تأمُّلٌ في آيَةِ التَّطْهِير
تأليف
مصلح توحيدي
المترجم
د. سعد محمود رستم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الإسلام، واختار منهم أفضل عباده وأطهرهم لإبلاغ رسالة الحرية والتحرُّر من كل عبودية سوى عبودية الله، والصلاة والسلام على أهل بيتِ نبي المحبة والرحمة الكرام الأطهار، وعلى صحبه الأجلاء الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الدينَ الذي نفخر به اليوم ثمرةٌ لجهاد رجال الله وتضحياتهم؛ أولئك الذين كانت قلوبهم مُتَيَّمةً بحب الله، وألسنتهم لَـهِجَةً بذكر الله، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ رسالات الله ونشرها، واضعين أرواحهم وأموالهم وأعراضهم على أكفهم ليقدِّموها رخيصةً في سبيل صون كلمة الله سبحانه و سنة نبيه الكريم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.
أجل، هكذا قامت شجرةُ الإِسْلاَمُ العزيز واسْتَقَرَّت ضاربةً بجذورِها أعماق الأرض، بالغةً بفروعها وثمارها عنان السماء، مُعْليةً كلمة التوحيد والمساواة.
ولكن في أثناء ذلك، تطاولت على قامة الإسلام يد أعدائه الألدَّاء، وظلم علماء السوء وتحريف المتعبِّدين الجَهَلة، فَشَوَّهُوا صورة الإسلام الناصعة بشركهم وغلوهم وخرافاتهم وأكاذيبهم، إلى درجة أن تلك الأكاذيب التي كان ينشرها المتاجرون بالدين غطَّت وجه الإسلام الناصع. وقد اشتدَّ هذا المنحى من الابتعاد عن حقائق الدين وعن سنة رسول الله الحسنة، بمجيء الصفويين إلى حكم إيران في القرن التاسع الهجري ثم بقيام الجمهورية الإسلامية في العصر الحاضر، حتى أصبحت المساجد اليوم محلاً لِـلَطْمِ الصدور وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحلَّت الأحاديث الموضوعة المكذوبة محل سنة النبيص، وأصبح المدَّاحون الجهلاء الخدّاعون للعوام، هم الناطقون الرسميون باسم الدين؛ وأصبح التفسير بالرأي المذموم والروايات الموضوعة المختَلَقة مستمسكاً للتفرقة بين الشيعة والسنة، ولم يدروا للأسف من الذي سينتفع ويستفيد من هذه التفرقة المقيتة؟
إن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تُرْفع اليوم في إيران، ليست سوى ضجَّة إعلامية ودعاية سياسية واسعة، القصد منها جذب الأنظار وإعطاء صورة جيدة عن حكومة إيران الشيعية في العالم. إن نظرةً إلى قادة الشيعة في إيران وزعماءهم الدينيين ومراجعهم تدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والأخوَّة والمحبَّة الدينية بين المسلمين، على منهج حُكَّام إيران الحاليين، ليست سوى رؤيا وخيالٍ وشعارات برَّاقة لا حقيقة لها على أرض الواقع.
في هذا الخِضَمّ نهض أفراد مؤمنون موحِّدون من وسط مجتمع الشيعة الإمامية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، ونبذ البدع الطارئة والخرافات الدخيلة، وإصلاح مذهب العترة النبوية بإزالة ما تراكم فوق وجهه الناصع منذ العصور القديمة من طبقات كثيفة من غبار العقائد الغالية والأعمال الشركية والبدعية، والأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة، والعودة به إلى نقائه الأصلي الذي يتجلى في منابع الإسلام الأصيلة: القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة على صاحبها آلاف التحية والسلام وما أيَّدهما من صحيح هدي أئمّة العترة الطاهرة وسيرتهم؛ وشمَّر هؤلاء عن ساعد الجِدّ وأطلقوا العِنان لأقلامهم وخطبهم و محاضراتهم لإزالة صدأ الشرك عن معدن التوحيد الخالص، ولسان حالهم يقول: «انهض أيها المسلم وامحُ هذه الخرافات والخزعبلات عن وجه الدين، واقضِ على هذا الشرك الذي يتظاهر باسم التقوى، وأعلن التوحيد وحطِّم الأصنام».
لقد اعتبر «حيدر علي قلمداران القمِّي» - وهو أحد أفراد تلك المجموعة من الموحِّدين المصلحين - في كتابه «طريق الاتحاد»، أن سبب هذه التفرقة هو جهل المسلمين بكتاب الله وسيرة نبيه، وسعى من خلال كشف الجذور الأخرى لتفرُّق الفرق الإسلامية، إلى التقدّم خطوات مؤثرة نحو التقريب الحقيقي بين المذاهب. ولا ريب أن جهود علماء الإسلام الآخرين مثل آية الله السيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي، والسيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، وآية الله شريعت سنكلجي، ويوسف شعار وكثيرين آخرين من أمثال هؤلاء المجاهدين في سبيل الحق، أسوة ونبراس لكل باحث عن الحق ومتطلِّعٍ إلى جوهر الدين، كي يخطوا هم بدورهم أيضاً خطوات مؤثرة في طريق البحث والتحقيق التوحيدي، مُتَّبِعين في ذلك أسلوب التحقيق الديني وتمحيص الادِّعاءات الدينية على ضوء التعاليم الأصيلة للقرآن والسنة، ليعينوا ويرشدوا من ضلوا الطريق وتقاذفتهم أمواج الشرك والخرافات والأباطيل، ليصلوا بهم إلى بر أمان التوحيد والدين الحق.
إن المساعي الحثيثة التي لم تعرف الكلل لِرُوَّاد التوحيد هؤلاء لَهِيَ رسالةٌ تقع مسؤوليتها على عاتق الآخرين أيضاً، الذين يشاهدون المشاكل الدينية لمجتمعنا، ويرون ابتعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام الحيَّة، لاسيما في إيران.
هذا ولا يفوتنا أن نُذَكِّر هنا بأن هؤلاء المصلحين الذين نقوم بنشر كتبهم اليوم قد مرُّوا خلال تحوُّلهم عن مذهبهم الإمامي القديم بمراحل متعددة، واكتشفوا بطلان العقائد الشيعية الإمامية الخاصة - كالإمامة بمفهومها الشيعي والعصمة والرجعة والغيبة و... وكالموقف مما شجر بين الصحابة وغير ذلك - بشكل متدرِّج وعلى مراحل، لذا فلا عجب أن نجد في بعض كتبهم التي ألفوها في بداية تحولهم بعض الآثار والرسوبات من تلك العقائد القديمة لكن كتبهم التالية تخلَّصت بل نقدت بشدة كل تلك العقائد المغالية واقتربوا للغاية بل عانقوا العقيدة الإسلامية الصافية والتوحيدية الخالصة.
***
تُمثِّلُ الكتبُ التي بين أيديكم اليوم سعياً لنشر معارف الدين وتقديراً لمجاهدات رجال الله التي لم تعرف الكَلَل. إن الهدف من نشر هذه المجموعة من الكتب هو:
1- إمكانية تنظيم ونشر آثار الموحِّدين بصورة إلكترونية على صفحات الإنترنت، وضمن أقراص مضغوطة، و بصورة كتب مطبوعة، لتهيئة الأرضية اللازمة لتعرُّف المجتمع على أفكارهم التوحيدية وآرائهم الإصلاحية، لتأمين نقل قِيَم الدين الأصيلة إلى الأجيال اللاحقة.
2- التعريف بآثار هؤلاء العلماء الموحِّدين وأفكارهم يشكِّل مشعلاً يهدي الأبحاث التوحيدية و ينير الدرب لطلاب الحقيقة ويقدِّم نموذجاً يُحْتَذَى لمجتمع علماء إيران.
3- هذه الكتب تحث المجتمع الديني في إيران الذي اعتاد التقليد المحض، وتصديق كل ما يقوله رجال الدين دون تفكير، والذي يتمحور حول المراجع ويحب المدَّاحين، إلى التفكير في أفكارهم الدينية، ويدعوهم إلى استبدال ثقافة التقليد بثقافة التوحيد، ويريهم كيف نهض من بطن الشيعة الغلاة الخرافيين، رجال أدركوا نور التوحيد اعتماداً على كتاب الله وسنة رسوله.
4- إن نشر آثار هؤلاء الموحِّدين الأطهار وأفكارهم، ينقذ ثمرات أبحاثهم الخالصة من مقصِّ الرقيب ومن تغييب قادة الدين والثقافة في إيران لهذه الآثار القَيِّمة والتعتيم عليها، كما أن ترجمة هذه الآثار القَيِّمة لسائر اللغات يُعَرِّف الأمّة الإسلامية بآراء الموحدين المسلمين في إيران وبأفكارهم النيِّرة.
***
لا شك أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ تماماً من الخرافات والبدع وإلى المدينة الفاضلة التي تتحقق فيها الطمأنينة في ظلِّ رضا الله سبحانه وتعالى، إلا باتِّباع التعاليم النقيَّة الأصيلة للقرآن الكريم وسنة نبي الرحمة والرأفة ص. إن هدف القائمين على نشر مجموعة آثار الموحِّدين هو التعريف بآثار هؤلاء المجاهدين العلميين الكبار، كي تكون معرفة الفضائل الدينية والعلمية لهؤلاء الأعزاء، أرضية مناسبةً لنموّ المجتمع التوحيدي والقرآني في إيران وقوّته، وذلك لنيل رضا الخالق وسعادة المخلوق.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لعلوّ درجات أولئك الأعزاء، وأن يمنّ علينا بالعفو.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة العبودية له، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وآخر رسل الله محمد المصطفى وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.
وبعد، فقد كان المسلمون طول القرون المنصرمة سبَّاقين للآخرين في تحصيل العلم والمعرفة وتعلُّم العلوم المختلفة، وذلك ببركة تعاليم الإسلام العزيز واتِّباعاً منهم لكلام رسولاللهص، حتى صار العلماء المسلمون في أواخر فترة الخلافة العباسية سادة العلوم في عصرهم، وتحول بيت الحكمة الذي تأسس في بغداد في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني في عهد خلافة هارون الرشيد العباسي، إلى أكبر مؤسسة علمية وبحثية في العالم، ولا يزال بيت الحكمة يُعتَبر مظهراً من مظاهر الحضارة الإسلامية وذلك بفضل نشاطاته الثقافية والعلمية في المجالات المختلفة من تأليف وترجمة واستنساخ وأبحاث متنوعة في المجالات العملية المختلفة سواء الطب والهندسة أم العلوم الإنسانية.
ولا شك أن هذه القوة العلمية للمسلمين كانت بمثابة شوكة في أعين أعداء الإسلام، لذلك سعوا من خلال بثِّ أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين إلى تحطيم عَظَمَة الإسلام هذه وسؤدده الذي يعود الفضل فيه إلى وحدة المسلمين وتماسكهم والأخوة السائدة بينهم، فأثار أعداء الإسلام عواصف النزاعات والتفرقة بين المسلمين كي يحجبوا جمال الحق عن أبصارهم، ويخفوا شمس الدين المشعة خلف غيوم البدع والخرافات. وكما يقول الشيخ سعدي الشيرازي: الحقيقــة مكـان مزَينٌ ألا ترى أن كل مكان اعتلاه الغبار لكن الهوى والرغبات أثارا الغبار فوقه لا يقع عليه النظر ولو كان الرجل بصيراً إن المساعي المخطط لها وعلى المدى الطويل لأعداء الإسلام، لأجل إغلاق أعين المسلمين عن حقيقة الدين وإضعاف المسلمين عن تعلُّم معارف الدين ونشرها، وإبعادهم عن سنة النبي الأصيلة الهادية، أدت إلى حدوث فجوة عميقة واختلاف كبير في أمة الإسلام وأصبح أبناء الإسلام اليوم يعانون بشدَّة من تبعات هذه الفجوة وآثارها المشؤومة.
وبموازاة مساعي أعداء نبي الإسلام ص العِدائية الرامية إلى تحريف تعاليم الإسلام وتشويهها وإدخال البدع المختلفة في الدين، أدرك أشخاصٌ مؤمنون أطهار شفيقون هذا الخطر، ونهضوا مشمِّرين عن ساعد الجِد والجهاد المتواصل لإحياء معالم الإسلام والسنة النبوية الأصيلة، وتناولوا بأيديهم -بشجاعة منقطعة النظير- أقلامهم وأخذوا يكتبون ويؤلفون في نشر ثقافة الإسلام الأصيلة والعقائد الإسلامية الصحيحة النقية بين أوساط الشيعة عُبَّاد الخرافات، وصدحوا بينهم بنداء التوحيد بصوت عال أيقظ المتاجرين بالدين والبدع من نوم غفلتهم مذعورين! لقد ضحى هؤلاء الموحدون الطالبون للحق والحقيقة بمصالحهم الشخصية فداء للحقيقة، وقدموا أرواحهم في هذا السبيل هديةً رخيصةً للحق تعالى، وصاروا عن حق مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس/62].
إن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى غيضٍ من فيض المعارف الإلـهية، ومُنْتَخَبٍ من آثار الموحدين الطالبين لله تعالى الذين كانوا ينتمون في بداية أمرهم لطائفة الشيعة. لقد أشرق نور الله في صدورهم، وصار التوحيد نبراس حياتهم المباركة. لقد تم تحرك هؤلاء الأفراد الذين كانوا جميعاً في بداية أمرهم من الطراز الأول من علماء الشيعة في إيران، في مسيرتهم التحولية من مذهبهم القديم، خطوةً خطوةً؛ بمعنى أن نظرتهم إلى المسائل العقائدية لم تتحول بشكل فجائي مرةً واحدةً، بل حَصَل هذا التحول بمرور الزمان وعلى إثر المطالعة والدراسة المتأنية والتواصل مع من يوافقهم في أفكارهم، لذا من الطبيعي أن لا تنطبق بعض رؤى وأفكار هؤلاء الإصلاحيين في بعض مراحل حياتهم وكتاباتهم، مع عقائد أهل السنة والجماعة واتجاهاتهم الفكرية بشكل كامل؛ لكن رغم ذلك قمنا بنشر هذه المؤلفات كما هي نظراً لأهميتها في هداية شيعة إيران وغيرهم من الناطقين باللغة الفارسية. كما أنه من الجدير بالذكر أن الرؤى والمواقف الفكرية المطروحة في هذه الكتب، لا تنطبق بالضرورة مع رؤى الناشر والقائمين على نشر هذه المجموعة من الكتب، هذا على الرغم من أن هذه الكتب تمثل بلا ريب نفحةً من نفحات الحق و نوراً من جانب الله لهداية طالبي الحقيقة البعيدين عن العصبيات والظنون التاريخية الطائفية.
إن النقطة الجديرة بالتأمّل هي أنه للوقوف بشكل صحيح على رؤى وأفكار هؤلاء الأفراد، لا يمكن الاكتفاء بقراءة مجلد واحد من آثارهم؛ بل لا بد من قراءة حياتهم بشكل كامل، كي يتم التعرُّف بشكل كامل على كيفية تحولهم الفكري، ودوافعه وعوامله. فعلى سبيل المثال، ألف آية الله السيد أبو الفضل البرقعي في الفترة الأولى من بداية تحوله الفكري كتاباً بعنوان «درسى از ولايت» أي «درسٌ حول الولاية»، بحث فيه موضوع الأئمة وادعاء الشيعة حول ولايتهم وإمامتهم ورئاستهم المباشرة للمسلمين بعد نبي الله ص. واعتبر أن عدد الأئمة 12 إماماً، مصحِّحاً بذلك الاعتقاد بوجود محمد بن الحسن العسكري وحياته حتى الآن، بوصفه الإمام الثاني عشر. لكن المؤلِّف نفسه ألف بعد عدة سنوات كتاباً باسم «تحقيق جدي في أحاديث المهدي» ووضع تحت تصرف القراء نتائج بحثه التي توصل إليها في هذا المجال، وهي أن جميع الأخبار والروايات التاريخية المتعلِّقة بولادة ووجود المهدي إمام الزمان، روايات وأخبار موضوعة وكاذبة. من هذا المثال ومن أمثلة مشابهة أخرى يتبيَّن أن أفضل طريق لمعرفة المسيرة التحولية لأفكار هؤلاء الموحدين وآثارهم هي قراءة مجموعة كتاباتهم بشكل كامل، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم كل مؤلَّف من مؤلَّفاتهم أو تأخّره زمنياً.
نأمل أن تكون آثار هؤلاء المؤلّفين الكبار ومساعي القائمين على نشرها، سبباً للعودة إلى مسيرة الأمن الإلـهية وعبادة الحق سبحانه وتعالى الخالصة.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لغفران ذنوبنا وأن يسامحنا إذا وقعنا في خطأ أو زلل، وأن يرحم أرواح أولئك المؤلفين الأعزَّاء ويجعلهم في جوار رحمته، إنه رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
استلمتُ قبل مدة من الزمن رسالةً من أحد إخوتي في الله، كتب لي فيها بعض الأمور المتعلقة بآية التطهير وطرح فيها بعض الأسئلة. ونظراً إلى أن رسالته لم تكن رسالة خاصة فإني قرأتها على مجموعة من الإخوة في الإيمان وبينت لهم خلال ذلك بعض الأمور حول ما تضمنته الرسالة وحول آية التطهير، وتم تسجيل تلك المحاضرة. وأخذ أحد الأخوة على عاتقه مهمة تحرير وقائع تلك الجلسة وكان حريصًا في الوقت ذاته على المحافظة على الحالة الشفهية والخطابية لمحاضرتي في تلك الجلسة. والدافع لتحرير الكتاب الذي بين أيديكم الآن هو تحليل ومناقشة تلك الرسالة التي كتبها ذلك الأخ في الدين.
وهنا أتوجه بالشكر للأخ العزيز الذي أدت رسالته إلى بيان هذه القضية المهمة في هذا الكتيّب، وهكذا أشكر الأخ المُجدّ الذي أخذ على عاتقه مهمة كتابة محاضرتي.
1- أولاً يقول اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔا...﴾ [يونس: 36]، يعني أنه حتى الظن الغالب لا يكفي لبيان الحقيقة، فما بالك بالاحتمالات وبالأمور التي لا علم لنا بها؟! لذا فإنني - خلافًا لما تدَّعونه - قرأت جميع الآيات السابقة واللاحقة لآية التطهير ووصلت إلى النتائج الآتية. إن القرآن ليس كتاباً قرأتَه أنت وحدك، بل قرأناه نحن أيضًا!
2- إن تدبُّر الآيات من 28 إلى 35 من سورة الأحزاب تظهر لنا نقاطًا مثيرةً للاهتمام جدًّا:
الف) بدأت الآيات بمخاطبة نساء النبي ص فاستُخْدمَت في هذا الخطاب كلمة «أزواج» أو كلمة «نساء النبي» الواضحة والصريحة تمامًا، ولكن فجأة تحول الخطاب إلى مخاطبة «أهل البيت» وتغيَّر التصريح من عبارة «نساء النبيص» إلى «أهل البيت».
ب) الضمائر كلها جمع مؤنث ولكن في وسط هذه الآيات يتبدَّل الضمير إلى جمع مذكَّر، ثم يعود مرَّةً ثانية ليصبح جمع مؤنث!
ج) خطابات القرآن لنساء النبي ص، اللواتي كُنَّ مجموعةً محددَّةً من النساء، خطابات حادَّة و توبيخية. يبدو أنه كان هناك احتمال واضح بينهنَّ للوقوع في فاحشة مُبَيِّنة أو التبرُّج كتَبَرُّجِ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى أو ترقيق الصوت والخضوع فيه، أو كانت بين بعضهنّ (والعياذ بالله) سوابق من الوقوع في مثل هذه الأمور. بل إن الله تعالى يقول: ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩﴾ [الأحزاب: 29]. ولكن فجأة وفي وسط هذه الآيات (وليس في آخرها) نقرأ خطابًا قيِّما جدًّا يعلن تطهير «أهل البيت» وإذهاب كل نوع من أنواع الرجس عنهم وهو مخالفٌ تمامًا لسياق معاني الآيات.
على ضوء النقاط المذكورة آنفًا، من الواضح أنه لا يوجد أي متكلِّم عاقلٍ يقوم، في وسط مخاطبته للنساء، بتبديل خطابه هذا إلى خطاب مختلف من حيث المعنى والسياق، بلا سبب، ثم يعود بعد ذلك من جديد وبشكل واضح إلى مخاطبة تلك النساء أنفسهنّ. ما الذي حدث حتى يقوم الله تعالى بمثل هذه الخطاب، وبتبديل خطابه الصريح المعنون بـ «يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ» إلى الخطاب بعبارة «أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ» وتبديل ضمائر المجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكر؟ ثم بعد الانتهاء من هذا الجزء المختلف يعود بواو العطف إلى مخاطبة نساء النبي ص من جديد (الآية 34 لم تكن ضمن دراستكم وتحليلكم لهذه الآيات). إن كنا نعتقد أن الله تعالى يتكلم بشكل منطقي(!) فعلينا أن نقول: إن الله تعالى تكلَّم عن موضوعٍ خاصٍّ مختلف في هذا الجزء من خطابه، موضوعٍ يختلف عن موضوع الآيات التي سبقته والتي تلته. لذا انطلاقًا من سياق الآيات وانطلاقًا من إيماننا بأن كلام الله تعالى كلام حكيم منطقي، لابد لنا من القول: إن المقصودين من «أهل البيت» ليسوا أنفسهم المقصودين من «نساء النبي» بل هم جهتان مختلفتان. وبناء عليه، فعليكم، أنتم الذين اعتبرتم - خلافًا لسياق جميع هذه الآيات ولتحليلها الدقيق من جميع الجوانب - أنَّ أهل البيت هم نساء رسول الله ص أنفسهم، أن توضحوا السبب في وقوع هذه التغييرات المهمَّة والأساسية في كلام الله الحكيم؟ إن الله تعالى يعود من جديد، بعد آية التطهير، إلى قوله: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 34]
3- لقد أشرتم - في إطار بيانكم إلى أن استخدام عبارة «أَهْلِ البَيْتِ» واستخدام ضمير جمع المذكر [في مخاطبة نساء النبي] لا إشكال فيه -، إلى آية حضرة إبراهيم ÷[1]. واستدليتم بأن المقصود من عبارة «أَهْلِ البَيْتِ» في آية إبراهيم ÷ هو - بوضوح - امرأة إبراهيم، وَمِنْ ثَمَّ، ففي هذه الآية أيضًا [أي آية التطهير] المقصود من «أَهْلِ البَيْتِ» هو نساء النبي ص والضمائر المؤنثة ذاتها. وقلتم: إن هذا التغيير لعبارة الخِطاب يعطي معنى النساء أيضًا، واستفدتم من تلك الآية [آية إبراهيم] لإثبات كلامكم.
[1]- يقصد الآيات الآتية من سورة هود: ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ ٧١ قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ ٧٢ قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾ [هود: 71 - 73]. (المُتَرْجِمُ)أولاً: إن تفسير هذه الآية أكثر إشكالاً من تفسير آية التطهير؛ إذْ جاء قبلها مخاطبة إحدى نساء نبي الله ثم جاء بعدها مخاطبة أهل البيت، وباستخدام ضمير الجمع المذكّر! لذا فقد شرحتم آية التطهير بواسطة آية إبهامها وإشكالها أكثر من الإبهام الموجود في آية التطهير!! فالسؤال يطرح نفسه هناك أيضًا [أي في آية إبراهيم]: من هم «أَهْلُ البَيْتِ»؟ في الواقع إن هذا يدل على أن أهل البيت «مصطلح» خاصٌّ محدَّد.
ثانيًا: على فرض أنه تم التصريح في آية إبراهيم بالمقصود من «أَهْلِ البَيْتِ»، فما الدليل على أن هذا هو أيضًا المقصود من هذه العبارة في آية التطهير؟
4- عند نزول آية التطهير لم يكن حاضرًا في بيت رسول الله ص سوى ابنة واحدة له هي حضرة الزهراء - سلام الله عليها - وتشملها قطعًا عبارة «أَهْلِ البَيْتِ»، فالتشكيك في هذا الأمر غريبٌ جدًّا.
5- في اللغة والعرف السائد بين البشر لا تشمل كلمة «أَهْلِ بَيْتِ» الشخص، الشخصَ ذاته، أي أن النبي ص لا يدخل ضمن عبارة أهل بيت النبي ص، ولو أردنا أن نفسر العبارة على هذا النحو فعلينا القول بأن «أهل البيت» مصطلحٌ خاصٌّ. لذا فالقول بأن حضرة إبراهيم÷ داخل ضمن عبارة «أهل البيت» قول لا دليل عليه، وهو مصادرة على المطلوب. وقاعدة التغليب إنما تُطبَّق عندما يكون هناك رجل واحد على الأقل حاضرًا بين النساء، وانطلاقًا مما قررناه من أن النبي ص غير داخل في عبارة «أهل بيته» فإن الإشكال في تذكير الضمير يبقى غير محلول.
6- كما نلاحظ في الآية 34 من سورة الأحزاب: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ جاءت كلمة (بُيُوتِكُنَّ) أي جاءت الإشارة إلى البيوت بالجمع وليس بيتًا واحدًا. لذا كان النبي ص حاضرًا في عدة بيوت هي بيوت نسائه، أما البيت المشهور فهو ذلك البيت الذي كان بيت رسولالله ص ذاته ويقع في جوار مسجده ص ولم يكن فيه سوى ابنته وصهره و أسباطه (أحفاده).
بناء عليه: عندما تقول الآية: «أَهْلَ البَيْتِ»، فلا يمكن أن يكون المقصود أهل البيوت، بل لابد أن يكون المقصود أهل بيت محدد خاص. من هم أهل هذا البيت المحدد الخاص؟ هل هم نساء النبي ص؟؟
7- لو كان المقصود من «أهل البيت» نساء النبي ص، لكُنَّ، بموجب هذه الآية، صاحبات مقام عال أرفع من مقام سائر البشر أجمعين، لأن الله أذهب عنهنَّ كل رجس، أي كل نوع من أنواع القذارة المعنوية، فلماذا إذن اصطحب النبي ص معه، عند المباهلة، علي بن أبي طالب ÷ والصديقة الكبرى والحسنين -عليهم السلام- واعتبر الأول كنفسه، والثانية نساءه، والثالث والرابع أبناءه؟ وفي النهاية كيف لنا أن نحدِّد هوية أهل بيت النبوة؟ هل نحدِّدهم استنادًا إلى عمل رسول الله ص وفعله أم طبقًا لأهوائنا وأفكارنا؟
قال تعالى: ﴿... فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ ٦١﴾ [آل عمران: 61]
8- في آيات القرآن الكريم اعتُبر الابن - بصراحة - من «الأهل» - كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي﴾ [هود: 45] - في حين أنكم اعتبرتم أن ابنة رسول الله ص داخلة في «أَهْلِ الْبَيْتِ» على نحو محتمل فقط (!).
9- جاء في قواميس اللغة التي كتبها أهل السنة أنفسهم تفسير عبارة «أَهْلِ البَيْتِ» بأنها تعني: (نساء النبي وبناته وصهره علي ÷). (لسان العرب، ج1، ص 128)، وتم الاستناد في هذا الصدد إلى آية التطهير.
10- انطلاقًا من وضوح هذه المسألة، أقول: إن تحليلكم لتلك الآيات والأمور التي ذكرتموها في محاضرتكم مرفوضة تمامًا، وبعيدة عن معنى الآية، وأقصى ما يمكنكم ادعاؤه هو أن ما تذكرونه هو أحد المعاني المحتلمة لعبارة «أَهْلِ البَيْتِ»، وعندئذٍ، وبما أن هناك احتمالات أخرى لمعنى العبارة، فإن الآية إذن تُعتَبَر مجملة ومبهمة، ولابد من الرجوع إلى السنة والحديث لفهم معناها، وأنتم أنفسكم تعلمون جيدًا أنه عند الرجوع إلى محكمات الحديث والسنة النبوية فإن الأمر الوحيد الذي نحصل عليه هو أن أهل البيت هم: رسول الله ص وابنته الزهراء والأئمة الأطهار -عليهم السلام- ، لا غير.
انتهت الرسالة
بعد التحية والسلام، قرأت رسالتك بكل إمعان ودقَّة، وسرَّني ابتداؤك رسالتَك بآية: ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيًۡٔا...﴾ [يونس: 36]. لكن علينا - بالطبع - أن نحاذر - عند ذكرنا لمثل هذه الوصايا - أن لا ينطبق علينا قوله تعالى: ﴿أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ﴾ [البقرة: 44].
أما قولكم: «نحن أيضًا قرأنا القرآن»، فيستحق أن نبارك لكم ذلك، ويسُرُّنا قولكم هذا، غير أنه لابد من التنبُّه إلى رعاية حق التلاوة عند قراءة القرآن، كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ...﴾ [البقرة: 121].
لابد أن نشير هنا إلى نقطة أساسية في تحليلنا لرسالة هذا الأخ الكريم في الله، وهو أننا إضافةً إلى دراسة ما ذكره في رسالته من مطالب حول آية التطهير، سوف نتعرض أيضًا إلى ما ذكره الآخرون حول تلك الآيات، وسنبتدئ بذكر الآيات من 30 إلى 34 من سورة الأحزاب ونمر عليها مرورًا إجماليًّا.
ابتدأت الآيات موضع البحث بتوجيه الخطاب بعبارة ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ﴾ وقالت:
﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٣٠ ۞وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا ٣١﴾ [الأحزاب: 30 - 31].
بعد ذلك، ولأجل بيان السبب في كون محاسبتهن تختلف عن محاسبة الآخرين (يضاعف لهن العذاب) خاطب الله تعالى مرة أخرى نساء النبي ص مبتدئًا بعبارة: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ﴾ وقال: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّ﴾.
وبعد هذه المقدمة قال تعالى: ﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٣٢ وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ﴾.
وبهذا، أصبح من اللازم بيان السبب في توجيه هذه الأوامر مرَّةً ثانيةً إلى نساء النبي ص - مع أن هذه الأمور مطلوبة من جميع الناس - لذا وجَّه الله تعالى مرَّةً ثانيةً خطابه إلى نساء النبيص ليبين لماذا يُتَوقَّع منهن أن يعملن بهذه الأوامر ويجتبْن تلك النواهي، فقال مباشرةً[2]، مواصلاً الآية ذاتها - وليس في آية لاحقة منفصلة -:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣﴾ [الأحزاب: 33]
[2]- أجمع المسلمون قاطبة في جميع مصاحفهم دون أدنى خلاف بأن ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ...﴾ جزء من الآية 33 وإكمال للجزء الأول منها، ولم يعتبره أحد أبدًا آية مستقلة أو جزءًا منفصلا عن صدر الآية!لننتبه إلى أن كلمة «أهلَ» منصوبة، لأنها «مُنادَى». أي أن معنى العبارة: «يا أهلَ البيت». في الواقع معنى الآية: يا أهل هذا البيت إنما يريد الله أن يزيل عنكم الرجس وأن يطهركم تطهيراً كاملاً كما ينبغي.
ثم يقول تعالى في الآية التالية:
﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا٣﴾ [الأحزاب: 34]
نلاحظ أنه جاءت في صدر الآية 33 كلمة «بيوت»، وجاءت في الوسط كلمة «بيت»، ثم جاءت في الآية 34 كلمة «بيوت» مرَّةً ثانيةً. ينبغي أن نعلم أنه كان للنبي الأكرم ص في المدينة بيت واسع نسبيًّا ملاصق للمسجد، له عدد من الحجرات[3] وكانت كل واحدة من نساء النبيص تقيم في واحدة من تلك الحجرات.
ولا أظنه خافيًا على أحد أنه لم يكن للنبي ص في المدينة عدة بيوت منفصلة عن بعضها الآخر، بل كان له بيت واحد فقط في جوار المسجد، بداخله غرف متعددة وكل زوجة من زوجات النبيص تعيش في جزء من ذلك المنزل الكبير[4]. فسبب ذكر القرآن في صدر الآية لكلمة «بيوت»، وفي وسطها لكلمة «البيت»، ثم ذكره، مباشرةً في الآية التالية، لكلمة «بيوت» مرَّةً ثانيةً، هو باعتبار محل عيشة النبي ص بشكل كلي، وباعتبار أن صاحب البيت كله هو النبيص (البيت = هذا المنزل)، وكل ذلك منتسبٌ إلى النبي ص، وفي الموارد الأخرى قال «بيوت» باعتبار أن جميع النساء كُنَّ في ذلك البيت.
بناء على ذلك، مرَّةً تُعْتَبَر النساء اللواتي في منزل النبي ص -بسبب انتسابهن إلى حضرتهص كونهن زوجاته- من أعضاء أسرته و أهل بيته (أهل البيت = أهل هذا المنزل)؛ يعني على سبيل المثال: حجرة «أم سلمة» هي بيت النبي ص، وحجرة «جويرية» بيت النبيص، وهكذا... ومرَّةً أخرى باعتبار أن كل واحدة من نساء النبي ص تشكل مع حضرته أسرةً، سميت منازلهن «بيوتًا»، ولا يوجد أي تباين واختلاف بين هذين التعبيرين.
بناء على ذلك، من الناحية الكلية، كان يُطلق على محل معيشة النبي ص وزوجاته اسم «البيت» (أي بيت النبي ص)، كما جاء ذلك في قوله تعالى في القرآن: ﴿كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ﴾ [الأنفال: 5].
وفي الوقت ذاته، يمكن أن نُطلق على بيت النبي ص، باعتبار كل حجرة من الحجرات التي فيه، والتي تضم أسرة منتسبة إليه، كلمة «بيوت»، كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ...﴾ [الأحزاب: 53]
لهذا السبب قال تعالى في الآية 34 من سورة الأحزاب، لنساء النبي ص: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ...﴾. وبالطبع كان سبب تلاوة آيات الله في «بيوتهن» أنهن كُن نسوة النبي ص و«بيوتهن» هي في الواقع «بيت النبي»، وكانت كل واحدة من زوجاته تقيم في حجرة من حجرات ذلك البيت. ولم يكن الأمر أن لكل زوجة من زوجات النبي ص بيتًا في مكان آخر منفصلاً عن بيت سائر زوجاته ص، أي لم يكن للنبي ص عدَّة بيوت متفرقة متباعدة كل واحد في مكان، وأساسًا، كل من له علم بسيرة النبي ص، يعلم أن رسولالله ص لم يكن له بيت خال من زوجة من زوجاته، أي لم يكن له بيت لا تسكن فيه زوجاته!
[3]- راجع سورة الحجرات. [4]- يجدر بنا أن نذكِّر هنا بأنه إن كان القرآن الكريم قد قال في الآية 34 من سورة الأحزاب «بيوتكن» يعني غرفكن يا نساء النبي ص، فإنه قال في الآية 53 من السورة ذاتها «بيوت النبي»، ومن التأمل في الآيات المذكورة يتبيَّن أن بيوت نساء النبي ليست سوى بيت النبي ص ذاته. بناء عليه فإن الذي ادَّعى أن «الله تعالى لم يُرِدْ أن ينسب البيوت التي كانت نساء النبي ص يسكنَّ فيها، إلى النبي ص نفسه» قد خالف القرآن الكريم في قوله هذا. (يُنْظَر: أهل البيت في آية التطهير، جعفر مرتضى العاملي، ترجمة محمد سبهري، انتشارات دفتر تبليغات اسلامي، ص 78).علينا الآن أن نعلم ما هي طبيعة الإرادة التي ذُكرت في آية التطهير بعبارة: «إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ»؟ هل هي إرادة تكوينية أم إرادة تشريعية؟[5]
لو نظرنا إلى الموضوع دون تأثر بأحكام مُسبقة لما كان هناك أي صعوبة في إدراك أن المقصود من الإرادة المذكورة في الآية ليست الإرادة التكوينية. أي أن الله لم يُرِدْ تكوينًا - كما أراد في الآية 82 من سورة يس- أن يطهر «أهل البيت» بمعنى الإرادة القاهرة التي لا يمكن أن تتخلف والتي تستوجب العصمة. والدليل على ذلك أن هذه الإرادة ذُكِرَتْ بعد ذكر عدد من المناهي مثل:
﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ﴾ [الأحزاب: 32]
﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ﴾ [الأحزاب: 33]
وبعد ذكر عدد من الأوامر والوصايا مثل:
﴿وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٣٢ وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ﴾ [الأحزاب: 32-33].
فبعد تلك النواهي والأوامر، ذكر تعالى أنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَكُمْ، أي أن تَحَقُّقَ التطهير الذي يريده الله منكُنَّ إنما يتم من خلال عملكُنَّ بأوامره تلك واجتنابكُنَّ لنواهيه التي ذكرها لَكُنَّ. (تأمَّلوا).
[5]- تكون إرادةُ الله إرادةً تشريعيةً في بعض الموارد، عندما يكون لإرادة المكلف واختياره دَخْلٌ أيضًا في تحققها، أي أنها لا تتحقق إلا عندما يريد المكلف أن ينفذ ما يريده الله ويعمل به. وعلى العكس من ذلك، الإرادة التكوينية لله عزَّ وَجَلَّ التي تتحقق بمجرد إرادة الله، إذْ هي غير مشروطة على الإطلاق بل هي علة تامة لتحقق المُراد، ولا يُتصور أي مانع أو تأخير لتحققها.ينبغي أن نعلم أنه إذا ابتدأ الكلام بالمسائل الطبيعية والتكوينية، ثم ذُكرت «الإرادة»، فمن البديهي أن المقصود منها هو «الإرادة التكوينية»، أما إذا بدأ الكلام بذكر ما يجب فعله وما لا يجب فعله وببيان الأمر والنهي الشرعيَيّن ثم ذُكرت «الإرادة»، فمن الواضح تمامًا أن المقصود منها هو «الإرادة التشريعية». وبعبارة أخرى، إن عُطِفَت «الإرادة» على أمور تكوينية فالمقصود هو «الإرادة التكوينية» التي لا تتخلَّف وهي علَّة تامَّة لتحقُّق المُراد[6]. أما إن عُطِفَت «الإرادة» على الأحكام والأوامر والنواهي الشرعية الإلـهية، فما من ريب أن المُراد منها هو «الإرادة التشريعية». وكمثال على ذلك، الإرادة التي ذُكرت في الآية السادسة من سورة المائدة المباركة، أي قوله تعالى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ...﴾ [المائدة: 6]
لاحظوا أنه بعد ذكر الأحكام التشريعية من قبيل الوضوء والتيمم، يقول عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ﴾. ولاحظوا أن صدر الآية المباركة ابتدأ بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾، فهل يمكننا القول إنه طبقًا للإرادة الإلـهية هنا يُعتَبَرُ جميع المؤمنين معصومون؟!
[6]- الآيات في هذا الموضوع كثيرة، مثل (البقرة/117) و(آل عمران/47) و(يس/82) و(غافر/68) و....قارنوا الآن، على ضوء ما سبق، تلك الآية في سورة «المائدة» بالآية 33 من سورة «الأحزاب»، ما النتيجة التي نحصل عليها؟ قال تعالى في سورة «المائدة» [ما معناه]: أيها المؤمنون! إذا قمتم لأداء الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم حتى المرافق..... وإن لم تجدوا الماء فتيمَّموا...الخ. يعني أن الله تعالى يريد من خلال عملكم بهذه الوصايا والتزامكم بهذه الأعمال أن يطهركم ويتم نعمته عليكم. وفي سورة «الأحزاب» قال تعالى أيضاً: [ما معناه] قَرْن في بيوتكن، وأقمْن الصلاة وآتين الزكاة وأطعْن اللهََ ورسولَه، ولا يريد اللهُ من عملكم بهذه الوصايا يا أهل البيت إلا أن يطهركم من الرجس والآثام تطهيراً يليق بكم.
هذه الآية مشابهة للآية السادسة من سورة «المائدة»، ففي كلتا الآيتين نزل الكلام في مقام تعليل الحكمة من تشريع القوانين، وفي كلتا الآيتين جاء الكلام حول العلة الغائية من تشريع الأحكام، ولا حديث في الآيتين عن مقامات الأفراد وخصوصياتهم التكوينية! والأمر كذلك في سورة «المائدة» فجملة ﴿وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ﴾ ليست دليلاً على الطهارة التكوينية وعصمة المؤمنين، وعلى النحو ذاته فإن إرادة التطهير وإذهاب الرجس التي ذُكِرَت في سورة «الأحزاب» هي في الواقع «إرادة تشريعية»، ولا يمكن أن تكون دليلاً على عصمة أحد وطهارته التكوينية، تماماً كما أن الآية السادسة من سورة المائدة مبيّنة لكون الهدف من تشريع الوضوء والغسل والتيمم هو «طهارة المؤمنين»، كذلك فإن غاية الأوامر المذكورة في الآية 33 من سورة «الأحزاب» هي «طهارة أهل البيت». ذلك أنه كما نعلم من الناحية المبدئية منشأ الأوامر والنواهي الإلهية في الآيات التشريعية والقانونية للقرآن (يعني الأحكام) هو «الإرادة التشريعية» لله رب العالمين.
أضف إلى ذلك، أنه في سورة الأحزاب (الآيات 28 فما بعد) جاء الكلام عن التكاليف الشرعية، من قبيل لزوم القرار في البيوت وعدم التبرج وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله و.... ومن الواضح تمامًا أن هذه الأمور تتعلق بالإرادة التشريعية لله تعالى لا بإرادته التكوينية. بعبارة أخرى، فإن إرادة الله لإذهاب الرجس وتطهير أهل البيت التي ذُكِرَت في سورة «الأحزاب» بعبارة: ﴿يُطَهِّرَكُمۡ﴾ مماثلة للإرادة التي ذُكِرَت في سورة المائدة خطاباً لجميع المؤمنين - بما في ذلك النبي الأكرم ص وعلي وفاطمة و... - وعُبِّرَ عنها بعبارة ﴿يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ﴾.
ومثل ذلك قول الله تعالى للنبي ص: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
فهل معنى هذه الآية الأخيرة أن كل من أدى زكاة ماله للنبي ص أصبح طاهرًا ومعصومًا؟! من البديهي أن المقصود أن الهدف من تشريع الزكاة هو تطهير الناس من قذارة الحرص على مال الدنيا والطمع والجشع، وهذه الطهارة لا تحصل إلا من طريق العمل بقانون الزكاة[7].
1وألفت انتباهكم إلى هذه النقطة، وهي أن الأفعال التي جاءت في آخر الآية السادسة من سورة «المائدة» المباركة جاءت بصيغة المضارع، مثل «يريد» و «يتم»، وفي الآية 103 من سورة «التوبة» أيضًا جاءت الأفعال «تطهِّر» و«تزكي» بصيغة المضارع، وذلك لأن تحقق هذه الأفعال منوط باجتناب النواهي وأداء الأوامر التي ذُكِرَت قبل هذه الأفعال ومشروط بذلك، أي أن تحقق تلك الأفعال المضارعة هو نتيجة للأعمال والأفعال السابقة عليها. إذا أخذنا هذه النقطة بعين الاعتبار نلاحظ أن آية التطهير لم تقل: (أذهب اللهُ عنكم الرجس وطهَّركم...) لأنه كما أوضحنا، هذا «الإذهاب للرجس والتطهير» مشروط بالقيام بالأعمال والأفعال التي ذُكِرَت قبله ومنوط بها. وبعبارة أخرى، فإن الأعمال والأفعال المذكورة مقدمة وتمهيد لتحقق إذهاب الرجس والتطهر. وغني عن التوضيح أن هذا الموضوع لا يتناسب مع الإرادة التكوينية الإلهية التي لا تكون مشروطة ولا تحتاج إلى مقدمة وأمور ممهدة. (فتأمَّلُوا)[8].
[7]- نجد في القرآن الكريم آيات عديدة تتكلم عن «الإرادة التشريعية» لله تعالى، ومن جملتها (البقرة:185)، (النساء: 26-28) و.... . [8]- بالنظر إلى اعتباركم «أصحابَ الكساء» معصومين ومصونين من الخطأ حتى قبل نزول هذه الآية، وأن الآية المذكورة لا تشمل الأئمة التسعة، فإننا نوصيكم بالتمسُّك بدلائل أخرى لإثبات عصمة أولئك الأئمة الأجلاء، لأنه -كما رأينا وسوف نرى - فإن آية التطهير لا تحقق مقصودكم ولا تؤدي ما تريدون إثباته.نعود إلى سورة الأحزاب مرَّةً أخرى، ونلاحظ أنه بعد الآية 33، وُجِّهَ الخطاب من جديد إلى نساء النبي ص أنفسهنَّ، فقال تعالى في آية تشريعية:
﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]
تلاحظون أن الآيات 28 إلى 34 من سورة الأحزاب يرتبط بعضها بالآخر ارتباطًا تامًّا، ولا يوجد بينها أي انقطاع، ولكن الغفلة (أو التغافل) عن قاعدة لغوية في اللغة العربية أدى إلى طرح السؤال: لماذا استُخْدِمَ ضمير جمع المذكَّر المخاطَب في آخر الآية 33، في حين استُخْدِمَت ضمائر جمع المؤنث المخاطَب في صدر الآية ذاتها وفي الآيات من 28 إلى 34 من سورة الأحزاب؟
القاعدة التي نتحدث عنها هي قاعدة تغليب المذكر على المؤنث. واستنادًا إلى القاعدة المذكورة، فإن جمع الإناث الذي يضم في صفوفه ذَكَرًا واحدًا على الأقل يصبح وجوبًا في حكم جمع المذكر.
بعبارة أخرى، لو أن جماعة من النساء كان بينهن رجل واحد فقط وألقوا عليَّ السلام فينبغي أن أردّ تحيَّة تلك المجموعة باستخدام ضمير جمع المذكر. أي يجب أن أقول في الجواب: وعليكم السلام.
نزل القرآن الكريم بلغة العرب أي بلغة عربية فصيحة[9]. وقد راعى القرآن هذه القاعدة على الدوام. ومن ذلك أنه عندما تأتي الملائكة إلى منزل إبراهيم ÷، وتُبَشِّره بابن له، وتتعجَّب زوجة إبراهيم من ذلك وتضحك، تجيبها الملائكة قائلةً:
﴿قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾ [هود: 73]
كما نلاحظ، رغم أن مُخاطَب كلام الملائكة في بداية الآية هو امرأة واحدة (سارة زوجة إبراهيم)، ولكن نظرًا لكون حضرة إبراهيم ÷ من أهل البيت المُشار إليه ذاته، تم استخدام ضمير جمع المذكر في نهاية الآية، وقالت الملائكة: ﴿عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾، إذَنْ، فامرأة المنزل يمكن أن تكون أهل البيت.
ويُشاهَدُ هذا الموضوع عينه في سورة الأحزاب، أي أن الآية تبتدئ بمخاطبة نساء النبيص: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ﴾، وحتى أنه في صدر الآية 33 جاءت الضمائر جميعها بصيغة جمع المؤنث، ولكن عند الكلام عن «أَهْل البَيْتِ» (= أهل هذا البيت)، حيث كان النبي ص أيضًا من أهل هذا البيت بل هو صاحب هذا البيت، بل إن الآخرين إنما ذُكِروا بوصفهم أهل البيت باعتبار ارتباطهم وانتمائهم إلى حضرته ص، تم استخدام ضمير الجمع المذكر.
وقد ذُكر في كتب التفسير أيضًا أن خطابات القرآن مثل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ و﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ﴾ ونظائرها ليست مختصة بالرجال فقط ولا منحصرة بهم، بل تشمل النساء أيضًا ولكن الضمائر فيها جاءت مذكرة مراعاةً لقاعدة التغليب.
لكن أخانا في الله قال كلامًا عجيبًا جدًّا، فقد اعتبر في الفقرة الثالثة من رسالته أن الآية 73 من سورة هود تنطوي على إبهام وإشكال أكثر من الإبهام الذي في آية التطهير؟!! وقال: في هذه الآية أيضًا - يعني آية سورة هود - ثمَّة سؤالٌ يطرح نفسه وهو: من هم أهل البيت؟!
لذا ينبغي أن نمرّ هنا مرورًا إجماليًّا على الآية المذكورة من سورة هود:
طبقًا لما جاء في القرآن الكريم، جاءت الملائكة إلى إبراهيم÷ ليبُشره. في البداية لم يعرف إبراهيم÷ حقيقة الزوَّار وظن أنهم بشرٌ وقام بتقديم لحم عجل مشوي لهم، فلما رأى إبراهيم÷ أنَّ أيديهم لا تَصِل إلى العجل الذي أتاهم به ولا يأكلون منه، أحس في نفسه خيفةً منهم وظنَّ أنهم يريدون به سوءًا، فقالت الملائكة - لما رأت ما بإبراهيم من الخوف-: لا تَخَفْ إنا ملائكة ربك، وقد أُرسلنا إلى قوم لوط لإنزال العذاب بهم [وإهلاكهم]:
﴿إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ ٧٠[10]﴾ [هود: 70]
ثم قال القرآن:
﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ ٧١ قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ ٧٢ قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾ [هود: 71 - 73]
لو تأمَّلْنا هذه الآيات دون التأثُّر بأحكام مسبقة، لرأينا أن الملائكة أجابت امرأةَ إبراهيم على ما أبدته من تعجُّب، ولهذا السبب تمَّ استخدام الفعل بصيغة المفرد المؤنَّث المُخاطَب (أَتَعۡجَبِينَ). فإن قيل: طالما أن امرأة إبراهيم هي المقصودة بالخطاب فلماذا أطلق عليها في وسط الكلام لقب أهل البيت؟ هنا نلفت انتباهكم إلى نقطة مهمة وهي أنه في بداية الكلام، كان الكلام موجَّهًا لامرأة واحدة معيَّنة، ولكن لما كانت تلك المرأة متعلقة بإبراهيم ÷ ومنتمية له، وكان إبراهيم أيضًا يعيش في ذلك البيت وهو عضوٌ من الأسرة التي تعيش فيه، لذا لما اتَّجه الخطاب إلى كليهما استُخْدِمَ ضميرُ جمع المذكَّر. في الحقيقة تقول الآية: لماذا تتعجَّبين؟ ألا تعلمين أنك عضو في بيت يتمتع برحمة الله تعالى وبركاته؟ ولما كانت تلك الرحمة الإلـهية والبركات تتعلق أيضًا بإبراهيم ÷ وبزوجته كذلك، - بل هي تتعلق بإبراهيم ÷ بالدرجة الأولى، ثم بالدرجة التالية تتعلق ببقية أعضاء الأسرة - لذا كان لابد أن يأتي الضمير مُذَكَّرًا، ولما كانت الرحمة والبركات عناية إلـهية بإبراهيم ÷ أيضًا لذا جاءت العبارة بصيغة: ﴿عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾، مع أن القرآن كان بإمكانه أن يقول: «أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيْكِ»، أي كان بامكانه أن لا يستخدم عبارة «عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ»، وبإمكانه أيضًا أن يستخدم ضمير المفرد المؤنَّث المخاطَب، ولكنه لم يفعل ذلك، لماذا لم يفعل ذلك؟ السبب هو -كما ذكرنا آنفًا- وجود العناية الإلـهية بإبراهيم ÷، وارتباط تلك المرأة بإبراهيم÷، وَمِنْ ثَمَّ فرحمة الله وبركاته نازلة بالدرجة الأولى على إبراهيم ÷، ونازلة تبعًا لذلك على أقربائه[11].
ومسألتنا في سورة الأحزاب هي على هذا النحو تمامًا، فالهدف هو «التطهير والأسوة والقدوة للآخرين»؛ وهذا التطهير وهذه الأسوة مطلوبة بالدرجة الأولى من النبي ص ومطلوبة بالمرتبة التالية ممن يرتبطون به ولديهم مجالسة وتعلق به أكثر من الآخرين. بناء على ذلك، لما كان النبيُّ الأكرم ص مقصودًا أيضًا للوصول إلى ذلك الهدف المطلوب، وكان الآخرون (نساؤه) مشمولين بهذه الإرادة والمطالبة باعتبار مرتبة الارتباط بالنبي ص والتعلق به، فجاء الضمير مذكَّرًا. (انتبهوا وتأمَّلوا).
[9]- كما قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ﴾ [إبراهيم: 4] وقال كذلك: ﴿وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ ١٠٣﴾ [النحل: 103] [10]- علمًا أن لوط ÷ كان ابن أخ أو ابن أخت إبراهيم ÷، كما كان من أتباع إبراهيم وأنصاره، وكان ممثلاً لإبراهيم و مبلِّغًا لرسالته بين قومه. [11]- حول الآية 73 من سورة هود، من المفيد الرجوع إلى تفسير «الكشاف» للزمخشري، الذي قال: «وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فقالوا: ﴿أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ﴾ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي النساء الناشئآت في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: ﴿رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ﴾ أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصّكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب». انتهى.نعود مرَّةً ثانيةً إلى الآية 73 من سورة هود، ونسأل كاتب الرسالة المحترم: أنتَ تقول إنك غير متأكد من أن المُخَاطَب في الآية هو زوجة إبراهيم ÷، كما أنك لا تعتبر النبي ص ذاته فردًا من مصاديق «أهل البيت»، وإذا أضفنا إلى ذلك أنه عند تلك البشارة لم يكن في بيت إبراهيم÷ أي ابن بعد[12]، فقل لنا بربِّك: إِذَن إلى من وُجِّه ذلك الخطاب القائل: ﴿رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾؟!!
إن قلت: ربما كان هناك أفرادًا آخرون في منزل إبراهيم ÷ إضافةً إليه وإلى زوجته، وكان الخطاب موجَّهًا إلى أولئك الأشخاص!!
قلنا: حتى لو قبلنا بهذا الفرض الذي ليس هناك أي دليل عليه، فلا ريب أنه انطلاقًا من أسلوب الكلام الحكيم (أو الكلام المنطقي، على حدِّ قولكَ) عندما تبدأ الملائكة كلامها بإجابة زوجة النبي، فإنه من غير المعقول ولا المقبول أن تنصرف في وسط كلامها هذا وقبل إتمامه، عن مخاطبة تلك المرأة، وتقول كلامًا لا يتعلق بتلك المرأة، وليست المرأة أحد من مصاديقه على الإطلاق، أي لا يمكن أن تقول الملائكة: أيتها المرأة، أتتعجبين من أمر الله مع أن رحمت الله وبركاته تشمل أشخاصًا غيرك!! بالله عليكم، أي إجابة هذه تجيب بها الملائكةُ كلامَ المرأة؟! ولماذا تبتدئ أساسًا بمخاطبة المرأة في بداية هذه الإجابة؟! [التي لا علاقة للمرأة بها!!] إن كانت رحمة الله وبركاته لا تشمل المرأة، فإن كلام الملائكة لن يكون إجابةً للمرأة أصلاً!! وأساسًا: كيف يمكن للملائكة عندما تعجبت المرأة وضحكت أن تقوم [أي الملائكة] بالرد على الآخرين؟!
إن لم نعتبر زوجة إبراهيم ÷ من «أهل البيت»، لأصبح كلام الله تعالى - والعياذ بالله - مشوَّشًا مضطربًا، لأن زوجة إبراهيم تعجبت من إنجابها لولد رغم كبر سنها وبلوغها مرحلة اليأس، فما معنى أن تقول الملائكة لها: أيتها المرأة! هل تتعجبين من أمر الله؟ مع أن رحمة الله وبركاته عليكم (يا زيد وعمرو وبكر)؟!!
وفي سورة الأحزاب كذلك، ليس من المعقول ولا من المقبول أن ينصرف القرآن في وسط مخاطبته لنساء النبي ص، فجأةً وبدون سابقة، ودون ذكر للمخاطبين الجدد، ودون أن ينهي كلامه السابق، أن ينصرف بشكل كامل وتام عن خطاب النساء المذكورات - اللواتي كنَّ المُخاطبات في الجمل السابقة وهنَّ المُخاطبات في الجمل اللاحقة - ويوجه الكلام لأفراد آخرين تمامًا، ويقول لهم كلامًا لا علاقة له بنساء النبي ص ولا ارتباط لهنَّ به، ويخرج تلك النساء من شمولهن بهذا الخطاب المعترض!![13]
إننا نسأل كاتب الرسالة المحترم: ألستَ أنتَ من أهل بيت نفسك؟ أوليست زوجتك من أهل بيتك؟ هل أبناؤك وأحفادك وصهرك فقط هم أهل بيتك؟!!! حقًّا إننا نتساءل هل تأملت كلامك هذا جيدًا وتدبرته بشكل كافٍ؟!
[12]- لأن الملائكة إنما جاءت لتبشِّر إبراهيم بالولادة القريبة لابنه إسحاق. [13]- ولا ننسَ أن هذا القول يقدِّم مستمسكًا للذين يدَّعون أن نظم القرآن وترتيب آياته قد اختل - والعياذ بالله - مخالفين بذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحجر: 9]، إذْ يعتبرون أن جملة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ.....﴾ قد تم نقلها من مكانها الصحيح إلى هذا المكان الذي ليس مكانها، لأن مثل هذه الطريقة من الكلام ليست من أساليب الكلام الحكيم. راجع هامش صفحة 77 من الكتاب الحاضر.الآن نود أن نلفت انتباهكم إلى التشابه الكبير بين الآية 73 من سورة هود والآية 33 من سورة الأحزاب، أعني آية التطهير. فالمُخاطَب في كلتا الآيتين مؤنَّثٌ؛ ففي سورة هود المُخاطَب مفرد مؤنَّث، وفي سورة الأحزاب المُخاطَب جمع مؤنَّث. في كلتا الآيتين المُخاطَب في صدر الآية زوجة نبيّ. في كلتا الآيتين استُخدمت كلمة «أهلَ البيت» المنصوبة بمعنى «يا أهل هذا البيت». في صدر الآية 33 من سورة الأحزاب جاءت الأفعال بصيغة جمع المؤنث المُخاطَب، وفي ذيل الآية ذاتها جاءت الضمائر بصيغة الجمع المُذَكَّر المُخاطَب، بناءً عليه، السبب ذاته الذي أدى إلى مجيء الضمير في الآية من سورة هود بصيغة الجمع المُذَكَّر هو الذي أدى إلى مجيء الضمير بهذه الصيغة – أي الجمع المُذَكَّر - في آية التطهير أيضًا[14].
من وجهة نظرنا، تم العمل بقاعدة التغليب في كلتا الآيتين، ومن المناسب - قبل أن ننتقل إلى تحليل الأجزاء الأخرى من آية التطهير- أن نُذَكِّر بأن علماء النحو واللغو ذكروا هنا أمورًا أخرى أيضًا، ومن جملتهم الزمخشري الذي صرَّح في تفسيره لنهاية الآية 73 من سورة هود أنه يجوز مخاطبة المفرد – حتى المفرد المؤنث – بضمير الجمع المُذَكَّر بهدف تكريم المخاطب واحترامه وإجلاله، واستند في ذلك إلى البيت التالي. فَلَوْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ تَقَاخاً وَلاَ بَرْدَا كما استند إلى بيت الشعر ذاته في تفسيره للآية 249 من سورة البقرة، كما استشهد في تفسيره للآية 32 من سورة النور بالبيت الآتي الذي خاطب فيه الشاعر العربي محبوبته قائلاً: فَإنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإنْ تَتَأَيَّمِي وَإنْ كُنْتُ أَفتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ وقد صرح الزمخشري أن مرجع الضمير في كلا البيتين هو «المفرد المؤنث»، ومع ذلك تم استخدام ضمير «الجمع المُذَكَّر» بهدف الإجلال والتعظيم والتكريم.
وكما قال علماء النحو أيضًا: «ربما خوطبت المرأة الواحدة بخطاب الجمع المُذَكَّر، يقول الرجل عن أهله، «فعلوا كذا» مبالغةً في سترها حتى لا ينطق بالضمير الموضوع لها، ومنه قوله تعالى حكاية موسى ÷: ﴿قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ﴾ [لأي بدلًا من قوله لها: امكثي][15].
[14]- كتب أخونا في الله يقول: «على فرض أنه تم التصريح في آية إبراهيم بالمقصود من «أَهْلِ البَيْتِ»، فما الدليل على أن هذا هو أيضًا المقصود من هذه العبارة في آية التطهير؟» ونقول في الإجابة عن سؤاله هذا: نأمل ألا ترُد القانون المنطقي الذي يقول: «حكم الأمثال واحدٌ»! أضف إلى ذلك أنه لابد أنك تعلم أن «القرآن يفسر بضعه بعضًا» أو كما قال حضرة علي ÷: «يشهد بعضه على بعض» (نهج البلاغة/ الخطبة 133). [15]- حتى بضعة عقود سابقة كان الناس في إيران يعبرون عن الزوجات بعبارات غير مباشرة بهدف رعاية حرمتهن والستر عليهن كان يقول أحدهم عن زوجته: «أم الأولاد» ونظائرها. وفي اللغة العربية تم تحقيق هذا الهدف من خلال تغيير الضمير.بناء على ما تقدم قام القرآن الكريم، بعد الخطابات السابقة (في الآية 32 وفي صدر الآية 33) بعملين:
الأول: بيَّن الهدف والعلة الغائية من صدور الأحكام السابقة على وجه الحصر.
الثاني: ذكَّر بمقام نساء النبي ص الخطير والشريف الناشئ من كونهم زوجات أسوة البشر خاتم الأنبياء ص اللواتي يجالسنه ويعاشرنه عن كثب، وذلك من خلال تغيير الضمير، كي لا يدَّعي أحد بحجة الخطابات السابقة فيقول: «كان هناك احتمال واضح بينهنَّ للوقوع في فاحشة مُبَيِّنة أو التبرُّج كتَبَرُّجِ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى أو ترقيق الصوت والخضوع فيه، أو كانت بين بعضهنّ (والعياذ بالله) سوابق من الوقوع في مثل هذه الأمور»!!![16]
وبعبارة أخرى عند بيانه للهدف من الخطابات السابقة، استخدم القرآن الكريم، في آية التطهير، ضمير الجمع المُذَكَّر بهدف رفع كل شبهة عن المخاطبين، والثناء على نساء رسولاللهص وإكرامهن ورعاية حرمتهن، حيث كنَّ يتمتَّعن بشرف الزواج من خاتم النبيينص مع ما ينطوي عليه هذا المقام من أهمية وخطورة.
لقد بينا وجهة نظرنا بكل صراحة ولا نقصد الدفاع عن هذا القول كما لسنا مصرِّين على قبوله. ولكن بما أننا نريد ألا ندع سائر الأقوال دون التعرض لها، سنقوم فيما يأتي باستعراض نظريات سائر العلماء بشكل مجمل.
[16]- ما بين القوسين منقول حرفيًّا من كلام أخينا كاتب الرسالة في البند "ج" من رسالته. وراجع أيضًا البند الثاني، في الصفحة 78 من الكتاب الحاضر.دعونا نبحث الآن عن معنى كلمة «أهل» ومدلولها. وأفضل ما يمكن فعله في هذا الصدد الرجوع إلى كتب اللغة.
نقرأ في قاموس «المنجد» و«المعجم الوسيط» و «أقرب الموارد»: أَهَلَ وَتَأَهَّل = تزوَّج، شكَّل أسرةً لنفسه. آهل = صاحب العيال والزوجة. الأهل: الأقارب والعشيرة والزوجة. أهل الدار = سكنة الدار. أهل البلد والبيت = سكنة البلد وسكنة البيت.
وقال في «المصباح المنير»: «(أَهَلَ) الرَّجُلُ (يَأْهَلُ): إذا تزوَّج و(تَأَهَّلَ) كذلك. ويطلق (الأَهْلُ) على الزوجة و(الأَهْلُ) أهل البيت والأصل فيه القرابة».
وجاء في «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس: «أهل الرجل: زَوْجُه. والتأهُّل: التّزَوُّج. وأهْل الرّجُل أخصُّ النّاسِ به. وأهل البيت: سُكّانه».
ونقرأ في كتاب «معجم ألفاظ القرآن الكريم» تأليف «مجمع اللغة العربية» في مصر: «أهل يحدد معناه بما يُضاف إليه. أهل الرجل = زوجه وأسرته وأقرباؤه. أهل الدار= سكنة الدار».
وانطلاقًا من إبداء كاتب الرسالة المحترم وعدد من العلماء اهتمامًا خاصًّا بكتاب «لسان العرب»، عند بحثهم حول آية التطهير، سنورد فما يلي ما ذكره كتاب «لسان العرب» في هذا الأمر على نحو أكثر تفصيلاً.
يقول «ابن منظور»: «أَهْلُ الرجل عَشِيرتُه وذَوُو قُرْبَاه». ويقول كذلك: «وفي حديث أُم سلمة: ليس بكِ على أَهْلكِ هَوَانٌ، أَراد بالأَهْل نَفْسَه عليه السلام...».
لاحظوا أنه عندما يكون النبي ص أهل زوجته، فإن زوجته ستكون بالطبع أهله أيضًا.
ويواصل ابن منظور كلامه قائلاً: «وأَهْلُ الأَمر = وُلاتُه. وأَهْلُ البيت= سُكَّانه. وأَهل الرجل= أَخَصُّ الناس به. وأَهْلُ بيت النبي ص= أَزواجُه وبَناته وصِهْرُه، أَعني عليًّا ÷، وقيل: نساء النبي ص، والرجال الذين هم آله. وفي التنزيل العزيز: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ..﴾».
ويقول ابن منظور أيضًا: «وأَهْل الرجل وأَهلته = زَوْجُهُ[17]. وأَهَلَ الرجلُ يَأْهِلُ ويَأْهُل أَهْلاً، وتَأَهَّل = تَزَوَّجَ».
ويمكننا أن نجد ما يشبه هذا الكلام أيضًا في «القاموس المحيط»[18].
لاحظوا أن «ابن منظور» شأنه في ذلك شأن سائر علماء اللغة يعتبر ساكني البيت: «أهل البيت» ويعتبر نساء النبي ص أيضًا من مصاديق أهل بيت النبيّ[19].
على ضوء ما رأيناه في كتب اللغة واستنادًا إلى أن كلمة «تأهَّل» تعني في اللغة العربية: تزوَّج؛ يتبيَّن بوضوح تام أن أقوى مصداق من مصاديق كلمة «أهل الرجل» وأوضحها هو زوجة الرجل. بناء على ذلك، لا عجب مطلقًا أن تُخاطب الآيات التي استخدمت كلمة «أزواج النبيّ» و«نساء النبي»، فجأةً عبارة «أهل البيت»، وأن يتبدَّل التصريح من «نساء النبيص» إلى «أهل البيت». لأن زوجة الرجل بلا أي شبهة هي أهل بيته أيضًا[20].
والأهم من كل ذلك، كلام القرآن الكريم الذي اعتبر زوجة «عمران» (= والد موسى÷) «أهل البيت» وقال: إن أخت موسى ÷ قالت لآل فرعون: ﴿هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰٓ أَهۡلِ بَيۡتٖ يَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ﴾ [القصص: 12]
ومقصودها من (أهل البيت) أم موسى÷ التي كانت تُعْتَبَر من «أهل بيت» عمران، والتي استلمت ابنها على أنها مرضعة ومربية له[21]. لاحظوا كيف أن امرأة البيت وزوجة الرجل تُعَدُّ من أهل بيته وأنها جُعِلَت مصداقًا لفعل الجمع المذكر «يَكْفُلُونَهُ».
[17]- واستُخْدِمَت كلمة «أهل» أيضًا بمعنى الزوج في كلمات الإمام علي القصار (رقم 420). [18]- وكتب السيد «أحمد سياح» أيضًا في كتابه «فرهنگ بزرگ جامع نوين» (معجم جامع نوين الكبير) «أهل البيت» = أهل المنزل وساكنوه. «أهل النبي» = أولاد النبي وصهره حضرة أمير المؤمنين ÷، أو نساء النبيّص. [19]- نذكِّر بالطبع أنه في الآية 73 من سورة هود لم تأت كلمة «أزواج» و «نساء النبي»، وفي حين كان المخاطب مفرداً مؤنثاً، تم استخدام التعبير «عليكم أهل البيت». [20]- كتب أخونا في الفقرة التاسعة من رسالته مشيرًا إلى كتاب «لسان العرب» يقول: «حتى في قواميس اللغة التي كتبها أهل السنة أنفسهم، تم تفسير عبارة «أَهْلِ البَيْتِ» بأنها تعني: (نساء النبي وبناته وصهره علي÷). (لسان العرب، ج1، ص 128)، وتم الاستناد في هذا الصدد إلى آية التطهير». ونحن أيضًا نقول: لحسن الحظ لم يأت في كتب اللغة الخاصة بالشيعة أي كلام سوى هذا الكلام ذاته أيضًا. وبالمناسبة إن كنتم تقبلون بما تقوله كتب اللغة فهذا من دعاوي مسرَّتنا، لأنه لن يكون هناك عندئذ أي خلاف بيننا. وذلك لأن كتب اللغة، كما رأينا، تعتبر نساء النبي ص أيضًا من مصاديق «أهل البيت»، وهو ما نقول به. ولكن طبقًا لما أوردتموه في رسالتكم فإنكم لا تقبلون بهذا القول، ولولا ذلك فنحن لا نختلف معكم بشأن شمول أهل البيت للآخرين. أضف إلى ذلك أن مؤلفا «القاموس المحيط»، و «لسان العرب» اعتبرا الصهرَ من مصاديق «أهل البيت». ونحن لا اعتراض لنا على هذا القول ولكننا لا ندري هل يقبل كاتب الرسالة هذا الرأي أم لا؟ لأنه في هذه الحالة عليه أن يعتبر «أبا العاص» و«عثمان بن عفَّان»، من «أهل البيت» أيضًا! [21]- كما قال القرآن الكريم أيضًا: ﴿فَرَدَدۡنَٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ...﴾ [القصص: 13].يمكننا أن ندرك من آيات القرآن الكريم[22] التي استثنت زوجة لوط ÷ من «أهله»، أن «الزوجة» من المصاديق البارزة «للأهل»، ولولا ذلك لما كان هناك من حاجة لاستثنائها.
وفي الآية 25 من سورة يوسف أيضًا، استُخْدِمَت كلمة «أهل» بمعنى الزوجة.
واعتبر القرآن الكريم زوجة موسى ÷ من «أهله» كما قال تعالى:
﴿قَالَ لِأَهۡلِهِ[23] ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ...﴾ [القصص: 29]
وقد وقعت تلك الحادثة عندما أنهى موسى ÷ مدة الخدمة المتفق عليها مع والد زوجته شعيب ÷ وانطلق من مَدْيَن مسافرًا إلى مصر؛ كما قال القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦٓ[24]...﴾ [القصص: 29].
إضافةً إلى ذلك، قال علماء اللغة: عندما تُضاف كلمة «أهل» إلى مكان، فإنها تعني الساكنين في ذلك المكان، فمثلا عبارة «أهل مكة» تعني سكان مكة، و«أهل المدرسة» معناها: ساكني المدرسة، وهكذا... بناءً على ذلك، فإن زوجات النبي ص اللواتي كُنَّ ساكنات بشكل دائم في بيت رسول الله ص، هُنَّ من المصاديق القطعية لـ«أهل البيت».
بناء على ذلك، يمكننا القول إن علماء اللغة - كما رأينا - لم يُخْرِجُوا «الزوجةَ» من مفهوم «الأهل» و«أهل البيت»، لذلك إن أثبتنا حُكْمًا ما لمصاديق «أهل بيت» شخصٍ، لا يمكننا أن ننفي هذا الحكم عن «زوجة» هذا الشخص [أو زوجاته].
والنقطة الأخرى هي أنه إن لم يَعْتَبر شخصٌ ما «الزوجة» من مصاديق «الأهل»، فلابد له أن يعتقد، طبقًا للآية الكريمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].
أن المسلم غير مسؤول عن زوجته أو زوجاته، وأنه مسؤول فقط عن أبنائه وصهره وأحفاده!!![25]
وليت شعري، هل قوله تعالى: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ﴾ [طه: 132]، يفيد أنه لم يكن من اللازم على النبي ص أن يدعو زوجاته إلى إقام الصلاة بل يكفي أن يخرج من منزله ويدعو ابنته «الزهراء» وزوجها وابنيها فقط إلى الصلاة؟! بالطبع لا.
وينبغي أن ننتبه إلى أن كلمة «أهل» من ناحية المعنى: «اسم جمع»[26] وأنها تشمل الرجل والمرأة، وأنها من الناحية اللفظية تُعْتَبَر من «المُذَكَّر المجازي»[27]، ومن هذا المنطلق فإن ضمير الجمع المُذَكَّر يتناسب معها. فهذا يفسر استعمال ضمير المُذَكَّر مع كلمة «الأهل»، ولكن من ناحية مصاديق كلمة الأهل، فإنه لما كان النبي ص وزوجاته، كلهم من مصاديق «أهل البيت» (أي كانوا جماعة من النساء بينهم ذكر واحد) فلابد من استخدام ضمير الجمع المُذَكَّر في حق أهل هذا البيت، ولا مفرَّ من ذلك.
[22]- (الأعراف/83)، (هود/80)، (الشعراء/170 - 171)، (النمل/57)، (العنكبوت/32). [23]- يقول الطوسي في «التبيان» (عند تفسير آية 29 من سورة القصص): «أن موسی لما قضی الأجل، تسلم زوجته وسار بها». وقال الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» و العلامة الطباطبائي في «الميزان» ورشيد الدين الميبدي في «كشف الأسرار وعدة الأبرار» في تفسير آية /7 من سورة النمل: «أي امرأته وهي بنت شعيب». و «المراد بالأهل ههنا امرأته؛ بنت شعيب». أي أن الأهل يراد به زوجة موسى والتي كانت ابنة لشعيب-عليهم السلام- . و قد ترجم الميبدي الآية المذكورة: «قال موسي لزوجته». وكذلك ذكر أبو الفتوح الرازي في تفسير الآية بأن «أهل» كناية عن زوجة موسى، وجاء ضمير «كم» المستعمل لجمع المذكر مراعاة للفظ «أهل». وقد أجمع مؤلفوا: تفسير نمونه، تفسير الجلالين، وعبدالله شبر، والنسفي وفخر الرازي، وأبو السعود، وسيد قطب في تفسير الآية المذكورة، والبيضاوي و القرطبي في تفسير آية /29 من سورة القصص بأن «أهل» يُراد به زوجة موسى÷. [24]- لاحظ بأن الزوجة أهم عضو في الأسرة، ولا تتكون الأسرة من دونها. [25]- نقترح على الأخ كاتب الرسالة مراجعة تفاسير القرآن مثل «مجمع البيان» أو «تفسير نمونه= تفسير الأمثل» أو .... ويقرأ أقوال المفسرين حول الآية المذكورة. [26]- اسم الجمع كلمة مفردة من ناحية اللفظ ولكنها تدل على الجمع من ناحية المعنى. [27]- هذا رغم أنه من الجائز اعتبار هذه الكلمة كلمة «مؤنَّثة»، لكن القرآن تعامل معها دائما على أنها كلمة «مُذَكَّرة». لذا يمكننا القول إن تذكيرها أقوى وأرجح من تأنيثها.قبل الانتقال إلى دراسة الأجزاء الأخرى من آية التطهير، من المفيد أن نوجه سؤالاً للذين يعتبرون حضرة الزهراء من «أهل البيت» ولكنهم لا يعتبرون نساء النبي ص مشمولات بهذا العنوان، نقول:
افرضوا أن آية التطهير نزلت والزهراء لا تزال طفلة صغيرة، وخديجة لا تزال على قيد الحياة، وانطلاقًا من قولكم بأن عنوان «أهل البيت» لا يشمل النبي ص نفسه، هل كنتم ستعتبرون أيضًا أن عنوان «أهل البيت» يشمل حضرة الزهراء لكنه لا يشمل حضرة خديجة؟! وكيف يمكن أن تكون الزهراء من أهل البيت ولا تكون والدتها من أهل البيت؟! هل ستقبلون أن تكون حضرة الزهراء ابنة امرأة ليست من أهل بيت النبي ص؟!
قال كاتب الرسالة المحترم، رفضًا منه للموضوعات الواضحة والبينة التي ذكرناها حتى الآن، وربما لم تكن خافية عليه، قال في البند 5 من رسالته ما نصه:
«في اللغة والعرف السائد بين البشر لا تشمل كلمة «أَهْلِ بَيْتِ» الشخص، الشخصَ ذاته، أي أن النبي ص لا يدخل ضمن عبارة أهل بيت النبي ص، ولو أردنا أن نفسر العبارة على هذا النحو فعلينا القول بأن «أهل البيت» مصطلحٌ خاصٌّ. لذا فالقول بأن حضرة إبراهيم ÷ داخل ضمن عبارة «أهل البيت» قول لا دليل عليه، وهو مصادرة على المطلوب. وقاعدة التغليب إنما تُطبَّق عندما يكون هناك رجل واحد على الأقل حاضرًا بين النساء، وانطلاقًا مما قررناه من أن النبي ص غير داخل في عبارة «أهل بيته» فإن الإشكال في تذكير الضمير يبقى غير محلول».
إن مغالطة كاتب الرسالة واضحةً جدًّا جدًّا، وذلك لما يأتي:
أولاً: كل الناس تعتبر الأفراد الساكنين في بيوتهم جزءًا من أهل هذا البيت الخاص بهم، وإلا للزم أن لا يكون أي رجل في الدنيا من أهل بيته؟!
ثانيًا: إن كان النبي ص غير مشمول بهذه الآية، فإن هذه الآية لن تكون مثبتةً لعصمتهص فهل ترضون بهذه النتيجة أو تقبلونها؟!
ثالثًا: لا يخفى على أحد الفرق بين عبارة: «أهل البيت»، وعبارة: «أهل بيت النبي ص»؛ فلو فرضنا أنه عندما يُقال: «أهل بيت النبي ص» لا يكون النبي نفسه مقصودًا، إلا أنه عندما يُقال «أهل البيت» (= أهل هذا المنزل) فإن النبي ص ذاته الذي هو صاحب البيت وساكنٌ في البيت، يُعدُّ من أهل هذا البيت بالتأكيد. وفي الآيتين موضع البحث جاء العبارة بصيغة «أهل البيت» ولم تأتِ بصورة «أهل بيت النبي»، لذا فقولنا ليس قولاً بلا دليل ولا مصادرة على المطلوب وكلتا الآيتين من موارد أعمال قاعدة التغليب.
وبالمناسبة فجميع المفسرين متفقون على أن فرعون ذاته داخل في معنى الآية ﴿وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ﴾ [البقرة: 50].
كذلك في آية ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ﴾ [آل عمران: 33] لا شك أن إبراهيم ÷ نفسه داخل فيها. بناء على ذلك فالنبي ص أيضًا داخل في عبارة «أهل بيت النبيص» وفي عبارة «أهل البيت» أيضًا.
المسألة الأخرى هي كلمة «إنما» التي تُعتبر من أدوات الحصر، ونعلم أن للحصر مدلولَيْن: مدلولًا إيجابيًّا ومدلولًا سلبيًّا، ومعنى الحصر لا يتم إلا بهذين المدلولين، مثلاً عندما نقول: «إنما يُدافع عن أحسابهم أنا ومثلي» فمدلول الحصر السلبي هو «ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا مثلي».
على ضوء ما ذُكِر، فإنه من الخطأ ما قاله بعضهم من أنه: «لو اعتبرنا الإرادة الإلـهية في آية التطهير إرادة تشريعية، فإن «الحصر» في الآية ينتفي! لأن الله تعالى لا يريد - تشريعيًّا- تطهير أهل البيت فقط من الرجس، بل يريد تطهير جميع المؤمنين في جميع الأزمنة من الرجس»!
فهذا الكلام لا يعدو عن كونه مغالطة، لأن «الحصر» في الآية ليس للأفراد بل الحصر للموضوع الذي هو التطهير، فالمدلول الإيجابي لهذا الحصر هو: «في هذا الأمر والنهي نريد فقط إذهاب الرجس والتطهير» ومدلول الحصر السلبي هو: «في هذا الأمر والنهي لا نريد شيئًا سوى إذهاب الرجس والتطهير».
بعبارة أخرى، لم تقل الآية 33 من سورة الأحزاب: «أريد تطهير أهل البيت فقط لا غيرهم» بل قالت: «العلة الغائيّة والهدف من هذه الأوامر والنواهي هو فقط التطهير وإذهاب الرجس وليس شيئًا آخر».
بناءً على ذلك، فمثل هذا الحصر لا يمنع أبدًا ولا بأي وجه من الوجوه تعلق «الإرادة الإلهية التشريعية» بجميع المخاطبين بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [البقرة: 104][28]، وفيها إضافة إلى ذلك، تذكيرٌ «لأهل البيت»، بسبب موقعهم الخاص بين الناس، بتلك الأوامر والنواهي المطلوبة من جميع المسلمين، والمطلوبة من «أهل بيت النبيص» بشكل أكثر تأكيدًا.
نعم، إن عموم نهاية الآية 6 من سورة المائدة، والتي اعتُبر أن تعلق التطهير فيها يشمل جميع المؤمنين، يمنعنا من القول بأن إرادة التطهير الإلهية تعلقت بعدد محدود من الناس، لكن ذلك العموم لا يمنع أبدًا التأكيد على مطالبة بعض المؤمنين ذوي الموقع الخاص والحسَّاس بالأمور المذكورة في الآية ذاتها.
فعلى سبيل المثال، لو قال معلمٌ لتلاميذه: اُدرسوا ولا تهملوا الدراسة، وتعلَّموا ما يعلِّمه المعلِّم لكم بشكل جيد، ثم قال المعلم لتلميذين أو ثلاثة ممن هم محط أنظار بقية التلاميذ، ويتأثر سائر التلاميذ بسلوكهم: «كونوا منضبطين في سلوككم وتعلموا دروسكم بكل جِد واجتهاد، ولا تضيعوا أوقاتكم في أمور تافهة لا فائدة منها، واتبعوا وصايا المعلم اتباعًا دقيقًا»؛ فلا يوجد أي تفاوت بين هذين الطلبين، بل الاختلاف والفرق بين تلك المجموعتين من التلاميذ يكمن في الدرجة التي يُتَوقَّع فيها منهم العمل بإرادة المعلم وتطبيق وصاياه.
[28]- والتي تشمل أيضًا فيمن تشملهم النبي الأكرم ص، وحضرة علي وزوجته الزهراء وابنَيه الكريمين الحسن والحسين-عليهم السلام- .بناء على ما تقدَّم، لا يوجد أي دليل يحملنا على اعتبار الإرادة في آية التطهير إرادة تكوينية، بل الادعاء بأن الإرادة الإلهية في الآية 33 من سورة الأحزاب إرادة تكوينية يستلزم قولنا بأنه كان هناك رجس في أهل البيت - والعياذ بالله-، وأن الله تعالى أراد إذهابه وتطهير «أهل البيت» منه! أي أنه لابد، في البداية أن نقبل بوجود الرجس حتى نستطيع أن ندعي بأن إرادة الله التكوينيَّة تعلقت بإذهابه، وإلا فلا معنى لتعلق إرادة الله التكوينية بإذهاب رجس معدوم لا وجود له! أما إذا اعتبرنا الإرادة إرادةً تشريعية فلن يكون لدينا أية مشكلة، إذ ثبت في علم «أصول الفقه» أن الأمر والنهي في الخطابات التشريعية لا يعنيان أبدًا أن المخاطب لم يكن يعمل بما يؤمر به أو كان يرتكب ما يُنهَى عنه!
فمثلاً لو قيل: صَلُّوا وعليكم بالصدق في كلامكم ولا تسرقوا، فليس معنى ذلك أن كل المسلمين كانوا لا يصلون وكانوا يكذبون أو كانوا يسرقون، لذا نجد في القرآن الكريم مخاطبة الله تعالى لنبيّه ص بقوله:
﴿...وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٥ وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦﴾ [يونس: 105 - 106]
أو خطاب النبيص بأمر: «أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ».
ومن الواضح أن هذه الخطابات ليس معناها أن النبي ص كان من المشركين – والعياذ بالله- أو كان يدعو في عبادته من دون الله مالا ينفعه ولا يضره!! أو لم يكن يقيم الصلاة!! نعم، ويمكن قياس أمور أخرى على ذلك.
بعبارة أخرى، المقصود في سورة الأحزاب هو أن الله يريد من خلال عملكم يا أهل هذا البيت بهذه الأوامر واجتنابكم لهذه النواهي أن لا يصيبكم أي رجس معنوي، وأن تتطهروا. وهذا مثل قوله تعالى عن الصلاة التي هي من العبادات:
﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
لذلك فالنبي ص نفسه كان يقوم الليل ويصلي في النهار ويكثر من الصوم، ولاشك أن هذه الأعمال كان لها تأثير في طهارته النفسية وكانت تؤثر فيه تأثيرًا إيجابيًا، وإلا لو لم يكن الأمر كذلك ولو ادّعينا أن القيام بالأعمال العبادية والعمل بالأوامر الإلهية لم يكن له أي تأثير على النبي ص وكانت تلك الأعمال كلها بالنسبة إليه لغوًا، فعلينا أن نتذكر أن من مزايا الإيمان وخصائصه ولوازمه: الإعراض عن اللغو [المؤمنون: 3]، والنبي ص في صدر المؤمنين ولا يمكن أبدًا أن يقوم باللغو أو يعمل به.
يجب أن نعلم أننا لو اعتبرنا أن الإرادة في آية التطهير إرادة تكوينية فإننا سنواجه إشكالات ومعضلات عديدة نشير فيما يأتي إلى بعضها:
المشكلة الأولى: «الإرادة التكوينية» هنا تستلزم الجبر وهو ما لا يتفق مع عقائد الشيعة، فعندما نقول: إن الله أراد بإرادته التكوينية المطلقة غير المشروطة والتي لا يمكن للمراد بها إلا أن يتحقق ولا يمكنه أن يتخلف أبدًا، أراد أن يكون مخاطبوه بآية التطهير معصومين لا يقع منهم الخطأ ولا الإثم، ففي هذه الحالة ستنتفي كل الإمكانات الأخرى في مقابل هذه الإرادة التكوينية لله عَزَّ وَجَلَّ وتنعدم، وبالطبع لن يستطيع المخاطبون في الآية أن يذنبوا ولا أن يقعوا في الخطأ لأن ذلك يخالف الإرادة التكوينية لله عز وجل، لذلك فهؤلاء المعصومون بالإرادة التكوينية القاهرة لن يكون لديهم حرية الاختيار، بل سيكونون مجبورين على عدم ارتكاب الذنب، وهذا ليس فضيلة في حقهم، وهنا نسأل: هل كان علي والحسنان-عليهم السلام- مُكلَّفين أم لا؟ هل كان أولئك السادة الكرام مُختارين أم مُجبرين؟ بناءً على مذهب الشيعة، يُعتبر أولئك الأئمة مخيرين وأنهم اجتنبوا كل إثم وذنب باختيارهم الحرّ. ولكن لو اعتبرنا الإرادة في آية التطهير إرادة تكوينية فإن المخاطبين بالآية- أيًّا كانوا- سيكونون مجبرين على عدم ارتكاب الذنب ومقهورين على الطهارة، ونتيجة لذلك لن يكونوا مُكلَّفين ولن يكون لهم أي فضيلة في عدم الذنب.
إضافةً إلى ذلك، عندما يكون أولئك السادةُ أطهارًا منزهين من الإثم والخطأ بإرادة الله التكوينية القاهرة المجبرة، لا يمكنهم أن يكونوا أسوةً ولا قدوةً لنا، لأننا مختارون ومُكلَّفون، بعكس الإمام الحسن ÷ مثلاً الذي أصبح تكوينيًّا وخَلْقًا وبإرادة الله الغالبة الآمرة طاهرًا نقيًّا مبرءًا من كل ذنب وخطأ، ومن البديهي أن مثل هؤلاء لا يمكنهم أن يكونوا أئمة لنا ولا يمكنهم أن يمارسوا الإمامة، لأن الإمام والقائد الديني هو الشخص الذي علينا أن نتبعه ونقتدي بأعماله وبسلوكه، وهنا أعمال هذا الإمام وسلوكه تتم طبقًا للإرادة الإلهية القطعية التي لا تتخلّف، ونحن مختارون، فليس بيننا وبين أولئك المعصومين أي تشابه، ومن ثم لا يمكنهم أن يكونوا أسوةً وقدوةً ونبراسًا لنا!
فإن قيل: إن المخاطبين بآية التطهير أصبحوا، بناء على «الإرادة التكوينية» لله عَزَّ وَجَلَّ، على نحو يجعلهم يبتعدون عن الذنب ويجتنبون الخطأ بإرادتهم الحرة واختيارهم، أي أن الإرادة الإلهية تعلقت بجعلهم معصومين باختيارهم!!
نقول: علينا أن نلفت انتباهكم إلى النقاط التالية:أولاً: هذا الادعاء ليس له أي مصداق في موارد السهو والخطأ والنسيان التي تدل بعض آيات القرآن على وقوعها من النبي ص كقوله تعالى: ﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾[29] [الكهف: 24]، أو قوله: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 43]، وأمثال هذه الآيات، إذْ لا أحدَ يختار السهو والنسيان!!
ثانيًا: عندما يتعلق هذا الادعاء بالذنب لن يكون سوى تلاعب بالألفاظ! ولو دققنا بإنصاف في المسألة لرأينا أن نتيجة هذا الكلام سيشملها الإشكال الذي طرحناه، لأن «الإرادة التكوينية» إرادة قطعية لا تقبل التخلُّف ولا تأثير مطلقًا لاختيار الشخص في قطعية الإرادة الإلهية وحتميتها. وبعبارة أخرى، فإن اختيار المكلف لن يقع بين «الإرادة» و«المراد الإلهي»، ومن ثم فـ«الاختيار» يصبح كأن لم يكن (لا يوجد له مكانة ثابتة) فكأن صاحبه غير مختار، لاسيما طبقًا لقولكم بأن مثل هذه الإرادة الإلهية التكوينية تحققت بحق الحسنَين -عليهما السلام- في زمن الطفولة، وأنهما لم يبذلا أي مجاهدة للوصول إلى هذا المقام.
تلاحظون أنه حتى على الفرض المذكورة أعلاه، لن تكون هناك فضيلة للمطهَّرين لأنه –كما قلنا- لو أراد الله مثل هذه الإرادة في حق الآخرين، لنالوا هم أيضًا مثل هذا المقام والحالة والمرتبة، لأن هذه المرتبة من السموّ الروحي المستوجبة للعصمة – وعلى حد قولكم لم تُعطَ إلا للنبي ص والأئمة على وجه الحصر وعلى نحو غير اختياري – لم تُعطَ للآخرين، ومن ثم فإن هذا التفاوت يمنع أولئك المطهَّرين من أن يكونوا أسوةً وقدوةً للأفراد الذين لم يحظوا مثلهم بتلك الإرادة، ولا نالوا مثل ذلك الإمداد[30].
المشكلة الثانية: المسألة الثانية هي عدم الترابط بين ما قبل الآية وما بعدها، بل عدم ترابط صدر الآية وذيلها. وقد قال بعض علماء الشيعة -للأسف- إن موضع هذه الآية، أي جملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ....﴾ [الأحزاب: 33] لم يكن في الأساس هذا المكان الذي توجد فيه الآن، بل تم نقلها إليه من مكان آخر!![31] دون أن يبيِّنوا لنا بالطبع أين كان الموضع الأصلي لهذه الآية!
على كل حال، هنا لا شأن لنا بأصحاب هذا القول، ولكننا نقول لمن لا يؤمنون بمثل هذا الأمر، ويؤمنون بصحة النظم والترتيب الحالي للقرآن: إن الله تعالى صرح لنا بأن تعاليم الأنبياء إنما تأتي إلى الناس باللغة واللسان الذي يتكلمون به ويفهمونه، قال تعالى:
﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡ﴾ [إبراهيم: 4].
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نسأل: هل تكلم أي عربي بكلام لا علاقة لبدايته بنهايته؟! وأنت الذي تقول: إن الله يكلِّم عباده كلامًا منطقيًا (أو على حد قولك: كلامًا حكيمًا)، لماذا تتجاهل هذا الإشكال الواضح وهو أننا لو أردنا أن نعتبر الإرادة في آية التطهير «إرادة تكوينية» وأن نعتبر الخطاب فيها موجهًا إلى غير نساء النبي ص فإن الارتباط والتواصل بين بداية الآية ونهايتها من جهة، وبين الآيات التي قبلها والتي بعدها من الجهة الأخرى، سينقطع، وسيزول التناسب بين أجزاء الكلام. فمن جهة أنت تقول: إن الله يتكلَّم كلامًا منطقيًّا معقولاً، ولكن رغم أنك تعلم بأن التكلم بكلام غير مترابط الأجزاء ليس أسلوبًا معقولاً ولا منطقيًّا (وفي نظرنا ليس حكيمًا أيضًا) إلا أنك من الجهة الأخرى لا تأخذ بعين الاعتبار انسجام أجزاء الكلام وارتباط الآيات بعضها ببعض، فكيف يمكن للكلام أن يكون كلامًا غير مترابط الأجزاء، وفي الوقت ذاته يكون كلامًا منطقيًّا (أو حكيمًا)؟!
المشكلة الثالثة: وهي أن ننتبه إلى أن الله تعالى قال في سورة الأحزاب ذاتها، مخاطبًا نبيهص: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 59].
وقصدنا من الاستشهاد بهذه الآية أن نبيِّن أن القرآن الكريم جعل «بنات» النبي ص غير «أزواج» النبي ص، بناءً عليه، فعندما يقول تعالى في الآيات 30 و33 من سورة الأحزاب هذه: (يا نساء النبي) ولا يأتِ بلفظ (بنات)، يتبين من ذلك أن نساء رسول الله ص كن المخاطبات الأصليات الأوائل بهذه الآيات، لاسيما أنه في زمن نزول آية التطهير، كانت حضرة الزهراء-عليها السلام- زوجة حضرة علي ÷ ومقيمةً في بيته أي كانت من أهل بيت علي ÷.
[29]- إشارات أخرى في كلام الله المجيد تدل على حدوث النسيان من سائر الأنبياء، من ذلك سيدنا موسى÷. انظر: سورة الكهف:61 -73. [30]- سوف نتعرض لمسألة العصمة لاحقًا أيضًا. راجع صفحة 91 من هذا الكتاب. [31]- بالطبع لا يقول علماء الشيعة هذا القول لأكثرية الناس، لأن مؤداه أن القرآن تعرض للتحريف والتغيير وأن نظمه وترتيبه الحاليين يختلفان عن نظم وترتيب آياته الأصليين!! ونتيجة هذا القول أن الوثيقة الأصلية للدين ستكون مخدوشة ومن ثم فإن أصل الديانة الإسلامية وأساسها سيسقط عن الحجّيّة والاعتبار!! راجع صفحة 77 من هذا الكتاب.من المناسب أن نذكر هنا ما قاله كاتب الرسالة في البندين 4 و8 من رسالته.
قال: «عند نزول آية التطهير لم يكن حاضرًا في بيت رسول الله ص سوى ابنة واحدة له هي حضرة الزهراء - سلام الله عليها - وتشملها قطعًا عبارة «أَهْلِ البَيْتِ»، فالتشكيك في هذا الأمر غريبٌ جدًّا».
وقال: «في آيات القرآن الكريم اعتُبر الابن - بصراحة - من «الأهل» - كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي﴾ [هود: 45] - في حين أنكم اعتبرتم أن ابنة رسول الله ص داخلة في «أَهْلِ الْبَيْتِ» على نحو محتمل فقط!».
فنقول:
أولاً: ليت أخانا يذكر أن موضوع بحثنا ليس كون الزهراء – سلام الله عليها- من أهل بيت النبي ص أم لا، بل موضوع بحثنا هو إثبات أن زوجات النبي ص من أهل بيت النبيص أيضًا.
ثانيًا: نحن لم نقل ولا نقول الآن إن حضرة الزهراء ليست «أهلَ» النبي ص، وحتى لم نقل إن حضرة الزهراء ليست من «أهل بيت النبي ص»، ولكن حتى لو قلنا مثل هذا القول لا نكون قد قلنا قولاً عجيبًا أو مستغربًا أو قولًا لا دليل عليه، وهنا نلفت انتباهكم إلى نقطتين: الأولى: أنه بناء على قاعدة «أصالة الحقيقة» وانطلاقًا من كون كلمة «البيت» مضاف إليه، أُضيف إليها كلمة «أهل» التي هي منادى، فإننا نعتبر أداة التعريف فيها (أي ألف ولام كلمة «البيت») ألف ولام العهد، ولا نرى أي أمر يستوجب العدول عن هذا الأصل المذكور، لذا فإننا نأخذ كلمة «أهل البيت» على معناها اللغوي الذي هو: «أهل هذا المنزل»، لا على معنى اصطلاحي خاص. والنقطة الثانية أن الآيات موضع بحثنا بدأت بخطاب ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ﴾ وليس بخطاب «يا بنات النبي» ولا بخطاب «يا أولاد النبي» و..... الخ.
ثالثًا: سبق أن قلنا: إنه لمَّا نزلت سورة الأحزاب كانت حضرة الزهراء -عليها السلام- تعيش في بيت عليٍّ÷، لا في بيت النبي ص، لذا كانت من أهل بيت عليٍّ ÷.
رابعًا: انتبهوا جيدًا إلى الفرق والاختلاف بين كون الشخص من «أهل شخص»، وكونه من «أهل بيت شخص». فنوح÷ لم يقل إن ابني من أهل بيتي بل قال: ﴿إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي﴾ [هود: 45]،. لذا نكرر القول إننا لم نقل ولا نقول أبدًا إن الزهراء-عليها السلام- لم تكن من «أهل النبي»، ولكننا لو قلنا إن حضرة الزهراء - سلام الله عليها - بعد زواجها من حضرة علي ÷ أصبحت من أهل بيته، فهذا ليس بقول مستغرب ولا عجيب؛ وإلا فتفضلوا وقولوا لنا: من كان أهلُ بيتِ عليٍّ ÷؟
انتبهوا إلى أن «أهل» شخصٍ، هم أعم من «أهل بيت» ذلك الشخص. فمثلًا: ابنكم دائمًا من «أهلكم»، وكان قبل زواجه من «أهل بيتكم» أيضًا، لكنه بعد الزواج يصبح من أهل بيتٍ آخر، أي من أهل بيته هو، الذي هو عادة غير بيتكم. بناء على ذلك، رغم أن الزهراء-عليها السلام- كانت «أهلَ» النبي ص، ولكن في زمن نزول سورة الأحزاب، كان لها - هي نفسها - بيت مستقل عن بيت رسول الله ص هو بيت زوجها عليٍّ ÷، أي كانت «أهل بيت» عليٍّ÷. لكنكم لمجرد ادعائكم أن الزهراء-عليها السلام- كانت حين نزول آيات سورة الأحزاب في بيت النبيص اعتبرتموها من «أهل البيت»، فكيف لا تعتبرون نساء النبي ص، اللواتي كن حاضرات بشكل دائم في بيت النبي، من مصاديق «أهل البيت»؟!
خامسًا: أنتم تقطعون بأن حضرة الزهراء -عليها السلام- كانت من «أهل بيت رسولاللهص»، فهل تعتبرون أخوات حضرة الزهراء و أزواجهن من أهل بيت النبي ص أيضًا؟
والمشكلة الرابعة: لو لم نُدخل زوجات النبي ص في مدلول آية التطهير، واعتبرنا الإرادة المذكورة فيها «إرادة تكوينية»، واعتبرنا أن الآية تتكلم حصرًا عن حضرة الزهراء وزوجها وابنيها، - وهذا معنى بعيد عن المعنى اللغوي لكلمة أهل البيت - فإننا نسألكم: لماذا لم تبيِّن الآية هذا المعنى المُراد بصورة أكثر وضوحًا؟ ولماذا لم تخاطب تلك الشخصيات الجليلة بالاسم، أو تقول على الأقل: «يا أيها النبي ويا بنت النبي وصهره وسبطَيه، إنما يريد الله ليذهب عنكم..... الخ»؟ لاسيما أنه ليس لدينا في أي موضع آخر من القرآن الكريم أيَّ آية حول هذا الموضوع الخطير والهام إلى هذه الدرجة، ورغم ذلك لم يبين القرآن الكريم مقصده ومراده بشكل صريح وواضح!!
المشكلة الخامسة: لا ينبغي أن نفسر آية التطهير على نحو وكأن القرآن لا يتضمن سوى هذه الآية فحسب!! إن كنت تريد أن تستنبط وتستخرج من آية التطهير عصمة الأئمة، وأعرضت عن الاهتمام بسياق الآيات وارتباط بعضها بالآخر لتتمكن من إثبات تلك العقيدة، فعليك أن تلاحظ أن هناك آيات أخرى في القرآن أيضًا تنفي نظريتك، ومنها قوله تعالى: ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [محمد: 19]
وكذلك الآية 55 من سورة «غافر»، والآية الثانية من سورة «الفتح» التي نسبت «الذنب» بصراحة إلى النبي ص. لذا فإننا نسأل: كيف يمكن أن يكون النبي ص نفسه غير مبرأ من بعض الذنوب، في حين يكون الأئمة مبرئين من كل ذنب مطلقًا؟!
بالطبع، نحن لا نقول أبدًا إن «ذنب النبي ص» هو منكرات الأعمال والأخلاق- والعياذ بالله -، بل نقول: أيًّا كان ذلك الذنب، فإنه لم يكن على نحو لا يمكن أن ينطبق عليه أي مصداق من مصاديق كلمة «ذنب»، وإلا لما سمَّاه اللهُ ذَنْبًا. ولو كان قصد القرآن من كلمة الذنب شيئًا آخر لما عبر عن ذلك المعنى بهذه اللفظة بل لاختار كلمة أخرى للتعبير عن المعنى الذي يريده. وكما شاهدنا آنفًا، فإن القرآن كما نسب الذنبَ للمؤمنين والمؤمنات، استخدم الكلمة ذاتها والتعبير ذاته في حق النبي ص.
إذا وصل الكلام إلى هنا فعلينا أن نعرف: إن كان الله تعالى - كما يُفهم من آيات أخرى - قد أراد طهارة جميع المؤمنين، بما في ذلك أهل البيت، فلماذا أعاد طلب ذلك مرةً أخرى من نساء النبي ص بشكل خاص وعلى نحو منفصل ومستقل عن مطالبة الآخرين[32]، وخاطبهنَّ بتلك الخطابات؟ وهل كان لنساء النبي ص شأن خاص في هذا المجال؟
نعم، كما نعلم، لقد ذكَّر الله تعالى في صدر هذه المجموعة من الآيات وقبل الخطابات المذكورة، نساءَ النبي ص بأن كونهن زوجات رسول الله ص يحمِّلُهُنَّ مسؤوليةً خاصَّةً وكبيرةً، لذا إن كنتن يا معشر نساء النبي ص لا تُرِدْنَ أو لا تستطِعْنَ أن تتحملن هذه المسؤولية الكبيرة، وتُرِدْن أن تكون مسؤوليتكن عاديّةً كمسؤولية سائر الناس، فتعالين وانفصلن عن رسولاللهص (الأحزاب: 28)[33] ثم قال لأولئك اللاتي قبلن تحمّل تلك المسؤولية من النساء: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ [الأحزاب: 32][34]. أي كأن القرآن الكريم يقول لنساء النبي ص: كل الأعين تتطلع إليكن، لذلك فما هو مطلوب من سائر الناس، مطلوب منكن أكثر ومتوقع منكن الالتزام به بنحوٍ أكثر تأكيدًا وشدَّةً، فأنتن تسكن في بيت رسولاللهص الذي تتنزل فيه آيات الوحي والحكمة الإلـهية ويتلوها رسولاللهص. إنكنَّ في موقع ترتبط به سمعة الرسالة وحرمة النبي ص. بناء على ذلك، إن اتقيتن الله فإن تقواكن هذه سيكون لها تأثير إيجابيٌّ على رسالة النبي ص وعلى دعوته، لذا ستنالون أجرًا مضاعفًا على ذلك - مَرَّةً لأنكن قمتن بعمل صالح خيِّر كمسلمات مؤمنات، ومرَّةً أخرى بسبب التأثير الإيجابي الذي كان لعملكن الصالح هذا على دعوة النبي ص ورسالته-، أما إن وقعتُنَّ في الانحراف وارتكبتُنَّ الأعمال التي لا تليق بكن، فإنكن ستنقِصْن من تأثير جهود النبي ص وأتعابه في الدعوة، لذلك ستنلن عقابًا مضاعفًا من الله. إن الناس ينظرون إليكن، فإن رأوا أن أعمالكن ليست على النحو المطلوب، فسوف تضعف همتهم في اتّباع رسول الله ص وفي تقبُّل دعوته، لأنهم سيقولون في أنفسهم: كيف يمكن لمن كان أقرب الناس إليه، أي نساؤه اللواتي يعشن معه في بيت واحد ويجالسنه بشكل دائم، على هذا النحو السيِّء، ولم يستطع أن يربيهن ويزكيهن التربية والتزكية الصحيحة، كيف يمكنه أن يزكينا ويربِّينا؟ لذا يقول الله تعالى لهن: عليكن أن تتقيدن بأوامر الله وتعملن بها أكثر من الآخرين، وعليكن أن تجتنبن نواهي الله عَزَّ وَجَلَّ أكثر من الآخرين، وهذا ليس انطلاقًا من التشدد معكن والتعسير عليكن، بل بهدف تطهيركن والمحافظة على نفوسكن طاهرةً نقيَّةً من رجس الآثام والمعاصي.
[32]- ليس هذا الموضوع أمرًا فريدًا لا سابقة له في القرآن، بل يوجد ما يشبهه وذلك في الآية التي تقول: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ ٢١٤﴾ [الشعراء: 214]، فمع أن رسول الله ص مأمور بإنذار جميع الناس - بمن فيهم قومه وعشيرته - ولكن لما كانت عشيرة رسول الله ص - بسبب القرابة التي بين أفرادها وبينه ص، وكانت أنظار الناس تتجه إليها وكانت تحظى باحترام الناس، وكان لسلوك أفراد عشيرته وقرابته تأثير في دعوته، أمر الله تعالى نبيه أن ينذرهم مرَّةً بشكل خاص. [33]- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨﴾. [34]- راجع ما قلناه عن أهمية هذا الخطاب الخاص، في الصفحة 78 من هذا الكتاب.هذا الموضوع بحد ذاته يثبت أن المخاطبات بتلك الآيات لم يكنَّ معصومات ولا مطهَّرات تكوينيًّا، بل كانت طهارتهنّ مشروطة. كانت طهارة كل واحدة من المخاطبات منوطة بمقدار طاعتها لأوامر الله تعالى، فكل من كانت طاعتها وعبادتها أكثر نالت طهارة أكثر. ونحن لا ندَّعي أن جميع نساء النبي ص كُنَّ على درجة واحدة من طاعة الله، بل كان سهم كل واحدة منهن من الطهارة متناسبًا مع المجاهدة التي قمن بها طلبًا لرضا الله تعالى.
هنا من المناسب أن ننتبه إلى البند 7 من رسالة أخينا في الله، الذي قال على نحو الاستبعاد: «لو كان المقصود من «أهل البيت» نساء النبي ص، لكُنَّ، بموجب هذه الآية، صاحبات مقام عال أرفع من مقام سائر البشر أجمعين، لأن الله أذهب عنهنَّ كل رجس...».
في رأينا إن ابتعاد أخينا الكاتب كثيرًا عن الحقيقة يستند إلى حدٍّ كبير إلى مسائل من قبيل واقعة «الجمل» ونظائرها، والتي خرجت فيها أمُّ المؤمنين عائشة زوجُ رسول الله ص، على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ÷ ونهضت لمحاربته![35] وربما كان ذلك الأمر سببًا في طرح إشكاليّةٍ وسؤال مفاده: لو كانت نساء النبي ص هن المخاطَبات حقيقةً بجملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ....﴾ وهي جملة تجعلهن حائزات لأرفع مقام وأسمى مكانة، فكيف ينسجم هذا مع قيام إحدى نساء النبي - أي عائشة - بشن حرب على شخص لا يخفى على أحد علو درجته ومقامه الرفيع الشاهق في الإسلام؟!
في الإجابة عن هذا الإشكال نقول: لابد من الانتباه إلى حرف «إنْ» في قوله تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّ﴾ [الأحزاب: 32] وهذا الحرف من حروف الشرط، وبعد هذه الجملة جاء عدد من الأوامر والمناهي الإلـهية كأمثلة ونماذج للتقوى المطلوبة. إذن تلاحظون أن الله وَعَدَهُنَّ بهذا المقام الرفيع بشكل مشروط، يعني الجملة موضع البحث جملة شرطية ذات جزئين على النحو التالي، وقد ذُكرت فيها جملة جزاء الشرط قبل الجملة الشرطية، وفيما يأتي بيان الجزئين المذكورين:
1- ﴿إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّ﴾ (جملة الشرط)
2- ﴿لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ (جزاء الشرط)
علاوة على ذلك، وكما قلنا سابقًا [36]، جاءت أفعال آية التطهير بصيغة المضارع لا الماضي، بناء عليه، نؤكّد و نكرّر أنه لما كان المقام الرفيع المذكور قد تم بيانه بصورة مشروطة، فلا شك أن براءة كل واحدة من المخاطَبات من الرجس والطهارة منوطة بمقدار طاعتها لأوامر الله تعالى واجتنابها لنواهيه. وكل من أطاعتْ منهن اللهَ وعبدته أكثر نالتْ طهارةً أكثر، واقتربت من المقام الرفيع المذكور أكثر. وإلا فنحن لا ندَّعي أن المخاطَبات بتلك الآيات كلهن على درجة واحدة من طاعة الله، كما لا ندافع عن زوجات النبي صدفاعًا مطلقًا مبنيًّا على التعصب، بل نقول: إن سهم كل واحدة من نساء النبي من الطهارة يتناسب مع تقواها ومجاهداتها في سبيل رضا الله.
بناءً على ذلك، فإننا نُعَدِّل جملة أخينا في الله ونصحِّحها على النحو الآتي: طبقًا لآيات سورة الأحزاب، لو أن نساء رسول الله ص، أدركن موقعهن الحساس والخطير، واتقيْنَ اللهَ حق تقاته، لنلن مقامًا رفيعًا بين نساء العالم، ونلن ثوابًا مضاعفًا. أما لو لم يعملن بما يقتضيه موقعهن الخطير والحساس فإن عقابهن سيكون مضاعفًا كذلك.
بعبارة أخرى، نحن نقول: لقد تعلّقت إرادة الله التشريعية بأن يبتعد أهل بيت النبي ص -وهم النبي ص نفسه وزوجاته وبناته وأصهاره وأحفاده - عن الذنب، ويتطهَّروا منه، من خلال تمسكهم بالطاعات والعبادات، ولمَّا لم تكن هذه الإرادة الإلـهية جبريةً ولا تكوينيةً، فلا يلزم عنها نتيجة واحدة في حق مصاديق أهل بيت النبي ص فردًا فردًا، بل ربما نال بعض المخاطبين بالآية مراتب رفيعة وبقي بعضهم الآخر في مراتب أدنى.
[35]- كما هو معلوم أن خروج أم المؤمنين السيدة عائشة ل إلى البصرة لم يكن لمقاتلة عليٍّ سأو النكوث عن بيعته، وإنما للإصلاح بين المسلمين ومعاقبة المفسدين الذين قتلوا عثمانس. وقد ظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها وتقول: «والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة»، وكانت رضي الله عنها تبكي كلما تتذكر أحداث يوم الجمل. يقول ابن العربي/: «وأما خروجها - رضي الله عنها - إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها، ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستحياء منها، إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت ممتثلة لأمر الله - عز وجل - في قوله: ﴿لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ١١٤﴾ [النساء: ١١٤]، والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى حر أو عبد». وحسب حقائق التاريخ وشواهد الواقع أنه اتفق علي وطلحة والزبير وعائشةش على الصلح وتم التفرق على الرضا بذلك قبل موقعة الجمل، فخاف قتلة عثمانس من التمكن منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا ثم اتفقت آراؤهم على أن يندسوا في المعسكرين ويختلطوا، وأن يصيح الفريق الذي في معسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في معسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما أرادوا ودبروا، ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم دافعا لمكروه عن نفسه، ومانعا من إشاطة دمه. وهكذا وقعت موقعة الجمل بفعل قتلة عثمانس وخبث السبئية وما دبروه وكادوه للفريقين. يقول ابن حزم/: «فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه، ولا نقضا لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمانس ظلمًا». فخروج السيدة عائشة ل كان من أجل الإصلاح بين الناس، وليس في هذا تعارض مع الآية الكريمة: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، إذ إن معناها: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ولا يخفى على أحد أن الإصلاح في هذا الوقت كان من أهم الضرورات والحاجات، وبذا لا يصح الاستدلال بهذه الآية على هذه الواقعة، فهي لم تعمل خلاف هذه الآية الكريمة. بل هی كانت مجتهدة في ذلك ورأت أن الصواب هو الخروج للإصلاح بين المسلمين، وكما هو معلوم أن المجتهد إذا اجتهد وأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر. انظر تفصيل ذلك في كتاب: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون، (دار السلام، مصر، ط2، 1428هـ/2007م)، ص435 وما بعدها. وكتاب أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، للدكتور علي محمد الصلابي، (دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م)، ص487. [المصحح] [36]- راجع الصفحة 27 من هذا الكتاب.قد يُقال: من المؤكد أن خطابات مثل: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ و﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ﴾ و﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ﴾ ليست موجهة للنبي ص. فإذا ثبت أن النبي ص ليس مشمولاً بالخطاب لم يبق أي مبرر لاستخدام ضمير الجمع المذكر «كُم» في جملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ...﴾.
نقول في الإجابة: ينبغي أن ننتبه إلى أن تلك الخطابات الثلاثة المذكورة وإن دل الدليل العقلي على أنها غير موجهة للرجال، بما في ذلك النبي ص، إلا أن الهدف من صدور الآيات الموجهة للنساء فقط والآيات الموجهة للنساء والرجال (كالتوصية بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله) واحد مشترك، والعلة الغائية لهذه الأوامر هي علة واحدة مشتركة؛ وهي تطهير المخاطبين وإذهاب الرجس عنهم. لذا فإن النبي ص خارج عن بعض تلك الخطابات وليس خارجًا عنها كلها (لاحظوا ذلك بدقَّة)، إذْ كما قلنا سابقًا فإن للأعمال الصالحة أثرها الإيجابي في النبيّ نفسهص، ومفيدة لارتقاء طهارته وتمامها. لذا لم يكن هناك مفر من استخدام الضمير «كُم» لأن طهارة النبيص بوصفه الأسوة والمُقتدَى الأول للمسلمين، كان من أهداف وغايات صدور الأحكام الشرعية.
ولمزيد من التوضيح للفكرة نضرب مثالًا: افرضوا أن رجلاً وقف أمام بيت رئيس الجمهورية أو بيت أحد مراجع التقليد المشهورين ذوي الوجاهة في المجتمع وذوي الاحترام والإجلال الكثير لدى الناس، وخاطب نساءه قائلًا: يا نساء رئيس الجمهورية، أو يا نساء معالي المرجع العظيم! لا تخرجن من بيوتكن لغير ضرورة، ولا تبرجن، والتزمن بِـحِجَابكن، وأقمن الصلاة وصُمْنَ، وآتين الزكاة، وباختصار حافظن على تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ. ولا أريد، -يا أهل هذا البيت، بيت المرجعية وأنتم أعضاء فيه، وأنظار الناس كلها تتجه إليكم-، من كلامي هذا إلا أن تتطهروا تطهيرًا يليق بمقامكم فتصبحوا أنقياء طاهرين مطهَّرين.
في اعتقادنا، كل ذي عقل سليم، وأدنى عوام الناس، يدرك قصد هذا المتكلم بشكل جيد، ويفهم أن المتكلم لا يقصد من كلامه أن مرجع التقليد ذاته يجب أن يبقى في المنزل، أو أن يلتزم بالحجاب أمام غير المحارم!! بل يفهم أن المرجع لا يشمله هذا الجزء من كلام المتكلم، كما لا يرى أن المرجع ذاته لا يشمله كلام المتكلم الذي يتعلق بالرجال والنساء من وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة...!
2قال أخونا - ربما متأسِّيًا بالعلامة المجلسيّ[37]-: «خطابات القرآن لنساء النبي ص، خطابات حادَّة وتوبيخيَّة.... ولكن آية التطهير خطاب فيه اللطف واللين، وتثبت مقامًا رفيعًا لمخاطبيها. وتلك الشدة وهذا اللِّين لا ينسجمان مع البعض».
[37]- بعد أن احتمل العلامة المجلسي كون الموضع الأصلي للجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب مختلف عن موضعها الحالي، بل تصريحه باحتمال أن يكونوا [أي الصحابة] قد وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات، لبعض مصالحهم الدنيوية!! بل أكثر من ذلك، احتمل العلامة المجلسي إسقاط بعض الآيات التي كانت قبل هذه الآية وبعدها!! وقال بعد ذلك: «مخاطبة الزوجات مشوبة بالمعاتبة والتأنيب والتهديد، ومخاطبة أهل البيت -عليهم السلام- محلاة بأنواع التلطف والمبالغة في الإكرام، ولا يخفى بعد إمعان النظر المباينة التامة في السياق بينها وبين ما قبلها وما بعدها على ذوي الأفهام» (بحار الأنوار، ج 35، الباب الخامس: في نزول آية التطهير، ص 235)..يتضح مما ذكرناه حتى الآن مدى خطأ كلام أخينا، ونزيد الأمر تأكيدًا هنا، فنقول:
أولًا: هذه الآية المذكورة في سورة الأحزاب، كما ذكرنا سابقًا، هدفها - كما يصرح القرآن الكريم - بيان الغاية من صدور تلك الأوامر والنواهي الإلـهية، وليس هدفها مدح المُخاطَبين أو ذمّهم، أو بيان مقامات تكوينية لأفراد معينين!
3ثانيًا: ثبت في علم الأصول - كما قلنا - أنه عندما يكون الكلام في مقام «الأمر والنهي» فإنه لا يعني أبدًا أن المُخاطَبين لم يكونوا يعملون بما يُؤمرون به أو يرتكبون ما يُنْهَون عنه.
ثالثًا: تبين من كلامنا السابق أن الإرادة المذكورة في الآية إرادة تشريعية لا تكوينية.
رابعًا: تبين مما ذكرناه حتى الآن أن «الحصر» المذكور في الآية حصر موضوعي أي هو حصر للغاية والهدف من الأحكام، لا الحصر للأفراد.
خامسًا: أفعال آية التطهير ليست أفعالًا ماضيةً بل أفعال مضارعة، وكأن إذهاب الرجس والتطهير منوط ومشروط بالقيام بالأفعال التي ذُكرت قبلها، وهذا لا يتطابق مع الأوصاف التي تذكرونها لحضرة الزهراء و زوجها و ابنَيها -عليهم السلام- .
سادسًا: كما ذكرنا، لو كان المقصود من الآية هو ما تميلون إليه ويعجبكم، لكانت الآية غير معبرة بصورة واضحة عن هذا المعنى المقصود عندكم ولكانت غير فصيحة بالدرجة الكافية في بيان هذا المعنى ولا تخلو من إبهام. والأهم من ذلك أنها ستكون جملةً منفصلةً تمامًا عمَّا قبلها وعمَّا بعدها، وغير متناسبة مع سياقها، ومن المقطوع به أن الحكيم لا يتكلم بهذا الشكل.
4سابعًا: خلافًا لما تدَّعونه، ليست خطابات آيات سورة الأحزاب موضع البحث توبيخية. علمًا أن الآية السادسة من السورة ذاتها، اعتبرت نساء النبي «أمهات المؤمنين» أي أنه يجب احترامهن وإكرامهن كما تُحترم الأم وتُكَرَّم. إضافةً إلى ذلك، خوطبت نساء النبي ص مرتين بعنوان ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ﴾، وهذا الخطاب بحد ذاته شرف كبير لهن، يُبَيِّن موقعهن الخطير والمهم لكونهن من أعضاء بيت «خاتم النبيين ص». والأكثر أهميةً من ذلك، أن القرآن الكريم قال ما معناه أنكن لو اتقيتُنَّ اللهَ وأطعتُنَّ اللهَ ورسولَه، فأنتُنَّ أرفع منزلةً من جميع النساء - بلا استثناء[38]- ثم واصل القرآن كلامه بحرف العطف الفاء، وقال ما معناه: إِذَن إن أردتُنَّ نيل هذا المقام الرفيع، فعليكن العمل بتلك الأوامر والانتهاء عن تلك النواهي.
لاحظوا أيها القراء بكل إنصاف، هل يتضمن مثل هذا الخطاب أي توبيخ وتقريع؟! أم أن الهدف مما ذُكِر فيه ليس سوى تشجيع نساء النبي ص على التقوى والعمل الصالح وتحريضهن على ذلك وترغيبهن به؟ وليت شعري! لو قال قائل لآخر: «أقم الصلاة وصُم وآتِ الزكاة كي تصل إلى المقامات العالية»، هل يكون في كلامه هذا أي توبيخ وتقريع؟!
هل الله عزوجل عاتب نبيه ووبَّخه عندما قال له:
﴿وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٥﴾ [يونس: 105]
وقال:
﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]
وهل وبَّخ موسى ÷ عندما قال له:
﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ ١٤﴾ [طه: 14]؟!
إضافةً إلى ذلك، ذكر القرآن أن «آيَاتِ الوَحْيِ وَالْحِكْمَةِ تُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ». وهذا أيضًا امتياز وشرف أن يكون الإنسان ساكنًا في بيت تتنزَّل فِيه آيات الوحي ويتلوها رسول الله ص بنفسه.
[38]- لاحظوا أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.ادَّعى بعض العلماء أنه قد استُخْدم أسلوب «الالتفات» (أحد وجوه التحسينات البلاغية) في الآية 33 من سورة الأحزاب، كما استُخْدِمَ هذا الوجه البلاغي ذاته في سورة الفاتحة.
هنا ينبغي أن نعلم أن «الالتفات» كما هو ظاهر من اسمه، يتم فيه عادةً الالتفات من الغائب إلى المُخَاطَب، أو من المُخَاطَب إلى الغائب، ولكن مثل هذا الأمر لم يحصل أبدًا في آية التطهير؛ ففي الآيتين 32 و34 من سورة الأحزاب اللتين جاءتا قبل آية التطهير وبعدها، خاطب الله تعالى نساء النبي ص، وفي صدر آية التطهير ذاتها أيضًا خاطب اللهُ تعالى نساءَ النبي ص كذلك، فلم يحدث أي التفات، ولكن في نهاية الآية 33 بيّن اللهُ تعالى الهدفَ من الخطابات المذكورة والعلّة الغائية لها، وهنا أيضًا لم يحدث أي التفات من المخاطب إلى الغائب، كل ما في الأمر أنه تمت الاستفادة من ضمير الجمع المذكر المخاطب عند بيان الهدف من الخطابات السابقة واللاحقة، أي لم يتم استخدام أسلوب «الالتفات» البلاغي أصلاً، بل تم العمل بقاعدة «التغليب» التي أوضحناها بما يكفي فيما سبق فلا نكرر الكلام بشأنها هنا، لذا فلا وجه للتمسك بقضية «الالتفات» في آية التطهير.
وقال بعض العلماء إن ما جاء في نهاية الآية 33 من سورة الأحزاب يماثل جملة ﴿لَّوۡ تَعۡلَمُونَ﴾ في الآية 76 من سورة الواقعة، التي هي جملة معترضة، لذا فهي ليست مرتبطة بما قبلها!!
ونقول: إن على أصحاب هذا القول أن ينتبهوا إلى حقيقة أن من خصائص الجملة المعترضة أن تأتي في وسط الكلام لا في آخره، وثانيًا أن لا يؤدي حذفها إلى أي إخلالٍ في الارتباط والتواصل بين ما قبلها وما بعدها، كما هو الحال في جملة ﴿لَّوۡ تَعۡلَمُونَ﴾ المُشار إليها في الآية 76 من سورة الواقعة، إذْ لو حذفنا هذه الجملة لبقيت جملة ﴿وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ ... عَظِيمٌ ٧٦﴾ [الواقعة: 76] مترابطة المعنى لا نقص فيها، هذا في حين أن الجملة موضع النقاش في نهاية آية التطهير جاءت أولاً في آخر الآية لا في وسطها، وثانيًا جاءت لبيان الهدف والعلة الغائية من صدور الأوامر والنواهي للمخاطبين في الآية، ولذلك فحذفها يؤدي إلى نقص في الكلام. ونلاحظ مثل ذلك في نهاية الآية 6 من سورة المائدة، فإنها قد بينت علة صدور تلك الأوامر والأحكام التي جاءت في بداية الآية، لذلك فالتشبث بأن جملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣﴾ [الأحزاب: 33] في آخر الآية 33 من سورة الأحزاب جملة معترضة تشبت في غير محله ولا أساس له من الصحة.
لنأت الآن إلى الروايات والأحاديث التي أشار إليها أخونا في ختام رسالته، فنقول: لا شك أن البحث حول الروايات في هذه المسألة بحث مفصل وطويل لا يمكننا الخوض فيه في هذا المجال بشكل شامل ومستوفٍ، إلا أنه ينبغي أن نعلم – إجمالاً- أن الروايات المتعلقة بآية التطهير تنقسم إلى عدة مجموعات:
المجموعة الأولى: الروايات التي نطلق عليها «روايات أصحاب الكساء» وتدل على أنه بعد نزول آيات سورة الأحزاب، دعا النبيُّ الأكرم ص حضرةَ الزهراء وحضرةَ علي وحضرات الحسنين -عليهم السلام- إلى حجرة أم سلمة [رضي الله عنها] فَجَلَّلَهُمْ بكساء (عباءة) وقال: «اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي، ثم تلى آية التطهير»[39].
المجموعة الثانية من الروايات: أحاديث تقول إن آية التطهير نزلت في علي وزوجته وابنَيه-عليهم السلام- ، وهي روايات مشابهة في الواقع لروايات المجموعة الأولى.
ونقول: إن مثل هذه الروايات، حتى ولو تحقق فيها جميع شروط الصحة، لا تدل بأي وجه من الوجوه، على أن نساء النبيّ ص لم يكنَّ أهل بيته، وأنتم تعلمون جيدًا أن إثبات الشيء لا يعني نفي ما عداه.
وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الثالثة من الروايات والأخبار، لابد من التذكير بأن عددًا من العلماء يقولون حول المجموعة الأولى من الأحاديث[40]: لو فرضنا أنه لا توجد أي علّة في أسانيد هذه المجموعة من الأحاديث ولا في متنها، فإن مثل هذه الروايات ليس فقط لا تدل على خروج زوجات النبي ص من آية التطهير، بل هي على العكس تؤكِّد، على وجه القطع واليقين، أن نساء النبي ص هم أهل بيته وهم المَعْنُون بالدرجة الأولى بآية التطهير! والدليل على ذلك أن غرض النبي ص من استخدامه ألفاظ الآية المذكورة في دعائه وقوله ص: «اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي» هو أن يشمل اللهُ تعالى أولئك الأربعة الأجلاء أصحاب الكساء بعنوان «أهل البيت» ليشملهم الشرط الوارد في آيات سورة الأحزاب، [وإلا لو كانوا هم المُخَاطَبين بالآية لما كان هناك من حاجة لدعاء الله أن يجعلهم من أهل بيته وأن يشملهم بآية التطهير، لأنه سيكون عندئذٍ تحصيل حاصلٍ!]، ولذلك فعندما طلبت أم سلمة زوج النبيص أن تدخل هي أيضًا تحت الكساء قال لها النبي الأكرم ص: «إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، إِنَّكِ مِنْ أزْوَاجِ النبيِّ ص»، وفي حديث آخر، قال لها: «أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ، وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ».
في الواقع، طبقًا لهذا النمط من الأحاديث، فإن النبي ص قال لزوجته أم سلمة: «أنت لكِ مكانتك أو أنت على خير أي أنت في الأصل من أهل بيتي ومن ثم يشملك شرط تلك الآيات، فلا حاجة أن أدعو لك كي تشملك تلك الآيات، لكنني أدعو كي تشمل تلك الآيات أعزائي [ابنتي وصهري وحفيدَيَّ] – كي ينالوا- بتوفيق الله لهم- طهارة النفس.
نحن لا نُصِرُّ، بالطبع، على اعتبار هذا القول قولًا قطعيًّا ويقينيًّا، ولكن لما كانت مثل تلك الروايات – في الغالب- مثيرة للجدل والبحث والنقاش[41]، كما نشاهد ذلك حتى يومنا هذا، فإننا نسعى: أولاً: أن نتدبر آيات القرآن النورانية ذاتها، ونقارنها بالآيات المشابهة وننتبه إلى القرائن المحيطة بها وإلى سياق الآيات ومعاني الألفاظ و..... لنصل إلى المدلول الحقيقي للآيات أو نقترب منه، ثم بعد ذلك، وعلى ضوء ما بينه القرآن الكريم، نحاول فهم الأحاديث وتحليلها.
لنأتِ الآن إلى القسم الثالث من الروايات التي غالبًا ما يتم نقلها وذكرها عند تفسير الآية 132 من سورة «طه[42]»[43]. هذه المجموعة من الروايات تتناسب مع القول الذي نذهب إليه تناسبًا تامًّا ويمكننا القول: إن هذه الروايات تدعم ما نقوله بشأن آية التطهير وتؤكِّده، فهذه المجموعة من الروايات تقول: عندما خرج النبي ص من منزله لأداء صلاة الفجر واتجه إلى المسجد، ومرَّ أمام بیت علي ÷، توقف قليلاً وقال: «الصلاةَ الصلاةَ» ثم تلا آية التطهير.
[39]- انظر سنن التِّرْمِذِي رقم (3205 و3787)، ومسند أحمد، ج 4، ص 107؛ و ج 6، ص292 و298 و304. والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، رقم (3558 و 4006). (المُتَرْجِمُ) [40]- قصدنا تلك المجموعة من الروايات التي نقلها العلامة «مرتضى العسكري» في كتابه، عن أم سلمة. (انظر: كتاب «معالم المدرستين»، مؤسسة البعثة، طبع 1405هـ.ق، ج1، ص130). [41]- لا نقصد الروايات المتفق عليها ذات الأسانيد والمتون الصحيحة الخالية من أي علة قادحة، فمثل هذه الأحاديث المتفق على صحتها خارجة عن موضوع بحثنا. [42]. ونص الآية: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسَۡٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ﴾. والأحاديث التي يرويها بعض المفسرين والمحدثين ذيل تفسيرهم لهذه الآية مختلفة الألفاظ جدًّا وتقول: لمَّا نزلت هذه الآية كان رسول الله ص يجيء إلى باب علي تسعة أشهر كل صلاة غداة ويقول: «الصلاةَ رحمكم الله! إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا»، وفي رواية: «كان رسول الله ص بعد نزول هذه الآية عدّة أشهر يأتي إلى باب دار عليّ وفاطمة يسلّم عليهم ويقرأ الآية». (انظر تفسير جامع البيان لابن جرير الطبري، وتفسير الدر المنثور للسيوطي، ذيل تفسيرهم للآية المذكورة، وانظر: مسند أحمد، ج 3، ص 252. ومسند الطيالسي، ج 7، ص 274، ح 2509. وأسد الغابة، ج 5، ص 521). (المُتَرْجِمُ) [43]. أورد العلامة مرتضى العسكري عدة نماذج لهذه الروايات في كتابه (يُراجع كتاب «معالم المدرستين»، ج1، ص132).لو فرضنا أن هذه المجموعة من الروايات أيضًا تتمع بشروط الصحة جميعها، فإنها:
أولاً: لا تدل بأي وجه من الوجوه على أن نساء النبي ص لم يكنَّ أهل بيته.
ثانيًا: إن عمل النبي ص الذي قام بتلاوة آية التطهير بعد حثه عليًّا وأهله -عليهم السلام- على الصلاة، يدل على أن النبي ص كان يريد القول- في الواقع- انهضوا إلى الصلاة، لأن الله أراد من تشريعه للصلاة وأمركم بها أن يطهر نفوسكم، فصلوا كي تطهروا، بعبارة أخرى، كان النبيص يعتبر إقامة الصلاة من جملة العبادات والأوامر التشريعية.
ثالثًا: هذه الروايات تدل على أن علي ÷ وزوجته الكريمة حضرة الزهراء -عليها السلام- كان لهما بيت منفصل عن بيت رسول الله ص.
رابعًا: لا إشكال أبدًا في أن يعمِّم النبي ص معنى هذه الآية على أشخاص آخرين غير زوجاته، لأن الإرادة في تلك الآية – كما ذكرنا – إرادة تشريعية، والنبي ص أراد أن يذكر الغاية والهدف ذاته الذي بينته الآية للمُخاطَبين بها بالدرجة الأولى، لغيرهم من المكلفين أيضًا.
في الواقع، الاختلاف والتفاوت بين المخاطبين بالدرجة الأولى بتلك الآيات وسائر المُكلَّفين، هو أن العمل بمقتضى الآيات مُتوقَّع ومطلوب من المُخاطَبين بالدرجة الأولى بتلك الآيات على نحو أشد وأكثر تأكيدًا من توقع ذلك وطلبه وانتظاره من سائر الناس. وبعبارة أخرى، إن مسؤولية المخاطبين الأوائل بتلك الآيات أشد وأثقل، ولهذا السبب أيضًا ينتظرهم ثواب مضاعف إن عملوا بها وعقاب مضاعف إن تخلفوا عن العمل بها. وهذا لا يعني بأي وجه من الوجوه أن هدف الآيات منصرف ومستبعد عن سائر الناس، فلا مانع إذن من تعميم الآية على الآخرين.
وليت شعري! أي إشكالٍ فيما لو خاطب النبي ص بهذه الآيات عددًا من النساء أو الرجال وقال لهم: انهضوا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعملوا بأوامر الله، فالله يريد أن يطهركم بهذه الأعمال؟
وهل إذا فعل النبي ص ذلك يكون معناه أن نساء النبي ص لم يكن مخاطبات بآية التطهير؟
بناء على كل ما تقدم، وكما بينا، ليس في الأحاديث الواردة في هذا الباب أي دلالة على خروج نساء النبي ص من الخطاب بآية التطهير.
بما أننا وعدنا أثناء الكلام عن الموضوعات السابقة، بالحديث بشكل أكثر تفصيلاً عن مسألة «العصمة»[44] فها قد حان الوقت لبحث هذا الموضوع، ونبدأ البحث بنقل كلام أحد الكُتَّاب حول مسألة «العصمة» ثم نحلل كلامه.
قال الكاتب:
«لا شك أن العصمة تعني استحالة صدور الذنب والمعصية عن المعصوم، وهذه الاستحالة ناشئة من التربية الخاصة ونمو قوة الإرادة وتعاظمها، واشتداد السيطرة على النفس، إضافةً إلى تأييد الله تعالى لعبده ومدده له، إلى الحد الذي يجعل صدور الذنب ومعصية الله، مع وجود كل تلك القوى التكاملية، أمرًا محالاً. بناء على ذلك، ليس معنى «العصمة» زوال الإرادة والاختيار عن الإنسان، بل معنى «العصمة» تصاعد قوة الإرادة وتكاملها إلى الحد الذي يصبح فيه صدور الذنب عن المعصوم وعصيانه الله واتباعه هوى نفسه أمرًا مستحيلاً.
ولمزيد من التوضيح لمعنى «العصمة»، نضرب المثال الآتي:
إن كل واحد منا يتمتع بمقدارٍ ما من «العصمة»، إلا أن مجال «العصمة» يختلف من فردٍ لآخر بحسب درجة كماله المعنوي، أي أنه كلما زادت نسبة التربية وتهذيب النفس وقويت الإرادة أكثر وازدادت القدرة على مخالفة هوى النفس والسيطرة على الرغبات والنزعات والتحكم التام فيها، اتسعت دائرة «العصمة».
مثال حول مسألة العصمة:
مثلاً لا يمكن تصور إقدام الأم على قتل ابنها بيدها، مهما غضبت من ابنها وسخطت عليه. وهذا المقدار من العصمة موجود لدى معظم - إن لم يكن جميع - الأمهات، ونستثني من ذلك بعض الحالات النادرة جدًّا لقتل بعض الأمهات لأولادهن.
إن سبب ذلك النوع من عصمة الأمهات هو الإرادة التكوينية لله عَزَّ وَجَلَّ التي تجلَّت في قلب الأم وجعلت الأم رحيمةً بأبنائها وعطوفةً بهم، ولكن هذه الرحمة والشفقة والعاطفة التكوينية لا تؤدي إلى محو الإرادة والاختيار عن الأم، ولا تجعل تلك الرحمة والعطف التكوينيين يصدران عن الأم على نحو غير إرادي وغير اختياري. كذلك يستحيل أن يقدم أكثر الناس على القتل العمد لأجل اختلافات ونزاعات جزئية جدًّا.... في حين أن الأفراد المجرمين لا يتمتعون بمثل هذه العصمة الفطرية، ولكن عامة الناس وغالبيتهم الساحقة يستحيل أن يقدموا على قتل إنسان عمدًا لسبب تافه وجزئيٍّ بسيط.
وإذا صعدنا درجة أعلى في سلم التكامل البشري هذا رأينا أن هناك مجموعة كبيرة من الناس تعيش في مستوى أعلى وأرفع من التكامل والإحساس والسلوك الإنساني، ومثل هؤلاء الأفراد يستحيل أن يظلموا الآخرين، كأن يقطعوا رزق الناس ويسرقوا أموالهم، أو يحاربوهم أو يرموهم في السجن بسبب اختلافهم معهم في العقيدة والرأي أو يقتلوهم أو يعذبوهم، في حين أن هناك أفراداً آخرين لم يصلوا إلى هذا المستوى من التكامل الإنساني فهم يقتلون الآخرين بكل سهولة، ويعذبونهم ويهلكون الحرث والنسل (أموال الناس وأرواحهم) في المجتمع ويفسدون في الأرض[45].
بناءً على ذلك، هذه المرحلة من العصمة أعلى درجة من المرحلة السابقة، ودائرتها أوسع من دائرة المرحلة الأولى، ولا شك أن هذه المرحلة من عصمة الإنسان العالية، ناجمة عن تربيةٍ إنسانيةٍ قويةٍ، وهي حصيلة ليقظةٍ ووعيٍ للوجدان ونتيجة لسلامة النفس وتهذيبها.
وإذا صعدنا درجات أكثر في سلم التكامل الإنساني، رأينا أشخاصًا يستحيل أن يصدر منهم كلام قبيح ضد الآخرين، وهذا حصيلة لمراحل عالية من السلوك والتربية الرفيعة والرقيّ الروحيّ وتهذيب النفس والتكامل الأخلاقي للإنسان، وفي الوقت ذاته يبقى مثل هؤلاء الأفراد أصحاب إرادة واختيار حر (ولا يكونون مجبرين).
ونصعد أيضًا في سلم التكامل الإنساني فنرى مجموعة من الناس أعطاهم الله حظًّا عظيمًا من الدين وهيأ لهم أرضية تربوية عظيمة وأنعم عليهم بعنايته الخاصة وحمايته، لذا يستحيل أن يصدر من مثل هؤلاء الأفراد أدنى إضرار بالآخرين ولو على مستوى الكلمة والإشارة والنية السيئة أو الغيبة والتهمة، ومثل هؤلاء الأفراد وإن كان عددهم في المجتمع البشري قليل جدًّا إلا أنهم موجودون فعلاً، ولا تخلو المجتمعات البشرية من أفراد قلائل يستحيل أن يصدر عنهم أدنى أذى أو إضرار مادي أو معنوي بالناس، وكما قلنا، في المراحل الأدنى من هذا المستوى، يمتنع أكثرية الناس عن ارتكاب القتل والجرائم المختلفة لأسباب بسيطة وخلافات تافهة.
ولا شك أنه كلما صعد الإنسان في سلم التكامل، وصل إلى مراحل ودرجات روحية ومعنوية أعلى وأسمى، وبدأ يطوي مراحل «العصمة»؛ وكلما قطع مرحلةً ودرجةً من التكامل، استحال عليه أن يتجه إلى الرِّجْس والآثام والتعدِّي والظلم، وبالطبع فإن المدد الإلهي والعون الرباني سيشمله في هذا الطريق، وسينال الألطاف الإلهية ببركة مجاهداته وسيره وسلوكه، وسيتمتع بدرجات أكثر من تهذيب النفس والسيطرة عليها، ولكن من البديهي في الوقت ذاته أنه مهما ارتقى الإنسان في درجات الكمال الروحي والنفسي ومهما وصل إلى درجات العصمة فإن حرية الاختيار لا تُسلب منه، أي أنه يبقى قادرًا على الظلم والذنب لأن الغرائز السلبية موجودة قهرًا وتكوينًا في نفس الإنسان، وكبح هذه الغرائز السلبية والرذائل الأخلاقية في مراحل التكامل المختلفة يرتبط بإرادة الإنسان واختياره الحر، كما أن إرادة الإنسان وتكامله، والألطاف الإلهية والعنايات الربانية مُقَدَّمَة بالطبع على كل تلك الأمور.
لا شك أن عناية الله الخاصة بالإنسان وتأييده له بألطافه الخاصة، من أهم أسباب قوة إرادة الإنسان وسيطرته وتحكمه بشكل كامل في سلوكه، وبُعْده عن الضلال والفساد، كما أنه لا شك أن عناية الله تعالى بعبدٍ من عبيده – شأنها في ذلك شأن سائر السنن الإلهية- تتبع كمًّا وكيفًا قواعد دقيقة وقوانين لطيفة جدًّا، أي كلما جاهد الإنسان نفسه أكثر حظي بنصيب أوفر من عناية الله به وتأييده له وتوفيقه إياه، قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩﴾ [العنكبوت: 69]
إذن العصمة واستحالة صدور الذنب والمعصية من العبد لا تعنيان انمحاء الإرادة وزوال الاختيار الإنساني الحر بل معناها تنامي قوة الإرادة إلى درجة تصبح فيها أقوى من النزعات النفسية فلا تخضع إرادة مثل هذا الإنسان بعد ذلك للنفس الأمارة ولا تتجه أبدًا إلى الضلال والفساد.
إذا استطعنا توضيح مجال العصمة وتصويره، أدركنا أنه مهما اتسعت دائرة العصمة فإنها لا تتنافى مع الإرادة والاختيار الحر، وعلى ضوء مثل هذه التعبيرات يمكننا أن نتصور عصمة الأنبياء والأئمة المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين - التي هي أعلى من كل ما سبق وأكثر اتساعًا وشمولاً، على نحو يستحيل معه أن يصدر من أولئك الحضرات أي ظلم أو خطأ أو معصية، مع احتفاظهم بحرية الإرادة والاختيار، ودون أن يخضعوا أبدًا لغرائزهم البشرية ونزعاتهم النفسانية.
عناية الله وألطافه الخاصة بعباده الصالحين من أهل البيت:
الآن، على ضوء التوضيحات السابقة، لم يعد من الصعب علينا أن نفهم «الإرادة التكوينية» لله تعالى في الآية الكريمة، بأنها عبارة عن المدد والفيض والتأييد واللطف الإلهي بحق عباده الصالحين من أهل البيت -عليهم السلام- بصورة تكوينية بالقدرة الإلهية القادرة، على نحو، يغدو فيه صدور الذنب والعصيان عن أولئك الحضرات مُحالاً مع وجود الإرادة والاختيار لديهم.
ونؤكد أن هذا التأييد الإلهي لا يستتبع سلب الإرادة والاختيار عنهم، لأن هذا التأييد في الواقع معناه رفع درجات كمال الإرادة لديهم وتقويتها كي يسيطروا على نفوسهم بالعون الإلهي إلى درجة يصبح معها صدور الذنب عنهم مُحالاً»[46].
[44]. لاشك أن «العصمة» بمعنى «عدم السهو أو النسيان في إبلاغ آيات الله وأحكام الشريعة» أمرٌ يؤيده القرآن، ولا مخالف له، لحسن الحظ، بين المسلمين، فالعصمة بهذا المعنى خارجة عن موضوع بحثنا. [45]. لا يخلو كلام المؤلف هنا من خلل، فمن الواضح أن مثل هؤلاء الأفراد لم يكونوا كذلك منذ طفولتهم بل وصلوا إلى مثل هذه الحالة النفسية بالتدريج وبعد طيِّ مراحل بعيدة عن الحالة الإنسانية العادية. [46]- پژوهشى در آيهى تطهير، مصونيت تكوينى رهبران عقيدتى اسلام [بحث في آية التطهير، العصمة التكوينية لأئمة الإسلام]، تحقيق وتأليف الأستاذ محمد مهدي آصفي، ترجمه للفارسية الدكتور محمود رضا افتخار زاده، مكتب نشر المعارف الإسلامية، قم، ص.ب 573، ص 79 فما بعد.إن استحالة اختيار الذنب واستحالة الوقوع في الخطأ، عبارة أخرى عن عدم الاختيار، لأن الاختيار معناه: «عدم استحالة كل جانبٍ من جانبي الاختيار المتباينين، للمكلف»؛ فإذا كان أحد طرفي الخيار مُحالاً، فإن اختيار المكلف سيصبح لا معنى له!
وفي رأيي إن كل ما فعله الكاتب المحترم هو التلاعب بالألفاظ لا أكثر، ولم يحل الإشكال، وكلامه ينطوي على عدة إشكالات نشير إلى بعضها فيما يأتي:
أولًا: إن مثال غريزة الأمومة الذي أتى به الكاتب المحترم حول «العصمة»، يتعلق بأمر غريزي غير اختياري، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى تمرين ولا إلى ممارسة ولا إلى عمل بالأحكام التربوية، كما لا يحصل بشكل تدريجي، وفي الواقع لا تختاره الأم، أي ليس الأمر أن بعض الأمهات يقمن باختيار غريزة الأمومة، وبعض الأمهات الأخريات لا يخترن تلك الغريزة (!!)، وبعبارة أخرى هذه الغريزة، كما اعترف المؤلف المحترم نفسه أيضًا، أوجدتها الإرادة التكوينية الإلهية في الأمهات ولكن ليس على نحو عدم إمكانية التخلّف عنها مطلقًا وبنسبة 100%، ولهذا نجد أحيانًا حالات [ولو نادرة]- من التخلف عن هذه الغريزة، ولو جعل الله هذه الغريزة أقوى مما هي عليه الآن وأودعها في الأمهات على نحو غير قابل بل للتخلف عنه، لما شوهد أي تخلف عنه مطلقًا.
والأهم من ذلك هو أنه كلما كانت الصفات التكوينية وغير الاختيارية أشد وأقوى، فَقَدَ صاحبُها فضيلةَ امتلاكها بالمقدار والنسبة ذاتها، فمثلاً لا يعتبر أحد صاحب فضيلة ومستحقًا للتحسين والثواب لأنه لا يقوم بحرق نفسه بالنار(!) أو لأنه لا يقتل نفسه، وذلك لأن حب النفس ليس أمرًا اختياريًّا يمكن للإنسان أن يكتسبه تدريجيًّا بالمجاهدات، لذا فإذا عمل الإنسان بمقتضى هذه الغريزة لا يكون قد أنجز شيئًا عظيمًا، لهذا السبب ليس هناك حاجة في مثل هذه الموارد إلى مربٍّ أو أسوة ومقتدى، ولم يعتبر أحد حتى اليوم أئمة الدين أسوةً ونبراسًا للمؤمنين في مثل هذه الأمور، بل هم أسوة وقدوة للمؤمنين في الأمور التي تحتاج إلى تربية وجهاد للنفس وتهذيب لها.
وموضوع بحثنا أيضًا هو في موارد هي حصيلة – على حد قولكم- لتربية إنسانية قوية، وليقظة كاملة للوجدان ولسلامة النفس وتهذيبها، وكلما جاهد الإنسان نفسه أكثر نال نصيبًا أوفر من التأييد الإلهي، ولذلك نرى أن الله تعالى جعل هداية العباد منوطة ومشروطة بمجاهداتهم، كما نصت عليه الآية 69 من سورة العنكبوت التي استشهد الكاتب بها.
إن التربية، كما تعلمون، تعني العمل بقوانين الشرع (أي أوامره ونواهيه) الناشئة من إرادة الله التشريعية والالتزام بمقتضاها والتي يؤدي العمل بها إلى علوّ الإنسان الروحيّ، في حين أنكم تعتقدون أن هذه المرتبة من العلوّ الروحي التي تُوجِد العصمة لصاحبها وتجعله محفوظًا ومُصَانًا من وقوعه في الخطأ والنسيان والذنب، لم تحصل نتيجة للاختيار واجتياز مراحل التربية والتعليم، كما أنه لا يمكن لسائر الناس أن يحصلوا على مثل هذه المرتبة الروحية، لأنها مرتبة وُجِدَت على وجه الحصر لأفراد محدودين ومعدودين فقط لا غير (أربعة عشر نفرًا) بإرادة إلهية تكوينية.
ثانيًا: الأمور التي ذكرها الكاتب تتعلق على أكثر حدّ بالذنب ولا علاقة لها بالخطأ والنسيان، في حين أنكم تعتبرون أن العصمة تشمل عدم الذنب وعدم الوقوع في النسيان أو السهو أو الخطأ، وهذا الأمر الأخير لا علاقة له بجهاد النفس ولا بالتربية الروحية ومعرفة عواقب الذنب والنفور منه، أضف إلى ذلك أن ما ذكرتموه حول التربية النفسية والعلو الروحي يحتاج إلى مرور الزمن، [واجتياز مراحل مختلفة] في حين أنكم تعتبرون الإمام معصومًا عن الذنب ومحفوظًا من الخطأ والنسيان والسهو أيضًا، وهذه الحالة النادرة الفريدة للأئمة ليست ناجمةً عن التربية والمجاهدات.
مثلاً أنتم تعتبرون حضرات الحسنين – اللذَين كانا طفلين صغيرين عند نزول آية التطهير- أو الإمام الجواد ÷ الذي ولي الإمامة طفلاً، تعتبرونهم منذ سن الطفولة والصغر علماء بحقائق الشريعة ومعصومين ومحفوظين من السهو والنسيان في جميع شؤون الحياة!
بناءً على ذلك، وكما قلنا، مثل هؤلاء المعصومين على هذا النحو لا يمكن أن يكونوا أسوةً وقدوةً لمن لا يتمتعون مثلهم بتلك العصمة والحفظ الإلهي الخاص، وممن لا تشملهم الإرادة التكوينية والتأييد الإلهي واللطف الرباني الخاص إلى ذلك الحد الذي يتمتع به الأئمة.
وليت شعري! كيف يمكن لمن قويت إرادتهم بفضل إرادة اللهِ عَزَّ وَجَلَّ التكوينيةِ ووصلوا إلى درجة الكمال، أن يكونوا قدوةً وأسوةً لمن لا تتمتَّع إرادته بمثل هذا التأييد الرباني الخاص والعون الإلهي؟!
لاحظوا أننا لا نبحث هنا عن المعنى المراد من «العصمة»، ولا في أن الذين يتمتعون بمثل هذه «العصمة»، هل يبقى لديهم اختيار للأفعال وحرية إرادة أم لا؟ لأن وجود الاختيار أو عدمه لا يؤثِّران في بحثنا، لأنه حسب فرضكم، صار أولئك المعصومون إلى ما صاروا إليه بواسطة الإرادة التكوينية لله تعالى وبفضل التأييد الإلهي لهم وعناية الله الخاصة بهم، فأصبحوا يختارون على الدوام الخير وكل ما هو أصلح وأصبحوا لا يصابون أبدًا بالسهو ولا يقعون في النسيان مطلقًا!
في رأينا إن كاتب ذلك الكلام حول معنى الإرادة التكوينية قد غفل عن معنى «الإرادة التكوينية» أو تغافل عن معناها، لأنه كما هو معلوم لا يوجد هناك أي مانع أو تأخير بين إرادة الله التكوينية وتحقق مراد الله، فلا يخلو الأمر من حالتين:
إما أن للإرادة الإلهية التكوينية تأثير في امتلاك الأفراد لمثل هذه الحالة أو لا تأثير لها في ذلك، الحالة الثانية مردودة قطعًا، والحالة الأولى تُوجد فيها المشكلة ذاتها التي ذكرناها أي: أولاً: هذه الإرادة التكوينية لا تشمل جميع المؤمنين بل منحصرة بأربعة عشر نفرًا فقط، وثانيًا: في مثل هذه الحالة، كما قلنا، لا تقع استطاعة المكلف واختياره بين الإرادة والمراد الإلهي، فمجرد وجود الإرادة التكوينية الإلهية يعني لزامًا عدم إمكانية فعل أي شيء مخالف لها، وفي مثل هذه الحالة لا يبقى هناك أي أهمية في بحثنا لوجود اختيار للمؤلف أو عدم وجود اختيار له، وكما قلنا لو أراد الله مثل هذه الإرادة التكوينية من سائر الناس لأصبحوا هم أيضًا معصومين لا يسلكون إلا طريق الخير والصلاح فقط.
نأمل أن يكون لما ذكرناه - على اختصاره - تأثير في حمل أخينا كاتب الرسالة على إعادة النظر فيما استنبطه من آية التطهير، «وما توفيقي إلا بالله».
قبل أن نختم كلامنا في هذا الكُتَيِّب، لابد لنا من كلمة حول البند 7 من رسالة أخينا - باختصار شديد طبعًا- كي لا نكون قد أهملنا الكلام عن هذا البند أو أغفلنا التعليق عليه. لقد أقحم الكاتب المحترم، دون انتباه منه، آيةَ المباهلة (آل عمران: 61)[47] في ميدان البحث حول آية التطهير [مع أنها لا علاقة لها بهذا الموضوع]!
فنقول:
أولاً: لكل مقامٍ مقالٌ. لقد كان بحثنا حتى الآن يدور حول طبيعة الإرادة المذكورة في آية التطهير، أي الجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب، وحول المُراد من «أهل البيت» في آية التطهير تلك، وأنه هل زوجات النبي ص أهل بيته وهل هُنَّ المخاطبات في الجملة الأخيرة في تلك الآية أم لا؟ من هنا نرى أن آية المباهلة لا توفر أي إجابة ذات علاقة أو ارتباط بتلك المباحث والأسئلة المطروحة حول آية التطهير.
يتفق المفسرون[48] أن آية المباهلة نزلت في ظروف جاء فيها جماعة من نصارى نجران برئاسة أسقف من أساقفتهم إلى المدينة ليجادلوا النبي ص حول بنُوَّة عيسى المسيح ÷ لِـلَّه عزوجل، وفي معرض رد النبي ص لكلامهم تلا عليهم ص آياتٍ من القرآن الكريم، لكنهم رفضوا قبول كلام حضرة النبي ص عنادًا ولجاجًا دون أن يقدموا له أية إجابة صحيحة عما ذكره لهم من أدلة، وأصروا على البقاء على عقيدتهم، هنا جاء الأمر من قبل الله تعالى لنبيه بقوله سبحانه:
﴿...فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ ٦١﴾ [آل عمران: 61]
عندئذٍ قال أسقف نجران لمرافقيه: إن جاء محمد [ص] إلى المباهلة بأبنائه وقرابته الأعزَّاء عليه وبخواصّ أصحابه فلا تباهلوه، أما إن جاء بسائر أتباعه فاقبلوا مباهلته!
في اليوم الموعود حضر النبي الأكرم ص إلى المباهلة ومعه عليٌّ وفاطمة والحسنان -عليهم السلام- ، وحضر النصارى أيضًا للمباهلة، فسأل الأسقف: من الذين جاء بهم النبي [ص] معه؟ قالوا: إن الرجل الذي أتى به محمد معه هو ابن عمه وصهره وأحب الناس إليه علي بن أبي طالب، وابنته فاطمة التي هي أعز الناس إلى قلبه، وحفيداه ولدا فاطمة. فلمَّا علم الأسقف بذلك امتنع عن المباهلة.
بناء على ذلك، تلاحظون أن هذه الواقعة المذكورة – كما أدرك ذلك الأسقف النصراني- دليلٌ على يقين النبي الأكرم ص المطلق بحقانية دعوته وعلى رسوخ إيمانه وعمق اعتقاده وقمة صدقه، إذ إنه في الظروف العصيبة والخطيرة، بدلاً من إتيانه بأتباعه ووضعهم في المحنة وواجهة التعرض للبلاء والاحتماء بهم، أتى بأعز الناس إليه وأقربهم إلى قلبه إلى ميدان المعركة ولم يتوانَ لحظة عن التضحية بنفسه وبأحب الناس إلى قلبه في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كانت هذه هي طريقة النبي ص وأسلوبه الدائم في كل مراحل الدعوة، ولهذا نرى أن عمّ النبي ص حمزة أو ابن عمه جعفر بن أبي طالب نالوا شرف الشهادة. كما نرى أنه في المواقف الأخرى المليئة بالخطر الماحق، والتي يتراجع فيها الآخرون ولا يجدون في أنفسهم القدرة على خوضها، مثل حادثة «عمرو بن عبد ود» ونظائرها، نرى النبي ص يُقَدِّم ابنَ عمه وصهره ومن تربى منذ صغره في حجره، وكان كابن حبيب له، أي حضرة عليٍّ ÷. كما أن النبي الأكرم ص ذاته كان في أغلب الأوقات أقرب الناس إلى صفوف العدّو[49].
أجل، لو ادعى شخص أن نساء رسول الله ص كن أحب إلى رسول الله ص وأعز على قلبه من حضرة الزهراء وزوجها وابنيها سبطي النبي ص، لكان هناك مبرر ووجه للرد عليه بالاستدلال بآية المباهلة، لكننا نُذَكِّر للمرة العاشرة [أننا لم ندع مثل ذلك أبدًا] وأن بحثنا منصبٌّ فقط على مسألة محددة وهي: هل زوجات النبي ص هُنَّ أهل بيته وهُنَّ المخاطبات بالجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب ومشمولات بها أم لا؟ ومن الواضح تمامًا أن الإجابة عن هذا السؤال لا توجد في آية المباهلة.
ثانيًا: لو كان قصد أخينا أن يذكرنا بالادعاء المشهور الذي يُذكر عادةً بشأن هذه الآية، فإننا نذكره هنا بعدد من الإشكالات الواردة على هذا الادّعاء. إن النظرية المذكورة تدَّعي إنه بما أن النبي ص أخذ معه عليًّا ÷ إلى المباهلة، فعليٌّ في حكم نفس النبي ص ومساوٍ له! ومن جملة الإشكالات المتوجهة إلى هذا الادّعاء:
ألف) هذا الادعاء يستلزم التكليف بما لا يُطاق، وهو أمر تتنزَّه عنه ساحة الربوبية المقدسة لله سبحانه وتعالى. وتوضيح ذلك أن الآية الكريمة قالت: ﴿...فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ ... وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ﴾؛ فلو فرضنا أن النبي الأكرم ص عرف عن طريق الوحي أن عليًّا ÷ مساوٍ له وكنفسه!! فكيف يمكن للأسقف المسيحي أن يعلم أي شخصٍ [من بينهم] هو كنفسه ومساوٍ تمامًا له كي يأتي به إلى المباهلة؟! إن العمل بهذا الأمر وتنفيذه فوق طاقة الإنسان، فالأسقف والوفد المرافق لا يعلمون الغيب![50]
ب) إضافةً إلى ذلك، فإن الوفد النجراني[51] جاء إلى المدينة من منطقة ليست قريبة إليها، ولم يأتوا بقصد التجارة أو السياحة بل جاؤوا بهدف المباحثة والمناظرة ومحاورة النبيص، ولا شك أنهم لا يمكنهم في مثل هذا السفر أن يأتوا بنسائهم وأطفالهم معهم، هذا بمعزل عن كون الأسقف والقساوسة المرافقين له كانوا عُزَّابًا طبقًا للتعاليم الخاصَّة برجال الدين المسيحي، وَمِنْ ثَمَّ فلم يكن لهم أطفال أيضًا كي يقول لهم النبي ص ائتوا إلى المباهلة بنسائكم وأطفالكم![52]
ج) حول كلمة «نفس» وجمعها «أنفس» يجب أن نعلم أنه رغم كون الكلمة تعني في أغلب استخداماتها «الذات» أي ذات الشخص نفسه كقولنا مثلاً: «جاء الوزير نفسه» أو قولنا: «رأيت المعلمين أنفسهم»، ونحن نعتبر هذا المعنى هو المعنى الأول لكلمة «نفس»، وفي هذا المعنى لا فرق بين المؤكِّد والمؤكَّد لأنهما شخص واحد عينه لا شخصان. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن جمع كلمة «نفس» أي «الأنفس» يستخدم في موارد كثيرة بمعنى «الأقرباء» و«الأصدقاء» و«المتعلقين بالشخص» و.....الخ، ونعتبر هذا المعنى المعنى الثاني للكلمة.
وفي القرآن الكريم ما يوضح لنا هذا المعنى ويحل لنا هذا الإشكال حول معنى كلمة «أنفس» ومدلولها، فمثلاً يقول القرآن الكريم مخاطبًا اليهود:
﴿فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ [البقرة: 54]
﴿وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم﴾ [البقرة: 84]
وجميع المفسرين متفقون على أن المقصود من الآية ليس الانتحار بل فسروا الآية بقولهم: أي: ليقتل بعضكم بعضًا أو لا يخرج بعضكم بعضًا.
وقال القرآن أيضًا:
﴿لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا﴾ [النور: 12]
﴿فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ﴾ [النور: 61]
﴿وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ [الحجرات: 11]
والمفسرون جميعًا يفسرون الآية 12 من سورة النور بـ: لولا ظن المؤمنون بإخوانهم المؤمنين خيرًا، أي ظنًّا حسنًا. وقالوا في تفسير الآية 61 من سورة النور «أي ليسلِّم بعضكم على بعض» وقالوا في تفسير الآية 11 من سورة الحجرات: أي «لا يطعن بعضكم على بعض».
فكما نلاحظ، يستخدم القرآن كلمة «أنفس» في كثير من الحالات بمعنى: «الأصدقاء» و«الأصحاب» و«الأقرباء» و«الآخرين اللذين لهم ارتباط بنا وهم منّا»، أي بالمعنى الثاني لكلمة «نفس».
بل إن القرآن الكريم قال بشأن النبي الأكرم ص ذاته:
﴿بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ﴾ [آل عمران: 164]
وقال:
﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ﴾ [التوبة: 128]
ولاشك أن «النفس» في هذه الموارد لا تعني أن جميع المؤمنين هم نفس النبي أو أنهم مساوون للنبي ص! وبمثل ذلك استخدمت كلمة «أنفسنا» في آية المباهلة بالمعنى الثاني أي: تعالوا ندعو أصحابنا ومن هم من جماعتنا.
ويبنغي أن ننتبه أننا لو أخذنا كلمة الأنفس في جملة ﴿وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ﴾ على المعنى الأول لوقعنا في عدد من الإشكالات؛ منها ما أشرنا إليه سابقًا وهو أن ذلك يستلزم تكليف من يخاطبهم النبي ص بهذه الآية بما لا يُطاق، فإن قيل فلنفسر كلمة ﴿وَأَنفُسَكُمۡ﴾ على المعنى الثاني لكلمة النفس، عندها يحقّ لنا أن نسأل: إذَن لماذا فسرتم ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ الأولى على المعنى الأول؟!
والإشكال الآخر أنه لو كان علي ÷ نفس النبي ص ومساويًا له، فلماذا كان ينزل مَلَك الوحي على النبي ص فقط، ولم يكن ينزل على علي ÷؟ ولماذا لم يصبح علي ÷ نبيًّا كما كان هارون نبيًّا؟ مع أنه لم يدَّع أحد أن هارون كان نفس موسى -عليهما السلام- ، ومساويًا له!
في رأينا أن مثل هذا الادعاء لا ينسجم حتى مع حديث المنزلة (من فضلكم تأملوا أكثر في معنى «التساوي»). ثم إن هذا الادعاء، مخالف بكل وضوح للواقع، فلا شك أن عليًّا ÷ كان تلميذ النبي ص وتابعًا له، وأن النبي ص كان يرى مَلَك الوحي ولم يكن علي ÷ يراه..... وهكذا..
على ضوء ما ذُكر، يجب أن ننتبه أنه استنادًا إلى أصول المباهلة وطقوسها، فإن المقصود من الآية 61 من سورة آل عمران كان حضور ممثلي الديانتَين [الإسلام والنصرانية]: الرجال والنساء والأطفال، وبكلمة واحدة: أن يُحضِروا أفراداً من جماعتهم وأقربائهم للمباهلة، ولذلك قام النبي ص انطلاقًا من خلوص نيته ويقينه الذي لا يتطرق إليه الخلل في حقانية رسالته بإحضار أعز أقربائه وأهله وأقربهم إليه إلى ميدان المباهلة يوم المباهلة.
وإذا عرفنا ذلك، فلنا أن نسأل: كيف تدل هذه الحادثة على عدم دخول زوجات النبي ص في خطاب الجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب؟ ومن أين يُستَنْبَط هذا الأمر من حادثة المباهلة؟!
أترك الحكم في ذلك للقراء الكرام!
وأختم كلامي هذا بتلاوة هذه الآية المباركة من القرآن الكريم وهي قوله تعالى:
﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر: 10].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[47]- نص الآية: ﴿فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ ٦١﴾. (المُتَرْجِمُ) [48]- على سبيل المثال، يمكن مراجعة تفسير مجمع البيان، وملاحظة ما ذكره الطبرسي ذيل تفسيره للآية 61 من سورة آل عمران. [49]- كما رُوِي عن عليٍّ عليه السلام قوله: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أقربَ إِلَى العَدُوِّ مِنْهُ»، وقال: «وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَنَحْنُ نَلُوذُ برَسُولِ اللهِ ص، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا». (انظر: النسائي، السنن الكبرى، ح رقم (8585)؛ أحمد بن حنبل، المسند، ج 1، ص 86 و156؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 2، ص 143؛ البيهقي، دلائل النبوة، ج 3، ص 258؛ السيوطي، الجامع الكبير، ج 2، ص 302. وانظر: القاضي عياض بن موسى، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج 1، ص 116). (المُتَرْجِمُ) [50]- لذلك قال المرحوم الطبرسي أيضًا في مجمع البيان حول تفسير كلمة «أَنفُسَكُمۡ»: أي «من شئتم من رجالكم». [51]- نجران منطقة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، تقع شمال اليمن. [52]- أي أن المقصود ليس الإتيان بنسائكم أنفسكم أو أولادكم أنفسكم، بل الإتيان بالنساء والأبناء من جماعتكم وأتباعكم وأنصاركم.