التضاد في العقيدة
تأليف
محمد باقر سجودي
مترجم:
مصطفى محمدي
الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الإسلام، واختار منهم أفضل عباده وأطهرهم لإبلاغ رسالة الحرية والتحرُّر من كل عبودية سوى عبودية الله، والصلاة والسلام على أهل بيتِ نبي المحبة والرحمة الكرام الأطهار، وعلى صحبه الأجلاء الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الدينَ الذي نفخر به اليوم ثمرةٌ لجهاد رجال الله وتضحياتهم؛ أولئك الذين كانت قلوبهم مُتَيَّمةً بحب الله، وألسنتهم لَـهِجَةً بذكر الله، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ رسالات الله ونشرها، واضعين أرواحهم وأموالهم وأعراضهم على أكفهم ليقدِّموها رخيصةً في سبيل صون كلمة الله سبحانه و سنة نبيه الكريم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.
أجل، هكذا قامت شجرةُ الإِسْلاَمُ العزيز واسْتَقَرَّت ضاربةً بجذورِها أعماق الأرض، بالغةً بفروعها وثمارها عنان السماء، مُعْليةً كلمة التوحيد والمساواة.
ولكن في أثناء ذلك، تطاولت على قامة الإسلام يد أعدائه الألدَّاء، وظلم علماء السوء وتحريف المتعبِّدين الجَهَلة، فَشَوَّهُوا صورة الإسلام الناصعة بشركهم وغلوهم وخرافاتهم وأكاذيبهم، إلى درجة أن تلك الأكاذيب التي كان ينشرها المتاجرون بالدين غطَّت وجه الإسلام الناصع. وقد اشتدَّ هذا المنحى من الابتعاد عن حقائق الدين وعن سنة رسول الله الحسنة، بمجيء الصفويين إلى حكم إيران في القرن التاسع الهجري ثم بقيام الجمهورية الإسلامية في العصر الحاضر، حتى أصبحت المساجد اليوم محلاً لِـلَطْمِ الصدور وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحلَّت الأحاديث الموضوعة المكذوبة محل سنة النبيص، وأصبح المدَّاحون الجهلاء الخدّاعون للعوام، هم الناطقون الرسميون باسم الدين؛ وأصبح التفسير بالرأي المذموم والروايات الموضوعة المختَلَقة مستمسكًا للتفرقة بين الشيعة والسنة، ولم يدروا للأسف من الذي سينتفع ويستفيد من هذه التفرقة المقيتة؟
إن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تُرْفع اليوم في إيران، ليست سوى ضجَّة إعلامية ودعاية سياسية واسعة، القصد منها جذب الأنظار وإعطاء صورة جيدة عن حكومة إيران الشيعية في العالم. إن نظرةً إلى قادة الشيعة في إيران وزعماءهم الدينيين ومراجعهم تدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والأخوَّة والمحبَّة الدينية بين المسلمين، على منهج حُكَّام إيران الحاليين، ليست سوى رؤيا وخيالٍ وشعارات برَّاقة لا حقيقة لها على أرض الواقع.
في هذا الخِضَمّ نهض أفراد مؤمنون موحِّدون من وسط مجتمع الشيعة الإمامية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، ونبذ البدع الطارئة والخرافات الدخيلة، وإصلاح مذهب العترة النبوية بإزالة ما تراكم فوق وجهه الناصع منذ العصور القديمة من طبقات كثيفة من غبار العقائد الغالية والأعمال الشركية والبدعية، والأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة، والعودة به إلى نقائه الأصلي الذي يتجلى في منابع الإسلام الأصيلة: القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة على صاحبها آلاف التحية والسلام وما أيَّدهما من صحيح هدي أئمّة العترة الطاهرة وسيرتهم؛ وشمَّر هؤلاء عن ساعد الجِدّ وأطلقوا العِنان لأقلامهم وخطبهم و محاضراتهم لإزالة صدأ الشرك عن معدن التوحيد الخالص، ولسان حالهم يقول: «انهض أيها المسلم وامحُ هذه الخرافات والخزعبلات عن وجه الدين، واقضِ على هذا الشرك الذي يتظاهر باسم التقوى، وأعلن التوحيد وحطِّم الأصنام».
لقد اعتبر «حيدر علي قلمداران القمِّي» - وهو أحد أفراد تلك المجموعة من الموحِّدين المصلحين - في كتابه «طريق الاتحاد»، أن سبب هذه التفرقة هو جهل المسلمين بكتاب الله وسيرة نبيه، وسعى من خلال كشف الجذور الأخرى لتفرُّق الفرق الإسلامية، إلى التقدّم خطوات مؤثرة نحو التقريب الحقيقي بين المذاهب. ولا ريب أن جهود علماء الإسلام الآخرين مثل آية الله السيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي، والسيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، وآية الله شريعت سنكلجي، ويوسف شعار وكثيرين آخرين من أمثال هؤلاء المجاهدين في سبيل الحق، أسوة ونبراس لكل باحث عن الحق ومتطلِّعٍ إلى جوهر الدين، كي يخطوا هم بدورهم أيضًا خطوات مؤثرة في طريق البحث والتحقيق التوحيدي، مُتَّبِعين في ذلك أسلوب التحقيق الديني وتمحيص الادِّعاءات الدينية على ضوء التعاليم الأصيلة للقرآن والسنة، ليعينوا ويرشدوا من ضلوا الطريق وتقاذفتهم أمواج الشرك والخرافات والأباطيل، ليصلوا بهم إلى بر أمان التوحيد والدين الحق.
إن المساعي الحثيثة التي لم تعرف الكلل لِرُوَّاد التوحيد هؤلاء لَهِيَ رسالةٌ تقع مسؤوليتها على عاتق الآخرين أيضًا، الذين يشاهدون المشاكل الدينية لمجتمعنا، ويرون ابتعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام الحيَّة، لاسيما في إيران.
هذا ولا يفوتنا أن نُذَكِّر هنا بأن هؤلاء المصلحين الذين نقوم بنشر كتبهم اليوم قد مرُّوا خلال تحوُّلهم عن مذهبهم الإمامي القديم بمراحل متعددة، واكتشفوا بطلان العقائد الشيعية الإمامية الخاصة - كالإمامة بمفهومها الشيعي والعصمة والرجعة والغيبة و... وكالموقف مما شجر بين الصحابة وغير ذلك - بشكل متدرِّج وعلى مراحل، لذا فلا عجب أن نجد في بعض كتبهم التي ألفوها في بداية تحولهم بعض الآثار والرسوبات من تلك العقائد القديمة لكن كتبهم التالية تخلَّصت بل نقدت بشدة كل تلك العقائد المغالية واقتربوا للغاية بل عانقوا العقيدة الإسلامية الصافية والتوحيدية الخالصة.
***
الأهداف
تُمثِّلُ الكتبُ التي بين أيديكم اليوم سعيًا لنشر معارف الدين وتقديرًا لمجاهدات رجال الله التي لم تعرف الكَلَل. إن الهدف من نشر هذه المجموعة من الكتب هو:
1- إمكانية تنظيم ونشر آثار الموحِّدين بصورة إلكترونية على صفحات الإنترنت، وضمن أقراص مضغوطة، و بصورة كتب مطبوعة، لتهيئة الأرضية اللازمة لتعرُّف المجتمع على أفكارهم التوحيدية وآرائهم الإصلاحية، لتأمين نقل قِيَم الدين الأصيلة إلى الأجيال اللاحقة.
2- التعريف بآثار هؤلاء العلماء الموحِّدين وأفكارهم يشكِّل مشعلاً يهدي الأبحاث التوحيدية و ينير الدرب لطلاب الحقيقة ويقدِّم نموذجًا يُحْتَذَى لمجتمع علماء إيران.
3- هذه الكتب تحث المجتمع الديني في إيران الذي اعتاد التقليد المحض، وتصديق كل ما يقوله رجال الدين دون تفكير، والذي يتمحور حول المراجع ويحب المدَّاحين، إلى التفكير في أفكارهم الدينية، ويدعوهم إلى استبدال ثقافة التقليد بثقافة التوحيد، ويريهم كيف نهض من بطن الشيعة الغلاة الخرافيين ، رجال أدركوا نور التوحيد اعتمادًا على كتاب الله وسنة رسوله.
4- إن نشر آثار هؤلاء الموحِّدين الأطهار وأفكارهم، ينقذ ثمرات أبحاثهم الخالصة من مقصِّ الرقيب ومن تغييب قادة الدين والثقافة في إيران لهذه الآثار القَيِّمة والتعتيم عليها، كما أن ترجمة هذه الآثار القَيِّمة لسائر اللغات يُعَرِّف الأمّة الإسلامية بآراء الموحدين المسلمين في إيران وبأفكارهم النيِّرة.
***
آفاق المستقبل
لا شك أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ تمامًا من الخرافات والبدع وإلى المدينة الفاضلة التي تتحقق فيها الطمأنينة في ظلِّ رضا الله سبحانه وتعالى، إلا باتِّباع التعاليم النقيَّة الأصيلة للقرآن الكريم وسنة نبي الرحمة والرأفة ص. إن هدف القائمين على نشر مجموعة آثار الموحِّدين هو التعريف بآثار هؤلاء المجاهدين العلميين الكبار، كي تكون معرفة الفضائل الدينية والعلمية لهؤلاء الأعزاء، أرضية مناسبةً لنموّ المجتمع التوحيدي والقرآني في إيران وقوّته، وذلك لنيل رضا الخالق وسعادة المخلوق.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لعلوّ درجات أولئك الأعزاء، وأن يمنّ علينا بالعفو.
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة العبودية له، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وآخر رسل الله محمد المصطفى وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.
وبعد، فقد كان المسلمون طول القرون المنصرمة سبَّاقين للآخرين في تحصيل العلم والمعرفة وتعلُّم العلوم المختلفة، وذلك ببركة تعاليم الإسلام العزيز واتِّباعًا منهم لكلام رسول الله ص، حتى صار العلماء المسلمون في أواخر فترة الخلافة العباسية سادة العلوم في عصرهم، وتحول بيت الحكمة الذي تأسس في بغداد في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني في عهد خلافة هارون الرشيد العباسي، إلى أكبر مؤسسة علمية وبحثية في العالم، ولا يزال بيت الحكمة يُعتَبر مظهرًا من مظاهر الحضارة الإسلامية وذلك بفضل نشاطاته الثقافية والعلمية في المجالات المختلفة من تأليف وترجمة واستنساخ وأبحاث متنوعة في المجالات العملية المختلفة سواء الطب والهندسة أم العلوم الإنسانية.
ولا شك أن هذه القوة العلمية للمسلمين كانت بمثابة شوكة في أعين أعداء الإسلام، لذلك سعوا من خلال بثِّ أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين إلى تحطيم عَظَمَة الإسلام هذه وسؤدده الذي يعود الفضل فيه إلى وحدة المسلمين وتماسكهم والأخوة السائدة بينهم، فأثار أعداء الإسلام عواصف النزاعات والتفرقة بين المسلمين كي يحجبوا جمال الحق عن أبصارهم، ويخفوا شمس الدين المشعة خلف غيوم البدع والخرافات. وكما يقول الشيخ سعدي الشيرازي:
الحقيقــة مكـان مزَينٌ ألا ترى أن كل مكان اعتلاه الغبار لكن الهوى والرغبات أثارا الغبار فوقه لا يقع عليه النظر ولو كان الرجل بصيرًا
إن المساعي المخطط لها وعلى المدى الطويل لأعداء الإسلام، لأجل إغلاق أعين المسلمين عن حقيقة الدين وإضعاف المسلمين عن تعلُّم معارف الدين ونشرها، وإبعادهم عن سنة النبي الأصيلة الهادية، أدت إلى حدوث فجوة عميقة واختلاف كبير في أمة الإسلام وأصبح أبناء الإسلام اليوم يعانون بشدَّة من تبعات هذه الفجوة وآثارها المشؤومة.
وبموازاة مساعي أعداء نبي الإسلام ص العِدائية الرامية إلى تحريف تعاليم الإسلام وتشويهها وإدخال البدع المختلفة في الدين، أدرك أشخاصٌ مؤمنون أطهار شفيقون هذا الخطر، ونهضوا مشمِّرين عن ساعد الجِد والجهاد المتواصل لإحياء معالم الإسلام والسنة النبوية الأصيلة، وتناولوا بأيديهم -بشجاعة منقطعة النظير- أقلامهم وأخذوا يكتبون ويؤلفون في نشر ثقافة الإسلام الأصيلة والعقائد الإسلامية الصحيحة النقية بين أوساط الشيعة عُبَّاد الخرافات، وصدحوا بينهم بنداء التوحيد بصوت عال أيقظ المتاجرين بالدين والبدع من نوم غفلتهم مذعورين! لقد ضحى هؤلاء الموحدون الطالبون للحق والحقيقة بمصالحهم الشخصية فداء للحقيقة، وقدموا أرواحهم في هذا السبيل هديةً رخيصةً للحق تعالى، وصاروا عن حق مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس/62].
إن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى غيضٍ من فيض المعارف الإلـهية، ومُنْتَخَبٍ من آثار الموحدين الطالبين لله تعالى الذين كانوا ينتمون في بداية أمرهم لطائفة الشيعة. لقد أشرق نور الله في صدورهم، وصار التوحيد نبراس حياتهم المباركة. لقد تم تحرك هؤلاء الأفراد الذين كانوا جميعًا في بداية أمرهم من الطراز الأول من علماء الشيعة في إيران، في مسيرتهم التحولية من مذهبهم القديم، خطوةً خطوةً؛ بمعنى أن نظرتهم إلى المسائل العقائدية لم تتحول بشكل فجائي مرةً واحدةً، بل حَصَل هذا التحول بمرور الزمان وعلى إثر المطالعة والدراسة المتأنية والتواصل مع من يوافقهم في أفكارهم، لذا من الطبيعي أن لا تنطبق بعض رؤى وأفكار هؤلاء الإصلاحيين في بعض مراحل حياتهم وكتاباتهم، مع عقائد أهل السنة والجماعة واتجاهاتهم الفكرية بشكل كامل؛ لكن رغم ذلك قمنا بنشر هذه المؤلفات كما هي نظرًا لأهميتها في هداية شيعة إيران وغيرهم من الناطقين باللغة الفارسية. كما أنه من الجدير بالذكر أن الرؤى والمواقف الفكرية المطروحة في هذه الكتب، لا تنطبق بالضرورة مع رؤى الناشر والقائمين على نشر هذه المجموعة من الكتب، هذا على الرغم من أن هذه الكتب تمثل بلا ريب نفحةً من نفحات الحق و نورًا من جانب الله لهداية طالبي الحقيقة البعيدين عن العصبيات والظنون التاريخية الطائفية.
إن النقطة الجديرة بالتأمّل هي أنه للوقوف بشكل صحيح على رؤى وأفكار هؤلاء الأفراد، لا يمكن الاكتفاء بقراءة مجلد واحد من آثارهم؛ بل لا بد من قراءة حياتهم بشكل كامل، كي يتم التعرُّف بشكل كامل على كيفية تحولهم الفكري، ودوافعه وعوامله. فعلى سبيل المثال، ألف آية الله السيد أبو الفضل البرقعي في الفترة الأولى من بداية تحوله الفكري كتابًا بعنوان «درسى از ولايت» أي «درسٌ حول الولاية»، بحث فيه موضوع الأئمة وادعاء الشيعة حول ولايتهم وإمامتهم ورئاستهم المباشرة للمسلمين بعد نبي الله ص. واعتبر أن عدد الأئمة 12 إمامًا، مصحِّحًا بذلك الاعتقاد بوجود محمد بن الحسن العسكري وحياته حتى الآن، بوصفه الإمام الثاني عشر. لكن المؤلِّف نفسه ألف بعد عدة سنوات كتابًا باسم «تحقيق جدي في أحاديث المهدي» ووضع تحت تصرف القراء نتائج بحثه التي توصل إليها في هذا المجال، وهي أن جميع الأخبار والروايات التاريخية المتعلِّقة بولادة ووجود المهدي إمام الزمان، روايات وأخبار موضوعة وكاذبة. من هذا المثال ومن أمثلة مشابهة أخرى يتبيَّن أن أفضل طريق لمعرفة المسيرة التحولية لأفكار هؤلاء الموحدين وآثارهم هي قراءة مجموعة كتاباتهم بشكل كامل، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم كل مؤلَّف من مؤلَّفاتهم أو تأخّره زمنيًا.
نأمل أن تكون آثار هؤلاء المؤلّفين الكبار ومساعي القائمين على نشرها، سببًا للعودة إلى مسيرة الأمن الإلـهية وعبادة الحق سبحانه وتعالى الخالصة.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لغفران ذنوبنا وأن يسامحنا إذا وقعنا في خطأ أو زلل، وأن يرحم أرواح أولئك المؤلفين الأعزَّاء ويجعلهم في جوار رحمته، إنه رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
1- هل ارتد الصحابة كلهم - ما عدا أربعة - بعد وفاة الرسول ج؟
2- هل اغتصب الصحابة حق الولاية من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ا؟ ما الدواعي التي دعت إلى هذه المؤامرة؟
3- وإذا لم تكن هناك مؤامرة قد دبرت بليل بهيم، فلِمَ الاستعجال في اختيار من يخلف الرسولج؟
4- من هم أهل بيت الرسول ج؟ ومن هم عشاق أهل البيت وأنصارهم؟
أجوبة يجيب عليها القرآن الكريم؛ لسان السماء الصادق الذي لا ريب فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ من خلال سطور هذا الكتاب الذي لا يقصد الإهانة أو الطعن في أحد من الناس، ولا يحاول انتقاص فئة أو مذهب من المذاهب، فالمؤلف - الأستاذ محمد باقر سجودي حفظه الله - وُلد من أبوين شيعيين في إيران، ونشأ وترعرع في رحاب المجتمع الشيعي المحافظ، لكنه أبى أن يغمض عيون صدره، وأبى أن يعطل عقله، وأبى أن يسلم زمام عقله لكل من هب ودب، لقد احترم عقله وفؤاده، واستمع إلى كلام ربه؛ فهداه إلى الصراط المستقيم والطريق السوي، وهذه هي رسالة القرآن الكريم.
﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩﴾ [الإسراء:9]
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ا: «ستكون فتنة، والمخرج منها؛ كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم».
إن كانت فكرة التشيع لأهل بيت الرسول ج، فكرة أصيلة في مجريات التاريخ الإسلامي، فقد كان التشيع بمعناه الصفوي السائد في التاريخ المعاصر من نتاج التطور التاريخي في ظل السياسات السلبية والأحقاد العنصرية والشعوبية والنزعات السلطوية، فلم يكن للتاريخ الإسلامي في فجر دعوته عهد بما ابتدعه الفكر الشيعي في الأزمان المتأخرة، إلى أن افترق أصحابه عن المجرى العام للفكر الإسلامي، ومعنى الأمة الواحدة، وقد قصدوا ذلك.
وليزيدوا الفرقة أكثر فأكثر سموا الأمة الإسلامية بـ«العامة»، وجعلوا خلافها في كل الجزئيات والكليات شرعةً ومنهاجًا وأصولاً لفقه مذهبهم!
وقد وصلوا إلى ما راموه، فصار للأمة جناح جديد سمي بالأقلية الشيعية، ومن ثم دعيت الجناح العام بأهل السنة والجماعة، وكأن الأمة متشكلة من حزبين أو فريقين اثنين ليتناطحا كلما دبرت لهما المكايد وراء البحار أو الثغور.
وبذلك توقف المد الإسلامي والفتوحات الإسلامية وانشغل المسلمون بالخلافات الداخلية، إلى درجة أنه تأسف أحد المستشرقين الغربيين قائلاً: لو لا الصفويون في إيران لكنا نقرأ القرآن اليوم في أروبا!!
لم يكن موقف أهل السنة تجاه الشيعة في العصر الحديث موقفًا إيجابيًا في كل جوانبه؛ وذلك لأن المسلمين فقدوا القيادة الموحدة وافترقوا إلى فئات وأحزاب، وصار لكل جماعة منهم إمامًا، وبقي الجميع بلا إمام، كالشياه الضالة بدون راع يرعاهم في عصر تسوده القوى الاستعمارية الشرسة، ومن ثم انكمش الفكر الدعوي والإصلاحي لدى عامة المسلمين وتحول إلى إصلاح مجتمعاتهم المتهالكة، وإلى الدعوة الفردية ثم الجماعية في نطاق ضيق جدًا لا يكاد يتجاوز حدود القطر الواحد.
وكان الشيعة أحسن حظًا يوم أن وجدوا سلطة وحكومة في إيران، فكان باستطاعتهم أن يظهروا من خلالها شخصية جديدة لهم. فما إن استقرت حكومتهم في إيران إلا وعادوا إلى سيرتهم الأولى أيام الدولة الصفوية التي ضربت مثالاً سيئًا في تمزيق الأمة وتحريف المذهب الشيعي من الروح العلوي والسني إلى الروح الصفوي..
وقد ألف الدكتور علي شريعتي - وهو من علماء الشيعة المعاصرين ومن أصحاب الدعوة إلى العودة إلى منابع التشيع الأصيلة - كتابًا سماه «التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، وصف فيه التشيع الصفوي بأنه: فرقة أو مذهب ضد السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام يريد وضع العثرات والسدود في مواجهة السنة، فهو مذهب للبدعة، وأنه عمل أكثر من أي شيء آخر للقضاء على روح التشيع وثقافته، وأنه مشيع الأكثرية في إيران والمسيطر على الأذهان. وعرفه بأنه: مذهب يمهد الطريق أمام الهروب من المسئوليات، وأنه مذهب تجليد القرآن وتذهيبه وإكباره وليس البحث في القرآن وتفسيره.. إنه مذهب أغلق القرآن لأن فتحه أمر عسير وموجد للمسئوليات!!
وقال عن علماء الشيعة: إنهم يبدلون الأشياء المشتركة إلى اختلافات عن طريق التوجيهات والتأويلات المنحرفة والمغرضة، ويقوّمون القرآن على أنه كتاب مليء بالشتائم الموجهة للخلفاء تحت نقاب الرمز والكناية والمجاز والاستعارة!
و أخيرًا يقول: إني أخجل من الاستمرار في هذا الحديث ولست أستطيع ذكر ما قالوه في الدعوة السوقية عن شخصيات الأئمة فحسب، بل لا أستطيع ذكر ما جاء في الكتب المعروفة التي تعتبر مصادر الدين ومراجع الفتوى.
ويناشدُ فقهاءَ التشيع العلوي قائلاً: من يحملون الشعارات الخاصة بالتشيع الصفوي إنما يحطمون الشيعة ويفضحوننا أمام العالم الإسلامي ويضيعون كل التضحيات والمفاخر الشيعية ويشوهون وجوه علماء الشيعة الحقيقيين ومشاعر المسلمين وأفكارهم.
استطاع الصفويون أن يمسخوا روح التشيع الأصيل الذي كان يسعى لوحدة المسلمين قبل كل شيء؛ فعندما صالح الإمام الحسن معاوية سمي ذلك العام بـ«عام الجماعة»، وعندما قال له بعض مثيري الفتنة: يا مذل المؤمنين! أجابهم: «بل أنا معز المؤمنين».
فليس التشيع السني الأصيل تشيع التحريف والوضع والبدعة والتفرقة وتكفير الصحابة والمسلمين، ولا تشيع الشرك عن طريق التفويض وعلم الغيب وإحياء الموتى والبداء، ولا تشيع: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية! تلك الصورة القاتمة التي صنعها الصفويون.
تلك الصورة التي جعلت بعض المتحمسين من أهل السنة ينزلون الساحة بنفس الحربة ويعاملون عامة الشيعة بما عامل علماء الشيعة الأمة الإسلامية، فكفروا الشيعة جملة وتفصيلاً، وقد كان هذا موقفًا سلبيًا، ولم يكن من شيمة الدعاة المخلصين ولا من شيم من دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين، وكانت النتيجة: أن أثار هذا الموقف السلبي عامة الشيعة فتعصبوا لمعتقداتهم دون النظر والتمعن فيها.. فأريقت الدماء هنا وهناك باسم الإسلام والدفاع عن أهل البيت!!
لكن كل هذا لم يستطيع أن يحول دون بزوغ الشمس من جديد، فالشمس لا تستطيع الغياب خلف الغيوم الداكنة أبد الدهر؛ فخرج من المجتمع الشيعي نفسه - في ظلال التعاليم القرآنية والخطاب السماوي إلى العقل البشري - أناس وجدوا الحقيقة من القرآن الكريم دون غيره، فقد اتصلوا بالقرآن وعاشوا في رحابه إلى أن خالط جماله صدورهم فتزينت قلوبهم بنور الإيمان وأصبحوا من الراشدين..
أجل، هؤلاء هم المسلمون حقًا، فقد توصلوا إلى الله وإلى الحقيقة التي أرادها المولى من خلال كلامه جل وعلا، وأدركوا عمق ما يعانيه إخوانهم من عامة الشيعة الذين تركوا حبال عقولهم في أيدي قيادات لا تريد لهم الهداية حرصًا على مناصب زائفة أو شيء من الدنيا قليل. وقد شمر هؤلاء المصلحين المهتدين عن سواعد الجد عسى أن يصلحوا ما أفسده الناس من قبلهم، وقد خرج من بينهم أسماء كبيرة لمعت في الفكر الإصلاحي الشيعي بشكل كبير، وجعلت الأمة المسلمة تفتخر بهم، كآية الله البرقعي، ومن أبرز مؤلفاته: تفسير قبس من القرآن، عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول (كسر الصنم) ودراسة علمية لأحاديث المهدي وغيرها، والعلامة حيدري علي قلمداران، من أبرز مؤلفاته: طريق الاتحاد والخمس وسبل النجاة عن شر الغلاة وغيرها، والشهيد آية الله موسى الموسوي، من مؤلفاته: الشيعة والتصحيح، والثورة البائسة، ويا شيعة العالم... استيقظوا وغيرهم الكثير..
وفي هذا الركب المبارك يُذكر اسم «الأستاذ محمد باقر سجودي» صاحب هذا الكتاب الذي يتميز بسهولة أسلوبه وخطابه لعامة إخوانه من الشيعة.
فالمؤلف - حفظه الله - يقدم في هذا الكتاب ثمرة رحلته الطويلة من الظلمات إلى النور، فقد اهتدى إلى الحق المبين من خلال القرآن الكريم الذي يخاطب أولي الألباب والعقول.
وها هو يضع ثمرة رحلته المباركة بين يدي جميع أفراد الأمة لتكون شمعة أخرى بجانب ما وضعه إخوانه المصلحون من الشموع والمعالم على طريق الدعوة إلى النور وإلى الحقيقة المظلومة.
وقد حاولنا - قدر جهدنا - أن نقدم ترجمة وافية تعكس روح الكتاب وعباراته ومعانيه دون زيادة فيها أو نقصان، فإن كنا قد وفقنا في ذلك فذلك فضل وتوفيق من اللهﻷ لا ندعيه لأنفسنا، وإن كنا قد قصرنا في شيء منه فتلك سمة بشرية لا نستطيع الهروب منها.
ونسأل الله ﻷ أن يتقبل هذا العمل منا ويضعه في ميزان حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. إنه نعم المولى ونعم النصير وبالإجابة جدير.
وأخيرًا..
ليس هذا الكتاب إلا مساهمة من المؤلف لإرجاع الأمة إلى التشيع السني الأصيل، يناشد من خلاله كل متشيع لأهل البيت أن يتجرد من كل هوى وليبدأ في التحقيق الجاد في كل ما فرق به أهل الأهواء بين عالم السنة وعالم الشيعة، فلعل نورًا جديدًا يلمع في الأفق، يعيد لهذه الأمة وحدتها، ويجعلها على كلمة سواء فيما بينها.. لتنطلق هذه الأمة واعية على بصيرة إلى الله، في عالم كثير التعطش إلى الدين الإسلامي الحنيف...
الدكتور/ مصطفى محمدي
27/ رمضان المبارك/ 1427هـ.
يقول بعض علماء الشيعة: اغتصب الصحابة حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ا بعد وفاة الرسول الأمين ج، فتجاهلوا ما نص عليه ج في خلافة علي من بعده، وتآمروا جميعًا على مخالفة أمره ج على علم ودراية منهم!
تعالوا معي لنجاري إخواننا من الشيعة فيما يزعمون، ثم لنسألهم:
- هل كفر الصحابة بفعلهم هذا؟..
وهم سيجيبون على هذا السؤال: لا شك في ذلك، فقد ارتدوا وكفروا؟!
وهذا قياس جلي واضح وصحيح، فمن يغير حكم الله ﻷ على علم منه، أو يرفض حكمًا له سبحانه، أو ينكره، أو يخفي ما أمر الله به، يكفر لا محالة، مهما صلحت سائر أعماله، فمثلاً: أجمعت المذاهب الإسلامية على كفر من ينكر الزكاة وإن كان يقيم الصلاة ويحج البيت...
فيا ترى:
- هل كان الصحابة يعرفون أنهم سيكفرون إن أنكروا ما نص عليه الله ﻷ بخلافة عليا؟
فيأتي الجواب بأنه:
- لا شك في ذلك! فإنهم كانوا على علم تام بقواعد الدين وأصول شريعته، وهم الذين كفَّروا الأعراب الذين أنكروا الزكاة بعد وفاة الرسول ج، وسلّوا سيوفهم في وجوههم، والمعروف أن هؤلاء المرتدين - مانعي الزكاة - كانوا يؤدون الصلاة ويقيمون سائر شعائر الدين.
- إذن على ما افترضناه؛ فهل الصحابة أشد كفرًا أم مشركي مكة في الجاهلية؟!
- والجواب: لا شك أنهم كانوا أشد كفرًا من مشركي مكة؛ لأنهم كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، أي - والعياذ بالله - كانوا أهل نفاق، والمنافق أخبث من الكافر ولهذا جعله الله في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا ١٤٥﴾ [النساء:145].
وهنا سؤال يطرح نفسه:
يا ترى؛ متى يظهر النفاق في المجتمعات؟
- والجواب: أن النفاق يظهر إذا قويت شوكة الإسلام وسيطر المسلمون على قواعد الحكم، فمثلاً: في العهد المكي كان الإسلام يرزح تحت نيران الظلم والطغيان، وكان المسلمون ضعافًا لا يقدرون على شيء، فكان جمهور الناس مشركين كفارًا، إلا تلك الفئة المؤمنة، ولم يظهر النفاق هناك لكن يوم أن ظهر الإسلام في المدينة وقامت الحكومة الإسلامية عرف المجتمع لونًا جديدًا من الناس؛ كفار يكرهون الإسلام ويكيدون له ويبطنون حقدًا عليه لكنهم يظهرون الاستسلام التام لدين الله ﻷ، وهم: المنافقون.
وآن لنا أن نتساءل الآن:
- هل كان للإسلام قوة وشوكة في أول عهد أبي بكر الصديق ا؟..
- نستشف الجواب من خلال ما يزعمه علماء الشيعة أنفسهم؛ أنه لم يكن للإسلام قوة وشوكة يومذاك، فهم يقولون: لقد ارتد الصحابة كلهم.
فهل يمكن أن نزعم بعد ذلك أن الصحابة خافوا من علي ا وأربعة أشخاص كانوا معه فنافقوه؟!
ولو كانوا يخافون عليًّا ا لَـمَا تجرؤوا على اغتصاب حقه!
ويجب ألا ننسى أن أوضاع المسلمين الداخلية، وأوضاع الجزيرة العربية بشكل عام كانت متدهورة جدًا يوم أن تولى أبوبكر مقاليد الحكم، وقد ارتدت قبائل الأعراب، فلم يكن لأبي بكر أن ينافقهم!
من جهة أخرى، يزعم علماء الشيعة أنه حضر جمع غفير من الناس في غدير خم، وشهدوا تلك الجلسة المشهودة التي اختار فيها النبي ج عليًّا ا خليفة من بعده، ونص على ذلك. وهم الذين يزعمون بعد ذلك أنه يوم أن اغتصب الصحابة حق علي لم يعارض ولم يدافع عن حقه إلا أربعة أشخاص إلى اثني عشر شخصًا حسب رواياتهم المختلفة:
فإذا كان الأمر على ما يزعمون؛ فإن ذلك يعني أن الجو العام كان يعادي عليًّا ا، فلا نجد دليلًا لبروز ظاهرة النفاق.
زد على ذلك، أن الوضع السياسي العام لم يكن مواتيًا للمسلمين: فقد ظهرت مجموعة من الناس في اليمن وفي سائر أنحاء جزيرة العرب يدعون النبوة، وكان الإسلام في خطر جسيم من أمرهم.
ففي مثل هذه الأوضاع المتدنية - بالنسبة للمسلمين- والظروف المواتية - بالنسبة للأعداء- كان لابد للمنافق أن يستغل الموقف ويقلع شجرة الإسلام من جذورها، ولا سيما إذا كان الحكم بيده، ولا شك أنه لن يفرط في مثل هذه الفرصة الذهبية، لكننا نرى خلاف ذلك تمامًا:
فها هو أبوبكر يفدي دين الرسول محمد ج بماله وروحه.
فبماذا يمكننا أن نفسر ذلك؟!
من هؤلاء الصحابة - الذين يتفوه الشيعة بكفرهم ويرميهم بالردة والزندقة والنفاق - من يقذف نفسه بالمنجنيق وراء أسوار قلعة الكفار، ليسقط على بحر من رماح الأعداء وليستقبل آلافًا من سيوفهم بصدره، عسى أن يفتح الباب لإخوانه من المسلمين، دفاعًا عن هذا الدين المبين، ويكتب الله له بإخلاصه وصدقه مع ربه أن يفتح الباب، وقضى سبعمائة منهم شهداء في تلك المعركة الضروسة والتي شنوها على مسيلمة الكذاب! وغيرها من الوقائع العظيمة والبطولات التي تزخر بها كتب التاريخ وقعت في تلك الأيام القلائل التي حكم فيها أبوبكر الصديق ا.
فيا ليت شعري: من أجبرهم على الدفاع عن دين محمد ج؟!
فإن المنافق لا يتجرأ على الخوض في مثل هذه المواقف، ومن له أدنى صلة بالآيات القرآنية ويؤمن بها - ولو شكليًّا - لا يستطيع أن ينكر أن المنافق لا يتمتع بتلك الجرأة والشجاعة التي تطلبها الشهادة، بل إنه يغتنم أية فرصة للتنكيل بالإسلام والمكر به.
فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ ٨٣﴾ [التوبة:83].
وكلنا نعرف بأن الصحابة الذين يكفرهم الشيعة، هم الذين رافقوا النبي ج في جميع الغزوات وقدموا أرواحهم رخيصة بين يديه ج، وفدوه بأموالهم وأنفسهم وآبائهم وذرياتهم.
وها هو المولى ﻷ يصف المنافقين بغير ذلك تمامًا: ﴿هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ ٧﴾ [المنافقون:7].
وقد كان أمام أبي بكر عدة خيارات:
هنا أهل المدينة.. وهناك أهل مكة.. والأعراب في كل جانب.. والروم والفرس يرحبون به إن طغى.. ومسيلمة الكذاب:
لكنه مع كل هذه الفرص الذهبية التجأ إلى حضن الإسلام. ليس هذا فحسب؛ بل قاتل الكفار بكل ألوانهم وأشكالهم، وليس هذا فحسب؛ وإنما اقتلع جذور الكفر والشرك من جزيرة العرب. هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد أثبته التاريخ وصدقه، وحتى الشيعة أنفسهم يقرون بأن أبابكر وعمر قدموا للإسلام خدمات جليلة.
وقد ظهر للعيان - بما لا يستطيع أحد إنكاره - أن الصحابة في تلك الأوضاع الصعبة والظروف المستعصية التي عاشتها الفئة المؤمنة والجزيرة العربية، استطاعوا بجدارتهم وحسن تفانيهم وصدقهم مع الله أن ينجوا سفينة الإسلام من بين تلك الأمواج المتلاطمة لترسو على شاطئ الأمان.
وقد سجل لنا القرآن الكريم بكل وضوح أن المنافق لا يساند الإسلام البتة، ليس هذا فحسب، بل إنه إن وجد فرصة للنيل من الإسلام استغلها في القضاء عليه.
وقد أثبتنا أن مثل هذه الفرصة سنحت لأصحاب الرسول ج، ومن هنا لا حالة أننا نصل إلى:
أنه يجب علينا أن نشهد ونقر موقنين، بأن الصحابة لم يكونوا منافقين، وإنما كانوا أبطالاً مجاهدين دافعوا عن حظيرة الإسلام وقدموا أرواحهم رخيصة لله ﻷ، وسطروا على صفحات التاريخ قصصًا من بطولاتهم وشجاعاتهم لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولن يشهد.
هذه حقيقة تاريخية ثابتة لا ينكرها إلا جاحد أو مماحك، ولا يتجاهلها إلا من يعادي الحق المبين...
فبما أن الصحابة لم يرتدوا عن الإسلام، ولم يدخلوا في زمرة المنافقين - كما سبق أن شرحنا وبسطنا الكلام - فلا يمكن أن يتغاضوا عن حكم الله ﻷ في خلافة علي ا بعد الرسولج، أو يتجاهلوه أو يغتصبوها منه.
ومن يزعم ذلك يجب عليه أن يجيب على كل هذه التساؤلات، ويبحث عن حل لكل هذه الأسئلة الحائرة.
هذا المبحث يسعى للكشف عن موقف الشخصية الثانية لهذه القصة، وهو ذلك الرجل الذي يزعم من يدعون أنهم أتباعه بأن حقه قد غُصب!
وسننقل مواقفه تجاه من اغتصب حقه - كما يزعمون - عن المصادر التي يعترف بها أتباعه من كل الفرق والاتجاهات.
يقر الجميع بأن عليًّا لم يسل سيفا ولم يطالب بحقه الذي وهبه الله إياه، ونص عليه الشرع المبين، وبقي طوال 25 سنة صامتًا لا يطالب بحقه المشروع! فلماذا؟!
يذكر علماء الشيعة - حسب ما أعلم - دليلين لتأويل هذا السكوت المريب:
الدليل الأول:
سكت علي ا مخافة أن تحدث فتنة تقتلع جذور الدين الجديد الذي لم تثبت دعائمه بعد، فآثر مصلحة الإسلام على مصلحته الذاتية، ولو طالب بحقه وخالف الناس فيما هم فيه لحدثت فتنة لا يعلم مداها إلا الله ولعلها كانت تقضي على الإسلام كله.
الدليل الثاني:
لم يكن سيدنا علي ا يملك قوة كافية ليطالب بها حقه، فاضطر للسكوت، وآثر الصمت أمام أعدائه.
ولعل لهذه التأويلات ملمح لمعنى آخر وهو: أن الخلفاء الذين سبقوا عليًّا -رضي الله عنهم أجمعين- قدموا خدمات جليلة للإسلام، وهذا يعني أنهم كانوا فتية مؤمنة غيورة على دينها، سعوا إلى رفع راية الإسلام وإعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله، وقد أدوا دورًا عظيمًا وقاموا بأعمال جليلة استصغر أمامها سيدنا علي ا ذنبهم في اغتصابهم الخلافة منه، فسكت عنهم.
إذا غضينا الطرف عن التناقضات التي تظهر في هذا الدليل - على أقل التقادير - يثبت شيء واحد وهو؛ أن الصحابة لم يكونوا منافقين ولا مرتدين، وإنما كانوا رجالاً صالحين نذروا أنفسهم لهذا الدين المبين.
فبعد ما ثبت لنا هذا، وظهرت لنا حقيقة الأمر: فكيف يمكننا أن نفتري على هؤلاء الأبرار ونقول بأنهم كانوا عصابة مجرمة عصت ربها وخالفت أمره ـ؟!
وكذلك الدليل الثاني الذي يزعم أن عليًّا لم يكن يملك قوة كافية يطالب بها حقه، لا يقف على قدم ولا على ساق، فهو كالدليل السابق ضعيف لا يستند إلى شيء من البرهان، وذلك:
ليست القوة شرطًا أساسيًا في المطالبة بالحق وإقامة الشرع المبين وإصلاح ما أفسده الناس، أوَ لم يبدأ الرسول ج دعوته من الضعف المطلق؟ إذ كان رجلاً واحدًا دعا إلى الحق، ومع الزمن اجتمع حوله مجموعة من الناس وبعد فترة وجيزة استطاع أن يقيم دولة إسلامية قوية!
وهل إذا ضعف الإنسان ولم يقوَ على مجابهة الباطل فإنه يبقى طائعًا مختارًا تحت راية النفاق خمسًا وعشرين سنة؟!
لا، لا يمكن أن أتصور أن بطلاً همامًا مثل أسد الله علي ا، فاتح خيبر، وأشجع الشجعان يرضى لنفسه حياة الذل والهوان.
فهو الذي وقف سدًّا منيعًا لا يعرف الضعف ولا يلين قيد أنملة أمام أمير الشام -معاويةا- يوم أن تولى مقاليد الحكم، ولقد كان من الضعف بمكان ولم يكن بين يديه جيش مدرب متماسك، وكذلك لم تكن المصلحة تقتضي ذلك...
وقد رد على من أشار إليه بالسكوت على معاوية إلى حين - لأن جيشه قوي وعتاده كثير - رد الرجل الحازم الذي لا يلين: والله، لا أصبر عليه يومًا واحدًا.
هنا سيقول هؤلاء القوم بأن عليًّا لم يكن رجل المصالح وإنما كان رجل المواقف.. أي إنهم يرددون كلامنا.. وبذلك يعترفون ببطلان دليلهم الثاني دون أن يشعروا..
كان علي ا لا يبالي أن يقتل في سبيل الله مائة مرة في اليوم الواحد، فقد نذر نفسه لدين الحق، وهو أول استشهادي وفدائي في الإسلام، فهو أول من فدى الرسول ج بنفسه؛ فقد بات في فراش الرسول ج ليلة الهجرة، وقدم جسمه طائعًا مختارًا للرماح والسنان والسيوف.
وفوق هذا كله: كان علي ا يدرك تمامًا أنه إذا كان الحق معه فسينتصر لا محالة، إذ ترافقه معية الله ونصره الذي وعد به المتقين، فمن كان يشعر بالمعية الربانية وبنصره لا يخاف في الله لومة لائم، وهو كان يحفظ قوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩ ﴾ [البقرة:249].
يرى أكثر علماء الشيعة أن أية معصية حدثت بعد وفاة الرسول ج تعود حقيقتها إلى تلك الانحرافات الأولى التي حدثت عند رحيله ج إلى الرفيق الأعلى، وكثيرًا ما يرددون مقولتهم الشهيرة: إن عمر كان معصية من معاصي أبي بكر!
ومن هنا يقال بأن أبابكر يتحمل أوزار معاوية كذلك، فذنوب معاوية ومعاصيه ترجع إلى أبي بكر، ومن حيث المنطق والعقل لا غبار على هذا الاستدلال والقياس، وذلك لأنه إذا لم يكن أبوبكر قد اغتصب الخلافة من علي - حسب زعمهم - لم يجد يزيد مجالًا يسمح له بقتل الحسينا.
لا شك أن عليًّا كان يدرك أكثر منا؛ بأن أساس البنيان إذا بني بشكل خاطئ سرعان ما ستنهدم البناية، وأنه كان يدرك جيدًا بأن سيلاً من الأخطاء والضلالات ستظهر مع صمته هذا.
فيا ترى؛ لماذا سكت ولم يطالب بحقه؟..
لماذا لم يرفع سيفه في وجه هذا الطغيان والظلم الخطير، كما فعل ابنه الإمام الحسين ا؟ بل أكثر من هذا كله؛ لماذا وقف في صف هؤلاء الأشرار وساندهم؟
طالما يردد التاريخ على أسماعنا بأن سيدنا عليًّا كان من أبرز المستشارين للخلفاء الثلاثة، وعلماء الشيعة يفتخرون دومًا بمقولة عمر الشهيرة: «..لولا علي لهلك عمر».
ويستنتجون من ذلك بأن عليًّا كان من العلماء المشاهير، بل من أبرزهم.. وأنا كذلك أفتخر بعلم علي كما أفتخر بتواضع عمر، وقبل هذا وذاك؛ أفتخر بتلك المحبة والأخوة التي كانت بين أولئك السادة الأبرار، ورجال التاريخ العظماء.
وهذه الجملة تبين لنا: بأن عليًّا كان يسعى لصالح عمر ويعاونه ويوم أن قرر عمر بأن يخرج على رأس الجيش الإسلامي في معاركه في بلاد الفرس، وقف علي ا يقول: ... إذا خرجت معهم وهزمت أو قتلت ستنهار معنويات الجيش، لكنك إذا بقيت في المدينة تستطيع أن تعينهم بالمدد تلو المدد، كلما احتاجوا إلى ذلك[1].
أي: إن عليًّا كان يحرص على حياة عمر وصحته، ويتمنى له طول العمر. فهل يتمنى رجل مثل علي الحياة وطول العمر لمنافق مرتد غيَّر أحكام الله؟!
لا، أبدًا.. لم يكن علي يصنع ذلك.. فقد كان ا سيفًا مسلولًا على المنافقين والمرتدين، وكان عدوهم اللدود ولم يكن حتى يتكلم مع الكفار أبدًا.
زوّج علي ا ابنته لعمر ا، فهل يعقل أن يقدم رجل مؤمن باسل شجاع مثل علي على زواج ابنته من رجل منافق مرتد؟..
بالله عليكم فكروا مرة أخرى.
هل يعقل أن يقدّم رجل تقي بار شجاع مثل علي فلذة كبده إلى من بدَّل دين الله وغيّر شرعه المبين؟!
فإذا راجعنا مواقف علي ا من الخلفاء الثلاثة واستمعنا إلى الترهات التي يتفوه بها من يزعم اِتباع علي ا، لوجدنا تناقضًا كبيرًا لا يمكن تفسيره ولا تأويله، ولا تبقى حيلة أمامه إلا أن نقول:
o إما أن التاريخ يكذب، ولم تصدر مثل هذه المواقف منه ا تجاه إخوانه من الخلفاء.
o وإما أن ما يقوله الشيعة ليس إلا كذبًا وبهتانًا.
يتفق الجميع بأن ما ذكرناه عن علي ا قد حدث فعلًا - وإن كنا نرى بأن الصلات الأخوية ووشائج المحبة بين علي وإخوانه كانت أكثر بكثير مما ذكرنا - لكننا نكتفي بالحد المتفق عليه بين الفريقين. ولا يبقى مع ذلك إلا القول الثاني وهو: أن ما يقوله الشيعة ليس إلا كذبًا وبهتانًا.
أجل، هذه أكذوبة افتروها على التاريخ، وعلى هؤلاء السادة الأبرار..
هذه هي الحقيقة الثابتة التي توضح لنا ذلك التناقض وترفعه...
لا يستطيع عاقل أن يتصور؛ أن ينص الله ﻷ على خلافة علي بعد الرسول ج، ويقرر له سيادة الأمة وقيادتها، فيقوم علي - بناء على ما يرى - بتغيير حكم الله ﻷ ويتنازل عن حقه المنصوص عليه!
فالقضية هنا - حسب ما يزعمون - قضية الواجب لا الحق.. فقد كان يجب على علي ا أن يقيم شرع الله وحكمه، فقد أمره الله ﻷ من فوق سبع سماوات أن يقوم بالأمر.
من هنا يتضح للعيان خطأ ما يزعمونه من أن الصحابة اغتصبوا حق علي، وأنه سكت، وحينئذ يلزمهم القول: إن الصحابة صدوا عليًّا عن القيام بالواجب، فسكت علي على ذلك...
فهل يتجرءون على القول بمثل هذا؟!
يحاول علماء الشيعة أن يجيبوا على هذه النقطة فيقولون: لما بلغ الرسول ج حكم الله إلى عليا أضاف إليه قائلًا: يا علي، إذا لم تتفق كلمة الناس عليك وأخذوا يخالفونك، آثر الصمت والسكوت!
إذا قبلنا هذا التفسير منهم، فيجب أن نقبل كذلك بأن الله ﻷ لأول مرة وآخر مرة في تاريخ الكون أصدر حكمًا لكنه جعل تنفيذه مشروطًا بقبول الناس ورضاهم (!)
لم يجعل الله ﻷ أي حكم من أحكامه مشروطًا بقبول الناس ورضاهم، لا ينفذه المؤمنون إلا إذا وافق عليه الناس! بل أمر الله عباده المؤمنين أن يقيموا شرعه المتين وأحكامه الرصينة سواء رضي الناس بها أو لم يرضوا، حتى ولو وقف الناس في جانب وبقي مسلم واحد يدعو لأحكام الله في جانب آخر. وحتى ولو وقعت المعارك وأريقت الدماء فأحكام الله سارية المفعول لا محالة!
ولا نجد مثالًا واحدًا في التاريخ ألغى المؤمنون فيه حكم الله لأن الناس لم يرتضوه!
فإذا قبلنا هذا الكلام من علماء الشيعة يجب أن نقول بأن سنة الله قد اخترقت، تلك السنة التي لن تجد لها تبديلًا ولا تحويلًا[2].
فقد اتخذ علماء الشيعة هذه النقطة التي تزعم أن «حق علي قد اغتصب» مِشْجَبًا علقوا عليه مذهبهم، وجعلوها محورًا ثابتًا لا نقاش فيه، فاضطروا أن يخلطوا الحابل بالنابل ويلتجئوا إلى تلك التفسيرات والتأويلات التي لا تتلاءم مع العقل والمنطق السليم، ولم يكن يهمهم في سبيل الوصول إلى غايتهم أي شيء، حتى وإن جعلوا سنة الله تُختَرق ونظام الكون ينهار.
ولعل أحدهم يقول:
حسب قاعدة المصالح المرسلة يُعطل بعض الأحكام الإسلامية إذا وجدنا ضررها أكبر من نفعها، وقد شعر علي ا أن ثورته في وجه هؤلاء الطغاة ورفعه السيف قد يؤدي إلى أضرار جسيمة، لذا آثر الصمت وسكت.
ولنا أن نسألهم مباشرة: ما هي الفائدة أو الخير الذي نرجوه من أمة شابة لم تستقر دعائمها بعد، إذا قادتها فئة من المنافقين والمرتدين؟
وبعد هذا لا يبقى أمامنا سبيل إلا أن نقر بملء فينا أنهم لم يكونوا منافقين ولا مرتدين، ولا يليق بنا أن نتهم أولئك الأبرار المخلصين بأنهم خانوا دين الله وخالفوا أمره ـ وتجاهلوا النصوص القاطعة في خلافة علي ا.
لا يمكننا أن نقف أمام هذا التضاد وأن نجيب على هذا التناقض إلا أن نعترف موقنين بأنه لا أساس لمذهب التشيع، فلم يكن هناك حق ليضيع، ولم يكن سيدنا علي ا خليفة منصوصًا عليه من قبل الله ﻷ ولا من قبل الرسول ج.
وقد قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢﴾ [النساء:82].
فهذه قاعدة رصينة في معرفة الحق من الباطل، بها تميزت المذاهب والكتب الزائفة من المذاهب والكتب الصادقة، فكلما صادفت مذهبًا أو عقيدة يضرب أخماسًا في أسداس لإثبات مفاهيمه وتأويل تناقضاته، اعرف يقينًا بأنه؛ لا أساس لهذا المذهب أو تلك العقيدة في دين الله وشرعه المبين.
يأمرنا الله ﻷ في محكم كتابه أن نرفع السيف على رقاب الكافرين والمنافقين، في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ﴾ [التوبة:73].
ويأمرنا أن نشدد عليهم: ﴿وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ٧٣﴾ [التوبة:73].
ويأمرنا ألا نرافق جنائزهم ولا نصلي عليهم: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨٤﴾ [التوبة:84].
ولم تروِ لنا السيرة المطهرة ولا التاريخ الثابت المتفق عليه موقفًا واحدًا عامل الرسول ج أو سيدنا علي ا الصحابة الأبرار بمثل هذه الأوامر التي وردت في سورة التوبة، ومن يزعم شيئًا من ذلك فقد تجرأ على الحقيقة وبلغ في الكذب مبلغه.
هل يمكن أن يرشِّح عمر عليًّا ب ضمن أهل الشورى الستة - الذي كلفه لاختيار أحدهم خليفة من بعده - وعلي يكفر الصحابة كلهم؟
فقد اختار عمر ستة أشخاص؛ وهم من الذين مات رسول الله ج وهو عنهم راضٍ، منهم علي ا ليختاروا أحدهم خليفة للمسلمين من بعده.
وهل يعقل أن يؤمن علي بنفاق عمر أو كفره، وعمر يجعله أحد أهم مستشاريه يرجع إليه في مهام الأمور ويسمع لآرائه ونصائحه وقد يعمل بها؟..
خلاصة الكلام: أن عليًّا لم يجاهد الخلفاء من قبله.. ولم يغلظ عليهم.. وقد حضر جنائزهم، وصلى عليهم؛ وقام على قبورهم...
فإذا كان أولئك الخلفاء منافقين أو كفارًا، لابد أن يقولوا بأن عليًّا خالف أوامر الله ﻷ في الآيات المذكورة السابقة من سورة التوبة، فهل هناك من يتجرأ أن يتفوه بمثل هذا الكلام في حق علي ا...
والذين يزعمون أنفسهم من شيعة علي يقولون: بأن عليًّا سكت طوال فترة خلافة الخلفاء الثلاث حرصًا على وحدة الصف الإسلامي ومصالح الأمة.. فيا ترى؛ لماذا لا يقتدي هؤلاء بسيدنا علي ا في سكوته؟!
ما هي المصلحة أو الفائدة في إثارة مثل هذا الكلام بعد هذه القرون الطويلة، وقد انتقل أبوبكر وعمر وعثمان وعلي ي إلى الله ﻷ؟ لماذا أحيت هذه الفتن والمناقشات بعد ثلاثة قرون من الزمان؟
ألم يكن من الأفضل لكم وللأمة أن تقتدوا بعلي ا فيما تقولون: أنه سكت طوال هذه الفترة كلها استجابة لأمر الرسول ج، فلم يثر فتنة ولم يقد ثورة؟
كان الإسلام في أيام عثمان ا يتمتع بالقوة والشوكة وكان علي ا معه في الصف ساكتًا، فماذا دهاكم أنتم لأن تثيروا الفتن والإشاعات يوم أن ضعف الإسلام وخارت قواه؟ أليس من الأفضل أن تقتدوا بعلي ا وتسكتوا عن الأيام السابقة وتتركوا أمرها إلى الله ﻷ ليقضي فيها بما يشاء يوم توضع الموازين؟
من يتصفح التاريخ - أعني التاريخ المتفق عليه بين الفريقين والذي يقر به علماء الشيعة أنفسهم - قد يستغرب إذ لا يرى معركة دارت بين أسرة علي وأهل بيته، وأسرة عمر أو أسرة أبي بكر، ولا يسمع عن خلافات أو تشاحنات ظهرت بين أسرهم، وإنما يجد حبًا وولاءً ووئامًا وروابط اجتماعية وثيقة؛ فتعال معي لننظر إلى قضايا الزواج التي تعتبر رمز الحب والصدق والتقدير والتقارب بين الأسر:
ولنبدأ من سيدنا رسول الله ج:
زوّج الرسول ج بنتًا له لعثمان ا، ولما ماتت زوّجه الرسول ج ابنتَه الأخرى[3].
وزوّج الرسول ج ابنتَه الصغرى فاطمة الزهراء لعلي ا.
وتزوج الرسول ج عائشة بنت أبي بكر الصديق ب.
وتزوج الرسول ج كذلك حفصة بنت عمر ب.
وتزوج عمرُ ا أم كلثوم الكبرى بنت علي ب.
أم الإمام الصادق - الذي يعتبره الشيعة مؤسس مذهبهم - هي من أهل بيت أبي بكرا.
فقد ذهب الإمام السجاد - حفيد سيدنا علي ا - إلى بيت عبد الرحمن - حفيد سيدنا أبوبكرا- يخطب بنته لابنه الباقر، أي ذهب إلى بيت رجل اغتصب جده حق سيدنا عليا في الخلافة(!)، وقال له: جئت أطلب يد ابنتك أم فروة لابني باقر. وقد قبل عبدالرحمن - حفيد أبي بكر - هذه الخطبة وزوج بنته من ابنه.
ومن الجميل في الأمر كذلك؛ أن جدة الإمام الصادق -رحمهما الله- كانت حفيدة لأبي بكر الصديق ا، وكان الإمام الصادق - مؤسس مذهب الشيعة كما يقولون - يفتخر بذلك ويقول: ولدني أبوبكر مرتين؛ أي يرجع نسبي من قبل أمي إلى أبي بكر مرتين - أمي وجدتي -[4].
ألا تدل هذه كلها على أنه لم تكن هناك أية مشاجرات ولا تشاحنات بين علي وأبيبكرب، وأن قضية الخلافة المزعومة لا أساس لها، وإنما هي أوهام وخيالات أنجبتها قلوب مريضة ختم الله عليها؟ وليس لها أصل ولا حقيقة في واقع الأمر؟
ولا أتوقع أن يتنازل الجاحد والمعاند عن موقفه بقراءة ما سردته هنا، ذلك لأنه قد عرف أكثر من هذا وسمع أدلة أوضح مما ذكرت، ولكنه مع ذلك ظل على موقفه يناطح الحق ويساند الباطل.
تصوروا معي؛ هل هناك دليل أوضح على ما قلناه من أن عليًّا ا زوج ابنته التي لم تتجاوز إحدى عشرة سنة، تلك الفتاة التي أنجبتها بنت الرسول فاطمة الزهراء ل، بأكبر أعدائه ذلك المنافق المرتد المتغطرس؟! (أستغفر الله)... يزوج أم كلثوم فلذة كبده، وفلذة كبد بنت الرسول فاطمة الزهراء إلى عمر الذي تجاوز الخمسين من عمره[5].
فقد أصبح بعض من يزعم اِتباع علي «ملكيين أكثر من الملك نفسه!».
ولا أظنني أستطيع أن أصدق من يحرص على الملْك أكثر من الملِك نفسه، إلا إذا كان يخفي وراءه مكرًا ودسيسةً وخدعةً.
[1]- ذُكر في نهج البلاغة؛ خطبه 146، ص203: لما استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، فقال علي: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَلَا بِقِلَّةٍ، وَهُوَ دِينُ اللَّـهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ، وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّـهِ، وَاللَّـهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً، وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلَامِ عَزِيزُونَ بِالاجْتِمَاعِ فَكُنْ قُطْباً وَاسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ وَطَمَعِهِمْ فِيكَ ....». [المُصحح] [2]- ﴿ٱسۡتِكۡبَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا ٤٣﴾ [فاطر:43]. [3] وهما؛ السيدة رقية والسيدة أم كلثوم ب. [4] أما قوله ولدني أبو بكر مرتين لأن أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأم فروة أمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. [5] وقد اعترف ثقة الإسلام الكليني بزواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. انظر: (الفروع من الكافي للكليني 6/115، وكتاب: لئالى الأخبار للتويسركاني 4/92). وقد أفرد أبي معاذ السيد بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي كتابا سماه «الأسماء والمصاهرات بين أهل البيت والصحابة رضوان الله عليهم»، أورد فيه أسماء من تسمى بأسماء الخلفاء الراشدين - أبوبكر وعمر وعثمان - من أهل بيت الرسولج وأسماء من سميت بـ«عائشة» من نساء أهل البيت، والزيجات والعلاقات الأسرية التي كانت بين بيوتات أهل البيت وآل أبي بكر وعمر من خلال ما ثبت في المصادر الشيعية المتفق عليها لدى الشيعة أنفسهم!... (دار الإيمان للطبع والنشر، الإسكندرية. وتجد الكتاب كذلك في موقع المهتدون على شبكة الإنترنت). [المترجم]
يا ليت شعري؛ ماذا كان يرمي إليه من اغتصبوا حق علي ا؟..
ولماذا منعوه من أداء واجبه؟..
ولماذا ارتكب هؤلاء الجناة هذه الجريمة النكراء؟..
وإلامَ كانوا يهدفون من وراء هذه المؤامرة الدنيئة؟!
يزعم إخواننا الشيعة؛ أن جميع الصحابة وخصوصًا المقربين من أصحاب الرسول ج اشتركوا في هذه الجريمة، ولم يعصم منها إلا أربعة أشخاص - إلى اثنا عشر حسب اختلافاتهم هم - فقط.
وتعال معي لنبحث عن الدواعي الكامنة وراء هذه الجريمة الشنعاء...
في الوهلة الأولى: تشير أصابع الاتهام - عندهم - إلى أبي بكر وعمر وعثمان ي وغيرهم من كبار الصحابة ممن قادوا المؤامرة..
فيا ترى؛ ماذا كانوا يبغون من ورائها؟
الدنيا وزينتها؟..
لا، وألف لا!
يشهد التاريخ ويشهد قادة الشيعة وعلماؤهم - أمثال الخميني - أن معظم هؤلاء السادة آثروا حياة الزهد على نعيم الدنيا وقضوا حياة في نهاية البساطة والزهد ولم يستغلوا أموال الخلافة لمطامعهم الشخصية أو للترف.
ولعله يجدر بنا هنا أن نذكر قصصًا من حياتهم لنلقي الضوء على جوانب من حياتهم ومعيشتهم...
القصة الأولى:
دخل أبوبكر ا بيته في يوم من الأيام، فقدمت زوجته إليه طبقًا فيه قطعة من الحلوى. فسأل مستغربًا: ما هذا؟!
فقالت زوجته: كنت أستقطع من مصاريف البيت في كل يوم شيئًا وأدخره، حتى تجمع عندي مبلغ واستطعت أن أصنع هذه الحلوى.
فقال أبو بكر: إن المقدار القليل الذي كنت تدخرينه يوميًا، كان شيئًا زائدًا عن حاجتنا.
ثم أمر صاحب بيت المال أن ينقص من راتب الخليفة بقدر ما كانت تدخره.
القصة الثانية:
كان الرسول ج يتجهز للجهاد، فنادى في الصحابة بجمع المال لتجهيز الجيش، فجاء عمر بنصف ماله وقدمه للرسول ج. ثم جاء أبوبكر بماله كله ووضعه بين يدي الرسول ج لا يريد بذلك إلا وجه الله. فسأله الرسول ج: ماذا تركت لأهلك وأولادك؟ فقال أبوبكر: تركت لهم الله ورسوله...
من يتبع هواه ويعيش لدنياه يخاف من الموت.. لكن حياة الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- تمتلئ بالتضحيات وأروع صور الإيثار والتفاني، فإنهم لم يخافوا في الله لومة لائم، ولم يبخلوا يومًا بدمائهم في سبيل الله.
فقد ربى الرسول الكريم ج أصحابه على الزهد والتقوى والإخلاص، وقد نجح في تربيتهم فتخرجوا من مدرسته يحبون الموت في سبيل الله أشد من حب الكفار للحياة، وكانت حياتهم صورة رائعة من الزهد والتقشف يفتخر بها التاريخ، وهذا ما يقر به علماء الشيعة أنفسهم في حق معظم الصحابة إلا بعضهم.
ومما يثير الدهشة والاستغراب مآخذهم على سيدنا عثمان ا أنه كان يقدم أقاربه في المناصب وأنه خصص لهم هبات وهدايا سخية من بيت مال المسلمين.
لكنهم مع كل هذا لا ينكرون بأن عثمان مع كل ما كان يملك من الأموال الطائلة والثروات الهائلة كان يعيش حياة الزهاد، وهذا يجعلنا نتساءل:
إذا كان سيدنا عثمان ا مع ما يملك من الثروات الهائلة يؤثر حياة الزهد على حياة الترف، ولا يحيف في ماله الشخصي، فبالله عليكم؛ كيف يرضى أن يستغل أقاربه بيت مال المسلمين في الترف؟!
من يتق الله في ماله الشخصي، هل يتصور ألا يتقيه في أموال المسلمين ويتركها نهبًا لمطامع أقاربه؟!
لا نستطيع أن نقول إلا؛ أن التناقض يأكل أدلتهم كما تأكل النار الحطب!
وإذا كان قد حدث شيء من ذلك - إن ثبت - فلا شك أن عثمان لم يطَّلع عليه، فلا يمكن لمثل عثمان أن يرى أموال المسلمين تنهب ويظل ساكتًا لا يحرك ساكنًا!
إن التاريخ لم يشهد عزًا للمسلمين وخدمات جليلة قدمت له مثل ما قدمه الصحابة وأولادهم من بعدهم، وها نحن الذين نزعم بأننا نحن الذين نتبع الرسول الأمين ج بالحق دون غيرنا، ونحن الذين نحمل راية الإسلام الخالص خفاقة على العالمين (!)، ضيعنا كثيرًا من المكاسب التي اكتسبها أولئك الأبرار للأمة، فقد جعلنا الحدود الشمالية لإيران ثغورًا تفصل بين الإسلام والكفر، فهل نسينا أن الحدود التي وضعها الصحابة للفصل بين بلاد الإسلام والكفر كانت أبعد من ذلك بمئات الفراسخ.
وما ذهبت تلك الأراضي الإسلامية كلها أدراج الرياح إلا بتساهلنا وخنوعنا وذلنا وهواننا...
مع كل هذه التفاصيل هل يمكننا أن نتصور بأن فريقًا من المنافقين والمرتدين والخونة وأولادهم قدموا للإسلام خدمات جليلة خطيرة عجز التاريخ الإسلامي أن يصنع مثلها فيما بعد؟!
هل هذه الأعمال العظيمة والتضحيات الكبيرة لا تكشف ستائر التعصب عن عيوننا لنرى فيهم أبطالاً مؤمنين مخلصين رباهم الرسول ج وقدمهم في أجمل ثوب؛ ليكونوا أجمل النماذج البشرية وأطهرها للعالمين.
وإذا سألت يهوديًا: من أفضل اليهود؟
سيجيبك بلا شك: أصحاب موسى ×.
وإذا سألت نصرانيًا: من هم أفضل المسيحيين؟
يقول بلا تردد: حواريي وأصحاب عيسى ×.
وكذلك المسلمون يقولون: صحابة الرسول ج.
ولكن مع الأسف؛ ليس كل المسلمين؛ فالبعض منهم يفترون على نبيهم وعلى تاريخهم وعلى عز دينهم فيقولون: أخبث الناس في أمتنا أصحاب نبينا ج!!
وتعالوا نفرض جدلاً أن أبابكر وعمر وعثمان ي كانوا يسعون للوصول على كرسي الحكم، ويطمعون في الملك بعد الرسول ج...
فيا ترى؛ لماذا شاركهم سائر الصحابة في هذه الجريمة الكبيرة التي قضت على آخرتهم لدنيا غيرهم؟
فبقية الصحابة لم يكن لهم من الملك شيء، فما الذي ماذا جعلهم يكفرون بحكم رسولهم ويتجاهلون أمره الصارم بعد وفاته مباشرة، ثم في اليوم التالي يحملون السلاح ويدافعون عن حرمات دين الرسول ج، ويسقطون شهداء في المعارك الدامية مع مسيلمة الكذاب؟!
فهل كان أبوبكر يرشيهم، أم أنهم كانوا مرتزقة يعملون لدى أبي بكر ا، أم أنه كان يغريهم بالمناصب؟!
وقد شهد الجميع بأن أبابكر وعمر لم يأكلا من بيت مال المسلمين ولم يتركاه نهبًا للطامعين...
فكان يجب ولابد لمن يفتري على المهاجرين والأنصار بمثل هذه الجريرة، ويتهمهم بمثل هذه الكبيرة أن يبحث لهم عن دوافع وحوافز لمثل هذه النزعات الشيطانية.
لكن هيهات لهم ذلك؛ إذ لم تترك دماء الصحابة التي أريقت في سبيل شجرة الإسلام، وزهدهم في الحياة، واتباعهم للرسول ج في تعاليمه لهؤلاء المفترين ثغرة يطعنون من خلالها في أعراضهم، فأصبحوا يهتفون عن فراغ في الفراغ...
ومرة أخرى نتساءل:
ولو فرضنا جدلاً أن كبار الصحابة - لأسباب مجهولة - ارتكبوا هذه الجريمة، فيا ترى؛ لماذا سكت الشعب من عامة الناس الذين حضروا غدير خم في سقيفة بني ساعدة؟! ماذا كان وراء هذا الصمت العجيب؟ هل نسي كلهم ما دار في غدير خم؟
وفيما يرى الشيعة أنه لم يكن بين غدير خم ووفاة الرسول ج إلا سبعين يومًا، فهل نسي سبعون ألف إنسان ما دار قبل سبعين يوم في غدير خم؟!
يزعم الشيعة أن الرسول ج اختار في غدير خم عليًّا خليفة من بعده، وأبلغ الناس بذلك، وفهم الناس كلامه وأدركوه وقاموا يباركون عليًّا بذلك!
وإننا نتساءل: لماذا لم يقم واحد من أولئك يقول لهم: أيها الناس، ألم يختر رسول الله ج عليًّا خليفة من بعده؟!
فهل لنا أن نصدق؛ بأن الناس كلهم أجمعوا على مخالفة أمر الرسول ج، وعلى التخلي عن واجبهم تجاه خليفته المختار؟
والله لا نستطيع أن نصدق هذا الكلام؛ لأن أولئك الناس أنفسهم قاموا - بأوامر من أبي بكر وعمر - يقاتلون في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم، ففتحوا بلادًا لم تكن آمنت من قبل؛ فتحوا بلاد فارس واليمن ومصر وبلاد الروم...
ولو أن خطيب مسجد كان يعظ الناس ويأمرهم بالتقوى والاستقامة على الدين، ثم هو نفسه يقود الناس ليلاً إلى قطع الطريق ونهب أموال الناس. وفي اليوم التالي يعود ليخطب في الناس ويذكرهم بالتقوى والصلاح.. فهل سوف يتأثر الناس بكلامه ويسمعون له؟
فإذا كان الناس قد رأوا بأم أعينهم أن أبابكر وعمر اغتصبوا حق علي ا، وضربوا بقول الرسول ج عرض الحائط، فهل كانوا سيخرجون تحت راياتهم لفتح البلاد والدعوة إلى دين الله بأمرهما؟
هذا أمر لا يتصور حدوثه.
لعل هذا السؤال طرح أمام منظري المذهب الشيعي، فلهذا علَّلوا في بعض كتاباتهم عن سبب تجاهل الناس خلافة علي ا بأن قالوا:
«كان علي ا يعدُّ قاتل آباء من أسلموا من الكفار في عهده، فلم يكن أقارب الكفار المقتولين يطيقون عليًّا ولا يستطيعون رؤيته».
وهذا كذب محض، وبهتان ليس له دليل، وجدل أجوف لا يقف على قدم أو ساق وذلك؛ لعدة أسباب:
1- لقد استوعب الصحابة هذه المسألة جيدًا، فضاعت بينهم صلات النسب، وبعد ما تمكنت فيهم صلات الدين كان منهم من قتل أباه الكافر أو أخاه وابن عمه ومنهم من استأذن الرسول ج في قتل أبيه المنافق.
2- وإذا كانوا يحملون حقدًا في قلوبهم فكان ينبغي أن يحقدوا على الرسول ج، كونه صاحب فكرة الولاء والبراء، وهو الذي أمر بقتل الكفار المحاربين.
3- هناك من قتل من الكفار أكثر من علي ا، فعمر ا كان يشير دائمًا إلى قتل الكفار والمنافقين، ويستأذن الرسول في ذلك، وجملته المشهورة: «دعني أضرب رأسه يا رسولالله، فقد نافق»، مازالت رطبة على لسان التاريخ.
4- قضى الإسلام على هذه النزعة الجاهلية؛ فلم يبق شيء منها في صدور أولئك الرجال الذين رباهم الرسول ج، فقاتل حمزة - سيد الشهداء – وحشي؛ يوم أن أسلم أصبح أخًا للمسلمين؛ له ما لهم وعليه ما عليهم. فالإسلام يجبُّ ويمسح ما قبله، ولم يحدث أن عيره أو عاتبه أحد بما كان من أمره في الجاهلية.
وكذلك فإن سيف خالد بن الوليد قطع رؤوس أفراد من الصحابة وقتلهم، لكنه يوم أن أسلم فرح المسلمون بإسلامه وعينوه قائدًا ورئيسًا لهم، ولم يعترض أحد على ذلك، ولم يقل أحد: كيف نرضى أن يكون من قتل آباءنا وإخواننا بالأمس رئيسًا علينا اليوم؟!
5- وكذلك - لو سلمنا جدلاً بصحة كلامهم - الذين كانوا يحملون في صدورهم على عليا أنه قتل آباءهم أو إخوانهم كانوا من أهل مكة وفي مكة، و لم يكونوا من أصحاب الرأي والمشورة، وإذا كان منهم أحد في المدينة أمثال أبي سفيان، فإن المصادر الشيعية تذكر أنه وقف بجانب علي يدافع عنه ولم يقل أن عليًّا قتل أصحابه. لكن عليًّاا اعتبر وقفته هذه وقفة رجل مغرض يسعى إلى إثارة الفتن في الصف الإسلامي!
فكما ترى يحمل هذا الدليل في نفسه ما يناقضه، فهل من ذكره لا يريد إلا أن يلتمس أي تبرير ليكرس رأيه ويضع فكرته الخاطئة في المقدمة؟! أم أنهم يبحثون عن الحق؟
وأحيانًا يقولون: خالفوا عليًّا، لأنهم كانوا يخافون عدله؟!
فيا ترى؛ من أي نوع كانت عدالة علي ا ليخافوا منها؟
فقد كان أبوبكر وعمر بشهادة الجميع رجلين عادلين. وحتى أن بعضهم يقولون: إن عليًّا يوم أن رأى عدل أبي بكر وعمر سكت ولم يطالب بحقه، هذا أولاً.
ثانيًا؛ إن من عاش تحت عدل محمد ج وخضع له لماذا يخاف عدل علي ا؟
فهل كان علي ا أعدل من محمد رسول الله ج؟..
لم تكن هذه المعاني بالنسبة للصحابة أمورًا غريبة، فقد ذاقوا الويلات من الظلم إلى أن سعدوا بالأمن في كنف الإسلام، وخضعوا بكامل اختيارهم إلى عدل الرسول ج، أليس الأنصار أنفسهم جاءوا إليه يرجونه أن ينتقل معهم إلى ديارهم - في المدينة أو ليثرب - ليحكم عليهم؟
يهمس البعض بأن الناس خافوا بطش عمر وسكتوا!
وهذا كذلك دليل لا يقف على برهان وذلك؛ لعدة أمور:
أولاً: لأن عمر لم يكن يملك جيشًا أو جنودًا.
وثانيًا: ليس عمر فحسب، وإنما المهاجرون كلهم لم يكونوا أصحاب سلطة ولا أصحاب قوة في المدينة، فقد كان الأنصار - أهل المدينة وسكانها الأصليين - بحكم الواقع أقوى منهم بكثير.
ثالثًا: ورد أن رجالاً من الأنصار أمثال - سعد بن عبادة - لم يبايعوا أبابكر ولا عمر إلى آخر أيامهم ولم يتجرأ أحد أن يحاسبهم.
فقد كانت حرية الرأي والكلمة من أساسيات الحكم الإسلامي، ولم يكن أحد يهاب أن يبدي رأيه.
القصة الثالثة:
قام عمر ا خطيبًا في مسجد الرسول ج، فوقف رجل في وجهه وقال: لا نسمع ولا نطيع!
فسأله عمر: ولم ذاك، يا عبد الله؟
فقال الرجل: إنك قسمت بيننا من مال الغنيمة، وأعطيت كلا منا قطعة من اللباس وإنها لا تكاد تكفي الواحد منا، وإنك رجل طويل ومع ذلك نرى لباسك على مقدار قامتك!
فنادى عمر ابنه عبد الله وقال له: أوضح لهم. فقام عبد الله وقال: إني أعطيت سهمي لأبي، فجمعه مع حصته وخاطه لنفسه.
فلم يكن أحد في تلك الأيام يخاف السلطان، فقد كان بإمكان أي رجل من عامة الناس أن يقوم ويصرخ في وجه الجميع: إنكم كذابون دجالون، الحق مع علي ا...
لكننا لم نر من قام في سقيفة بني ساعدة من أهل الشورى وصرخ بالحق الذي يزعمونه!
ولابد لكل عمل من دواعي وحوافز.. ولا بد لعلماء الشيعة أن يكشفوا عن تلك الدواعي التي غيرت مجرى التاريخ الإسلامي وكادت تقضي على الإسلام بعد ارتداد الرعيل الأول! كما يزعمون.
يعتقد علماء الشيعة أن الصحابة كانوا منافقين حتى قبل وفاة الرسول ج ويقولون: فُرضتْ الصلاة بإسبال اليدين - عدم وضعهما على الصدر في القيام - لينكشف سر من كان يضع صنمًا في كمه!
ويقولون: أراد الرسول ج في مرض موته أن يكتب شيئًا - عن خلافة علي ا - لئلا يضل الناس من بعده، لكن الصحابة تشاجروا ومكروا وحالوا بين الرسول ج وكتابة ذلك الأمر المهم.
ومن غير أن نطيل نقول بأن الأمر عندهم لا يخرج من صورتين: إما أنهم يقولون أن الصحابة كانوا منافقين قبل وفاة الرسول ج، أو أنهم قد ارتدوا بعد انتقاله ج إلى الرفيق الأعلى.
وهنا نناقش الأمرين معًا:
إذا زعموا أنهم كانوا ينافقون الرسول ج قبل وفاته...
فنقول: هذا بهتان جد عظيم، لا يصح أبدًا وذلك؛ لعدة أمور:
1- كشف الله ﻷ لرسوله ج عن أسماء المنافقين وأمره ألا يصلي عليهم وأن يقاتلهم ويتعامل معهم بالعنف والشدة. فلو كانت أسماء الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- في قائمة المنافقين، لم يكن الرسول ج ليقربهم منه ويتزوج منهم، ويستشيرهم في كل أموره!
2- لم يكن المنافقون يخرجون إلى الجهاد، وقد قال الله تعالى في حق الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسۡتَٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ ٨٦ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ ٨٧﴾ [التوبة:87].
وكذلك يقول فيهم: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ ٨٣﴾ [التوبة:83].
فقد وضح الله أن المنافقين لن يقاتلوا ولن يخرجوا مع الرسول ج إلى جهاد الكفار.. ولكنا نرى الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- كلما سمعوا نداء الجهاد أسرعوا إليه، ولم يكن مع الرسول ج غيرهم ليصحبوه في المعارك!
فهذه الآية مطرقة تضرب على رؤوس النائمين والغافلين، ألا تكفي هذه الآية في إيقاظ هؤلاء الجاحدين؟!
3- إذا قالوا بأن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا كلهم من المنافقين في عهد الرسول ج، فهم بذلك يطعنون في إرادة الله ﻷ، وكأنهم يقولون بجهلهم؛ إن إرادة اللهﻷ قد فشلت - والعياذ بالله - وذلك لأن من أهم الأهداف التي أرادها الله ﻷ من إرسال الرسول إلى الناس أن يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فقد قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢﴾ [الجمعة:2].
ففحوى كلامهم هذا أن دعوة الرسول ج قد فشلت!
ومن يزعم أن الرسول ج لم يستطع أن يربي مئات الألوف التي أظهرت له الإسلام إلا أربعة أشخاص - إلى اثني عشر شخصًا - فإنه يطعن في شخص الرسول ج وصدق دعوته دون أن يدري، فهذا الكلام يعني أن أقرب المقربين إلى الرسول ج من أزواجه وأصدقائه وأصحابه كانوا من زمرة المنافقين، أي أن الرسول ج كان محاطًا ببحر متلاطم من النفاق والمنافقين، وكان يتسايرهم ويتماشى معهم دون أن يغير شيئًا!
فهذه إهانة قبيحة وافتراء جد كبير على الرسول ج لا يقول به مؤمن.
فلابد أن نقر بالواقع ونقول: أجل، لقد انتشرت دعوة الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، وحكم المسلمون كل تلك البقاع، وقد ظهرت في صفوفهم - بطبيعة الحال - فئة قليلة من المنافقين.
إن من عيوب علماء الشيعة أنهم يقيسون الأمور بقياسات فارغة لتشتبه الأمور على عامة الناس:
فمثلاً إن قلت: لماذا تطوفون حول قبر الإمام الحسين ا؟
ولماذا أنتم تطوفون حول الكعبة؟!
وإذا سألتهم: كيف تكلم المهدي في المهد، وعاش إلى الآن أكثر من 1200 عامًا؟
يردون: لـمَ لا؟ مثله كمثل عيسى تكلم في المهد، وكمثل نوح تجاوز عمره 960 عامًا.
وكذلك إن سألتهم: كيف يمكن أن يكون أزواج الرسول ج وآباء أزواجه ج وأقرب المقربين إليه وأصحابه من المنافقين؟
يردون: لم لا؟ فقد كان ابن نوح وزوجته وزوجة لوط من الكفار!
وهذه ليست إجابات، وإنما سفسطة كلامية يحاولون بها خداع الناس وإضلالهم، فهل لهم أن يصغوا إلينا لعل الله أن يهدينا وإياهم إلى الحق الذي لا مرية فيه:
لقد عذَّب الله ﻷ ابن نوح وزوجته وأغرقهم في الدنيا أمام أعين الناس، في حين أن الله أكرم الذين تزعمون أنهم كانوا منافقين وجعلهم خلفاء رسوله ج بعد وفاته.
أمر الله نوحًا × أن يبتعد عن زوجته، كما أمر لوطًا × أن يترك زوجته في بيتها ليلاً ويخرج هو ومن معه ليشملها عذاب الله ﻷ، لكن محمدًا ج جعل أبابكر يرافقه إلى الغار ليصبح ﴿ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ﴾ [التوبة:40] وليسجل القرآن ذلك فخرًا له يتلى إلى يوم القيامة! ومات الرسول ج ورأسه بين سحْر ونحْر زوجته عائشة وأمر صهره أبابكر أن يصلي بالناس.
أجل، لم يتخلى رسول الله ج عن أصحابه إلى آخر أنفاسه. وهذا هو الفرق بينهم وبين ابن نوح وزوجات نوح ولوط.
وقد يقيس أحد ويقول: لأن زوجة لوط كانت كافرة فزوجة محمد ج كذلك كافرة، وإذا كان هذا دليلاً، فزوجته كذلك - أي صاحب القياس - كافرة!!
وهل يقول عاقل قياسًا: بما أن نوحًا عاش 1000 سنة - إلا خمسين عامًا - يستطيع كل من أراد أن يعيش مثله، وأنا سأعيش ألف عام!
هذه الترهات تشبه أساطير الأولين ولا تشبه الأدلة العلمية...
4- فوق هذا كله؛ إن زعمنا أن الصحابة كانوا منافقين قبل وفاة الرسول ج سنضطر إلى إنكار القرآن الكريم كذلك؛ وذلك لأن القرآن الكريم مدح الصحابة وذكر مناقبهم في مواطن كثيرة. ونذكر من تلك الآيات أمثلة من باب الاستشهاد لا الحصر.
نزلت سورة الفتح بعد صلح الحديبية وقبل وفاة الرسول ج بخمسة أعوام. وقد تصالح المسلمون والكفار في الحديبية واتفقوا على عدة بنود ووقعوا وثيقة صلح، ومن ثم نزلت في حق الرسول ج هذه الآية: ﴿لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٢ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا ٣ ﴾ [الفتح:2-3].
فتقدم الصحابة إليه يباركون له ويقولون: ما أسعدك يا رسول الله! فقد بيَّن الله ﻷ أنه غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنه سيتم عليك نعمته يوم القيامة، فماذا يصنع الله بنا يوم القيامة يا رسول الله؟
فنزلت قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٤ لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَئَِّاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٥﴾ [الفتح:4-5].
وهذا الحديث عن أنس بن مالك، ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما.
ولعل أحدًا يعترض ويقول: يا أخي، لو كنا نقبل أنس بن مالك أو البخاري أو مسلم، لم نكن بحاجة إلى كتابك هذا؟!
كلام سليم.. المفروض ألا نخرج في بحثنا هذا عن المصادر المشتركة التي نقبلها جميعًا، أي؛ القرآن والعقل.
نرجع مرة أخرى إلى القرآن الكريم؛ فها هو في نفس السورة - سورة الفتح - بعد عدة آيات يبين لنا كيف أن الله ﻷ أعلن عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا الرسول ج تحت الشجرة: ﴿۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا ١٨﴾ [الفتح:18].
وهذا هو القرآن بين أيدينا، وقد وهبنا الله ﻷ عقولاً لنفهم بها القرآن، فيا ترى؛ من هم الذين بايعوا الرسول ج وقد رضي الله عنهم وعلم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا؟!
ذكرت كتب التاريخ لدى الشيعة أنفسهم: «لما خرج عثمان إلى مكة ليفاوض قريشًا، عسى ولعله يستطيع أن يقنعهم بأن لا يمنعوا الرسول ج وأصحابه من أداء العمرة. أُشيع بين الناس أن أهل مكة قد قتلوا عثمانًا. فجلس الرسول ج تحت شجرة ونادى أصحابه وبايعه الجميع على قتال أهل مكة».
ولا يمكن أن يقول عاقل أن عليًّا ا كان وحده مع الرسول ج في تلك الواقعة، فالكل يقر بأن ألفًا وأربعمائة صحابي منهم أبوبكر وعمر كانوا يرافقون الرسول ج - حتى الشيعة أنفسهم لا ينكرون ذلك - وكلهم -ما عدا جد بن قيس- بايعوا الرسول ج. ومن هنا أصبح المسلمون يضيفون الجملة الدعائية: (رضي الله عنهم) بعد ذكر أسماء الصحابة، إشارة إلى هذه الآية: ﴿۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا ١٨﴾ [الفتح:18].
مرة أخرى ندقق في الآية الكريمة لنرى ماذا يقول الله ﻷ: ﴿۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا ١٨ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٗ يَأۡخُذُونَهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٩﴾ [الفتح:18-19].
ماذا تعني هذه الآية؟!
هذا هو الله ﻷ الذي يعلم السر وما أخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يخبر عن مكنون صدور الصحابة؛ ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ﴾ [الفتح:18]، ويمدح إيمانهم، ويبشرهم بالفتح المبين، ثمنًا لهذا الإيمان الراسخ والثبات الصادق ﴿وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا ١٨﴾ [الفتح:18].
فقد كان هذا أجر بيعتهم وثوابهم في الدنيا وما عند الله خير وأبقى. وفي الآية إشارة واضحة إلى الفتح الذي سيحققونه قريبًا في خيبر على اليهود، وإلى المغانم الكثيرة التي سيأخذونها؛ وقد تحقق لهم ذلك.
لما رجع الرسول ج من الحديبية وعزم على الخروج إلى خيبر أراد الذين تخلفوا عن الرسولج في الحديبية، الخروج معه، طمعًا في الغنائم، ولكن الله ﻷ أمر رسوله ج ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم[6].
ثم خرج مع هؤلاء المؤمنين الذين رافقوه في الحديبية إلى خيبر وهزم اليهود وأخذ مغانم كثيرة كما وعدها الله إياه.
تقول عائشة ل: لم نشبع من أكل التمر إلا يوم الحديبية.
حمدًا لك يا رب، نحمد الله ألف ألف مرة؛ أن علماء الشيعة لأجل أن يظهروا بطولة عليا ورشادته، يقرون بأن أبابكر وعمر كانا يحملان ألوية الجهاد في خيبر لكنهما لم يستطيعا أن يحققا نصرًا.
يستنبط من كلامهم أن هذه البشرى الربانية تشمل هؤلاء السادة - أبابكر وعمر وغيرهما - كذلك، وأنهم أخذوا مغانم كثيرة.
وإذا أخرج معاند رأسه وأنكر بجهله هذه الحقائق كلها، فنسأله: هل فتح علي ا لوحده تسعة قلاع مستحكمة من قلاع اليهود، أم أن الرسول ج وجيشه قد حاصروا تلك القلاع وقصموا ظهر اليهود إلى أن هزموهم بإذن الله؟..
وإذا زعموا بأن عليًّا وأربعة أشخاص كانوا معه، هزموا تلك الجموع من اليهود وفتحوا تلك القلاع المستحكمة، نقول لهم: فلماذا تقولون إذن أن عليًّا يوم أن اغتصب حقه لم يكن يملك قوة؟! فهذا الرجل الذي استطاع أن يقلع جذور جيوش يهودية كانت من أخمص أرجلها إلى مفرق رؤوسها في الحديد ويمسح ذكرهم من صفحات التاريخ، كان بإمكانه أن يرمي عمر وأبابكر وسائر الصحابة في البحر ويقلع جذور النفاق ويقضي عليهم عن بكرة أبيهم في لمحة بصر، فلماذا لم يصنع ذلك؟!
ولأنهم لا يجدون جوابًا على هذا التساؤل يضطرون إلى الإقرار بأن الرسول ج كان يرافقه مئات من المجاهدين في غزوة خيبر غير علي ا.
رجال ممن صدقوا الله ﻷ فيما وعدوه، رجال أيدهم الله ﻷ من فوق سبع سماوات، رجال سماهم القرآن الكريم مؤمنين صادقين. فهل من يؤمن بالقرآن الكريم يستطيع أن يطعن في الصحابة؟ أو يرميهم بتلك العبارات القبيحة إلى درجة أن يصفهم بالنفاق؟!
نرجو من إخواننا الشيعة الذين يؤمنون بالقرآن أن يجيبوا على هذا التساؤل.
فهذه الأدلة الواضحة التي هي أظهر من الشمس تصرح بشكل واضح لكل مؤمن بالقرآن أن الصحابة ظلوا متمسكين بإيمانهم وإخلاصهم إلى أن فارقهم الرسول ج وانتقل إلى الله ﻷ.
هذا ما يشهد به القرآن الكريم ويقر به العقل السليم وتقف معه جميع الشواهد والأدلة والبراهين.
والآن نعود إلى الصورة الثانية التي تزعم بأن الصحابة ارتدوا بعد وفاة الرسول ج، وهذا كذلك وجه لا يصح بتاتًا ولا يمكن أن نقول بأنه حدث، وذلك لعدة أدلة منها:
أ. هذا أمر يستحيل عقليًا، إذ لم تكن هناك أية دوافع لمثل هذا الأمر - وقد سبق أن ناقشنا فكرة الدواعي والدوافع أوالحوافز - ولنضرب مثالاً:
تصور معي أن ثلاثين ألف سيارة خرجت في رحلة طويلة في إحدى الطرق السريعة، ثم قرأت في الجريدة بأن كل هذه السيارات تعطلت فجأة، ما عدا أربع أو إثنتا عشرة سيارة! هل تصدق ذلك؟
وإذا قلت: قد يحدث ذلك. فلابد أن تبحث عن السبب.
ولما نزعم بأن ثلاثين ألف صحابي - عدد الصحابة الذين رافقوا الرسول ج في آخر معاركه - أرتدوا مباشرة بعد وفاة الرسول ج، لابد أن نذكر سببًا أو أسبابًا. وإلا فلا يمكن لعاقل أن يصدق كلامنا.
ب. قلنا في قصة الحديبية؛ أن الله ﻷ أنزل سكينته على قلوب المؤمنين وأقر إيمانهم، فقد قال تعالى في سورة الفتح: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٤ لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَئَِّاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٥﴾ [الفتح:4-5].
إن من ثمرة إنزال الله السكينة في قلوب المؤمنين هي أنه تعالى سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويكفر عنهم سيئاتهم. وأنه ﻷ يعتبر ذلك الجزاء فوزًا عظيمًا.
وهذه الآيات التي نزلت قبل وفاة الرسول ج بخمسة أعوام - كما ترى - تصرح: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡ﴾ [الفتح:4].
لم يقل الله ﻷ: (لينقصوا إيمانًا من إيمانهم) كما يزعم علماء الشيعة؛ فإنهم يزعمون أن في هذه الأعوام الخمسة أخذ إيمان الصحابة يتناقص إلى أن وصل إلى الصفر. أليس هذا تعارضًا قبيحًا مع النص القرآني الواضح؟!
نكتفي بهذين الدليلين، ونترك القارئ يحاسب بعقله السليم من يطعن في الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ويرميهم بالارتداد بعد وفاة الرسول ج...
وأنا أرى لزامًا أن أذكر هنا خطة ماكرة وضعها بعض علماء الشيعة، لكنني أرى من واجب العدل أن أشير بأنني لا أقصد بذلك أبدًا الإساءة إلى عامة الناس، فإن أكثرهم أناس صادقون، لا ذنب لهم إلا أنهم لا يعلمون من الحق والدين شيئًا وقد امتلأت صدورهم بالأفكار والمفاهيم الخاطئة التي بثها فيهم علماؤهم.
وكذلك لا أريد أن أطعن في نزاهة كل علماء الشيعة، فإن منهم طيبون يدركون الحق ولا يمنعهم من التصريح به إلا الخوف من تقلبات الحياة! وإنما أوجه خطابي إلى تلك الفئة من العلماء الذين يحاولون طمس الحقائق وإخفاءها عن عامة الناس.
فقد اخترع هؤلاء خدعة سموها «التقية»، يختفون خلف جدرانها كلما انتهت نبالهم ونفدت أدلتهم.
فمثلاً؛ في قضية تحريف القرآن، لما وجدوا أن أدلتهم لا أساس لها وبراهينهم لا محل لها من الإعراب أنكروا القول بالتحريف، في حين أن كتبهم تمتلئ بالروايات التي تقول بذلك وأن العلماء الذين يقولون بالتحريف يعدون من أئمة المذهب ورواده، ويجدون عندهم كل الاحترام والتبجيل!
وأنا أخاف أن يخرج منهم من يقول - من خلال خدعة التقية - بأن كاتب هذا الكتاب يفتري علينا، ويضع الشبه والافتراءات على ألسنتنا ثم يرد عليها، فكتابه وضع على مجموعة من التصورات التي اختلقها هو ولم نقل بذلك أبدًا، فلم نقل أبدًا أن أبابكر أو عمر أو غيرهما قد نافقوا، فقد كانوا رجالاً مؤمنين إلا أن الشيطان لعب برؤوسهم فاغتصبوا حق علي ا، ولو كان الأمر على غير ذلك فلم نعاشر سائر المؤمنين ونتعايش معهم، نتزوج منهم ونزوجهم بناتنا، نصلي على جنائزهم ونأكل ذبيحتهم ونصلي خلف أئمتهم؟..
لكن مهلاً...
هذا تناقض كبير؛ أن تزعموا بأن فلانًا كان مسلمًا صادقًا لكنه كان ينكر جزءًا من رسالة الرسول ج. قد يعد من لا يصلي مسلمًا ولا يقال عنه بأنه كافر ملحد، أما من ينكر الصلاة ويجحدها فهو كافر خارج عن الملة بالإجماع. وأنتم تقولون بأن هذه الآية نزلت في حق عليا: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٦٧﴾ [المائدة:67].
انظروا إلى مدى خطورة الأمر؛ فتفسيركم للآية يقول بأن الرسول ج هُدّد من قبل الله ﻷ إن لم يبلغ الناس أن عليًّا خليفته من بعده فكأنه ما بلغ رسالته، وأن الله يعزله عن مقام النبوة، هذا عمن لم يبلغ، فما رأيك فيمن عرف الأمر لكنه رفضه وتجاهله وأنكره وجحده وقام وجلس مكان علي ا؟!
تعتقدون أنه قد سمع أبوبكر وعمر والصحابة كلهم أن الرسول ج يصرح بخلافة علي من بعده وأنه يأمرهم باتباعه. وتزعمون؛ أن أبابكر وعمر والصحابة كلهم رأوا بأم أعينهم أن الرسول ج صعد على مرتفع من الأرض ورفع يد علي ا وقال كل ما تزعمون.
مع كل هذا لم يتبعوا الرسول ج ولا عليًّا، بل أنكروا الأمر كله؛ أنكروا أن يكون الرسولج قد قال ما قال، وأنكروا الحديث والقرآن، تجاهلوا قول الله ﻷ وأمر الرسول ج، فكيف تعدونهم مسلمين؟!
إذا أظهرتم بألسنتكم أنكم لا تكفرونهم فقد أثبتم كفرهم ونفاقهم من خلال ما تنسبونه إليهم من أعمال توجب الكفر. وكتبكم تمتلئ بالعبارات والجمل التي تصرح بكفر صحابة الرسول ج.
أما أنكم تصلّون خلف أتباعهم وتتزوجون منهم وتحضرون جنائزهم، فلأنكم تؤمنون بالتقية.
وإن لكم أن تجيبوا؛ لماذا تقومون بمثل هذه الأعمال مع ما تعتقدونه فيهم من الكفر والضلال؟!
اكشفوا للناس عن هذه التناقضات التي تظهرونها في أعمالكم وأقوالكم...
[6] قال الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُۖ فَسَيَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا يَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِيلٗا١٥﴾ [الفتح: ١٥].
من أهم الأمور التي يتشبثون بها، هي:
كيف يمكننا أن نتصور بأن الرسول ج يسكت عن أمر خطير كهذا، ويترك أمته كقطيع بلا راعٍ؟
ومن الأصول الثابتة التي لا تقبل النقاش عندهم؛ أن الأرض لا تخلو من حجة لله أبدًا، ومن هنا يقولون: «يستحيل أن يغير هذا الأصل الثابت بعد وفاة الرسول ج».
ويعضّون على هذا الأصل الثابت الذي لا يتزعزع(!) بالنواجذ ويرونه من البراهين القوية والأدلة الثابتة. لكننا على المنهج الذي اتفقنا عليه نحاول أن نبحث في هذه النقطة كذلك، لنرى هل يثبت هذا القانون عندهم أو تطرأ عليه التناقضات كسائر أدلتهم.
مع الأسف الشديد نرى بأنهم هنا كذلك وقعوا في التناقض والتضاد:
فهم يقولون من جهة؛ أنه يستحيل أن يخلو العالم من حجة لله ويبقى الكون من دون قائد، فمن هنا لا يمكن أن يبقى أمر مهم كخلافة الرسول ج مسكوتًا عنه. ومن جهة أخرى؛ نرى بأن العالم اليوم - حتى عندهم - يخلو من «الحجة»، وأن خلافة الرسول اليوم أصبحت أمرًا معلقًا لم يحل بعد! كيف ذلك؟
يقول علماء الشيعة أن الله ﻷ اختار عليًّا ا خليفة للرسول ج، واختار من بعده الإمام الحسن ثم الإمام الحسين ثم الإمام السجاد و... إلى الإمام المهدي، اثني عشر خليفة للرسولج.
ونحن نجاريهم في ذلك ثم نقول:
أين الإمام المهدي اليوم؟
لماذا تركنا الله ﻷ دون قائد يقودنا؟
وإذا كنتم ترون أن ترك الأمة من دون خليفة منصوص عليه من الله ﻷ يعد طعنًا في عدل الله ﻷ، فمن باب أولى يعد طعنًا في عدالته ﻷ أن يتركني ويترك أمثالي وأمثالكم ممن بَعُد عهدنا بالنبي ج دون راع يرعانا ودون قائد يقودنا ودون خليفة للرسول ج يقوم بيننا ويصلح أمرنا ويرشدنا نحو الحق!
لعلكم تقولون بأن الله ﻷ لم يتركنا هملاً، وإنما عيَّن الإمام المهدي الحي الحاضر يقودنا اليوم.
فيطرح سؤال نفسه: أين هو لنسأله عن الحق المبين، لئلا يبقى لنا في الأمر شيء؟!
بماذا ستجيبونني يا إخواني الشيعة؟ ألستم تقولون بأنه قد اختفى خلف ستائر الحجب ولا يمكننا الوصول إليه، ويجب علينا أن نرجع إلى القرآن وأحاديث الرسول ج وروايات الأئمة في حل مشاكلنا...
رحمكم الله وهداكم وإيانا إلى الحق المبين، فقد عدتم إلى ما نقوله...
تسمحون للإمام المهدي أن يختفي وراء ستائر الغيب ولا يعين لنفسه خليفة ويترككم من دون قائد يقودكم ولا ترون في ذلك طعنًا في عدالة الله ﻷ، فلماذا تنكرون علينا قولنا بأن الرسول ج لم يختر خليفة من بعده وذهب وقد ترك فينا القرآن والسنة، وترون في ذلك نقصًا وطعنًا في العدل الإلهي؟
بدأت الحكاية فيكم أن اخترتم للمهدي من ينوبه، ولعبتم بعقول الناس سبعين عامًا -متوسط عمر الإنسان - ولما لم تجدوا الساحة متلائمة لظهوره أطلتم عمره وأبطلتم وجود من ينوبه، وفي النهاية اتضح لنا جميعًا بأنه لا قائد يقودني أنا ولا قائد يقودك أنت أيها القارئ، ويجب علينا أن نجلس ونختار لأنفسنا في ضوء هدايات القرآن وقواعد السنة من يقودنا.
وهذا ما قام به إخواننا الشيعة أنفسهم، ويقومون به إلى الآن؛ فقد اختاروا الخميني قائدًا لهم، ثم اختاروا مجلس الخبراء - مجلس الشيوخ (مجلس خبرگان)-، [ومجلس الخبراء اختار خامنئي خلفًا للخميني]؛ فإذا كنتم ترون بأن المهدي حي وأمره مطاع فلا حاجة للانتخاب إذن، فمن نحن حتى نتجرأ على الله ونختار من عندنا من يقودنا والقائد المنصوص عليه من الله ﻷ بين أيدينا؟! فلما كان الرسول ج حيًا بين ظهراني الصحابة لم يكن أحد منهم يتجرأ على الترشيح أو الانتخاب، فقد كان الرسول ج يختار القادة بنفسه، وكان أمره مطاعًا لا يخالفه أحد من العالمين، إذ لم يكن الناس قد اختاروه نبيًا أو قائدًا لهم، فقد كان رسولاً مرسلاً مختارًا من اللهﻷ...
فطالما أننا نحن الذين نسمح لأنفسنا أن نختار من بيننا من يقودنا، لماذا لا نسمح للصحابة أن يختاروا من بينهم من يقودهم؟!
وهذا تناقض وتضاد واضح، فهم بعد ألف دليل وبرهان وجدل وصلوا إلى ما قلناه. ومن الطريف المضحك في الأمر أنه يوم أن مات الخميني في إيران لم يكن قد اختار لنفسه من يخلفه، ولعل ذلك كان بحكمة من الله ﻷ إذ جعله يخلع «منتظري» من خلافته، ويموت ولا خليفة له. فاجتمع عظماء إيران واختاروا قائدًا جديدًا لأنفسهم يدعى «خامنئي».
لم يستلم القائد الجديد «خامنئي» حكم قيادته لا من الله ﻷ ولا من الإمام المهدي ولا حتى من القائد الذي سبقه!!
هداكم الله يا إخواني! أو ليس إمامكم وقائدكم صنع ما ترونه محالاً؟ فقد قلتم أنه يستحيل أن يذهب الرسول ج دون أن يعين قائدًا يقود الأمة، وقد ذهب إمامكم ورئيس دولتكم دون أن يختار من يخلفه..
يقولون: «لم يختر الخميني خليفة لنفسه، لأن الدستور للدولة كان قد وضع، وكان هناك مجلس الشيوخ - مجلس الخبراء - وكان بإمكانهم أن يختاروا من يخلفه، وقد اختاروا».
فنتساءل: هل كان دستوركم هذا أدق من القرآن الكريم؟!
فقد أمر القرآن الكريم المسلمين أن يدبروا شؤون حياتهم بالشورى، وعلى أساسه اجتمع الناس بعد الرسول ج واختاروا من يخلف نبيهم، واتفق الجمهور على خلافة أبي بكر ا، ومن لم يرض به لم يقد ثورة ولم يستل سيفًا؛ إما أنه سكت، وإما أنه ترك المدينة طواعية.
لا أريد أن أدخل في متاهات السياسة، وإنما أريد أن أشير إلى أن الشيعة لا يمكنهم أن يعملوا حرفيًا بما يقولونه أو يتحركوا في إطار اعتقاداتهم حتى ولو وصلوا إلى الحكم؛ وذلك لأن التضاد والتناقض قد امتزج مع أساس اعتقاداتهم، والكل يدرك بأن الضدان لا يجتمعان ولا يمكن أن يتحقق شيئان متناقضان عمليًا في نفس الوقت، وإنْ حاولنا أن نجمعهما نظريًا في إطار التأويلات والتفسيرات والجدل المتكلف.
وليس ما قلته تفلسفًا للتهرّب من السؤال الذي طُرِح: «لماذا لم يختر الرسول ج خليفة من بعده»؟، وإنما أردت أن أبين التناقضات الموجودة لدى إخواننا الشيعة قبل أن أخوض في سرد بعض الأدلة التي تجيب على التساؤل السابق:
1) لم يترك الرسول ج أمته دون من يقودها، ودون من يرشدها، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد ترك الرسول بين صحابته قرآنا كُلِّف بإبلاغه من قبل الله ﻷ، وقد ظل القرآن طوال القرون الماضية وسيظل إلى يوم الدين كتاب هداية ورشاد للأمة، وهو كتاب سهل ميسر يفهمه الناس ولا تخفى عليهم أوامره، ولا يصعب عليهم إدراك قوانينه، وقد كرر الله ﻷ أربع مرات في سورة واحدة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ ١٧﴾ [القمر: 17-22-32-40].
ومن سمات هذا القرآن أن الله ﻷ قد تكفل بحفظه، فلا يمكن أن يعتريه عليه تحريف ولا تبديل، ولا أتصور أن أحدًا يناقشنا في هذا الأمر، فقد كان القرآن الكريم وسيرة الرسول ج وكلامه -الذي حفظه الصحابة في صدورهم ثم دُوِّن في الكتب الحديثية- مصابيح تنير الدروب أمام الأمة وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن الظلم والخطأ الواضح أن يزعم أحد أن الرسول ج ترك أمته كقطيع بلا راعي.
2) لقد أمر القرآن الكريم والسنة المطهرة المسلمين أن يتشاوروا في أمورهم، وقد قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ﴾ [الشورى:38].
وقد عمل الصحابة بهذا الأمر واختاروا من خلال الشورى من يخلف نبيهم، ووفقه الله في ذلك.
3) إذا دققنا النظر في الأمر ندرك كمال الحكمة النبوية التي تكمن في عدم اختياره ج من يخلفه من بعده:
فقد اختار الرسول ج في حياته في عدة مواقف من ينوب عنه. فمثلاً: إذا خرج للجهاد من المدينة، كان يختار من ينوب عنه على إمارة المدينة، وكان إذا أرسل سرية أو جيشًا ولم يخرج معه يختار لهم أميرًا، وإذا ارتكب أحدهم خطأ تبرأ إلى الله من خطئه، وقام بتعويض ذلك. وفي إحدى المعارك عين الرسول ج خالد بن الوليد أميرًا على الجيش، وقد هجم خالد على جيش الكفر وأنزل إليهم بأسًا يليق بشجاعته، وفي هذه المعركة أرادت بني جذيمة أن تقول: أَسْلَمْنَا فقالت: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فجعل خالد بن الوليد يقتل فيهم. ولما وصل الأمر إلى رسول الله ج، رفع يديه وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» مَرَّتَيْنِ[7]، ثم أمر الرسول ج أن تُدفع دية كل مقتول إلى أهله[8].
لماذا قال الرسول ج هذا الكلام؟ فلم يكن الأمر يتعلق به؟ فقد كان دم الرجل على ذمة خالد.
لا، ليس الأمر كذلك؛ لأن خالدًا كان أميرًا عيَّنه الرسول ج، أو بعبارة أخرى كان خليفته على جيشه، فأمره يُعد أمرًا من الرسول ج، وعمله يعد عمل الرسول ج؛ ولهذا لما أخطأ خالد ثار الرسول ج وأصلح خطأه مباشرة.
تصوروا معي لو أن خالداً كان خليفة اختاره الرسول ج ليخلفه بعد وفاته، وافترضوا أن هذا الأمر وقع بعد وفاة الرسول ج فهل كان أحد يستطيع أن يعترض على خالد الذي اختاره من لا ينطق عن الهوى، واصطفاه لخلافته من بينهم، بل إنه كان سيصبح هذا العمل شرعًا يقتدى به، وقانونًا لا يناقش. وتصوروا أن خالدًا كذلك كان يختار خليفة من بعده، وهو كذلك ارتكب خطأ واحدًا فيصبح قانونًا، وهلمَّ جرا.
لو استمر الأمر على هذا المنوال إلى يومنا هذا وثبت عن كل خليفة خطأ واحد، فتصور معي كم الأخطاء التي كان من الممكن أن تصبح قوانين ثابتة وشرعًا مطاعًا؟!
وقد أدرك الشيعة هذه الثغرة فحاولوا أن يرقعوها بأن جعلوا خلفاء الرسول ج معصومين(!)، وهذا رأي فاسد لا يصح أبدًا، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: أن ما حدث كان غير هذا، فقد صدر من خالد خليفة الرسول ج في تلك الواقعة خطأ أثار غضب الرسول ج.
ثانيًا: لا يمكن أن يكون المرء معصومًا إلا إذا اتصل بالوحي من الله ﻷ، وحتى النبي ج لو لم يكن متصلاً بالوحي كان من الممكن أن يخطئ؛ فمثلاً، فقد أراد الرسول ج أن يصلي على المنافقين ويقوم على قبورهم، فنزل الوحي يرشده: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨٤﴾ [التوبة:84].
وكذلك صحح الوحي موقفًا آخر للرسول ج في هذه الآية: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٤٣﴾ [التوبة:43].
وأمثلتها كثيرة في السيرة النبوية.
فقد اختار الله ﻷ نبيه ليكون أسوة لنا نقتدي به في حياتنا: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١﴾ [الأحزاب:21]، فكان الوحي يهذب أعماله ويصوبها ويصححها إذا لم تكن كما يريدها الله ﻷ ليكون الرسول ج نسخة من القرآن الكريم وليعيش حياة بشرية كما أرادها الله للأمة، فمن هنا نحن نقول بأن الرسول ج كان معصومًا، أي كان بريئًا من الأخطاء والمعاصي.
لكن خليفة الرسول ج لا يمتاز بهذه السمة، فمثلاً: لو كان علي خليفة منصوصًا عليه من الرسول ج فكان من الممكن أن يصدر منه خطأ - ولو واحد - ليكون شرعًا لمن بعده وقانونًا ثابتًا.. وهلم جرا، كما ذكرنا سابقًا..
وأخطر من هذا فمن الممكن أن تتعارض أخطاء الخلفاء تمامًا، حيث يعمل الخليفة اللاحق خلاف ما قام به السابق وكل هذه تصبح قوانين تحير الأمة وتجعلها لا تميز الحق من الباطل. فكان من الممكن أن يعمل الإمام الحسن عملاً كان الإمام علي يعارضه، أو يعمل الإمام الحسين ما لم يكن يرضاه الإمام الحسن، وهكذا.. كان سيظهر لنا مئات الأئمة والقادة كل يعمل بفتواه واجتهاده، وكانت الأمة ستضيع في متاهات هذه الخلافات التي تعتبر كلها قوانين ثابتة لا يمكن نقاشها في ظل عصمة القادة!
وهذا ما يعاني منه - فعلاً - التاريخ الشيعي، ويجب عليه أن يوضحه للناس: فلماذا حارب علي معاوية وصالحه ابنه الإمام الحسن؟
فاضطر علماء الشيعة أن يكتبوا كتبًا ويؤلفوا مجلدات ضخمة لتأويل هذا التضاد والتناقض الذي يواجهونه، وكل ما كتبوه لا يقنع القارئ اللبيب!
ولهذا لم يختر الرسول ج خليفة من بعده لئلا يحمل خطأه على الإسلام، فأصبحنا نحن المسلمين نرجع في كل قضايانا إلى القرآن والسنة الثابتة من الرسول ج، ولا نقدس رأي أحد من الناس مهما بلغ شأوه وشأنه، حتى وإن كان أبوبكر ا، فلا نبالي بقول أي إنسان إن خالف القرآن أو السنة، ولسنا نرى أنفسنا أتباعًا لأحد مهما كان، إلا القرآن والسنة النبوية الصحيحة.
حاول علماء الشيعة أن يتهربوا من هذه المعضلة، وهذا التضاد فزادوا الطين بلة ووقعوا في فخ خطير جدًا حيث ادعوا أن خلفاء الرسول ج كانوا معصومين أبرياء من الخطأ والمعاصي، وكانوا على صلة مع الله ﻷ «بالإلهام». وفرقوا بين «الإلهام» و«الوحي»، فالنبي عن طريق الوحي يستطيع رؤية الملك ويسمع صوته، ولكن الإمام عن طريق الإلهام يسمع صوت الملك ولا يراه، وبذلك أنكروا - دون أن يدروا - أن يكون الرسول ج خاتم النبيين، وأن يكون القرآن كتاب الله الكامل الجامع، أو أن يكون الدين قد اكتمل، وإن كانوا في ظاهر الأمر يعتقدون بالقرآن وختم النبوة!!
يأتي إنكارهم لعقيدة ختم النبوة من أنهم يؤمنون بأن الله ظل يوحي عن طريق ملائكته إلى خلفاء الرسول ج كما كان يوحي إلى خلفاء موسى ×، أما كيفية الاتصال فليس أمرًا ذي بال، سواء سميناه وحيًا أو إلهامًا أو فاكسًا أو هاتفًا، الذي يهمنا هو الهدف أو النتيجة.
المهم أنهم يقولون بفحوى اعتقاداتهم أن الهدايات الربانية والإرشادات الإلهية - أي دين الله، على خلاف ما نعتقده- لم تكتمل بعد، وظل الإلهام إلى الخلفاء - أي الأئمة - يكملها بعد الرسول ج. وهذا إنكار واضح لأصل «ختم النبوة»، و«إكمال أحكام الدين بالقرآن».
ويزيد الطين بلة أنهم يؤمنون بكتب مُلهمة من عند الله، أمثال: الجفر والجامعة والصحيفة الفاطمية.. فـ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾!
نشأ كل هذه المسائل نتيجة جَعْلهم خلافة علي ا مدار اعتقاداتهم ومحورها، وأوقفوا أنفسهم للدفاع عن هذا الأصل الثابت عندهم ولم يبالوا إن كان دفاعهم يؤدي إلى الطعن في رسالة الرسول ج وأنه خاتم الأنبياء والطعن في إكمال القرآن الكريم!
من هنا اتضح لنا لماذا لم يختر الرسول ج خليفة من بعده.
فخلاصة ما قلناه: لم يختر الرسول ج خليفة من بعده، ذلك لأن الخليفة لم يكن يوحى إليه، فلم يكن معصومًا من الخطأ، وكان من الممكن أن يخطئ فيُنسب خطؤه إلى الإسلام، لأنه اختير من قبل المعصوم ج.
ولا يمكن أن نقبل ما يزعمه الشيعة من أن خلفاء الرسول ج [أي الأئمة الاثني عشر] كانوا معصومين، وكانوا متصلين بالله ﻷ عن طريق الإلهام، لأن قبول هذا الكلام يعني إنكار ما قاله الله ﻷ في سورة الأحزاب: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٠﴾ [الأحزاب:40].
وإذا قلنا إننا نقبل الآية ونقول بنزول الإلهام على علي ا، فقد ناقضنا أنفسنا، ووقعنا في التضاد، ولا يمكننا أن نرضى بدين فيه التضاد والتناقض؛ لأن الله ﻷ قال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢﴾ [النساء:82].
أي إذا لم يكن من عند الله، فكان فيه الخلاف والتضاد لا محالة.
[7]- عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَب، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ج خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ج فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ ج يَدَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ». (صحيح البخاري، کتاب المغازي، باب بَعْثِ النَّبِيِّ ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، ج 5، ص 160، ح4339، وکتاب الأحكام، «باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْر أَوْ خِلاَفِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهْوَ رَدٌّ»، ج 9، ص 73، ح7189). [8]- انظر: سیرة ابن هشام ج2، ص430، ودلائل النبوة للبیهقي، ج5، ص 114.
ومن مآخذهم: لو لم يكن الصحابة يدبرون مؤامرة اتفقوا عليها وراء الكواليس، فلماذا أسرعوا في اختيار الخليفة وجثمان الرسول ج لم يُدفن بعد؟! فاستعجالهم في الأمر - قبل دفن الرسول ج - إن دل على شيء فإنما يدل على خدعة ومؤامرة دبروها بالليل؟!
لا ندري ماذا يقصدون بهذا الكلام؟ وماذا يعنون ببث مثل هذه الترهات؟!
فهل يقصدون من ذلك الضحك على عقول البشر؟ أم التلاعب بعقول الناس؟
فما تأثير الإسراع أو الإبطاء في تقرير مصير علي ا خليفة للمسلمين؟!
فهم يزعمون أن جميع الناس سمعوا الرسولج بآذانهم، ورأوه بأعينهم وهو يأخذ بيد علي في غدير خم ويجعله خليفة من بعده.
لكن في سقيفة بني ساعدة لم ينطق أحد ببنت شفة ولم يطالب أحد بحق علي، وحتى من عامة الناس لم يرفع أحد رأسًا ولا شكوى. فمن هنا نقول بأن الذين دبروا هذه المؤامرة المزعومة لم يكونوا يخافون بتاتًا من أن التأخير في اختيار الخليفة قد يؤثر سلبًا فيزداد حب الناس لعلي، إذ كل الناس حسب زعمهم اتفقوا على تنحية علي وتجاهل حقه.
وهل كانوا يتوقعون اقتحام جيش كان يعسكر على أبواب المدينة قد يهاجمهم دفاعًا عن علي، إن تأخروا في الأمر؟!
فليست هذه الترهات إلا نوعًا من التلاعب بأفكار عامة الناس وتشويه صورة صحابة الرسول ج الأبرار، فلم يكن يؤثر مثل هذا الاستعجال أو الإبطاء في أمر علي بشيء.
وتعالوا نتصور معهم لو أن أمر اختيار الخليفة تأخر إلى ما بعد دفن الرسول ج، فماذا كان بالإمكان أن يحدث؟
لا شك أن هذا الأمر لم يكن ليغير من الواقع شيئًا، كل ما كان عساه أن يحدث –حسب عقيدة الشيعة- هو أن عليًّا يقوم بين الخلائق ويذكرهم بما سمعوه بآذانهم ووعوه بعقولهم قبل سبعين يومًا من الرسول الأمين ج. لكن ماذا كان يؤثر قول علي في أناس رفضوا كلام الرسولج نهارًا جهارًا؟ ولا شك أنهم كانوا يضحكون على علي ا ويضربون بكلامه عرض الحائط. فهل من لم يوقر كلام الرسول ج، ولم يبدي له بالاً سوف يصغى لعلي ا؟!
فالشيعة يقولون بأن هؤلاء القوم - أي الصحابة كلهم - قبل سبعين يومًا بايعوا عليًّا وأقروا بخلافته واعترفوا بها، لكنهم في الشورى - في سقيفة بني ساعدة - بعد سبعين يوم فقط نقضوا عهدهم وخانوا وعدهم.
فماذا يؤثر وعظ علي في مثل أولئك الناس؟!
فمن لم يطع أمر الرسول ج، لا شك أنه لن يطيع عليًّا فيما يقوله، والشيعة يزعمون في مصادرهم أن عليًّا فيما بعد اعترض على الشورى وعلى اختيار الخليفة، وطالب بحقه، ولكن ذهب كل مساعيه أدراج الرياح ولم تغير من الواقع شيئًا، فبقي الأمر على ما كان.
إذن لم يختلف الأمر بالنسبة لسيدنا علي سواء عجل الناس في اختيار من يخلف رسولهم ج أم أجلوا، ولا ندري ماذا يعني من يثير مثل هذه الشبهة إن لم يكن يقصد من ورائها تضليل الناس وتشويش أفكارهم؟!
لكن حتى لا يبقى في صدورهم شيء، ولئلا يأخذوا من هذا الأمر ذريعة يخدعون بها الناس، نتصفح أوراق التاريخ ليتضح لنا سبب استعجال الصحابة في اختيار من يخلف الرسول ج:
اجتمع أحد قادة الأنصار وهو الصحابي الجليل سعد بن عبادة، مع بعض رجال الأنصار في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرسول ج، وتحدث معهم عمن يخلف الرسول ج، فاقترح عليهم أن يكون الخليفة من الأنصار، وبما أنه أكبرهم ومن قياداتهم فوجد نفسه جديرًا لهذا الأمر، ولم يكن اختيار الخليفة قد تطرق إلى أذهان المهاجرين، ولعل لو لا هذا الأمر الذي أحدثه سعد بن عبادة لكان أمر اختيار خليفة الرسول ج سيتأخر إلى بعد دفن الرسول ج.
لكن هذا الموقف المفاجئ من سعد بن عبادة جعل الجميع ينتبهون إلى أهمية الأمر وخطورته، وإلى ما عساه أن تحدثه مثل هذه الحركة من سعد، ولم يكن قادة المهاجرين وكثير من الأنصار يرون سعدًا جديرًا بمثل هذا الأمر، من هنا تحرك كثير من الأنصار وكبار المهاجرين لتدارك الموقف، فدخل قادة المهاجرين سقيفة بني ساعدة من دون دعوة مسبقة، ولا حتى برنامج مسبق، ومن دون خطة مرسومة أو مؤامرة مدبرة بليل - كما يزعمون - فحدث نقاش طويل وأخذ ورد في الكلام، لم يذكر خلاله اسم لعلي أبدًا؛ وكان سعد يصر على موقفه، لكن قادة المهاجرين أدلوا بدلوهم في بيان جدارتهم بالخلافة وأهمية اختيار الخليفة من قريش، واستطاعوا أن يقنعوا الجميع بما يرونه من وجه الصواب، ثم قام الجميع وبايعوا أبابكر الذي رشحه عمر وعرفه بأنه أولاهم وخيرهم جميعًا لهذا الأمر.
وبقي سعد يعارض، لكننا بعد دراسة واقع الأمر لا نجد إلا أن نقف في صف من اتفق الشورى باختياره خليفة للرسول ج، أي أبا بكر الصديق الذي اتفق الجميع على اختياره خليفة للمسلمين، دون سعد ودون غيره.
ويتضح لنا هذا الموقف أكثر من ذي قبل من وقوف جمهور الأنصار في صف أبي بكر.
أجل، هذا هو عالم التربية النبوية التي ربى رسول الله ج أصحابه عليها، فها هم الأنصار يدلون بآرائهم لاختيار رجل غريب عنهم - أي: من بلد آخر - ليكون قائدهم دون ابن عمهم الأنصاري، هكذا قضت التربية النبوية على التعصبات القومية والنزعات الجاهلية في ذلك المجتمع الطاهر النظيف. (واليوم في إيران -في بلد يهتف بالشعارات الإسلامية، ويرى نفسه حامل لواء الدين المبين- لا يمكن بحال من الأحوال أن يصعد مسلم من بلد آخر مهما علا شأنه على كرسي القيادة البتة).
ولو اجتمع الأنصار على ابن عمهم سعد بن عبادة ووقفوا بجانبه لم يكن للمهاجرين أن يرفضوا ذلك فلم يكونوا يملكون قدرة يواجهون بها الأنصار، فستصبح الخلافة للأنصار دون منازع.
ويا ليت من يتهم صحابة الرسول ج بحب الجاه والتعصب للقبيلة والنزوع إلى الأعراف والتقاليد العشائرية أن يدقق في موقف الأنصار هذا؛ كيف قدموا الخلافة التي كانت لقمة سهلة بين أيديهم إلى رجل من قبيلة أخرى بل ومن بلد آخر... فهل بعد هذا يستطيع عاقل أن يتهم الأنصار بالتغاضي عن أمر الرسول ج، ورفض خلافة علي ا، والوقوف بجانب رجل آخر اغتصب حقه.
حقًا استدلالهم يجعل الحكيم حيرانًا، وكأنهم يقولون: إن سارقًا كان يتصدق بما سرق ابتغاء وجه الله!
إذا كان الاستعجال في أمر اختيار الخليفة أمرًا مذمومًا، فلا يوجه اللوم إلا إلى سعد بن عبادة وحده، لا إلى الصحابة كلهم، وإن كنا لا نتجرأ نحن أن نلوم الصحابي الجليل سعد بن عبادة، بعد ما تبين لنا أنه لم تكن هناك أية مؤامرة ولا خديعة ولا مكر - كما يزعمون - وإنما كان اجتهادًا من سعد واقتراحًا قدمه إلى بني قومه وقبيلته، ولم يكن في الأمر استعجال ولا استغلال للموقف.
فقد كان مجتمعهم مجتمعًا راقيًا تحكمه التربية النبوية، وقد كانوا يرون في الموت رحلة إلى ما لابد منه، ويرجون للميت الخير وكانوا بعيدين كل البعد عن طقوس العزاء وتمزيق الثياب وضرب الصدور وشق الجيوب والصراخ والعويل وغيرها ويرونها من العادات والرسوم الجاهلية، ولم يكن جثمان الرسول ج مرميًا على الأرض، وإنما انشغل بغسله وتدفينه خيرة أهل بيته. ففي مثل هذه الظروف الهادئة - مع عظم المصيبة - لماذا نلوم سعدًا لو انشغل بأمر آخر؟!
ونتساءل: لماذا لم يحضر علي ا بنفسه إلى الشورى ليقف سدًا منيعًا في وجه تلك المؤامرة المزعومة، كان بإمكانه أن يحضر ويذكر الناس بما كان بينهم وبين رسولهم ج قبل سبعين يومًا في غدير خم. فلم تكن قضية الشورى وما كان يدور في سقيفة بني ساعدة سرًا لا يعرفه أحد، وكان بإمكانه أن يحضر مثل عشرات آخرين ويدلي برأيه ويطالب بحقه. فهل كان هناك أمر أهم من هذا؟
هل تكفين الرسول ج وغسل جثمانه - مع وجود أناس آخرين يقومون بهذا الأمر - أهم من ضلالة الأمة كلها؟!
فقد كان بإمكان علي ا أن يوكل أحدًا من أهل بيته ليقوم بتكفين جثمان الرسول ج ويذهب إلى الشورى ليتدارك الأمر. ولماذا لم يحضر هؤلاء الأربعة أو الاثنا عشر من أتباعه الصادقين إلى السقيفة، وإن كانوا قد حضروا فلماذا سكتوا؟ وأين كان بنو هاشم؟
ألا يدل كل هذا على أن هذا الادعاء لا وجه له من الحقيقة، ولم يدّع علي ا يومًا أنه خليفة منصوب من الله ﻷ، ولا أن الرسول ج قد اختاره خليفة من بعده؟
لعل أحدًا يقول: كيف يستطيع المرء أن يترك جثمان الرسول ج وينشغل بأمر كهذا، فهل كان علي مثل سعد لتصرفه الإمارة والكرسي عن تجهيز جنازة الرسول ج؟
والجواب: إن الخلافة ليست كرسيًا يحجز أو مقامًا يُطلب، وإنما كانت واجبًا كُلِّف به عليا بأمر من السماء، فطلبه عبادة وواجب لا يمكن لمثل علي أن يتهاون فيه، وكان ينبغي لعلي وهو يرى الأمة على الهاوية تكاد تنحرف فتضيع كل الجهود التي بذلها الرسول ج وتذهب رسالته أدراج الرياح أن يحضر إلى الشورى ليقول كلمته وليطالب بحقه أو بواجبه.
ولا يعد الاستعجال في اختيار القائد أمرًا مستهجنًا في أعراف الناس والدول، فلو كان كذلك لم تعلن الجرائد الحكومية والإعلام الرسمي في إيران عن اجتماع مجلس الشيوخ - مجلس خبرگان - مباشرة بعد وفاة الخميني واختيار «خامنئي» مرشدًا عامًا لإيران.
اجتمع أعضاء مجلس الشيوخ الإيراني على أجنحة الريح بعد وفاة الخميني مباشرة في طهران، ولم يحضروا على جثمان قائدهم وإنما اختاروا من يخلفه أولاً - والصحابة على الأقل ودَّعوا رسولهم وحضروا على جسده وقبَّلوه - حتى ابنة الخميني نفسه قبل أن تفكر في أبيها كانت تفكر في إمارة أخيها، ففي اليوم التالي من وفاة الأب وقبل أن يدفن صرحت لمراسل أمريكي: «... قال والدي بأن أخي يستطيع أن يخوض ميدان السياسة بعد وفاته...».
إذن لا يعد الإسراع في اختيار الخليفة الجديد عيبًا، ولو كان كذلك لم يكن علماء الشيعة ليقلدوا الصحابة فيه بعد أربعة عشر قرنًا من الزمن!
ويوم أن مات «الخميني» كان «رفسنجاني» هناك، فقام يخطب في نساء الأسرة يقول لهن: اُسكتن! ينبغي أن نفكر في حفظ النظام الذي أسسه «الخميني»!
نرى بأن الموقف الجليل الذي يبعث على الحزن والبكاء، إذا تعارض مع المصالح الخطيرة واختيار الخليفة تُمنع النساء عن البكاء والعويل رغم شغف الشيعة بالبكاء والعويل على الميت.
ونعيد مرة أخرى بأن موقف الصحابة لم يكن مع الإسراع في اختيار الخليفة، ولو لا موقف سعد بن عبادة واجتهاده الشخصي، لعل الأمر كان يترك إلى ما بعد دفن الرسول ج.
مع ذلك لم يهمل الصحابة جثمان الرسول ج؛ فقد رجع الناس من سقيفة بني ساعدة بعد عقد الشورى وانتظروا إلى أن حضر سائر الناس من أطراف المدينة والبوادي القريبة، وشاركوا جميعًا في دفن الرسول ج.
أيًا كان الأمر؛ فقد وصلنا في بحثنا هذا إلى أنه سواء كان انتخاب الخليفة قبل تجهيز الجنازة أو بعده، لم يكن يغير شيئًا في حق علي ا لأنه لم يكن مرشحًا للخلافة أبدًا. وزيادة على هذا، قد وضحنا بأن إثارة القوم لشبهة استعجال الصحابة في أمر اختيار الخليفة ليس إلا محاولة منهم لبث الشكوك وإثارة الشبهات حول الصحابة على أنهم تآمروا على اغتصاب حق علي ا، وعلى أنهم لم يبالوا بالرسولج وجثمانه الطاهر، وأنهم كانوا يحاكون المؤامرات تلو المؤامرات للقضاء على الإسلام!!!
يقول المولى ﻷ: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطَۡٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا ٢٩﴾ [الفتح: 29].
﴿وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ﴾ أي؛ أصحابه الذين كانوا يرافقونه.
فالله ﻷ أثنى على صحابة الرسول ج وذكر من أوصافهم أنهم ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ ﴾، وأنهم ﴿رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡ﴾.
ثم ذكر من صفاتهم أنهم يكثرون من الصلاة، فـ﴿تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا﴾، وأنهم لا يريدون بعباداتهم إلا وجه الله ﻷ، فهم ﴿يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا﴾، أي؛ أن الله ﻷ يشهد على إخلاصهم وحسن نواياهم..
ويزيد على ذلك: أن آثار الطاعة تظهر على معالمهم ﴿سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ﴾ وفي النهاية يبشرهم بما أعده لهم من المغفرة والرضوان ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا ٢٩﴾.
وفي هذه الآية كذلك شبه الله ﻷ صحابة الرسول ج بغرسة بدأت تنمو فصارت مع الزمن شجرة لها أغصانها وأوراقها، وقد أغاظ هذا النمو الكفار: ﴿وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطَۡٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَ﴾ ... هذه هي صورة تطابق الواقع تمامًا؛ فقد كان الصحابة والدعوة الإسلامية في كنف الرعيل الأول من أصحاب الرسول كغرسة وزرع أخرج شطأه في بداية أمرها، ثم ظهر أمرهم واستقام عودهم في المدينة، ومن هناك بدأ أمرهم يظهر يومًا فيومًا إلى أن فتحوا مكة، ومن بعدها خيبر واليمن، ثم دانت لهم الجزيرة العربية كلها ثم انطلقوا، ففتحوا إيران ومصر وبلاد الروم، وقد أغاظ أمرهم الكفار الذين يدبرون ويخططون دومًا للقضاء على شجرة الإسلام.
وقد استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن كل من يبغض الصحابة ويغيظه أمرهم فهو كافر. قال: لأن الصحابة يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر.
لعل أحدًا من الشيعة يثور فيقول: «أولاً أثبت أنك أخونا ثم طالبنا بالميراث! نحن من البداية ننكر أن يكون أبوبكر وعمر وغيرهما من جملة صحابة الرسول ج، ولا نقبل أن تكون هذه الآية نزلت فيهم».
لكن فيما يبدو لم يدرك هؤلاء أنه قد يسهل التلاعب بكل دليل إلا ما ينطق به القرآن الكريم، فها هو القرآن يفسر نفسه، ونحن نثبت من خلال آية أخرى أن أبابكر ا كان صاحب الرسول ج، وبعد ذلك لا يبقى أمامهم إلا أن يقروا بالحقيقة الثابتة التي تصرح بأن أبابكر كان صاحب الرسول ج.
يقول الله ﻷ في نص لا يمكن التلاعب به: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠﴾ [التوبة:40].
جاءت هذه الآية في سياق الهجرة النبوية حيث خرج الرسول ج من مكة واتجه إلى غار ثور يبتعد عن عيون قريش... وقد اتفق الجميع بشتى مذاهبهم ونزعاتهم أن أبابكر كان هو صاحب الرسول ج ورفيقه في الغار، وليس هناك خلاف إلا في نقطة جانبية؛ حيث يزعم أعداؤه أنه استعجل ولم يصبر واستولى عليه الجبن والخوف، أما محبوه فيثبتون أنه كان شجاعًا لا يخاف في الله لومة لائم، وقد كان في هذا السفر خير رفيق للرسول ج، يشاطره آلام الطريق ويرفع عنه شدته..
هذا كله لا يعنينا في هذا المقام، ولا هو ما نبحث عنه، وإنما المتفق عليه لدى الجميع أن أبابكر كان يصاحب الرسول ج في تلك الرحلة، فتشمله هذه الآية: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ...﴾ [الفتح:29].
فلا يتجرأ أحد أن ينكر بأن أبابكر كان رفيق الرسول ج وصاحبه، وذلك لأن الآية تصرح بذلك، ولأن التاريخ يقر ذلك. فلا ينكر هذا الفضل إلا جاهل عنيد، فها هي آية أخرى تثبت ما ذهبنا إليه: ﴿لَٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٨٨ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٨٩﴾ [التوبة:88-89].
ثم يبين الله ﻷ أن الفيء ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨﴾ [الحشر:8].
ولنا أن نسأل المخالفين: إذا كنتم لا تؤمنون بأن هذه الآيات نزلت في الصحابة، فبالله عليكم فيمن نزلت؟!
ها هو الله ﻷ يتحدث عن المهاجرين وعن المجاهدين و عن المؤمنين، فيا ترى؛ من هم الذين يصفهم القرآن الكريم؟!
فهل يزعمون بأن هذه الآيات كلها تصف أولئك النفر الأربعة الذين - فيما يزعم القوم - بقوا ثابتين على المنهج يساندون عليًّا ولم يرتدوا كما ارتد الصحابة كلهم؟! وهم: بلال وأبوذر وسلمان ومقداد ي؟!
ومما يثير أسفنا أن الآية لا تشمل بعضًا ممن يؤمن بهم الشيعة من الصحابة:
فمثلا؛ لم يكن بلال يملك مالاً ليخرج من ماله! فقد كان عبدًا اشتراه أبو بكر من خالص ماله، ثم أعتقه في سبيل الله.
ولم يخرج سيدنا أبو ذر من مكة؛ إذ أنه لم يكن من أهلها، فقد كان من أبناء البادية، تسكن قبيلته في الصحراء بعيدًا عن مكة، قدم إلى رسول الله ج، وبعد أن أسلم رجع إلى قبيلته ودعاهم إلى الإسلام.
وكذلك سلمان كان عبدًا لبعض اليهود في المدينة، ولم يخرج من مكة، ولم يجبر يوم أن أسلم على ترك بلده وماله، بل بعد أن أسلم سانده المسلمون واستطاع أن يشتري نفسه ويتخلص من رق العبودية.
لست - والعياذ بالله - ممن يهين الصحابة أو ينقص من شأنهم أو يشكك في مكانتهم، كلا، إذا لم يكن بلال ضمن من تعنيهم هذه الآية فهناك عشرات من الآيات القرآنية غيرها تتناول بلالاً كذلك، ويفخر التاريخ بقصص بطولاته في الثبات على التوحيد، تلك القصص التي لن تمحى عن ذاكرة التاريخ وتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.. وعلى نفس الشاكلة كان سيدنا سلمان وسيدنا أبوذرب.. وإنما ذكرت ذلك لأبين مدى جهل علماء الشيعة وابتعادهم عن القرآن الكريم، وعن مفاهيم آياته، فهم لا يستطيعون - أو لا يريدون - أن يدركوا ما تعنيه آيات كلام الله المجيد.
وبعد هذه البراهين المتينة نضطر أن نقبل الحقيقة الثابتة، ونقول بأن الآية تشمل أولئك الذين يتهمهم الشيعة بالكذب والنفاق، وأن القرآن - رغم ادعاءات القوم - قد زكّاهم واعتبرهم أنصار الله وأنصار رسوله ومصطفاه.
بل أكثر من ذلك قال الله تعالى فيهم: ﴿وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٢﴾ [الأنفال:62].
والكل يعرف أن الرسول ج لم يكن يخرج إلى الجهاد مع أربعة أشخاص - أو عشرة - فحسب!
كل من وهبه الله شيئًا من العقل أو قليلاً من الإخلاص أو لمحة من البصيرة لا يستطيع تجاهل مثل هذه الحقيقة الواضحة، وسوف يقر لا محالة أن هذه الآيات وما شابهها تصف جميع صحابة الرسول ج.
ومع هذا الاعتراف لابد أن يلزم نفسه على حب الصحابة وعدم عداوتهم وسبهم أو كرههم أو حمل الضغائن عنهم في صدره، ويلزم نفسه على العمل بهذه الآية الكريمة: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩ وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر:8-10].
وترى هذا الإنسان الذي فتح الله بصيرته على نور الهداية واليقين يقول دومًا: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر:10].
انظر وتمعن ودقق النظر في الآية ليتبين لك من هم الذين تتحدث الآية عنهم؟ ومن هم الذين لا تشملهم الآية؟ فالآية لا تشمل الذين يجدون في قلوبهم غلا للذين آمنوا من المهاجرين والأنصار أو تمتلئ صدورهم بالأحقاد والكره والضغائن عليهم...
اقرأ الآية مرة أخرى لترى ماذا تقول؟ وعمن تتحدث؟ ومن تخاطب؟
تقول الآية[9] أن مال الغنيمة مما أفاء الله على رسوله ترجع إلى أصناف من الناس الذين هم: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ثم تشرح وتوضح الأمور أكثر فتقول: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨﴾ [الحشر:8]. أي؛ كل الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
ويستمر الشرح: ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩﴾ [الحشر:9]. أي؛ كل الصحابة من الأنصار الذين استقبلوا من هاجر إليهم أجمل الاستقبال ورحبوا بهم أحسن الترحيب.
ثم في المرحلة الثالثة ذكرت الآية جميع المؤمنين الذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار - وهذه الدائرة الواسعة تشملني أنا وأنتم كذلك - إذا التزمنا بهذا الدعاء قولاً وعملا: ﴿وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر:10]. [9]- ﴿مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧﴾ [الحشر:7].
والآن القرآن! ذلك الكتاب الرباني الذي نؤمن به جميعًا.
أجل، القرآن ذلك الكتاب السماوي! معجزة الرسول الأكرم ج، ها هو يتحدث على الملأ عن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-.
فقد بينا في الصفحات السابقة عند حديثنا عن عدة محاور، نظرة القرآن الكريم إلى صحابة الرسول ج، لكننا فضلنا أن نخصص مبحثًا مستقلاً عن دفاع القرآن عن الصحابة، ووصفه لهم، حتى إذا بقي عند أحد شك أو ريب فيما نقوله، يجد جوابًا شافيًا في هذا المبحث.
يصف القرآن الكريم في العديد من الآيات، الصحابة الكرام بصفات جليلة، وقد رأينا أن نشير إلى بعض من هذه الصفات إشارات عابرة، لترجع إلى أمثالها في القرآن الكريم إن شئت المزيد:
قال الله تعالى: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨﴾ [الحشر:8]
أي؛ إن الذين أُخرجوا من بلدهم مكة ومن أموالهم ومن ديارهم احتسابًا وابتغاءً لمرضات الله، هم الصادقون.
فهل بعد أن سمعنا هذه الآية من الله ﻷ يحق لنا أن نقول: لا، إنهم كذابون؟!!
قال الله تعالى: ﴿لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧﴾
[التوبة:117]
ومن الطريف في هذه الآية؛ أن علماء الشيعة يقرون أنها نزلت في صحابة الرسول ج، لكنهم عادوا ليفسروها بطريقتهم الخاصة فقالوا: إن الإمام الصادق والإمام الرضا فسرا الآية، وقالا بأن المعنى الصحيح لقوله تعالى: ﴿لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ﴾ [التوبة:117]، هو: «لَقَدْ تَابَ اللهُ بِالنَّبِيِّ عَلَى الْـمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ...». ثم يبدأون في شرح الآية فيقولون: فقد كان الرسول ج معصومًا، فلم يرتكب ذنبًا ليتوب الله عليه[10]. ومن المستغرب كذلك أنهم يسمحون لأنفسهم أن يقرؤوا الآية بصورتها التي فسروها.
ودعنا نجاريهم فيما يقولون، فيخرج معنى الآية كالتالي: إذا كانت الآية لا تشمل الرسولج لأنه كان معصومًا لم يرتكب ذنبًا ليتوب الله عليه، لكنها - باعتراف منكم - تشمل الصحابة الذين ارتكبوا الذنوب فهل تنكرون ذلك؟!
إذن نستخرج من هذه الآية؛ بأن الله ﻷ قد غفر للمهاجرين والأنصار الذين كادت تزيغ قلوبهم من شدة الحر وهول المعركة، وأنه تاب عليهم لأنه كان بهم رؤوفًا رحيمًا، هذا باعتراف منكم وبما نسبتموه إلى من تسمونهم أئمتكم المعصومين، وبتفسير علمائكم.
وقياسًا على ما ذهبتم في أن الآية لا تشمل الرسول ج، لأنه كان معصومًا لم يرتكب ذنبًا ليتوب الله عليه، لابد أنكم تخرجون سيدنا عليًّا كذلك من دائرة من تشملهم الآية، لأنكم تؤمنون بعصمته كذلك، فهو لم يكن مذنبًا ليتوب الله عليه، فالآية بهذا المعنى نزلت في سائر الصحابة دون علي ي.
بعد ما عرفنا بأن الله كان بالمؤمنين رؤوفًا ورحيمًا، وبعدما عرفنا بأن المهاجرين والأنصار كانوا مؤمنين، حان لنا أن نعرف؛ بأن هذه الآية نزلت في غزوة «تبوك» لما خرج المسلمون لقتال الروم، وقد كانت هذه الغزوة قبل أن ينتقل الرسول ج إلى الرفيق الأعلى بعام واحد، ويذكر المؤرخون وعلماء السيرة أن عدد الذين رافقوا الرسول ج من صحابته كانوا 30 ألف مجاهد، لا أربعة ولا عشرة أشخاص، وهل يعقل أن يخرج الرسول ج بجيش قوامه أربعة أشخاص أو عشرة ليقاتل الروم!!، من يصر على هذا فله ذلك، ولا نستطيع أن نقنعه بالأدلة والبراهين، ولا يستطيع التاريخ أن يتحدث أمام مثل هذه العقول التي تنكر الشمس في رابعة النهار! [10]- الاحتجاج على أهل اللجاج لأحمد بن على، الطبرسي، ج1 ؛ ص76 (مشهد، ط1، 1403 ق).
قال الله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ١١٠﴾ [آل عمران:110]
فيا ترى؛ من هم الذين يخاطبهم الله عزوجل من خلال هذه الآية؟ من هم الذين يشملهم الخطاب القرآني هذا؟
يظهر من السياق أن الآية تخاطب المؤمنين الذين كانوا يعيشون في كنف الرسول ج وبجواره وفي زمنه، فتقول لهم: أنتم خير أمة أُخرجتم للناس، لأنكم تؤمنون بالله وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
يشهد الله ﻷ؛ أنهم كانوا خير الأمة وأفضل رجالاتها..
ويشهد فريق من المسلمين؛ أنهم كانوا شر الأمة وأخبث أفرادها!!
والآن؛ من الذي يمكن أن نصدقه ونسمع كلامه؟ كلام الله ﻷ الذي يعلم السر وأخفى، أم كلام هؤلاء الناس؟!
قال الله تعالى: ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ ٧﴾ [الحجرات:7].
هذه الآية كشفت لنا بأن الله ﻷ ربى المؤمنين الذين رافقوا الرسول ج، وكان النبي ج يعيش بين ظهرانيهم، وأنه أعدهم لصحبة رسوله الكريم ج، فحبَّب إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم جعلهم مثال الرشد والهداية ﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ ٧﴾ [الحجرات:7].
وحق لهم أن يكونوا من الراشدين، ويصبح الرشد والصلاح منهج حياتهم ما بقوا على وجه الأرض، فالإنسان الذي زُيِّن في قلبه الإيمان وكُرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، لن يميل إلى ما يكرهه من المعاصي. وماذا عسى أن يمنعه من فعل الخيرات والطاعات وهو يجد هواه تجاه الخير - لأن الإيمان حُبِّبَ إلى قلبه - ولا مانع يمنعه من عمل الخير؟
أجل، يوسوس الشيطان في قلوب البشر فيزين لهم المعاصي والذنوب، لكن في ضوء الآية السابقة لم يقدر أن يعمل ذلك - على الأقل - في قلوب معظم الصحابة، وذلك لأن الله ﻷ حبَّب إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم وجعلهم هم الراشدين السابقين في طريقهم إلى الإيمان..
فمن نصدق؟ أنصدق اللهَ ﻷ الذي يقول في صحابة رسوله؛ بأنهم مؤمنون وأن قلوبهم امتلأت بحب الإيمان وزُينت بجماله وأنهم راشدون في طريقهم.. أم نصدق من يزعم؛ بأن الصحابة كانوا منافقين، وكانت قلوبهم وكرًا للكفر والنفاق وكانوا من الضالين؟!
لعل أحدهم يقول:
يا عم! اِهدأ، لماذا تتهمنا بكل هذه العنجهية والشدة، من قال لك إن هذه الآية نزلت في الصحابة؟
نقول في جوابه:
مطلع الآية الذي يقول: ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِ﴾ [الحجرات:7]. من هنا نفهم أن الآية لا تعني إلا أصحاب الرسول ج.
أين كان يعيش الرسول ج؟ بين ظهراني مَنْ كان الرسول ج؟ أبيننا نحن أم بين كفار مكة، أم في الروم أو في فارس؟
لم يكن الرسول ج، لا هنا ولا هناك، فقد كان بين صحابته المؤمنين في المدينة المنورة، وقد كان المؤمنون في المدينة هم الأنصار الذين استقبلوا الرسول ج في مدينتهم ورحبوا به خير ترحيب، وفدوه بأنفسهم وأموالهم، والمهاجرون الذين رافقوا الرسول ج في هجرته.
فليس هناك أي شك، ولا أدنى ريب في أن الآية تخاطب هؤلاء المؤمنين..
قال الله تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٢﴾ [الأنفال:62].
والذين أيدوا الرسول ج وناصروه، وكانوا أداة انتصاراته على كفار مكة، كانوا جيشًا عَرَمْرَمًا تجاوز الآلاف، لا بضعة أشخاص، وها هو الله ﻷ يشهد بأنه أيد رسوله بنصره، كما أيده بالمؤمنين في مواجهته لمكر الكفار وخدعتهم.
قال الله تعالى: ﴿إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ أَلَن يَكۡفِيَكُمۡ أَن يُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُنزَلِينَ ١٢٤ بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ١٢٥﴾ [آل عمران:124-125].
وقال تعالى: ﴿إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ ١١ إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ ١٢﴾ [الأنفال:11-12].
وقال تعالى: ﴿قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ ١٣﴾ [آل عمران:13].
كل هذه الآيات نزلت في أصحاب الرسول ج الذين شهدوا بدرًا، وأكثرهم ظلوا أحياء إلى بعد وفاة الرسول ج، فهل أنزل الله تعالى كل هذه الآيات في هؤلاء الناس، ووصفهم بهذه الأوصاف الحميدة وهو كان يعلم أنهم سوف يكفرون بدينه وبتعاليم رسوله؟!
لقد هُزم المسلمون في غزوة أحد، ولكنهم ما إن رجعوا إلى المدينة عزموا على الخروج وراء جيش الكفر - مع كل ما كان أصابهم من الضعف والجروح- ولم يتكاسلوا ولم يتهاونوا، واستطاعوا أن يطاردوا الكفار ويدخلوا في قلوبهم الرعب لئلا تحدثهم أنفسهم بالكر على المدينة مرة أخرى، فنزلت آيات من القرآن الكريم في حقهم تقول: ﴿ٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ مِنۡهُمۡ وَٱتَّقَوۡاْ أَجۡرٌ عَظِيمٌ ١٧٢ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ ١٧٣ فَٱنقَلَبُواْ بِنِعۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٖ لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٞ وَٱتَّبَعُواْ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَظِيمٍ ١٧٤﴾ [آل عمران:172-174]
فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٞ﴾.
وقد شارك عدد كبير من هؤلاء الصحابة في انتخاب الخليفة بعد وفاة الرسول ج، كيف يسمح علماء الشيعة لأنفسهم أن يقولوا فيمن قال الله إنهم ﴿لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٞ﴾؛ بأن هؤلاء الأبرار ارتكبوا أكبر جريمة في تاريخ البشرية والإسلام، أي؛ رفض حكم الله ﻷ والتلاعب بالنصوص الثابتة واغتصاب الخلافة من الإمام المعصوم المنصوص عليه...
قال الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٧٤﴾ [الأنفال:74]. ويقول بعض الناس: أولئك هم الكافرون حقًا!!
فيا ترى؛ من نصدق؟ أنصدق القرآن الكريم، كلام الله ﻷ؟ أم نصدق الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن ولا يصدقونه ولا يسمعون له؟!
قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٢٠﴾ [التوبة:20].
قال الله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ ٢١ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ٢٢﴾ [التوبة:21-22].
يبشرهم الله ﻷ بالجنة وبرضوان منه، لكن فريقًا من المسلمين يبشرونهم بالنار وبئس المصير!!
هل الجنة والنار بأيديهم أم بيد الله ﻷ؟!
قال الله تعالى: ﴿إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ ٱلتَّقۡوَىٰ وَكَانُوٓاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٢٦﴾ [الفتح:26]
لا داعي أن نعيد الكلام في هذه الآية، وننصح مرة أخرى من يجد في قلبه شيئًا على جيش الرسول ج وصحابته أن يعيد قراءة الآية الكريمة.
سبق أن قلنا بأن الله ﻷ رضي عن الذين بايعوا الرسول ج في الحديبية تحت شجرة الرضوان، ولم يكن هؤلاء إلا الجماعة المؤمنة التي آمنت بالرسول ج قبل فتح مكة، والتي كانت تتكون من المؤمنين الذين هاجروا مع الرسول ج من مكة إلى المدينة، ومن المؤمنين الذين آووا الرسول والمهاجرين، وقد سمّاهم الله ﻷ بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وقال تعالى عنهم: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠﴾ [التوبة:100].
تختم هذه الآية على كل الأفواه الظالمة، وعلى كل الأباطيل والأساطير، وعلى كل الافتراءات والترهات، فقد بينت بالحرف الواحد أن الله ﻷ رضي عن المهاجرين والأنصار - السابقين الأولين - وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنهم خالدون مخلَّدون فيها أبدًا، وأنهم أصحاب الفوز العظيم.
هذا هو حكم الله ﻷ فيهم، ولا يضرهم ما يرتكبه الجهال من سبهم وشتمهم ورميهم بالنفاق والكفر..
وهل يتجرأ من يؤمن بالقرآن الكريم، بعد قراءة هذه الآية أن يتفوه بكلمة سوء في حق هؤلاء الصحابة الأبرار الذين رضي الله عنهم، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار...
قال تعالى: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٩٥﴾ [النساء:95].
كلنا نعرف أن عليًّا وعمر وعثمان وأبابكر وأبا عبيدة وعائشة والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة وغيرهم الكثير ي آمنوا قبل الفتح، وأن ألفًا من الذين آمنوا بعد الفتح وأنفقوا وجاهدوا – كوائن من كانوا ومهما بلغ شأوهم وشأنهم- لا يساوون واحدًا من السابقين الأولين.
فيا ترى؛ ماذا عسى أن نستفيد من التطاول على من فضَّله الله علينا؟
والآن، بعد كل هذه الآيات التي ذكرناها، والتي تحدثت عن جهاد الصحابة وعن إنفاقهم وعن أعمالهم وحتى عما في صدورهم وعن إيمانهم، ماذا عسى أن نفعل؛ إذا خرج بيننا أناس يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن الكريم، وأنهم يصدقون آياته، لكنهم لا يستطيعون أن يؤمنوا بصدق الصحابة وإيمانهم؟
أليس هذا تعارضًا وتناقضًا يطعن في مفاهيمهم واعتقاداتهم؟!
يتجرأ بعض علماء الشيعة على شطب كل تلك الآيات البينات الواضحات بقولهم: لا يمكننا أن نصدق أن هذه الآيات نزلت في عمر أو أبي بكر أو غيرهما من الصحابة، لأن الله ﻷ يقول: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ ١٠١﴾ [التوبة:101].
نرد على هذه الشبهة كذلك بتوفيق من الله ﻷ:
ارجعوا إلى القرآن الكريم، فستجدون:
أولاً: أن الآية التي سبقت هذه الآية تمدح المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، فقد قال الله تعالى: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠﴾ [التوبة:100].
ثانيًا: يقول المولى ﻷ: ﴿وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ﴾ [التوبة:101] ولم يقل: في المدينة كلهم منافقون ما عدا علي وأبوذر وسلمان ومقداد وبضعة أشخاص.
لكنكم كفرتم الجميع ورميتموهم بالنفاق، بداية من زوجات الرسول ج وأقاربه، إلى آخر رجل من عامة أهل المدينة.
لا يحق لنا أن نتطاول على أي إنسان أو نرميه بالكفر والنفاق إلا بالأدلة والبراهين الثابتة، وكيف لنا أن نرمي الصحابة الكرام بالنفاق ونطعن في إيمانهم ونشك في نزاهتهم دون أي دليل، ولأن تقولوا أن هذه الآية أو تلك تشمل فلانًا أو علانًا أو تشمل الصحابة كلهم لابد أن تقدموا أدلة تثبت كلامكم..
لكن إذا تركنا الناس يتلاعبون في النصوص، وكل يقول فيها ما يشتهيه ويتبع فيها هواه، يخرج جاهل مثلكم ويركب دليلكم «في أن أهل المدينة كلهم كانوا منافقين»، ويقول بما قلتم ويزيد - والعياذ بالله - ويقول: وبما أن عليًّا كان في المدينة فتشمله الآية، ومن ثم يرميه بالنفاق - تمامًا مثل صنيعكم - فهل تقبلون استدلاله وتوافقونه على رأيه؟!
وأفضل الحلول قبل أن نرمي زيدًا أو عمْرًا بالنفاق هو: أن نكشف الستر عن صفات المنافقين وأهدافهم، ثم نرى هل تنطبق هذه الصفات على الصحابة أم لا..
هذا هو أفضل الحلول الذي يرضى به العقل السليم والمنطق القويم، وإلا فيقول من يشاء ما يشاء، ويتهم أهل الأهواء من يريدونه بما يريدونه، ولا يبقى لأحد احترام ولا قداسة، ولا يسلم أحد مما تتفوه به ألسنتهم.
تعالوا لننظر إلى صفات المنافقين، لا من وجهة نظرنا نحن، بل من خلال ما وصفهم بها القرآن الكريم، فالله ﻷ أدرى بمن خلق:
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسۡتَٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ ٨٦ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ ٨٧﴾ [التوبة:86-87].
والكل يعرف أن الصحابة ي ظلوا يجاهدون في ركاب الرسول ج بداية من غزوة بدر إلى غزوة تبوك، وبدأ عددهم يزداد يومًا بعد يوم، فقد كانوا في بدر لا يتجاوزون 314 رجلاً إلى أن بلغوا ثلاثين ألفًا في آخر عام من حياة الرسول ج.
والكل يعرف ويقر بأن كبار الصحابة أمثال: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة شاركوا الرسول ج في معظم غزواته، وكانوا دومًا تحت إمرته، وإذا حدث أن أحدهم لم يتواجد في ساحة معركة ما، أو في غزوة من الغزوات، لم يكن ذلك لتخلف منه، وإنما لأن الرسول ج قد كلفه بمهمة أخرى.
فهذه الصفة من صفات المنافقين لا نجدها عند صحابة الرسول ج.
يقول الله تعالى بأن المنافقين إذا خرجوا مع الرسول ج، لا يريدون الجهاد وإنما يريدون نشر الفتنة وبث الهوان في الصف الإسلامي؛ اقرأ معي قوله تعالى: ﴿لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ ٤٧ لَقَدِ ٱبۡتَغَوُاْ ٱلۡفِتۡنَةَ مِن قَبۡلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلۡأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَظَهَرَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَهُمۡ كَٰرِهُونَ ٤٨﴾ [التوبة:47-48].
مثل ما فعله كبير المنافقين ورأسهم «عبد الله بن أبي» يوم أن رجع مع أصحابه من المنافقين من معركة أحد، ليضعف الصف الإسلامي ويقلل من حماس المسلمين.
فإذا زعم أحدهم أن الصحابة كانوا منافقين، فكان يجب في ضوء هذه الآية أن يثيروا الفتن والقلاقل في الصف الإسلامي، ومع جيش هذا شأنه، ما كان للرسول ج أن ينتصر في أية معركة.
فقد سجل الصحابة كلهم بطولات على صفحات المعارك الإسلامية يفتخر بها التاريخ وتعتز بها السيرة، لا يذكر الشيعة منها إلا بطولات علي ا، ونحن نقبل ما يقولونه دون غلو وإفراط، وكذلك نعتز بعلي وببطولاته ونفتخر بها، لكنه لم يكن وحده، فقد كان معه في تلك المعارك أبطال آخرون أدوا أدوارًا عظيمة وسجلوا بطولات جليلة.
فمثلاً نتصفح غزوة خيبر، نجد بطلها المغوار عليًّا، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، لكن أدى غيره كذلك أدوارهم وأثبتوا شجاعتهم وإخلاصهم، فمثلا في الليالي الأولى من المعركة، أي في الليلة السابعة استطاع عمر أن يأسر يهوديًا كشف عن أسرار انتفع المسلمون بها كثيرًا في سير المعركة ووضع خططًا لها، فهل نعد عمل عمر هذا فتنة وتخريبًا أم شجاعة وخدمة للمسلمين؟
فهذه الآية التي تعرف المنافقين بأنهم كانوا عيونًا للكفار ويسعون لإفساد الصف الإسلامي وتخريب خططه، لا تتوافق مع ما كان يقوم به الصحابة من البطولات والأدوار الإيجابية في سبيل رضى الله ﻷ وابتغاء نصره.
فالآية تتحدث عن قوم آخرين وليس الصحابة الأبرار...
قال تعالى: ﴿وَمِنۡهُم مَّن يَلۡمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُواْ مِنۡهَا رَضُواْ وَإِن لَّمۡ يُعۡطَوۡاْ مِنۡهَآ إِذَا هُمۡ يَسۡخَطُونَ ٥٨﴾ [التوبة:58]
كانت هذه من أبرز الصفات عند المنافقين وما زالت. ولم ترد رواية واحدة - حتى عند الشيعة أنفسهم- أن أبابكر أو عمر أو عثمانس اعترضوا على الرسول ج في تقسيم الغنائم، بل يشهد القرآن الكريم ويقر التاريخ أنهم كانوا ينفقون في سبيل الله آناء الليل وأطراف النهار، ولم يكونوا يبخلون في الله، ولا سيما سيدنا عثمانا الذي فاق الآخرين في هذا الميدان، لما من الله به عليه من المال الكثير والثروات الوفيرة.
فكذلك هذه الصفة من صفات المنافقين لا تتوافق مع سيرة هؤلاء الصحابة الكرام، بل كانوا على العكس منها تمامًا.
قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨﴾ [المنافقون:8].
وهل هناك من لا يدري أن الصحابة كانوا أعز مَنْ في المدينة؟ فقد حكموا المدينة، وكانت أمورها وسياستها وقضاؤها وحكمها في أيديهم، وكان أذل مَنْ في المدينة عبد الله بن أبي وجماعته من المنافقين، حتى ابنه كان على خلاف معه، وطلب من رسول الله ج أن يأمره بقتله إن كان قد نوى قتله.
فكذلك هذه الصفة من صفات المنافقين لا تتفق مع ما كان عليه الصحابة من العزة والرفعة والمكانة والشأن، فقد كان الصحابة أعزة في عصرهم، وفيما أتصور لم ينجب التاريخ إلى يومنا هذا من كان مثلهم في العزة والمنعة.
قال الله تعالى: ﴿فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ ٨١ فَلۡيَضۡحَكُواْ قَلِيلٗا وَلۡيَبۡكُواْ كَثِيرٗا جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٨٢﴾ [التوبة:81-82].
نزلت هذه الآية في قتال الروم، فلم يكن المنافقون قد شاركوا في تبوك، وكان مع الرسولج يومئذ ثلاثون ألف مجاهد يفدونه بأرواحهم ويضعون نحورهم دون نحره، من بينهم هؤلاء الصحابة الكبار الذين تمتلئ قلوب الشيعة حقدًا وضغينة وغيظًا عليهم، ولا يمكن أن نعدهم من المنافقين بعد أن وصف الله ﻷ المنافقين بما وصف.
ومن الأوصاف التي وَصف اللهُ بها المؤمنين، كما في قوله تعالى: ﴿لَٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٨٨ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٨٩﴾ [التوبة:88-89].
إذا كان للناس آذان يسمعون بها، وقلوب يفقهون بها، وصدور تنشرح للحق، فلابد أن يكونوا قد أدركوا في ضوء هذه الآيات البينات أن أعمال المنافقين كانت تمامًا على عكس ما كان يقوم به الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، ولم تتفق أعمالهم ولو مرة واحدة، فكانوا دومًا على خلاف ما كان يؤديه الصحابة الكرام.
ها نحن استمعنا لكلام الله ﻷ وعرفنا الحق من خلال آياته البينات واستشهدنا بها لبيان الحق المبين.
لكن من ختم الله على صدره وقلبه وركب عقله وهواه، سوف يتعصب لكلامه ويصر على عقيدته في أن منافقي المدينة لم يكونوا إلا صحابة الرسول ج، ونحن نعجز عن مناقشته، كما قال أحد أئمة الفقه الإسلامي: (ما ناقشت عالمًا إلا غلبته، وما ناقشني جاهل إلا غلبني).
لكننا نشير إلى أن أي إنسان يريد أن يتلاعب بالآيات القرآنية دون احترام للعقل والمنطق السليم، ودون احترام لعقول الناس يستطيع أن يقول كل ما يريد ويهوى، دون خوف من اللهﻷ، ويستطيع أن يطعم كلامه ببعض المفردات القرآنية.
وهذا الذي يزعمه القوم في أن القرآن قال: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ﴾ [التوبة: ١٠١]، إذن كل الصحابة منافقون، يشبه ما زعمه رجلان ادعيا النبوة، كان أحدهم يُدعى نصر الله والآخر فتح الله، ولما سألهما الناس عن دليل نبوتهما، قالا: القرآن الكريم! فاستغرب الناس وسألوا: كيف ذلك؟ قالوا: ألم تقرؤوا قول الله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١﴾ [النصر:1]، وها نحن نصر الله وفتح الله جئنا، ونحن أنبياءُ الله..
فما يستدل به القوم فيما يرمون به الصحابة من النفاق يشبه استدلال: فتح الله، ونصر الله!
من الأمور التي جعلت الإخوة الشيعة يبتعدون عن الحق كثيرًا، هو أنهم لا يستطيعون أن يتحملوا أي خطأ من الصحابة، وكأنهم يجبرونهم على أن يكونوا معصومين، وأن تكون أعمالهم خالية عن الأخطاء، وهذه هي عقيدتهم في علي ا؛ فهم يظنونه معصومًا عن الأخطاء والمعاصي.
نحن لا نؤمن بعصمة أحد من الصحابة حتى علي ا، والمعصوم عندنا هو من عصمه اللهﻷ لإبلاغ رسالته، أي؛ رسول الله ج فحسب، ونرى أن بعض من الصحابة قد أخطأوا وارتكبوا بعض المعاصي.
فها هو حاتم بن أبي بلتعة، صحابي جليل ممن شهد بدرًا وأبلى في سبيل الله بلاءً حسنًا، لكنه عند فتح مكة كتب رسالة يخبر الكفار عن خطط الرسول ج طمعًا في أن يكون له عندهم يد وفضل فيحفظوا أهله وبيته في مكة، ولما كشف الله ستره، وعرف الرسول ج أمره، سأله: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ حَاطِبٌ: وَاللهِ مَا بِي أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّج: «صَدَقَ وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا» فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟» فَقَالَ: «لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ [11].
وهناك من الصحابة من هرب من ساحة القتال، كالذين هربوا في أحد، لكن الله ﻷ غفر لهم ذنبهم بنص صريح من القرآن الكريم[12]، وهكذا.
والآن - من واقع التجربة مع إخواني الشيعة - وكأني ببعض علمائهم يأخذون نفسًا طويلاً ويقولون: ها أنت قد وصلت إلى ما نقوله، وتقول بما نؤمن به -من أن الصحابة قد ضلوا وأخطأوا-!
لا، أخطأتم في الفهم؛ أنا لن أقول بما تقولونه، إنما أبين لكم ما أؤمن به وهو: لا معصوم إلا الرسول ج ، أما غيره فيمكن أن يخطئوا ويصيبوا، وقد يجتهدون فيخطئون أو يصيبون، لكن احتمال الخطأ لا يعني أن نتهم جميع الصحابة بالذنوب والمعاصي وأن نرمي تبعات جميع الذنوب والأخطاء على عاتق جميع الصحابة..
كما أشرت سابقًا، جاء إفراط علماء الشيعة من خطئهم الكبير يوم أن قالوا؛ بأن القائد يجب أن يكون في مأمن من الأخطاء والذنوب الصغيرة أو الكبيرة، وعلى أساسه قالوا بعصمة الأئمة واتصالهم المباشر بالله ﻷ، واعتبروهم أصحاب العقول الكاملة وقالوا إنهم يعلمون الغيب ويدركون كل العلوم والفنون. ويقولون كذلك؛ بأن علمهم علم لدنيّ، أي؛ وهبهم الله العلم من لدّنه ﻷ وليس مكتسبًا من البشر.
وهكذا تدرجوا في مدارج الغلو إلى أن اعتبروا إمامهم العاشر - ابن ثمان سنوات - أفضل من أنبياء الله إبراهيم أو موسى أو عيسى ×.
فهذا الإنسان الذي يرى الصبي الذي لم يبلغ بعد - ابن ثمانية أعوام - أفضل من إمام التوحيد وأب الأنبياء وخليل الله إبراهيم × بحاجة أن نفهمه؛ أن الإنسان لا يمكن أن يكون معصومًا عن الأخطاء إلا إذا اتصل بالوحي، وحتى نبي الله محمد ج لو لم يكن الوحي يتداركه ويرشده ويصحح مواقفه لكان بالإمكان أن يقع في الأخطاء. ومثال ذلك:
دخل عمر ا يومًا على النبي ج، فوجده جالسًا وبجواره أبوبكر يبكيان، فتعجب من أمرهما وقال لهما: قولا لي لماذا تبكيان لأبكي أو أتباكى معكما؟
ثم أخبراه بأن سبب بكائهما هو تلك الآيات التي نزلت تعاتب النبي ج، لقبوله الفدية في أسرى بدر - وقد كانت هذه مشورة أبي بكر ا - ولم يكن هذا الرأي يرضي الله ﻷ فقال: ﴿لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٦٨﴾ [الأنفال:68].
ولا شك أن الرسول ج كان يغير مواقفه ويصححها في ضوء ما كان يمليه عليه الوحي.
إذا كان الرسول ج الذي اصطفاه الله ﻷ واختاره لقيادة هذه الأمة، وكلفه بحمل آخر رسالات السماء إلى أهل الأرض قاطبة، لو لا الوحي الذي كان يتداركه في المواقف الحرجة وعند الحاجة لكان من الممكن أن يخطئ في اجتهاداته، فما بالك بالآخرين أمثال؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين؟ فهم بشر يصيبون ويخطئون، فهل من الممكن أن يطالبوا بما يطالب به المعصوم؟!
سبق أن قلنا بأن الشيعة حاولوا أن يهربوا من هذه المعضلة، فقالوا بعصمة الأئمة واتصالهم بوحي الله، بداية من سيدنا علي ا إلى آخر أئمتهم - الإمام المهدي الغائب - لكنهم تفاجئوا بالقرآن وهو يصرخ في وجوههم بأن محمدًا خاتم الأنبياء، فتهربوا وغيروا اسم طريق اتصال الأئمة بالسماء مع الحفاظ على شكله، فقالوا: إن عليًّا كان يتصل بالسماء عن طريق الإلهام؛ ولئلا يعترض أحد فيقول: لماذا غيرتم اسم الوحي بالإلهام؟ قالوا: هناك فرق دقيق بين الوحي والإلهام، ففي الوحي الذي خص به الأنبياء كان الرسول ج يرى الملك الذي يوحي إليه، لكن في الإلهام الذي خص به الأئمة لم يكن علي يرى الملك وإنما يسمع صوته!
وكل عاقل يستطيع أن يشعر بهذا التلاعب بالكلمات والمصطلحات، فيا ترى؛ ما أهمية رؤية الملك؟! والأصل والهدف هو فهم الأوامر السماوية، والمهم هو الاتصال بالله ﻷ على منهج الأنبياء وطريقتهم، وبما أن عليًّا لم يكن نبيًا فلا يليق بنا أن ننسب إليه مثل هذا الكلام الذي يتبرأ هو منه، ولا يليق بنا أن نغير اسم الوحي بالإلهام، ونضع قوانين من عندنا، ونغير دين الله حسب أهوائنا..
الوحي يعني نزول كلام الله ﻷ إلى رسوله سواء كان عن طريق ملك أو بدون ملك، فقد كلم الله موسى مباشرة دون أن يكون هناك واسطة من الملائكة، وها نحن نقول: أوحى الله إلى موسى. ولا نخترع مصطلحًا آخر لهذه الصلة كما يفعله علماء الشيعة، وكذلك الكلام الذي أنزله الله ﻷ على محمد ج بواسطة ملك كان يراه يسمى كذلك الوحي، وهكذا الكلام الذي كان ينزله الله على علي وغيره - حسب زعمهم - لابد وأن يسمى وحيًا، لماذا التلاعب بالكلمات؟ وهل يمكننا بهذه الخدع أن نخدع شريعة الله؟!
إذا كنا نرى الرسول محمد ج خاتم الأنبياء فلا بد أن ننكر أفضلية صبي لم يتجاوز ثمان سنوات من عمره على كليم الله موسى ×، الذي كلمه الله مباشرة دون ملك... وكذلك لا نستطيع أن نفتري ونزعم أن أحدًا جاء بعد الرسول محمد ج معصوم، وقد أوتي العلم كله.
ولابد وأن نقبل بأنه قد يحدث من أولياء الله الصالحين كذلك بعض الأخطاء، ولكن ما يميزهم عن غيرهم من الناس أنهم كلما أدركوا خطأهم سرعان ما يعودون إلى الصواب ويتوبون إلى الله ﻷ ويستغفرونه، وإذا أدركوا خطأهم في اجتهاد أو فتوى سرعان ما يؤوبون إلى رشدهم ويرجعون عن خطئهم، وهكذا كان حال الصحابة ي.
ذكرنا هذا الكلام، كمقدمة لجوابنا عن سؤالهم؛ فلماذا تقاتل الصحابة فيما بينهم؟
يقول المولى ﻷ في كتابه المجيد: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٩﴾ [الحجرات:9].
كما ترى من الآية أنه قد يحدث أن تتقاتل فئتان أو مجموعتان من الناس وكلاهما من المؤمنين بالله ﻷ.
أجل، قد يظلم مؤمن مؤمنًا أو يطغى عليه ويتجاوز على حقه.. وهذا لا يعني أن كل فئتين تقاتلا باسم الإسلام أو الدين نعتبرهما مؤمنين، ولا يعني كذلك أن أحدهما مؤمن والآخر كافر! بل لابد لنا - أصحاب العقول - أن نحقق في الأمر وندرس القضية ليتضح لنا الحق عن الباطل، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومن هذا المنطلق تعال لننظر إلى روابط الصحابة وصلاتهم فيما بينهم:
قلنا إن الصحابة لم يكونوا معصومين عن الأخطاء، وبحكم بشريتهم فقد كان يحدث بينهم بعض المشاجرات والاختلافات، وكانوا يراجعون الرسول ج فيها، فيحكم فيما شجر بينهم بالعدل، فكانوا يصغون لحكم الرسول ج ويخضعون له دون أدنى ريب أو مناقشة أو جدل. وقد جرى الأمر على هذا المنوال في عهد أبي بكر وعمر وعثمانس كذلك، وكان يحدث أن يزجر الناس من الحاكم أو يشكو الحاكم رعيته، فكانوا في كل ذلك يطرقون باب القرآن ويرجعون إلى حكم الله ﻷ وإلى قانون الشريعة ليحكم فيما هم فيه يختلفون.
فمثلاً: لم يكن عمر ا يرتاح لمواقف خالد، فطلب من أبي بكر أن يعزله، لكن كان لأبي بكر موقف آخر ورأى غير رأي عمر فلم يسمع كلامه. ويوم أن تولى عمر الخلافة عزل خالدًا عن الإمارة وقبل خالد حكم الخليفة بصدر واسع وقلب مفتوح، فقد كان ا ممن وهب نفسه لله، وشعر بمعنى العبودية لديه ـ، فلم يكن يختلف عنده أن يعبد ربه في ثوب القيادة أو في لباس جندي عادي.
ويوم أن تولى عثمان ا الخلافة وأجرى أحكامه، كان لعلي ا بعض المآخذ على طريقته في الحكم، لكن عثمان ا، لم يوافقه الرأي، ولم يحدث أن رفع علي عصا العصيان أو قاد انقلابًا على عثمان، أو مكر به، بل على عكس ذلك كله، فقد كان ينصحه إذا استنصحه ويشير إليه كلما استشاره، وأرسل أولاده يحرسون الخليفة في أيام الفتنة ويفدونه بأنفسهم، مع أنه لم يكن معجبا بسياسته وطريقة إدارته لشؤون الدولة.
إن العصابة المجرمة التي قدمت من مصر وغيرها أحدثت أول فتنة في الإسلام - ولم يكونوا من الصحابة - جاءوا وقتلوا الخليفة الراشد الثالث عثمان ا، وكان بإمكان الخليفة أن يأمر من عنده من العساكر والصحابة أن يخرجوا في قتال هؤلاء المجرمين إلا أنه اجتهد ومنع الناس عن حمل السيف؛ لئلا تراق دماء مسلمة بسببه في مدينة الرسول ج، وهذا كان اجتهادًا منه، وافقناه عليه أم لم نوافقه، صح أو لم يصح.
لكن بعد استشهاده لم ير الصحابة بأسًا في حمل السلاح فكل من استطاع منهم توجه إلى جانب من بلاد الإسلام وبدأ يجمع المجاهدين ويُكوّن جيشًا ليثأر للخليفة المظلوم ويؤدب تلك العصابات المجرمة.
أما في المدينة فأصبحت الدولة من غير خليفة، وكانت المدينة تحكمها سيوف أهل الفتنة الذين أجبروا عليًّا على قبول الخلافة وبايعوه وبايعه كذلك الصحابة، وقرر علي أن يصلح الأمور واحدًا تلو الآخر، حسب قاعدة الأولويات التي كان يراها، لتعود المياه إلى مجاريها.
وبما أن معاوية رفض بيعة علي ما لم يثأر لدم عثمان. ودليل آخر كان أهم عنده، وعلى أساسه رأى علي أن يؤخر قصاص قتلة عثمان، وهذا الدليل الأهم هو؛ أن عليًّا لم يكن يملك قدرة كافية يستطيع أن يواجه بها هؤلاء العصابة المجرمة، أما المجاهدون الصادقون من أبطال الصحابة وغيرهم فقد توزعوا في الأمصار ودخل الحابل بالنابل، ولم تكن معالم الأمور واضحة فكان علي بحاجة إلى مزيد من الوقت ليعيد الأمور إلى ما كانت.
وكانت هذه نقطة انطلاق الخلافات بين الصحابة، فمن هنا فإن أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير كانوا يصرون على معاقبة قتلة عثمان ا بأسرع وقت، وكانوا قد جمعوا جيشًا من المسلمين يريدون قتل كل من شارك في فتنة اغتيال الخليفة الراشد عثمان، ولم يكونوا يريدون قتال علي ا ألبتة، ولما اجتمع الجيشان جلس قادة الجيشين للتفاوض ومدارسة الموقف وبحث طرق إيجابية لحل الفتنة، فشعر أهل الفتنة أن أجلهم قد حان، وقرروا أن ينضموا إلى الجيشين، فمكروا وبدأوا القتال ليلاً، فخرج الأمر من أيدي الصحابة... هدأت نيران المعركة مع انتصار جيش علي ا، وكان قد استشهد طلحة كما استشهد الزبير، وأُسرت أم المؤمنين عائشة ل، بعد أن امتلأت ساحة المعركة بجثث المسلمين من الفريقين..
من مواقف علي ا وسيرته بعد الحرب، ندرك أن الخلاف بين الصحابة لم يكن إلا خلاف اجتهاد في فقه الواقع، وفي رؤية أولويات الأمور وطريقة إصلاحها، لا في الدين أو العقيدة.
وهذا هو علي ا يبشر عمْرو بن جرموز، قاتل الزبير -الذي حمل إليه بشرى قتله للزبير وسيفه لعله يحصل على هدية من أمير المؤمنين- بنار جهنم، ويقول له: سمعت الرسول ج يقول: «بَشِّرْ قاتلَ ابن صفية بالنار». فيقال: إنه لما سمع ذلك قتل نفسه.
وها هو يواسي ابن طلحة ويقول له: أرجو من الله ﻷ أن يجعلني وأباك فيمن قال فيهم: ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ ٤٥ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ ٤٦ وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ ٤٧﴾ [الحجر:45-47].
وجمع أمير المؤمنين أجساد قتلى المعركة من الفريقين في مكان واحد وصلى عليهم صلاة الجنازة.
والشيعة يعتقدون أن من استغفر له أمير المؤمنين علي ا يغفر له ويدخل الجنة، وها هو يصلي على قتلى المخالفين..
أرادت العصابة المجرمة من أهل الفتنة أن يجمعوا أموال المسلمين الذين قتلوا في المعركة لتوزع بينهم، لكن أمير المؤمنين رفض ذلك ولم يعدها غنائم حرب وأمر بأن يُعاد الأموال إلى أصحابها، فقال من انضم فيما بعد إلى الخوارج من جيشه: أتحرّم أموالهم وقد أحللت دماءهم؟! لكن عليًّا كان يؤمن بأن هذه فتنة وقعت بين أهل القبلة.
هكذا تعامل علي ا مع الذين قضوا نحبهم وماتوا ولم يكن بإمكانه أن يعمل لهم أكثر من هذا.
أما مع الأحياء من الأسرى، وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة؛ فلم يعاملهم معاملة أسرى حرب الله ورسوله، ولا سجنهم أو طاردهم أو عاقبهم.
اقترب إلى أم المؤمنين عائشة ل وسلم عليها، فسمع جوابها.. ثم استغفر لها، واستغفرت عائشة له.
ولما أرادتْ الخروج من البصرة، بعث إليها علي بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر، يرافقونها إلى مكة المكرمة. ولم يحدث أن استغل علي ا المنبر لشتم عائشة أو الطعن فيها... فلم يقل أمير المؤمنين علي ا أن طلحة أو الزبير ليسا من أهل الجنة - وقد بشرهما الرسول ج بالجنة.
حزن علي ا على ما حدث أشد الحزن وتأسف كثيرًا، وكذلك عائشة حزنت طويلاً على ما حدث.
وإذا كنا صادقين فلنكن كأمير المؤمنين علي ا؛ إن كان قد شتم عائشة فلنشتمها، وإن كان قد احترمها واستغفر لها فلنفعل مثل ما فعل.
لماذا أصبح البعض يرون أنفسهم أفقه من أمير المؤمنين علي ا، وأصبحوا كالخوارج الذين طالبوا مال المخالفين وعدوها من الغنائم التي تحل لهم؟!
وها هم أولاء يرون أعراض المسلمين قد حلت لهم، فلا همَّ لهم إلا شتم عائشة وغيرها من المسلمين الذين استغفر لهم أمير المؤمنين علي ا.
لا شك بأنه فيما دارت من المعارك بين الصحابة كان علي ا أحق من غيره، وذلك لأنه كان من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة وقد بايعه كبار الصحابة بالخلافة، ولم يكن عنده ضعف يعزله عن الخلافة.
لكن كان لمعارضيه أدلتهم الشرعية كذلك، فهم كانوا يعترضون على وجود العصابة المجرمة في جيش علي ا، وكانوا يطالبون أن يحاكمهم أمير المؤمنين ا، وكان كلامهم فيما يطالبون به صوابًا لا يعتريه شيء، وذلك لأنه:
كان في جيش علي ا مجموعة تتحلى بصفات المنافقين، وكانت تثير الفتن والقلاقل بين المسلمين، وهم الذين أشعلوا نيران الفتنة والمعركة في تلك الليلة التي اجتمع فيها علي وطلحة والزبير -رضي الله عنهم أجمعين-، واتفقوا على خطة ماكرة، فهجموا من هنا على جيش طلحة والزبير وعائشة ومن هناك على جيش أمير المؤمنين علي ا، فظن كل منهما أن الآخر قد غدر به، فثارت المعركة الدامية التي استشهد فيها طلحة والزبيرب.
وفيما بعد في صفين لعبوا نفس الدور الرخيص، فلما وجدوا أن المعركة بدأت تحسم لعليا تركوه ووقفوا يساندون جيش معاوية، وحاصروا عليًّا وأجبروه على الصلح لئلا تعود بلاد الإسلام تحت راية واحدة بعد أن مزقت وحدتها، ولئلا ينشغل المسلمون بالفتوحات الخارجية وتوسيع رقعة الإسلام.
ثم بعد صفين لما وجدوا أمير المؤمنين عليًّا قد عزم أن يعيد وحدة بلاد الإسلام بالتفاوض أو الحرب، خرجوا على علي ورفعوا راية الخلاف معه وكفروه وبدأوا يقتلون أصحابه المخلصين..
وفي نهاية الأمر، اضطر علي ا أن يهجم عليهم - على أصحابه السابقين - في نهروان يطالبهم بدم أحد الصحابة الذي قتله هؤلاء الخوارج ظلمًا وزورًا، فأحدث فيهم مقتلة رهيبة قتل فيها منهم ما يزيد على أربعة آلاف خارجي، وفر الآخرون، ومنهم كان ذلك الشيعي الذي تآمر مع أصحابه واستطاع أن يقتل أمير المؤمنين عليًّا ا فيما بعد؛ ثأرًا لأصحابه.
فقد فعل أمير المؤمنين علي ا قبيل شهادته ما كان يطالبه به طلحة والزبير وعائشة وغيرهم من الصحابة حيث قتل أربعة آلاف من العصابة المجرمة التي كانت ترافقه في معاركه السابقة وتقف بجواره.
لا شك لو أن عليًّا ا لو وجد فرصة لكان يقوم بأعمال إصلاحية يرضي بها الجميع، ليعيد المياه إلى مجاريها، ولتجتمع كلمة الأمة، لكن البشر ليسوا معصومين، وإنْ كانوا صحابة رسول الله ج، فقد كان لهؤلاء الصحابة – المخالفين - رأيهم ووجهة نظرهم، وكان لأميرالمؤمنين علي ا خطته ورأيه، لكن الأجل لم يسمح له، فحدث ما حدث...
وهذا كله ليس ذريعة أن نكفر المخالفين وذلك لعدة أمور:
أولاً: إنهم لم يكونوا على خلاف مع أمير المؤمنين علي ا.
ثانيًا: إن عليًّا لم يكفرهم وكان يراهم إخوانه قد اختلفوا معه..
وهذه كلها لا علاقة لها لا بعمر ولا بأبي بكر ولا بعثمان الذين ماتوا قبل هذه الحوادث بزمن طويل، ولا شأن لها كذلك بقضية الخلافة من بعد رسول الله ج.
المهم أن ما حدث بين الصحابة من المعارك لا صلة له من قريب ولا من بعيد بما وضع الشيعة عليه أساس مذهبهم؛ ولا يصح أن تستغل هذه الحوادث التاريخية لأهداف سيئة طعنًا في صحابة رسول الله ج ومن ثم طعنًا في الإسلام ومصادره...
[11]- متفق عليه، صحيح البخاري: ج5، ص77، ح3983، صحيح مسلم، ج4، ص1941، ح2494. [12]- قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ ١٥٥﴾ [آل عمران: ١٥٥] .
ألّف علماء الشيعة كتبًا كثيرة في أهل البيت، فهم يفتخرون بحب آل علي ا، ويرون حب علي وأهل بيته أكبر شيء يجب أن يعتزوا به.
وتعالوا لننظر مدى صدقهم فيما يدعونه من حب أهل البيت؟!
يجب أن نعرف أولاً من هم أهل البيت؟
يرى علماء الشيعة بأن أهل البيت في الدرجة الأولى هم: علي وفاطمة والحسن والحسيني. ثم يليهم أبناؤهم ولا سيما أولاد الحسين!
لكن، ألا ترى أن هذا التقسيم يتسم بالإجحاف والتعصب والحصر، فدائرة أهل البيت أوسع من هذا، فيدخل فيها:
فأهل البيت، أي؛ أهل الدار، ومن يعيش معك في بيتك ويقاسمك الحياة، ومن يزعم حب الرسول ج ينبغي عليه أن ينظر في بيت الرسول ج وفيمن يساكنه ويشاطره الحياة.
ومن كان يعيش في بيت الرسول ج؟
فقد كان مع الرسول ج في بيته زوجاته وبناته، وقد تزوجت البنات وانتقلن مع أزواجهن إلى بيوتهم، فلم تبق مع الرسول ج إلا زوجاته، هذا هو قانون الحياة عامة.. ولا تبقى مع الرجل في بيته إلا زوجته - أو زوجاته - فالبنت أو الأخت أو الأم كل واحدة تعيش في بيتها مع زوجها وأولادها، ولا تخرج زوجة الرجل من بيته إلا إذا مات الرجل وتزوجت المرأة من بعده من رجل آخر، فتنتقل إلى البيت الجديد، وهذا ما لم يكن مع أزواج الرسول ج، فقد أصبحت زوجاته أمهات للمؤمنين وحرم نكاحهن.
فبقيت زوجات الرسول ج في بيوتهن حتى بعد وفاة الرسول ج، فلم تتزوج أحد منهن بعد الرسول ج، ولا انتقلت إلى بيت آخر، وظللن في بيوت الرسول ج حتى أدركهن الموت.
هذه هي الحقيقة الثابتة التي لا يمكن إنكارها.
لكن إذا أصر أحد من الناس أن يجعل رأسه في الرمال كالنعامة لئلا يرى الحق، فله ذلك، ولا يغير فعله هذا من الواقع شيئًا.
والله ﻷ في معظم المواضع من القرآن الكريم التي ذكر فيها أهل البيت، قصد في الغالب الأزواج..
فمثلاً: إذا قرأت قصة لوط × ستجد الأمر واضحًا، وكذلك في قصة إبراهيم ونوحإ وأي قصة أخرى، فإذا ذكر آل لوط أو آل إبراهيم شملت الكلمة زوجاتهم لا محالة.
اقرأ معي قوله تعالى: ﴿قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٥٨ إِلَّآ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٩ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٦٠﴾ [الحجر:58-60].
فإذا لم تكن الزوجة من أهل البيت لما دعت الحاجة إلى شرح الحكاية وتفسيرها واستثناء امرأته من عموم آل لوط. ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ ٨٢ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ﴾ [الأعراف:82-83].
وكذلك في قصة إبراهيم × لما جاءته الملائكة؛ نرى بأن كلمة أهل البيت شملت زوجته كذلك.
فعندما جاءت الملائكة إلى إبراهيم في بيته، لم يكن في بيت إبراهيم × إلا هو وزوجته سارة، فحكت الملائكة لإبراهيم قصتهم، وما أمروا به ثم بشروا إبراهيم بغلام. سمعت زوجة إبراهيم × هذا الكلام وتعجبت منه، فقالت الملائكة: ﴿قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾ [هود:73]
ففي هذه الآية تعني كلمة أهل البيت؛ الرجل وزوجته، فلم يكن في بيت إبراهيم إلا هو وزوجته سارة، والآية لم تخاطب إلا زوجة إبراهيم؛ سارة التي تعجبت من أمر الله كيف يرزقها بغلام بعد هذا العمر: ﴿قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ ٧٢﴾ [هود:72]!
فقالت الملائكة لها: ﴿أَتَعۡجَبِينَ﴾ [هود:73] خطاب إلى المرأة، ولو كانت الآية تعني إبراهيم لقالت: «أَتَعْجَبُ؟»، فصيغة «تَعۡجَبِينَ» تستعمل في العربية لخطاب المؤنث لا المذكر.
مع هذه التفاصيل؛ لماذا يصر الشيعة على رفض زوجات الرسول ج وطردهن من دائرة أهل البيت؟!
ألا يصدقون القرآن ولا يقبلونه؟
إن كانوا يقبلون القرآن الكريم، فلماذا يعتقدون هذه العقيدة العجيبة الغريبة المتعارضة مع القرآن تجاه أهل بيت رسول الله ج؟!
لابد أنكم قرأتم هذه الآية الكريمة:
﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣﴾ [الأحزاب:33].
يقول علماء الشيعة بأن هذه الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ي، في حين أن الآية تعني زوجات النبي ج، ولا شك أن بناته وأصهاره من أهل بيته ج، ولا ننسى كذلك بأن الرسول ج كان له أربع بنات، لا واحدة، وقد تزوج عثمان من بنتين من بنات الرسول ج - واحدة بعد الأخرى - ولهذا يلقب بذي النورين، ونحن نؤمن بهذا كله...
لكن هذه الآية تعني زوجات الرسول ج، فالآية وردت في سياق تبشر أهل بيت الرسولج بالتطهير، والخطاب موجه إلى زوجات الرسول ج، لا إلى بناته أو أصهاره!
اقرأ معي قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩ يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٣٠ ۞وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا ٣١ يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٣٢ وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٣٤﴾ [الأحزاب:28-34].
فكما هو واضح أمام أعيننا؛ يأمر الله ﻷ رسوله ج في بداية هذه الآيات الكريمات أن يخير أزواجه بين البقاء والطلاق، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا﴾. ونعرف جميعًا أن أي واحدة من أزواج النبي ج لم تطلب الطلاق ولم ترض به، أي؛ لم ترد واحدة منهن الحياة الدنيا وزينتها، بل طلبن ما عبَّر عنه القرآن الكريم: ﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ﴾ [الأحزاب:29]، أي؛ رضين بالله ورسوله ونعيم الآخرة، وكما ترى فإن الآيات تتكلم قبل آية «تطهير أهل البيت» وبعدها عن زوجات الرسول ج، ولا أدري كيف يسمح علماء الشيعة لأنفسهم أن يقطعوا الآية من سياقها، ويخرجوها من وسط الآيات التي تخاطب زوجات الرسول ج وينسبوها إلى فاطمة والحسن والحسين س؟!
فهذا دليل واضح وجلي لكل من أوتي بصيرة وفهمًا سليمًا أن الله ﻷ طهَّر زوجات الرسولج، لأنه إذا أراد شيئًا فعله، وقد أراد أن يطهرهن تطهيرًا [13].
ومن المؤسف أن نرى من يزعم حب أهل البيت؛ يشتم أهل بيت الرسول ج.
فزوجات الرسول لم يلقبن بأهل البيت فحسب، وإنما شرفهن الله ﻷ ولقبهن من فوق سبع سماوات «بأمهات المؤمنين». ومن جهة أخرى، هن من كبار صحابيات الرسول ج. فكيف يتجرأ إنسان أن يرمي أمهات المؤمنين بالنفاق؟ وهل من الممكن أن تكون أمهات المؤمنين منافقات؟!
تصور إنسانًا يزعم حبك ويدعي صداقتك، ثم يخرج على الملأ ويشتم زوجتك ويرميها بأخس الصفات ويطعن في عرضها. فهل تصدق صداقته وحبه لك أم أنه عدوك؟
هذا هو عين ما يصنعه بعض الناس مع الرسول ج، يفعلون هذا وقد سمعوا الله ﻷ يخبر بطهارة أزواج الرسول ج!!
• حديث الإفك والافتراء على عائشة ل..
كان الرسول ج يأخذ معه إحدى زوجاته في كل سفر يخرج فيه، وكان يقترع بينهن.
وفي إحدى هذه الأسفار وقعت القرعة على عائشة فخرجت ترافق الرسول ج، وفي إحدى الأماكن التي نزلت القافلة للراحة خرجت عائشة من هودجها وابتعدت عن القافلة لقضاء الحاجة، وفي هذه الأثناء تحركت القافلة، وحمل الناس هودج أم المؤمنين على ناقتها دون أن يشعروا أنها ليست في الهودج.
فرجعت عائشة إلى مكان القافلة فوجدتها قد غادرت المكان، فعرفت أنهم سوف يشعرون بغيابها ويرسلون وراءها، فجلست في مكانها.
كانت من عادة القوافل أنها تختار رجلاً يتحرك خلف القافلة ويترقب إن كان قد سقط من القافلة شيء أو نسوا شيئًا ليوصله إلى صاحبه. وفي هذا السفر، كُلف سيدنا صفوان بهذه المسئولية. فلما رجع إلى مكان القافلة تفاجأ بعائشة هناك، فقال مستغربًا: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ظَعِينَةُ رَسُولِ اللهِ ج! ولم ينطق بشيء أكثر من هذا، وأناخ ناقته لتركب عائشة عليها، ثم أخذ زمام الناقة وبدأ يمشي أمامها نحو القافلة، إلى أن أوصلها إلى هودجها.
وقد كان هذا الحدث البسيط بمثابة شرارة جيدة للمنافقين ليتخذوها ذريعة في الطعن في عرض الرسول ج، فقالوا: أجل، رجل شاب وامرأة شابة!!
ونطقوا بكلام قبيح يعجز قلمي عن تكراره على الورق وكتابته، وانتشرت الإشاعة كالنار في الهشيم على ألسنة المنافقين، إلى أن نزلت تلك الآيات من سورة النور التي برأت أم المؤمنين عائشة ل مما افتروه عليها:
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ١٩﴾ [النور:19].
وفي سورة الأحزاب في نفس الموضوع نجد قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٥٨﴾ [الأحزاب:58].
لم نذكر هذه الآيات الكريمات لنثبت براءة أم المؤمنين من حديث الإفك؛ فالحمد لله من حسن الحظ أن أحدًا من المسلمين لا يخالفنا في براءتها، ولا يطعن في أم المؤمنين بما طعنها المنافقون لنستشهد بالآيات، لكننا ذكرنا الآية لنستشهد على أمر آخر وهو:
أن نقول أولاً: إن الشيعة كذلك يؤمنون بأن الآيات السابقة نزلت في أم المؤمنين عائشةل.
وبما أنهم يوافقوننا في هذا الأمر، فلنسمع المولى ﻷ ماذا يقول: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب:58].
بعد ما عرفنا سبب نزول الآية فإن كلمة المؤمنين هنا تعني؛ سيدنا صفوان بن معطل ا، والمؤمنات تعني؛ عائشة ل. أي؛ أن الله ﻷ عدهما في زمرة المؤمنين والمؤمنات، فهل نستطيع نحن بعد هذه الشهادة الإلهية وهذا الحكم السماوي الصارم أن نرميهما بالكفر أو النفاق؟!
وماذا نصنع بقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٢٣﴾ [النور:23].
ونعرف يقينًا أن الآية تعني من: ﴿ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [النور:23]؛ أمالمؤمنين عائشة ل بالدرجة الأولى.
فكيف يتجرأ الواحد منا بعد أن وصف الله ﻷ أم المؤمنين بهذه الصفات الجليلة - تلك الصفات التي لو نزلت واحدة منها في حق امرأة غيرها لأقامت الدنيا ولم تقعدها فخرًا واعتزازًا بنفسها، وحق لها التفاخر والاعتزاز - أن يرميها بتلك الصفات القبيحة والشتائم التي يتفوه بها بعض القوم؟ كيف له أن يرميها بالنفاق أو يطعن في نواياها؟!
فيا ترى؛ بأي وجه سوف يقابل الله ﻷ من يفعل مثل هذا؟!
وقد حكى لنا القرآن الكريم هذه الواقعة ثم اختتمها بآية، لو تمعن الناس فيها، لما تجرأ أحد منهم أن يتطاول على أم المؤمنين عائشة ل، إلا إذا كان منافقًا حاقدًا على الإسلام والمسلمين يبطن نفاقه ويتظاهر بالإسلام، أو رجلاً لا يؤمن بالقرآن الكريم.
تقول الآية: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٢٦﴾ [النور:26].
ما معنى هذه الآية؟
أي؛ لو أن عائشة كانت خبيثة لكان ولابد أن تكون لرجل خبيث، وإن كانت طيبة كانت لرجل طيب، والآية نزلت في عائشة وتتحدث عن براءتها من حادثة الإفك.
فيا أيها العقلاء!
من نصيب مَن كانت عائشة ل؟
فهي منذ أن بلغت كانت زوجة للرسول ج، وانتقل الرسول ج إلى الرفيق الأعلى ورأسه المبارك بين سحْر حجر عائشة ونحرها، ولم تتزوج عائشة بعد الرسول ج من رجل آخر قط ولم يكن لها ذلك، وقضت كل حياتها في تلك الحجرة التي عاشت فيها مع الرسول ج معززة مكرمة عشر سنوات من حياتها، وقد قال عنها المصطفى ج: «عائشة زوجي في الجنة»[14].
وهذا واضح أظهر من الشمس أنها كانت أحب زوجات الرسول ج بعد أم المؤمنين خديجة، وكان الرسول ج يحبها أكثر من سائر زوجاته.
يوم أن انتشر حديث الإفك على ألسنة المنافقين قال عمر ا لرسول الله ج: يا رسولالله! أتذكر يوم أن كان على لباسك نجاسة، فجاء جبريل يخبرك بها، فلم يكن الله ﻷ يرضى أن يرى النجاسة في ثيابك، فهل يرضى أن يرى زوجتك وشريكة حياتك نجسة ولا يخبرك؟!
ثم قال عمر: سبحانك هذا بهتان عظيم!
فنزلت الآيات من عند الله تؤيد ما قاله عمر ا، وتكرر نفس الكلمات، أجل! نفس الكلمات: ﴿سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦﴾ [النور:16].
أين عمر اليوم ليرى بعض المسلمين يتطاولون على أم المؤمنين ويرمونها بأكبر من الزنا؟!
أجل! يرمون أم المؤمنين بالكفر والنفاق والردة!!
يا سبحان الله! أين عمر ليصرخ بأعلى صوته: ﴿سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦﴾ [النور:16].
إذا لم يكن عمر بين أظهرنا، فلسنا أقل من أن نجتمع نحن المسلمين كلنا للدفاع عن عرض الرسول ج ودينه ونصرخ بأعلى صوتنا: ﴿سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦﴾ [النور:16].
يقول بعض علماء الشيعة ممن نذروا علمهم وجهدهم ودعوتهم لإضلال الناس والتلبيس عليهم، لا لدعوتهم وإرشادهم نحو الحق، يضربون مثالاً عجيبًا فيقولون:
«ليس هذا أمرًا جديدًا في سيرة الأنبياء، فقد كانت زوجة سيدنا لوط × وزوجة سيدنا نوح × كذلك»!
وقد توصلوا إلى استدلالهم هذا على طريقتهم الخاصة في القياس مع الفارق، ونقول في جوابهم: هذا ليس دليلا يعتد به! ما علاقة فساد زوجة لوط وزوجة نوح بأم المؤمنين زوجة الرسول ج؟ ولعل جاهل معاند مثلكم يقوم ويطبق منهجكم في القياس على سيدنا علي ا ويرمي زوجته بذلك؟!
فقد قلنا بأن الله ﻷ لا يرضى أن يرى الفساد في عرض نبيه ومصطفاه، وقد رأينا ذلك يوم أن أغرق زوجة نوح ×، وأمطر على زوجة لوط × مطرًا من النار!
وينبغي أن نرى ما صنعه الله بزوجة رسوله ومصطفاه محمد ج؟
فقد قضى رسول الله ج آخر أنفاسه من هذه الحياة في غرفة عائشة وبجوارها، ولم يذكر اللهﻷ عنها إلا الخير والطهر والعفاف.
فأين وجه التشابه بين أم المؤمنين عائشة ل التي برأها الله وزكاها من فوق سبع سماوات، ثم أكرمها في جوار رسوله ومصطفاه، وبين زوجتَي نوح ولوط اللتين فضحهما الله ﻷ في الدنيا قبل الآخرة؟!
وحتى بعد ما حدث بين علي وعائشة ب من الخلاف وانتصر علي ا على جيش مكة، لم ينزل علي عليها مطرًا من النار ولا أغرقها بطوفان، وإنما أكرمها وأرجعها إلى بيت حبيبها الرسول ج معززة مكرمة.
إذن، هذه قاعدة كلية لا استثناء فيها، فإن الخبيث والطيب لا يجتمعان ولاسيما في بيت النبوة؛ كما رأينا ذلك بين سيدنا لوط وزوجته، وبين سيدنا نوح وزوجته، وحتى بين آسية الطاهرة المؤمنة وزوجها فرعون الطاغي، إذ يفرق الله ﻷ بين الطاهرين الطيبين والخبيثات. وإذا بقيا بجوار البعض إلى آخر أيامهما لا يخرج الأمر من أن يكونا طيبين أو خبيثين!!
فماذا يرى السادة علماء الشيعة؟!
[13]- للمزيد، انظر كتاب آية التطهير وعلاقتها بعصمة الأئمة للدكتور طه الدليمي، وكتاب تأمل في آية التطهير للعلامة مصلح توحيدي. [المُصحح] [14]- أخرجه ابن سعد في الطبقات (8 /66)، قال الألباني: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم غير أنه مرسل لأن مسلمًا وهو ابن عمران البطين من صغار التابعين ولكن من المراسيل الصحيحة لأن له شواهد كثيرة تدل على ذلك»، منها قوله ج لها: «أَنْتِ زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ». أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/11)، وصححه ووافقه الذهبي والألباني. وانظر كذلك السلسلة الصحيحة للألباني برقم 1142. [الـمُصحح]يقول القرآن الكريم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٥٩﴾ [الأحزاب:59].
فهذه الآية تقول بأن الرسول ج كان عنده عدد من البنات، وليست واحدة فحسب..
عجيب!!
ويا ترى؛ من هن بنات الرسول ج؟
فقد كانت واحدة منهن زوجة لعثمان ا، والأخرى زوجة لأبي العاص بن الربيعا، والثالثة زوجة لعلي ا، ولم تكن الرابعة منهن متزوجة آنذاك، ولما توفيت زوجة عثمان الأولى زوّجه النبي ج من بنته الأخيرة هذه، ومن هنا لُقِب عثمان بذي النورين.
طيب! كيف يمكن للرسول ج وهو يعرف نفاق عثمان وسوء سريرته أن يزوجه ابنته؟ وكيف يمكن أن يزوجه مرة أخرى من ابنته الثانية بعد وفاة الأولى؟
إذا قالوا بأن الرسول ج لم يكن يعرف نفاق عثمان ونواياه الخبيثة! نقول: كيف لا يعرف الرسول ج نفاق عثمان والوحي ينزل عليه صباح مساء، وقد أخبره الله ﻷ بأسماء المنافقين كلهم؟
ثم كيف يمكن أن يجهل الرسول ج الذي أوتي الفراسة والحكمة، نفاق عثمان بعد هذه الحياة الطويلة والمعاشرة والتقارب؟ وإذا قالوا بأن الرسول ج كان يعرف نفاقه وسوء سريرته ومكره، فلماذا زوجه ابنته الثانية إذن؟!
لم يجب علماء الشيعة لا على السؤال الأول، ولا على السؤال الثاني، وإنما سلكوا طريقًا ثالثًا؛ وهو السكوت. أجل سكتوا ولم ينطقوا بشيء.
اسألوا الشيعة الذين يزعمون حب أهل البيت ويتفاخرون به، كم منهم يعرف أسماء أخوات فاطمة الزهراء ل؟!
أنت يا أخي الشيعي، الذي تقرأ هذه السطور؛ هل تعرف أسماء أخوات فاطمة بنت الرسولج؟ أكثركم يجهل أسماء أخوات فاطمة الزهراء ل، دعك من سيرتهن أو سيرة أولادهن وأزواجهن؟!
هل تعدون إخفاء الحقيقة حلاً ناجحًا؟ وإلى متى؟..
إذا كانت فاطمة من أهل البيت، فكذلك أخواته اللاتي كن زوجات عثمان يُعدن من أهل البيت، وإذا كانت ميزة علي ا أنه تزوج من بنت الرسول ج فلعثمان ميزتان إذ تزوج بنتين من بنات الرسول ج!
أجل، لا ننسى أن نذكر أن هناك أحاديث تقول بفضل فاطمة على سائر أخواتها.
وكذلك عن بنات سيدنا علي ا، فتسمعون كثيرًا اسم زينب أخت الإمام الحسين، لكنكم قلما تسمعون اسم أختها أم كلثوم، أي؛ أخت الإمام الحسين الثانية، فلماذا؟ هل لأنها كانت زوجة لسيدنا عمر ا؟ أليست أم كلثوم من أهل البيت؟
وقد قال الله تعالى: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٢٦﴾ [النور:26]، إذا كانت بنات الرسول ج وبنات علي ا من الطيبات، فقد كان أزواجهن أي؛ عمر وعثمان - في ضوء هذه الآية الكريمة - من الطيبين كذلك، وإذا كنتم تقولون بأن بنات الرسول ج وبنات عليا ممن تزوجهن عمر وعثمان لم يكن من الطيبات، فلا تزعموا محبة أهل بيت الرسول ج وأهل بيت علي ا! وذلك لأنكم لا ترون أزواج الرسول ج من الطيبات ولا بناته...
لقد كان أبوبكر الصديق ا أول المتهمين في المؤامرة الرخيصة أو الدسيسة المزعومة التي دبرت في اغتصاب حق علي ا، أو الانقلاب الأسود على خلافته. من هنا كان ولابد أن نلقي الضوء على شخصيته، وننظر إلى سوابقه وإلى تفاصيل سيرته؛ لعلنا نجد ثغرة تكشف لنا عن سوء نواياه، ولعلنا نصل إلى أمور توضح لنا معدن الرجل إن كان صالحًا أو طالحًا..
شعورنا بما تحمّله الرسول ج في بداية أمر الإسلام من المشاق في سبيل دعوته بين شعاب مكة الصلبة وشعبها المتعنت الجلف، يجعلنا نعتز به ج، ونكنّ له حبًا فوق حب، فقد تحمل ج كل المصائب وصبر على كل الظروف القاسية عسى أن يهدي الله به الناس، فما آمن له في بداية أمره إلا زوجته خديجة ل ثم صديقه أبوبكر ا.
ويقول الشيعة بأن عليًّا هو الرجل الثاني، والثالث أو الرابع - ولعله الخامس - هو أبو بكر.
نقبل منهم كل هذا، لأنه لا يغير من الواقع شيئًا، ولعلنا لسنا بحاجة أن نذكر بأن سيدنا عليا كان صبيًا لم يتجاوز ثمانية أعوام يعيش في بيت الرسول ج، وتحت رعايته الكريمة، في حين أن أبابكر كان صديقه الحميم، وقريبًا من عمره ج.
فقد آمن به أبوبكر ا، وصدق في إيمانه، وكان يقبل من الرسول ج كل شيء بصدر رحب وقلب واسع.
ففي قصة الإسراء والمعراج قال الرسول ج بأنه أسرى إلى بيت المقدس، ومن هناك عُرج به إلى السماوات العلى، وجاوز السماء السابعة، ووصل إلى سدرة المنتهى، ثم رجع في نفس الليلة إلى فراشه. استهزأ به كفار قريش. وطار أبوجهل بالخبر إلى أبي بكر وأخبره مستهزءًا بما يقوله الرسول ج؛ عسى أن يوسوس في صدر أبي بكر ويجعله يشك في إيمانه. لكنه وجد أبابكر يتساءل بقلب الرجل المؤمن: أو قال ذلك حقًا؟
أطلق أبو جهل ضحكة عالية في الهواء يستهزئ بالرسول ج وقال: نعم، محمد يزعم ذلك.
فإذا به يتجمد كالصخرة الصماء وهو يسمع أبا بكر المؤمن الصادق يقول: إن كان قال ذلك فقد صدق.
هذا الموقف وغيره من المواقف الرشيدة جعلت أبابكر يُلقب بالصديق.
ومما يكشف لنا عن مدى حب أبي بكر ا للرسول ج، ومدى تفانيه وإخلاصه وإيمانه له أن قدم بنته وفلذة كبده التي لم تتجاوز تسع سنوات بعد إلى الرسول ج الذي تجاوز الخمسين من عمره ليتزوجها.
أجل، قدم ابنته إلى الرسول ج في تلك الأيام العصيبة التي كانت سهام الكفر من كل جهة تصوب نحو الرسول ج، وكان المصطفى ج في غاية الضعف تهدده المصائب والأخطار من كل جانب، إلى درجة أنه بدأ يفكر في الهروب من بيته ومدينته وعشيرته.
شارك أبوبكر الصديق ا رسول الله ج في كل المواقف العصيبة، وشاركه في كل الظروف المستعصية التي تصفي معادن الرجال وتكشف عن مكامن الصدور.
ويوم أن جاء الأمر بالهجرة، هاجر جميع المسلمين إلى المدينة، ولم يبق في مكة إلا رسول اللهج وأبوبكر وعلي ب، وتم الاتفاق على أن يبيت سيدنا علي ا على فراش الرسول ج ليفدي الرسول ج بنفسه كأول فدائي يقوم بعملية استشهادية في الإسلام. ويُكلَّف أبوبكر بصحبة الرسول ج في الهجرة، ليشاركه آلام الطريق وأخطار الأعداء الذين يتربصون بالرسولج من كل حدب وصوب.
دعوني أخرج من سيرة أبي بكر ا قليلاً، لأوضح نقطة قد يستغله بعض من في قلبه مرض. فأنا لم أركز في هذا الكتاب على سيرة علي ا، وعلى مناقبه وفضائله ليس لأنني - لا سامح الله - أنكر بطولاته وشجاعته وإيمانه وإخلاصه وتقواه، بل أعترف وأقر بكل ذلك وأعتز به فهو صهر الرسول ج، وأول فدائي في الإسلام، وفاتح خيبر ومن المبشرين بالجنة ومن الخلفاء الراشدين، لكن ليس بيننا وبين الشيعة خلاف على مكانة علي ا، وعلى مناقبه فنحن نتفق معهم في كل ما يقولونه في علي ا، غير ما يغالون ويحرفون من سيرته.
نعود لنقول: إن أبا بكر ا رافق الرسول ج وخرجا في رحلة الهجرة المشهورة، وخرج الكفار يتعاقبونهما ويترصدون بهما في كل مكان، فالتجأ الرسول ج وصاحبه إلى غار ثور عسى أن تخف زحمة المطاردة فيستمروا في الهجرة، لكن الكفار استعانوا بخبراء الطريق ووصلوا إلى غار ثور. وكان أبوبكر ا قلق مما يجده في هذا الموقف الحرج فها هم الكفار يتقدمون إليهما خطوة خطوة، وها هو رسول الله ج سرعان ما سينكشف أمره، وها هي الأخطار الجسيمة تكاد تنزل كالصاعقة على رسول الله وعلى دعوته، فكان قلب أبي بكر يتفتت ألمًا وحزنًا على رسول الله ج. وشعر الرسول ج بما يعانيه صاحبه، فهدأ من روعه وقال له: «يا أبابكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».. «لا تحزن، إن الله معنا».
وهذه الواقعة هي تلك التي سجلها القرآن الكريم: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠﴾ [التوبة:40]. نعرف من جملة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40]؛ أن الرسول ج كان يقول لأبي بكر: يا أبابكر، إن الله معي ومعك، ونعرف كذلك بأن الله مع الجميع؛ مع الكافر ومع المسلم، يراقب أعمالهم، لكن الرسول ج يقصد هنا شيئًا آخر، فهو يعني بكلامه هذا: يا أبابكر، لا تحزن ولا تفكر فإن الله معي ومعك يحافظ علينا وينجينا من كيد الكافرين. أي؛ أن الله برحمته معنا.
ولو كان هنا علي ا مع الرسول ج في هذا الموقف لكان كل صبي شيعي يلقن هذه الآية ويحفظها، ولكانت كلمة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40] شعار المذهب وورد ألسنة القوم، أما لسوء حظهم أن الآية جاءت تصف موقفًا من مواقف أبي بكر الرشيدة! إذن ينبغي أن يكون لها تفسير وتأويل آخر غير ما تقصده الآية!! فجاء علماء الشيعة ليضربوا أخماسًا في أسداس ففكروا وقدروا إلى أن قالوا: أجل، كان أبوبكر ناقص الإيمان، فخاف!
وبمكر ودهاء فسروا كلمة «الحزن» بالخوف! وشتان بين المعنيين!
فقد حق لأبي بكر الصديق ا، أن يحزن على هزيمة الإسلام وانتصار الكفر، وعلى شهادة الرسول ج، وشهادته هو ولم يكملا المسيرة بعد، ومازال الدين لم يكتمل والرسالة لم تنتهي بعد، فإذا كان هذا الحزن عيبًا ونقصًا يعاب عليه الصديق ا ينبغي أن نعيب على الرسولج كذلك إذ كان يعتريه شيء من الحزن أحيانًا، أفلم تقرؤوا قوله تعالى: ﴿قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ ٣٣﴾ [الأنعام:33]. نقول لمن يفسر «ا لحزن» بالخوف:
أولاً: ألا تخاف الله وألا تتقيه في هذا التأويل وهذا التحريف؟
ثانيًا: حتى الخوف في مثل هذه المواقف لا يعد ذنبًا ولا نقيصة، أو لم تقرؤوا قول ملائكة الرحمن لسيدنا لوط × فيما يرويه لنا الله ﻷ:
﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗاۖ وَقَالُواْ لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٣﴾ [العنكبوت:33] هذا هو الجواب الذي استنبطناه من القرآن الكريم، لعلهم عسى أن يصغوا إليه.
وكان لأبي بكر الصديق ا مواقف عظيمة وخدمات جليلة في المدينة كذلك، أكثر من أن تعد وتحصى، فقد رافق الرسول ج في جميع معاركه وغزواته.
لقد آمن ثم هاجر، ثم جاهد، فهو من أبرز من يشملهم قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٢٠ يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ ٢١ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ٢٢﴾[التوبة:20-22].
وقد كان أبوبكر الصديق ا ممن لا يبخلون في سبيل الله تعالى بما وهبهم الله من المال، فكان رمزًا وقدوة في الإنفاق في سبيل الله ﻷ؛ وكان ممن ينفق عليهم ويلطف بهم أحدُ أقاربه الفقراء، ومن سوء حظه أنه سقط في المؤامرة التي قادها المنافقون في حديث الإفك، فأشاع بعض كلامهم عن عائشة ل، فحلف أبوبكر الصديق ا ألا ينفق عليه مرة أخرى، لكن الله ﻷ صحح هذا الموقف منه فأنزل على رسوله آيات بينات تُتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى:
﴿وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٢٢﴾ [النور:22]. لما سمع أبوبكر الآية تقول له: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡ﴾ [النور:22] قال بحزم الرجل المؤمن الصادق: بلى، أحب أن يغفر الله لي. ثم بدأ ينفق على ذلك الرجل ابتغاء رحمة الله وغفرانه ورضوانه.
وقد كان آية في البطولة والفداء، شهدت له ساحات المعارك ما لا يستطيع إنكاره الأعداء. وكان له ولد مشرك يقاتل في صف الكفار، قال له بعد ما من الله عليه بالإسلام: يا أبتِ، في إحدى المعارك وصلت خلفك، وكنت قادرًا على قتلك، لكن أخذتني رأفة البُنوّة فلم أهجم عليك.
فقال له أبوبكر: والله الذي لا إله إلا هو، لو وجدتك في مثل هذا الموقف لقطعت عنقك.
هذا هو المؤمن الذي تعجز الجبال الراسيات عن حمل إيمانه. ذلك الرجل الذي باع نفسه وماله لله، يشتري بها رضوانه ومغفرته.
ولما اشتد مرض رسول الله ج وحانت لحظاته الأخيرة أمر أبابكر أن يصلي بالناس إمامًا.
وبعد رحيل الرسول ج إلى الرفيق الأعلى تولى قيادة سفينة الإسلام في تلك الأمواج الهالكة وتلك الظروف الصعبة.
لم تستمر خلافته إلا زمنًا يسيرًا لكنه استطاع أن يسجل على صفحات التاريخ أسطرًا يعتز بها الإسلام والمسلمون، ويفتخر بها التاريخ الإسلامي؛ فقد استطاع بعون من الله ﻷ أن يعيد للإسلام شوكته وسلطانه بعد أن كاد أن يذهب أدراج الرياح. قضى على فتنة المرتدين وقطع رؤوس أبالسة البشر الذين ادعوا النبوة من بعد خاتم الأنبياءج، ثم جهز الجيوش المؤمنة وضرب بهم حصون بلاد الفرس والروم، فأذاق إمبراطوريات العصر طعم الهزيمة.
وشعر بالخطر على القرآن الكريم يوم أن استشهد عدد كبير من قراء كتاب الله في المعارك الدامية التي دارت بينه وبين المرتدين، فأمر بجمع القرآن الكريم، وهذه منقبة له جد عظيمة لابد أن يسجل له بمداد من ذهب.
رحم الله أبابكر الصديق، وغفر له، ورضي عنه، وأدخله الجنان والفردوس الأعلى، وجمعنا به في ركب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، إخوانًا على سرر متقابلين.. آمين!
لعل هذا العنوان يبدو غريبًا لك، لكنه حقيقة لا مراء فيه، وذلك؛ لو أننا حذفنا الصحابة من الإسلام فإن أصل الدين سيقع في بحر متلاطم من الشك والريب؟!
يجب أن يعرف الجميع أن أصل الدين قائم على عمودين اثنين هما: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
والقرآن جمعه الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-؛ فإن شككنا في صدق الصحابة وإيمانهم كيف لنا أن نؤمن بصحة نص القرآن الكريم؟!
وقد نقلت السنة إلينا عن طريق الصحابة -رضوان الله عليهم أجميعن-؛ فلو شككنا في صدق الصحابة وقلنا إنهم كانوا يتبعون أهواءهم ولا يخافون من الله ﻷ ولا يتقونه، فكيف لنا أن نصدقهم فيما نقلوه من كلام نبينا ج؟
أدرك الشيعة هذه المعضلة وحاولوا أن يجدوا حلاً لها، فأوجدوا اثنا عشر رجلاً يوصلون الرسول ج باثنا عشر جيلاً من الأمة، والبداية من عند سيدنا علي ا وتنتهي بالإمام المهدي...
لكن بقي حلهم حلاً ناقصًا، في ميزان العلم والعقل السليم؛ وذلك لعدة أمور:
أولاً: لأن الرجل الرابع في هذه السلسلة يوم أن استشهد أبوه لم يكن قد بلغ، والإمام العاشر يوم أن مات أبوه لم يكن إلا صبيًا في الثامنة من عمره، والإمام الثاني عشر تولى قيادة الأمة وأمسك زمام أمورها ولم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره!
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف حفظ هؤلاء الصبيان الذين لم يتجاوزوا الثامنة أو الخامسة من أعمارهم كل هذه الأحاديث؟!
ثانيًا: افترض معي - جدلاً - أن هذه السلسلة الاثنا عشرية صحيحة؛ ستظهر لنا مشكلة أخرى، وهي: أن عليًّا ا - وهو رأس السلسلة - لم يكن مع الرسول ج في كل حالاته، فلم يكن يحفظ كل أحاديث الرسول ج، ولم يكن يرى كل أعماله - أي مجموع سنة الرسول القولية والفعلية - لينقلها إلى الجيل الثاني. فمثلاً: لا شك أن عليًّا بعد صلاة العشاء كان يمشي إلى بيته كما كان الرسول ج ينصرف إلى بيته، فلا يرى علي ا ما يصنعه الرسول ج في بيته من صلاة التهجد، والشؤون المتعلقة بالأسرة و...
فلو قبلنا هذه السلسلة سنجدها سلسلة ناقصة...
فلا تكتمل سنة الرسول ج وسيرته في الحياة، تلك التي جعلها الله لنا شرعةً ومنهاجًا وأسوة، إلا إذا نقل لنا جميع أصحاب الرسول ج وتلامذته وأهل بيته كل ما رأوه وما سمعوه منه ج. وعندما نرفض الصحابة كلهم فكأننا رفضنا السنة كلها!
هرب علماء الشيعة من هذه المشكلة إلى تصور جديد لم يكن للبشرية عهد به، إذ زعموا بأن الأئمة فوق البشر، وقد وهبوا علمًا لَدُنيًّا، فلم يكونوا لتعلمه بحاجة إلى المدارسة والتعليم أو إلى أسباب أخذ العلم ووسائله، ولا يؤثر العمر في صحة ما نأخذه منهم من الأحاديث، وهكذا صنعوا اعتقادًا جديدًا في القرآن الكريم والسنة النبوية لا يسانده شيء من دعائم العلم والعقل، وبذلك فتحوا الباب على مصراعيه لكل من هب ودب ليفتري على الرسول ج، وعلى الأئمة ما شاء.. كيف شاء.. متى شاء.
ولا لوم عليهم، فقد اضطروا إلى طرق هذا الباب، وإلى وضع هذه الطريقة في التفكير، وهذا المنهج في العمل؛ وذلك لأنهم أساءوا إلى الصحابة وحذفوهم من الواجهة فسدوا طريقهم إلى الرسول ج، فاضطروا إلى صناعة أسلاك خيالية مزعومة توصلهم إليه ج، وبذلك حاولوا أن يحفظوا لهم صلة بالرسول ج، ولم يجانبهم الحظ في التوفيق فضلوا الطريق!!
أما نحن المؤمنين بالصحابة لم نواجه مشكلة في ذلك؛ إذ نقل إلينا زوجات الرسول ج ورجال الصحابة ونساؤهم كل حركات الرسول ج وسكناته وكل أحاديثه التي سمعوها منهج بدقة متناهية تفوق الوصف، فمن باب المثال خذ شخصية واحدة منهم:
تزوج الرسول ج من عائشة ا أول ما بلغت، فقضت عائشة أجمل أيام شبابها في بيت النبوة، ورافقت النبي ج ليل نهار، فكانت لها ذكريات كثيرة نقلتها لنا، ولم يرزقها الله ﻷ ذرية لتتفرغ للرسول ج تمامًا، فتحفظ منه كل شيء، وكذلك لم يسمح لها الله ﻷ بالزواج من بعد الرسول ج لإكمال هذه الوظيفة، ولعل الله ﻷ أطال عمرها بعد وفاة الرسول ج لتنشر السنة على أوسع قدر ممكن، فقد عاشت بعد الرسول ج أكثر من نصف قرن من الزمن، وكان الناس يفدون إليها من كل حدب وصوب، يسمعون حديثها عن رسول الله ج ويسألونها عن سيرة نبيهم ج.
لا ننسى أن الله ﻷ منع زينة الدنيا وبريقها عن نساء النبي ج، وهن كذلك زهدن في الدنيا ومتاعها، فكانت السنة النبوية ومدارستها ونشرها همهن الوحيد وشغلهن الشاغل.
وقس عليها سائر الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، فكل صحابي كان كالمرآة يعكس زاوية من زوايا حياة المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- للأجيال القادمة.
ومن هنا نقلت إلينا صورة كاملة عن حياة الرسول ج لا نجد لها نظيرًا في أية أمة من الأمم ولا يعرف لها التاريخ مثالاً يضاهيها، وها نحن نعرف أدق تفاصيل حياته ج، إلى درجة أننا نعرف أن الرسول ج لما كان يدخل المسجد يقدم أي قدميه على الأخرى..
واليوم تتفقه نساء المسلمين على ضوء ما نقلته لنا أم المؤمنين عائشة من تعاليم الرسول ج للمرأة المسلمة، فلا يواجهن أية مشكلة في الحياة. وماذا عسى أن يقول علماء الشيعة في كل ذلك؟ فهم لا يقبلون إلا فاطمة ل، ونعرف جميعًا أن فاطمة أول ما أدركت نفسها انتقلت إلى بيت علي ا، فانشغلت بعش الزوجية عن الرسول ج، وقلت زياراتها ولقاءاتها بالنبيج في حين أن عائشة كانت ترافق الرسول ج ليلاً ونهارًا.
وقد انتقلت فاطمة الزهراء -رضوان الله عليها- إلى رحمة الله ﻷ بعد ستة أشهر من وفاة الرسول ج، وفي هذه الفترة القصيرة فيما يزعم الشيعة لم يكن لها عمل إلا أن تأخذ بيدي ريحانتَي الرسول ج؛ الحسن والحسين ب وتذهب بعيدًا عن أعين الناس للبكاء والعويل، أو تذهب إلى أبي بكر لتطالبه بحقها. فلم تنشغل بتعليم النساء، في حين أن عائشة ظلت نصف قرن من الزمن بعد الرسول ج، يضرب الناس إليها أكباد الإبل، يتعلمون منها أمور دينهم، ويسألونها عن أدق أمور نبيهم ج.
فعلى أسس العقل والعلم والمنطق السليم؛ إن إنكار الصحابة الذين كانوا صدى لتعاليم النبوة، وكانوا نماذج حية من القرآن المكتوب، يعكسون إلى الأجيال تعاليم السماء التي تلقوها من مدرسة الرسول ج يعني تمامًا إنكار القرآن الكريم والسنة النبوية لا غير.
ولا تستطيع تلك القناطر الخيالية وتلك الجسور الموهومة التي تشبه أساطير الأولين أن تحفظ الإسلام بشكل عام، والسنة النبوية بشكل خاص، من تلك الضربة القاتلة التي تصيبهما من إنكار الصحابة!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(12)
فـي ظـلال ســيرة أبـي بكـر الصـديـق ا
(13)
لا يكتمل إيمان المرء ما لم يؤمن بالصحابة!!