث مهم في كتابه «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن] حول النبوة العامة ثم الأدلة على نبوة خاتم الأنبياء محمد المصطفى ص وفي آخره بيان لحقيقة الوحي يرد فيه على تفسير الفلاسفة - الذي يؤمن به أيضًا الباطنية من الإسماعيلية، وقلَّة من المؤمنين بالفلسفة أيضًا من علماء الإمامية - لمعنى الوحي والنبوَّة. وقد رد عليهم الشيخ «شريعت» ردًّا علميًّا مدلَّلاً ينبئ عن عمق فكره وسعة إحاطته العلمية نورده فيما يلي مختصرًا. قال تحت عنوان «تحقيق في حقيقة الوحي»:
«يملك الأنبياء والرسل حسًّا وشعورًا غير شعور العقل ويتمتَّعون بقوة أعلى وأقوى من قوَّة العقل، وهذا الحس أو الشعور غير موجود لدى غير الأنبياء، وبيان هذا الأمر يحتاج إلى ذكر مقدّمة:
اعتبر الفلاسفة أصول الإدراكات ثلاثة: الإحساس والتخيُّل والتعقُّل.
فالإحساس هو الإدراك الذي يحصل للنفس بواسطة الحواس الظاهرة، وشرط الإدراك الحسّي أن يكون المُدْرَك (بفتح الراء) شيئًا ماديًّا وحاضرًا لدى المدرِك (بكسر الراء) كي يحصل الإدراك.
أما التخيُّل فهو إدراك يحصل للنفس بواسطة الخيال الذي يدرك الصور، ولا يُشترط فيه حضور المادة عند الإدراك.
وأما التعقُّل فهو إدراك يحصل للنفس بواسطة القوّة العاقلة التي تدرك المعاني المجردة والحقائق الكّليّة.
ويرى الفلاسفة أن حقيقة الوحي هو كمال القوّة العقليّة التي يدرك بها النبّي الحقائق والمعاني بأسرع وقت من خلال الاتّصال بالعقل الفعّال، وكمال قوة التخيُّل لدى النبّي تحول تلك الصورة المجرّدة إلى موجودٍ حسّي، وتعكسه بصورة ألفاظٍ مسموعةٍ، وتنعكس حقيقة جبريل - الذي هو العقل الفعّال- في نفس النبي بصورة شخص نوراني وذلك بسبب قوة خيال النبي. فقد اعتبروا الوحي إذن من شؤون القوة العقليّة للنبّي، واعتبروا رؤية جبريل وسماع الكلمات من تصرفات قوة الخيال ومخترعاته.
وهذا التحقيق غير مقبول ولا مرضيٍّ، إذْ يلزم عن كلام الفلاسفة أن لا يكون القرآنُ الكريم كلمات ربانيةً، وأن لا يكون لنزول جبريل حقيقةٌ، بل أن تكون نفس النبيِّص هي التي اخترعت الألفاظ المسموعة بقوّة الخيال وأن يكون شخص جبريل شبحًا من صنع القوَّة التخيُّليّة له!!.
گرچه قرآن از لب پيغمبر است
هر كه گويد حق نگفته كافر است
أي:
رغم أن القرآن خرج من شفتي النبي
لكن كلُّ من يقول إن الحقَّ لم يَقُلْه، كافرٌ
وما نريد بيانه هاهنا أن الوحي إلى الرسل يحصل من خلال نوع رابع من الإدراك وهو قوة فوق العقل، والوحي فوق التعقُّل، ويُطْلقُ على الحاسة أو القوة التي يكتشف الأنبياء والرسل بواسطتها الحقائق، والتي هي مهبط الوحي ونزول جبريل، لفظ «الفؤاد»، كما صرح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ ١١﴾ [النجم:11]، فالأنبياء والرسل رغم أنهم مصادقًا لقوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ﴾ [الكهف:110]، فهم بشـرٌ مثلنا يأكلون ويشـربون ويمشون وينامون ويموتون، وتجري عليهم كل لوازم البشريّة، ولكنهم من ناحية الروح والنفس والقوى الباطنية والإدراك صنف خاص وممتاز من البشر. كما نشاهد أن أصناف البشر رغم اشتراكهم في حقيقة الحيوانية والناطقية يختلفون عن بعضهم اختلافًا كبيرًا جدًّا إلى درجة أنه يُخَيَّل للإنسان وكأنهم أنواع مختلفة، فتجد صنفًا من الناس يتَّصفون بدرجة من البلادة وضعف الذهن والبله حتى لكأنهم أدنى ذكاءً من الحيوانات، في حين تجد صنفًا آخر ذوي عقل قويٍّ وذكاء وقَّاد يجعلهم مختلفين عن الصنف الأول تمامًا، وذلك كالفلاسفة والمخترعين، وتجد صنفًا متوحشًا دنيئًا وكأنه أكثر توحشًا وسَبُعِيَّةً من السباع المفترسة، في حين تجد صنفًا على درجة من الطهارة والنجابة والسلامة وكأنه أرفع من الملائكة، ولا يمكنك أن تقول إن إدراكات الفلاسفة هي عين إدراكات البُله (جمع أبله) بل يمكن القول إن هناك تضاد واضح بين الأغبياء والحمقى من البشـر وبين الفلاسفة والمخترعين، وهذا الاختلاف الشديد بين أبناء البشر حَدَا ببعض الفلاسفة مثل «أبي البركات» إلى الميل إلى فكرة أن البشر هم في الحقيقة أنواع مختلفة وليسوا نوعًا واحدًا.
وخلاصة الكلام، إذا استقرأنا أصناف البشـر وجدنا أنهم شركاء في هيكل الإنسانية ولكنهم مختلفون في جوهر النفس والإدراكات والأخلاق.
فدائرة إدراك صنف الأغبياء وضعاف العقل هي المحسوسات التي تدركها الحواس الخمس الظاهرة، وقوة الخيال والواهمة، ولا تتجاوز مُدْرَكَاتهم هذه الدائرة.
أما الفلاسفة والمخترعون فلا تخرج مدركاتهم عن دائرة العقل، وإدراكاتهم عقلية. أما الأنبياء والرسل فدائرة إدراكهم فوق العقل، ورغم أن قواهم الظاهرة والباطنية في غاية القوة والشدة والكمال، إلا أن القوة التي يتعرّضون فيها على الأشياء قوة وشعور آخر، لا سبيل أبدًا، للعقل والخيال والوهم إليه، فمشاهداتهم تكون بالفؤاد.
و هناك فرق جوهريٌ بين الأنبياء والفلاسفة:
فآلة الإدراك لدى الفلاسفة هي العقل، وآلة المشاهدة لدى الأنبياء هي الفؤاد، وسلسلة الرسل مفطورون على الانسلاخ عن عالم البشرية ومجبولون على التخلي عن تمام القوى. وروح الرسل الطاهرة تنسلخ، عند نزول الوحي وجبريل عليهم، انسلاخًا تامًّا وتتخلّى تخليًا حقيقيًّا عن جميع القوى الظاهرة والباطنة؛ فهم يشاهدون عالم الغيب بقوة الفؤاد، وهذا الانسلاخ والتخلية، يحصلان لهما بلمح البصر ويطلق على حالة الانسلاخ هذه والانقطاع عن عالم البشرية والاتصال بالملأ الأعلى وناموس العِلم المقدس الذي هو جبريل اسم «الوحي».
فكما يمتاز جنس البشر عن جنس الحيوانات بالنطق وإدراك الكليّات، كذلك يمتاز جنس الأنبياء عن الفلاسفة بقوة الفؤاد وسرعة الانسلاخ ومشاهدة سكان الملأ الأعلى وسماع الخطاب الرباني والكلمات السبحانية.
فإذا عرفنا أن حالة الوحي عبارة عن مفارقة عالم البشرية إلى عالم الملكية وتلقِّي كلامِ ربِّ العالمين، علمنا لماذا كانت حالة الوحي من أشد الحالات وأصعبها، كما قال تعالى ﴿إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا ٥﴾ [المزمل:5]، فكان النبيص يعاني من التنزيل شدَّة، وكان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا. وكان ثقل الوحي شديدًا عليه إلى درجة أنه كان يشعر وكأنه يموت عند الوحي ونزول جبريل عليه، ثم يحيى من جديد عند ذهابهما عنه، ولو كانت هذه الحالة من الوحي من قوة التعقل والتخيل كما زعمه الفلاسفة لما كان هناك أي معنى للغياب عن الوعي، في حين أن الرسول الأكرمص كان يعاني بعد الوحي من صداع شديد وكان يخضب رأسه بالحناء لإزالة الصداع الذي ينتابه.
إذن يتبيَّن مما ذُكر أنه لا يمكن تصوُّر وقوع الخطأ من الأنبياء في الوحي وأنه لا دخل أبدًا للوهم والخيال في أمر الوحي على الإطلاق. إن هذا الشعور الرابع المقدَّس يرى الحقائق كما هي ويسمع كلمات الحق دون أي تصـرُّف للخيال والوهم. والشاهد على هذا التحقيق نص كتاب الله لاسيما الآيات المباركات من سورة النجم»[137].
[137] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين القرآن، ص 220 - 226.
تعرَّض «شريعت سنكلجي»، بعد أن جهر بدعوته الإصلاحية التصحيحية، التي تحدثنا عنها، إلى محاربة المغالين من علماء الشيعة من قومه، الذين لم يجدوا سوى كلمة «الوهّابي» لإطلاقها عليه، وذلك بعد أن عجزوا عن مناقشته بطرق علمية. وقد أصبحت تهمة «الوهابية» -كما هو معروف - تُوَجَّه في الأدبيات الشيعية المغالية، إلى كل من يرفض الاعتقاد بالخرافات والبدع التي تلازم الفكر الطائفي، ويدعو إلى إعادة النظر في العقائد الشيعية الموروثة.
لنستمع إلى الشيخ «شريعت» نفسه يصف لنا ما لقيه من أذى وعنت من شيوخ قومه، ومحاربة وتسليط للعوام عليه وتهم باطلة له. قال في مقدمته على الطبعة الثانية لكتاب «توحيد عبادت» [توحيد العبادة]:
«.... إن تأليف ونشر هذا الكتاب [أي كتاب توحيد العبادة] وكتاب «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن] ومحاضرات مساء الخميس، قد كلفني الكثير من المتاعب إذْ قام عددٌ من الأراذل والجهلة الذين لم يشمُّوا رائحة التوحيد بشنّ حملات مسعورةٍ ضدّ مؤلف الكتابين ولم يتوانوا عن كل ما أَمَرَتْهم به أنفسهم الأمارة بالسوء من الافتراء والبهتانٍ بحقِّي.
ولا غرو فمن الطبيعي أن طرحَ ما يخالف عقائد جماهير الناس وآراء العوام وأوهامهم أمرٌ صعبٌ للغاية وخطيرٌ جدًا وقد ابتليت بهذا الأمر منذ قرابة 15 سنة فليس هذا بالأمر الجديد بالنسبة لي.....
وفي اعتقادي أن هذه الفضائح والتهم التي يرميني بها الجهلة وأدعياء الباطل بسبب الإصلاحات التي أقوم بها لا تساوي شيئًا ولا وزن لها، لأنني في هذا الكتاب وسائر كتبي ومحاضراتي التي أبيِّنُ فيها إسلام السلف الصحيح وأعرِّف به إنما أضرب بفأس تُجْتث الخرافات من جذورها وأهدم معابد الأصنام فوق رؤوس أصحابها .....
فلا عجب أن ترتفع أصوات المرتزقين من تلك الأوهام عندما يرون أن منافعهم ومصالحهم أصبحت مهدَّدة بالخطر، لذا تجدهم يستخدمون كل سلاح ممكن لمحاربة هذه الدعوة التوحيدية. وينبغي أن نعلم أن حرب هؤلاء ضدنا ليست حربًا دينيةً بل حربًا مادية واقتصادية. فيا ليتهم كانوا يعتقدون فعلاً بما يقولون لأن الدفاع عن العقيدة أمرٌ محمود، ولو كانوا متدينين حقيقةً ويعملون لخدمة الدين فلماذا يهاجمونني باستمرار مع أنني لا أقوم إلا بدعوة الناس إلى الله الواحد رب العالمين وإلى ختم نبوة سيد المرسلين وإلى اليوم الآخر وإلى العلم والتقوى؟!
إن مجتمعنا يغصُّ بالمنكرات والبدع وفيه كثير من الزنادقة الذين يحاربون القرآن والإسلام تحت عناوين مختلفة ويقومون بأعمال متنوعة وعديدة تهدم الأخلاق والقيم وتعاليم الدين، فلماذا لا يقوم هؤلاء الذين يحاربوننا بمحاربة أولئك الفجار والتصدي لهم، لماذا لا يحاربون من يذهب إلى المراقص والخمارات ويمارسون أكل الربا والاحتكار وأمثالهم، ولماذا لا يجاهدون لمنع الكتب الضالّة والمقالات الضارّة التي تؤدي إلى زوال الدين من أساسه وإلى القضاء على أعراض المسلمين ونواميسهم، وبدلاً من ذلك نجد أن كلَّ همِّهم هو منع الناس من قراءة كتابي هذا وكتاب «مفتاح فهم القرآن» ومن سماع دروسي ومحاضراتي!
إن أسباب ذلك واضحةٌ:
أولاً: إنه الحسد الذي يكنّه بعض الأمثال والأقران تجاهي فلما كان الحسود لا يملك القدرة على الوصول إلى مرتبة محسوده فإنه يسعى بكل جهده لكي يحط من شأن المحسود في أنظار الناس....
ثانيًا: لما أحدثت كتاباتنا ومحاضراتنا -بحول الله وقوته- تأثيرًا كبيرًا في الناس المثقفين وساهمت في تعريف الناس بتعاليم القرآن الكريم؛ ومن المؤكد أن الذين عرفوا تعاليم القرآن لن يضرهم بعدئذٍ كل ما يقوله مدعو الباطل ولن يطيعوا بعد ذلك الدجالين والشياطين من الإنس؛ من هنا أدرك الحُسَّاد أن مصالحهم أصبحت في خطر فلجؤوا إلى كل وسيلةٍ للحفاظ على مصالحهم ومنافعهم المهددة بالزوال، فقاموا أحيانًا بالتهديد بقتلي وأثاروا العوام ضدِّي؛ وليعلموا أنهم لا يستطيعون أن يهزموا كلمة الحق بالجَلَبَة والضوضاء، لأن الغلبة والدولة تكون في نهاية المطاف للحق، وأن جولة الباطل أيام وإلى الزوال»[138].
وقال أيضًا في مقدمته لكتابه «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن]:
«فلقد أُوذيت مِنْ قِبَلِ أبناء الزمان وتحمَّلت من أذاهم الكثير من العناء، وسَبَبُ ذلكَ أنَّني أُصِبْتُ بحسد الأقران لما أكرمني الله به من بعض نعمه ومن علم وعمل، فقام بعض الحُسَّاد بإيذائي بكل نوع من أنواع الأذى، وكالوا لي كلَّ تُهْمَةٍ وافْتِرَاء وإهانة لم يقع مثلها لـ«يزيد» و«شِمْر»! بل حاولوا قتلي مرتين لكن الله حفظني من شرهم، وكانوا يظنون أن الله يسلم عباده إلى أيدي الحساد ولم يدروا أن القلوب بيد مقلّب القلوب وأن العزَّ والذلّ والحياة والموت بيد قدرته وحده: ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٦﴾ [آل عمران:26].
والسبب الآخر لعداء الأقران وأبناء الزمان لي أن الله تعالى هداني لمعرفة دينه، فرأيت أن هناك خرافات كثيرة دخلت الدين وأن هناك أباطيل وأوهام كثيرة أُلصقت بالقرآن، ورأيتُ أن مبادئ الأديان الباطلة وخرافات الأمم السالفة قد حلَّتْ في مجتمعنا محلَّ تعاليم دين الإسلام، حتى لم يعد هناك امتياز بين الإسلام والخرافات، وازدهرت آلاف الأنواع من الشـرك وعبادة الأصنام باسم الدين والتوحيد! وراجت آلاف الأنواع من البدع والخرافات باسم سنة النبي ص! .... لذا رأيت لزامًا عليّ، طبقًا لأمر الرسول الأكرم ص الذي قال: «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَه وَ إِلَّا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»[139]، أن أقوم ببيان ما علَّمني الله من أمر الدين وأن أفصل بين الخرافات والقرآن الكريم، وأن أُعَرِّفَ المسلمين بالدين الحقيقي، ... لا تأخذني في ذلك لومة لائم:
أجدُ الملامة في هواك لذيذةً حبًا لذكرِكَ فلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
لكن لما وجد أنصار الخرافات والجهل أنهم لا يستطيعون مواجهتي بالدليل والقرآن، أخذوا يثيرون العوام ضدِّي، ولم يتوانوا عن أي افتراء وإهانة في حقي، ونسبوا إلي مذاهب وآراء باطلة، بل سعوا بالوشاية ضدي، ولولا حفظ الله لي لكانت مساعيهم كفيلة بالقضاء عليّ وعلى حياتي وأسرتي.
والخلاصة لقد فعلوا كل ما استطاعوا فعله ولم يكن لي في كل ذلك أي مدد ونصير سوى الله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓ﴾! [الطلاق:3]»[140].
[138] شريعت سنكلجي، توحيد عبادت، مقدمة الطبعة الثانية، الصفحات: ج - د. [139] محمد بن يعقوب الكُلَيْنِيّ (ت 329هـ)، الكافي، ج 1، ص 54، النعمان بن محمد المغربي (ت 363هـ)، دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، تحقيق وتصحيح آصف الفيضي، قم، مؤسسة آل البيت عليهم، الطبعة الثانية، 1427هـ.ق، ج 1، ص 2. وفي مصادر أهل السنة: ابن عساكر، تاريخ دمشق الكبير، والديلمي، مسند الفردوس، كلاهما بلفظ مشابه فيه زيادة، وبسند ضعيف عن طريق معاذ بن جبل. [140] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن [ مفتاح فهم القرآن]، المقدمة، ص 6 - 7.
في يوم الخميس، 15من شهر دي من عام 1322هـ.ش المطابق للتاسع من شهر محرم 1363هـ.ق/والسادس من شهر فبراير (كانون الثاني) 1944م، رحل شريعت سنكلجي عن الدنيا عن عمر ناهز الـ 53 عامًا[141]، لينطفئَ برحيله ذلك المشعل الذي ظل يشتعل قرابة عشرين عامًا أمضاها في الدعوة والجهاد باللسان والقلم، منيرًا درب الباحثين عن الحق والحقيقة. ودُفِن -رحمه الله- في قبو ذلك المسجد والمركز الدعوي الذي بناه وسماه «دار التبليغ»، وأمضى فيه رسالته الدعوية التوعوية الإصلاحية. وقد ترك ابنين اسم الأول محمد باقر واسم الثاني عبدالله[142].
يقول تلميذه المقرب الأستاذ حسينقلي مستعان:
«... أما حياة الأستاذ الفقيد فيمكننا أن نلخصها بأربع كلمات: «التقوى والعلم والإفاضة والمجاهدة». ومع الأسف الشديد فإن هناك كلمات أخرى تنتج عن هذه الصفات الأربعة - ويمكن أن نعتبرها في عصرنا نتيجة منطقية ومعقولة لهذه الصفات- وهي «المعاناة والتَّعب والهمّ»! ولكن عزاءنا هو أن حظّ جميع العلماء والمجاهدين الكبار من حياتهم ليس سوى المعاناة والتعب والهم!
[وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِبارًا تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ][143]
ولسوء الحظ، كان أحد آثار تلك المعاناة والتعب الذي لا ينتهي، وفاة الأستاذ الكبير في سن مبكرة حيث لم يكن قد تجاوز الـ 53 عامًا حين وافاه الأجل»[144].
[141] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاى مذهبی-سياسی إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، الصفحة 1016، الحاشية رقم 1، نقلاً منه عن مقال بعنوان: «اسم شريعت سنكلجي ونسبه» الذي نشرته مجلة «آينده» في عددها رقم 4 من السنة الثانية عشرة، ص 73. [142] انظر: كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي (مقدمة حسين قُلي مُستعان)، ص 3 - 7. وانظر أيضًا: نور الدين چهاردى، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 159- 176. [143] البيت للمُتَنَبي، وهو إضافة مني هنا لتناسبه التام مع كلام الأستاذ حسينقلي. [144] حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم للعلامة الشيخ شريعت سنكلجي، طهران، شركت چاپخانه تابان، 1323 هـ.ش/1944م، ص 1 - 4 من المقدمة.
بعد سنة من وفاة الشيخ «شريعت» قام أحد تلامذته المُقَرَّبين ومريديه المحبين وهو: «حسينقلي مستعان» بنشر أحد كتب شيخه «شريعت» وهو كتابه محو الموهوم، وقدَّم له بمقدمة بين فيها أهمية الكتاب وذكر نبذةً عن حياة مؤلفه المرحوم قال فيها:
«إن للمرحوم شريعت سنكلجي مؤلف هذه الرسالة والرسائل والكتب الأخرى حق عظيم عليّ من ناحية العلم والتربية، وعظمة هذا الحق المعنوي كبيرة إلى درجة لو قمت بشرح فضائله وكتبت عنه حتى آخر عمري لما أوفيته حقه.
عندما أُمِرْتُ بكتابة هذا التقديم لهذا الكتاب، قمت بمطالعة الصفحات المطبوعة من الكتاب محو الموهوم، ومرة أخرى قلت مرحى لهذا القلب الشجاع ولهذه اللهجة الصريحة والإحاطة والاطلاع الواسع الذي كان الأستاذ يتمتع به.
في رأيي إن أفضل الصفات الفضائل التي يمكن للإنسان أن يتحلى بها هي العلم والمعرفة وفي الوقت ذاته الشهامة والصراحة وثبات القدم، والتزامه بمعلوماته ومثابرته على العمل بها وهو ما يمكن أن نعبر عنه بصفة «العَمَل بالعلم». إن العلم في هذا العالم، بمعنى مطلق «المعرفة»، موجود كثيرًا، وفي ظني لا يمكن أن نعطي لهذا العلم وحده قيمة كبيرة؛ الأمر النادر جدًّا والذي له قيمة لا تقدر هي العمل بالعلم أي العلم الذي يترافق بالقدرة. إنه لمن الصعب جدًّا أن يعلم الإنسان شيئًا ويُوصل معلوماته إلى مقام اليقين والإيمان وتكون له الشجاعة التكلُّم بما عَلِمَه، وتكون له همة العمل به والدعوة إليه وتبليغه. إن الجهل الواقعي لا يزال مسيطرًا على العِلم الحقيقي، ليس في مجتمعنا فقط بل في جميع المجتمعات البشرية، وكل شعلة للعلم والفضيلة تواجه فضاءات لا حد لها مليئة بظلمة الجهل والغفلة. إن مصباح العلم يحترق شيئًا فشيئًا ويشع نوره ولكن هناك في ظلمات الجهل عواصف هائلة تسعى إلى إطفاء نور العلم، وكم من هذه المصابيح المضيئة - أي العلماء- يخفون جمال علمهم بستائر غليظة ليردُّوا عن أنفسهم هجمات أمواج الظلمات وعواصفها ويُؤْثِرون العزلة والسلامة غير مهتمِّين بغوغاء الجهلة. فإن كانوا من أهل اليقين، فإنهم يكتفون بإضاءة أنفسهم. أما المصباح الحقيقي فهو الذي يزيد من إشعاعه وضيائه وتألقه عندما يواجه الظلمات، ولا يخاف من احتراق ذاته، بل يقاوم ولا يسمح للضعف والفتور أن يتسربا إلى قلبه ونفسه. نعم قد ينحني مئات المرات أمام عواصف الظلمات المهولة لكنه سرعان ما يرفع رأسه من جديد، وفي نهاية المطاف يترك وَسَطَ تلك الظلمات آثارًا ومؤلفاتٍ واضحةً وظاهرةً ومشاعلَ تنير درب الباحثين عن الحقيقة.
إن ذلك المصباح المضيء الذي أنار العالم هو ذلك الرجل العالِم ذاته الذي يؤمن بعلمه ومعرفته ويعمل بمقتضاهما، ومهما كانت الحقيقة مُرة ومهما كانت مباينةً لأوهام العوام وخرافات الجُهَّال، ومهما دفعت أولئك الجهال إلى إبراز مخالفتهم وعنادهم ومعارضتهم لها، فإنه لا يتوانى عن التصريح بها، والسعي لإخراج الضالين من أودية الجهالة والضلالة المهلكة التي اعتادوا عليها، وليس لديه أي استعداد لترك بيان الحقائق حتى لو كان ثمن ذلك حياته. بل يسعى بشكل حثيث إلى هداية الخلق إلى النور وإرشادهم إلى الفلاح والسعادة، متحلِّيًا في أدائه لهذا الواجب المُقَدَّس بصراحة اللهجة والشجاعة.
لقد كان المرحوم شريعت سنكلجي واحدًا من هؤلاء الرجال الأفذاذ، ومن المؤكد أن الذين قالوا في الأشهر الأخيرة بعد رحيل ذلك الأستاذ العظيم: إنه ربما تمر قرون دون أن يحظى عالم الإسلام بوجود بمثل هذا الرجل، لم يبالغوا في كلامهم ولم يقولوا جُزافًا.....
ربما يبدو الأمر سهلًا ولكن الحقيقة هي أن الأمر في غاية الصعوبة أن يقوم شخص واحد في مواجهة آلاف الأشخاص من ذوي العقول الفارغة أو العلم الضحل وملايين الأشخاص المعتقدين والمتعبدين الذين سدّوا أعينهم وأسماعهم وضلوا عن فهم الحقيقة، ببيان الحقيقة بصوت عال وكتابتها بعبارات صريحة واضحة، ويبطل بها آلاف الكتب الخاطئة والأقاويل المجانبة للصواب.
فليمنحني القراء المحترمون الحق في اعتبار هذه الفضيلة للمرحوم شريعت أعلى من جميع فضائله الأخرى وأن أتحدث عنها قبل بيان نبذة عن حياة الفقيد.
وبعد بيانه لنبذة عن حياة «شريعت» ختم حسينقلي كلامه قائلاً:
«لقد أمضى [شريعت] عمره الذي بلغ 53 عامًا في التقوى والشهامة والدعوة والشجاعة فكانت حياته قرينة بالعلم والجهاد، ومن الجدير أن تُكْتَب كتب في شرح فضائله المعنوية وأخلاقه. عاش المرحوم شريعت حياته كلها رجلاً صالحًا نقيًّا طاهرًا، مستقيمًا وحسن الأخلاق ورحيمًا، وكان يؤثر أصدقاءه ويفديهم بنفسه ويريد الخير لأعدائه، كان مشفقًا ومنعمًا ومحبًّا لوطنه ومواطنيه وكان رجلاً موحِّدًا حقيقةً ومسلمًا واقعيًّا. كان توحيده عقليًّا وعلميًّا ووجدانيًّا وقلبيًّا في الوقت ذاته، كان يخاف الله وفي الوقت ذاته كان محبًّا وعاشقًا لله، وكان يعيش في قمة الزهد والتقوى بفضل هذا العشق الإلهي الذي يملأ صدره، لم يكن يأكل لقمة فيها شبهة حرام، ولا يرضى بتحمِّل منة السفلة، ومن النادر أن يمر عليه ليل لا يقوم فيه إلى مناجاة ربِّه وعبادته وذرف الدموع من خشيته ومحبته»[145].
[145] المصدر نفسه، ص 6 من المقدمة التي كتبها حسينقلي مستعان..
وكتب أحد تلامذة «شريعت» الآخرين وهو العَمِيد الجنرال جهانبگلو في مقال له نشره في مجلة «مِهْر» التي تصدر عن دائرة الثقافة والفن، العدد 1 من السنة الثالثة عشرة للمجلة الصادر في طهران بتاريخ 1346هـ.ش (1387هـ.ق/1968م)، عن أستاذه «شريعت» يقول:
«إحدى النجوم اللامعة في سماء المعرفة والإيمان في هذا العصر هو المرحوم العلامة الكبير الحاج شريعت سنكلجي، ولاشك أن سيرة العظماء إنما يفيد ذكرها إذا كانت تُبيِّن الخدمات التي قدموها لعالم البشرية والتضحيات التي قاموا بها في سبيل إصلاح المجتمع، أما ذكر زمان ولادتهم وطريقة عيشهم وكيفية مزاجهم وطبيعتهم ومحل سكنهم وتاريخ وفاتهم فأي نفع فيه للمجتمع؟
لقد كان المرحوم شريعت سنكلجي من نوادر الزمان ونوابغ العصر، رجلاً متبحِّرًا في العلوم الدينية ومتخصصًا في فهم القرآن الكريم وتفهيمه للناس وفهم وتدريس سنة نبي الإسلام ص الصحيحة القطعية وتعاليم الأئمة الأطهار سلام الله عليهم أجمعين، كما كان عالمًا متبحِّرًا في الأصول والكلام والفلسفة والعرفان، وكان صادقًا مخلصًا مؤمنًا بما يعلم به ويدعو إليه، وكان يحارب الجهل ويبطل الخرافات كما يحارب الإلحاد والبدع وإشاعة الكفر والزندقة، وكان يعارض دائمًا الأحاديث الموضوعة المُفتراة المنسوبة كذبًا لأولياء الدين، فكان ممسكًا بمعول هدم الأصنام مقتديًا في ذلك بإبراهيم خليل الرحمن÷. وكان يسعى ويبذل كل جهده لهداية الذين ضلوا طريق الحقيقة، وقد تحمَّل في هذا السبيل الكثير من الأذى والمضايقات والتهم وكان يتقبَّل ذلك بصدر رحب لعلَّه ينجح في توعية وهداية عدد من الباحثين عن حقيقة الدين.
كتب الأستاذ المرحوم السيد عبدالرحمن فرامرزي في العدد 31 من صحيفة كيهان الصادرة يوم الثلاثاء، 20 من الشهر العاشر من عام 1322هـ.ش [الموافق لـ11/1/1944م] عن المرحوم شريعت سنكلجي مقالة ونظم أشعارًا، ومما قال فيها:
«في رأيي لم يكن شريعت سنكلجي أقل من الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية المعروف وباني النهضة الإصلاحية الإسلامية في مصر، لا بل لو قارنا البيئة التي عاش فيها شريعت سنكلجي وأساتذته بالبيئة التي عاش فيها الشيخ محمد عبده وأساتذته، فسوف نُذعن أن الشيخ «شريعت» كان أعظم من الشيخ «محمد عبده». وأنا لا أرى بين علماء الإسلام سوى الغزالي نظيرًا له. وكل من يعتبر هذا الكلام مبالغةً فليس عليه إلا أن يقارن بين كتب سنكلجي وكتب الغزالي».
ولقد كان المرحوم شريعت سنكلجي أيضًا من أولئك المصلحين الذين نذروا حياتهم لإعلاء كلمة التوحيد والجهاد ضد البدع والخرافات، وقد شمر عن ساعد الهمة والجد لتمزيق ذلك الستار الغليظ الذي ضربه الجهلة والغلاة على الإسلام الناصع ليبين للعالم بشكل عام ولمواطنيه بشكل خاص -بكل شجاعة وإيمان ولهجة صريحة لا مواربة فيها- الإسلام الأصيل النقي كما تَنَـزَّل به الوحي على النبي الأكرم ص، كي تتَّضح حقائق دين الإسلام المبين لكل الناس، ولا ريب أن ذلك البذر الذي بذره ذلك المرحوم في مزرعة القلوب النقية الطاهرة أثمر أشجارًا نضرةً سيستظل بظلالها مواطنوه عبر الأيام ويقطفون ثمارها الطيبة.
نعم كان شريعت سنكلجي شمسًا أدَّى طلوعها إلى غروب نجم الخرافيين والمنتفعين من الدين وأصحاب الحوانيت المذهبية المنتسبين للشريعة المحمدية. لقد كان عالمًا متنوِّرًا وفيلسوفًا دقيقًا ومسلمًا نقي الصدر ومُفَكِّرًا فذًّا.
لقد أدرك روح زمانه وكان يجعل أصول التريبة والتعليم الديني متطابقة مع الإسلام كما كان في عهد صدر الإسلام، وكان عابدًا تقيًّا ومحبًّا للبشرية، وكان لا يميز في دعوته بين أبيض وأسود ولا بين فقير وغني أو ملحد أو يهودي أو نصراني أو زردشتي أو هندوسي، بل كان يعتبر الجميع من أبناء البشر الذين يستحقون المحبة الهداية والإرشاد إلى جادة الحق والحقيقة وصراط الإنسانية، وكان يجعل في جلسة واحدة بعض العلماء الغربيين يعتقدون بالتوحيد ثم بِنُبُوَّة خاتم النبين ص وبالمعاد، وقد ناظر وتباحث مع بعض فضلاء الشرق المشاهير مثل الفيلسوف الهندي طاغور»[146].
[146] العميد الجنرال جهانبگلو، مقال: «سخني چند در باره مرحوم آية الله شريعت سنگلجي» [كلمات حول المرحوم آيت الله شريعت سنكلجي]، مجلة «مِهْر» الصادرة عن دائرة الثقافة والفن، العدد 1 من السنة 13 للمجلة الصادر في طهران بتاريخ 1346هـ.ش (1387هـ.ق/1968م)، ص 72 إلى 74.
وكتب مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، وهو أيضًا من تلاميذ الشيخ «شريعت» وأصحابه المقربين، مقالاً خاصًّا عن أستاذه وشيخه، نُشِرَ في العدد 116 من مجلة وحيد للغة والآداب، الصادر في الشهر الخامس من عام 1352هـ.ش (1392هـ.ق/1973م)، قال فيه:
«...... في هذه الظروف كان الشباب اليافعون والباحثون عن العلم والمعرفة ممن نالوا بين أهليهم تربيةً دينيةً، يبحثون عن شخصيةٍ متنوِّرةٍ مثقَّفةٍ من علماء الدين كي يتناقشوا معها ويبثوا إليها ما يجول في أذهانهم من تساؤلات ويُفْصِحُوا لها عن آلامهم القلبية والدينية، وكان هناك بعض علماء الدين من دعاة الإصلاح ممن أراد أن يتزعَّم هداية الناس إلى التجدُّد والإسلام لكنهم لم يكونوا يتمتعون بالشخصية المقبولة كما لم تساعدهم البيئة والظروف على أن ينالوا قبول الناس والتفافهم حولهم. ولكن واحدًا من العلماء المتنورين كان أكثر دعاة الإصلاح شجاعةً وشهامةً وعلمًا، إنه الشيخ «شريعت سنكلجي» الذي كان يصعد منبر مسجد سنكلج مرة في الأسبوع ويلقي خطبةً وموعظةً أو بالأحرى يلقي درسًا علميًّا وليس مجرد بيانات عاطفية، فكان يأسر بكلماته مستمعيه فلم يكونوا ممن يستمعون إلى المشايخ بشكل سطحي فيدخل ما يستعمونه من هذه الأذن ليخرج من الأذن الأخرى، بل كانوا يستمعون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، لأنه كان يحلل كثيرًا من مسائل الإسلام العلمية والنفسية ويعرِّف الناس ومستمعيه بحقائق الدين؛ فكان يطرح خلاصة مطالعاته الأسبوعية على الناس على شكل عظة منبرية علمية جامعة. فكان الطلاب والعلماء الفضلاء والأدباء والكُتَّاب الذين كانوا يرغبون بالتعرف على معارف الإسلام الحقيقية يهرعون إلى مسجد سنكلج وينهلون من بياناته ويستفيدون من معلوماته. كان يحضر دروسه العامل والكاسب والتاجر والمعلِّم والتلميذ والمُمَثِّل النيابي في البرلمان، والصحفي والواعظ. وكانت دروسه على نحو يمكن لكل إنسان أن يستفيد منها حسب درجة معرفته، وكان بعض المستمعين يسجل كلماته ويدون دفاتر من محاضراته، لأن دروس وخطب «شريعت» كانت في الواقع دروسًا في التفسير والأخلاق والعقائد والملل والنحل فكان جميع المستمعين من الشباب والشيوخ يستفيدون من محاضراته وخطبه البليغة العذبة والعلمية المفيدة.
لما كان الشباب من طلاب الجامعات والمثقفون يشعرون باهتزاز عقيدتهم نتيجة شبهات الملاحدة والماديين التي يبثونها بين الناس، وتعتريهم الشكوك، كانوا يُهْرَعون إلى الشيخ «شريعت سنكلجي» ويشرحون له تلك الانتقادات والاعتراضات التي يوجهها الدهريون إلى الدين والشرع، ولا يشعرون بالحرج من طرح كل ما يجول في أذهانهم من شكوك، إلى درجة أنهم كانوا يذكرون له ما يقوله الملاحدة عن إنكار وجود الله تعالى. كقولهم إن الإنسان أصله من القرد وأن ما جاء به الأنبياء يصلح لأزمنتهم الخاصة بهم فقط. وأنه قد انتهى عصر الظلمات وجاء العصر الذهبي!! وأن الحج هو مهرجان الأغنياء! وأن الأنبياء كانوا أشخاصًا حاذقين أذكياء لا أكثر! وأن كل زمن يحتاج إلى قانون وإلى أحكام طبقًا لمقتضيات عصره وظروفه، ومئات من مثل هذه الكلمات والشكوك التي شاع طرحها في تلك الفترة الزمنية.
على إثر انقراض سلسلة الملوك القاجاريين وهجوم الأفكار الغربية على الشباب والمثقفين في إيران تمزَّق حجاب الحياء والسكوت وانتشرت الأفكار الغربية المنادية بالتحرَّر من كل قيد، ونبذ التقاليد والعقائد الدينية، فمن الذي كان بإمكانه أن يقدم الإجابة الصحيحة والعلمية ويعيد الناس إلى الله وإلى أحضان الإسلام؟ في مثل هذه الأحوال كان «شريعت» من علماء الدين الذين دخلوا معترك الآراء وساحة نصرة عقائد الدين، لقد رفع راية الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) خفاقة فكان حقًّا مجاهدًا في سبيل الدين؛ وكان بسلوكه الحسن وأدبه الرفيع مثل أب روحي للباحثين عن الحقيقة؛ وكان عالمًا وقورًا ومتواضعًا استطاع النفوذ إلى قلوب الشباب، فكان يستمع في البداية إلى اعتراضاتهم وانتقاداتهم ثم يقوم بتحليل وتفكيك كلامهم رويدًا رويدًا ويفنِّد تلك الأقاويل الباطلة، وبدلاً من العبوس والتهجُّم والضيق والحقد كان يبتسم وهو يستمع إلى تلك الاعتراضات على الدين ولا تنقضي بضع جلسات إلا ويعود أولئك المتشككون السائلون إلى الإسلام ويتعلَّمون طريق الله والدين الحقيقي.
ببركة سلوكه الـمَرْضِي وعلمه الوافر اتجهت مجموعات من الشباب والمثقفين إلى المسجد من جديد، وأخذوا يتكلَّمون عن القرآن المجيد والثقافة الإسلامية بدلاً من كلامهم عن الأفكار المادية والإلحادية، وعرفوا قيمة الديانة وسلكوا طريق التوحيد.
كثير من الشباب الذين لم يكونوا قد دخلوا المسجد في عمرهم، ولا عرفوا الصلاة ولا سجدوا لله ولا مرَّةً واحدةً في حياتهم، ولا كان لهم أي اهتمام بحقائق الدين، تعرفوا على الإسلام والقرآن المجيد من جديد، ورجعوا إلى رحابهما بعد تعرَّفهم على الشيخ «شريعت» واختلاطهم به وحضورهم دروسه، فعاشوا حياةً متديّنةً وشكَّلوا أُسَرًا إسلاميةً وخرجوا من حالة اللامبالاة والتحرّر من كل قَيْد التي كانوا عليها وتخلَّقوا بالأخلاق الإسلامية الإنسانية وسلكوا طريق الله، فتغمَّد الله ذلك العالم الجليل برحمته الواسعة»[147].
[147] مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، مقال «شريعت سنكلجي»، مجلة «وحيد» للغة والآداب، العدد 116 الصادر بتاريخ شهر مرداد، 1352هـ.ش (1392هـ.ق/ 1973م)، ص 517 - 518.
رغم أن الأستاذ نور الدين چهاردهي صاحب كتاب «الوهابية وجذورها» لم يكن من المتفقين مع «شريعت» في أفكاره، بل اعتبره من أنصار الوهابية، إلا أنه أقر في الوقت ذاته بعلمه الواسع وصفاته الحُسنى وأخلاقه الكريمة وسلوكه الطيب، والمَثَل يقول: «الفضل ما شهدت به الأعداء». لقد كتب نور الدين چهاردهي في كتابه المُشار إليه آنفًا يقول:
«كان شريعت متبحّرًا في أغلب الفروع الإسلامية، وكان يُلقي دروسه بهدوء وبشكل سلس جذَّاب، وكان يؤمن من كل قلبه بكل ما يقوله ويكتبه، وملتزمًا بشدة بما يدعو إليه. كان رجلاً ذا وجه طلق بشاش، وكان قوي الحجة. وكانت خطبه ودروسه تطول ساعتين....
وقد عارضه كثير من الناس وقاموا بإيذائه والطعن فيه وإهانته وهتك حرمته. كنت في أحد الأيام واقفًا في شارع حافظ [أحد شوارع طهران] أتحدث مع بعض الأصدقاء، فرأيت المرحوم «شريعت» يمشي بخطى هادئة، وبيده عصا يتوكأ عليها، وَعَبَر من جانب الرصيف، وإذا بشابٍّ يسبُّه ويشتُمه بأعلى صوته، فدققت النظر إلى «شريعت» لأرى كيف سيكون ردّ فعله، فرأيته لم يتغيَّر أبدًا ولم يعبس ولم يقطّب وجهه، بل واصل سيره الهادئ كما كان قبل ذلك. والواقع أن «شريعت» لم يسعَ أبدًا إلى مخاصمة معارضيه والتشاجر معهم، رغم أنه كان يملك القدرة على معاقبتهم أو الانتقام منهم...»[148].
[148] نورالدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 160 – 161.
هناك تساؤلان كثيًرا ما يطرحهما الذين تحدثوا عن شريعت سنكلجي ودعوته الإصلاحية أو كتبوا عنه، وأعتقد أنه لابد، في هذا الكتاب المخصص لسيرة ذلك المصلح الكبير، من الإشارة إليهما وتوضيح حقيقة الأمر بشأنهما:
السؤال الأول: لماذا فسح الملك المستبد المتغرِّب رضا خان بهلوي المجال لشريعت سنكلجي ليقوم بالدعوة ونشر أفكاره بحرية في الوقت الذي كان يضيِّق فيه بشدة على علماء الدين الآخرين، وَيُحدُّ من نشاطهم، وفي الوقت الذي كان يعادي فيه التيار الديني والشعائر الدينية بشكل عام؟ وهل يدل ذلك على أن شريعت كان على صلة بالشاه أو تابعًا له كما اتهمه بعض معارضيه؟
يحلل الكاتب والمُفكِّر الإيراني إحسان طبري - ضمن حديثه عن تيار شريعت في عهد رضا شاه- هذا الأمر ويقول:
«... في أيام الملِك "رضا شاه" [بهلوي]، التي لم يكن فيها أثرٌ لحرية العقيدة وحرية البيان، كان شريعت ينشر أفكاره من منبره بكل حرية. وقد فسَّر معارضو شريعت هذا التسامح لجهاز الشرطة والأمن تجاهه بأنه يدل على نوع من تعاون شريعت مع نظام الشاه، لكن واقع الأمر لم يكن كذلك. لقد اصطدم رضا شاه بالدين بصورته التقليدية القديمة، أي الدين الذي كان يمثّله شخص مثل السيد حسن مدرِّس، فكان يريد أن يتعامل مع دين يوافق ميله، ويصب في صالح سياساته بشكل أفضل»[149].
ويقول المؤرخ الإيراني المعاصر الأستاذ رسول جعفريان:
«رغم الضغوطات التي كانت تمارس في ذلك العصر [أي عصر رضا شاه بهلوي] على علماء الدين، كان مسموحًا لشريعت بممارسة نشاطه الثقافي ولم تكن دولة رضا شاه تمارس أي تضييق على دروسه المنبرية في مسجد حيّ سنگلج ثم في دار التبليغ.....»[150].
ويذكر رسول جعفريان أنه لما انتشر كتاب «اسلام ورجعت» [الإسلام والرجعة]، كُتِبَت عدَّة ردود عليه، ولكنها مُنِعَت من الطباعة[151].
وهذا يدل على أن نظام رضا شاه كان يظن أن نشر الفكر التجديدي والعصري للدين يتناسب مع سياساته وبرامجه التغريبية العصرية الحديثة، فكان يسمح به، ويُضيِّق على من يعارض ذلك الفكر.
يقول الباحث سيد مقداد نبوي رضوي:
«إن عدم مواجهة حكومة رضا شاه لشريعت سنكلجي جعلت الكثيرين يعتقدون أنه كان يحظى بتأييد الشاه. أحد العلامات الدالة على هذه الحماية منع نشر كتاب أُلِّف في الرد على كتاب «اسلام و رجعت»؛ كان وزير المعارف في حينه (علي أصغر حكمت) هو الذي أعطى تعليماته بعدم السماح بطباعة ذلك الردّ. ولهذا السبب كان بعض المطلعين يعتقدون أن شريعت رغم استطاعته القيام بأي عمل تجاه معارضيه، لم يُقْدِم على أي خطوة ضدهم.
وإلى جانب موقف حكومة رضا شاه الذي كان يبدو محاميًا عن شريعت سنكلجي، كان الملك رضا شاه نفسه لا يخفي إعجابه بشخصية شريعت، وكان يعتبره عالمًا حقيقيًّا. وعندما جاء طاغور، الفيلسوف الهندي المشهور، إلى إيران عام 1311 هـ.ش (1932م)، وتقرّر أن يحاوره أحد علماء الدين في إيران ويناظره، قال الملِك رضا شاه: «الوحيد الذي يمكنه مناقشته، هو ابن حيِّنا شريعت!». ولما انتهت جلسة الحوار بخروج طاغور من الجلسة قبل انتهاء المناظرة واعتذاره عن مواصلة النقاش، الأمر الذي حُسِبَ لصالح الشيخ شريعت واعتُبِر انتصارًا له، وسمع الملك رضا شاه بذلك، أعاد التأكيد على كلامه السابق بشأن شريعت.
وأيًّا كان الأمر فإن عدم وقوف حكومة رضا شاه في وجه الإصلاحات الدينية لشريعت سنكلجي، كان أمرًا واضحًا وينبغي تفسيره - على أقل تقدير - بوجود توافق في موقفهما من الطقوس المذهبية الشيعية التقليدية»[152].
ويقول الأستاذ نور الدين چهاردهي في معرض حديثه عن خصال شريعت وسيرته العلمية:
«.... وقد وَجَّه له بعض الناس تهمًا، وقمت بالتحقيق فيها وبعد تقصٍّ وتحقيق كثير في تلك التهم، تبيَّن لي أن [الشاه] رضا خان عندما كان ما يزال رجلاً مغمورًا غير معروف، وأراد الزواج، قام حمْوُهُ بالرجوع إلى «شريعت» لكي يعقد زواج ابنته عليه. ومع كوني لا أؤمن بآراء شريعت العقائدية لكنني أدركت أن شريعت لم يكن تابعًا للقصر الملكي ولا مرتبطًا به رغم أنه كان يستطيع فعل ذلك»[153].
نخلص من كل ما سبق إلى أن السر في ذلك الموقف المتساهل من قبل مَلِك إيران المستبدّ رضا شاه بهلوي تجاه شريعت ودعوته الإصلاحية يعود لأمرين:
الأول: أن الشاه الذي كان ميالاً للغرب والعصرنة وكان في هذا الإطار يكره الطقوس الشيعية التقليدية كالمآتم الحسينية وقراءة مصائب آل البيت التي يتم فيها البكاء والتباكي ولطم الصدور والرؤوس، وكان قد أصدر تعليماته بمنع إقامتها ومنع ضرب الرؤوس بالسيوف والأبدان بالسلاسل ومنع إقامة الاحتفالات بيوم الخامس عشر من شعبان[154] (يوم ولادة إمام الزمان المهدي المنتظر حسب عقيدة الشيعة الإمامية)، وجد في دعوة سنكلجي الإصلاحية الدينية ومناداته بتصحيح المذهب الشيعي وتنقية الأعمال والممارسات المذهبية من البدع والخرافات وعصرنة الإسلام ليتماشى مع العصر الحديث والتقدم العلمي، وجد في ذلك ما يصب في صالح سياساته فسمح له بممارسة نشاطه الدعوي هذا.
الثاني: سبب شخصي وهو أن الشاه رضا خان كان شخصيًّا على معرفة قديمة بشريعت، فكان شريعت ابن حيِّه، وكان شريعت هو الذي أجرى عقد زواج رضا خان على زوجته قديمًا قبل أن يكون لرضا خان أي شأن، وكان الشاه يقدِّر في شريعت سعة معارفه العلمية وإحاطته بعلوم العصر، فكان ذلك سببًا في موقفه الإيجابي منه الذي انعكس في السماح له بدعوته ونشر فكره.
أما السؤال الثاني الذي يرد إلى أذهان البعض حول «شريعت» فهو:
لماذا اتَّسَم موقف علماء الشيعة الرسميين ضد «شريعت» ودعوته الإصلاحية ببعض اللين، إلى حدٍّ ما، حتى تجد أن كثيرين منهم كانوا يقرون بعلمه مع نقدهم لبعض أفكاره، خلافًا لموقفهم من بعض أعلام التصحيح والإصلاح المذهبي الذين تلوا شريعت، كالأستاذ حيدر علي قلمداران والعلامة أبي الفضل البرقعي وأمثالهما، الذين اتَّسموا بالمعارضة الشديدة لهم والتضليل والتهديد لهم؟
والإجابة: هي أن شريعت -رحمه الله- كان داعية للإصلاح والتصحيح داخل المذهب ولم يعلن خروجه من إطار التشيع بشكل كامل، أو على الأقل كان محتاطًا ولم يفصح عن ذلك. يقول المؤرخ الأستاذ رسول جعفريان ضمن كلامه عن الشيخ «شريعت»:
«كان ادعاء أمثال أولئك الأفراد [كشريعت سنكلجي] أنهم يرون وجوب تنقية الدين والمذهب من أمثال تلك الخرافات، مع حفظهم لأصول التشيع، وذلك لأن تلك الخرافات أمور دخيلة لا تستمد جذورها من التشيع»[155].
هذا بعكس بعض أعلام التصحيح والإصلاح المذهبي الذين جاؤوا بعد شريعت، كآية الله البرقعي والعلامة قلمداران وأمثالهما الذين ألفوا كتبًا في نقد عقائد الشيعة الأساسية وفنَّدوها بأدلة علمية قاطعة؛ ومن هذه العقائد، الإمامة بالنص والوصية لعلي بن أبي طالب (ع) خليفةً وحاكمًا للمسلمين بلا فصل بعد رسولاللهص، والعصمة ومراسم العزاء والشفاعة وعلم الغيب للأئمة وخمس أرباح المكاسب وحتى صرحوا بإنكار عقيدة المهدي عند الشيعة. فخرجوا بذلك تمامًا عن المذهب، فكان الهجوم عليهم حادًّا لهذا السبب.
وهناك سبب آخر لهذا التفاوت بين موقفهم من شريعت وموقفهم من غيره من الإصلاحيين لا سيما من البرقعي وقلمداران على وجه الخصوص، يتعلق بطبيعة اللهجة المستخدمة في الدعوة إلى التصحيح والإصلاح المذهبي، فلا يخفى أن آية الله البرقعي وكذلك العلامة قلمداران كانا شديدي اللهجة في نقدهما لكثير من عقائد الشيعة وممارساتهم. خلافًا لشريعت سنكلجي الذي كانت انتقاداته هادئة تقتصر على ذكر الأدلة القرآنية ثم الحديثية والعقلية على ما يقول[156].
[149] إحسان طبري، مقال: راه توده - جامعه ايران در دوران رضا شاه [طريق الجماهير - المجتمع الإيراني في عصر رضا شاه]. وهو منشور على شبكة الإنترنت وعنوانه: http://www.rahetudeh.com/rahetude/Tabari/iran-rezashah/html/jameehiran-11.html [150] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1016. [151] المصدر نفسه، ص 1017، الحاشية رقم 3. [152] سيد مقداد نبوي رضوي، نگاهى تحليلي به تكاپوهاى شريعت سنگلجى [نظرة تحليلية إلى جهود شريعت سنكلجى الفكرية]، فصلنامه امامت پژوهى، [مجلة «مباحث الإمامة» الفصلية] السنة الأولى، العدد 4، ص 258 - 259. [153] نورالدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 160 – 161. [154] انظر: سيد مقداد نبوي رضوي، نگاهى تحليلي به تكاپوهاى شريعت سنگلجى [نظرة تحليلية إلى جهود شريعت سنكلجى الفكرية]، ص 258 ، نقلاً منه عن: عين السلطنة، قهرمان ميرزا، صحيفة خاطرات عين السلطنة، صص 7966 - 7967 و 8001. [155] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1020. [156] والأمر ذاته ينطبق على مواجهة مؤسسة علماء الدين الرسمية المعتدل إلى حدٍّ ما ونقد بعضهم اللين نسبيًّا للأستاذ مصطفى الحسيني الطباطبائي، رغم تحوله الجذري، وذلك لأسلوبه العلمي الهادئ البعيد تمامًا عن أي هجومية أو تشنج في طرحه لفكره التصحيحي، فضلاً عن سعة تبحره العلمي وكتبه العلمية المفيدة المنافحة عن أصل الدين وأساسه، وعدم اقتصاره على بحث المسائل الخلافية بين الشيعة والسنة، مما يجبر الجميع على تقدير علمه والإقرار بفضله.
في السنوات الأولى لدعوته صدر لشريعت سلسلة من الأبحاث حول حرمة الربا جمعها أحد مريديه ويُدْعَى «أسد الله روئين مبشري» تحت عنوان: «رسالة في حرمة الربا» ونشرها كرسالة في هذا الموضوع. كما قام السيد مبشري ذاته - سنة 1309هـ.ش [1349هـ.ق /1930م] - بنشر رسالة أخرى لشيخه عنوانها «الإسلام والموسيقى» جمعها من دروس شريعت سنكلجي التي كان يلقيها في أمسيات الخميس[157].
إضافة لهذين الكتابين طبع شريعت سنكلجي بعد عودته من الحج كتابين كانا أهم كتبه الإصلاحية، وقد تحدثنا عن مضامينهما بالتفصيل في الفصول الماضية، وهما:
3- «توحيد عبادت - يكتاپرستي» [توحيد العبادة]، في 174. وقد أعيدت طباعته عدة مرات، اثنين منها أثناء حياة المؤلف نفسه وكتب بنفسه مقدمةً لكل من الطبعتين.
4- «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن]. في 249 صفحة مع ضم كتاب براهين القرآن إليه كما سيأتي، وقد أعيدت طباعته أيضًا مرات عدَّة.
إضافة إلى الكتب التي مرَّ ذِكْرُها، ذكر الأستاذ نور الدين چهاردهي العناوين الآتية للكتب التي تركها شريعت أيضًا:
5- اسلام و رجعت [الإسلام والرجعة]. وقلنا إن هذا الكتاب من تأليف تلميذه عبدالوهاب فريد تنكابني الذي استفاده من دروس شيخه، حيث كان شريعت يعتبر «الرجعة» عقيدة باطلة ومن عقائد غلاة الشيعة فحسب.
6- محو الموهوم. وهو كتاب صغير الحجم يقع في 41 صفحة رد فيه سنكلجي على الفكرة الشائعة بين المسلمين بأن عيسى÷ لم يمت ولا يزال حيا في السماء، وأن الخضر وإلياس عليهما السلام على قيد الحياة أيضًا ولم يموتا بعد فأثبت من القرآن والسنة موتهم جميعًا.
7 - براهين القرآن، وطبعه ملحقًا كتابه مفتاح فهم القرآن سابق الذكر.
أما كتبه التي لم تُطبَع فهي التالية:
1- المتعابسات في مسائل الفلسفة. باللغة العربية.
2- دورة كاملة في الفلسفة. باللغة العربية.
3- تلخيص الفلسفة. باللغة العربية.
4- علم القرآن باللغة العربية.
5- البدع والخرافات. باللغة العربية[158].
[157] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1016. [158] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 165.
في السنوات التي كان شريعت سنكلجي مشغولاً فيها بدعوته الإصلاحية الدينية، حضر لديه أشخاص كثيرون أو تأثروا به، وكان لبعضهم بالتأكيد تأثير واضح في تاريخ الفكر الديني المعاصر في إيران؛ وبعض أهم أولئك الذين تتلمذوا عليه وتأثروا به: فضل الله صبحي مهتدي، الشيخ محمد سنكلجي، حسن مطيعي، عبد الحسين آيتي (آوارهي سابقًا)، عبد الرحمن بديع الزماني كردستاني، آية الله الحاج السيد محمود الطالقاني، المهندس مهدي بازركان[159]، الحاج ميرزا يوسف شُعار التبريزي، علي أكبر حكمي زاده، الدكتور محمد جواد مشكور[160]، الدكتور عباس زرياب الخوئي[161]، الدكتور سيد صادق تقوي، الأستاذ مرتضى مدرسي جهاردهي، المهندس عزت الله سحابي[162]، حيدر علي قلمداران[163] و....[164].
[159] مهدي بازركان (1907- 1995م)، مهندس وأستاذ جامعي في الكلية الفنية في جامعة طهران، وسياسي إيراني بارز. أحد المؤسسين لحزب نهضة الحرية في إيران مع آية الله سيد محمود طالقاني والأستاذ عزت الله سحابي. تولى لفترة وجيزة رئاسة أول حكومة مؤقتة عقب انتصار الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه الملكي في شهر فبراير/شباط من عام 1979م. [160] الدكتور محمد جواد مشكور (1919 - 1996م)، مؤرخ، أديب، وعالم لغات إيراني معاصر، نال الإجازة في الأدب الفارسي من جامعة طهران، ثم ذهب إلى جامعة السوربون في باريس وحصل منها على درجة الدكتوراه في تاريخ الإسلام، وعمل بعدها أستاذًا جامعيًّا في جامعة تبريز ثم جامعة طهران. أرسل عام 1974م إلى دمشق كملحق ثقافي لإيران، أسس خلال ذلك كرسي تدريس اللغة الفارسية في جامعتي دمشق وحلب. كان مجيدًا للعربية والفرنسية والإنجليزية إضافة إلى إلمامه بالتركية واللاتينية والألمانية وبعض اللغات القديمة، وألف وحقق 47 كتابًا في الفرق والمذاهب والتصوف واللغات الآرية والسامية، إضافة إلى أكثر من مائة مقال حول تاريخ إيران وتاريخ الإسلام. [161] الدكتور عباس زریاب خویی (1919 - 1994م) مؤرخ، أدیب، عالم مخطوطات وكاتب ومترجم إيراني مشهور. درس ست سنوات في الحوزة العلمية في قم. كما درس في كلية المعقول والمنقول في طهران ونال إجازته الجامعية منها. عُيِّن باحثًا في مكتبة مجلس الشورى الوطني. نال الدكتوراه سنة 1961م في التاريخ والفلسفة من جامعة يوهانس جونتبرج في ألمانيا. ترك عددًا من الترجمات والمؤلفات والأبحاث والمقالات العلمية المفيدة في مجالات مختلفة. [162] يقول سيد مقداد نبوي رضوي: لم يحضر المرحوم المهندس عزت الله سحابي – كما نقل لي – إلا درسًا واحدًا من دروس الشيخ شريعت؛ لكنه كان على اطلاع ومتابعة وقراءة لمؤلفات شريعت في سنوات شبابه وكان يقوم بنشرها والدعاية لها. ولقد كان السيد سحابي متفقًا مع شريعت في بعض الأمور وليس في الأصول الاعتقادية. [163] رغم أن حيدر علي قلمداران لم ير شريعت سنكلجي إلا أنه نهج نهجه واتبع خطه بعد قراءته لمؤلفاته ومؤلفات السيد أسد الله خرقاني وأصبح من الناشطين جدًا في مواصلة هذا الخط وترك مؤلفات مهمة في هذا الجانب، مثل طريق الاتحاد والخمس وطريق النجاة من شر الغلاة وغيرها. [164] سيد مقداد نبوي رضوي، نگاهى تحليلي به تكاپوهاى شريعت سنگلجى [نظرة تحليلية إلى جهود شريعت سنكلجى الفكرية]، فصلنامه امامت پژوهى، [مجلة «مباحث الإمامة» الفصلية] السنة الأولى، العدد 4، ص 270.
يقول المؤرخ المعاصر الإيراني رسول جعفريان متحدثًا عن الأثر الذي تركته حركة شريعت سنكلجي وجهوده الإصلاحية في الأوساط الثقافية الفكرية والدينية في إيران بعد وفاته:
«بمناسبة السنة الأولى لوفاة شريعت قام أبو الحسن بيكدلي بطباعة ونشر كتاب عنه. وذكر في هذا الكتاب معلومات وافرة عن شريعت سنكلجي وتأثير أفكاره ووجهات نظره في المجتمع الإيراني في ذلك العهد، كما ذكر فيه ما يريد مريدوه والمتشوقون لأفكاره أن يعرفوه عنه. كما نشر أبو الحسن بيكدلي ذاته، الذي كان من مريدي الشيخ شريعت، ترجمةً لشيخه شريعت سنكلجي في مجلة رواق التي كان يملكها أخو شريعت، أي محمد شريعت سنكلجي (ونُشِرَت في شهر خرداد عام 1331 هـ.ش فما بعد)، ويبدو أن تلك الترجمة تضمنت أجزاءً من كتابه ذاك الذي أشرنا إليه آنفًا والذي طبعه بيكدلى في الذكرى السنوية الأولى لوفاة شريعت»[165].
ويتابع رسول جعفريان - بعد صفحتين - كلامه في الموضوع ذاته قائلاً:
«لا شك أن حركة سنكلجي، وحركة كسروي أيضًا، تركتا بصماتهما وتأثيرهما الخاص في الأوساط الدينية المثقفة والمتنوّرة [في إيران] وأنهما تواصلتا واستمرتا. ويخطئ صاحب الزماني في قوله إن شريعت لم يكن له خلفاء في إيران[166]. لقد أسلفنا أن سنكلجي توفي في يوم 15/10/1322 هـ.ش [1363هـ.ق/1944م]. وقد روى مريده أبو الحسن بيكدلي في مجلة «رواق» آخر لحظات حياته وما كان يعانيه - على حد قول مريديه- من العوام الجاهلين، وهي المعاناة التي أدت إلى وفاته المبكرة في سن 53 عامًا بعد أن أصبح جسمه كجسم عجوز ابن ثمانين سنة -كما يظهر من صوره-. كان لشريعت أخ آخر يدعى محمد مهدي شريعت سنكلجي مرض بعد وفاة أخيه ولزم الفراش وما لبث أن تُوُفِّي بعد بضعة أيام فقط من وفاة أخيه. واصل أخوه الآخر محمد سنكلجي، الذي خلفه في بناء دار التبليغ، أعماله، ونشرت صحيفة «رواق» الصادرة عام 1331هـ.ش [1371هـ.ق] مقالاً عن أعماله وأعمال أنصار شريعت ومحبيه.
كان محمد باقر «شهاب الدين» ابن شريعت سنكلجي وكان يساعد عمله في إدارة دار التبليغ وكان ينشر كتيبات تتضمن دروس أبيه وعمه. في الرسالة الخاصة التي طُبِعَت وَنُشِرَت بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة شريعت، نظم عدد من الشعراء قصائد في رثائه، واستخدموا فيها أحيانًا بعض الجمل التي تشير إلى أفكاره. وجاء في قصيدة لشاعر يدعى ارونگ: «شريعت الذي نفض غبار الشرك بالمرة وإلى الأبد عن شريعة الدين»[167]. كما جاء في صحيفة قيام إيران، العدد 12 (الصادر بتاريخ 19 شهر دي، 1322هـ.ش) شرحٌ مفصّلٌ بقلم حسن الصدر حول آراء شريعت ومحاربته للخرافات. كما كتب رئيس تحرير صحيفة إيران مقالاً مفصلاً حول شريعت. وكذلك ذكرت صحف إقدام، ونجاة، وكوشش، وكيهان (التي قامت هيئة التحرير في إدارة التبليغ والدعوة العامة فيها بكتابة مقال مفصَّل في هذا الصدد) وعشرات الصحف والمجلات الأخرى خبر وفاة شريعت وأوردت عرضًا سريعًا لمؤلفاته وآرائه. وهذا كله يدل على أن شريعت سنكلجي كان قد لقي التأييد والقبول منذ سنوات عديدة قبل وفاته، وأنه كان له في هذه الديار مريدون ومحبون وأنصار.
وكتب أحمد فرامرزي في صحيفة مهر إيران، العدد 547 (الصادر بتاريخ الاثنين، 19 شهر دي 1322 هـ.ش) [الموافق لـ 1363هـ.ق] مقالاً مفصلاً حول شريعت وذكر خلال كلامه عن المصلحين اسْم كلاَّ من شيخ الإسلام ابن تيمية وثورته ضد الخرافات، ثم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم ذكر الشيخ محمد عبده ثم شريعت سنكلجي وقال: «كان المرحوم شريعت سنكلجي من نمط ومرتبة أولئك المصلحين أيضًا الذين وقفوا حياتهم وكرَّسوها لإعلاء كلمة الحق والجهاد ضد البدع والخرافات... وأذكر أنني كنت أتكلم يومًا مع جناب السيد تقي زاده حول المذاهب والأديان فوصلنا إلى طرح السؤال: هل الدين ضروري لإيران أم لا؟ فقال: «لا يمكن لأي شعب من الشعوب أن يعيش دون دِين ويبقى عزيزًا مرفوع الرأس، ولا يمكن لأي شخص عاقل أن يريد لشعبه الإلحاد وانعدام الدين، ولكنني أعتقد أن هناك حاجة إلى إصلاحات وتصحيحٍ للدين في إيران وهذه الإصلاحات الدينية تعني العودة إلى حقيقة الإسلام»[168]. وقارن عبدالرحمن فرامرزي أيضًا، في مقالة أخرى كتبها في صحيفة «بهرام»، شريعت سنكلجي بالشيخ محمد عبده بل اعتبر سنكلجي أعظم شأنًا من محمد عبده[169]. وأثنى حسينقلي خان مستعان وشخصٌ آخر يُدعى مطيعي في كَلِمَتَيْهما اللتين ألقياها عبر المذياع، على شريعت وَمَدَحَاه[170]. كما كتب «علي جواهر كلام» مقالةً أيضًا في صحيفة «رعد امروز» تحت عنوان «الشيخ محمد عبده - شريعت سنكلجي[171]»[172].
و يقول الباحث اللبناني المعاصر الأستاذ الشيخ حيدر حب الله بعد حديثه عن شريعت سنكلجي ومنهجه القرآني وموقفه الإصلاحي الناقد من الحديث:
«لقد تحوّل سنكلجي إلى تيار في إيران، إذ وقع تحت تأثيره جماعة، واستمرّ تياره في النفوذ والتنامي داخل الوسط الديني في إيران حتى نهاية الخمسينات من القرن العشرين حين طغت عليه الأحداث السياسية للثورة الإيرانية، فغاب عن الواجهة. لكن عديدًا من المثـقَّفين المتنوِّرين لا يزالون يهتمّون بكتاباته وكتابات المجدِّدين ودعاة تصحيح العقائد أمثاله وينشرونها خاصّة في العقدين الأخيرين»[173].
و في مقال له بعنوان «شريعت سنكلجي و تَفَکُّر سلفيگري» [أي شريعت سنكلجي والفكر السلفي]، يحلل المتجدد المعاصِر الأستاذ الشيخ حسن يوسفي إشکوري منهج سنكلجي في الإصلاح والتجديد الديني، ويبيِّن الأثر الذي تركه في إيران بعد رحيله، لاسيما في أوساط المثقفين والشباب، قديمًا وحديثًا ويقول:
«لقد واصل شريعت سنكلجي، خلال 23 عامًا من نشاطه الدعوي في طهران، المدرسةَ الفكريةَ للشيخ هادي نجم آبادي. كان محور أعماله القرآن مع اتجاه عقلاني ونقدي تجاه الروايات الدينية والخرافات والعقائد والطقوس المذهبية. أهم كتب شريعت سنكلجي كتابه الشهير «مفتاح فهم القرآن». لقد تركت أفكار شريعت وتعاليمه أثرها في عدد كثير من الشباب والمثقفين العصريين في عصره. كانت جلساته عامرة بحضورهم ومزدهرة بهم. لقد تربَّى تلاميذ كُثُر في مدرسة شريعت سنكلجي، وقاموا -بدورهم- بتأليف كتب عديدة في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن (الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين الميلادي) تُرَوِّج أفكاره وتعاليمه. يمكننا في هذا المجال أن نشير إلى كتاب «اسلام و رجعت» [الإسلام والرجعة]، تأليف تلميذه عبدالوهاب فريد تنكابني.
باختصار يمكننا أن نلخِّص محاور إصلاح التيار السلفي، أي كسروي و شريعت سنكلجي وكل الذين يتفقون معهما في الفكر والاتجاه، على النحو التالي: العودة إلى الإسلام الأصيل النقي الخالص وإلى السلف مع محورية القرآن والعقل النقدي و تنقية الدين وتصفيته (من الخرافات والإضافات والبدع الدخيلة). هذا التيار لم يكن أبدًا تيارًا سياسيًّا لذا لم يكن لديه ميل إلى الإسلام السياسي والاجتماعي. كما أن هذا التيار لم يكن على اتفاق مع الفلسفة والعرفان (التصوف) والكلام والفقه، وكان يعتبر هذه الأمور حُجبًا تحول دون معرفة الدين الأصيل على حقيقته. ومن خصائص هذا التيار عدم الاهتمام بالحداثة والعصرنة أو معارضته ونقده لها.
بالتزامن مع حركة شريعت سنكلجي الفكرية وجهاده الدَّعَوي، كان هناك أشخاص آخرون أيضًا في بعض مدن [إيران] الأخرى قد بدؤوا نشاطاتهم في نفس الاتِّجاه، وكانوا متأثرين إلى حدٍّ ما، قليلاً أو كثيرًا، بأفكار شريعت سنكلجي ودعوته. يمكننا أن نشير من بينهم إلى الحاج يوسف شُعار في تبريز الذي ابتدأ منذ عام 1304 هـ.ش (1343 هـ.ق/1925م) بعقد جلسات لتفسير القرآن وكان على صلة بشريعت سنكلجي وبينهما تزاور ولقاءات» [174].
[165] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1020 - 1021.
[166] صاحب الزماني، ديباچهاى بر رهبري [مقدمة على الزعامة]، ص 140.
[167] به مناسبت يكمين سالگرد شريعت [بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة شريعت]، ص 9.
[168] به مناسبت يكمين سالگرد شريعت [بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة شريعت]، ص 51-52.
[169] المصدر نفسه، ص 71.
[170] المصدر نفسه، صص 72-79، 83-87.
[171] المصدر نفسه.
[172] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1022 - 1023.
[173] حيدر حب الله، نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي التَكَوُّن والصيرورة بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2006م، ص 612 فما بعد.
[174] حسن يوسفي الإشکوري، «شريعت سنگلجي و تَفَکُّر سلفيگري» [شريعة سنكلجي، والفكر السلفي]، موقع گويا على الشبكة النعنكبوتية:
http://akhbar.gooya.com/culture/archives/019778.php
والمقال نشر بتاريخ : الثلاثاء 10 آذر 1383 هـ.ش الموافق لسنة 1425 هـ.ق/2004م.
من المفيد في ختام سيرة المصلح الكبير «شريعت سنكلجي» أن نلخص، في نقاط محددة مختصرة، أهم معالم دعوته الإصلاحية التصحيحية، كما يأتي[175]:
[175] بعض هذا التلخيص مستفاد من مقدمة تعريب كتاب توحيد العبادة لشريعت سنكلجي، الذي نشر بإشراف وتحقيق الأستاذ خالد بن محمد البديوي، بتصرف وإضافات وإعادة توثيق للمصادر.
يقول المؤرخ الشيعي المعاصر رسول جعفريان عن الشيخ شريعت سنكلجي:
«..... وتكوَّنت لديه [أي لدى شريعت] تدريجيًّا ميول تجديدية وكان ذلك أمرًا عاديًّا في فترة العشرينيات. وقد ساقه هذا الميل - كما يقول - إلى محاربة الخرافات»[176].
ثم يقول المؤرخ ذاته بعد أسطر:
«كان شريعت يرى أن دعوته دعوة قرآنية وتوحيدية ومحارِبَة للشرك، وقد اتهمه بعض أصحاب المنابر... بالوهابية بسبب التشابه بين بعض أفكاره وأفكار التيار الوهابي»[177].
ويضيف رسول جعفريان قائلاً:
«كان ادعاء أمثال أولئك الأفراد [أي شريعت سنكلجي ونظراؤه] أنهم يرون وجوب تنقية الدين والمذهب من أمثال تلك الخرافات، مع حفظهم لأصول التشيع، وذلك لأن تلك الخرافات أمور دخيلة لا تستمد جذورها من التشيع»[178].
ويقول الشيخ شريعت سنكلجي ذاته رحمه الله:
«في اعتقادي إن هذه الفضائح والتهم التي يرميني بها الجهلة وأدعياء الباطل بسبب الإصلاحات التي أقوم بها لا تساوي شيئًا ولا وزن لها، لأنني في هذا الكتاب وسائر كتبي ومحاضراتي التي أبيِّنُ فيها إسلام السلف الصحيح وأعرِّف به إنما أضرب بفأس تجتث الخرافات من جذورها وأهدم معابد الأصنام فوق رؤوس أصحابها، فالذين ألفوا مقالاتي وتدبروا القرآن وأدركوا توحيد الإسلام لن يلقوا بالاً لتشويشات أدعياء الباطل وأنصار الخرافات، ولن يعودوا إلى الأوهام والأباطيل من جديد بعد أن عرفوا الحقيقة...»[179].
[176] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية والسياسية في إيران). صفحة 1016 - 1017. [177] المصدر نفسه، ص 1017. [178] المصدر نفسه، ص 1020. [179] شريعت سنكلجي، توحيد عبادت، يكتاپرستي، [توحيد العبادة]، مقدمة مؤلفه على الطبعة الثانية، الصفحة: ب.
يقول المؤرخ رسول جعفريان: «كان شريعت يقول: لا توجد في القرآن أي كلمة ولا أي آية لا يمكن للبشر أن يفهموها[180]، كما قال: إن المقصود من بطن القرآن ليس تفسيره وتأويله بل بطن القرآن هو رسالة القرآن وهدفه وغايته[181]»[182].
وبطبيعة الحال فإن هذا أمر غير مقبول عند أغلب الدوائر العلمية الإمامية، وقد حذر المؤلف في كتابيه توحيد العبادة ومفتاح فهم القرآن كثيرًا من الأصوات التي تدعي أن القرآن لا يمكن فهمه، أو أنه محرف وكشف مقاصد أصحاب هذه الأقوال.
[180] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن، ص 100. [181] المصدر نفسه، ص 47. [182] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية والسياسية في إيران). ص 1019.
ويظهر هذا جليًّا من مراجعة مصادر كتبه لاسيما كتابيه توحيد العبادة، ومفتاح فهم القرآن، كما أوضحنا ذلك في نهاية الفصلين المتعلقين بالكتابين.
من الواضح أن شريعت كان يحتج في كتبه ولاسيما في كتابه «محو الموهوم»، بأحاديث شريفة من كتب حديث أهل السنة كصحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وغيرها... ويذكر رواة الأحاديث الذين هم طبعًا من الصحابة مثل أبي بكر أو عمر أو ابن عباس وغيرهم ش، مما يدل على حسن ظنه بهؤلاء الصحابة وتصديقه لما يروونه وإلا لما احتج برواياتهم، لاسيما أنه لم يكن في صدد الاحتجاج بتلك الأحاديث على أهل السنة حتى يُقال إنه يحاجج الخصم بما يلتزم به، بل على العكس يحتج بهم أي بأحاديثهم واستند إلى روايات الصحابة لإثبات المعلومات التي يطرحها سواء فيما يتعلق بالتوحيد أو بالقرآن أو فيما يتعلق بوفاة عيسى÷، وهي عقيدة - كما نعلم- تخالف ما يذهب إليهه جمهور أهل السنة والشيعة الذين يؤمنون بحياة عيسى÷ وبنزوله آخر الزمن. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن المرحوم شريعت كان قريبا جدًّا من عقيدة أهل السنة، وأنه كان يترضى على الصحابة ويجلهم ويحترمهم، كيف لا وشريعت رجل قرآني، وقد أثنى القرآن في خمسين موضعًا على صحابة النبي الأبرار كما هو معلوم.
يقول الدكتور «ناصر الدين صاحب الزماني» في كتابه «ديباچهاى بر رهبري» [مقدمة على الزعامة]: «إن حركة «شريعت سنكلجي» نهضة مجهولة، وإن شريعت سعى من خلال نقد بعض الأخبار والأحاديث، ومن دون أن يبطل الإسلام، إلى طرح الإسلام للناس بصورة نهضة تقدمية اجتماعية، جاعلاً منه إيديولوجية أو رؤيةً للعالَم مقبولةً لدى الجيل المعاصر»[183].
لقد سعى «شريعت» إذَن إلى تقديم رؤية حضارية للدين، تقوم على التمسك بالإسلام الصحيح مع تطوير فهمه وتحديث طرق تعلمه وتعليمه مع الأخذ بكل سبل التطور والرقي الدنيوي.
[183] المصدر نفسه، ص 1021.
حيث لا يمكن للمطلع على كتب شريعت سنكلجي أن يصنفه من الإمامية التقليديين، كما أنه لا يجد ما يمكنه أن يزعم بأنه من أهل السنة والجماعة، والحقيقة أن المؤلف لا يفصله عن منهج أهل السنة إلا الاسم فقط، وبيان ذلك أن الشيخ شريعت سنكلجي انتهى إلى ترك القول بالإمامة المنصوص عليها مع التدين بالاحترام والولاء لأهل البيت الأطهار والصحابة الأبرارش، ويقدّر للجميع جهدهم وجهادهم في نشر التوحيد، وهذا هو مذهب أهل السنة، خلافًا للتيار الغالب على الشيعة الإمامية والذي يتبنى نظرية النص على خلافة عليٍّ ÷ والقول بأن من سبقه من الخلفاء ومن بايعهم من الصحابة قد غصبوه هذا الحق وخانوا الله ورسولهص.
***
1. ابن شاذان القمي، أبو الفضل شاذان بن جبرئيل (ت حدود 600هـ.ق)، الفضائل لابن شاذان، قم، منشورات الرضي، ط2، 1404هـ.ق.
2. أبو الحسن بيگدلى، «ضايعه بزرگ اسلامى» [خسارة إسلامية عظيمة]، صحيفة اطلاعات، العدد 17 الصادر في شهر دي من سنة 1322 هـ.ش (1363هـ.ق/1944م).
3. ____، به مناسبت يكمين سالگرد شريعت [بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة شريعت].
4. إحسان طبري، مقال: راه توده - جامعه ايران در دوران رضا شاه [طريق الجماهير - المجتمع الإيراني في عصر رضا شاه]. وهو منشور على شبكة الإنترنت وعنوانه
http://www.rahetudeh.com/rahetude/Tabari/iran-rezashah/html/jameehiran-11.html
5. جهانبگلو، العميد الجنرال، مقال: «سخني چند در باره مرحوم آية الله شريعت سنگلجي» [كلمات حول المرحوم آيت الله شريعت سنكلجي]، مجلة «مِهْر» الصادرة عن دائرة الثقافة والفن، العدد 1 من السنة 13 للمجلة الصادر في طهران بتاريخ 1346هـ.ش (1387هـ.ق/1968م)، ص 72 إلى 74.
6. حسن يوسفي الإشکوري، «شريعت سنگلجي و تَفَکُّر سلفيگري» [شريعة سنكلجي، والفكر السلفي]، موقع گويا على الشبكة العنكبوتية،
http://akhbar.gooya.com/culture/archives/019778.php
والمقال نشر بتاريخ : الثلاثاء 10 آذر 1383 هـ.ش الموافق لسنة 1425 هـ.ق/2004م.
7. حسينقلي مستعان، مقدمة كتاب محو الموهوم لشريعت سنكلجي، طهران، شركت چاپخانه تابان، 1323 هـ.ش/1944م.
8. حيدر حب الله، نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي، التَكَوُّن والصيرورة، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2006م.
9. رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، طهران، دار نشر عَلَم، الطبعة الثالثة عشرة، 1389هـ.ش/2010م، الفصل الثامن.
10. رضـا شـعباني، الدكتور، المنتخب من تاريخ إيران، طهران، معاونيَّة البحوث والتعليم التابعة لرابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، بدون تاريخ، فصل: من الدولة القاجارية إلى الدولة البهلوية.
11. سيد عبد الحجت البلاغي، تذكره عرفاء [تذكرة العرفاء].
12. سيد مقداد نبوي رضوي، نگاهى تحليلي به تكاپوهاى شريعت سنگلجى [نظرة تحليلية إلى جهود شريعت سنكلجى الفكرية]، فصلنامه امامت پژوهى، [مجلة «مباحث الإمامة» الفصلية] السنة الأولى، العدد 4.
13. شريعت سنكلجي، توحيد عبادت «يكتاپرستى»، الطبعة الثالثة، بهمة محمد باقر سنكلجي، 1362هـ.ق/ 1943م.
14. ____، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن [مفتاح فهم القرآن مع براهين القرآن]، طهران، مؤسسة انتشارات دانش، الطبعة الخامسة بالأفست، بدون تاريخ.
15. ____، محو الموهوم، شركة چاپخانه تاپان، ارديبهشت، 1323هـ.ش (1363 هـ.ق / 1944م)، المقدمة، ص 1 - 3.
16. عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، النسخة الفارسية الأصلية المُعاد تنضيدها والمنشورة في موقع «كتابخانه عقيدة»
17. علي بن عيسى الإربلي (ت 692هـ.ق)، كشف الغمة في معرفة الأئمة، تحقيق هاشم رسولي المحلاتي، طبع تبريز، نشر بني هاشمي، 1423هـ.ق
18. گلزار مشاهير، زندگينامه درگذشتگان مشاهير ايران، انجمن آثار و مفاخر فرهنگي، [روضة أزهار المشاهير، تراجم الراحلين من مشاهير إيران، جمعية المؤلفات والمفاخر الثقافية].
19. محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، طبع بيروت، ج 39، ص 248.
20. محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، الدكتور، ديباچه بر رهبرى [مقدمة للزعامة]، طهران، مؤسسة مطبوعاتي عطائي، 1348 هـ.ق، [542 صفحة].
21. محمّد رضا المظفر، الشيخ، عقائد الإمامية، الطبعة الثانية، بدون تاريخ
22. مرتضى مُدَرِّسي چهاردهي، سيماى بزرگان [ملامح العظماء].
23. ____، شيخ هادي نجم آبادي و داستانهايي از زندگي او [الشيخ هادي نجم آبادي وقصص من حياته]، مجله «وحيد»، العدد 19، الصادر بتاريخ ارديبهشت 1352هـ.ش (1393هـ.ق/1973م
24. ____، مقال «شريعت سنكلجي»، مجلة «وحيد» للغة والآداب، العدد 116 الصادر بتاريخ شهر مرداد، 1352هـ.ش (1392هـ.ق/ 1973م).
25. نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، سازمان چاپ وانتشارات فتحي، الطبعة الأولى، خريف عام 1363 هـ.ش (1404هـ.ق/ 1984 م).
26. هادي نجم آبادي، الشيخ، تحرير العقلاء.