سلسلة سير الآل والأصحاب (17)
بذل الإخلاص في سيرة عمرو بن العاص رضي الله عنه
عرض سيرة عمرو بن العاص رضي الله عنه ورد الشبهات المثارة حوله
وليد محمد سالم عبد الحق
مراجعة وتنقيح مركز البحوث والدراسات بالمبرة
الطبعة الأولى
1435هـ / 2014م
مبرة الآل والأصحاب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد، فهذا هو كتاب (بذل الإخلاص) الذي يندرج ضمن السلسلة الرائدة (سير الآل والأصحاب) التي حملت المبرة على عاتقها بيانها للناس، وإيصالها لهم بأسلوب علمي رصين، يجمع بين سهولة الأسلوب، وجدية التناول، والتزام المنهج العلمي في البحث، مع لغة راقية بعيدة عن تبادل الاتهامات، وأجواء الشحن الطائفي، يأتي هذا الكتاب في إطار سياسة المبرة في التعاون العلمي مع الكفاءات البحثية خارج المبرة بما يصب في هدفها السامي: تاريخ الآل والأصحاب، وتصفيته من الشوائب التي كدَّرته، من قبل المستشرقين ومن دار في فلكهم من أعداء الإسلام، فضلاً عن تقديم صورة صافية نقية تبرز صورتهم الحقيقية للناس، وتصحح كثيراً من الأخطاء والمفاهيم التي شاعت بين أبناء المسلمين عنهم.
ومن بين شخصيات الصحابة التي طالها كثير من الظلم والإجحاف شخصية الصحابي الجليل عمرو بن العاص س، مما جعل من المناسب إفراده بمصنفٍ يبدِّد ظلاماً ويحقُّ حقيقة، فقد افتُرى عليه كثير من الأقوال والمواقف والشبهات التي لا تثبت أمام النقد العلمي والتاريخي الموضوعي، مع قلة المصنفات التي تناولت تلك القضايا بالدراسة والتحليل.
والحق أن شخصية عمرو بن العاص س مثيرة للاهتمام والدراسة فهو ذلك الحكيم الكبير – المعروف- جاهلية وإسلاماً- بحكمته البالغة، ورجاحة عقله، وبُعْد نظره، ثم هو ذلك المؤمن الصادق مسلم القلب – كما شهد له النبي – وهو ذلك القائد الباسل، المغوار الذي لا يشق له غبار، وهو الحاكم العادل، الذي فتح مصر – قلب الدنيا حينها – وحَكَمَها.
فإذا أضيف إلى ما سبق مشاركته في أحداث الفتنة بين الصحابة وبروز دوره فيها، مع بلوغ ذلك الدور ذروته في حادثة التحكيم المشهورة، فنحن أمام شخصية ثرية حافلة بالمناحي والزوايا، التي يجدر تحليلها ودراستها وفق منهج علمي منصف موضوعي، لا يغتر ببهرج التاريخ غير المحقق، ولا ينساق خلف الدعاوى العارية عن الدليل، ولا يهدر- في نفس الوقت – قيمة العقل، وقراءته للأحداث بعين التحليل والاستنباط.
لهذا كان ذلك الكتاب – بين يديك – الذي يتعرض للذب عن الصحابي الجليل (عمرو بن العاص س) وبيان فضائله ومناقبه ومناقشة الشبهات المثارة حوله بأسلوب علمي دعوي هادئ، أفاد فيه الأخ الباحث / وليد محمد سالم عبد الحق وأجاد، وبذل فيه جهداً طيباً يشكر عليه، ثم كان دور إخوانه في مركز البحوث والدراسات بالمناقشة والمشاورة، وإكساب العمل صبغة أعمال المبرة بمنهجيتها العلمية والفكرية الفريدة الرائدة.
هذا، وفي الختام فإن مبرة الآل والأصحاب تجدد رؤيتها، واستعدادها للتعاون مع كل الباحثين وطلبة العلم الجادين بما يصب في خطها العلمي الدعوي في الدفاع عن الآل والأصحاب.
محمد سالم الخضر
رئيس مركز البحوث والدراسات
الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، له الحمد كما ينبغي لكمال وجهه وعظيم سلطانه. أحمده على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، وما بنا من نعمة فمن الله، ومن عد نعمة الله فلن يحصيها.
فلله الحمد والشكر على أن يسر لي كتابة هذا البحث، وأعانني على إتمامه، فله الحمد أولاً وآخراً؛ على توفيقه وتسديده، وأسأله سبحانه المزيد من فضله ونواله، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
ومن منطلق الهدي النبوي والأدب المحمدي «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»- أخرجه أحمد في مسنده (13) رقم (7938)- أتوجه بالشكر لوالدَيَّ الكريمين اللذين لهما الفضل الكبير بعد الله عز وجل في طلبي للعلم وتحصيله والنظر فيه؛ فالله أسأل أن يحفظهما ويرعاهما ويقر عيني بهما في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأثني بالشكر لمركز البحوث والدراسات بمبرة الآل والأصحاب على مشاركته في عملي في هذا الكتاب، ابتداءً باقتراح فكرته، ثم الإشراف عليه، والتدقيق والمراجعة، والاستدراك على بعض مباحثه، وإبداء الملاحظات القيمة، حتى خرج على الوجه اللائق، والشكر موصول لإدارة المبرة لاهتمامهم بالكتاب ولقيامهم بطبعه ونشره.
كما أتوجه بالشكر لكل من علمني أو أرشدني أو نبهني على خطأ.
وأخيراً هذا جهد المقل؛ فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأبى الله الكمال إلا لكتابه العزيز قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكۡرِ لَمَّا جَآءَهُمۡۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ﴾. سورة فصلت الآية (41-42).
وكتبه
وليد محمد سالم عبد الحق
1/1/1435 ھـ
بدولة الكويت حرسها الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [1].
وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا﴾[2].
وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا﴾ [3].
أما بعد:
فإن من الضروريات الخمس التي يجب على المسلم حفظها الدين الإسلامي، فسعادة المرء في الدنيا والآخرة بدينه، وبقدر ما يحافظ المرء على دينه يحصل له من العزة والكرامة.
عن ابن عمر س قال: قال رسول ص «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي»[4].
بل شرف الأمة بشرف دينها، قال عمر بن الخطاب س: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»[5]. فلكي تبقى لنا كرامتنا وعزتنا وتبلغ أمتنا الإسلامية قمة مجدها وشرفها وسؤددها؛ كان لزاماً على كل مسلم أن يحافظ على دينه وأن يصون مبادئه، والحفاظ على الدين يكون بتطبيقه، وتخليصه مما ليس منه، وبالتصدي لكل ما يقدح فيه، أو ينقص منه.
وإن مما يقدح في الدين؛ القدح في أصحاب رسول الله ص، إذ هم الواسطة بيننا وبين نبينا ص، فهم نقلة دينه وحملة أمانته، وعليهم المُعَوَّل في فهمه ودراية أحكامه، فلهم الفضل الأعظم على من جاء بعدهم من الأمة؛ ولذلك وجب شكرهم بالوفاء لجهودهم، والدفاع عن أعراضهم بشتى الوسائل والطرق، ومن أهم هذه الوسائل الكتابة، فالكتابة في هذا المجال ذات أهمية عظيمة؛ إذ هي تتعلق بأساسيات الدين القويم، فلذا أحببت أن تكون لي مشاركة في هذا الباب أدلو فيه بدلوي، باذلاً فيه جهدي؛ لعلي أبلغ بحبي لأولئك الأخيار بعض ما قصدت من الدفاع عنهم في بحث متواضع تدور مسائله حول الصحابي الجليل عمرو بن العاص س. ووسمته بـ (بذل الإخلاص في سيرة عمرو بن العاص س).
وقد تناولت فيه: - بعد التمهيد- ترجمته، وسيرته، والشبه المثارة حوله مقرونة بالرد عليها وتفنيدها، وبيان فسادها على أصول البحث العلمي المتجرد، سالكاً في ذلك المنهج الاستقرائي التحليلي المعروف، راجياً من الله أن يجعله لوجهه خالصاً، وللذنوب ممحصاً، ومن عذابه وغضبه مخلصاً، وأن ينفع به كاتبه، وقارئه، والناظر فيه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أسباب اختيار الموضوع:
ثمة أسباب عدة دفعتني لدراسة هذا الموضوع، ومن ذلك:
أولاً: أني لم أطلع على دراسة لهذا الموضوع أثناء كتابتي لهذا البحث.
ثانياً: ما رأيته من روايات ضعيفة؛ شوهت صورة ذلك العَلَم الكبير، وتلك الشخصية التاريخية الفذة وذلك بالنيل من ديانته، وسيرته، وحسن رأيه، مع أنه كان موضع ثقة رسول الله ص؛ إذ هو أحد عماله وأمرائه، ويكفيه فخراً وشرفاً أنّه صاحب تلك الشهادة الرفيعة الصادرة من المدرسة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وسلام وتحية: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ»- كما سيأتي في ثنايا البحث - فكان مما يجدر بي دراسة هذه الروايات لتظهر لنا شخصيته الحقيقية، وليزول ماعلق في أذهان البعض من نظرة سيئة تجاهه؛ نتيجة تلك الروايات الضعيفة.
ثالثاً: أن دراسة هذا الموضوع يعتبر أصلاً أصيلاً من أصول الدين، وباباً عظيماً من أبوابه، لها أهمية عظيمة؛ إذ الصحابة هم حملة هذا الدين إلينا، والطعن فيهم طعنٌ في الدين، بل طعنٌ في من اصطفاهم لرسوله - ننزه الله عن ذلك -، ودراسة هذه الروايات وبيان زيفها تمنع الوقيعة في صحابة رسول الله لمن كان مستنده تلك الروايات.
رابعاً: أن الذب عن المسلمين كما هو معلوم من أجلِّ القربات، وأعظم الطاعات كما في حديث أسماء بنت يزيد ل مرفوعاً «مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ»[6]. فكيف الشأن بمن يذب عن أصحاب محمد ص ويدافع عن أعراضهم!.
الدراسات السابقة:
لقد اعتنى علماء الإسلام في القديم والحديث عناية كبيرة بالكتابة في شأن الصحابة من حيث ذكر فضائلهم، وواجبنا نحوهم، وذكر تراجمهم، وهذه الكتب منها ما هو مختص ومستقل بهم، ومنها ما هو مضمن في كتب ضمن مواضيع أخرى، وهذه المصنفات المستقلة منها ماهو في عموم الصحابة ككتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل المتوفى سنة (241هـ)، وكتاب فضائل الصحابة للنسائي المتوفى سنة (303هـ)، ومنها ما هو خاص ببعض الصحابة ككتاب فضائل أبي بكر الصديق س للعشاري المتوفى سنة (451هـ)، وكتاب مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب س لابن المغازلي المتوفى سنة (483 هـ).
ولست الآن في صدد ذكر الكتب التي صنفت في الصحابة عموماً، بل أريد ما كتب في الصحابي الجليل عمرو بن العاصس على وجه الخصوص، وبالأخص المؤلفات التي تناولت دراسة الروايات التي شوهت تاريخ وشخصية هذا الصحابي الجليل.
ولقد وجدت عدة كتب تناولت تاريخه في الجاهلية والإسلام منها كتاب:
1- عمرو بن العاص لعباس محمود العقاد:
ذكر في كتابه نشأة عمرو والتعريف به منذ مزاولته للتجارة قبل الإسلام إلى إمارته الثانية على مصر في زمن معاوية، فهو يحلل الآثار الواردة في أخبار عمرو؛ ليصل إلى معرفة طبيعة عمرو ونفسيته ثم يربط الوقائع والأحداث بتلك الطبيعة والنفسية، وقد أبدع في جانب التحليل، وتيقن إلى ما وصل إليه فتجده ربما يؤكد وقوع الحدث لمطابقته لطبيعته وإن ضعفه المؤرخون.
2- تاريخ عمرو بن العاص، د. حسن إبراهيم:
وهي رسالة تقدم بها إلى الجامعة المصرية كلية الآداب ونوقش فيها وفي غيرها من المسائل- سنة 1921 م – وحصل بها على درجة الدكتوراة في الآداب، واحتوى الكتاب على تاريخ عمرو من الولادة إلى الوفاة، وركز في كتابه على تحليل شخصية عمرو حيث يقول ص284: وقد امتاز عمرو بين قومه بمزايا عديدة ظهر أثرها في أعماله ظهوراً بيناً، وتجلت صورتها للناس كلما ذكر اسمه، فكانت ذات أثر كبير في أحوال الأمة الإسلامية: الدينية والسياسية والحربية والاجتماعية.
وبتحليل نفس عمرو يعرف المرء الصلة بين مواهبه وبين هذه الأحوال، تلك النفس التي حللناها فيما مررنا به من استقصاء أخباره وتتبع آثاره وذكر أقواله المأثورة وحكمه التالدة.
وامتاز كتابه بترجيح الخلاف الواقع بين المؤرخين؛ حيث يذكر الروايات المختلفة ويقارن بينها ثم يرجح بحسب ما تم التوصل إليه.
3- القائد المسلم والسفير الأمين للواء الركن محمود شيت خطاب:
اهتم في كتابه بالمجال العسكري وهو جانب عظيم ولا غرو، فهو اللواء الركن.
4- عمرو بن العاص القائد والسياسي، د. عبد الرحيم علي:
اهتم بجانب عمرو القيادي والسياسي، بل هو الدافع له لكتابة هذا الكتاب، كما نص عليه في المقدمة، فتجده يذكر الروايات ويحلل ويستنتج منها شخصية عمرو.
5- حياة عمرو بن العاص لمحمود شلبي:
أسلوب قصصي جميل ذكر مناقبه وحروبه والفتوحات التي شارك فيها، وما حصل له من الولايات، ثم انضمامه إلى صف معاوية حينما حصل الخلاف بينه وبين علي ش، وختم بوفاته.
6- مشاهير العرب (عمرو بن العاص فاتح مصر)، لعبد السلام العشري:
أسلوب قصصي جميل، بدأ كتابه بحلف الفضول ثم إرساله للحبشة من قبل قريش؛ لمقابلة النجاشي ليرجع إليهم من هاجر إليه من المسلمين، وبعدها إسلامه، وأن النبي ص جعله على سرية ذات السلاسل وأرسله إلى ملك البحرين ليعرض عليه الإسلام، وذكر بعدها فتوحات الشام وفتح مصر في عهد أبي بكر وعمر ب، ثم انضمامه إلى صف معاوية حينما حصل الخلاف بينه وبين علي ش، وختم بوفاته.
وجميع الكتب المتقدمة جميلة ومفيدة، وكما يقال: لا يخلو كتاب من فائدة، لكن لعدم الاعتناء بصحة الرواية في بعض ما تقدم، ولعدم التدقيق في البعض الآخر، شملت هذه الكتب على بعض الروايات التي فيها لمز لهذا الصحابي الجليل، أو وصْفه بأشياء لا تتناسب مع مجتمعات الصحابة[7].
وينبغي لمن أراد أن يدرس شخصية صحابي من خلال ذكر الروايات؛ أن يحلل تلك الروايات بما يتناسب مع مجتمعهم لا بواقعنا ومجتمعنا.
وأفضل من رأيت اعتنى في كتابة تاريخ هذا الصحابي الجليل بذكر الرواية الصحيحة، والتنبيه على الرواية الضعيفة التي شوهت تاريخه هو كتاب:
7- عمرو بن العاص الأمير المجاهد للدكتور منير محمد الغضبان:
إلا أن موضوع الكتاب لا يتناسب معه جمع الروايات الضعيفة ودراستها لأن هدف صاحب الكتاب هو عرض الصورة التاريخية الصحيحة لهذا الصحابي الجليل، ولم أرى أثناء كتابتي لهذا البحث من تناول الجزئية التي أردتها وهي دراسة هذه الروايات الضعيفة دراسة تحليلية إلا بعد انتهائي من كتابة هذا البحث، فقد أوقفت على كتاب درء الانتقاص عن عمرو بن العاص لمحمد كمال[8]، وهو كتاب مفيد، إلا أنَّ بحثي أوسع من حيث إيراد الشبه والرد عليها، كما أني جعلت- قبل إيراد الشبه والرد عليها- تمهيداً ذكرت فيه مكانة الصحابة في الإسلام، و لمحة سريعة عن أصول عقيدة المسلم فيهم، وذكرت الفتنة التي وقعت في عهد الصحابة، وموقف المسلم منها، ثم ذكرت في الفصل الأول ترجمة مختصرة لعمرو بن العاص س؛ لأظهر فيها شخصيته الحقيقية ولتكون مع التمهيد للقارئ؛ تأصيلاً لدحر الشبه من حيث الجملة، قبل الدخول للفصل الثاني(حيث الرد على الشبه المثارة حوله بالتفصيل).
[1] سورة آل عمران الآية (102).
[2] سورة النساء الآية (1).
[3] سورة الأحزاب الآية (70-71).
[4] أخرجه أحمد (9) رقم (5667)، والبخاري تعليقاً: كتاب: الجهاد، باب: الرماح (3/1066)، وأصله في سنن أبي داود (4031)، وحسنه الألباني في الإرواء (5/109).
[5] أخرجه الحاكم ( 1/130) وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (1/50).
[6] أخرجه أحمد (45) رقم (27536) واللفظ له، والطبراني (24/176)، وصححه الألباني في غاية المرام (ص/246).
[7] كوصفه بأنه كان يحرض على عثمان، وأنه انضم مع معاوية لأجل الدنيا، وأنه خادع في التحكيم وأن أباموسى كان مغفلاً وسيأتي إبطال هذا الزعم في الفصل الثاني.
[8] ولقد أفدت منه في ثلاثة مواضع وعزوتها إليه.
وقد سلكت في هذا البحث النهج التالي:
1- ذكر ترجمة مختصرة للصحابي الجليل مدار البحث، موثقة من المصادر المعتمدة.
2- ذكر الشبهات المثارة حول الصحابي عمرو بن العاصس وتوثيقها -غالبا- والرد عليها.
3- نقض هذه الشبهات من خلال المنهج التالي:
أ- دراسة سند الرواية والحكم عليه صحة وضعفاً، مع توثيق ذلك بكلام الأئمة.
ب- النظر في متن الرواية ( من حيث الصحة وعدمها)، من خلال وجوه النقد التالية:
1- دلالة بعض ألفاظ المتن على بطلانه.
2- النقد التاريخي.
3- المقارنة بين بعض الروايات، وإظهار التناقض بينها - إن وجد- مما يؤدي إلى إسقاطها.
د- توجيه الرواية في حالة صحة سندها أو على افتراض صحة السند إن أمكن.
4- بيان موقف المسلم من الخطأ الصادر من الصحابي على افتراض صحة الرواية.
المبحث الأول: مكانة الصحابة في الإسلام، ولمحة سريعة عن أصول عقيدة المسلم فيهم.
المبحث الثاني: الفتنة التي وقعت بين الصحابة.
إن الله سبحانه وتعالى اصطفى لهداية الأنام رسله الطيبين الطاهرين الكرام؛ ليكونوا على خير هدى ووئام، وختمهم بحبيبه وخليله سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، فنصره وأيده فله الفضل والإنعام، واصطفى له خير الناس من بعده لصحبته فآمنوا به وأيدوه ونصروه على الدوام.
قال تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[9] ذكر الطبري بسنده إلى ابن عباس س، والثوري في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ﴾ [10].
بأن المراد به: أصحاب محمد ص.
قال الطبري: «اجتباهم لنبيه محمد ص، فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدِّين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به، الجاحدين نبوّة نبيه»[11].
فكانوا الرعيل الأول، الذين حازوا قصب السبق في الدين، ونالوا شرف الصحبة الذي لا يعادله شرف.
وقال عبد الله بن مسعود س: «إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد ص خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ»[12].
وقال ابن مسعود س: «من كان منكم متأسياً فليتأسّ بأصحاب محمد ص فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه ص وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم»[13].
وللصحابة مكانة عظيمة في الإسلام بينها الله في كتابه وبينها الرسول ص لأمته؛ ليعرفوا لهم قدرهم وليتأسوا بهم، وقد أثنى الله سبحانه عليهم بما لم يثنه على أمة من الأمم سواهم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [14].
وقوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾ [15].
ومنها قوله تعالى: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ [16].
ومنها قوله تعالى:﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطَۡٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا﴾[17].
وقوله تعالى: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ٨ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [18].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [19].
في هذه الآية بشارة لجميع الصحابة المتقدمين السابقين، والمتأخرين اللاحقين، وإن كانوا متفاوتين في الدرجات والفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل؛ إلا أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم والوعد بالجنة[20].
وأما بيانه ص لذلك ففي أحاديث كثيرة، منها: ما رواه أبو سعيد الخدري س قال: قال ص: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»[21].
وعنه س قال: قال رسول الله ص: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ[22] مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ص؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ ص؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ ص؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ»[23].
وعن أبي بردة عن أبيه قال: قال النبي ص: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[24].
وعن عبد الله بن مسعود س قال: قال رسول الله ص: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[25].
وعن ابن عمر س قال: قال النبي ص: «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[26].
قال ابن القيم: «قال الشافعي: وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة والإنجيل والقرآن، وسبق لهم على لسان نبيهم ص من الفضل ما ليس لأحد بعدهم».
وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: «لما دخل أصحاب رسول الله ص الشام، نظر إليهم رجل من أهل الكتاب، فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير، وصلبوا على الخشب بأشد اجتهاداً من هؤلاء، وقد شهد لهم الصادق المصدوق الذي لاينطق عن الهوى بأنهم خير القرون على الإطلاق، كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى بأنهم خير الأمم على الإطلاق»[27].
كيف لا يكونوا خير الأمم ومعلمهم ومؤدبهم أفضل الخلق وسيد ولد آدم محمد صلوات ربي وسلامه عليه، تعلموا منه الأدب والعلم والعمل والتضحية لأجل الدين، وتفرقوا بعد موته في الأمصار؛ ليبلغوا دين الله، وليفقهوا الناس في دينهم.
قال ابن القيم: «والعلم إنما انتشر في الآفاق عن أصحاب رسول الله ص، فهم الذين فتحوا البلاد بالجهاد، والقلوب بالعلم والقرآن، فملئوا الدنيا خيراً وعلماً، والناس اليوم في بقايا آثار علمهم.
قال الشافعي في رسالته وقد ذكر الصحابة فعظمهم وأثنى عليهم ثم قال: وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر اُسْتُدْرِكَ به علم ]واُسْتُنْبِطَ به] وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا، ومن أدركنا ممن أدركنا ممن نرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم؛ إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وكذلك نقول ولم نخرج من أقاويلهم كلهم... وعلماؤهم وتلاميذهم، هم الذين ملئوا الأرض علماً. فعلماء الإسلام كلهم تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم، وهلم جرا، وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم الأرض شرقاً وغرباً، هم تلاميذ تلاميذهم، وخيار ما عندهم ما كان عن الصحابة، وخيار الفقه ما كان عنهم، وأصح التفسير ما أخذ عنهم. وأما كلامهم في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وقضائه وقدره ففي أعلى المراتب، فمن وقف عليه وعرف ما قالته الأنبياء عرف أنه مشتق منه مترجم عنه، وكل علم نافع في الأمة فهو مستنبط من كلامهم ومأخوذ عنهم... وهذه تآليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله، وكلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم والفضل، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم»[28].
قال عطاء بن أبي رباح: «ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس ب، أكثر فقهاً ولا أعظم جفنة، أصحاب القرآن عنده يسألونه، وأصحاب العربية عنده يسألونه، وأصحاب الشعر عنده يسألونه، فكلهم يصدر في رأي واسع»[29].
وعن نافع قال: «كان عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس يجلسان للناس عند قدوم الحاج. قال: كنت أجلس إلى هذا يوماً، وإلى هذا يوماً، فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما يسأل عنه، وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي»[30].
وقال مالك: «قد أقام ابن عمر بعد النبي ص ستين سنة، يفتي الناس في الموسم وغير ذلك، وكان من أئمة الدين»[31].
قال وكيع عن هشام بن عروة، قال: «رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد- يعني المسجد النبوي- يؤخذ عنه»[32].
فالصحابة خير جيل أنجبته الرسالات السماوية، فهم مصابيح الهدى في كل عصر، وقدوة الشعوب في كل جيل، وأئمة الناس في كل ما يصلح شؤونهم من دين ودنيا، وعلم وحكمة، وأدب وفضيلة، وبذل وفداء، كانوا ليوث غابة وغيوث سحابة، لا يريدون من الدنيا إلا مقدار ما يبلغهم الآخرة؛ لذا لم يرغبوا فيها، فكتبت لهم السعادة، ولم يتظاهروا بأعمالهم فخلَّدها لهم التاريخ، ولم يلتفتوا إلى بقاء ذِكْرِهِمْ فحفِظَه لهم الخلف. إن سيرهم لتقرع الأسماع، وتجتذب الأنظار، وتحرك أوتار القلوب، وتستثير الألسنة الصامتة، وتحرك القلوب الراقدة، نسرد أحاديثهم لنستلهم منها الدروس والعبر. إن كل موقف وحدث يصوغ فن الموعظة، وصنوف الحكم، بل لايزال أثره جديداً كلما عاود القلب النابض تأمُّلَه[33].
روي عن ابن عباس ب أنه قال- موضحاً دور الصحابة ش، وجهادهم في نشر الإسلام وإرساء دعائمه-: «إن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، خص نبيه محمداً ص بصحابة، آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم في كتابه، فقال: رحماء بينهم. فقاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وأسبابه، وظهرت آلاء الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل الله بهم الشرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها»[34].
فإذا كان ابن عباس ب وهو من هو بين الصحابة ش ينظر إليهم بعين الإجلال هذه، ويحتفظ لهم في قلبه بهذه المنزلة الرفيعة، فما أحرانا نحن بأن نحترمهم ونتولاهم ونتقرب إلى الله بحبهم[35].
وها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب س يذكر أصحاب رسول الله ص مقارناً بينهم وبين من خذله فيقول: «لقد رأيت أصحاب محمدٍ ص فما أرى أحداً يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم. إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب»[36].
ويقول أيضاً في حقهم آسفاً على ذهابهم: «أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح[37] إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء ولا يُعزون عن الموتى، مُرْهُ[38] العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين. أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم، ونَعُضَّ الأيدي على فراقهم»[39].
«هذه هي منزلة الصحابة- ش- عند علماء الأمة، وهي هبة من الله وفضل حباهم به وأصفاهم له، ووفقهم لمنازلة أسبابه وتعاطي دواعيه من متابعتهم الرسول ص، وإيمانهم به، وجهادهم معه وبذلهم النفوس والأموال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولا شك أن العلماء حينما يُجلون ويُعَظمون كل من صح أن يطلق عليه اسم الصحبة؛ إنما يكونون بذلك قد اقتدوا بالصحابة أنفسهم، فإنهم كانوا يرون أن للصحبة فضلاً لا يعادله فضل»[40].
[9] سورة الأنفال الآية (62).
[10] سورة النمل من الآية (59).
[11] تفسير الطبري (19/ 482)، وتفسير ابن أبي حاتم (9/2906).
[12] أخرجه أحمد (6) رقم (3600) واللفظ له، والبزار (5/212)، والطيالسي في مسنده (1/199) وغيرهم. وصحح إسناده الحاكم في المستدرك (3/83) ووافقه الذهبي، وحسنه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص/431)، والألباني في الضعيفة (2/17).
[13] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 305-306)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 97-98) واللفظ له.
[14] سورة التوبة الآية (117).
[15] سورة آل عمران الآية (110).
[16] سورة التوبة الآية (100).
[17] سورة الفتح الآية (29).
[18] سورة الحشر الآية (8-9).
[19] سورة الحديد الآية (10).
[20] تفسير القرطبي(3/264)، (17/242) بتصرف.
[21] أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب: باب قول النبي ص: « لو كنت متخذاً خليلاً» (3) رقم (3470)، ومسلم: كتاب: فضائل الصحابة ش، باب: تحريم سب الصحابة س (4) رقم (2540) واللفظ له.
[22] أي جماعة. شرح مسلم للنووي (16/83).
[23] أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (3) رقم (3399)، ومسلم: كتاب: فضائل الصحابة ش، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4) رقم (2532) واللفظ له.
[24] أخرجه مسلم: كتاب: فضائل الصحابة ش، باب: بيان أن بقاء النبي ص أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة (4) رقم (2531). قال القرطبي الأمنة: الأمن، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ﴾؛ أي: أمنًا. ويعني بذلك: أن الله تعالى رفع عن أصحابه الفتن، والمحن، والعذاب مدة كونه فيهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ﴾، فلما تولي رسول الله ـ ص ـ جاءت الفتن، وعظمت المحن، وظهر الكفر والنفاق، وكثر الخلاف والشقاق، فلولا تدارك الله هذا الدين بثاني اثنين لصار أثرًا بعد عين، وهذا الذي وعدوا به. وقوله: «النجوم أمنة للسماء»؛ أي: ما دامت النجوم فيها لم تتغير بالانشقاق، ولا بالانفطار، فإذا انتثرث نجومها، وكورت شمسها، جاءها ذلك، وهو الذي وعدت به. وقوله: «وأصحابي أمنة لأمتي»؛ يعني: أن أصحابه ما داموا موجودين كان الدِّين قائمًا، والحق ظاهرًا، والنصر على الأعداء حاصلاً، ولما ذهب أصحابه، غلبت الأهواء، وأديلت الأعداء، ولا يزال أمر الدِّين متناقصًا، وجده ناكصًا إلى أن لا يبقى على ظهر الأرض أحد يقول: الله، الله. وهو الذي وعدت به أمته، والله تعالى أعلم. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (6/485).
[25] أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (3) رقم (2652) واللفظ له، ومسلم: كتاب: فضائل الصحابة ش، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4) رقم (2534).
[26] أخرجه البزار من حديث ابن عمر(12) رقم (5753)، والطبراني (12) رقم (12709) واللفظ له، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (11230).
[27] هداية الحيارى لابن القيم بتصرف (ص/243)، ومابين القوسين من مقدمة ابن الصلاح (1/171)، وإعلام الموقعين لابن القيم (1/80).
[28] المصدر نفسه بتصرف (ص/243- 245).
[29] أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/414) واللفظ له، والفاكهي في أخبار مكة (4/285)، والآجري في الشريعة (5) رقم (1754) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1703).
[30] أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص/151)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (31/167).
[31] أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/264)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (152)، والبغدادي في تاريخ بغداد (1/172)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (31/164).
[32] أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص/58)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/233).
[33] نفحات من منبر رسول الله ص، عبد الباري الثبيتي (1/349-350) بتصرف يسير.
[34] مروج الذهب للمسعودي (1/371).
[35] الصحابة ومكانتهم عند المسلمين، لمحمود عيدان (ص/28).
[36] شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد (7/77).
[37] الوَلَهُ: الحزن وقيل: هو ذهاب العقل والتحير من شدّة الوجد أَو الحزن أَو الخوف. واللِقاحُ بالكسر: الإبلُ بأعيانها، الواحدة لَقوحٌ، وهي الحلوب. قال أبو عمرو: إذا نُتِجَتْ فهي لَقوحُ شهرين أو ثلاثةً، ثم هي لَبونٌ بعد ذلك. والمعنى أنهم اشتد وجدهم واشتياقهم للجهاد كاشتداد وجد الناقة على ولدها. انظر الصحاح في اللغة للجوهري(1/401)، ولسان العرب لابن منظور (13/561).
[38] قال الأزهري: المَرَه، والمُرْهَةُ: بياضٌ تَكرَهُه عَينُ النَّاظر، وعينٌ مَرْهاءُ إِذا كَانَت تضرِب إِلَى الْبيَاض. تهذيب اللغة للأزهري (6/ 160).
[39] شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد (1/291).
[40] الصحابة ومكانتهم عند المسلمين، لمحمود عيدان (ص/30) بتصرف.
يتضح لنا أخي الكريم مما تقدم أصول وأمور لا بد أن نجعلها نصب أعيننا، ونعلم أنها من عقيدتنا.
أولاً: حب الصحابة كلهم والترضي عنهم؛ لأمور عدة:
الأمر الأول: أن هؤلاء القوم اصطفاهم الله اصطفاءً ربانياً؛ لصحبة هذا النبي الكريم ص، فجمع الله الطيب مع الطيب، فهذا اصطفاء رباني يوجب لهم الحب رضي الله عنهم وأرضاهم.
الأمر الثاني: أن الله شرفهم بصحبة محمد ص، وهنيئاً لقوم رأوا محمداً ص رؤية واحدة ولو لحظة؛ ولهذا فإن فضل الصحبة لا يوازيه فضل.
الأمر الثالث: نصرتهم لدين الله تعالى: فهؤلاء القوم كان لهم من السابقة العظيمة الفريدة في نصر دين الله تعالى، والتفاني في الدفاع عنه ﴿وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وسبحان الله!! كم بذلوا- من الغالي والنفيس- في نصرة دينه وقتال أعدائه، سواء في قتال الكفار والمرتدين في ساحة المعارك، أو في مجال العلم ونفي الشبه عنه، فقد قدموا نفوسهم رخيصة في سبيل الله، حتى قال الصحابي الجليل خبيب س:
وَلَـسْـتُ أُبَـالـِي حِيـنَ أُقْتَـلُ مُسْـلِمـًا
عَـــلَى أَيِّ شـِقٍّ كَــانَ لِلَّهِ مَـصـْرَعِــي
وَذَلِكَ فـــِي ذَاتِ الإِلَـــهِ وَإِنْ يَــشـَأْ
يُبَـارِكْ عَـلـَى أَوْصَـالِ شِلـْـوٍ مُمـَزَّعِ[41]
فهذه صورة مصغرة عن هوان أنفسهم في سبيل الله واسترخاصها في طلب مرضاته. فإذا كانت النفوس في ذات الله فإنها تهون، فرضي الله عنهم كم قدموا أنفسهم، وبذلوا من أموالهم، وإن نسيت فلا أنسى تلك الصورة الحية من التضحية، والتي قام بها عبد الله بن حرام س في غزوة أحد حتى قال رسول الله ص لابنه جابر: أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ﴾ الآية[42]، وكل ذلك منه محبة في نصر دين الله تعالى وإعلاء كلمته.
الأمر الرابع: صبـرهـم على أذى المشـركين، ولقد صبـر أصحاب رسول الله ص على أذى المشركين صبراً عجيباً، وكم حصل لهم من الأذى، رضي الله عنهم وأرضاهم.
الأمر الخامس: هجرهم لأوطانهم: فلقد تركوا بيوتهم وأموالهم، وتركوا عشائرهم لأجل هذا الدين، رضي الله عنهم وأرضاهم، وبعد ذلك كتب الله لهم الأجر العظيم.
الأمر السادس: تقديمهم حب الله ورسوله على كل شيء، أليس قد قيل لزيد بن الدَّثِنَة رضي الله عنه وأرضاه لما ربط للقتل:( يَا زَيْدُ، أُنْشِدُكَ اللَّهَ، أَتُحِبُّ أَنَّكَ الْآنَ فِي أَهْلِكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا يُشَاكُ فِي مَكَانِهِ بِشَوْكَةٍ تُؤْذِيهِ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي) قال أبو سفيان: والله ما رأيت من قوم قط أشد حباً لصاحبهم من أصحاب محمد له[43]. فدل على أنهم يفدونه ص بدمائهم وأرواحهم من عظيم حبهم له.
الأمر السابع: سابقتهم للإسلام، والله سبحانه وتعالى قد أثنى عليهم في غير ما آية لسبقهم للإسلام، وكلما كان الإنسان أسبق للخير كان في الرتبة أعلى.
الأمر الثامن: تبليغ دين الله على أيديهم[44]. فهم الواسطة بين رسول الله ص وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة[45].
الأمر التاسع: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم، وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم واستجابتهم لله ولرسوله[46].
الأمر العاشر: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كمـا صـرح بـذلك رسول الله ص حين قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[47].
الأمرالحادي عشر: نحبهم لأن حبهم دين وإيمان وإحسان، قال الطحاوي: «ونحب أصحاب رسول الله ص، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم. ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان»[48].اھ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
يا سـائلي عـن مـذهبـي وعـقيـــــدتي
رزق الــهـــدى مــن للهــداية يسأل
اسـمـع كـلام محـقـق في قـولـــــــه
لا يــنــثـنـي عــنــه ولا يـتـبــــدل
حـب الصحابـة كلهم لي مذهـــــب
ومـــودة الــقــربـى بـهـا أتــوســل
ولكلــهـم قدر وفـضـل ساطـــــــع
لـكـنـمـا الصـديـق مـنـهم أفضــل[49]
ثانياً: من أصول أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله ص أنهم:
لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله ص «إنهم خير القرون» وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد ص الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه[50]. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم؟ ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل، نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح»[51].
ثالثاً: «أن الصحابة ش بشـر عاشوا حياتهم كما عاش غيرهم يفرحون ويحزنون، ويختلفون مع غيرهم في وجهات النظر، لكنهم اختلفوا عن غيرهم في أن ما كان بينهم لم يصل إلى أن يحقد بعضهم على بعض، فكانوا قدوة لمن بعدهم في كل شيء: في سلمهم وحربهم، في جدهم ومرحهم، في رضاهم وغضبهم؛ لأن الله اختارهم وجعلهم في موضع القدوة. والدارس لتاريخ الصحابة الكرام- ش- ممن لا يرضى لنفسه أن يصطاد في الماء العكر يعرف هذه الحقيقة جيداً»[52].
فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب س لما دار بين القتلى في الجمل رأى طلحة بن عبيد الله فجعل يمسح التراب عن وجهه وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري[53]، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة[54].
قال ابن كثير: «وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: ونزعنا ما في صدروهم من غل إخواناً على سرر متقابلين»[55].
رابعاً: ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ص كما وصفهم الله به في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ﴾ [56]، وطاعة النبي في قوله ص:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي». ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع، من فضائلهم ومراتبهم....، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منه: هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون[57].
عن ابن عباس ب قال: «لا تسبوا أصحاب محمد، فإن الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم، وهو يعلم أنهم سيقتتلون»[58].
سئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان، والجمل وصفين وما كان بينهم، فقال: « تلك دماء كف الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها»[59].
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «ومن السنة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله ص كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساويهم التي شجرت بينهم. فمن سب أصحاب رسول الله ص، أو واحداً منهم، أو تنقص أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم أو عاب واحداً منهم فهو مبتدع... لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وخير الأمة بعد النبي ص أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول الله ص بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص. فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع»[60].
قال إبراهيم بن آزر الفقيه: «حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض عنه. فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه، وقال اقرأ: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ﴾»[61].
وعن سعيد بن المسيب: «أن رجلاً كان يقع في علي وطلحة والزبير، فجعل سعد بن مالك ينهاه، ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام سعد فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان مسخطاً لك فيما يقول: فأرني به آفة، واجعله آية للناس، فخرج الرجل فإذا هو ببختي يشق الناس، فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله، فأنا رأيت الناس يتبعون سعداً ويقولون: هنيئاً لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك»[62].
وكان الصحابة ش على جانب كبير من الاتزان في الحكم على الأشياء فهم لا يبحثون عن الزلة لكي يسقطوا صاحبها من معيار العدالة[63].
خامساً: من أصول أهل السنة والجماعة: أن الصحابة كلهم عدول، ومقتضى العدالة لهم أنه لا يُتكلم فيهم بموازين الجرح والتعديل التي وجدت عند أئمة الحديث، وهذا مما اتفق عليه أئمة أهل السنة والجماعة على وجه العموم، وأن من نقد أصحاب رسول الله ص فإنما ينقدهم لمرض في قلبه وخبث في طويته.
ومن أسباب عدم جعلهم تحت موازين الجرح والتعديل: أن الله سبحانه وتعالى قد عدلهم في كتابه، فقال سبحانه: ﴿لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾[64].
والرسول ص قد زكاهم، بل جعل الرسول ص لهم السياج المنيع فلا يتعرض لهم أبداً[65] فقال ص «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»[66].
فهذه- أخي الكريم- لمحة سريعة عن أصول عقيدة المسلم في الصحابة ش؛ مما ينبغي لكل مسلم أن يجعلها نصب عينيه لتكون له كالميزان فيما أثير حولهم من الشبه.
[41] أخرجه البخاري: كتاب: التوحيد، باب: ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله (3) رقم (2880).
[42] أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ص، باب: ومن سورة آل عمران (5) رقم (3010)، وابن ماجه: كتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب: فيما أنكرت الجهمية (1/68) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7905). وحديث استشهاده س أخرجه البخاري (1) رقم (1187)، ومسلم (4) رقم (2471) وفيه قال جابر: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي وينهوني عنه والنبي ص لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي ص: ( تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه).
[43] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/56).
[44] شرح لامية شيخ الإسلام للشيخ عمر العيد (ص/13) بتصرف.
[45] شرح الواسطية لابن عثيمين (2/248).
[46] المصدر نفسه.
[47] تقدم (ص/18).
[48] متن الطحاوية للطحاوي (ص/81).
[49] انظر: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للألوسي (ص/73).
[50] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من إنعام الله عليه، وإحسانه إليه، فالخير كله من الله؛ وليس للعبد من نفسه شيء، بل هو فقير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً: وما أصابه من مصيبة فبذنوبه، والله تعالى يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب، ويأجرهم على الصبر عليها، ويغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، قال النبي ص «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه» ولما أنزل الله تعالى قوله: ﴿مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ﴾ قال أبو بكر: يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ قال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به» مجموع الفتاوى (35/ 375- 376).
[51] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/155).
[52] الصحابة ومكانتهم عند المسلمين، لمحمود عيدان (ص/35) بتصرف.
[53] قال ابن الأثير: أي همومي وأحزاني. وأصل العُجْرة: نفخة في الظهر فإذا كانت في السُّرة فهي بُجْرة. وقيل: العُجَر العروق المتعَقّدة في الظهر، والبُجَر العروق المتعَقّدة في البطن، ثم نُقِلا إلى الهموم والأحزان. أراد أنه يشكوا إلى اللّه أموره كلّها ما ظهر منها وما بطن. النهاية (2/163).
[54] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (25/115)، وانظر: أسد الغابة (2/45)، وتاريخ الإسلام (2/165)، والبداية والنهاية (10/476).
[55] الصحابة ومكانتهم عند المسلمين، لمحمود عيدان (ص/35) بتصرف. وقول ابن كثير المذكور هو في كتاب البداية والنهاية (10/334) والأثر الذي ذكره الحافظ ابن كثير أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/747)، وابن سعد في الطبقات (3/113).
[56] سورة الحشر الآية (10).
[57] مجموع الفتاوى (3/152- 155).
[58] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/59)، ومن طريقه الآجري في الشريعة (5) رقم(1979).
[59] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/394) واللفظ له، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/114).
[60] العقيدة للإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال (ص/80) بتصرف.
[61] أخرجه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/94)، والبغدادي في تاريخ بغداد (6 /44)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/141).
[62] أخرجه الخطيب في تاريخه (10/139)، وابن عساكر في تاريخه (20/348-349)، وابن الأثير في أسد الغابة (3/88)، وسعد بن مالك هو ابن أبي وقاص س، وأخرجه من طريق آخر بلفظ قريب الطبراني في معجمه الكبير (1/140) رقم (307) والبخت الإبلُ الخراسانية، تُنْتَجُ بين الإبل العربية والْفالِجِ. تهذيب اللغة (7/312). والبلاطُ: الحجارة المفروشة، يقال: دارٌ مُبَلّطَةٌ بآجرّ أو حجارة. تهذيب اللغة للأزهري (13/352).
[63] الصحابة ومكانتهم عند المسلمين، لمحمود عيدان (ص/35).
[64] سورة الحديد الآية (10).
[65] شرح اللامية (ص/10) بتقديم وتأخير.
[66] تقدم تخريجه (ص/17).
أساس الفتنة التي حصلت بين الصحابة.
ما تناقلته الألسن من كلام بعضهم في بعض إبّان الفتنة.
موقف المسلم من الفتنة التي وقعت بين الصحابة.
وحاصل الفتنة أن في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان س بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي؛ نتيجة بعض عوامل التغيير التي أدت إلى ظهور هذه الفتنة العظيمة بين الصحابة، وإليك بعضها:
1- ظهور نشاط سري لأفراد وجماعات من الموالي أظهروا الإسلام وأخفوا معتقداتهم القديمة؛ بغية تحطيم الدولة الإسلامية من داخلها وإثارة الفتنة والفرقة بين المسلمين؛ وذلك ببث العقائد الفاسدة ونشر الإشاعات بدوافع نفسية أوعرقية.
2- وينضم للعنصر الأول عنصر الأعراب الذين لم يدخل في قلوبهم الإيمان وهم: قبائل مختلطة وفيهم من حسن إسلامه، ومنهم من أسلم خوفاً ونفاقاً، ومنهم من تمسك بالإسلام تمسكاً تلازمه الشدة والتعصب بالرأي والغلو في الدين، وهولاء هم القراء سلف الخوارج[67].
3- دخول أقوام شتى مختلفة المشارب والمذاهب في دين الإسلام – نتيجة الفتوحات الإسلامية – منهم نصارى العرب في العراق والشام ومنهم الفرس ومنهم الأقباط وما إلى ذلك، وكان من هؤلاء نفر يحملون في أنفسهم حقداً على الإسلام من أمثال الذي قتل سيدنا عمر وغيرهم كثير هنا وهناك، كانوا يتحينون الفرص للنيل من عزة الإسلام.
4-كان بعض الشباب المتحمس للإسلام، والذي لم يفقه الإسلام كما فقهه الصحابة أو كبار الصحابة، لا يفهمون ما اجتهده عثمان في باب السياسة الشرعية، وقد كان عمر س ومن قبله أبو بكر س قد اجتهدا وفعلا ما فعل سيدنا عثمان، ولكن طوائف من الناس وعلى رأسهم هؤلاء الشباب لم يفهموا ذلك[68].
5- طبيعة التحول الاجتماعيِّ في عهد عثمان س:
شهدت خلافة عثمان س تطورات خطيرة في حياة الدولة الإسلامية؛ فقد حكم عثمان الدولة الإسلامية بعد أن تحولت من دولة محدودة النطاق تقوم في المدينة المنورة وتحكم شبه الجزيرة العربية إلى دولة عالمية يمتد سلطانها ليشمل إلى ذلك ممالك العراق والشام ومصر وإفريقية وأرمينية وبلاد فارس وبعضاً من جزر البحر الأبيض المتوسط، ولم يكن الزمن كافياً لترسيخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم مما ساعد- مع غيره من العوامل – على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج الإسلامي؛ مما كان له أثر في عدم استقرار الدولة.
6- الرخاء وأثره على المجتمع الإسلامي في عهد عثمان س:
أقبلت الدنيا على المسلمين؛ من أثر الفتوح وكثرت واردات بيت المال من الغنائم والأسلاب، فضلاً عما يخص المجاهدين،... وهذا الرخاء سيكون له أثر على المجتمع؛ إذ يترتب عليه من انشغال الناس بالدنيا والافتتان بها، كما أنها مادة للتنافس والبغضاء خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم من أعراب البادية وجفاتها.
7- اختلاف الطبع بين عمر وعثمان أدى إلى تغير أسلوبهما في معاملة الرعية، فكان عثمان ألين طبعاً وأرق في المعاملة، ورغبوا في الصدر الأول من خلافته وأصبحت محبته مضرب المثل:
أحبك والرحمن * حب قريش عثمان[69].
ثم تَجَرّؤوا عليه لرقة طبعه حتى قال: «أتدرون ما جرّأكم علي؟ ماجرّأكم علي إلا حلمي»[70].
وأخذ بعض اليهود يتحيَّنون فرصة الظهور مستغلِّين هذه العوامل، ومتظاهرين بالإسلام، واستعمال التَّقيَّة، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ اليهودي الملقب بابن السَّوداء الذي أظهر إسلامه في زمن عثمان بن عفان واشتهر أكثر من غيره؛ لأنه أسلم متأخراً، وظهر له نشاط ملحوظ في الشام والعراق ومصر خاصة، كما ظهر مع الخوارج والناقمين يرسم خططاً ويدلي بآراء هدامة ذكرها معظم المؤرخين القدامى- في كتبهم-[71]، وعلى رأسهم الإمام الطبري الذي اعتبره رأس الفتنة وأساس البلاء، وخلاصة ما جاء به: أن أتى بمقدِّمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السُّذَّج، والغلاة، وأصحاب الأهواء من النَّاس. وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبّس فيها على من حوله، حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن يتأوله على زعمه الفاسد حيث ادعى رجعة الرسول ص بقوله: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖ﴾[72]. فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبِل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان س، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ص، ووثب على وصي رسول الله ص وتناول أمر الأمة، ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله ص فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، ووجد في الأعراب مادة ملائمة لتنفيذ خطته، فالقراء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيج أنفسهم بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان، مثل تحيزه لأقاربه، وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنه حمى الحمى لنفسه إلى غير ذلك من التهم والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضد عثمان س [73]، وهذه التهم: بعضها كذب وبهتان فقد كتبوا على لسانه، وبعضها أمور اجتهادية، بعضها من باب المصالح المرسلة، وبعض هذه التهم – زعموا- قد فعلها أحد الخلفاء ولكنهم استغلوا لين عثمان فلم يكن له طبع عمر فَتَجَرّؤوا عليه. قال ابن عمر ب: لقد عتبوا على عثمان أشياء، ولو فعلها عمر ما عتبوا عليه[74]. ولم يكتف المغرضون بهذا فقاموا بتزوير الكتب على لسان كبار الصحابة كعلي وطلحة والزبير وعائشة ش وبعثوا بها إلى الأمصار يأمرونهم بالقدوم على عثمان ليقاتلوه[75].
فثارت ثائرتهم وقدموا من أمصارهم إلى المدينة ظانين أن الدين وصل في السوء منتهاه، فما كان منهم إلا أن قدموا المدينة فحاصروا عثمان وطلبوا منه بعض الأمور منها: ترك الخلافة وإلا فالقتل لا محالة، فأبى عثمان ترك الخلافة؛ لقوله ص: «يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّهَ مُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى أَنْ تَخْلَعَهُ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ، وَلَا كَرَامَةَ».
يقولها له مرتين أو ثلاثاً. وفي رواية: «يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي. يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي»[76].
وحضر لدى عثمان مجموعة من الصحابة لحراسته والدفاع عنه، منهم: أبو هريرة، وابن عمر، والحسن، والحسين، وابن الزبير، لكن لما اشتد الحصار عزم عثمان عليهم في وضع سلاحهم، وخروجهم، ولزوم بيوتهم؛ حفظاً لدماء المسلمين[77].
عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، وجاءه زيد بن ثابت، فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين. قال عثمان: لا حاجة لي في ذلك، كفوا[78]. وعرف س أنه مقتول، وقد ساره ص بهذه الفتنة، ولما استئذن على النبي ص وهو في حائط من حيطان المدينة قال لأبي موسى: «افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ»[79].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم، وروي أنه قال لمماليكه: من كف يده فهو حر، وقيل له: تذهب إلى مكة، فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قُتِل من أعظم فضائله عند المسلمين»[80].
ثم بايع الصحابة الذين في المدينة بالخلافة لعلي بن أبي طالب س ولم ينازعه فيها أحد.
قال ابن حزم: «وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة ش ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها، ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة، ولا أحدثوا إمامة أخرى، ولا جددوا بيعة لغيره، هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه، بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن، فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة؛ لسد الفتق الحادث في الإسلام؛ من قتل أمير المؤمنين عثمان س ظلماً[81]، وكان علي س يرى تأخير القصاص حتى يستتب له الأمر لاسيما وأن اشترك في قتله كثير»، فكان يقول لهم: «يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء الله»[82].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده من إقامة الحدود ونحو ذلك؛ لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به»[83].
وكان أمير المؤمنين علي س يدعو على قتلة عثمان، فعن محمد بن الحنفية يقول: سمعت أبي ورفع يديه حتى يرى بياض إبطيه وقال: «اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل ثلاثاً يرددها»[84].
وذهب علي س لملاقاة طلحة والزبيرب، مريداً الصلح والاتفاق وجمع الشمل، ولم تكن الحرب مرادة من الطرفين، وكاد الصلح أن يتم بين طلحة وعلي قبل معركة الجمل «فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان{منهم ابن سبأ اليهودي}[85] بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهكلة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب{قبل أن يجتمع الطرفان على قتلهم قصاصاً}[86] في السر، واستسروا بذلك؛ خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم، انسلوا إلى ذلك الأمر انسلالاً وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم...، وقصف أهل البصرة أولئك حتى ردوهم إلى عسكرهم، فسمع علي وأهل الكوفة الصوت وقد وضعوا رجلاً قريباً من علي؛ ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال: ذاك الرجل ما فاجأنا إلا وقوم منهم بيتونا فرددناهم من حيث جاؤوا فوجدنا القوم على رجل فركبونا وثار الناس...»[87] فأوهم قتلة عثمان الطرفين أنه غدر بهم، وحصلت الفتنة، معركة الجمل، ولم تكن برضا الطرفين، وقتل فيها خلق كثير منهم طلحة والزبير، وكان معاوية بالشام يطالب بقتلة عثمان وامتنع من الدخول في البيعة حتى يُسلم له قتلة عثمان، ولم ينازعه في الخلافة إنما اشترط تسليم القتلة وكان يرى أنه ولي دمه، وانضم إليه عمرو بن العاص س – ولم يشهد معركة الجمل - وكان بفلسطين ثم كانت الفتنة العظيمة وقعة صفين.
فالحاصل أن هذه الفتنة احتار فيها أفضل الناس بعد رسول الله ص، واختلف محل نظرهم واجتهادهم: فمنهم من رأى الصواب مع أمير المؤمنين علي س، ومنهم من رأى الصواب مع معاوية س في المطالبة بقتلة عثمان س، وطرف آخر اعتزل القتال وهم خلق كثير[88]؛ لأنه رأى أنها فتنة، القاعد فيها خير من القائم، ثم إن بعض من اعتزل رجع للقتال مع علي س لما قتل عمار؛ لأنه ص قال: «وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»[89].
ومن هذا التقرير يتبين لك أخي الكريم أن المسألة بينهم كانت محل اجتهاد، بين مصيب له أجران، ومخطئ له أجر، وأن المخطئ فيهم كان متأولاً رضي الله عنهم أجمعين.
[67] البداية والنهاية (10/282) بتصرف.
[68] انظر: صحيح تاريخ الطبري – حاشية المحقق – (3/357-358).
[69] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (1 / 435) بإسناده إلى الشعبي قال: كانت قريش تحب عثمان حتى إن المرأة كانت ترقص ابنها فتقول ( أحبك والرحمن... حب قريش عثمان ).
[70] تاريخ الطبري (4/251).
[71] تحسراً.
[72] سورة القصص من الآية (85).
[73] تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون (1/325-363) باختصار وتصرف.
[74] الاستيعاب لابن عبدالبر (1/320).
[75] البداية والنهاية (10/282) بتصرف.
[76] أخرجه أحمد (41) رقم (24566)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7947).
[77] انظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص/ 39).
[78] العواصم من القواصم (132 -133).
[79] أخرجه البخاري: كتاب: المناقب، باب قول النبي ص: «لو كنت متخذاً خليلاً» (3/1350)، ومسلم: كتاب: فضائل الصحابة ش، باب: من فضائل عثمان بن عفان س (4) رقم (2403).
[80] منهاج السنة (6/286).
[81] الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/153).
[82] تاريخ الطبري (4/437 ).
[83] مجموع الفتاوى (27/477).
[84] تاريخ المدينة المنورة لابن شبة (4/ 1267).
[85] انظر: البداية والنهاية (10/452).
[86] المصدرنفسه.
[87] تاريخ الطبري (4/506-507) باختصار.
[88] كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر. انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون (2 /167 ).
[89] أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب: التعاون في بناء المسجد (1) رقم (436).
معلوم أن ما حصل من الخلاف بين الطائفتين في عهد الصحابة شر مستطير، وفتنة عظيمة كانت من عواقبها السيئة: وقعتا الجمل وصفين، وهما فتنتان عظيمتان، زهقت فيهما أرواح خير البشر بعد الأنبياء عليهم السلام.
ولولا أن ما حصل بينهم سُطِر في تاريخنا، وتناقلته الأجيال لقطعنا أنه ضَرْبٌ من الخيال، وأنه من أساطير الأولين؛ لأنه أمر لا يتوقع، بل هم أنفسهم لم يتوقعوا أن يصل الأمر بهم إلى حرب طاحنة تزهق فيها الأرواح وتبتر فيها الأعضاء[90].
فهذا الحدث ثابت في تاريخنا وتراثنا نقرأه فتتحسر له قلوبنا بل تتقطع، ولكن نسلي أنفسنا بأنه أمر أراده الله فلا راد لأمره، ويبقى أنهم بشر يجتهدون فيصيبون، ويخطئون، وهما طائفتان عظيمتان كما قال النبي ص في شأن ابنه الحسن بن علي ب: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»[91].
وقوله ص: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»[92]. فوصف الرسول ص - الذي لاينطق على الهوى- الطائفتين بأنهما عظيمتان، وأنهما من المسلمين، وأن أَوْلاهما بالحق وأقربهما الطائفة التي تقتل الخوارج، وهي طائفة أمير المؤمنين علي س. فكلا الطائفتين متأول للقتال، غفر الله للجميع. ومعلوم أنه إذا وصل الخلاف إلى القتال سينتج عنه تخطئة كل منهما للآخر ودعاء بعضهم على بعض، بل قد يصل الأمر بمقتضى الطبيعة البشرية إلى اللعن عند ثوران الغضب؛ ولذا وردت روايات في هذا الأمر أعرضت عن إيرادها في الشبه؛ لأنه حصل بينهم ما هو أعظم من ذلك وهو القتال. إلا أن ماورد من الروايات من كلام بعضهم في بعض قد زيد فيه وأقحم فيه ماليس منه؛ فكان لزاماً أن أذكر بعض هذه الروايات؛ لمعرفة صحيحها من سقيمها، ولمعرفة توجيهها.
من هذه الروايات:
1- ما روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ذم عمرو بن العاص ب:
روى ذلك الطبري[93] معلقاً من طريق أبي مخنف عن عبد الملك بن أبي حرة.
وأبو مخنف: هو لوط بن يحيى، قال الذهبي: أخباري تألف لا يوثق به، تركه أبوحاتم، وضعفه الدارقطني، وقال عنه ابن معين: (ليس بشيء)[94]، وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا حاتم عنه، ففض يده: وقال: أحد يسأل عن هذا، وذكره العقيلي في الضعفاء[95].
وعبد الملك بن أبى حرة مجهول العين أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل[96] ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً روى عنه عبد الله بن الوليد بن عبد الله بن معقل المزني.
ونحو ذلك ما أورده الطبري معلقاً: من ذم علي س لمن خرج عنه ووصفه لهم بالمكر والغدر من طريق أبي مخنف عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب.
أبو مخنف تقدم الكلام عليه، و مالك بن أعين الجهني: مجهول روى عن زيد بن وهب، روى عنه أبو مخنف لوط بن يحيى، قاله أبو حاتم[97]. فالأثر لا يصح له إسناد، وسيأتي الكلام في إبطال قضية الخلع في قصة التحكيم[98].
2- ماروي من قنوت أمير المؤمنين علي على عمرو بن العاص ولعنه:
ورد ذلك في قصة التحكيم والخلع من طريق أبي محنف المتقدم، والقصة ضعيفة سنداً ومتناً، وسيأتي وجه إبطالها في الكلام عن التحكيم.
نعم وردت آثار عن علي س أنه قنت على معاوية س بعد الحرب، كما في مسند أبي حنيفة[99] حدثنا محمد بن أحمد، ثنا بشر بن موسى، ثنا المقرئ، ثنا أبوحنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: «ما قنت أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وما قنت علي حتى حارب أهل الشام، وكان يقنت على معاوية».
هذا السند رجاله ثقات عدا أبي حنيفة على جلالة علمه وفقهه، فقد اختلف العلماء في قبول روايته للحديث[100]، وشيخه حماد بن أبي سليمان صدوق له أوهام كما في التقريب[101]، وهناك طرق أخرى[102] للأثر فهو حسن في أقل أحواله.
وقنوت علي على معاوية، أو على عمرو، أو ذمه لهما لو سلم ثبوته، غير مستنكر؛ لأن معاوية وعمرو خارجان عن طاعته، لكنهما متأولان عفا الله عن الجميع.
والذي ثبت عن علي س قنوته على معاوية لا لعنه، فالصحابة أحرص الناس تقيداً بالدين؛ لعلمهم بقوله ص: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»[103]، وقوله ص: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الفَاحِشِ وَلاَ البَذِيءِ»[104]، وقوله ص: «لاَ يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[105] ونقل عن علي بن أبي طالب س أنه لما دار بين القتلى - في الجمل - رأى طلحة بن عبيد الله فجعل يمسح التراب عن وجهه وقال: «رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة»[106].
قال ابن كثير:«وروي من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: ﴿وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ﴾»[107].
بل ذكر الدينوري: أنه بلغ علياً أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاوية، ولعن أهل الشام، فأرسل إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما.
فأتياه فقالا: يا أميرالمؤمنين، ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟، قال: بلى، ورب الكعبة المسدنة[108]، قالوا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟، قال: كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لجج به[109].
3- ماروي أن أم المؤمنين عائشة لعنت عمرو بن العاص ب. وبيان ذلك أنه روي عن مسروق أنه كان عند عائشة فذكر عندها أن علياً س قتل ذا الثدية، فقالت لي: «إذا أنت قدمت الكوفة فاكتب لي ناساً ممن شهد ذلك ممن تعرف من أهل البلد».
فلما قدمت وجدت الناس أشياعاً فكتبت لها من كل شيع عشرة ممن شهد ذلك قال فأتيتها بشهادتهم. فقالت: «لعن الله عمرو بن العاص فإنه زعم لي أنه قتله بمصر»[110].
ورد هذا الأثر عند الحاكم من طريق جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن أبي وائل، عن مسروق قال: قالت لي عائشة ل: إني رأيتني على تل وحولي بقر تنحر، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك لتكونن حولك ملحمة، قالت: أعوذ بالله من شرِّكَ، بئس ما قلت، فقلت لها: فلعله إن كان أمراً سيسوءك فقالت: والله لئن أَخِرَّ من السماء أحب إلي من أن أفعل ذلك، فلما كان بعدُ ذُكر عندها أن علياً س قتل ذا الثدية، فقالت لي: إذا أنت قدمت الكوفة فاكتب لي ناساً ممن شهد ذلك ممن تعرف من أهل البلد. فلما قدمت وجدت الناس أشياعاً، فكتبت لها من كل شيع عشرة ممن شهد ذلك قال: فأتيتها بشهادتهم فقالت: لعن الله عمرو بن العاص فإنه زعم لي أنه قتله بمصر[111].
إلا أنّ ابن أبي شيبة أخرجه من طريق أبي معاوية عن الأعمش بدون ذكر قتل ذي الثدية ولعن عمرو بن العاص س.
قال ابن أبي شيبة[112]: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة، قالت: رَأَيْتُنِي عَلَى تَلٍّ كَأَنَّ حَوْلِي بَقَرًا تُنْحَر، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: إنِ اسْتَطَعْتِ أَنْ لاَ تَكُونِي أَنْتِ هِيَ فَافْعَلِي، قَالَ: فَابْتُلِيت بِذَلِكَ رَحِمَهَا اللَّهُ.
وأبو معاوية محمد بن خازم الضرير هو الميزان في حديث الأعمش، وهو أحفظ الناس لحديثه وروايته عنه مقدمة على غيره. قال أيوب بن إسحاق: سألت أحمد ويحيى عن أبي معاوية وجرير قالا: أبو معاوية أحب إلينا. يعنيان في الأعمش، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: كان أبو معاوية إذا سئل عن أحاديث الأعمش يقول: قد صار حديث الأعمش في فمي علقماً، أو هو أمر من العلقم؛ لكثرة ما يردد عليه حديث الأعمش. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا نعيم يقول: لزم أبو معاوية الأعمش عشرين سنة.
وقال إبراهيم الحربي: قال لي الوكيعي: ما أدركنا أحداً كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي معاوية [113].
وقال الحافظ ابن حجر: «هو الميزان في حديث الأعمش»[114].
وجرير بن عبد الحميد- الراوي عن الأعمش عند الحاكم- قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه[115].
وقعت روايات أخرى في رؤيا عائشة تؤيد رواية أبي معاوية - لم تذكر ما قيل في لعنها عمرو- عند نعيم بن حماد[116] من طريق هشيم بن بشير عن حصين، وهشيم مشهور بالتدليس، ولم يصرح بالسماع.
وعند نعيم أيضاً: من طريق هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي وتابع هشيماً أبو أسامة عند ابن أبي شيبة[117] ويحيى بن سعيد عند ابن أبي الدنيا[118].
وهذه الروايات الثلاث الأخيرة فيها مجالد بن سعيد، قال الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره[119]. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال:
سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: حديث مجالد عند الأحداث يحيي بن سعيد وأبي أسامة ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء، يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره[120].
وأما سماع الشعبي من عائشة ففيه خلاف، والراجح ثبوت سماعه؛ فالمثبت مقدم على النافي. قال الحاكم :...وربما توهم متوهم أن الشعبي لم يسمع من أم سلمة و ليس كذلك فإنه دخل على عائشة وأم سلمة جميعاً ثم أكثر الرواية عنهما جميعاً[121]. يضاف إلى ذلك أن الشعبي ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب على المشهور بمعنى سنة تسع عشرة أوحدود العشرين وماتت عائشة في خلافة معاوية سنة سبع أوثمان وخمسين[122]، فسيكون عمر الشعبي حين وفاتها مايقارب سبع وثلاثين سنة، وهو وقت كبير كافٍ لثبوت المعاصرة.
وجاءت رواية أخرى فيها ذكر اللعن بالإبهام «لعن الله فلاناً».
قال البيهقي في الدلائل[123]:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الحسين بن الحسن بن عامر الكندي، بالكوفة من أصل سماعه، حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة الكاتب، قال: حدثنا «عمر بن[124]»عبد الله بن عمر ابن محمد بن أبان بن صالح، قال: هذا كتاب جدي محمد بن أبان فقرأت فيه: حدثنا الحسن ابن الحر، قال: حدثنا الحكم بن عتيبة، وعبد الله بن أبي السفر، عن عامر الشعبي، عن مسروق، قال: قالت عائشة فذكر بنحو ما وقع عند الحاكم.
هذا الإسناد ضعيف فيه: محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي الكوفى أبو عمير.
قال يحيى: ضعيف لا يكتب حديثه، وقال مرة: ليس بشيء وقال البخاري: ليس بالقوي. وضعفه أحمد، وأبو داود، والنسائي، قال ابن حبان: كان ممن يقلب الأخبار، وله الوهم الكثير في الآثار[125].
ثم لو سلم أن الرواية التي فيها لعن عمرو بن العاص س صحيحة، فعائشة ل مع جلالة قدرها وكبير فضلها وغزير علمها قد تخطئ كغيرها من البشر؛ لأن العصمة ليست لأحد بعد رسول الله ص، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا هو ص.
وهذه الفتنة قد وقع فيها ما هو أشد من اللعن وهو القتل. «مع أن المرء قد يتكلم بالكلمة التي لاينبغي له أن يتكلم بها لشدة غضب وموجدة على من قالها له، وأن الفاضل قد يتكلم بالكلام الذي ينكره هو على نفسه إذا ثاب إليها، إلا أنه محمول على هذه الكلمة ومدفوع إليها بما في نفسه من الغضب والحنق وغير ذلك. ومما يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك بن أوس قال: أرسل إليَّ عمر بن الخطاب، فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله، متكئاً على وسادة من أدم، فقال لي: يا مال، إنه قد دف أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم برضخ، فخذه فاقسمه بينهم، قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مال، قال: فجاء يرفأ، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد؟ فقال عمر: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء، فقال: هل لك في عباس، وعلي؟ قال: نعم، فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين، فاقض بينهم وأرحهم... الحديث[126].
فانظر إلى العباس س وهو يقول عن علي «الكاذب الآثم الغادر الخائن» يقول هذا في حضرة الخليفة الراشد، والمبشرين بالجنة، ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم...ورأوه خرج لشدة موجدة عباس على علي وغضبه منه فقاله، وقد أيد هذا المعنى الرسول ص وبين أنه لا انفكاك لأي عبد عن ذلك فقال ص «أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سَبَّةً أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً فِي غَضَبِى - فَإِنَّمَا أَنَا مِنْ وَلَدِ آدَمَ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ - فَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ صَلاَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[127][128]». والمعنى: إن ما وقع من سبه ودعائه ص على أحد ونحوه ليس بمقصود، بل هو مما جرت به العادة، فخاف ص أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل ربه سبحانه ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهوراً وأجراً، وإنما كان يقع هذا منه ص نادراً؛ لأنه ص لم يكن فاحشاً ولا لعاناً، والله أعلم[129].
وعمرو بن العاص س صحابي جليل، ولا يمكن حمل كلامه إلا على أنه توهم أنه قتل ذا الثدية فاشتبه عليه فأخطأ، والإنسان معرض للوهم والنسيان، ولا يستوجب ذلك لعنه أو سبه، عفا الله عنها وعنه وعنا وعن جميع المسلمين.
قال ابن عبد البر في الاستذكار عند حديث سهو النبي ص في الصلاة: «وفي هذا الحديث بيان أن أحداً لا يسلم من الوهم والنسيان؛ لأنه إذا اعترى ذلك الأنبياء فغيرهم بذلك أحرى[130]».
وهذا ابن عمر س يلازم النبي ص ويشهد عمراته ثم يسأل عن عدد عمرات النبي ص فيقول: أربعاً إحداهن في رجب. فلما أُخبرت عائشة ل بقوله قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط[131].
قال الحافظ ابن حجر: «وفي هذا الحديث أن الصحابي الجليل المكثر الشديد الملازمة للنبي ص قد يخفى عليه بعض أحواله، وقد يدخله الوهم والنسيان، لكونه غير معصوم»[132].
فالإنسان طبيعته النِّسْيَان بل هو محل النسيان، وأول من نسي أول إنسان أبونا آدم عليه السلام. قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا﴾[133].
وقال ص «فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ»[134].
وقال ابن عباس: «إنما سمي الإنسان إنساناً لأنه عُهد إليه فنسي»[135].
قال أبو تمام:
لا تنـْسـيـنْ تلـك الـعـهــود فـإنـمــا
سـُمِّيـت إنـسـانــاً لأنــك نـاســي [136]
وقال الشاعر:
ومَـــا سُـمِّـيَ الإنْــسـانُ إِلاَّ لنـَسْـيِـهِ
ومَــا الـقـَلْـبُ إلا أنَّـــه يَـتَـقَــلَّـبُ[137]
[90] تقدم في المطلب الأول أن بعض الحاقدين على الإسلام أظهروا الإسلام وأخفوا معتقداتهم القديمة؛ بغية تحطيم الدولة الإسلامية.
[91] أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب: قول النبي ص للحسن بن علي ب (2) رقم (2557) من حديث أبي بكرة رضي رالله عنه.
[92] أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر: الخوارج وصفاتهم (2) رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. قال النووي: وفي رواية أولى الطائفتين بالحق، وفي رواية تكون أمتي فرقتين فتخرج من بينهما مارقة تلي قتلهم أولاهما بالحق، هذه الروايات صريحة في أن علياً سكان هو المصيب المحق والطائفة الأخرى أصحاب معاوية س كانوا بغاة متأولين وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الإيمان ولا يفسقون وهذا مذهبنا ومذهب موافقينا. شرح مسلم ( 7/167).
[93] التاريخ ( 3/115-116).
[94] انظر: ميزان الاعتدال للذهبي (3/420)
[95] اللسان لابن حجر (4/492).
[96] (5/348).
[97] الجرح والتعديل (8/206)، وانظر لسان الميزان (5/3).
[98] (ص/111).
[99] (1/83)
[100] انظر ميزان الاعتدال (4/265)، والضعيفة (1) رقم (458)، قال الألباني في الإرواء (2/279): وبعد فإن تضعيف أبي حنيفة رحمه الله في الحديث لا يحط مطلقاً من قدره وجلالته في العلم والفقه الذي اشتهر به، ولعل نبوغه فيه، وإقباله عليه هو الذي جعل حفظه يضعف في الحديث، فإنما من المعلوم أن إقبال العالم على علم وتخصصه فيه، مما يضعف ذاكرته غالباً في العلوم الأخرى، والله تعالى أعلم. وقال الضعيفة (1/667): ولا ضير عليه في ذلك، فغايته أن لا يكون محدثاً ضابطاً، وحسبه ما أعطاه الله من العلم والفهم الدقيق حتى قال الإمام الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة، ولذلك ختم الحافظ الذهبي ترجمة الإمام في سير النبلاء (6/403) بقوله: قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.
[101] رقم (1500).
[102] انظر: مصنف عبد الرزاق (3/107)، ومصنف ابن أبي شيبة (2/103)، والمعجم الأوسط للطبراني (7/274).
[103] أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (5) رقم (5754) واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (1) رقم (110).
[104] أخرجه أحمد (6) رقم (3839)، والترمذي: أبواب البر والصلة عن رسول الله ص، باب ما جاء في اللعنة (3) رقم (1977) واللفظ له، وصححه الألباني في الصحيحة (1/319).
[105] أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها (4) رقم (2598).
[106] تقدم (ص/26).
[107] تقدم (ص/27).
[108] قال ابن فارس: السين والدال والنون أصلٌ واحد لشيء مخصوص. يقال: إن السَّدانة الحِجابة. وسَدَنة البيت: حَجبَتُه. ويقولون: السَّدَن السِّتر. معجم مقاييس اللغة (3/150).
[109] الأخبار الطوال (1/242).
[110] بحار الأنوار للمجلسي (33/332)، أحاديث أم المؤمنين عائشة لمرتضى العسكري (1/364).
[111] مستدرك الحاكم (4/14)، قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[112] المصنف (11/77) رقم (31153).
[113] تهذيب الكمال للمزي (25/128-131).
[114] فتح الباري (12/286).
[115] التقريب (916).
[116] كتاب الفتن (1) رقم (181).
[117] (11/72) رقم (31140).
[118] الإشراف في منازل الأشرف (1/273-274).
[119] التقريب (6478).
[120] تهذيب الكمال للمزي ( 27/ 221-224 ).
[121] المستدرك (1/700).
[122] انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (3/16)، وتهذيب الكمال للمزي (14/28).
[123] ( 6/ 434-435 ).
[124] هكذا في الدلائل طبعة دار الكتب العلمية ولم أجد له ترجمة ولعله تصحيف وصوابه عبدالله بن عمر حفيد محمد بن أبان وهو صدوق. انظر التقريب رقم (3493).
[125] المجروحين لابن حبان (2/260) الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/37) تعجيل المنفعة لابن حجر ( 2/165).
[126] أخرجه البخاري: كتاب فرض الخمس (3) رقم (2927)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء (3) رقم (1757). واللفظ له
[127] أخرجه أحمد (39) رقم (23706)، وأبو داود: كتاب السنة، باب: في النهي عن سب أصحاب رسول الله ص (5) رقم (59 46) واللفظ له، وصححه الألباني في الصحيحة (4/257).
[128] درء الانتقاص لمحمد كمال (90-93) باختصار.
[129] عون المعبود للآبادي (12/271).
[130] (1/521).
[131] أخرجه البخاري: كتاب: الحج، باب: كم اعتمر النبي ص؟ (2) رقم (1685) واللفظ له، ومسلم كتاب: الحج، باب: بيان عدد عمر النبي ص وزمانهن (2) رقم (1255).
[132] الفتح (3/602)
[133] سورة طه الآية (115).
[134] أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ص، باب: ومن سورة الأعراف (5) رقم (3076) واللفظ له، والحاكم (1/123) رقم (214) وصححه الألباني في صحيح الجامع (9339).
[135] أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2/140) رقم (925) واللفظ له، وابن منده في التوحيد (1/94) رقم (72) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/357) رقم (786).
[136] نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري (2/11) ذكر النويري خلافا بين العلماء في سبب تسمية الإنسان إنساناً هل هو من الأنْس الذي هو نقيض الوحشة، أو النَّوْس الذي هو نقيض السكون، أو الإيناس الذي هو بمعنى الإبصار، أو النِّسيان الذي هو نقيض الذِّكْر؟ ورجح قو ل الكوفيين بأنه مشتق من النسيان.
[137] تاج العروس للزبيدي (1/124).
ومَــا الـقـَلْـبُ إلا أنَّـــه يَـتَـقَــلَّـبُ[137]اعلم أنه يجب علينا أن نكف ألسنتنا عما شجر بين الصحابة من الفتن، ونترضى عنهم جميعاً؛ لأنهم اصطفاهم الله لصحبة أفضل الخلق، ونقل شريعته، وأما الآثار التي تروي مساويهم قليل ماصح منها، وهي بين أمر اجتهادي - صاحبه بين مجتهد مصيب له أجران، وبين مجتهد مخطئ له أجر- وآخر ليس عن اجتهاد، وهو نزر يسير، فنحن لا ندعي لهم العصمة لكن يغمس في بحر حسناتهم، ولا ننسى أن لهم من السوابق ما يكفر به هذا النزر، وواجبنا نشر الحسنة وستر السيئة، وقد عُلم من ديننا الإسلامي تشوفه للستر على عامة الناس، فكيف بالصحابة الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله، أليس هم أولى بذاك؟!.
بلى هم أولى وأحرى؛ لأن في نشر أخطائهم مفسدة عظيمة، ويكفي مفسدة أن يوغل قلبك على من أمرت بمحبته والترضي عنه، فكيف لو بلغ الحال بك أنك تشك في نقلة هذا الدين!!.
لذلك جعل النبي ص لهم سياجاً منيعاً فلا يتعرض لهم أبداً فقال ص «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»[138].
وقد أكد الصحابة ومن بعدهم من التابعين والعلماء على هذا المبدأ وشددوا في ذلك؛ لخطورة مايؤول إليه من فساد دين صاحبه.
فعن ابن عباس ب قال: «لا تسبوا أصحاب محمد، فإن الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم، وهو يعلم أنهم سيقتتلون»[139].
وعن أبي عمار الهمداني عريب بن حميد قال: جاء رجل إلى علي، فوقع في عائشة، فقام عمار فقال: اخرج مقبوحاً منبوحاً، والله إنها لزوجة رسول الله في الدنيا والآخرة[140].
وسئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: «قتال شهده أصحاب محمد ص وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا»[141].
قال أبو يوسف يعقوب الفسوي:
حدثنا سعيد بن عفير حدثني يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدب بها، فكتب إلى صالح ابن كيسان يتعاهده، فكان عمر يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص علي بن أبي طالب، فأتاه عمر فقام يصلي، فجلس عمر فلم يبرح حتى سلم من ركعتين، ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ قال: فعرف عمر ما أراد، فقال: معذرة إليك والله لا أعود. قال: فما سمع عمر بن عبد العزيز بعد ذلك ذاكراً علياً إلا بخير[142].
ولما سئل عمر بن عبد العزيز- بعد ذلك - عن علي وعثمان والجمل وصفين وما كان بينهم، فقال: «تلك دماء كف الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها»[143].
عن العوام بن حوشب قال: «اذكروا محاسن أصحاب محمد ص، تأتلف عليه قلوبكم، ولا تذكروا غيره فتحرشوا الناس عليهم»[144].
قال أبو بكر المروذي، قال: قيل لأبي عبد الله ونحن بالعسكر وقد جاء بعض رسل الخليفة وهو يعقوب، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيما كان من علي ومعاوية رحمهما الله؟ فقال أبو عبد الله: «ما أقول فيها إلا الحسنى، رحمهم الله أجمعين»[145].
قال أبو يعقوب بن العباس: كنا عند أبي عبد الله سنة سبع وعشرين أنا وأبو جعفر بن إبراهيم فقال له أبو جعفر أليس نترحم على أصحاب رسول الله كلهم؛ معاوية، وعمرو بن العاص، وعلى أبي موسى الأشعري، والمغيرة؟ قال: نعم كلهم وصفهم الله في كتابه فقال سيماهم في وجوههم من أثر السجود[146].
وقال أبو زرعة: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ص فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول ص عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله ص، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة»[147].
وقال أبو سليمان الخطابي: «أما ما شجر بين الصحابة من الأمور، وحدث في زمانهم من اختلاف الآراء، فإنه باب كلما قل التسرع فيه والبحث عنه كان أولى بنا وأسلم لنا، ومما يجب علينا أن نعتقد في أمرهم أنهم كانوا أئمة علماء، قد اجتهدوا في طلب الحق وتحروا وجهته وتوخوا قصده، فالمصيب منهم مأجور والمخطئ معذور، وقد تعلق كل منهم بحجة وفزع إلى عذر، والمقايسة عليهم والمباحثة عنهم اقتحام فيما لا يعنينا. والله تعالى يغفر لنا ولهم برحمته»[148].
قال الباقلاني: «ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله ص، وأفضل الصحابة العشـرة الخلفاء الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم، ونقر بفضل أهل بيت رسول الله ص، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن، وأنهن أمهات المؤمنين، كما وصفهن الله تعالى ورسوله، ونقول في الجميع خيراً...ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم، والسكوت عنه... وروي عن ابن عباس ب أنه قيل له: ما تقول فيما شجر بين الصدر الأول؟ فقال: أقول كما قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾، وسئل عن ذلك جعفر بن محمد الصادق ÷. فقال: أقول ما قال الله: ﴿عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾»[149].
قال القرطبي: « ... وقد تُعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصحبة ولنهي النبي ص عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي ص: أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه؛ لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار... قال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة»[150].
قال النووي: «واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة ش ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون، لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيباً، وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ؛ لأنه لاجتهادٍ والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان علي س هو المحق المصيب في تلك الحروب، هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدته»[151].
قال ابن تيمية: «ما ينقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان، أحدهما: ما هو كذب، إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد ابن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين...
النوع الثاني: ما هو صدق، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير، تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة»[152].
وقال أيضا: «... ويمسكون عما شجر بين الصحابة. ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله ص إنهم خير القرون، وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم»[153].
وقال: «ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنُقُولٍ بعضها منقطع، وبعضها محرف، وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل، من أن الصحابة ش أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا علم بطلانها؟!»[154].
وأقوال السلف وعلماء الأمة في هذا الباب كثير جداً، وقد اقتصرت على نزر يسير منه؛ ليكون نموذجاً لبيان ما عليه سلف الأمة، وإلا فالأمر مجمع عليه لا يسعه الاجتهاد، وقد نقل ابن حجر الإجماع في ذلك.
قال ابن حجر: «واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً وأن المصيب يؤجر أجرين»[155].
وهذه الأقوال الواردة عن السلف في هذا الباب إن دلت على شيء دلت على عظم هذا الأمر، وأن القادم عليه قادم على هلاك نفسه، فمن أراد السلامة فعليه بمنهج سلف الأمة: وهو حفظ اللسان من الوقيعة فيهم، والإمساك عما شجر بينهم من الخلاف بلسانه وبنانه، وألا يخوض في هذه المسائل إلا ماكان من مقصد محمود كالتفقه في الدين إن تعلق به حكم فقهي، أومن باب الدفاع عنهم وتَبْيين الروايات الضعيفة، التي تصفهم بأوصاف لا تتناسب مع خير البرية بعد نبي البشرية، عليه أزكى صلاة وسلام وتحية.
فإذا علمت أخي الكريم منهج السلف في هذه الفتنة - مما تقدم- من كف اللسان عن الوقيعة فيهم، والإمساك عما شجر بينهم، وحبهم جميعاً والترضي عنهم؛ فالزمه فإنه الصراط المستقيم، والنهج القَوِّيم. ومن سلك غيره فقد سلك طريق الردى، فإن كان مُشْفِقاً فنفسه أولى؛ قبل أن يتندم ولات ساعة مندم.
[138] تقدم تخريجه (ص/17).
[139] تقدم (ص/27).
[140] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (2/870).
[141] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/321).
[142] المعرفة والتاريخ (1/315).
[143] تقدم (ص/27).
[144] أخرجه الخلال في السنة (3) رقم (829)، والآجري في الشريعة (5) رقم (1910)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2) رقم (1136).
[145] السنة للخلال (2/ 460).
[146] المصدر نفسه (2 / 476).
[147] الكفاية في علم الرواية الخطيب البغدادي (1 / 49).
[148] العزلة للخطابي (23).
[149] الإنصاف فيما يجب اعتقاده لأبي بكر الباقلاني (ص/65).
[150] الجامع لأحكام القرآن (16/321).
[151] شرح النووي على مسلم (18 /11).
[152] منهاج السنة النبوية (5 / 43).
[153] متن العقيدة الواسطية (1 / 13)، مجموع الفتاوى (3/155).
[154] منهاج السنة النبوية (6 / 195).
[155] فتح الباري (13/34).
المبحث الأول: * اسمه ونسبه * كنيته، *نشأته، *أسرته * إسلامه * صفاته الخَلقية والخُلقية * مناقبه * أعماله * جهاده * عبادته * أحاديثه * بلاغته وشِعره وحِكَمه وأمثاله * تجارته وتركته * وفاته
إنه صاحب رسول الله قبل كل شيء، إنه القائد المحنك، أحد دواهي العرب، فاتح مصر وأميرها إنه عمرو بن العاص س.
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد[156] بن سهم[157] بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي[158].
[156] سُعَيد بالتصغير. الإصابة (4 / 650).
[157] بطن من بطون قريش كانت من حلف الأحلاف، مع بني عبد الدار، وبني مخزوم، وبني جمح، وبني عدي بن كعب، وفي مقابلهم حلف المطيبين، وهم بنو عبد مناف، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر. ونتج هذا الانقسام؛ عن الخلاف الذي حصل بين بني عبد مناف، وبين بني عبد الدار؛ حول وظائف الحجابة، والسقاية والرفادة، والندوة، واللواء. وكانت من قبل لقصي فلما كبر ورق، وكان ولده عبد الدار أكبر ولده، وكان ضعيفاً، وكان عبد مناف قد ساد في حياة أبيه، وكذلك إخوته عبد العزى، وعبد قصي، قال قصي لعبد الدار: والله لألحقنك بهم! فأعطاه دار الندوة والحجابة، وهي حجابة الكعبة، واللواء. فحصل النزاع بين أولاده بعد موته؛ فإن بني عبد مناف بن قصي: عبد شمس، وهاشم، والمطلب، ونوفل، أجمعوا أن يأخذوا الرفادة والسقاية من بني عبد الدار لشرفهم عليهم وفضلهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف، وطائفة مع بني عبد الدار، وتعبوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك. معنى الحجابة: هي حجابة الكعبة، لا يفتح بابها إلا هو، وهو الذي يلي أمر خدمتها وسدانتها. وسقاية الحاج: هي أنهم كانوا يملأون للحجاج حياضاً من الماء، يحلونها بشيء من التمر والزبيب، فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة. =ورفادة الحاج: هي طعام كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة، وكان قصي فرض على قريش خرجًا تخرجه في الموسم من أموالها إلى قصي، فيصنع به طعامًا للحاج، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. ودارالندوة: فيها كانوا يتشاورون فيما نزل بهم من جسام الأمور، وفيها كانوا يزوجون بناتهم، وتعقد الألوية. واللواء: فكانت لا تعقد راية ولا لواء لحرب قوم من غيرهم إلا بيد قصي أو بيد أحد أولاده. انظر: الطبقات الكبرى (1/77)، والكامل (1/155)، والبداية والنهاية (3/243-244)، والرحيق المختوم (1/17). وكانت سهم تنافس بني عبد مناف في السيادة والشرف وقد روي: أن سبب نزول ﴿أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ﴾ كان بسبب تنافسهم في الفخر والشرف مع بني عبد مناف، قال مقاتل والكلبي: نزلت سورة الكوثر في حيين من قريش: بني عبد مناف وبني سهم كان بينهم لحا فتعاند السادة والأشراف أيهم أكثر، فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا حتى زاروا القبور، فعدوا موتاهم فكثرهم بنو سهم، لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهيلية. أسباب النزول للواحدي(ص/305). وكذلك كان لهم باب في المسجد الحرام من ضمن ثلاثة وعشرين باباً. انظر: أخبار مكة للأزرقي (2/628). وقال الفاسي في شفاء الغرام (1/230): هو باب المسجد المعروف الآن بباب العمرة. وروي أن النبي صلى باتجاه بابهم، فعن سفيان بن عيينة، قال: حدثني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، سمع بعض أهله يحدث، عن جده، أنه رأى النبي ص يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه، وليس بينه وبين الكعبة سترة. أخرجه أحمد (45) رقم (27241) ومن طريقه أبو داود (2) رقم (2016). وهو ضعيف لجهالة الواسطة بين كثير وجده، وللاختلاف الواقع في إسناده. انظر: تفصيل ذلك في الضعيفة رقم (928). وقد تولت سهم وظائف اجتماعية مهمة في مكة، ففيهم كانت الحكومة- فصل الخصومات والمرافعات- والأموال المحجرة وكانت إلى الحارث بن قيس عدي السهمي. ومعنى تحجير الأموال: أي تنظيم القربات والنذور التي كانت تُهدى إلى الأصنام. انظر: الاستيعاب (1/29)، تاريخ دمشق (24/118)، الرحيق المختوم (ص/17). قال العقاد: «كأنها الأوقاف في العصور الإسلامية، وكأن الرؤساء من بني سهم طائفة من نظار الأوقاف يعرفون بحسناتهم أو سيئاتهم التي اتصف بها نظار الأوقاف في جميع الأزمان». عمرو بن العا ص (ص/4).
[158] انظر: تهذيب الكمال للمزي (22/78)، السير للذهبي (3/54)، الإصابة لابن حجر (4/650).
أبو عبد الله، وقيل أبو محمد[159].
[159] كما في طبقات خليفة (61)، وطبقات ابن سعد (7/493) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (1/1987)، وذكر المزي الكنيتين وقدم أباعبدالله وكذا فعل الذهبي وغيرهم. انظر: تهذيب الكمال (22/79)، وسيرأعلام النبلاء (3/54)، أما البخاري فاقتصر على تكنيته بأبي محمد. انظر: تاريخ الكبير (6/303)، وقدم ابن حبان كنيته بأبي محمد ثم قال: وقيل: أبو عبد الله. انظر: الثقات (3/265).
نشأ عمرو في مكة إذ هو قرشي من بني سهم وقد تقدم أنها تولت وظائف اجتماعية مهمة في مكة، كالحكومة- فصل الخصومات والمرافعات - والأموال المحجرة، وأنها كانت تنافس بني مناف، وهذا يدل على مكانة القبيلة في مكة وسيادتها، فنشأ عمرو وترعرع في مجتمع له سيادته ومكانته، والقبيلة التي لها سيادة ومكانة يكون لها تأثير على أفرادها، فكيف إذا كان الأب كذلك له سيادته ومكانته في القبيلة! فقد كان أبوه من عظماء الجاهلية، وأحد حكامها، وقد كانت هذه المكانة سبباً قوياً لبناء هذه الشخصية الفذة، فكيف إذا زاد عليها تعلمه للفروسية، فكان أحد فرسانها، وفصاحته وبلاغته ودهائه التي أوتيها، فكان أحد سفرائها، وتكمل شخصية الرجل ونفوذه؛ بثرائه وعدم احتياجه لأموال الآخرين، فقد كان أبوه يلبس الحرير والديباج، كما في البخاري، ولم يقتصر عمرو على تراث أبيه فقد كان يرحل للتجارة. ووفرة المال تمنح صاحبها الاستقلال بنفسه ورأيه فلا يداهن أحدا راجياً نواله، ولا يتردد في معارضته خشية انقطاع أُعْطياته.
فهذه العوامل جعلت عمرو بن العاص يختلف عن أي شخص آخر، وجعلت له ثقله في المجتمع الجاهلي والإسلامي، فقد كان في الجاهلية يُرسَل للسفارة؛ فقد أرسلته قريش إلى ملك الحبشة في شأن من هاجر إليه من المسلمين، ولا يختار في هذه المهام إلا ذو المكانة العالية. ولو نظرنا في الإسلام حيث يوليه النبي ص في سرية ذات السلاسل بوجود أبي بكر وعمر، ويرسله إلى ملك عمان ليبلغ الدعوة، ثم يولى الإمارات من بعده من قبل الخلفاء، ولك أن تتخيل عمر بن الخطاب حينما نظر إلى عمرو بن العاص وهو يمشي فقال: لاينبغي لأبي عبد الله أن يمشي في الأرض إلا أميراً[160].
[160] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/155).
العاص (أو العاصي)[161] بن وائل، كان العاص أحد العظماء والحكام في الجاهلية وقائد بني سهم في حرب الفجار الثاني، لأجله عقد حلف الفضول- الذي دعا إليه الزبير بن عبد المطلب - لجحده متاع الزبيدي فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُؤدَّى إليه حقه. ثم مشوا إلى العاصي بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
وكان من ذوي الثراء يلبس حلة حِبَرَة[162] وقميص مكفوف بحرير، ويلبس كذلك قباء من ديباج[163]. أدرك الإسلام، وظل على الشرك حتى مات، ويعد من أول من حارب دعوة النبي ص، ومن ألد أعدائه، ومع ذلك كان له بعض المواقف المنصفة من خصومه، فهو الذي وقف في وجه قريش لما كادوا أن يجهزوا على عمر بن الخطاب س عندما أعلن إسلامه بين ظهرانيهم[164].
قال ابن اسحق قال: حدثني نافع عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب قال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج عمر، وخرجت وراء أبي وأنا غلام أعقل كلما رأيت، حتى أتاه، فقال: يا جميل هل علمت أني أسلمت؟ فو الله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه، وخرج عمر معه، وأنا مع أبي، حتى إذا قام على باب المسجد (الكعبة) صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش إن عمر قد صبا، فقال عمر: كذبت ولكني أسلمت، فبادروه فقاتلهم وقاتلوه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وبلح[165]، فجلس وعرشوا على رأسه قياماً، وهو يقول: اصنعوا ما بدا لكم، فأقسم بالله لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم، فبينا هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبره وقميص قومسي، فقال: مه؟ فقالوا: خيراً، عمر بن الخطاب صبا، فقال: فمه؟! رجل اختار لنفسه ديناً أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم؟! هكذا عن الرجل. فو الله لكأنما كان ثوب كشف عنه، فلما قدمنا المدينة، قلت: يا أبه من الرجل صاحب الحلة الذي صرف القوم عنك؟ قال: ذاك العاص بن وائل السهمي[166].
وفيه نزل قول الله تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بَِٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا﴾[167].
فعن خباب قال: كنت قينا بمكة، فعملت للعاصي بن وائل السهمي سيفاً فجئت أتقاضاه فقال:
لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت: لا أكفر بمحمد ص حتى يميتك الله ثم يحييك. قال: إذا أماتني الله ثم بعثني ولي مال وولد، فأنزل الله ﴿أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بَِٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا٧٧ أَطَّلَعَ ٱلۡغَيۡبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا﴾ [168]. وكان من كبار المستهزئين بنبينا ص، ولهذا روي في وفاته أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ﴾ [169].أرسل الله عزوجل جبريل عليه السلام لينتقم ممن تطاول على النبي ص وكان منهم العاص بن وائل، فلما مر به العاصي بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فركب إلى الطائف على حمار فريض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته[170].
[161] قال ابن الجوزي: وعامة أصحاب الحديث يقولون ابن العاص بغير ياء وهو خطأ والذي حفظناه عن أهل اللغة منهم أبو محمد بن الخشاب إثبات الياء. وقال ابن حجر: والعاص بمهملتين من العوص لا من العصيان والصاد مرفوعة ويجوز كسرها، وقيل: إنه من العصيان فهو بالكسر جزماً، ويجوز إثبات الياء كالقاضي. وقال العيني العاص بضم الصاد وأصله العوص ويجوز بكسر الصاد لأن أصله العاصي نحو القاضي ولكن الياء خففت فيه. كشف المشكل (4/109) الفتح لابن حجر (7/178)، عمدة القاري للعيني (25/38).
[162] حِبَرَة: وزان عنبة ثوب يماني من قطن أو كتان مخطط. المصباح المنير للفيومي (1/118).
[163] القباء: قال القرطبي: ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلفه يلبس في السفر والحرب لأنه أعون على الحركة وقال ابن بطال القباء من لبس الأعاجم اھ والديباج نوع من الحرير. فتح الباري (6/576)، عمدة القاري للعيني (31/448).
[164] انظر: صحيح البخاري (3/1403)، وأنساب الأشراف للسمعاني (2/781)، والكامل لابن الأثير (1/208)، والبداية والنهاية لابن كثير (3/457)، والأعلام للزركلي (3/247).
[165] أي انقطع من الإعياء فلم يقدر على التحرك. انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 297).
[166] السيرة لابن اسحاق (ص/185).
[167] سورة مريم الآية (77).
[168] أخرجه البخاري: كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: {أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً} (4) رقم (4456) واللفظ له، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب سؤال اليهود النبي ص عن الروح وقوله تعالى: {يسألونك عن الروح} (4) رقم (2795).
[169] سورة الحجر الآية (95).
[170] السيرة النبوية لابن إسحاق (ص / 273).
النابغة من بني جَلاّن بن عنزة بن أسد[171] بن ربيعة بن نزار[172].
وهي النابغة بنت حريملة، وقيل: بنت خزيمة، وقيل: سلمى بنت النابغة، سبية من عنزة[173].
[171] في معرفة الصحابة أسيد، وفي الاستيعاب وفي غيره من المصادر أسد.
[172] معرفة الصحابة لأبي نعيم (1/1987)، الاستيعاب لابن عبد البر (1/126).
[173] تهذيب الكمال للمزي (22/79)، وفي الاستيعاب لابن عبد البر (1/367) حرملة بدل حريملة، وقال وذكروا أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه وهو على المنبر، فسأله فقال: أمي سلمى بنت حرملة تلقب النابغة من بني عنزة، ثم أحد بني جلان، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له، فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذه. وانظر: أسد الغابة لابن الأثير (4/244).
لعمرو أخ من أبيه وهو هشام بن العاص وأمه حرملة بنت هشام بن المغيرة، وأبو جهل خاله، وكان هشام قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، ثم قدم إلى مكة للهجرة إلى المدينة، وكان واعد عمر أن يمضي معه إلى المدينة، وقال له: انتظرني في أضاة بني غفار. فأخذه أبوه فكبله، فلم يزل محبوساً بمكة حتى مات أبوه العاص بن وائل في آخر السنة الأولى من الهجرة، ثم حبسه قومه بعد أبيه فلم يزل يحتال حتى تخلص، وقدم على رسول الله ص بعد الخندق، وكان من خيار المسلمين، وكان يكنى أبا العاص، فكناه رسول الله ص أبا مطيع، وكان أصغر سناً من أخيه عمرو بن العاص، خرج هشام مع من وجهه أبو بكر الصديق س إلى الشام، فقتل في قول الكلبي يوم أجنادين[174]، وفي قول الواقدي باليرموك، ولا عقب لهشام بن العاص[175].
وكان عمروبن العاص س يحبه حباً شديداً ويفضله على نفسه فيماروي عنه، قال ابن سعد رحمه الله:
قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن جعفر قال: قال سفيان بن عيينة: قالوا لعمرو بن العاص: أنت خير أم أخوك هشام بن العاص؟ قال: أخبركم عني وعنه، عرضنا أنفسنا على الله، فقبله وتركني، قال سفيان: وقتل في بعض تلك المشاهد، اليرموك أو غيره[176].
وقد شهد له النبي ص ولأخيه بالإيمان، قال النبي ص: «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ»[177].
[174] أَجنادَين على لفظ التثنية كأنه تثنية أجناد موضع من بلاد الأردن بالشام وقيل بل من أرض فلسطين بين الرملة وجيرون. معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع لأبي عبيد الأندلسي (1/114).
[175] أنساب الأشراف للسمعاني (1/92)، (10/282).
[176] الطبقات الكبرى لابن سعد (4 / 192).
[177] أخرجه أحمد (13) رقم (8042)، واللفظ له، وابن سعد (4/191) والحاكم ( 3/ 452 )، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (45).
1- عمرو[178] بن أبي أثاثة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي. وهومن مهاجرة الحبشة.
قال ابن عبد البر: وعروة هذا قديم الإسلام بمكة، لم يذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، وذكره موسى بن عقبة وأبو معشر، والواقدي[179].
2- عقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط من بني الحارث بن فهر. وأبوه نافع جاء له ذكر في السيرة النبوية، إذ كان من ضمن النفر الذين هاجموا زينب بنت النبي ص.
قال البلاذري: فاعترضها رجال من قريش بذي طوى. فبدر إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، ونافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر الفهري، وهو أبو عقبة بن نافع، صاحب المغرب[180].
وقد ورد أن النبي ص أباح دمه يوم فتح مكة.
قال ابن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي إسحاق الدوسي عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله ص سرية أنا فيها فقال لنا: إن ظفرتم بهبار بن الأسود أو الرجل الآخر الذي سبق معه إلى زينب.
قال ابن هشام: «وقد سمى ابن إسحاق الرجل في حديثه وقال: هو نافع بن عبد قيس فحرقوهما بالنار، قال فلما كان الغد بعث إلينا، فقال: إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما»[181].
قال ابن كثير: تفرد به ابن إسحاق وهو على شرط السنن ولم يخرجوه.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا الليث، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبى هريرة أنه قال: بعثنا رسول الله ص في بعث فقال: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ» ثم قال حين أردنا الخروج: «إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا»[182].
3-أرنب بنت عفيف بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس[183]، تزوجها قيس بن عمرو بن المؤمل[184].
هؤلاء الثلاثة هم إخوة عمرو بن العاص س من أمه.
[178] ويقال فيه: عمرو بن أبي أثاثة، ويروى ابن أثاثة بن عبد العزى القرشي العدوي، كما نص عليه ابن عبدالبر، ولتعدد الروايات في تعيين اسمه؛ كرر بعض أصحاب التراجم ترجمته في أكثر من موطن بحسب الروايات، وهي كما ترى مسميات لمسمى واحد.
[179] الاستيعاب لابن عبدالبر (1 / 327).
[180] أنساب الأشراف للسمعاني (1 / 176)، السيرة النبوية لابن كثير (2 / 519).
[181] السيرة النبوية لابن هشام (3 / 208)
[182] السيرة النبوية لابن كثير (2 / 519).
[183] انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم (1/ 163) وتاريخ دمشق لابن عساكر (52/ 136)، والإصابة لابن حجر (13/118)، والحديث في صحيح البخاري (4/ 61).
[184] جمهرة أنساب العرب لابن حزم (1/163)، نسب قريش لمصعب الزبيري (1/136).
1- ريطة بنت منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، وأمها زينب بنت وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، تزوجها عمرو بن العاص في سن مبكرة، فأنجبت له عبد الله س، روي أنها أسلمت يوم الفتح وبايعت النبي ص، فعن عبدالله بن الزبيرقال: لما كان يوم الفتح أسلمت ريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبدالله بن عمرو بن العاص، وأتت رسول الله، فبايعته.
وقد روي أن النبي ص قال فيها وفي وأهل بيتها: نعم أهل البيت عبد الله وأم عبد الله. وليست لها رواية[185].
2- أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة، وهي أخت عثمان بن عفان لأمه، أسلمت بمكة وبايعت قبل الهجرة، وهي أول من هاجر من النساء بعد أن هاجر رسول الله ص إلى المدينة[186].
قال ابن إسحاق: وهاجرت إلى رسول الله ص أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط في هدنة الحديبية، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله ص يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية، فلم يفعل، وقال: أبى الله ذلك[187].
وفيها نزل: ﴿فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّ﴾ [188].
قال ابن عبد البر: يقولون إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة، فلما قدمت المدينة تزوجها زيد بن حارثة، فقتل عنها يوم مؤتة، فتزوجها الزبير بن العوام، فولدت له زينب ثم طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً. ومنهم من يقول: إنها ولدت لعبد الرحمن إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت. وهي أخت عثمان لأمه [189].
3- ذكر محمد بن حبيب البغدادي: أن عمراً تزوج بعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل القرشية[190].
ويقال: خطبها عمرو بن العاص ومحمد بن أبي بكر فامتنعت عليهما[191].
[185] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/269)، وأسد الغابة لابن الأثير (3/355)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/399)، والإصابة لابن حجر (7/661). والحديث في مسند أحمد (3) رقم (1381) من طريق ابن أبي مليكة قال: قال طلحة بن عبيد الله فذكره. قال الترمذي ابن أبي مليكة لم يدرك طلحة بن عبيد الله. سنن الترمذي (6/170)، فالحديث منقطع.
[186] الطبقات الكبرى لابن سعد (10/219)، وصفوة الصفوة لابن الجوزي (2/55-58).
[187] الاستيعاب لابن عبد البر (2 / 134).
[188] الطبقات الكبرى لابن سعد (8/130)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/49).
[189] الاستيعاب لابن عبد البر (2 / 135)، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8 / 231).
[190] المحبر لمحمد بن حبيب (2/437).
[191] الرياض النضرة في مناقب العشرة لمحب الدين الطبري (ص/382).
1- ولِد لعمرو: عبد الله، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، أحد السابقين أسلم قبل أبيه، وكان فاضلاً حافظاً عالماً قرأ الكتاب، وهو أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء، وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج السهمي[192]، وكان لعبد الله بن عمرو من الولد محمد، وبه كان يكنى. وأمه بنت محمية بن جزء الزبيدي، وهشام، وهاشم، وعمران، وأم إياس، وأم عبد الله، وأم سعيد، وأمهم أم هاشم الكندية من بني وهب بن الحارث[193].
قال ابن حزم: لعبد الله بالوهط[194]، ومكة عقب كثير، يناهزون المائة، منهم: كان المحدث عمرو، وأخواه عمر، وشعيب، بنو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي، وأختهم عابدة: أمها عمرة بنت عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان زوجها الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وبسببها ردت أموال عمرو بن العاصي، بعد أن قبضها بنو العباس[195].
2- محمد، قال ابن حجر: وذكر العدوي في الأنساب أن محمداً صحب النبي ص وهو صغير، وقال ابن سعد: أمه بلوية، وقال ابن البرقي: اسمها خولة بنت حمزة بن السليل[196]، ومحمد لا عقب له[197].
[192] الاستيعاب لابن عبد البر (3/86)، والتقريب لابن حجر رقم (3499).
[193] الطبقات الكبرى لابن سعد (4/261).
[194] الوهط: بستان كان لعمرو بالطائف سيأتي ذكره (ص/94).
[195] جمهرة أنساب العرب لابن حزم (1/163-164).
[196] الإصابة لابن حجر (6/61).
[197] نسب قريش لمصعب الزبيري (1/137).
اختلف في السنة التي أسلم فيها عمرو بن العاص، فقيل: أسلم بين الحديبية وخيبر، ولا يصح، والصحيح ما ذكره الواقدي وغيره أن إسلامه كان سنة ثمان، وقدم هو وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة للمدينة مسلمين، فلما دخلوا على رسول الله ص ونظر إليهم قال: «قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها»[198].
قال الطبري:«كان سبب إسلام عمرو بن العاص ما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى بن أبي أوس عن حبيب بن أبي أوس قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى أذني قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت، قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلا يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا لرأي، قلت: فاجمعوا له ما نهدي إليه، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ص قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده، قال: فقلت لأصحابي هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد، فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال: مرحباً بصديقي أهديت لي شيئاً من بلادك، قلت: نعم، أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسـره - يعني النجاشي-، فلو انشقت الأرض لي لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله، فقلت: أيها الملك أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: فتبايعني له على الإسلام قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان، قال: والله لقد استقام المنسم[199] وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى، فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على رسول الله ص فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، فقال رسول الله ص: يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الهجرة تجب ما قبلها، فبايعته ثم انصرفت[200].
[198] الاستيعاب لابن عبد البر (3/268-269) بتصرف، وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (16/219).
[199] أي تبين الطريق. النهاية لابن الأثير (5/119).
[200] تاريخ الطبري (3/31). والحديث حسن، أخرجه الإمام أحمد في المسند (29/312) برقم (17777)، والحاكم في المستدرك (3/337)، والحارث في مسنده كما في بغية الحارث برقم (1029)، والطبراني في الطوال (1/218) وغيرهم، وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (5/123)، والأرناؤوط في تخريج الحديث في المسند.
قال ابن عبد الحكم: وكانت صفة عمرو بن العاص كما حدثنا سعيد بن عفير عن الليث بن سعد: قصيراً، عظيم الهامة، ناتئ الجبهة، واسع الفم، عظيم اللحية، عريض ما بين المنكبين، عظيم الكفين والقدمين. قال: قال الليث يملأ هذا المسجد[201].
قال بحير بن ذاخر المعافري:... فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً ربعة[202] قصد القامة، وافر الهامة، أدعج، أبلج، عليه ثياب موشية، كأن به العقيان تأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة[203].
أما صفاته الخُلقية: فقد كان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية والإسلام مذكوراً بذلك فيهم[204]، فكان من رجال قريش شجاعة، ورأياً، ودهاء، وحزماً، وكفاءة، وبصراً بالحروب، ومن أشراف أمراء العرب، ومن أعيان المهاجرين، امتاز س بأخلاق عالية وصفات رفيعة مع جميع طبقات المجتمع من أهلٍ، وأصحابٍ، وخدمٍ. وسأذكر مواقفاً حصلت له تدل على بعض ما تحلى به من هذه الصفات:
[201] فتوح مصر (1/66).
[202] مُعْتدِل الخَلْق. المخصص لابن سيده (1/184).
[203] فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص/98)، المؤتلف والمختلف للدارقطني (2/1003).
[204] الاستيعاب (1/368).
- في غزوة أحد: خرجت قريش بحدها وحديدها وجدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا، وكان منهم عمرو بن العاص خرج بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم ابنه عبد الله، وكان عمرو مشركاً آنذاك[205].
- في يوم الأحزاب: عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تطيف بالخندق، وتطلب غرة ومضيقاً من الخندق، فتقتحم فيه، وكان عمرو بن العاص وخالد ابن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك يطلبان الغفلة من المسلمين[206].
- وفي يوم الأحزاب: لما أخزى الله المشركين وهزم الأحزاب وحده، انسحب المشركون بجيوشهم وعسكرهم، وكان قائدهم أبو سفيان، فخاف أن يطلبهم النبي ص فقال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله نقيم في جريدة من الخيل بإزاء محمد وأصحابه. فإنا لا نأمن أن نطلب. فقال عمرو: أنا أقيم. وقال: لخالد بن الوليد ما ترى أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضاً أقيم. فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس وسار جميع العسكر[207].
فالشجاعة صفة ملازمة لعمرو من قبل الإسلام، وقد قال ص: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ إِذَا فَقِهُوا»[208].
أما بعد إسلامه - بعد أن صار هدفه في الحرب إما النصر أو الشهادة - فتاريخه حافل ومن شواهد ذلك:
- ما دار بينه وبين مسيلمة الكذاب حين مر عليه يوم قدم من عمان إلى المدينة بعد وفاته ص. قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة، فأعطاني الأمان، ثم قال: إن محمداً أرسل في جسيم الأمور، وأرسلت في المحقرات. وقلت: أعرض علي ما تقول. فقال: يا ضفدع نقي فإنك نعم ما تنقين، لا زاداً تنقرين ولا ماء تكدرين. ثم قال: يا وبر[209] يا وبر إنما أنت إبراد[210] وصدر وسائرك حفر[211] نقر، ثم أتى بأناس يختصمون إليه في نخلات قطعها بعضهم لبعض؛ فتسجى قطيفة، ثم كشف رأسه ثم قال: والليل الأدهم، والذئب الأصحم ما جاء ابن أبي مسلم من محرم. ثم تسجى الثانية فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس ما حرمته رطباً إلا كحرمته يابس. قوموا فلا أرى عليكم في ماصنعتم بأساً. قال عمرو: أما والله إنك لكاذب وإنا لنعلم أنك لمن الكاذبين فتوعدني.
- وفي اليرموك قال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فو الذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب، ويجزي بالإحسان إحساناً، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفراً كفراً، وقصراً قصراً، فلا يهولكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل[212].
- وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلا وقاتل قتالاً شديداً ثم تراجع إليه أصحابه[213].
- ولما حملت الأزد يوم اليرموك ودوس ودوخت المشركين دوخة عظيمة وحمل المشركون حملة هائلة انكشف المسلمون وكان صاحب لوائهم عياض بن غنم الأشعري، فولى منهزماً واللواء بيده، فصاح به الناس: إنما ثبات القوم وأهل الحرب بألويتهم. فابتدر لأخذه عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، كلاهما يتسابق إليه، فأخذه عمرو، ولم يزل يقاتل به حتى انهزمت الروم، وفتح الله على أيدي المسلمين[214].
وفي رواية أخرى: فلما رأى عمرو بن العاص صاحب الراية ينكشف بها، أخذها ثم جعل يتقدم، وهو يصيح: إلي يا معاشر المسلمين، فجعل يطعن بها قدماً، وهو يقول: اصنعوا كما أصنع، حتى إنه ليرفعها، وكأن عليها ألسنة المطر من العلق[215].
وكان لعمرو بن العاص سيف يسمى: اللُّجُّ، وقال في حروب الشام: الرجز:
أضربهم باللج حتى يخلّوا الفرج لمن مشى ودج[216].
[205] انظر: البداية لابن كثير (5/342).
[206] المغازي للواقدي (2/465).
[207] السيرة الحلبية للحلبي (2/653).
[208] أخرجه أحمد (16) رقم (10296).
[209] الوبر: بفتح الواو وتسكين الباء الموحدة دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها تقيم في البيوت، وجمعها وبورو وبارو وبارة، والأنثى وبرة، وقول الجوهري: لا ذنب لها أي لا ذنب طويل، وإلا فالوبر له ذنب قصير جداً والناس يسمون الوبر بغنم بني اسرائيل، ويزعمون أنها مسخت لأن ذنبها مع صغره، يشبه ألية الخروف، وهو قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه. حياة الحيوان الكبرى لأبي البقاء الدميري (2/ 533).
[210] هكذا في تاريخ دمشق (46/154) طبعة دار الفكر تحقيق: عمرو العمروي، وفي بعض المصادر (يدان وصدر) كما في معجم الصحابة للبغوي (5/91)، والسير(3/69)، وفي بعضها( أذنان وصدر) كمافي تفسير ابن كثير (1/203)، والبداية (9/474)، وروائع التفسير (الجامع لتفسير الإمام ابن رجب) (1/132)، وفي بعضها منكبان كما في رسالة الصاهل والشاجح لأبي العلاء التنوخي (1/445).
[211] قال المحقق: الذي بالأصل وم: «شان خلقه حقر حقر » والمثبت: «وسائرك حفر نقر» عن البداية والنهاية وفي سير أعلام النبلاء: وبيان خلقه حفر.اﻫ ولعل الصواب حَقْرٌ نَقْر كما في البداية (9/474) طبعة هجر تحقيق التركي، وتفسير ابن كثير - في بعض المواضع -(4 / 356) طبعة دار طيبة تحقيق سامي سلامة. قال ابن دريد: والحقر: مصدر حقرت الرجل أحقره حقراً ومحقرة فأنا حاقر والرجل محقور وحقير. وتقول العرب: استبت الْوَبرَة والأرنب فقالت الْوَبرَة للأرنب: خطم وأذنان وسائرك أصلتان وقالت الأرنب للوبرة: منكبان وصدر وسائرك حقر نقر. فكأن نقراً إتباع لأنهم يقولون: حقير نقير. تقول العرب: حقراً لفلان ومحقرة له وحقرة وحقارة. جمهرة اللغة لابن دريد (1/519). وقال اللحياني: يقال: قال الوبر للأرنب: آذان آذان، عجز وكتفان، وسائرك أكلتان، فقال الأرنب: وبر وبر، عجز وصدر، وسائرك حقر نقر. مجمع الأمثال للميداني (2/393).
[212] البداية لابن كثير (9/555).
[213] الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء للكلاعي (3/268).
[214] فتوح الشام للواقدي (1/201).
[215] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/157). والعلق الدم الغليظ. تهذيب اللغة للأزهري (1/243)، الصحاح للجوهري (4/1529).
[216] انظر: المنمق في أخبار قريش لمحمد بن حبيب (ص/522). ومعنى دج: مشى مشياً رويداً في تقارب خطو. وقيل: هو أن يقبل ويدبر. وقيل: هو الدبيب بعينه. المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (7/189).
اجتمعت في عمرو صفات القائد العظيم المحنك، وهي القوة والشجاعة، والبصيرة بالحرب، والخبرة بفنون القتال،وكانت هذه الصفات ظاهرة في شخصيته؛ لذلك كان يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْبَنَانِ في توليه القيادة، ومما يدل على ذلك أنه:
- أمَّره رسول الله ص على سرية نحو الشام، فبعثه إلى أخوال أبيه العاص ابن وائل من بلي فكان قدومه إلى المدينة في صفر سنة ثمان، ووجهه رسول الله ص في جمادى الآخرة سنة ثمان، فيما ذكره الواقدي وغيره إلى السلاسل من بلاد قضاعة في ثلاثمائة[217].
روى ابن سعد عن عبد الله بن بريدة قال: قال عمر لأبي بكر لما لم يدع عمرو بن العاص الناس أن يوقدوا ناراً: ألا ترى إلى هذا ما صنع بالناس يمنعهم منافعهم؟ قال: فقال أبو بكر: دعه، فإنما ولاه رسول الله ص علينا لعلمه بالحرب[218].
ولهذا قال عمرو بن العاص: ما عدل بي رسول الله ص وبخالد ابن الوليد في حربه منذ أسلمنا أحداً من أصحابه[219].
- عندما اهتم أبو بكر بالشام وعنّاه أمره، وكان أبو بكر قد رد عمرو بن العاص إلى عمله الذي كان رسول الله ص ولاه إياه من صدقات سعد هذيم وعذرة وغيرهم قبل ذهابه إلى عمان، ووعده أن يعيده إلى عمله بعد عوده من عمان، فأنجز له أبو بكر عدة رسول الله ص.
فلما عزم على قصد الشام كتب له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله ص مرة ووعدك به أخرى إنجازاً لمواعيد رسول الله ص، وقد وليته، وقد أحببت أن أفرغك لما هو خير لك في الدنيا والآخرة، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
فكتب إليه عمرو: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به. فأمره وأمر الوليد بن عقبة - وكان على بعض صدقات قضاعة - أن يجمعا العرب، ففعلا، وأرسل أبو بكر إلى عمرو بعض من اجتمع إليه، وأمره بطريق سماها له إلى فلسطين، وأمر الوليد بالأردن وأمده ببعضهم، وأمر يزيد بن أبي سفيان على جيش عظيم هو جمهور من انتدب إليه، فيهم سهيل بن عمرو في أمثاله من أهل مكة، وشيَّعه ماشياً، وأوصاه وغيره من الأمراء[220].
- لما تحركت جيوش المسلمين نحو الشام في عهد الخليفة أبي بكر س، بلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل، وخرج هرقل حتى نزل بحمص، فأعد لهم الجنود وعبى لهم العساكر، وأراد اشتغال بعضهم عن بعض لكثرة جنده وفضول رجاله، وأرسل إلى عمرو أخاه تذارق لأبيه وأمه، فخرج نحوهم في تسعين ألفاً، وبعث من يسوقهم حتى نزل صاحب الساقة ثنية جِلَّق بأعلى فلسطين، وبعث جَرَجة بن توذرا نحو يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه، وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث الفيقار بن نسطوس في ستين ألفاً نحو أبي عبيدة. فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفاً سوى عكرمة في ستة آلاف. ففزعوا جميعاً بالكتب وبالرسل إلى عمرو: أن ما الرأي؟ فكاتبهم وراسلهم: إن الرأي الاجتماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، وإذا نحن تفرقنا لم يبق الرجل منا في عدد يقرن فيه لأحد ممن استقبلنا وأعد لنا لكل طائفة منا، فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا به وقد كتب إلى أبي بكر بمثل ما كاتبوا به عمراً، فطلع عليهم كتابه بمثل رأي عمرو[221]، وتوافقُ رأي أبي بكر ورأي عمرو بن العاص س، يدل على شجاعته ودهائه وبصره بالحرب.
[217] سيأتي ذكره (ص/ 77).
[218] الطبقات الكبرى طبعة الخانجي (5/55)، وسنده صحيح إلى عبد الله بن بريدة لكنه لم يدرك أبا بكر.
[219] مسند أبي يعلى (7347)، قال محققه حسين سليم أسد: رجاله ثقات.
[220] الكامل في التاريخ (2/249)، البداية والنهاية (9/541).
[221] تاريخ الطبري (3/392).
لعل صفة الدهاء من أظهر صفات عمرو س، حتى عرف بها بين قومه قبل الإسلام وبعده، وهي صفة تنم عن اتقاد ذكائه ووفور قريحته وقد وظَّفها عمرو جيداً في خدمة دينه، ومن أصدق الدلائل وأظهر الشواهد على ذلك:
- لما كتب عمر بن الخطاب س إلى عمرو بن العاص س بالمسير إلى إيليا، ومناجزة صاحبها فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم، فكانت وقعة أجنادين، وذلك أنه سار بجيشه وعلى ميمنته ابنه عبد الله بن عمرو، وعلى ميسرته جنادة بن تميم المالكي، من بني مالك بن كنانة، ومعه شرحبيل بن حسنة، واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي، فلما وصل إلى الرملة وجد عندها جمعاً من الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم وأبعدها غوراً، وأنكأها فعلاً، وقد كان وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبايلياء جنداً عظيماً، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر.
فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج.
وبعث عمرو بن العاص علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن بلال العكي على قتال أهل إيليا، وأبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، فكانوا بإزائهم ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه، وجعل عمرو كلما قدم عليه إمداد من جهة عمر يبعث منهم طائفة إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء. وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد وسمع كلامه وتأمل حضرته حتى عرف ما أراد، وقال الأرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتله.
فدعا حرسيّاً فسارَّه فأمره بقتله فقال: اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص، فقال للأرطبون: أيها الأمير إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم، ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت.
فقال الأرطبون: نعم! فاذهب فأتني بهم، ودعا رجلاً فساره فقال: اذهب إلى فلان فرده.
وقام عمرو فذهب إلى جيشه ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص، فقال: خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب. وبلغت عمر بن الخطاب فقال: لله در عمرو.
ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالاً عظيماً، كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، ثم اجتمعت بقية الجيوش إلى عمرو بن العاص، وذلك حين أعياهم صاحب إيليا وتحصن منهم بالبلد، وكثر جيشه، فكتب الأرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى مثل ما لقي الذين قبلك من الهزيمة، فدعا عمرو رجلاً يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون وقال: اسمع ما يقول لك ثم ارجع فأخبرني.
وكتب إليه معه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، واقرأ كتابي هذا بمحضر من أصحابك ووزرائك.
فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا للأرطبون: من أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد؟ فقال: صاحبها رجل اسمه على ثلاثة أحرف.
فرجع الرسول إلى عمرو، فأخبره بما قال، فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: إني أعالج حرباً كئوداً[222] صدوماً، وبلاداً ادخرت لك، فرأيك.
فلما وصل الكتاب إلى عمر علم أن عمراً لم يقل ذلك إلا لأمر علمه، فعزم عمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس[223].
- لما حضرت القبط[224] باب عمرو وبلغ عمراً أنهم يقولون: ما أَرَثَّ العرب وأهون عليهم أنفسهم، ما رأينا مثلنا دان لهم، فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق، فطافوا به على المسلمين فأكلوا أكلاً عربياً، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعاً وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصـر فرأوا شيئاً غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوّام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم فافترقوا، وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا. وبعث إليهم أن تسلحوا للعرض غداً، وغدا على العرض وأذن لهم فعرضهم عليهم، ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم فخشيت أن تهلكوا؛ فأحببت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب فظفروا بكم وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول، فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم، وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة[225] كسورات الحروب من غيره، إن عمراً لَعِضٌّ[226] ثم أمره عليها وقام بها[227].
وقال معاوية لعمرو بن العاص ب: ما بلغ من دهائك يا عمرو؟ قال عمرو: لم أدخل في أمرٍ قط فكرهته إلا خرجت منه[228].
فهو داهية قريش ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة، والدهاء، والحزم[229].
قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد. فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، والمغيرة للمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير[230].
وكان عمر بن الخطاب س إذا استضعف رجلاً في رأيه وعقله، قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد[231].
فعن قبيصة بن جابر أنه قال: صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أبين، أو قال: أنصع طرفاً منه ولا أكرم جليساً ولا أشبه سريرةً بعلانيةٍ منه[232].
[222] أي شاقة وصعبة. انظر الصحاح للجوهري (2/529)، المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (7/80).
[223] البداية والنهاية لابن كثير (9/655).
[224] القِبْط: أَهْلُ مِصْرَ، وهم بُنْكُها، بالضَّمِّ، أَي أَصلُها وخَالِصُها، والنسبة إليهم قِبْطيُّ وقِبْطيّةٌ. انظر: العين للفراهيدي (5/ 109)، تهذيب اللغة للأزهري (9/33)، وتاج العروس للزبيدي (20/ 5) وسيأتي سبب تسميتهم به في المبحث الخامس من الفصل الثاني (ص/181).
[225] السورة: الشدة والحدة والبطش. تاج العروس للزبيدي (3/283).
[226] العِضّ: الدّاهية. يقال: هو عِضٌّ ما يُفْلِت منه شيء. مقاييس اللغة لابن فارس (4/38).
[227] أخرجه الطبري في تاريخه (4/110)، وانظر: الاكتفاء للكلاعي (4/41).
[228] عيون الأخبار لابن قتيبة (1/394)، أنساب الأشراف للبلاذري (5/40).
[229] السير للذهبي (3/55).
[230] المصدر نفسه (3/58).
[231] الاستيعاب لابن عبد البر (3/269)، والإصابة لابن حجر (3/2-3).
[232] أخرجه أبو يوسف الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/458)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/179).
من صفات القائد العظيم المحنك، الكرم والورع والصدق، ومن تتبع تراجم عمرو يجد هذه الصفات متمثلة فيه، ومن دلائل ذلك:
- أن عمرو بن العاص س لما كان عند الموت دعا حرسه فقال: أي صاحب كنت لكم؟ قالوا: كنت لنا صاحب صدق تكرمنا وتعطينا وتفعل وتفعل[233].
- حصل ذات يوم بين عمرو بن العاص وبين المغيرة بن شعبة كلام في الوهط[234]، فسبَّه المغيرة، فقال عمرو يا آل هصيص، أيسبني ابن شعبة، قال ابنه عبد الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، دعوت بدعوى القبائل، وقد نهى رسول الله ص عن دعوى القبائل، قال: فأعتق ثلاثين رقبة[235].
- عن أبي عمران الفلسطيني قال: بينا امرأة عمرو بن العاص تفلي رأسه إذ نادت جارية لها فأبطأت عنها فقالت: يا زانية، فقال عمرو: رأيتيها تزني؟ قالت: لا. قال: والله لتضربن لها يوم القيامة ثمانين سوطاً، فقالت لجاريتها وسألتها تعفو، فعفت عنها، فقالت: هل يجزي عني؟ فقال لها وما لها ألا تعفو وهي تحت يدك! فأعتقيها. فقالت: هل يجزئ عني ذلك؟ قال: فلعل[236].
- أن عمرو بن العاص قاتل الروم بالإسكندرية يوماً من الأيام قتالاً شديداً، فلما استحر القتال بينهم بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومي، وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقام بسبيله، ولكنها مقادير ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص لذلك، وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن فقال عمرو بن العاص عند ذلك: ما بال الرجل المسَّتَةُ[237] الذي يشبه النساء يتعرض مداخل الرجال ويتشبه بهم، فغضب مسلمة من ذلك ولم يراجعه... ثم اعتذر عمرو بعد ذلك، فقال: استغفر لي ما كنت قلت لك، فاستغفر له، وقال عمرو: والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات؛ مرتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا وقد ندمت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك، والله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت[238].
[233] أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/80)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/198-199).
[234] الوهط: بستان كان لعمرو بالطائف سيأتي ذكره (ص/94).
[235] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/292) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/182).
[236] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/181).
[237] هكذا في فتوح مصر، ونهاية الأرب، وفي المواعظ (السَّتَةُ): مصدر الأَسْتَهِ، وهو الضّخْمُ الاسْتِ. تهذيب اللغة للأزهري (6/74)، وفي الاكتفاء: (المسبّه) ومعناه الذَّاهِب الْعقل. تهذيب اللغة (6/ 84).
[238] أخرجه ابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص/60)، وانظر الاكتفاء للكلاعي (4/25-26)، ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري (19/104)، والمواعظ والاعتبار للمقريزي (1/463).
تقدم أن من من صفات القائد العظيم المحنك الكرم والورع والصدق وقد وجدت هذه الصفات في عمرو بن العاص س، ولقد توجها بحلمه العظيم فمن ذلك:
- في عام طاعون عمواس لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم محمد ص، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، قال: فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبدالرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيباً في الناس فقال: أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبلوا منه في الجبال، فقال أبو واثلة الهذلي: كذبت والله، لقد صحبت رسول الله ص وأنت شر من حماري هذا. قال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه، ثم خرج وخرج الناس، فتفرقوا، ورفعه الله عنهم، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه[239].
فهذه بعض الصفات التي يتحلى بها عمرو بن العاص س، وهي أخلاق رفيعة ولا غرو في ذلك فهو من مدرسة محمد ص.
[239] أخرجه الطبري في تاريخه (4/62)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (68/108)، وابن الأثير في أسد الغابة (6/319).
يكفي في فضله صحبة رسول الله ص، فهي أكبر منقبة له، إذ فضل الصحبة لا يعادله فضل، وذكرت في المقدمة بعضاً من الآيات والأحاديث الدالة على فضل الصحابة إلا أن عمراً ورد في مناقبه وفضله أحاديث خاصة به، منها:
1- عن عقبة بن عامر س قال: قال النبي ص «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ»[240].
2- عن أبي هريرة س قال: قال النبي ص: «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ»[241].
3- قال طلحة س: «ألا أحدثكم عن رسول الله ص بشيء؟ إني سمعته يقول: «إِنَّ عَمْرَو بْنَ العَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ»[242].
4- عن عمرو بن العاص س، قال: «كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَذْهَبُونَ هَكَذَا وَهَكَذَا، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مُحْتَبٍ بِحَمَائِلِ[243] سَيْفِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مِنْبَرِ النَّبِيِّ ص، قَالَ: فَقَعَدْتُ مَعَ سَالِمٍ، وَجَاءَ النَّبِيُّ ص فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ كَانَ مَفْزَعُكُمْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، أَلاَ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَ هَذَانِ الرَّجُلاَنِ الْمُؤْمِنَانِ؟»[244].
5- عن عمرو بن العاص س قال: قال لي رسول الله ص:
«يَا عَمْرُو اشْدُدْ عَلَيْكَ سِلاَحَكَ، وَثِيَابَكَ، وَأْتِنِي، فَفَعَلْتُ فَجِئْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ، وَقَالَ: يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ وَجْهًا، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزعَبُ[245] لَكَ مِنَ الْمَالِ زَعبَةً صَالِحَةً، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، إِنَّمَا أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ، وَالْكَيْنُونَةِ مَعَكَ، قَالَ: يَا عَمْرُو، نَعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ، لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»[246].
[240] أخرجه أحمد (28) رقم (17413)، والترمذي: أبواب المناقب عن رسول الله ص، باب مناقب عمرو بن العاص س (5) رقم (3844) واللفظ له، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن مشرح، وليس إسناده بالقوي، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (971)، وقال في الصحيحة رقم (155) - رداً على تعليق الترمذي-: مشرح بن هاعان وثقه ابن معين و غيره، و ضعفه بعضهم، و هو حسن الحديث عندي، وابن لهيعة و إن = =كان ضعيفاً لسوء حفظه فإن رواية العبادلة عنه يصحح حديثه كما جاء في ترجمته، وهذا من رواية اثنين منهم، وهما: أبو عبد الرحمن، واسمه عبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن وهب.
[241] تقدم تخريجه (ص/60).
[242] أخرجه أحمد (3) رقم (1382)، والترمذي: أبواب: المناقب عن رسول الله ص، باب: مناقب عمرو بن العاص س.( 2 /316 ) والطبراني في المعجم الكبير (1/13) وصححه الشيخ الألباني بشواهده انظر الصحيحة (2/152).
[243] قال الأصمعي: هي عِلاقة السيف التي تقع على العاتق. المخصص لابن سيده (2/19).
[244] أخرجه الطيالسي (2/315) واللفظ له، وأحمد (29) رقم (17810)، والنسائي في الكبرى (5) رقم (8301)، وابن حبان (15) رقم (7092 )، قال الهيثمي في المجمع (9/494) رجاله رجال الصحيح، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[245] قال أبوعبيد: ...قال الأصمعي: قوله: أزعب لك زعبةً من المال أي أُعطيك دُفعة من المال. قال: والزعب هو الدفع يقال: جاءنا سيل يزعب زعبا أي يتدافع. غريب الحديث لابن سلام (1/94). تنبيه: في بعض مصادر الحديث وأرغب لك من المال رغبة صالحة.
[246] أخرجه أحمد (29) رقم (17802) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد (1/112)، وأبوداود الطيالسي (1) رقم (1061)، وأبو يعلى (13) رقم (7336) وابن حبان (8) رقم ( 3211 )، وصححه الحاكم ( 2/3) وقال على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في غاية المرام (1/454).
تولى عمرو بن العاص س الكثير من المناصب والأعمال من النبي ص والخلفاء من بعده.
- فقد أمَّره رسول الله ص على سرية نحو الشام[247]، فبعثه إلى أخوال أبيه العاص بن وائل من بلي يدعوهم إلى الإسلام ويستنفرهم إلى الجهاد، فشخص عمرو إلى ذلك الوجه، فكان قدومه إلى المدينة في صفر سنة ثمان، ووجهه رسول الله ص في جمادى الآخرة سنة ثمان فيما ذكره الواقدي وغيره إلى السلاسل من بلاد قضاعة في ثلاثمائة.
وكانت أم والد عمرو من بلي، فبعثه رسول الله ص إلى أرض بلي وعذرة، يستألفهم بذلك، ويدعوهم إلى الإسلام، فسار حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له: السلاسل وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، فخاف فكتب إلى رسول الله ص من تلك الغزوة يستمده، فأمده بجيشٍ من مائتي فارس من المهاجرين والأنصار أهل الشرف، فيهم أبو بكر وعمر ب، وأمر عليهم أبا عبيدة، فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وإنما أنتم مددي. وقال أبو عبيدة: بل أنت أمير من معك، وأنا أمير من معي، فأبى عمرو، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله ص عهد إلي: إذا قدمت على عمرو، فتطاوعا، ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك. قال عمرو: فإني أخالفك، فسلم له أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكانوا خمسمائة[248]. فأصابهم برد شديد فقال لهم عمرو: لا يوقدن أحد ناراً. قال: ثم قابل القوم، فلما قدموا على النبي ص شكوا ذلك إليه، فقال: يا نبي الله كان في أصحابي قلة فخشيت أن يرى العدو قلتهم، ونهيتهم أن يتبعوا العدو مخافة أن يكون لهم كمين، قال: فأعجب ذلك رسول الله ص [249].
- وبعثه ص يوم فتح مكة إلى سواع، صنم هذيل؛ ليهدمه قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله ص أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لم؟ قال: تمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي، فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال أسلمت لله[250].
- وبعثه ص في السنة نفسها إلى جَيْفَر وعمرو ابني الجُلَنْدَي بِعُمَان- وكان الملك منهما جيفراً، وكانا من الأزد -؛ مصدقاً فخليا بينه وبين الصدقة، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم وأخذ الجزية من المجوس الذين بها، ولم يزل س بِعُمَان حتى مات النبيّ ص [251]، فخرج منها فقدم المدينة فبعثه أبو بكر الصديق أحد الأمراء إلى الشام، فتولى ما تولى من فتحها، وشهد اليرموك[252].
وكان عمرو بن العاص من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر، وهو الذي افتتح قنسرين، وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية[253]، وولاه بعد موت يزيد بن أبي سفيان، فلسطين والأردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعيد بن عامر بن خذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية، وكتب إلى عمرو ابن العاص، فسار إلى مصر، فافتتحها، فلم يزل عليها والياً حتى مات عمر، فأقره عثمان عليها أربع سنين أو نحوها، ثم عزله عنها، وولاها عبدالله بن سعد العامري[254].فقدم عمرو المدينة فأقام بها، فلما نشب الناس في أمر عثمان خرج إلى الشام فنزل بها في أرض له بالسبع من أرض فلسطين، حتى قتل عثمان س فصار إلى معاوية، فلم يزل معه يظهر الطلب بدم عثمان وشهد معه صفين، ثم ولاه معاوية مصر فخرج إليها فلم يزل بها واليا، وابتنى بها دارا ونزلها إلى أن مات بها[255].
وتولية عمرو بن العاص س هذه المناصب والأعمال من قبل النبي ص والخلفاء من بعده؛ تدل دلالة ظاهرة على فضله ودهائه وكفاءته وخبرته بالسياسة، وهذا ما شهد له عمر بن الخطاب س.
روي أن عمر بن الخطاب س نظر إلى عمرو بن العاص يمـشي فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً[256].
[247] وفي هذه السرية أثنى عليه ص بقوله: « نعما بالمال الصالح للرجل الصالح» وقد تقدم ذكره في أول الصفحة.
[248] الاستيعاب (3/268).
[249] تاريخ دمشق لابن عساكر (46/144).
[250] الطبقات لابن سعد (9/499)، وانظر: تاريح الطبري (3/66).
[251] انظر: تاريخ الطبري (3/95)، والإصابة لابن حجر (1/ 640).
[252] الطبقات لابن سعد (9/499).
[253] الإصابة لابن حجر (5/2).
[254]الاستيعاب لابن عبد البر (3/268 )
[255] الطبقات لابن سعد (9/499).
[256] تقدم (ص/96).
كان عمرو شغوفاً بالجهاد وكان شغله الشاغل؛ لينصر دين الله، ولكي يرزقه الله الشهادة، ولا غرو في ذلكفهومن فرسان قريش وشجعانهم ودهاتهم وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، ولبصره بالحرب وخبرته بفنون القتال زيادة على ماتقدم كان محط الأنظار لتوليته أميراً للمجاهدين، فلذلك لما أسلم سنة ثمان، أمّره النبي في ذات السلاسل وأحسن في إمارته، وفعل أفعال تدل على قوة ذكائه وبصره بالحرب استنكرها كثير من الصحابة بداية لخفاء مقصده، فلما قدموا على النبي ص شكوا ذلك إليه فأبان مقصده في منعهم من إيقاد النار مع ماهم فيه من برد شديد، ومنعهم من تتبع العدو، فقال: يا نبي الله كان في أصحابي قلة فخشيت أن يرى العدو قلتهم، ونهيتهم أن يتبعوا العدو مخافة أن يكون لهم كمين، قال: فأعجب ذلك رسول الله ص [257].
- وشهد فتح مكة، وبعثه ص إلى صنم هذيل - سواع – فهدمه.
- وشهد مع رسول الله حنين وحصار الطائف، ولما نادى سعد بن عبيد بن أسيد بن عمرو بن علاج الثقفي قال: ألا إن الحي مقيم. قال: يقول عيينة بن حصن: أجل والله مجدة كرام، فقال عمرو بن العاص: قاتلك الله تمدح قوماً مشركين بالامتناع من رسول الله ص وقد جئت تنصره؟ فقال: إني والله ما جئت معكم أقاتل ثقيفاً، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب جارية من ثقيف فأطأها لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مباركون. فأخبر عمر النبي ص بمقالته فتبسم ص ثم قال: هذا الحمق المطاع[258].
- وشارك في قتال أهل الردة، وفي فتوح الشام في عهد أبي بكر، وعمرب وكان أحد أمراء الأجناد، وأبلى بلاء حسناً، ولا ننسى أنه أشار على المسلمين بالاجتماع في اليرموك لما تكالب عليهم العدو، وأنه شد عليه جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلاً وقاتل قتالاً شديداً ثم تراجع إليه أصحابه، وأنه لما انكشف المسلمون تسابق عمرو بن العاص وخالد بن الوليد؛ لأخذ الراية فسبقه عمرو، ولم يزل يقاتل به حتى انهزمت الروم وفتح الله على أيدي المسلمين[259]، وهو الذي أشار على عمر بفتح مصر ودخلها بأربعة الآف مقاتل. وقد تقدم[260] في صفاته الخُلُقية بيان شجاعته وكفاءته وبصيرته ودهائه بالحرب مما يغني عن تكراره.
ولقد أحسن الدكتور إبراهيم في وصف حب عمرو للجهاد حيث يقول:
«أما حبه للجهاد فقد كان يفوق الوصف- ذلك الحب الذي استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما، حتى كان يتسابق إليه غير مبال بجموع أعدائه مهما كثرت، وقوة جنده مهما قلت، وإن محاولته فتح مصر بأربعة آلاف مقاتل أو أقل لأقوى دليل وأسطع برهان على صحة مانقول»[261].
[257] تقدم (ص/124).
[258] المغازي للواقدي (1/937).
[259] تقدم (68).
[260] (66-76).
[261] تاريخ عمرو، د. إبراهيم حسن (247).
لم يعرف عن عمرو بن العاص س ظلم الرعية أثناء الأعمال التي تولاها بل كان يترفق بهم، ويراعي أحوالهم، فضلاً عن أنه كان موضع ثقة الخليفة العادل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب س، فجعله أميراً على مصر طوال حياته، ولو رأى منه ما يخالف الجادة، لعزله وولى غيره كما عزل غيره من العمال.
ومن صور عدله أن تأخر في استلام الخراج من أهل مصر إنظاراً لهم حتى كتب إليه عمر في ذلك، فكتب إليه عمرو بن العاص:
بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص، سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج، ويزعم أني أعند عن الحق، وأنكب عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم، ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيراً من أن يخرق بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى عنهم عنه والسلام[262].
ومن ذلك أنه لما زوج ابنه عبد الله بن عمرو فبلغه تقصيره في حق زوجته عنفه على ذلك وشكاه إلى النبي ص، فعن عبد الله بن عمرو قال: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها، مما بي من القوة على العبادة، من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته، حتى دخل عليها، فقال لها: كيف وجدت بعلك؟قالت: خير الرجال أو كخير البعولة، من رجل لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، فأقبل علي، فعذمني، وعضني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب، فعضلتها، وفعلت، وفعلت ثم انطلق إلى النبي ص فشكاني، فأرسل إلي النبي ص فأتيته، فقال لي: أتصوم النهار؟ قلت: نعم، قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني[263].
وهو يرى أحوج الناس للعدل من كان تحت سلطته، فهذه نظرة إلى حادثة جزئية في بيته تعطي فهما لشخصيته هو لمعنى العدل.
فعن معاوية بن صالح عن أبي عمران الفلسطيني قال بينا امرأة عمرو بن العاص تفلي رأسه إذ نادت جارية لها فأبطأت عنها، فقالت: يا زانية! فقال عمرو: رأيتيها تزني، قالت: لا، قال: والله لتضربن لها يوم القيامة ثمانين سوطاً، فقالت لجاريتها وسألتها تعفو فعفت عنها، فقالت: هل يجزي عني؟ فقال لها: وما لها ألا تعفو وهي تحت يدك، فهو عفو العاجز الضعيف عن الثأر (فأعتقيها، فقالت، هل يجزئ عني ذلك؟ قال: فلعل) [264]، والقادر والسلطان هما مناط العدل الحقيقي فيمن تحت يدهما[265].
[262] فتوح مصر وأخبارها ص(279)
[263] مسند أحمد (6477)، قال الأرناؤوط: إسناده على شرط الشيخين، قلت: وأصله في الصحيحين مختصراً.
[264] تاريخ دمشق (46/18).
[265] عمرو بن العاص الأمير المجاهد ص(436).
عن الحسن البصري: قال: قال رجل لعمرو بن العاص: أرأيت رجلاً مات رسول الله ص وهو يحبه، أليس رجلاً صالحاً؟ قال: بلى. قال: قد مات رسول الله ص وهو يحبك، وقد استعملك. فقال: قد استعملني، فوالله ما أدري أحباً كان لي منه، أو استعانة بي، ولكني سأحدثك برجلين مات رسول الله ص وهو يحبهما عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر[266].
وقال محمد بن الأسود بن خلف بن بياضة الخزاعي: إنا لجلوس في الحجر وناس من قريش، إذ قيل: قدم الليلة عمرو بن العاص من مصر، فما أكبر بأن دخل، فابتدرناه بأبصارنا، فلما طاف دخل الحجر، وصلى ركعتين، ثم قال: كأنكم قد قرضتموني بهنت، فقال القوم: لم نذكر إلا خيراً، ذكرناك وهشاماً، فقال بعضنا: هذا أفضل، وقال بعضنا: هذا أفضل. فقال عمرو: سأخبركم عن ذلك، إنا أسلمنا فأحببنا رسول الله ص، وناصحناه، فذكر يوم اليرموك، فقال: أخذ بعمود الفسطاط حتى اغتسل وتحنط، وتكفن، ثم أخذ بعمود الفسطاط حتى اغتسلت، وتحنطت، وتكفنت، ثم اعترضنا على الله تبارك وتعالى، فقبله، فهو خير مني. قبله، فهو خير مني. قبله، فهو خير مني[267].
[266] أخرجه الإمام أحمد (17807) بسند رجاله ثقات إلى الحسن البصري إلا أنه منقطع كما قال الأرناؤوط في تخريجه للحديث.
[267] أخرجه ابن المبارك في الجهاد (115) وأخرجه من طريق آخر مختصراً (114)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (631).
من المعلوم أن الصحابة ش من أحرص الناس على فعل الطاعات على تفاضل بينهم، وعمرو بن العاص كما أنه من أهل الإمارة والجهاد كان كذلك له نصيب وافر من العبادات الأخرى، فعن أبي قيس مولى عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص كان يسرد الصوم، وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل أكثر ما كان يصيب من السحر، قال وسمعته يقول سمعت رسول الله ص يقول: «إِنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ»[268].
[268] أخرجه أحمد في مسنده (29) رقم (17771) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم
تقدم الحديث عن شغف عمرو للجهاد، وتوليته الأعمال من قبل النبي ص منذ إسلامه؛ لما آتاه الله من دهاء وبصيرة بالحرب؛ فلذلك لم يكن ملازماً للنبي ص، ولم يستقر أيضاً كثيراً بالمدينة؛ بل مات النبي ص وعمرو س بِعُمَان لتنفيد المهمات التي كلفه بها النبي ص، فكان عمرو بن العاص السهمي س سهماً من سهام الإسلام كما قال هو عن نفسه لأبي بكر - لما عناه أمر الشام، فأراد أن يبعثه في بعث الشام -: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به[269]. ولا شك أن من يقوم بهذه الأعباء لن يكن مكثراً من رواية الأحاديث عن رسول ص، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الأحاديث التي رواها تبلغ بالمكرر تسعة وثلاثين، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة أحاديث منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين[270].
ومن أحاديثه التي تدل على فقهه وفطنته مع حداثة عهده بالإسلام، تيممه للجنابة في غزوة ذات السلاسل لما خشي على نفسه الهلاك من البرد، روى أبو داود وغيره عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي ص فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت رسول الله يقول: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا﴾ فضحك رسول الله ص ولم يقل شيئاً[271].
[269] تقدم (ص/68).
[270] كشف المشكل لابن الجوزي (4/109)، والسير للذهبي (3/54).
[271] السنن لأبي داود (334)، وقال الشيخ الألباني: صحيح، وانظر: مصنف عبد الرزاق (878)، مسند أحمد (17812)، المستدرك على الصحيحين (69)، وغيرها.
تمتع عمرو بن العاص س ببلاغة منطقه، وفصاحة لسانه، ورصانة شعره، ويظهر ذلك في خطبه، ومكاتباته. فهو الخطيب المصقع، والفصيح المفَّوه، فمما ورد من خطبه الفصيحة ما روي عن بحير بن ذاخر المعافري أنه قال: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة... فأقام المؤذنون للصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر... فحمد الله وأثنى عليه حمداً موجزاً، وصلَّى على النبي ص، ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحض على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول وكثرة العيال، وقال في ذلك:
يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعاً، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة، إياي وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه؛ فيحور من الخير عاطلاً وعن حلال الله وحرامه غافلاً.
يا معشر الناس إنه قد تدلت الجوزاء، وذكت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل[272]، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحي لكم على بركة الله إلى ريفكم فنالوا من خيره، ولبنه، وخرافه، وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأثقالكم. واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيراً، وإياي والمشمومات والمعسولات فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم، حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله ص يقول: إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم صهراً وذمة، فعفوا أيديكم وفروجكم، وغضوا أبصاركم، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا: أني معترض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا: أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول اللهص يقول: إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض، فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله قال؛ لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة. فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود وسخن العمود وكثر الذباب وحمض اللبن وصوح البقل وانقطع الورد من الشجر فحي على فسطاطكم على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم. قال: فحفظت ذلك عنه فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لما حكيت له خطبته إنه يا بني يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حداهم على الريف والدعة[273].
ومما يدل على فصاحته وبلاغته وقوة تصوره وتخيله الواسع - ماكتبه لأمير المؤمنين في وصف مصر.
قال بعض المؤرخين: إنه لما استقر عمرو بن العاصي س على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب س: أن صف لي مصر؛ فكتب إليه: ورد كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضـراء؛ طولها شهر، وعرضها عشـر، يكنفهاجبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حِلابُه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخم[274] عجاجه[275]، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل[276] ورق الأصائل[277]؛ فإذا تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته[278]؛ فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب؛ لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم؛ فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى؛ فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء[279]، فإذا هي ديباجة رقشاء[280]، فتبارك الله الخالق لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يُستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها، في عمل جسورها وترعها؛ فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال؛ والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.
فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب س قال: لله درك يا بن العاص! لقد وصفت لي خبراً كأني أشاهده[281].
كذلك ما كتبه أيضاً لعمر بن الخطاب س حينما سأله عن البحر، وكان قد ألح معاوية في زمانه على عمر بن الخطاب س في غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق[282] القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن نجا برق[283].
فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية لا والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً
أبداً [284].
وليست هذه الفصاحة والبلاغة عن عمرو بمستنكرة فهو أحد الشعراء المشهورين والبلغاء المعروفين، حسن الشعر، جميل المنطق، حفظ عنه الكثير في مشاهد شتى.
ومن شعره في أبيات له يخاطب عمارة بن الوليد بن المغيرة عند النجاشي:
إِذَا المَــرْءُ لَــمْ يَتــْرُكْ طَـعـَامـاً يُحـِبُّــهُ
وَلَمْ يَنــْهَ قَـلْبـاً غَـاوِيــاً حَـيْـثُ يَـمَّمـَا
قَــضَـى وَطَــراً مِـنـْهُ وَغـَادَرَ سُـبَّـــةً
إِذَا ذُكِــرَتْ أَمـْثَـالُهَا تَمْـلأُ الفَمـَـــــا[285]
ومن شعره يوم أحد وكان آنذاك كافراً:
خَـرَجْنَا مِـنْ الْفـَيْفـَا عَلَيْـهِـمْ كَــأَنّنَــا
مَعَ الصّبْحِ مِنْ رَضْوَى الْحَبِيكِ الْمُنَطّقِ[286]
لَــــــدَى جَــــنْـــبَ سَــــلْـــعٍ[287]
وَالْأَمَـــــــانـــِيّ تَــــــصْــــــدُقُ
فَـمَـا رَاعَـهُــمْ بِــالشـّرّ إلّا فُجَـــاءَةً
كَــــرَادِيسُ[288] خَيْـلٍ فِي الْأَزِقّـةِ تَمْــرُقُ
أَرَادُوا لِكـَيْمــَا يَسْـتـَبِـيحـُـوا قِبَابَنَـــا
وَدُونِ الْقِبَابِ الْيَوْمَ ضَرْبٌ مُـحَـــرّقُ
وَكَــانَتْ قِبــَابًا أُومـِنَـتْ قَبـْلَ مَا تَرَى
إذْ رَامَهَا قَـــوْمٌ أُبِـيحُوا وَأُحْنِــــقُوا[289]
كَـــأَنّ رُءُوسَ الْخَــزْرَجـِيـّيـنَ غَـدْوَةً
وَأَيْمـَا نَهــم بِالْمَـشـْرِفـيّـةِ بَـــــرْوَقُ[290]
ومن شعره في يوم أحد أيضاً:
لَمّا رَأَيْــــت الْحـــــَـرْبَ يَـــنــْــــــ
زُو شَـــرّهَا بِــالــرّضْـفِ نَـــــزْوَا[291]
وَتَـنَـــاوَلَــتْ شَـهـْبَـاءُ تَــلْــحُــــــ
والـنّـــاسَ بِالضّــرّاءِ لَـــــــحْــوًا[292]
أَيْـقــَـنْــت أَنّ الْمــَــوْتَ حَـــقّــــــ
وَالْحـَيــَاةَ تَــــكُــونُ لَـــغْـــــــــوًا
حَــمـَلَتْ أَثَـــوَابـــــِي عَــلَــــــى
عَــتَــدٍ يَــبُـذّ الْخـَيْـلَ رَهْـــــــــوَا[293]
سَلِــــسٍ إذَا نُـــكـِبْــــنَ فــِي الْــــ
بَيْدَاءِ يَعـْلـُو الطّــرَفَ عُـــلْـــــــــوَا
وَإِذَا تَـــــــــــــــــــــــــــــاؤُهُ
مِـــنْ عِطْفِـــهِ يَزْدَادُ زَهْــــــــــوَا[294]
رَبِـــذٍ كَـــيَــعْــفـــُورِ الــصّــــرِيـ
مَــةِ رَاعَهُ الــرّامُـونَ دَحْــــــــــوَا[295]
شَــنِـــجٍ نَــســــَاهُ ســـــــــبِـــطٍ
لِلْخـَـيْــلِ إرْخَــاءً وَعَــــــــــدْوَا[296]
فَـــفِـــدَى لَـــهُــمْ أُمّــي غَــــــدَا
ةَ الـــرّوْعِ إذْ يَمــْشُونَ قَطْــــــــوَا[297]
سَــيْـــرًا إلَـى كَـبْــشِ الْــكــَـتـِيــــ
بَةِ إذْ جَــلَتْــهُ الشّمْسُ جَلْـــــــــوَا[298]
ومن شعره عندما رجع من عمان بعد وفاة النبي ص، وكان قد خرج معه -لتشيعه- أبو صفرة ظالم بن سراق، وجفير بن جعفر، وعبادة بن الجلندي في سبعين فارساً من وجوه أهل عمان، فأنشأ عقبة بن النعمان العتكي أبياتاً مطلعها:
وَفَـيْـنَـا لِعَمْـرٍو يَوْمَ عَمْرٍو كَأَنَّـــــــهُ
طَـرِيـدٌ نَفَـتْهُ مَذْحِجٌ وَالسَّكَاســِــكُ[299]
رَسُــولِ رَسُولِ اللَّهِ أَعْظِمْ بِحَقـــِّــــه
عَـلَـيْنـَا وَمَنْ لا يَعْرِفِ الحق هالــــك
فمدحهم عمرو بن العاص في قصيدة له حيث يقول (من الطويل):
أَقُــولُ وَحَــوْلِي آلُ فِـهـْرِ بْنِ مَالـــِكٍ
جَــزَى اللَّهُ عَنِّي الأَزْدَ[300]خَيـْرَ جَــــزَاءِ
أَتَيْتُ عُمَـانًـا وَالْحـَـوَادِثُ جَـمَّــــــةٌ
وَلَيْـسَـتْ بِأَرْضٍ لـِي وَلا بِـسَــــــمَاءِ
فَحــَيَّ هَــلا بِالأَزْدِ أَرْبَابِ نِعْمَـــــةٍ
وَأَهْــلِ حِـبَـاءٍ صَـادِقٍ وَوَفَـــــــــاءِ
تَـضـَمَّنَنِي مِنْـهُـمْ عِبَـادٌ وَجَيْفَـــــــرٌ
وَظَـالِمٌ الــدَّاعِـي لِـكـُلِّ عــــــــلاء
أَتَيْتُ إِلَـى أَهْـلِ الْمَـدِيـنَةِ سَالِـــــمًــا
أُجَرْجِرُ فِيهَا مِـئْــزَرِي وَرِدَائِــــــــي
عَلـَى حِـينِ أَنْ جَاشَتْ مَعَدُّ [301] بــــِرِدَّةٍ
وَأَوْبَاشُ هَـذَا الْحَيِّ حَــيِّ ضِبَـــــاءِ[302]
فَمَـا بَـيْنـَـنَا إِلا سُيـُوفٌ وَتَــــــــارَةً
بِهـَسْـمٍ[303] وَأْشَـطـَانِ الْجُزُورِ ظِمَـــــاءِ
مُـقـَرَّبَةُ الآجَـالِ مِـنَّـا وَمِـنْـهــــــــُمُ
عَلـَى كُـلِّ حَالٍ لَيْسَ ذَا بِخَفَــــــــاءِ
تَــدُورُ رَحَــا الآجَالِ فِينَا وَفِيهـــــِـمُ
بِــدَوْرِ فَـنَــاءٍ أَوْ بِدَوْرِ بَقَـــــــــاءِ[304]
- وله حكم وأمثال نفيسة يستفيد منها المرء في حياته منها:
1- قوله س: لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أملُّ دابتي ما حملتني، إن الملال من سيء الأخلاق.
2- وقال لعبد الله ابنه ب: يا بنين سلطان عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم[305] خير من سلطان ظلوم، وسلطان غشوم[306] ظلوم خير من فتنة تدوم. يا بني، زلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقي ولا تذر. يا بني، استراح من لا عقل له فأرسلها مثلاً.
3- قال عمرو بن العاص لمعاوية ب: يا أمير المؤمنين لا تكونن لشيء من أمر رعيتك أشد تعمداً منك لخصاصة الكريم حتى تعمل في سدها، ولطغيان اللئيم حتى تعمل في قمعه، واستوحش من الكريم الجائع، ومن اللئيم الشبعان، فإن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع.
4- قال معاوية لعمرو بن العاص ب: من أبلغ الناس؟ قال: من اقتصر على الإيجاز وسلب الفضول. قال فمن أصبر الناس؟ قال: أردهم لجهله بحلمه.
5- قال عمرو لمعاوية ب: ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم، وما قضيت عزيمة رجل مات بطيناً.
6- قال س: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف خير الشرين.
7- قال عمرو بن العاص س: ليس الحليم من يحلم عن من يحلم عنه ويجاهل من جاهله، ولكن الحليم من يحلم عن من يحلم عنه ويحلم عن من جاهله.
8- قال س: الرجال ثلاثة: فرجل تام، ونصف رجل، ولا شيء. فأما الرجل التام: فالذي يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمراً لم يمضه حتى يستشير أهل الرأي والألباب، فإذا وافقوه حمد الله وأمضى رأيه فلا يزال ذلك مضياً موفقاً. والنصف رجل: الذي يكمل الله له دينه وعقله فإذا أراد أمراً لم يستشر فيه أحداً، وقال: أي الناس كنت أطيعه أو أترك رأيي لرأيه فيصيب ويخطئ. والذي لاشيء: الذي لا دين ولا عقل ولا يستشير فلا يزال ذلك مخطئاً مدبراً. قال عمرو: والله إني لأستشير في الأمر الذي أردته حتى أستشير خدمي وما علي بعرض عقولهم وأسمع.
9- قال عمرو بن العاص: س لجلسائه وتذاكروا شيئاً من أمر الدنيا: أي شيء رأيتم أحسن؟ فذكروا النساء المرأة الحسنة والدابة، فقال عمرو: وما شيء أحسن من غمرات ثم تنجلي.
10- قال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما ألذ الأشياء؟ قال: يا أمير المؤمنين مر أحداث قريش فليقوموا، فلما قاموا قال: إسقاط المروءة، يريد أن الرجل إذا لم يهمه مروءته تلذذ وعمل ما يشتهي ولم يلتفت إلى لوم لائم.
11- قال عمرو بن العاص س: نكح العجز التواني فولد منه الندامة.
12- قال س: لا وجع إلا العين ولا حزن إلا الدين.
13- قال عمرو بن العاص س: ما وضعت سري عند أحد فأفشاه فلمته عليه، أنا كنت أضيق به حين استودعته.
14- قال عمرو بن العاص س: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويبصر في عين أخيه القذى فيعيبه، ويكون في عينه الجذع فلا يعيبه، ويكون في دابته الصعر فيقومها بجهده ويكون فيه الصعر فلا يقوم نفسه[307].
[272] السَّخْلَةُ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ سَاعَةَ تُولَدُ، ومعنى درج: مَشَى قَلِيلًا فِي أَوَّلِ مَا يَمْشِي يقال للصبي إِذا دَبَّ وأَخذ في الحركة: دَرَجَ. انظر لسان العرب (2/266) والمصباح المنير (3/201)، ( 4/184).
[273] أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وأخبارها (ص/99)، والدارقطني في المؤتلف والمختلف (1/1003).
[274] اشتد. انظر القاموس المحيط (ص/1458).
[275] قال ابن دريد: نهر عجاج: كثير الماء يُسْمَعُ لِمَائِهِ عَجْعَجَةٌ قال اللحياني عَجِيجُ الماء وأَجِيحُه صوتُ انْصِبَابِهِ. المخصص لابن سيده (2/459)، المحكم والمحيط لابن سيده (1/61).
[276] مَخاِيلُ جَمْعُ مَخِيلَةٍ: أي المَظِنَّة. تاج العرو س للزبيدي (28/461).
[277] الورق الحمام جمع ورقاء سميت به للونها وأصل الورقة لونٌ يشبه لونَ الرَّماد يقال: حمامة ورقاء وبعير أورق. الأصائل: جمع أصيل أو أصيلة وهو العشي، وهو ما بعد صلاة العصر إلى الغروب. معجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 110)،(6/ 102) تاج العروس (26/ 466)، (27/ 449).
[278] الدرِّة بالكسر اسم من الدر وهو كثرة اللبن وسيلانه. والمعنى هنا كثرة الماء وسيلانه. الصحاح للجوهري (2/655) القاموس المحيط للفيروز آبادي (1/500).
[279] الزُّمُرُّدُ: بالضَّمَّاتِ وشَدِّ الراءِ حكى بعضهم إهمال الدال، وصوَّبَ الأَصمعيُّ الإِعجامَ، وقال بعضٌ بالوَجْهَيْن وَاحِدَتُه زُمُرُّذَةٌ، من الجَواهِرِ أشد خضرة من الزبرجد. انظر المحكم والمحيط لابن سيده (9/121) المصباح المنير للفيومي (4/91)، وتاج العروس للزبيدي (9/416).
[280] الديباج بكسر المهملة الثوب الذي سداه ولحمته إبريسم فهونوع من الحرير. فتح الباري لابن حجر (6/576). والرقشاء: قال الليث: الرَّقشُ لونٌ فيه كدرَةٌ وسوادٌ ونحوهما. تهذيب اللغة للأزهري (3/139).
[281] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (1/33).
[282] في بعض المصادر خوف، وفي بعضها فلق.
[283] البَرق بالتحريك: الحَيْرة والدَّهَش النهاية في غريب الأثر (1/ 305).
[284] انظر: تاريخ الطبري (2/600)، والاكتفاء للكلاعي (4/54)، ونهاية الأرب للنويري (19/ 261).
[285] الاستيعاب لابن عبد البر (1/368).
[286] الفيفا هِيَ فَيْفَاءُ الْخَبَار ِوهي الأرض الواسعة بين الجَمَّاوَاتِ، في الجنوب الغربي من المدينة، تتصل بِالْعَرْصَةِ من الجنوب، وكانت - إلى عهد قريب - فلاة ذات شجر وَصُمُودٍ وَشِعَابٍ، تُعْرَفُ باسم ( الدُّعَيْثَةِ) وقد وَهَسَهَا اليوم العمران، وَشُقَّتْ فيها الطرق، فأصبحت تكاد تكون من المدينة، ورضوى اسم جبل وهو من ينبع على مسيرة يوم ومن المدينة على سبع مراحل، والحبيك الطريقة في الرمل ونحوه والمنطق كل ما شد به وسطه كالحِزام. انظر: الصحاح للجوهري (4/1578)، والمحكم والمحيط لابن سيده (6/285)، ومعجم ما استعجم للبكري (3/1037)، ومعجم البلدان للحموي (3/51)، المعالم الجرافيةالواردة فِي السيرة النبوية لعاتق الحربي (1/371).
[287] جبل متصل بالمدينة. معجم ما استعجم للبكري (3/747).
[288] الكردوس: القطعة من الخيل العظيمة. والكراديس: الفرق منهم. يقال: كردس القائد خيله، أي جعلها كتيبة كتيبة. الصحاح (3/970)
[289] الحنق شدة الاغتياظ. المحكم والمحيط (3/16).
[290] السيرة النبوية لابن هشام (4/99). المَشْرَفِيّةُ: هي السُّيُوفُ المَشْرَفِيّةُ منسوبة إلى مَشَارِفَ الشَّامِ وهي: كُلُّ قَرْيَةٍ بَيْنَ بلادَ الرِّيفِ وبَيْنَ جَزيرَةِ العَرَبِ، لأَنَّهَا أَشْرَفَتْ علَى السَّوادِ، وقيل: قُرًى من أَرض اليمن. والبروق: نبت ضعيف ريان، له خطرة دقاق، في رءوسها قماعيل صغار مثل الحمص، فيها حب أسود. انظر: المحكم والمحيط (6/401)، لسان العرب لابن منظور (9/169)، تاج العروس للزبيدي (23/503).
[291] الرَّضْفُ الحجارَةُ التي حَمِيَتْ بالشمس أَو النار، ونزوا:الوَثْب وخصَّ بعضُهم به الوَثْب إلى فَوْقُ. لسان العرب (9/121)،(15/319).
[292] الشَّهْبَاءُ ( من الكَتَائِب: العَظِيمَةُ الكَثِيرَةُ السِّلَاح ). يقال: كَتِيبَةٌ شَهْبَاء لمَا فِيهَا مِنْ بَيَاضِ السِّلَاح والْحَدِيدِ في حَالِ السَّوَاد، وقيل: هِيَ البَيْضَاءُ الصَّافِيَةُ الحَدِيد. واللحَاءُ قشر كل شيءٍ. وقد لَحَوْتُ العود ألْحُوه وأَلْحَاهُ إذا قَشرْتَه. قال أبو بكر بن الأنباريّ قولهم لَحَا الله فلاناً معناه قَشَرَهُ الله وأهْلَكَه. تهذيب اللغة(5/154)، وتاج العروس(3/167).
[293] عتد: شديد الخلق سريع الوثبة ليس فيه اضطراب ولا رخاوة، ويبذ: سبقهم وغلبهم. ورهواً: يقال: جاءت الخيل رَهْواً، أي ساكنة، وقيل: متتابعة. المحكم والمحيط الأعظم(2/3)،(4/417)، ولسان العرب (3/477).
[294] عطفه أي جانبه، والزهو:الكِبْرُ والفخر. الصحاح (1/294،479). ومعنى مَاؤُهُ: أي عرقه.
[295] ريذ: أي سريع والعُفْر من الظباء التي تعلو بياضَها حمرة قِصار الأَعناق وهي أَضعف الظباء عَدْواً. الصَّريمةُ القِطعة المنقطعة من معظم الرمل دحوت الشيء دحواً: بسطته. ويقال للفرس: مر يدحو دحوا، وذلك إذا رمى بيديه رمياً لا يرفع سنبكه عن الارض كثيراً. وراعه أفزعه. تهذيب اللغة(14/309)، والصحاح (6/2334)، والمحكم والمحيط (2/347)، (8/321)، ولسان العرب (4/583).
[296] الشَنَجُ: تقبُّضٌ في الجِلد. وفرس شنج، وهو مدحٌ له لأنَّه إذا شَنِجَ نَساهُ لم تَسترخِ رِجلاه. والنَّسا عِرْق يخرج من الوَرِك فيَسْتَبْطِنُ الفخذين ثم يمرّ بالعُرْقوب حتى يبلغ الحافر. والإرخاء: ضرب من العدو وهو شدته. قال أبو عبيد: الإرخاء: أن تخلى الفرس وشهوته في العدو غير متعب له. انظر: الصحاح(1/325)، ولسان العرب (15/321)، (6/2345)، والقاموس المحيط(ص/1661).
[297] قال ابن فارس: القاف والطاء والحرف المعتلّ أصلٌ صحيح يدلُّ على مقاربَةٍ في المشي. يقال: القَطْو: مُقارَبَة الخطو، وبه سمِّيت القطاة، وجمعها قطاً. معجم المقاييس لابن فارس (5/104).
[298] المصدر نفسه (4/101-102)، الروض الأنف(3/337)، قال ابن هشام وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لعمرو. وكَبشُ الكتيبةِ: عظيمُها ورئيسُها. والكتيبة: الجيش أو جماعة الخيل إذا غارت من المائة إلى الألف. انظر: الصحاح (1/209)، ومعجم المقاييس (5/154 )، والمحكم والمحيط (1/209).
[299] مَذحج: قال ابن الأعرابي: ولد أدد بن زيد بن يشجب مرّة والأشعر وأمهما ذلّة بنت ذي منشجان الحميري. معجم البلدان (5/ 89). والسكاسك: علم مرتجل لاسم هذه القبيلة التي نسب إليها: مخلاف باليمن، وهو آخر مخاليف اليمن، وهو السّكسك بن أشرس بن ثور، وهو كندة بن عفير ابن عدي بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا. معجم البلدان (3/ 229).
[300] الأزد: من أعظم قبائل العرب وأشهرها، تنتسب الى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان من القحطانية. وتنقسم الى أربعة أقسام: أزد شنوءة، ونسبتهم الى كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، كانت منازلهم السّراة، وهما أودية مستقبلة مطلع الشمس بتثليث، وتربة، وبيشة. أزد غسان: كانت منازلهم في شبه جزيرة العرب، وفي بلاد الشام، أزد السَّراة: كانت منازلهم في الجبال المعروفة بهذا الاسم. أزد عُمان: كانت منازلهم بعمان. معجم قبائل العرب القديمة والحديثة لعمر كحالة (1/15).
[301] معد بن عدنان بن أدد بن الميسع بن أشجب بن... نابت بن قيدار ابن إسماعيل بن إبراهيم خليل الله ص. نسب قريش لمصعب الزبيري (ص/3).
[302] قال محقق كتاب الردة للواقدي (ص/ 58): في الأصل: (ضياء) بالياء المثناة، والصواب: (ضباء) بالباء الموحدة، وضباء بالفتح والتشديد: موضع جاء في شعر الحسين بن مطير الأسدي: وأصبحت منهم ضبّاء خالية... كما خلت منهم الزوراء فالعوج. معجم البلدان لياقوت الحموي (3/451).
[303] قال محقق كتاب الردة (ص/ 58): في الأصل الكلمة غير واضحة تحتمل (ببسم، أو بهسم، أو بسهم) الهسم: الكسر لغة في الهشم، هسم الشيء يهسمه هسما، كسره، وقال ابن الأعرابي (الهسم) بضمتين، الكاوون، قال أبو منصور: كأن الأصل الحسم، وهم الذين يتابعون الكي مرة بعد أخرى، ثم قلبت الحاء هاء. (اللسان: هسم).
[304] كتاب الردة للواقدي (ص/ (57-58).
[305] يَحْطِمُ كلَّ شيء يَدُقُّه. لسان العرب (12/37).
[306] الغَشْم: الظُّلم والغَصْب. غَشَمهم يَغْشِمهم غَشْما. المحكم والمحيط (5/389) الفرق بين الغشم والظلم: أن الغشم كره الظلم وعمومه توصف به الولاة لان ظلمهم يعم، ولا يكاد يقال غشمني في المعاملة كما يقال ظلمني فيها. الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري (1/385).
[307] مامضى من الآثار أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/183-189).
تقدم أن العاص والده كان ثرياً، وأنه كان يلبس الحرير والديباج، ومع ذلك فقد بدأ عمرو بن العاص س بالتجارة والاعتماد على النفس من أول أمره فخرج مع نفر من قريش للتجارة، فلما قدم إلى بيت المقدس فإذا هم بشَمَّاس[308] من شَمَامِسَة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج في بعض جبالها يَسيحُ، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوباً بينهم، فبينما عمرو يرعى إبله إذ مر به ذلك الشَّمَّاسُ وقد أصابه عطش شديد في يوم الحر فوقف على عمرو فاستسقاه فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روى ونام الشَّمَّاسُ مكانه وكانت إلى جنب الشَّمَّاس حيث نام حفرة فخرجت منها حية عظيمة فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشَّمَّاسُ نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها فقال لعمرو: ما هذه؟ فأخبره عمرو أنه رماها فقتلها فأقبل إلى عمرو فقبل رأسه وقال قد أحياني الله بك مرتين؛ مرة من شدة العطش ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا. فقال له الشَمَّاسُ: وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك؟ قال رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيراً فإني لا أملك إلا بعيرين، فأملي أن أصيب بعيراً آخر فتكون لي ثلاثة أبعرة. فقال له ذلك الشَّمَّاسُ: أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي؟ قال: مائة من الإبل. قال له ذلك الشَّمَّاسُ: لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير، قال: يكون ألف دينار. فقال له ذلك الشَّمَّاسُ: إني رجل غريب في هذه البلاد وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسَيحُ في هذه الجبال شهراً جعلت ذلك نذراً على نفسي وقد قضيت ذلك وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى بلادي؟ ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ لأن الله عز وجل أحياني بك مرتين. فقال له عمرو: وأين بلادك؟ قال: مصر في مدينة يقال لها الإسكندرية. فقال له عمرو: لا أعرفها ولم أدخلها قط، فقال له ذلك الشَّمَّاسُ: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها.
فقال عمرو: وتفي لي بما تقول وعليك بذلك العهد والميثاق. فقال له ذلك الشَّمَّاسُ: نعم لك الله علي بالعهد والميثاق أن أفي لك وأن أردك إلى أصحابك. فقال عمرو: وكم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهراً: تنطلق معي ذاهباً عشرة أيام، وتقيم عندنا عشراً، وترجع في عشر، ولك علي أن أحفظك ذاهباً، وأن أبعث معك من يحفظك راجعاً. فقال له عمرو: أنظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك، فانطلق عمرو إلى أصحابه فأخبرهم بما عاهده عليه ذلك الشَّمَّاسُ وقال لهم: تقيموا علي حتى أرجع إليكم، ولكم علي العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم وبعثوا معه رجلاً منهم فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير فأعجبه ذلك، وقال: ما رأيت مثل مصر قط وكثرة ما فيها من الأموال، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال فازداد عجباً، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيداً فيها عظيماً يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا من تلك الأكرة على ما وضعها من مضى منهم أنها من وقعت الأكرة في كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم، فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه ذلك الشَّمَّاسُ الإكرام كله وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو وذلك الشَّمَّاسُ مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكامهم، فرمى بها رجل منهم فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا ماكذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا هذا ما لا يكون أبداً، وإن ذلك الشَّمَّاسُ مشى في أهل الإسكندرية وأعلمهم أن عمراً أحياه مرتين وأنه قد ضمن له ألفي دينار وسألهم أن يجمعوا له ذلك فيما بينهم ففعلوا ذلك ودفعوها إلى عمرو فانطلق عمرو وصاحبه وبعث معهما الشماس دليلاً ورسولاً وزودهما وأكرمهما حتى رجع وصاحبه إلى أصحابهما؛ فبذلك عرف عمرو مدخل مصـر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالاً، فلما رجع عمرو إلى أصحابه دفع إليهم فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفاً قال عمرو: وكان أول مال اعتقدته وتأثلته[309].
وكان لعمرو بستان عظيم بالطائف يُسمى الوهط يتمناه الملوك.
قال عمرو بن العاص بعد الخندق: والله ليظهرن محمداً على قريش! فلحقت بمالي بالوهط وأقللت من الناس[310].
وعن عمرو بن دينار أخبرني مولى لعمرو بن العاص أن عمرو بن العاص أدخل في عريش الوهط ألف ألف عود كل عود بدرهم[311].
قال ابن الأعرابي: عرش عمرو بن العاص بالوهط ألف ألف عود كرم[312] على ألف ألف خشبة ابتاع كل خشبة بدرهم، فحج سليمان بن عبد الملك فمر بالوهط فقال: أحب أن أنظر إليه فلما رآه، قال: هذا أكرم مال وأحسنه، ما رأيت لأحد مثله لولا أن هذه الحرة في وسطه، فقيل له ليست بحرة ولكنها مسطاح الزبيب، وكان زبيبه جمع في وسطه فلما رآه من البعد ظنه حرة سوداء وقال ابن موسى: الوهط قرية بالطائف على ثلاثة أميال من وج[313] كانت لعمرو بن العاص[314].
وقد زاد ماله ونمى بما أنعم الله على الدولة الإسلامية قاطبة من كثرة الموارد والخيرات، وقد نص الذهبي في السير بأنه: «خلف أموالاً كثيرة، وعبيداً، وعقاراً»[315].
إلا أنني لم أجد رواية صحيحة تنص أن أنه خلف مالاً كثيراً، أو تحصر ماله، وأحسن ما وجدت في الباب روايتين؛ أحسنهما ما رواه أبو عمر الكندي المصري في كتاب الولاة وكتاب القضاة[316] قال: حدثنا ابن قديد، قال: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، قال: حدثني نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن حرملة بن عمران، عن أبي فراس، قال: مات عمرو بن العاص، ولم يترك إلا سبعة دنانير، وكانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها.
نعيم بن حماد الخزاعي أبو عبد الله المروزي روى له البخاري مقروناً، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، واختلف فيه، وثقة قوم وضعفه آخرون[317].
قال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً فقيه عارف بالفرائض وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال باقي حديثه مستقيم[318].
وقال الذهبي: أحد الأئمة الأعلام على لين في حديثه[319].
والرواية الثانية: عند ابن عساكر في تاريخه قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن إبراهيم نا عبد العزيز بن أحمد أنا أبو محمد بن أبي نصر نا أبو علي الحسن بن حبيب نا يزيد بن عبد الصمد نا أبو سهل ناه قل بن زياد حدثني الأوزاعي حدثني رجل من قريش قال لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة، قال له ابنه عبد الله: يا أبتاه أوص في مالي ومالك ما بدا لك، قال: فدعا كاتباً، فقال: اكتب، فجعل يكتب، قال: فلما أسرع في المال، قال: يا أبة لا أحسبك إلا قد أتيت على مالي ومال إخوتي، فلو بعثت إلى إخوتي فتحلل ذلك منهم، قال عمرو للكاتب: اقرأه، فقرأه فقال عبد الله بن عمرو: بخ بخ، قال: فقال له عمرو: يا عبد الله أتشكر هذا فوالله لامرأة من المهاجرات أقبلت تتغير في صرحو[320] تقوده إلى رسول الله ص يحمله عليه في سبيل الله خير من هذا كله، جاء ذاك من حيث جاء وجاء هذا من حيث جاءنا عبد الله، والله لقد هلكنا إلا أنا معتصمين بلا إله إلا الله[321].
والسند ضعيف فيه مبهم – رجل من قريش-.
ولو افترض صحة الروايتين، لحمل على أنه تصدق بالكثير حتى لم يبق من الأموال النقدية إلا سبعة دنانير، وترك لورثته عبيداً وعقاراً.
وكان أنفس ماله بستانه العظيم بالطائف- الوهط- وكان يمتلكه من قبل أن يمن الله عليه بالإسلام، وقد وقفه عند موته، وجعله صدقة لله سبحانه وتعالى تضاف إلى ميزان حسناته بعد موته.
فعن عمرو بن دينار قال: كتب عمرو بن العاص س في وصيته في الوهط وجعلها صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث وهي إلى الأكبر من ولدي المتبع فيها عهدي وأمري، فإن لم يقم بعهدي ولا أمري فليس لي بولي حتى يرثه الله قائماً على أصوله[322].
فعمرو س مع ما كان عليه من سعة الرزق وبسطة المال فلم يخدعه عن آخرته ولم يكترث به، بل كان ينظر إليه بعين الازدراء؛ لذلك أذهب الكثير منه بالصدقة.
وهكذا هو شأن الصحابة رضوان الله عليهم لا يكترثون بالمال، فمن اغتنى منهم، فغاية ما في الأمر أن المال تملكه يداه، ولا يتعلق به قلبه.
[308] الشَمَّاسُ، من رُؤُوسِ النَّصَارَى: الذي يَحْلِقُ وَسَطَ رَأْسِه، لازِماً لِلْبِيعَة، وهذا عَمَلُ عُدُولِهِم وثِقَاتِهِم، قالَهُ اللَّيْثُ، وقبله مرتبة القسيس ثم الأسقف ثم الجاثليق ثم المطران ثم البطريق وهو أول هذه المراتب. القاموس المحيط (ص/871)، وتاج العروس (4/172).
[309] أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص/47)، وانظر: المواعظ والاعتبار (1/444-447). ومعنى اعتقدته: أي اقتنيته، وتأثلته: أي اكْتَسَبَته وجَمَعَته واتَّخَذَته لنَفْسـِي. انظر: معجم مقاييس اللغة (4/68)، وتاج العروس (2/427)
[310] المعازي للواقدي (2/741)، البداية والنهاية لابن كثير (6/400).
[311] أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3/205 )، وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/182) واللفظ له، وانظر: معجم البلدان (5/444).
[312] المراد بالكرْم: العنب وسمي كرماً وقد نهي النبي ص عن تسميته بذلك فقال: « لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ. إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ». رواه مسلم(4) رقم (2247). قال النووي: قال العلماء سبب كراهة ذلك أن لفظة الكرم كانت العرب تطلقها على شجر العنب وعلى العنب وعلى الخمر المتخذة من العنب سموها كرماً؛ لكونها متخذة منه، ولأنها = =تحمل على الكرم والسخاء، فكره الشرع إطلاق هذه اللفظة على العنب وشجره؛ لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر وهيجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك، وقال إنما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم أو قلب المؤمن لأن الكَرْم مشتق من الكَرَم بفتح الراء وقد قال الله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فسمى قلب المؤمن كرماً لما فيه من الإيمان والهدي والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الاسم وكذلك الرجل المسلم. شرح النووي (15/4-5).
[313] وَجَّ: وادٍ قَبِلَ الطائِف. تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص/309).
[314] معجم البلدان للحموي (5/444).
[315] سير أعلام النبلاء (3/77).
[316] ص(28).
[317] انظر: تهذيب الكمال للمزري (29/472).
[318] وَجَّ: تقريب التهذيب (7166)، ونص ابن عدي: وعامة ما أنكر عليه هو هذا الذي ذكرته وأرجوا أن يكون باقي حديثه مستقيماً. الكامل في ضعفاء الرجال (8/256).
[319] ميزان الاعتدال (4/267).
[320] كذا في تاريخ دمشق طبعة دار الفكر، وأشار المحقق إلى أن رسمها هكذا في الأصل و(م) ولم يزد محقق طبعة دار إحياء التراث إلا على قوله في الهامش: كذا (49/132).
[321] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/192).
[322] أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3/205)، قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار به. ووقف عمرو لبستانه الوهط يكفي في ثبوته شهرته في القرون الفاضلة، يقول الحميدي شيخ البخاري: وتصدق أبو بكر الصديق س بداره بمكة على ولده، فهي إلى اليوم، وتصدق عمر =بن الخطاب س بربعه عند المروة وبالثنية على ولده، فهي إلى اليوم، وتصدق علي بن أبي طالب س بأرضه بينبع، فهي إلى اليوم، ... وعثمان بن عفان س برومة، فهي إلى اليوم، وعمرو بن العاص س بالوهط من الطائف وداره بمكة على ولده، فذلك إلى اليوم ... إلخ، أخرجه البيهقي من طريق سعيد يحيى بن محمد ابن يحيى المهرجاني الخطيب، ثنا أبو بحر البربهاري، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي به. السنن الكبرى للبيقهي (6/266).
حضرته الوفاة وهو بمصر أميراً عليها، ففي صحيح مسلم[323] عن ابن شماسة المهري أنه قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، يبكي طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله ص بكذا؟ أما بشرك رسول الله ص بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباق[324] ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله ص مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه، فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ص، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ص، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لاني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار، فإذا دفنتموني فَشُنُّوا علي التراب شَنَّاً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
ثم وضع يده موضع الغلال من ذقنه وقال: اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك، وكانت تلك هجيراه حتى مات[325].
وفي رواية: أنه قال: اللهم إنك أمرتنا فركبنا، ونهيتنا فأضعنا، فلا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله. وما زال يقولها حتى مات[326].
قال أبو زرعة: ومات عمرو بن العاص بمصر في يوم عيد، وصلى عليه ابنه عبد الله بن عمرو، كما حدثني عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني ربيعة بن لقيط: أن عبد الله لما تقدم ليصلي عليه قال: والله ما أحب أن لي بأبي أبا رجل من العرب، وما أحب أن الله يعلم أن عيني دمعت عليه فزعاً، وأن لي حمر النعم، ثم كبر[327].
وذلك في يوم الفطر سنة ثلاث وأربعين،وقيل: سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة ثمان وأربعين وقيل: سنة إحدى وخمسين. والأول أصح.
وله بضع وثمانون سنة، قال الذهبي: كان يقول: أذكر الليلة التي ولد فيها عمر، وقد عاش بعد عمر عشرين عاماً، فينتج هذا أن مجموع عمره بضع وثمانون سنة، ما بلغ التسعين س [328].
[323] كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1) رقم (121).
[324] معنى أطباق أي أحوال. قال تعالى: ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ). شرح النووي (2/137).
[325] أخرجه أحمد في المسند (4/199) من طريق: عفان ثنا الأسود بن شيبان قال ثنا أبو نوفل بن أبي عقرب به. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[326] أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/260) قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا إسرائيل، عن عبد الله بن المختار، عن معاوية بن قرة المزني قال: حدثني أبو حرب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو به. وسنده حسن فإن عبد الله بن المختار البصري من رجال مسلم، وثقه ابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم: لا بأس به. تهذيب الكمال (16/112).
[327] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص594). وإسناده حسن، شيخ أبي زرعة عبد الله بن صالح هو: أبو صالح المصري كاتب اليث، ذكر الحافظ في الفتح خلاف العلماء في توثيقه وتضعيفه ثم قال: قلت ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه في الأول كان مستقيماً ثم طرأ عليه فيه تخليط فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم فهو من صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه، والأحاديث التي رواها البخاري عنه في الصحيح بصيغة حدثنا أو قال لي أو قال المجردة قليلة. فتح الباري لابن حجر (1/414). وربيعة هو: ابن لقيط بن حارثة بن عميرة التجيبي، سكن مصر وحدث بها عن معاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن حوالة ومالك بن هدم، روى عنه محمد بن إسحاق ويزيد بن أبي حبيب وغيرهما، قال أبو سعيد بن يونس: شهد صفين مع معاوية، وقال العجلي: تابعي ثقة وذكره بن حبان في الثقات. تعجيل المنفعة (1/530)، وصحح حديثه الحاكم في المستدرك (3/108)، ووافقه الذهبي، ووثقه الهيثمي في المجمع (7/334)، وقال الألباني عقب حديث من نجا من ثلاث فقد نجا: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير ربيعة بن لقيط التجيبي وهو ثقة، وثقة ابن حبان والعجلي، وروى عنه جماعة. السنة لابن أبي عاصم بتحقيق الألباني (2) رقم (1177).
[328] السير للذهبي (3/77).
المبحث الأول: شبهات تتعلق بنسب عمرو بن العاص.
المبحث الثاني: شبهات تتعلق بعدالته.
المبحث الثالث: شبهات حول علاقته بالنبي ص.
المبحث الرابع: شبهات حول علاقته بالصحابة س.
المبحث الخامس: شبهات حول فتحه لمصر وحكمه لها، وعلاقته بأهلها عموماً والأقباط خصوصاً.
الناظر في الشبهات المثارة حول الصحابي الجليل عمرو بن العاص س بعد التأمل يرى أنها على خمسة أقسام:
القسم الأول: شبهات تتعلق بنسب عمرو بن العاص.
القسم الثاني: شبهات حول علاقته بالنبي ص.
القسم الثالث: شبهات حول علاقته بالصحابة ش. وأساسها الفتنة التي حصلت في عهد الصحابة، وقد تقدم في التمهيد حاصل هذه الفتنة وموقف المسلم منها[329].
القسم الرابع: شبهات حول فتحه لمصر وحكمه لها.
القسم الخامس: شبهات تتعلق بعدالته س ومفادها: أنه ليس على جانب متين من الدين. حاشاه وقد قال فيه رسول الله ص «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ»[330].
أَبَعْدَ هذه التزكية من تهمة، وبعد هذه الشهادة من مطعن؟!!، وقانا الله شر الهوى ونزغات الشيطان، وهنا لا بد من إشارات ومنارات على الطريق، حريٌ بكل مسلم أن يضعها نصب عينيه؛ حتى يسلم من إثم الوقيعة في المسلمين، ويسلم المسلمون من لسانه ويده. وبيان ذلك:
أنه ينبغي للمسلم قبل أن يصدر أحكامه على الآخرين أن يجعل ما بلغه من أخبارهم في ميزان التثبت والعدالة، ويكون ذلك على النحو التالي:
1- النظر في ثبوت ذلك عنه، فغير الثابت كعدمه، إذ ليس من العدل أن ننسب لغير الصحابة أمراً ما بدون بينة صحيحة، فكيف بالصحابي!.
2- فإذا صحت النسبة إليه نظرنا هل ذلك الأمر اجتهادي يسوغ الخلاف فيه أم لا؟، فإن كان من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف ففي الأمر سعة؛ إذ ليس قول أحد المجتهدين أولى من الآخر، فكلا القولين مبني على الظن، ولكل وجهة نظر، والعقول تتفاوت، وفي هذا النوع من المسائل يتأتى معنى العبارة الشهيرة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) أي في المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قاطع ولا إجماع ولا قياس جلي[331].
3- فإذا كان الأمر لا يسوغ فيه الخلاف لكن يمكن حمله على محمل حسن، فيُلتمس له العذر ويُحمل على ذلك المحمل الحسن؛ إذ الأفضل حمل فعل المسلم أو قوله على السلامة لاسيما إن كان من أهل الفضل والعدالة.
4- فإن لم يكن ما تقدم؛ يُصدر الحكم، لكن أحياناً بعض الأحكام كالتكفير والتبديع تصدر على الفعل نفسه لا على الفاعل؛ إذ قد يكون متأولاً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مُخْطِئاً، فمن عمل عملاً كفرياً أو بدعياً وكان متاولاً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مخطأً؛ فإنه يحكم على الفعل بأنه كفر أو بدعة لا على صاحبه؛ لوجود هذه الموانع. ثم عندنا قاعدة عظيمة من قواعد الفقه المجمع عليها، وهي: أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، فمن ثبت إسلامه أو فضله أو عدالته بيقين لا يزول عنه الإسلام أو الفضل أو العدالة إلا بيقين، فتنبه.
قال السرخسي: إن التمسك باليقين وترك المشكوك فيه أصل في الشرع، فإن النبي عليه السلام أمر الشاك في الحدث بأن لا ينصرف من صلاته حتى يستيقن بالحدث، لأنه على يقين من الطهارة وهو في شك من الحدث[332].
ومن خلال التقسيم المتقدم للشبه سيكون مسار البحث في هذا الفصل على خمسة مباحث:
[329] (ص/31)، وأكثر ما أتاح لألسنة الطاعنين في النيل من عرض هذا الصحابي الجليل؛ إنما هو من قبل هذا الباب، وقد ذكرت في التمهيد - (ص/46)- موقف المسلم من هذه الفتنة التي وقعت بين الصحابة حتى تكون له حاجزاً مانعاً من الوقوع في عرض الصحابة ش، وفقني الله وإياك للحق.
[330] تقدم تخريجه (ص/76).
[331] قال النووي في شرحه على مسلم (2/ 24):...«وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه اذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أوقياساً جلياً والله أعلم. وذكر نحو هذا الكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم». انظر الفتاوى الكبرى (6/ 92)، إعلام الموقعين (3/ 288).
[332] أصول السرخسي (2/116).
وفيه مطلبان:
الشبهة الأولى: أن العاص بن وائل والد عمرو نزل فيه
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾.
الشبهة الثانية: ما قيل في والدته بأنها كانت من صاحبات الرايات – البغايا.
شبهات تتعلق بنسب عمرو بن العاص
قال الأميني: نسبه: أبوه هو الأبتر بنص الذكر الحميد: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَٱلۡأَبۡتَرُ﴾ وعليه أكثر أقوال المفسرين والعلماء[333].
الجواب:
هذه السورة العظيمة المباركة- سورة الكوثر- سيكون الكلام عليها من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: هل هي مكية أو مدنية؟ الجانب الثاني: في من نزلت؟ والجانب الثالث: بيان معنى الأبتر؟
أما الجانب الأول: هل هي مكية أو مدنية؟
اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال: إنها مكية، وهوقول ابن عباس والكلبي ومقاتل[334].
وبه قال الجزري[335]، والزمخشري[336]، وابن عطية[337] والزركشي[338]، واستدلوا بأثر ابن عباس س في تحديد السور المكية والمدنية، وكذلك روايات لبعض التابعين كقتادة وجابر بن زيد وغيرهما من التابعين.
ذكر الزركشي السور المكية حسب هذه الروايات مرتبة، ومنها سورة الكوثر وقال: فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة، وعليه استقرت الرواية من الثقات وهي خمس وثمانون سورة[339].
ومنهم من قال: إنها مدنية، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة[340]. وبه قال ابن كثير[341]، وصوَّبه السيوطي. وقال: رجحه النووي في شرح مسلم لما أخرجه مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة فرفع رأسه متبسماً فقال: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّوَجَلَّ...الحديث[342].
قال ابن عاشور: تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً، فهي مكية عند الجمهور، واقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب (النشر) قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية[343]. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ (آنفاً) في كلام النبي ص مستعملاً في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: (وانحر) من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية، ويبعث على أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ ليس ردّاً على كلام العاصي ابن وائل... والأظهر أن هذه السورة مدنية[344]؛ لما تقدم، ولأن قوله: (أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم) قرينة تقوي قول من قال بأنها نزلت في المدينة، إذ لوكانت نزلت في مكة لكان منهم من يعرف الكوثر، فسؤال النبي ص الصحابة عنه وعدم معرفتهم له يدل على قرب الزمن المذكور.
والذي تميل إليه النفس أنها مدنية؛ لأن حديث أنس نص صحيح صريح في كونها نزلت في المدنية، لأن أنس بن مالك أنصاري خزرجي، وفي صحيح مسلم أنه قال: (قدم النبي ص المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته)[345].
ويؤيد هذا القول؛ قول سعيد بن جبير أنه قال: كانت هذه الآية، يعني قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ يوم الحديبية، أتاه جبريل عليه السلام فقال: انحر وارجع، فقام رسول الله ص، فخطب خطبة الفطر والنحر ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البُدن فنحرها، فذلك حين يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ [346].
ثم مااستدلوا به من الآثار في تحديد السور المكية والمدنية - على افتراض صحته- يَرِد عليه أنهم أنفسهم اختلفوا في بعض السور وهي محددة في هذه الآثار، وبعض السور لم تذكر في هذه الآثار وهي مجمع عندهم على مكيتها أو مدنيتها؛ فدل على أن الاستدلال بها غير قطعي، فيترجح كفة من قال إنها مدينة بحديث أنس؛ إلا إذا ثبت أنها نزلت في مكة، فيقال: نزلت مرتين؛ مرة في مكة، ومرة في المدينة، وهذا أمر جار على بعض سور القرآن.
الجانب الثاني: في من نزلت؟ اختلف السلف في ذلك على أقوال:
1- نزلت في العاص بن وائل. قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة وعكرمة. وذكر الرازي أنه قول عامة أهل التفسير.
وذلك؛ لماروي أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد والعاص بن وائل السهمي يدخل، فالتقيا فتحدثا، وصناديد قريش في المسجد، فلما دخل، قالوا من الذي كنت تتحدث معه؟ فقال ذلك الأبتر، وروي أيضاً أن العاص بن وائل كان يقول: إن محمداً أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة[347].
2- نزلت في عقبة بن أبي مُعَيط قاله شِمْر بن عطية[348].
3- نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش قاله ابن عباس أيضاً، وعكرمة.
قال ابن كثير: وقال البزار: حدثنا زياد بن يحيى الحَسَّاني، حدثنا بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية؟ فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾.
هكذا رواه البزار وهو إسناد صحيح[349].
4- نزلت في أبي لهب، وهو مروي عن عطاء: وذلك حين مات ابن رسول الله ص فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال: بُتِرَ محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ [350].
5- نزلت في أبي جهل، مروي عن ابن عباس[351].
6- وعنه: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ يعني: عدوك. وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر، وغيرهم.
قال الرازي: واعلم أنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك، ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه[352].
7-نزلت في عمرو بن العاص – قبل إسلامه – قبل البيهقي: وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدثنا أبو العباس قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا يونس، عن أبي عبد الله الجعفي جابر[353]، عن محمد بن علي قال: كان القاسم بن رسول الله ص قد بلغ أن يركب الدابة، ويسير على النجيب، فلما قبضه الله عز وجل قال عمرو بن العاص: لقد أصبح محمد أبتر من ابنه، فأنزل الله تعالى على نبيه ص: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ عوضاً يا محمد من نصيبك بالقاسم: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ قال البيهقي: كذا روي بهذا الإسناد، وهو ضعيف. والمشهور أن الآية نزلت في أبيه[354].
وهذا القول ضعيف كما ذكر البيهقي، في إسناده علتان.
الأولى: جابر الجعفي وهو ضعيف كما ذكره ابن حجر في التقريب[355].
الثانية: الانقطاع؛ فإن محمد بن علي هو الباقر حفيد الحسين بن علي ب. قال أبو زرعة: محمد بن علي بن الحسين عن علي مرسل[356]. قال العلائي: أرسل عن جديه الحسن والحسين وجده الأعلى علي ش [357].
فإذا كانت رواية الباقر عن جديه الحسن والحسين ب بدون واسطة مرسلة غير مقبولة – وهما من أبناء المدينة النبوية -؛ فكيف بروايته عن عمرو بن العاص س قبل هجرة النبي ص إلى المدينة؟!
الجانب الثالث: في تفسير الأبتر؟
للعلماء في تفسير (الْأَبْتَرُ) خمسة تأويلات:
أحدها: أنه الحقير الذليل، قاله قتادة.
الثاني: معناه الفرد الوحيد، قاله عكرمة.
الثالث: أنه الذي لا خير فيه حتى صار مثل الأبتر، وهذا قول مأثور.
الرابع: أن قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده، قد بتر فلان، فلما مات لرسول الله ص ابنه القاسم بمكة، وإبراهيم بالمدينة، قالوا: بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده، فنزلت الآية، قاله: السدي وابن زيد.
الخامس: أن الله تعالى لما أوحى إلى رسول الله ص ودعا قريش إلى الإيمان، قالوا ابتتر منا محمد، أي خالفنا وانقطع عنا، فأخبر الله تعالى رسوله أنهم هم المبترون، قاله: عكرمة وشهر بن حوشب[358].
قال ابن عاشور: ( الْأَبْتَرُ): حقيقته: المقطوع بعضه، وغلب على المقطوع ذنبه من الدواب، ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيها بالدابة المقطوع ذنبها تشبيه معقول بمحسوس...، ويقال للذي لا عقب له ذكوراً هو أبتر، على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس، شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها؛ لأنه قطع أثره في تخيل أهل العرف...، ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به؛ لمحاكاة قول القائل: محمد أبتر إبطال لقوله ذلك، وكان عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لاعقب له تعين أن يكون هذا الإبطال ضرباً من الأسلوب الحكيم وهو: تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحق غير ما عناه من كلامه...، وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو ناقص حظ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله...[359]
يستخلص مما تقدم أن السلف اختلفوا في سورة الكوثر هل هي مكية أو مدنية، وفيمن نزلت، وما معنى الأبتر؟
فعلى القول بأنها مدنية وهو الأقرب، فيبعد أن يقال المراد بها العاص؛ لأن في الرواية أنه قالها والنبي ص في مكة قبل الهجرة.
وعلى القول بأنها مكية: فلا نستطيع أن نجزم أن المراد بها العاص لاختلاف العلماء في من نزلت، ولو افترضنا أنها نزلت في العاص؛ وفسـرنا الأبتر بمعنى منقطع العقب لا يستقيم، لأن العاص له عقب- كما تقدم[360] - فله عمرو وهشام، ولعمرو عبد الله ومحمد، قال ابن حزم: لعبد الله بالوهط، ومكة عقب كثير، يناهزون المائة[361]، ولو فسرت بمعنى منقطع الخير أو الحقير الذليل فهذا لا يضير عمرو؛ لأن المراد بها أباه فما شأن عمرو؟!
ومتى كانت جناية الأب تنسحب على الابن حتى يؤخذ بجرم أبيه؟ وهل عيب على الخليل كفر أبيه أو على نوح عصيان ولده؟! فتحميل الشخص أخطاء الآخرين تجنٍ عليه وظلم له؛ وهو مخالف للمنطق والعقل، ومناقض لمبدأ العدل، ثم أين نحن من تلك اللوامع البرهانية والآيات المكررة القرآنية قال تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾[362]. وكم من فضلاء الصحابة ونجباء آل البيت أسلموا وكفر ذووهم، وأذعنوا وتكبر أهلوهم، والقرآن صرح بالتباب على أبي لهب وهو عم الشرف والمجد نبينا ص، فالناظر بعيني العدل والإنصاف لا حاجة له في إقامة البراهين على ذلك.
وانظر يارعاك الله كيف يحاول الغلاة التشبث بأدنى شبهة ولو كانت بعيدة كل البعد، مثلهم مثل الغريق يحاول النجاة فيتشبَّث بأي شيء ولو بالطحلب، وهذا الحال يحصل كثيراً عند من يعتقد ثم يستدل، في أي مسألة ما، فهو يعتقد شيئاً ثم يحاول جاداً أن يستدل له بأي شيء، حتى ينشر معتقده أو يبرر موقفه؛ إذا نوقش فيه، والصواب أن الإنسان يستدل ثم يعتقد، بمعنى أنه ينظر في الأدلة الصحيحة ثم يبني معتقده وفق مفهوم الأدلة؛ حتى يكون بنيانه على أساس متين، قال تعالى: ﴿أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ [363].
* * *
[333] الغدير للأميني (2/120)، وانظر بحار الأنوار للمجلسي (22/166).
[334] تفسير القرطبي (20/216).
[335] النشر(1/322).
[336] الكشاف(4 /811).
[337] البحر المديد(5/530).
[338] البرهان (1/193).
[339] المصدر نفسه.
[340] تفسير القرطبي (20/216).
[341] التفسير(8/ 498).
[342] الإتقان في علوم القرآن (1/55)، والحديث في صحيح مسلم: كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (1) رقم (400).
[343] قال ابن الجزري: وقد يدل على أن هذه السورة مدنية وقد أجمع من نعرفه من علماء العدد والنزول على أنها مكية والله سبحانه وتعالى أعلم. النشر (1/223).
[344] التحرير والتنوير لابن عاشور (30/501-502) باختصار.
[345] صحيح مسلم: كتاب الأشربة، باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ (3) رقم (2029).
[346] تفسير الطبري (24/654-655).
[347] انظر: تفسير الطبري (24/654-655)، والنكت والعيون للماوردي (6/356)، ومفاتيح الغيب للرازي (32/123-124)، وتفسيرابن كثير(8/504).
[348] تفسير الطبري (24/657)، ومفاتيح الغيب للرازي (32/124) وتفسيرابن كثير (8/504).
[349] تفسير ابن كثير(8/504)، والحديث في سنن النسائي الكبرى: كتاب: التفسير فاتحة الكتاب، باب قوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر}(10) رقم (11643)، وكشف الأستار عن زوائد البزار(3/ 83).
[350] المصدر السابق، والنكت والعيون الماوردي (6/356)
[351] المصدر السابق.
[352] مفاتيح الغيب للرازي (32/124).
[353] رقم (878).
[354] دلائل النبوة للبيهقي (2/69).
[355] دلائل النبوة للبيهقي (2/69).
[356] المراسيل لابن أبي حاتم (ص/185).
[357] جامع التحصيل (ص: 266).
[358] النكت والعيون للماوردي (6/356).
[359] التحرير والتنوير لابن عاشور (30/505)
[360] (ص/62).
[361] تقدم (ص/63).
[362] سورة النجم الآية (٣٨ - ٣٩ ).
[363] سورة التوبة الآية (109).
قال الأصبهاني: «ومسألة خبث ولادته معروفة في كثير من الكتب، ككتاب إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، وكتاب المستطرف، وكتاب سبط ابن الجوزي ومحصلها: أن أمه كانت بغياً عند عبد الله بن جدعان، فوطئها في طهر واحد أبو لهب، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، والعاص بن الوائل، وادعى كلهم عمرو، فألحقته أمه بالعاص. وقيل لها: لما اخترت العاص؟ قالت: لأنه كان ينفق على بناتي»[364].
قال الأميني: عقب خبر إقرار أبي سفيان لبعض الصحابة أنه الذي قذف زياد في رحم سمية لما أعجبه خطبته ومنعته هيبة عمر ادعاءه-: «لو كان معاوية استلحق زياداً بهذا الخبر لكان استلحاقه عمرو بن العاص أولى؛ إذ ادعاه أبو سفيان يوم ولادته قائلاً: أما إني لا أشك أني وضعته في رحم أمه».
واختصم معه العاص. غير أن النابغة أبت إلا العاص؛ لما زعمت من الشح في أبي سفيان[365].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من خمسة أوجه:
الوجه الأول: هذه الرواية ساقطة وليس لها أساس من الصحة، وهي موجودة في بعض كتب الأدب ككتاب ربيع الأبرار للزمخشري[366]، ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري[367]، والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي[368]، والتذكرة الحمدونية لابن حمدون[369]، والمستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي[370].
ولم أجده مسنداً إلا في كتاب أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبى سفيان لعباس بن بكار[371] أخرجه من طريق:
عبد الله بن سليمان المديني عن قتادة قال: دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال مرحبا بك يا خالة... وذكرت كلاما في النيل من معاوية، فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز، وغضي طرفك واقصري من شر لفظك فإنه أمير المؤمنين، قالت له: إيه عنك يا ابن النفيرة فو الله لعهدي بأمك بأبيات مكة وهي باكية من الخطيئة من كل عبد لنا عاهر، ولقد احتكم فيك خمسة من قريش كلهم يدعيك ابنه، وغلب عليك جزار قريش...
هذه القصة موضوعة؛ لأن في إسنادها:
العباس بن بكار الضبي البصري.
قال الدارقطني: كذاب.
وقال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم والمناكير[372].
وقال الذهبي: متروك[373].
وعبد الله بن سليمان المديني لم أجد له ترجمة[374].
وقتادة بن دعامة السدوسي وإن كان ثقة ثبت[375] وحافظ عصره إلا أنه أحد المشهورين بالتدليس وهو أيضاً يكثر من الإرسال عن مثل النعمان بن مقرن وسفينة ونحوهما، قال أحمد بن حنبل: ما أعلم قتادة سمع من أحدٍ من أصحاب النبي ص إلا من أنس بن مالك[376]، فهو لم يدرك معاوية فضلاً عن عمرو؛ إذ وفاة معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح، وولادة قتادة سنة ستين، أو إحدى وستين[377]. فيكون ولادته في السنة التي مات فيها معاوية أو بعده بسنة.
فالقصة موضوعة ولا يصح شرعاً ولا يجوز عقلاً أن نصف أحداً بِناءً على قـول أحـد لا نعرف عدالته، فكيف بمن وصف بالكذب، وتـرك الأئمة حديثه!؟ [378].
الوجه الثاني: كون أمه كانت من السبايا أمر غير مقطوع به وقد تقدم[379] الخلاف في نسب أمه، ثم لم تذكر الكتبُ المعْرَكَةَ التي سُبيت فيها والدة عمرو!.
الوجه الثالث: لم تذكر كتب التاريخ المعتمدة أن أمه كانت من البغايا، بل غاية ما ذكرت أنها سبية من بني جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار[380]. وفي أسد الغابة قال: وذكروا أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه وهو على المنبر، فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة، من بني عنزة ثم أحد بني جلان، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذه[381]. فعلى افتراض صحة هذا الخبر فإنه لا يفيد إلا أن أمه كانت جارية لدى أبيه العاص، وشراء الجواري ووطئهن والإنجاب منهن معهود لدى العرب – في الجاهلية والإسلام- وكثير من الصحابة ومن بعدهم من القرون المفضلة كانت لهم أم ولد، فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب س كانت له جارية اسمها خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة وكانت من سبي اليمامة الذين سباهم أبو بكر الصديق، وقيل: كانت أمة لبني حنيفة ولم تكن من أنفسهم[382]. وولدت لأمير المؤمنين محمداً المعروف بابن الحنفية.
وكذلك عمر بن علي، ورقية، وهما توأم، وأمهما: الصهباء، يقال: اسمها أم حبيب بنت ربيعة من بني تغلب، من سبي خالد بن الوليد؛ وكان عمر آخر ولد علي بن أبي طالب[383].
وهذان سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين لهما أولاد من جواري، ووللحسين علي بن الحسين الأصغر، لأم ولد؛ وكان علي بن الحسين مع أبيه يومئذ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضاً؛ فلما قتل الحسين، قال عمر بن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض[384].
وغيرهم من الصحابة ومن جاء بعدهم في القرون المفضلة خلق كثير.
الوجه الرابع: أن الطعن في الأنساب من خصال الجاهلية التي نهى الشـرع عنها[385]، وإنكار نسب شخص أو التشكيك فيه من أخطر الأمور؛ إذ يجب إثباته بدليل واضح وصحيح وهذا غير موجود، ناهيك أن النبي أقر المشركين على أنسابهم، ولم يسأل عن كيفية نكاحهم مع أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، كما هو عند البخاري من طريق عروة بن الزبير أن عائشة - ل - زوج النبي ص أخبرته «أَنَّ النِّكَاحَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ اليَوْمَ: يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ العَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ، كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ، وَنِكَاحُ الرَّابِعِ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ، لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ البَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا لَهُمُ القَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَ بِهِ، وَدُعِيَ ابْنَهُ، لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ «فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ص بِالحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ اليَوْمَ»[386].
فلما جاء الإسلام هدم نكاح الجاهلية وأبقى النكاح المعروف لدى المسلمين، لكن أقرهم على أنسابهم ولم يتعرض للبحث والتحقق عن كيفية النكاح.
وقد قال الرسول ص لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة: «خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا»[387].
ثم ليس لأحد أن يفخر بنسبه، بأنه من نكاح لا سفاح إلا أطهر الخلق بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه، ما غرد قمري وناح، القائل: «خَرَجْتُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ مِنْ نِكَاحٍ غَيْرِ سِفَاحٍ»[388].
قال السيوطي: باب اختصاصه ص بطهارة نسبه وأنه لم يخرج من سفاح من لدن آدم. ثم ذكر هذا الحديث.
وفي السيرة الحلبية عند هذا الحديث: أن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد، فكانت العرب تستحل الزنا إلا أن الشريف منهم كان يتورع عنه علانية، وإلا بعض أفراد منهم حرمه على نفسه في الجاهلية[389]. ومع ذلك كانوا يُقرَّون على أنسابهم ونكاحهم.
قال الأمير الصنعاني رحمه الله: وأما مسألة إقرارهم بأنسابهم وأنَّ هذا ولد هذا وأخوه ونحوه، فالظاهر أنَّ قبولهم في هذا ثابت في عصر النبوة مستفيض، وأنَّه ص بقّا أهل الملل على ما هم عليه من إقرارهم بأنسابهم، ودعاهم ص بذلك، وهذا شيء معلوم من ضرورة من يعرف أحواله وسيره،كما أنَّه كان يقبل قطعاً مثل إخبارهم بأنَّ ما تحت أيديهم مِلْكٌ لهم، فإنَّه كان يتعامل مع اليهود والمشركين قطعاً ويأخذ منهم، ويبيع ويقبض، بل مات ودرعه مرهون عند أبي الشَحْم[390] اليهودي كما هو معروف في البخاري[391] وغيره.
فأنسابهم كذلك يُقْبَلون في إقرارهم بها، وقد عُلم أنه كان في الجاهلية لهم أربعة أنكحة لا يصح منها شيء في شرعنا إلا نكاح واحد، ولكنَّه ص أقرَّ الأنساب على ما كانت عليه، ولا نعلم أنَّه بحث عن كيفية نكاح شخص لإثبات نسبه، ولم يأتِ حديث «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»[392] إلا في يوم الفتح عند المخاصمة في ولد زمعة؛ لاستلحاق سعد بن أبي وقاص له بالوصية من أخيه أنَّه ولده[393].
فنسب عمرو لأبيه ثابت كيف ماكان نكاح أبيه لأمه، ومما يؤكد ثبوت نسب عمرو للعاص قوله ص «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ»[394]، فقد نسبه ص إلى أبيه، كذلك الصحابة كانوا ينسبونه لأبيه ولم يأت عن أحد منهم أنه قدح في صحة نسبه. إنما آثار في بعض الكتب لا خطام لها ولا زمام.
الوجه الخامس: كأن الطعن في النسب والاتهام بالزنا أصبح مطية من لا مطية له وحجة من لا حجة له، فقد اتهم اليهود أم عيسى عليه السلام بالزنا، واتُهِمت أم المؤمنين عائشة ل كذلك، وطعنوا في نسب الفاروق عمر، وكثيرٍ من أعلام الإسلام.
الوجه السادس: التناقض الواضح بين هذه الروايات حين ذكرت أن أم عمرو بن العاص كانت من البغايا ومن أرخصهن أجراً، فكيف بسادات قريش أن يطئوا من هذه حالها، وكيف لهم أن يبحثوا عن أرخصهن أجراً، فهذه الرواية مرفوضة عقلاً، وهل من تضاجع السادة تكون أرخص العاهرات أجراً!.
ثم لوكانت أمه من صاحبات الرايات فما جرم عمرو، وهل يؤاخذ الرجل بجرم والديه، وهل الله سائله يوم القيامة عما صنع والداه؟ أولم يبايع النبي ص من أسلم دون أن يعاتبه بما صنع والداه، وهنا يقال مثل ما قيل في المبحث المتقدم: ما لو كان أبوه هو الذي نزلت فيه (إن شانئك) فما شأن عمرو!.
[364] القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع للأصبهاني (ص/224).
[365] الغدير للأميني (10/219).
[366] (1/363).
[367] (6/48).
[368] (1/16).
[369] (1/174).
[370] (1/408).
[371] (1/13).
[372] الميزان للذهبي(2/382).
[373] المقتنى في سرد الكنى للذهبي (2/138).
[374] ورد في بعض أسانيد الكتاب عن العباس بن بكار قال حدثني عبد الله بن سليمان بن داود عن أبيه عن عكرمة. فلعله ابن سليمان بن داود قيس الفراء المدني قال أبو حاتم - في أبيه سليمان-: لا أفهمه كما ينبغي. وقال الأزدي: تكلم فيه. الجرح والتعديل (4/111 )، ميزان الاعتدال للذهبي (2/ 206 ).
[375] التقريب لابن حجر (5518).
[376] جامع التحصيل للعلائي (1 / 254)، وانظر: تعريف أهل التقديس لابن حجر (1/43).
[377] تهذيب الكمال للمزي (23/517).
[378] بعد زبر ما تقدم أوقفت على طريق أخرى في الطبقات الكبرى لابن سعد – طبعة الخانجي – (6/384). قال: أخبرنا يزيد بن هارون. قال: أخبرنا حريز بن عثمان. قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي. قال: لما بايع الحسن بن علي معاوية قال له عمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي وعمرو بن سفيان: لو أمرت الحسن فصعد المنبر فتلكم عيي عن المنطق فيزهد فيه الناس ... فصعد الحسن المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإني قد أخذت لكم على معاوية أن يعدل فيكم. وأن يوفر عليكم غنائمكم. وأن يقسم فيئكم فيكم. ثم أقبل على معاوية. فقال: كذاك. قال: نعم. ثم هبط من المنبر وهو يقول ويشير بإصبعه إلى معاوية: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ) فاشتد ذلك على معاوية. فقالا: لو دعوته فاستنطقته فقال: مهلاً فأبوا، فدعوه. فأجابهم، فأقبل عليه عمرو بن العاص، فقال له الحسن: أما أنت قد اختلف فيك رجلان: رجل من قريش، وجزار أهل المدينة. فادعياك فلا أدري أيهما أبوك.. الإسناد وإن كان ظاهره الصحة، لكن متنه منكر. وبيانه على النحو الآتي: الأول: أنه يستحيل على من سكن وتربى في بيت النبوة أن يشكك في نسب أحد. الثاني: أن الحسن عُرف بحسن كلامه وسعه حلمه ففي تهذيب الكمال (6/235). قال عبد الله بن عون عن عمير بن إسحاق: ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة فإنه كان بين حسين بن علي وعمرو بن عثمان خصومة في أرض، فعرض حسين أمراً لم يرضه عمرو، فقال الحسن: فليس له عندنا إلا ما يرغم أنفه، قال: فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط. الثالث: لم يكن للحسن أن يشكك في نسب أحد أثبت نسبه جده نبينا ص بقوله ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام. الرابع: أن الحسن ولد بعد أحد، وعمرو ولد في مكة قبل بعثة النبي ص، فكيف سيقول هذا! لا سيما أنه لم يتكلم في هذا كبار الصحابة حتى أبوه، وقد قاتله في صفين. الخامس: أن الحسن تنازل رغبة منه حقناً لدماء المسلمين، وجمعاً للكلمة وتوحيداً للصف، فمن غير المناسب أن تقال هذه الكلمة في مقام الصلح. السادس: حضر الصلح جمع غفير فلو قاله حقاً لاشتهرت المقالة وذاعت، فتفرد الثقة في مثل هذا الحال يورث ريبة للنفس مما يجعله الحفاظ قرينة لوجود علة خفية، فكيف لو زاد على ذلك نكارة واضحة في متنه؛ فإنه يكون في حكم المردود وإن كان المتفرد ثقة. ولذلك نجد في عبارات بعض المحدثين (إسناد صحيح أو صالح ومتنه منكر) انظر: النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/368). فقد اعتنى المحدثون القدامى بالمتن كاهتمامهم بالسند لذلك كان من ضمن شروطهم في الحديث الصحيح ألا يكون شاذاً ولا معللاً. قال أبو داود – صاحب السنن في رسالته لأهل مكة (ص/29). والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث إلا أن تمييز ها لا يقدر عليه كل الناس والفخر بها أنها مشاهير فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم. قال ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي (ص/216). وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد – وإن لم يرو الثقات خلافه – إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عداتله وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفرادت الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه. قال المعلمي في مقدمته للفوائد المجموعة للشوكاني (ص87): إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر، فمن ذلك: إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع هذا، مع أن الراوي غير مدلس، أعلّ البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة. تراه في ترجمة عمرو من التهذيب أ هـ المراد. ويبدو لي أن العلة هنا هي الإرسال، فالجرشي وإن كان المزي نص في التهذيب بأنه روى عن عمرو بن العاص ومعاوية، إلا أنني مع التتبع والتحري لم أجد له رواية عنهما إلا في هذه القصة، ووجدت له رواية عن معاوية فقط بواسطة أبي هند البجلي وهو مجهول كما قاله ابن القطان- انظر: بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (3/258) فلعله أخذ منه، أو أخذها من الشائعات من هنا أو هناك، وقد كثرت في ذلك الزمان مع أجواء الفتنة كما تقدم في التمهيد، ومما يؤكد قولي في إعلان هذا السند وبطلان نسبة هذا الكلام للحسن س؛ أن خطبة الحسن في الصلح جاءت من طرق متعددة ولم يذكر فيها تشكيك الحسن لنسب عمرو بن العاص، وهي على النحو الآتي: الأولى: أخرجها الطبراني في المعجم الكبير (3/46)، والحاكم في المستدرك (3/192)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/596)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/444) من طريق هشيم وسفيان عن مجالد، عن الشعبي، قال: شهدت الحسن ابن علي س... قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد، وفيه كلام، وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، وهذه الطريق فيها تصريح بالسماع مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (4/208). فالشعبي عامر بن شراحيل الكوفي روايته عن الحسن في الصحيحين، وروايته عن معاوية في صحيح مسلم. تهذيب الكمال (14/29). ويشهد لهذه الطريق الطرق الآتية: الثانية: أخرجها عبد الرزاق في مصنفه (11/452) ومن طريقه الطبراني (3/147) من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين، وهو سند صحيح لابن سيرين، قال الهيثمي في المجمع (4/208): ورجاله رجال الصحيح. وأخرجها ابن سعد في الطبقات – طبعة الخانجي – (6/384): قال: أخبرنا هوذة بن خليفة. قال: حدثنا عوف. عن محمد. وسنده حسن، وابن سيرين أحد الأئمة التابعين سمع من أبي هريرة. انظر: جامع التحصيل (ص264). الثالثة: أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/274) بسنده إلى عمرو بن دينار. وعمرو بن دينار المكي أحد الأئمة التابعين قد صح عنه في أحاديث التصريح بالسماع من ابن عمرو ومن جابر وغيرهما ومن ذلك في الصحيحين. انظر: جامع التحصيل (ص/243). الرابعة: أخرجها الطبري في تاريخه (3/167)، والبلاذري في أنساب الأشراف (1/390)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/444) من طرق مختلفة عن الزهري. فجميع ما تقدم من الطرق المختلفة – عن الشعبي، وابن سيرين، وعمرو بن دينار، والزهري – تتفق في عدم ذكر الزيادة التي ذكرها الجرشي – التشكيك في نسب عمرو – فدل على أن هذه الزيادة لا أساس لها من الصحة. والله أعلم.
[379] (100).
[380] الطبقات لخليفة (1/25)، والاستيعاب لابن عبدالبر (3/266).
[381] (4/232).
[382] تهذيب الكمال (26/147).
[383] نسب قريش لمصعب الزبيري (1/18).
[384] المصدر نفسه (2/58).
[385] في صحيح مسلم (3/3220): قال ص:«أَرْبَعٌ في أمتي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ في الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ في الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ».
[386] (9/5127 )
[387] أخرجه أحمد (9) رقم(5027)، والترمذي: أبواب النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة. (2) رقم (1128) وابن ماجه: كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة (3/131) رقم (1953) واللفظ لأحمد، وابن ماجه، وصححه الألباني في المشكاة (2/220) رقم (3176).
[388] ابن سعد في الطبقات (1/61)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5534).
[389] السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون للحلبي (1/68).
[390] جاء اسم هذا اليهودي مصرحاً به عند الشافعي كما في ترتيب المسند (2/164)، وابن سعد في الطبقات (1/488)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/37) مرسلاً عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي ص: « رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظَفَر» وزاد البيهقي [في شعير] وعقَّبه البيهقي بقوله «هذا منقطع»، وانظر: التلخيص الحبير ( 3/81 ) وفتح الباري ( 5 / 174).
[391] كأنه رحمه الله أراد أصل الحديث فإنه جاء من حديث عائشة أخرجه البخاري: كتاب: البيوع، باب: شراء الإمام الحوائج بنفسه (3/61)، ومسلم: كتاب: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر كالسفر (3/ 1226). ولفظه عند البخاري: عن عائشة ل قالت: « اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ ص مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ».
[392] من حديث عائشة ل أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات(3) رقم(2053)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب الولد للفراش، وتوقي الشبهات(2) رقم (1457)، قال النووي في شرح مسلم (10/290) «قال العلماء: العاهر الزاني، وعهر زنى، وعَهِرَت زَنَت، والعهر الزنا، ومعنى له الحجر: أي الخيبة ولا حق له في الولد, وعادة العرب أن تقول: له الحجر وبفيه الأَثْلَبُ (وهو التراب) ونحو ذلك, يريدون ليس له إلا الخيبة.
[393] حكم شهادة الكفار للصنعاني (ص/36-38).
[394] تقدم (ص/60).
الشبهة الأولى: وصفه بالغدر.
الشبهة الثانية: اعترافه عند موته باتباع الهوى والركون إلى الدنيا
الشبهة الثالثة: الثروة التي خلفها بعد موته
شبهات تتعلق بعدالته
وهذا الأمر قد شاع وانتشر في كتب الطاعنين في عمرو بن العاص:
قال صاحب المعيار والموازنة: وإنما تراجع الناس إليه بعد الحكمين حين انكشف للناس غدر عمرو بن العاص[395].
وقال محسن الأمين: وبهذا انتهت مهزلة تحكيم الحكمين التي دبرها عمرو بن العاص وشرى دينه بإمارة مصر[396].
ومفاد ذلك ما ورد في قصة تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية.. روى نصر بن مزاحم في كتابه صفين عن عمر بن سعد قال: حدثني أبو جناب الكلبي، أن عمراً وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل أخذ عمرو يقدم عبد الله بن قيس في الكلام ويقول: إنك قد صحبت رسول الله ص قبلي وأنت أكبر منى فتكلم ثم أتكلم. وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في كل شيء وإنما اغتره[397] بذلك ليقدمه فيبدأ بخلع علي...قال: فأخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟ قال: رأيي أن أخلع هذين الرجلين علياً ومعاوية، ثم نجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من شاءوا ومن أحبوا. فقال له عمرو: الرأي ما رأيت... فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه فقال: إن رأيي ورأى عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة.
قال عمرو: صدق! ثم قال: يا أبا موسى فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال: ويحك، إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك فيتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت بعده، فإن عمراً رجل غدار، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك. وكان أبو موسى رجلاً مغفلاً فقال: إيها عنك إنا اتفقنا. فتقدم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يأيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر شيئاً هو أصلح لأمرها وألم لشعثها من ألا تتباين أمورها. وقد أجمع رأيي ورأى صاحبي عمرو على خلع على ومعاوية، وأن نستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين، فيولون أمورهم من أحبوا. وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتم لها أهلاً. ثم تنحى فقعد. وقام عمرو بن العاص مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة فإنه ولى عثمان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال له أبو موسى: مالك لا وفقك الله، قد غدرت وفجرت. وإنما مثلك مثل الكلب «إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» إلى آخر الآية. قال: فقال له عمرو: إنما مثلك مثل «الحمار يحمل أسفاراً» إلى آخر الآية...[398].
الجواب:
قصة تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية ش مشهورة ومبثوثة في كتب التاريخ والأدب[399]، ولعلاقتها بالتاريخ السياسي للدولة الإسلامية أخذت من الأهمية مكاناً، فكان لا بد من وضعها تحت المجهر للدراسة والتحليل، لاسيما أنه تطاول بعض من قرأها- متوهماً صحتها - للنيل من نجوم الأمة أصحاب رسول الله ص.
وهو القائل: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»[400].
وعند دراسة هذه القصة يتبين بطلانها وعدم ثبوتها من أربعة أوجه:
الوجه الأول- من جهة السند -: هذه القصة رواها نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين من طريق عمر بن سعد قال: حدثني أبو جناب الكلبي، أن عمراً وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل فذكره.
هذا الإسناد ضعيف جداً فيه أربع علل:
الأولى: نصر بن مزاحم المنقري صاحب الكتاب، متروك، قال أبو الفرج بن الجوزي:
«نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار قال أبو خثيمة: كان كذاباً، قال يحيى: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم الرازي: واهي الحديث، متروك الحديث، وقال الدراقطني: ضعيف، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان زائغاً عن الحق، وقال صالح بن محمد: روى عن الضعفاء أحاديث مناكير، وقال أبو الفتح الأزدي: كان غالياً في مذهبه غير محمود في حديثه»[401].
الثانية: شيخه عمر بن سعد، قال أبو حاتم: متروك الحديث[402].
الثالثة: أبو جناب الكلبي: يحيى بن أبي حية الكلبي أبو جناب مشهور بها ضعفوه لكثرة تدليسه[403].
الرابعة: الانقطاع، حيث يروي أبو جناب هنا قصة التحكيم، وهو قد توفي سنة خمسين ومائة في نفس السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة، ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي[404] فبينه وبين التحكيم بون شاسع.
وأخرج هذه الرواية الطبري تعليقاً[405] من طريق أبي مخنف عن أبي جناب الكلبي أن عمراً وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل.....ثم ذكر نحو القصة الأولى وفي آخره ثم انصرف عمرو وأهل الشأم إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي، وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية، وعمراً، وأبا الأعور السلمي، وحبيباً، وعبدالرحمن بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد، فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس والأشتر وحسناً وحسيناً.
وهذا الإسناد أيضاً ضعيف جداً لا يصح الاستشهاد به فيه علتان:
لوط بن يحيى أبومخنف، قال الذهبي: أخباري تالف، لا يوثق به[406].
وأبو جناب الكلبي: تقدم الكلام عليه في الإسناد الأول.
وللقصة طريق آخر:
أخرجه ابن سعد في الطبقات[407]، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق[408]:
أنا محمد بن عمر حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن عمرو بن الحكم قال: لما التقى الناس بدومة جندل، فذكر نحوه وفيه، فقال سعد بن أبي وقاص: ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكائده! فقال أبو موسى: فما أصنع، جامعني على أمر ثم نزع عنه.
هذا السند ضعيف جداً فيه ثلاث علل:
العلة الأولى: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي المدني القاضي نزيل بغداد متروك مع سعة علمه. قاله الحافظ ابن حجر[409].
العلة الثانية: شيخه: أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى القرشي العامري المدني قيل: اسمه عبد الله، وقيل: محمد، وقد ينسب إلى جده.
قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء، كان يضع الحديث.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال أبو أحمد بن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث[410].
وقال الحاكم: يروي الأحاديث الموضوعات عن الشيوخ الأثبات مثل هشام بن عروة وجعفر بن محمد الصادق وغيرهما[411].
العلة الثالثة: شيخ ابن أبي سبرة: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة.
قال ابن سعد: وكان إسحاق كثير الحديث يروي أحاديث منكرة ولا يحتجون بحديثه.
وقال بقية بن الوليد عن عتبة بن أبي حكيم: جلس إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة بالمدينة في مجلس الزهري قريباً منه فجعل يقول: قال رسول الله ص قال رسول الله ص فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله ألا تسند أحاديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا محمد بن عاصم بن حفص المصري وكان من ثقات أصحابنا وفي رواية وكان من أهل الصدق قال: حججت ومالك حي، فلم أر أهل المدينة يشكون أن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متهم، قلت له فيما ذا؟ قال في الإسلام وفي رواية على الدين.
وقال البخاري: تركوه.
ونهى أحمد بن حنبل عن حديثه.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل عندي الرواية عن إسحاق بن أبي فروة، وقال: ما هو بأهل أن يحمل عنه ولا يروى.
وقال يحيى بن معين: كذاب، وقال مرة: حديثه ليس بذاك. وقال مرة: لا يكتب حديثه ليس بشيء.
وقال على بن المديني: منكر الحديث.
وقال محمد بن عبد الله بن عمار: ضعيف ذاهب.
وقال عمرو بن علي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: متروك الحديث.
وقال أبو بكر بن خزيمة: لا يحتج بحديثه، وقال الدارقطني والبرقاني: متروك.
وقال أبو أحمد بن عدي ما ذكرت ها هنا من أخباره بالأسانيد التي ذكرت فلا يتابعه أحد على أسانيده ولا على متونه، وسائر أخباره مما لم أذكره تشبه هذه الأخبار التي ذكرتها، وهو بين الأمر في الضعفاء[412].
قال ابن حجر: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة الأموي مولاهم المدني متروك[413].
فتبين لك أخي الكريم أن الطريقين السابقين لايثبت منهما شيء، ولا يصح أيضاً الاستشهاد بهما.
الوجه الثاني- من جهة المتن -: وبعد ما تبين لك بطلان هذه القصة من جهة سندها لتعلم أن ثم أموراً في ثنايا القصة تدل على بطلانها واصطناعها، وأنها بعيدة عن الواقع والحقيقة، منها:
أولاً: من خلال النظر في سياق القصة تجد أن صورة الكلام فيها يتنافى مع أخلاقيات آحاد المسلمين فضلاً عن الصحابة الأخيار ش، ثم إن سردها بهذه الهيئة لا يتناسب مع صفات الصحابة وأخلاقهم الرفيعة.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في العواصم من القواصم: قد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله، وإذا لحظتموه بعين المروءة دون الديانة رأيتم أنها سخافة حمل على تسطيرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين...هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك؛ فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع.. ثم ذكر أن الذي رواه الأئمة الثقات الأثبات كخليفة بن خياط والدارقطني أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر عزل عمرو معاوية اهـ ملخصاً[414].
ثانياً: المتأمل في القصة يرى أن الخلاف الدائر بين علي ومعاوية هو حول الخلافة ومن هو أحق بها، وليس هذا هو الخلاف، إنما الخلاف الحقيقي المعروف والمتفق عليه بين جميع المؤرخين كان سببه أخذ القصاص من قتلة عثمان س، فقد ظن معاوية س أن علياً س قد قصّر فيما يجب عليه من القصاص لعثمان بقتل قاتليه، ومن ثمّ رفض بيعته وطاعته؛ إذ رأى القصاص قبل البيعة لعلي س، وهو وليّ الدم؛ لقرابته من عثمان.
وبموقف معاوية هذا في الامتناع عن البيعة انتظاراً للقصاص من قتلة عثمان، ولعدم إنفاذ أوامره في الشام أصبح معاوية س ومن تبعه من أهل الشام في نظر علي سفي موقف الخارجين على الخلافة؛ إذ كان رأيه أن بيعته قد انعقدت برضاء من حضرها من المهاجرين والأنصار بالمدينة، ولزمت بذلك بقية المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية. ولذلك رأى أن معاوية ومن معه من أهل الشام بُغاة خارجون عليه، وهو الإمام منذ بُويع بالخلافة، فقرّر أن يُخضعهم ويردّهم إلى حظيرة الجماعة ولو بالقوة.
وفهم الخلاف على هذه الصورة - وهي صورته الحقيقية - يبين إلى أي مدى تخطئ الرواية السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين. إن الحكمين مفوضان للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية ب، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان س، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع، ولم يُحيطا بموضوع الدعوى، وهو أمر مستبعد جداً[415].
يقول ابن حزم في هذا الصدد: بأن علياً قاتل معاوية لامتناعه من تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية سقط فضل عليّ س واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أَدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص؛ لسنّه وقوته على الطلب بذلك، وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط[416].
ويؤيد هذا المعنى عدة أمور منها:
1- ما ذكره يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في كتاب صفين في تأليفه عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا، وأني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه، فأتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك[417].
2- ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن موسى بن قيس، قال: حدثني قيس بن رمانة، عن أبي بردة، قال: قال معاوية: «ما قاتلت علياً إلا في أمر عثمان»[418].
3- ما أورده الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي، في كتابه نهج البلاغة: أن أمير المؤمنين علي س قال في خطبته «وبدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء...»[419].
ثالثاً: شخصية كل من أبى موسى الأشعري وعمرو بن العاص ب:
إن القول بأن أبا موسى الأشعري كان في قضية التحكيم ضحية خديعة عمرو بن العاص ينافي الحقائق التاريخية الثابتة عن فضله وفطنته وفقهه ودينه، والتي تثبت له بتوليه بعض أعمال الحكم والقضاء في الدولة الإسلامية منذ عهد رسول الله ص.
فقد كان عامل النبي ص على زَبيد وعدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي ص قدم المدينة وشهد فتوح الشام ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغيرة، وهو الذي افتتح الأهواز وأصبهان، وأقره عثمان على عمله قليلاً، ثم صرفه، واستعمل عبد الله بن عامر، فسكن الكوفة وتفقه به أهلها حتى استعمله عثمان عليهم بعد عزل سعيد بن العاص[420]. فهل يُتصوّر أن يثق رسول الله ص ثم خلفاؤه من بعده برجل تجوز عليه مثل هذه الخدعة التي ترويها قصة التحكيم؟. هذا وقد شهد الصحابة[421] وكثير من علماء التابعين لأبي موسى س بالرسوخ في العلم، والكفاءة في الحكم، والفطنة والكياسة في القضاء. فكيف يمكن تصور غفلته إلى هذا الحد؟.. فلا يفقه حقيقة النزاع الذي كُلّف بالحكم فيه، ويصدر فيه قراراً لا محلّ له، وهو قرار عزل الخليفة الشرعي بدون مبرّر يسوغ هذا الفعل، وقرار عزل معاوية المزعوم، ثم يقع منه ومن عمرو بن العاص ما نُسب إليهما من السبّ والشتم، وهو أمر يتعارض مع ما عُرف وتواتر عن الصحابة رضوان الله عليهم من حسن الخلق وأدب الحديث.
وإذا كان علم أبي موسى س وخبرته في القضاء يحولان بينه وبين أن يخطئ الحكم في القضية التي أُوكل إليه النظر في أمرها، فإن ذلك أيضاً هو شأن عمرو بن العاص س الذي يُعتبر من أذكياء العرب وحكمائهم، وقد أمره رسول الله ص أن يقضي بين خصمين في حضرته، وبشّره حين سأله: يا رسول الله أقضي وأنت حاضر؟ بأن له إن أصاب أجران وإن أخطأ أجر واحد حين قال له: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ له أجر[422].
وقبول تلك الرواية يعني الحكم على عمرو بن العاص س بأنه كان في أداء مهمته رجلاً تُسيّره الأهواء، فتطغى لا على فطنته وخبرته فحسب، بل على ورعه وتقواه أيضاً. على أنه س كان من أجلاء الصحابة وأفاضلهم، ومناقبه وفضائله كثيرة[423].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأمثالهم من المؤمنين؛ لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق؛ بل قد ثبت في الصحيح أن «عمرو بن العاص لما بايع النبي ص قال: على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال: يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» ومعلوم أن الإسلام الهادم هو إسلام المؤمنين؛ لا إسلام المنافقين. وأيضاً فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجراً إلى النبي ص بعد الحديبية، هاجروا إليه من بلادهم طوعاً لا كرهاً، والمهاجرون لم يكن فيهم منافق؛ وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار؛ وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة؛ فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقاً؛ لعز الإسلام وظهوره في قومهم. وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفاراً فلم يكن يظهر الإيمان إلا من هو مؤمن ظاهراً وباطناً؛ فإنه كان من أظهر الإسلام يؤذى ويهجر»[424].
رابعاً: ذكر ابن جرير في فاتحة هذه الأسطورة أن عمراً قال لأبي موسى: ألست تعلم أن معاوية وآله أولياء عثمان؟ قال: بلى، قال: فإن الله عز وجل قال: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا﴾وكلاماً كثيراً بعده في استحقاق معاوية للخلافة، فأجابه أبو موسى عن جله جواباً شافياً ولم يجبه عن احتجاجه بالآية، وكأنه سلمه، والاحتجاج بها على خلافة معاوية فاسد من أوجه كثيرة لا حاجة لذكرها كلها؛ منها أنه تعالى قال: ﴿فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا﴾ فأي إسراف ونصر حصلا له في جيش أمير المؤمنين وقد قتل من جيشه الطالب بدم عثمان خمسة وأربعون ألفاً على أقل تقدير، ومن جيش حيدرة خمسة وعشرون ألفاً؟ وأي إسراف ونصر حصلا له وقد أشرف على الهزيمة الكبرى ولولا المصاحف لهلك جل جيشه؟!
فهذا جهل فادح ممن يحتج بها على ذلك، فمحال صدوره من عمرو وهو من علماء الصحابة، ومحال تسليمه - ولو صدر منه - من أبي موسى الأعلم منه[425].
خامساً: لا يخلو قول عمرو فيما زعموا عليه ( وأثبت صاحبي معاوية ) من أمرين:
الأول: ثبته في الخلافة كما كان أولاً، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت، وهو باطل قطعاً؛ فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبته حَكمه فيها بعده، ولم يدعها هو لا قبله ولا بعده، ولم ينازع حيدرة فيها.
الثاني: ثبته على إمارة الشام كما كان قبل، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية، وهو تحصيل الحاصل، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئاً جديداً لم يكن له من قبل؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟[426].
سادساً: ما نقصت هذه الخديعة لو صحت مما كان لأمير المؤمنين عند أتباعه شيئاً، وما أفادت معاوية شيئاً جديداً زائداً عما كان له حتى يصح أن يقال فيها: إن فلاناً داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي ص من هذا العبث[427].
سابعاً: في رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: فقال سعد بن أبي وقاص: ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكائده! فقال أبو موسى: فما أصنع جامعني على أمر ثم نزع عنه.
فهذا يدل على بطلان هذه القصة لأن سعد بن أبي وقاص لم يحضر التحكيم أصلاً كما ذكره ابن جرير في تاريخه[428]، ورجحه ابن مزاحم في وقعة صفين[429]، وابن كثير في البداية[430]، والذهبي في كتب السير، وغيرهم، واعتزال سعد للفتنة أمر ثابت ومشهور في كتب التاريخ[431].
ثامناً: قول عمرو لأبي موسى: أنت أكبر مني، وفي رواية أسن مني، مخالف للواقع؛ فأبو موسى توفي ما بين سنة «44-52» هجرية، وسنه بضع وستون سنة، فكيف يكون أكبر من عمرو الذي كان عمره أثناء التحكيم فوق الثمانين؟![432].
الوجه الثالث: وردت روايات أخرى بعضها في البخاري تنقل لنا الصورة الحقيقية التي تتناسب مع شخصيات الصحابة وأخلاقهم، وفيها: أنهم تواعدوا للصلح في السنة المقبلة، فجاء معاوية وأهل الشام، وشغل علي سبالخوارج، فأرسل ابن عباس س وكان الحكم من قبله أبي موسى ومن الطرف الآخر عمرو بن العاص ب، فاختلفا ولم يصطلحا وتفرقوا ولم يحصل خلع لأحد الطرفين كما في الروايات السابقة. وإليك هذه الروايات لتعلم مدى الخلل في الرواية السابقة:
1- قال أبو جعفر[433]: فكتب كتاب القضية بين علي ومعاوية – فيما قيل – يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان، مع كل واحد منهما أربعمائة من أصحابه وأتباعه.
فحدثني عبد الله بن أحمد، قال حدثني أبي قال حدثني سليمان بن يونس بن يزيد عن الزهري قال: قال صعصعة بن صوحان يوم صفين حين رأى الناس يتبارون: ألا اسمعوا واعقلوا تعلمن والله لئن ظهر علي ليكونن مثل أبي بكر وعمر ب، وإن ظهر معاوية لا يقر لقائل بقول حق. قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد ص، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل[434]، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح[435]. فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت وكان ذلك أول ما ظهرت فآذنوه بالحرب وردوا عليه إن حكم بني آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشام، وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا،... فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص يا أبا موسى رأيت أول ما تقضي به من الحـق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال: أبو موسى وما ذاك قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه، قال: بلى، قال عمرو: اكتبها، فكتبها أبو موسى قال عمرو: يا أبا موسى أأنت على أن نسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمة فسمه لي فإن أقدر على أن أتابعك فلك علي أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني، قال أبو موسى: أسمي لك عبدالله بن عمر، وكان ابن عمر فيمن اعتزل، قال عمرو: إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان، فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا ثم خرجا إلى الناس... فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو مثل الذين قال الله عز وجل: ﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا﴾، فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال عز وجل:﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ﴾، وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار.
قال ابن شهاب فقام معاوية عشية في الناس فأثنى على الله جل ثناؤه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فمن كان متكلماً في الأمر فليطلع لنا قرنه، قال ابن عمر: فأطلقت حبوتي فأردت أن أقول قولاً يتكلم فيه رجال قاتلوا أباك على الإسلام، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة، أو يسفك فيها دم، أو أحمل فيها على غير رأي، فكان ما وعد الله عز وجل في الجنان أحب إلي من ذلك، فلما انصرف إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت الرجل يتكلم، قلت: أردت ذلك ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين جميع، أو يسفك فيها دم، أو أحمل فيها على غير رأي، فكان ما وعد الله عز وجل من الجنان أحب إلي من ذلك. قال: قال حبيب: فقد عصمت.
سليمان بن يونس بن يزيد لم أجد له ترجمة، ولم أجد له رواية في كتب السنن والمسانيد، ولم أجد له رواية كذلك في تاريخ الطبري عدا هذه الرواية.
والزهري ولد في آخر خلافة معاوية على خلاف بين العلماء في تحديد سنة ولادته بين خمسين إلى سنة ثمانٍ وخمسين[436]، ومات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح[437]، وصعصعة أدرك خلافة يزيد بن معاوية قاله البخاري[438] وكذا ابن عساكر[439] وقال الحافظ: مات في خلافة معاوية[440]، وقال الزركلي: مات سنة ستة وخمسين[441].
فعلى القول بأن الزهري ولد سنة خمسين، وأن صعصعة أدرك خلافة يزيد يكون السماع محتملاً؛ لكن الزهري مدلس ولم يصرح بالسماع فلا تقبل روايته إلا إذا صرح، وعلى كل هذه الرواية أوردناها استئناساً فهي على ضعفها مقدمة على رواية أبي مخنف وأضرابه.
2- أخرج ابن عساكر[442] من طريق الأسود بن شيبان عن عبدالله بن مضارب عن حضين بن المنذر قال: لما عزل معاوية عمرو بن العاص عن مصر ضرب فسطاطه[443] قريباً من فسطاط معاوية ثم جعل يتزبع[444] له، يقول معاوية قال فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره فائته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع هو وأبو موسى فيه، كيف صنعا؟ قال: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي اجتمعتما فيه أنت وأبو موسى، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس، ولا والله ما كان قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذي توفي رسول الله ص وهو عنهم راض. قال فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطال ما استغنى أمر الله عنكما، قال فكانت هذه هي التي نحيل[445] منها معاوية نفسه، قال: فبعث إلى أبي الأعور الذكواني فأتاه في خيله قال فبعثه إلى عمرو وهو يقول: أين عدو الله، أين هذا الفاسق مرتين قال فلما رأى عمرو أنه إنما يريد حوباء[446] نفسه عمد إلى فرس له مشدود بطنب الفسطاط، فرفع رفرف الفسطاط وركبه عرياً، ثم ركضه إلى فسطاط معاوية، وجعل يقول: يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة[447] قال يقول معاوية نعم وقد يزين الحالب فيدق أنفه ويكفأ إناه[448] قال ثم أمر بالأعور فوزع عنه نقول رد عنه.
عبد الله بن مضارب قال ابن حجر: عداده في صغار التابعين لا يعرف[449].
وقال في التقريب[450]: صوابه عبيد الله بن مضارب، مقبول. والمراد بمقبول يعني حيث يتابع، وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة.
3- أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر س قال: دخلت على حفصة ونسواتها تنطف[451] قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية[452] قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟
قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام؛ فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت[453]. وهذه الرواية تؤكد لنا ماتقدم في رواية الزهري عن صعصعة وما أخرجه ابن عساكر عن حضين- وهي أحسن الطرق الضعيفة -، وأنه لم يحضر علي لشغله بالخوارج، وأنه لم يكن من عمرو س خلع لأمير المؤمنين وتثبيت لمعاوية كما ينسب إليه. بل سياقها موافق للأصول ولا نكارة فيها، فكيف نقدم رواية الخلع وهي أشد ضعفاً بل لا تتوافق مع صفات الصحابة وأخلاقهم؟ فتبين بهذا أن قضية خلع علي وتثبيت معاوية في قصة التحكيم لا تثبت؛ لعدم صحة سندها، وأنها مختلقة ومصطنعة.
الوجه الرابع: قضية الخلع ثبوتها مستحيل لما تقدم لكن إن أبيت إلا ثبوتها فماذا تبني عليها؟ هل تطيب نفسك بالوقوع في أصحاب رسول الله ص!؛ لا بد لنا أن نعرف للصحابة مكانتهم وفضلهم، وأن نحبهم ونترضى عنهم؛ لنصرتهم هذا الدين بأنفسهم وأموالهم. ومع ذلك لا نعتقد عصمتهم عن كبائر الإثم ولا عن الصغائر، ولكن نحفظ ألستننا من النيل والتعرض لهم، ونقول: إن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة هذه الذنوب. ونقول: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾، ونتذكر قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيم﴾[454].
وذكرت هذا- الوجه الخامس- تنزلاً وإلا كما علمت مما تقدم أخي الكريم عدم ثبوت قضية خلع أمير المؤمنين علي س وتثبيت معاوية س في قصة التحكيم، فسندها مظلم غير قويم، ومتنها منكر غير مستقيم. وكما يقال: الحق أبلج والباطل لجلج.
وهنا قصة أخرى يذكرون فيها مكر عمرو س، وذلك أنه وشى بعمارة بن الوليد عند النجاشي لما تعرض لزوجته، فأمر النجاشي السحرة بنفخ إحليله[455] فهام مع الوحوش حتى مات.
ومفاد ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه[456]، وعبد بن حميد في مسنده[457]، والروياني في مسنده[458] كلهم من طريق عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: أمرنا رسول الله ص أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، قال: فبلغ ذلك قومنا، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد....
قال: وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً، قال: فأقبلا في البحر إلى النجاشي، قال: فشربوا، قال: ومع عمرو بن العاص امرأته، فلما شربوا الخمر قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحيي، فأخذ عمارة فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشده حتى أدخله السفينة، فحقد عليه عمرو ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلف عمارة في أهلك، قال: فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله فصار مع الوحش.
قال البوصيري: هذا إسناد رواته ثقات[459].
ولكن هذه القصة قد وردت في آخر هذا الخبر وقد انفرد بذكرها عبيد الله بن موسى وهو مدار هذا الإسناد، والرجل وإن كان ثقة إلا أنه متهم على أصحاب النبي ص، فقد نسبه أبو داود ويعقوب بن سفيان والساجي إلى الإفراط في الغلو.
وقال أبو الحسن الميموني: وذكر عنده – يعني: عند أحمد بن حنبل – عبيد الله بن موسى، فرأيته كالمنكر له، قال: كان صاحب تخليط، وحدث بأحاديث سوء، أخرج تلك البلايا فحدث بها. قيل له: فابن فضيل؟ قال: لم يكن مثله، كان أستر منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الردية.
وقال الجوزجاني: عبيد بن موسى أغلى، وأسوء مذهباً، وأروى للعجائب.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله. قلت: يجري عندك ابن فضيل مجرى عبيد الله بن موسى؟ قال: لا، كان ابن فضيل أستر، وكان عبيد الله صاحب تخليط، وروى أحاديث سوء.
ولذا قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان عبيد الله بن موسى في نفسه صدوقاً روى عنه البخاري لكنه معروف بالغلو، فكان لغلوه يروي عن غير الثقات ما يوافق هواه، كما روى عن مطر بن ميمون هذا، وهو كذب، وقد يكون علم أنه كذب ذلك، وقد يكون لهواه لم يبحث عن كذبه[460].
وعليه فالتردد واقع في صحة الرواية من جهة تفرد عبيد الله بن موسى بها مع ما عرف من غلوه، وعلى التسليم بصحة الخبر يقال: الجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
*الوجه الأول: ذكر في القصة أن عمارة أراد قتله وانتهاك عرضه، وقد نجا من كيده ولا يأمنه حين العودة إلى مكة فدفع عن نفسه بطريقة لا يعود بها على قومه بشر.
*الوجه الثاني: لو لم تسلم لما تقدم فلتعلم أن هذا كان قبل الإسلام، وكما هو معلوم أن الإسلام يجب ما قبله، وقد أسلم وأثنى عليه النبي ص، وولاه بعض الأعمال كما تقدم[461].
تنبيه:
1-في بعض الروايات الضعيفة[462] أن عماراً بعد أن شرب الخمر وانتشى قال لعمرو: مر أهلك فلتقبلني فأمرها فقبلته، وهذه الرواية على ضعفها فيها نكارة في المتن؛ وذلك لما هو معلوم من غيرة العرب ودفنهم للبنات وهم أحياء، قال تعالى مبيناً حالهم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ٥٨ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾[463].
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ٨ بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ﴾[464].
2-ذكر السهلي في الروض الأنف[465]: أن عمراً سافر بامرأته، فلما ركبوا البحر وكان عمارة قد هوي امرأة عمرو وهويته، فعزما على دفع عمرو، أو كان ذلك من عمارة على غير قصد فدفع عمراً.
وهذا أيضاً لا يصح، ومخالف للرواية الصحيحة، وإن كانت المرأة هي أم عبد الله؛ فقد أسلمت، وقد روي أن النبي ص قال فيها وفي أهل بيتها: نعم أهل البيت عبد الله وأم عبد الله[466].
3-استشكل بعضهم موت عمارة بن الوليد في الحبشة وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم النبي ص في مكة لما رموا سلى الجزور[467] على ظهره وهو ساجد، وقد قال ابن مسعود: فو الذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله ص صرعى في القليب قليب بدر[468] ويجاب عن هذا الاستشكال بما ذكره ابن حجر: أن كلام ابن مسعود في أنه رآهم صرعى في القليب محمول على الأكثر، ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يطرح في القليب وإنما قتل صبراً بعد أن رحلوا عن بدر مرحلة، وأمية بن خلف لم يطرح في القليب كما هو بل مقطعاً[469].
[395] المعيار والموازنة ص(196-197).
[396] أعيان الشيعة (1/517)، وانظر أيضاً الغدير للأميني (10/336).
[397] هكذا في كتاب وقعة صفين، وفي تاريخ الطبري اغتزى.
[398] وقعة صفين (1/544-545)، شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد (1/255-256).
[399] كتاريخ الطبري (5/71)، وتاريخ دمشق (46/172)، والعقد الفريد لابن عبد ربه (93-94)، ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري (20/156).
[400] تقدم تخريجه (ص/17).
[401] الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3 / 160).
[402] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/112).
[403] التقريب لابن حجر (7537).
[404] تاريخ مولد العلماء ووفياتهم لسليمان الربعي (1/351).
[405] تاريخ الطبري (5/71).
[406] تقدم (ص/38).
[407] (4/256).
[408] (46/172).
[409] التقريب (6175).
[410] تهذيب الكمال للمزي (33/106).
[411] سؤالات السجزي (ص/153).
[412] تهذيب الكمال للمزي (2/446).
[413] التقريب رقم (368).
[414] العواصم من القواصم (ص/179).
[415] تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون (2 /224 ).
[416] الفصل في الملل والنحل لابن حزم (4/160).
[417] فتح الباري (13/86) وجود إسناده الحافظ.
[418] المصنف (11/92).
[419] شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد (17/141).
[420] الإصابة لابن حجر (4/120).
[421] منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب س، عن أنس قال: « بعثني الأشعري إلى عمر فقال لي عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن، فقال: أما إنه كيس، ولا تسمعها إياه، ومدحه علي س عنه بقوله صبغ في العلم صبغة. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 345-346). ويكفي أن يصفه بالفطنة والذكاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب س الرجل الملهم، الذي وافقه الله في بعض آي الكتاب، فكيف وقد ثنّى بمدحه أمير المؤمنين علي س بقوله صبغ في العلم صبغة».
[422] أخرجه الحاكم في مستدركه (4) رقم (7004) من طريق فرج بن فضالة، عن محمد بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رجلين اختصما إلى النبي ص فذكره، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وقال الذهبي: فرج ضعفوه.
[423] تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون (2 /226-230) باختصار.
[424] مجموع الفتاوى (35 / 62)
[425] تحذير العبقري من محاضرات الخضري (2/89).
[426] المصدرالسابق (2/90).
[427] المصدر نفسه.
[428] (3/111).
[429] (1/538).
[430] (10/573).
[431] (1/122).
[432] انظر: تهذيب الكمال للمزي (15/452)، ومن مشاهير الصحابة، علي الشحود (ص/213).
[433] تاريخ الطبري (5/57).
[434] «دُومَةُ الجَنْدَلِ» حصن بين مدينة النبي ص وبين الشام وهو أقرب إلى الشام، وهو الفصل بين الشأم وبين العراق وداله مضمومة والمحدثون يفتحون قال ابن دريد: الفتح خطأ. المصباح المنير للفيومي(1/277).
[435] أذرح بحاء مهملة وزن أذرع مدينة تلقاء الشراة من أدانى الشام. معجم مااستعجم للبكري (1/130).
[436] تهذيب الكمال للمزي (26/440).
[437] الإصابة لابن حجر (6/114).
[438] التاريخ الكبير للبخاري (4/319).
[439] تاريخ دمشق لابن عساكر (24/85).
[440] التقريب رقم (2927).
[441] الأعلام (3/205).
[442] تاريخ دمشق (46/175).
[443] الفسطاط: هو الخيمة. الفتح (3/383).
[444] في تاريخ ابن عساكر (يتربع)، و صوابه يتزبع كما في بعض مصادر شروح الحديث، وبعض كتب اللغة ومعناه التغيظ، والمدمدم في غضب. انظر غريب الحديث لابن سلام (4/163)، ولسان العرب (8/140).
[445] كذا في تاريخ دمشق طبعة دار الفكر، وأشار المحقق إلى أن رسمها هكذا في الأصل وفي م: بخيل، وفي العواصم من القواصم: فتل كما في طبعة الأوقاف(1/178)، وقتل كما في طبعة دار الجيل(1/180).
[446] في تاريخ دمشق (حربا) قال المحقق: كذا بالأصل وم.اهـ والمثبت من العواصم والقواصم لابن العربي (ص/179)، والنهاية لابن الأثير (1/ 1075) قال ابن الأثير: الحَوْباءُ: روح القَلْب وقيل هي النَّفْس.
[447] في تاريخ ابن عساكر إن الصخور قد تحتلب العلية، والمثبت هو الصواب. الناقة الضجور هي التي ترغو عند الحلب، والعلبة: قدح من جلد الإبل أو من الخشب يصنع للحلب فيه كالقصعة. والمعنى أن الناقة الضجور قد تحلب بسهولة ولين وتملأ العلبة. ويضرب مثلا في أنك قد تصيب اللين من السيء الخلق. ويضرب أيضا للذي يَتَعْصِي ويَخْرُج عن الطَّاعة، وكذلك يضرب للبخيل يستخرج منه المال على بخله كما أن الناقة الضَّجُورَ قد يُنال من لبنها. انظر المخصص لابن سيده (2/148)، النهاية لابن الأثير (2/244-245)، اللسان (4/481).
[448] في تاريخ ابن عساكر أباه والمثبت يقتضيه السياق.
[449] اللسان (3/363).
[450] رقم (4340).
[451] قال ابن حجر: قوله ونسواتها بفتح النون والمهملة قال الخطابي كذا وقع وليس بشيء وإنما هو نوساتها أي ذوائبها ومعنى تنطف أي تقطر كأنها قد اغتسلت والنوسات جمع نوسة. الفتح (7/403) قال ابن الأثير: فسمَّى الذّوائب نَوْساتٍ لأنها تَتَحرّك كثيراً. النهاية (5/267)
[452] قال ابن حجر: قوله: فلما تفرق الناس: أي بعد أن اختلف الحكمان وهما أبو موسى الأشعري وكان من قبل علي وعمرو بن العاص وكان من قبل معاوية ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر هذا الحديث فلما تفرق الحكمان وهو يفسر المراد ويعين أن القصة كانت بصفين، وجوز بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، ورواية عبد الرزاق ترده ..... ثم ذكر ابن حجر: قول ابن الجوزي في كشف المشكل: بأن هذا كان في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده. وعقب عليه بقوله: كذا قال ولم يأت له بمستند، والمعتمد ما صرح به رواية عبد الرزاق، ثم وجدت في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدومة الجندل قالت حفصة إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد وأنت صهر رسول الله وابن عمر بن الخطاب قال فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم فقال من يطمع في هذا الأمر أو يرجوه أو يمد إليه عنقه الحديث أخرجه الطبراني. فتح الباري (7/403)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/208): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات والظاهر أنه أراد صلح الحسن بن علي، ووهم الراوي. = = والصحيح أنه ليس وهماً، بل كانت خطبته لما تفرق الحكمان كما تقدم في رواية عبد الرزاق، وقد رواها عبد الرزاق في مصنفه (5/465) من طريق معمر عن الزهري: عن سالم، عن ابن عمر ومن طريق معمر أيضاً عن ابن طاوس، عن عكرمة ابن خالد، عن ابن عمر وهو نفس الإسناد الذي ساقه البخاري ولكن من طريق هشام ابن يوسف عن معمر. وعبد الرزاق الصنعاني أوثق من هشام، فعبد الرزاق ثقة حافظ، وهشام ثقة. كما في التقريب رقم (4064)، (7309). وعبد الرزاق أوثق أيضاً في معمر بن هشام، قال ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر عن هشام بن يوسف وكان هشام في ابن جريج أقرأ للكتب، وقال علي بن المديني قال لي هشام بن يوسف وكان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. تهذيب التهذيب (6/312)، قال ابن عسكر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرزاق، وقال يعقوب بن شيبة: عبد الرزاق مثبت في معمر، جيد الاتقان. شرح علل الترمذي (2/706). ووقع عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (31/182) رواية أخرى تعضد رواية عبد الرزاق، قال أخبرنا أ[و طالب علي بن عبد الرحمن أنبأ أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي أنا أبو محمد بن النحاس أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي نا أبو يحيى زكريا بن يحيى الناقد نبأ صالح بن عبد الله الترمذي نا محمد بن الحسن عن العوام ابن حوشب عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر قال: لما كان أمر الحكمين قالت لي حفصة إنه لا يجمل بك إلا الصلح يصلح الله بك بين هذه الأمة وذكر نحوه، وهذا سند رجاله ثقات، ومحمد بن الحسن هو ابن عمران المزني الواسطي القاضي أصله شامي ثقة كما في التقريب رقم (5818)، والعوام ابن حوشب هو: ابن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي ثقة ثبت فاضل كما في التقريب رقم (5211)، وجبلة ابن سحيم كوفي ثقة روايته عن ابن عمرو في الصحيحين كما في تهذيب الكمال (4/498). وقد أيد قول ابن حجر العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (17/185)، وهو المشهور في كتب التاريخ كتاريخ الطبري (5/58)، وتاريخ ابن عساكر (31/183)، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/553)، لعل من جوز أن يكون في طريق أبي معاوية؛ استند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/471) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن حبيب، عن هزيل بن شرحبيل، قال: خطبهم معاوية فقال: يا أيها الناس، إنكم جئتم فبايعتموني طائعين؛ ولو بايعتم عبداً حبشياً مجدعاً لجئت حتى أبايعه معكم، فلما نزل عن المنبر قال له عمرو بن العاص: تدري أي شيء جئت به اليوم؟ زعمت أن الناس بايعوك طائعين، ولو بايعوا عبداً حبشياً مجدعاً لجئت حتى تبايعه معهم، قال: فندم فعاد إلى المنبر فقال: أيها الناس، وهل كان أحد أحق بهذا الأمر مني، وهل هو أحد أحق بهذا الأمر مني، قال: وابن عمر جالس، قال: فقال ابن عمر: = =هممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من ضربك وأباك عن الإسلام، ثم خفت أن تكون كلمتي فساداً؛ وذكرت ما أعد الله في الجنان، فهون علي ما أقول، وهذا الإسناد ضعيف فإن حبيب بن أبي ثابت كثير الإرسال والتدليس من الطبقة الثالثة فلا يقبل حديثه حتى يصرح بالحديث. انظر: التقريب رقم (1084)، وطبقات المدلسين لابن حجر (ص/38)، ولو سلم بصحته لما حمل إلا على تكرر الحادثة لا على الوهم.
[453] البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق (4) رقم (3882).
[454] وانظر: للمزيد تمهيد الرسالة.
[455] الإحليل يقع على ذكر الرجل وفرج المرأة، والمعنى: أنه سُحر حتى جُن فصار يعدو مع الوحش في البرية حتى مات. النهاية في غريب الأثر (1/1035)، (5/347).
[456] (7/350).
[457] ص(193).
[458] (1/331).
[459] اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (5/29).
[460] منهاج السنة (7/356) بتصرف.
[461] ص(128).
[462] انظر: السيرة لابن إسحاق (2/148).
[463] سورة النحل الآية (58-59).
[464] سورة التكوير الآية (8-9).
[465] عزاه السهلي- في الروض الأنف (2/107)- لأبي الفرج الأصبهاني، وقد وجدت في كتاب الأغاني (9/69) فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص قبليني فقال لها عمرو قبلي ابن عمك فقبلته وحذر عمرو على زوجته فرصدها ورصدته فجعل إذا شرب معه أقل عمرو من = =الشراب وأرق لنفسه بالماء مخافة أن يسكر فيغلبه عمارة على أهله، وجعل عمارة يراودها على نفسها فامتنعت منه. وليس فيه بأنها هويته، ثم أيضاً في إسناده علتان، الأولى: الواقدي: متروك. وقد تقدم الكلام عليه ص(202)، والثانية: أبو عون: لعله ابن أبي حازم، قال أبو زرعة: مديني لا نعرفه. ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل قال: روى عن عبد الله بن الزبير روى عنه عبد الله بن جعفر المخرمي (9/414).
[466] تقدم (ص104).
[467] الجزور من الإبل ما يجزر أي يقطع وهو بفتح الجيم والسلى مقصور بفتح المهملة هي الجلدة التي يكون فيها الولد يقال لها ذلك من البهائم وأما من الآدميات فالمشيمة وحكى صاحب المحكم أنه يقال فيهن أيضاً سلى. فتح الباري لابن حجر (1/377).
[468] أخرجه البخاري (1/94)، ومسلم (3/1418)، والقَلِيب: البئر التي لم تطو ويذكر ويؤنث: النهاية في غريب الأثر (4/151).
[469] فتح الباري (1/351).
وذلك لما ذكروه عن ابن عساكر بأنه ذكر في ترجمة عمرو بن العاص أخبار كثيرة بأنه لما كشف له الغطاء، ورأى ما أعد الله له ببصر حديد أظهر الندامة، وبكى بكاء طويلاً[470].
من ذلك: ما روي عن عبد الله بن عباس س أنه قال: «دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر فقلت: يا أبا عبد الله، كنت تقول: أشتهي أنى أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف تجد؟. قال: أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما، وأراني كأنما أتنفس من خرق إبرة، ثم قال: لا برئ فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله، فجعل يرددها حتى فاض.
وما روي عَنِ ابْنِ شَمَاسَةَ الْمَهْرِىِّ أنه قَالَ حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ في سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِكَذَا؟ قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ. فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّى قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ[471] ثَلاَثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ ص مِنِّى وَلاَ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ في قلبي أَتَيْتُ النبي ص فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَال: فَقَبَضْتُ يدي. قَال: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو». قال: قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قال: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا». قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لي. قَالَ «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ». وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَلاَ أَجَلَّ في عيني مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عيني مِنْهُ إِجْلاَلاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لأني لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عيني مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِى مَا حالي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلاَ تصحبن نَائِحَةٌ، وَلاَ نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَىَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّى».
قال ابن أبي الحديد: فإن قلت: فما الذي يقوله أصحابك المعتزلة في عمرو بن العاص؟ قلت: إنهم يحكمون على كل من شهد صفين، بما يحكم به على الباغي الخارج على الإمام العادل، ومذهبهم في صاحب الكبيرة إذا لم يتب معلوم.
فإن قلت: أليس في هذه الأخبار ما يدل على توبته، نحو قوله: «ولا مستكبر بل مستغفر»، وقوله: «اللهم خذ منى حتى ترضى»، وقوله: «أمرت فعصيت، ونهيت فركبت» وهذا اعتراف وندم، وهو معنى التوبة؟ قلت: إن قوله تعالى: ﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ﴾ يمنع من كون هذا توبة، وشروط التوبة وأركانها معلومة، وليس هذا الاعتراف والتأسف منها في شيء[472].
قال المحمودي: وما أشبه بفرعون حين أيقن بالهلاك، فقال: آمنت بالله الذي آمنت به بنو إسرائيل. فأخذ جبرئيل كفاً من حمأ البحر وأدخله في فيه وقال له: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين أو ما كان يدري أنه أشهر مصاديق قوله تعالى: ﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ﴾ الخ[473].
الجواب: الأثر الأول أثر ابن عباس ضعيف.
أخرجه ابن سعد[474]، و الحاكم[475]، وابن عساكر[476] من طريق:
هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن عوانة بن الحكم قال عمرو بن العاص به.
هذا السند فيه ثلاث علل.
العلة الأولى: عوانة بن الحكم بن عوانة بن عياض الأخباري المشهور، الكوفي، وهو كثير الرواية عن التابعين، قل إن روى حديثا مسنداً، وقد روى عن عبد الله بن المعتز عن الحسن بن عليل العنزي عن عوانة بن الحكم أنه كان عثمانياً فكان يضع الأخبار لبني أمية، مات سنة ثمان وخمسين ومائة[477].
العلة الثانية: هشام بن محمد بن السائب الكلبى.
قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدث عنه.
وقال الدارقطني وغيره: متروك[478].
العلة الثالثة: الانقطاع بين عوانة بن الحكم وعمرو بن العاص، وقد تقدم أن عوانة توفي سنة ثمان وخمسين ومائة.
أما أثر ابن شماسة المهري فهو في صحيح مسلم[479].
لكن ليس فيه ما يدل على قولهم بل هو يرد ذلك، وما استدلوا به يجاب عليه من ستة أوجه.
الوجه الأول: أن في بداية الأثر أن النبي ص بشره، والنبي ص لا يبشر إلا المؤمنين.
الوجه الثاني: صدقه في ذكر حاله قبل الإسلام ثم بعده ينفي عنه نفاقه.
الوجه الثالث: أن في الأثر اعتراف وندم وهو معنى التوبة، وباب التوبة مفتوح مالم تغرغر الروح، عن ابن عمر س أن النبي ص قال: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»[480].
فالصحابة غير معصومين من الذنوب فكل إنسان له أخطاء، ولا يقال إنه تاب عند معاينة العذاب؛ لأنه لا دليل عليه، ولأن هذا الكلام مبني على أنه مسرف على نفسه، وكلا الأمرين باطل، فمن أين علموا أنه عاين ملائكة العذاب؟ وهل يقال لمن شهد له النبي ص بالإيمان والصلاح، واستعمله، واستعمله الخلفاء من بعده أنه مسرف، وهل كل من تاب إلى الله واستغفره نقول بأنه مسرف؟ فأين نحن إذاً من استغفار النبي ص، أليس هو القائل: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»[481].
الوجه الرابع: في الأثر ما يدل على شدة خوف عمرو من الله والإقبال عليه، كبكائه الطويل وتحويل وجهه إلى الجدار، وأمره لهم باللبث عند قبره مدة ما حتى يدعوا له ويستأنس بهم، ووضع يده موضع الغلال من ذقنه...الخ.
والخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ... الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله، وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر مع أنه لم يعمل خيراً قط، وقال: والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟، قال: من خشيتك يا رب، فغفر له. أخرجاه في الصحيحين. فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد إذا فعل ذلك غُفر له بخوفه من الله؛ عُلِمَ أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية إذا قدر أنها ذنوب[482].
الوجه الخامس: حرصه على تطبيق سنة النبي ص حتى بعد موته دليل على حسن خاتمته.
فقوله: «إذا متُ فلا تصحبن نائحة ولا نار» قال القاضي عياض: امتثال لنهيه ص عن ذلك في حديث أبي هريرة س: «لَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ»[483].
وقوله: «فإذا دفنتموني فشُنُّوا علي الترابَ» قال القاضي عياض: بالسين والشن معًا، وهو الصبُّ، وقيل: بالمهملة الصبُ في سهولة، وبالمعجمة التفريق. وهذه سنة في صب التراب على الميت في القبر[484].
وقوله «ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي» قال النووي: فيه فوائد منها: إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو مذهب أهل الحق، ومنها: استحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر[485].
وحرص المرء على تطبيق السنة في هذه اللحظات العصيبة واستحضاره لها؛ من دلالة توفيق الله للعبد، فقلَّ من يأمر بتطبيق سنة، أو ينشر علماً عند حضور الموت، وفي هذا الموقف العصيب.
الوجه السادس: قوله: ثم وَلِينَا أشياء ما أدرى ما حالي فيها؛ معناه ما ورد في مسند أحمد[486] ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدري علي أم لي. أي ما تولاه من ولايات وما حصل من حرب معاوية س مع أمير المؤمنين علي س. ولم يجزم بأن ما ارتكبه محرم، بل هو لشدة ورعه قال ما قال. ولا يفهم من هذا: سوء نيته، إنما قال ذلك؛ لخوفه من الله، ولعلمه بأن الولاية مسؤولية وأمانة يسأل عنها صاحبها يوم القيامة، كذلك ما حصل من حرب معاوية مع علي، كان عن اجتهاد، والمجتهد محتمل وقوع الخطأ منه.
والقارئ لتراجم السلف من الصحابة، والتابعين يجد أنهم يخافون من القدوم على الله ولا يغترون بأعمالهم مهما بلغت، فلا يدعون لأنفسهم الرفعة، ولا يزكون أنفسهم بل يجتهدون في فعل الطاعات وفي الوقت نفسه يخاف أحدهم أن يكون مقصراً في جنب الله ويخاف ألا يقبل عمله.
- فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب س لما طعن جعل يألم، فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه[487]: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: «أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص ورضاه، فإنما ذاك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل، قبل أن أراه» [488].
- وهذا الصحابي الجليل سلمان الفارسي س اشتكى فعاده سعد. فرآه يبكي. فقال له سعد: ما يبكيك؟ يا أخي أليس قد صحبت رسول الله ص؟ أليس أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين. ما أبكى ضِنا[489] للدنيا ولا كراهية للآخرة. ولكن رسول الله ص عهد إلي عهداً. فما أراني إلا قد تعديت. قال: وما عهد إليك؟ قال عهد إلي أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب. ولا أراني إلا قد تعديت. وأما أنت ياسعد، فاتق الله عند حكمك إذا حكمت وعند قسمك إذا قسمت وعند همك إذا هممت.
قال ثابت فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهماً. من نفقة كانت عنده[490].
- وليس منه ببعيد الصحابي الجليل أبوهريرة س أحد المكثرين في الرواية عن رسول الله، إذ بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: «أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بُعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود مهبطة على جنة ونار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي» [491].
- وهذا سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة الحسن بن علي بن أبي طالب ب لما حضرته الوفاة: بكى بكاء شديداً، فقال له الحسين: ما يبكيك يا أخي؟ وإنما تقدم على رسول الله ص وعلى علي وفاطمة وخديجة وهم ولدوك، وقد أجرى الله لك على لسان نبيه أنك «سيد شباب أهل الجنة»، وقاسمت الله مالك ثلاث مرات، ومشيت إلى بيت الله على قدميك خمس عشرة مرة حاجاً؟ وإنما أراد أن يطيب نفسه. قال: فوالله ما زاده إلا بكاء وانتحاباً، وقال: «يا أخي، إني أقدم على أمر عظيم وهول لم أقدم على مثله قط»[492].
هذه نماذج عن بعض أصحاب رسول الله تبين خوف الصحابة من الإقبال على الله، ولم يكن هذا الحال قاصراً عليهم بل حتى من التابعين من كان على هذا المنوال، وإليك بعض هذه الصور:
- فهذا مسروق بن الأجدع، تقول امرأته: ما كان يوجد إلا وساقيه قد انتفختا من طول الصلاة، قالت: وإن كنت والله لأجلس خلفه فأبكي رحمة له، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ومالي لا أجزع وإنما هي ساعة، ثم لا أدري أين يسلك بي...[493]
- وأما ابني المنكدر عمر وأبا بكر: «لما حضر أحدهما الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ إن كنا لنغبطك بهذا اليوم، قال: أما والله ما أبكي أن أكون ركبت شيئاً من معاصي الله اجتراء على الله، ولكني أخاف أن أكون أتيت شيئاً هيناً وهو عند الله عظيم.
قال: وبكى الآخر عند الموت فقيل له مثل ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول لقوم: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمۡ يَكُونُواْ يَحۡتَسِبُونَ﴾ فأنا أنتظر ما ترون، والله ما أدري ما يبدو لي»[494].
وأختم بالإمام بالشافعي رحمه الله، قال المُزَنِيُّ:
دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبد الله! كيف أصبحت؟
فرفع رأسه، وقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، ما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنيها، أو إلى نار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:
وَلَمَّـا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِـــــــي
جَعَلـْتُ رَجَـائِـي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّمـــَا
تَعَاظَمَنِـي ذَنـْبِـي فَلَمَّا قَــرَنْتُــــــــــهُ
بِعَـفْـوِكَ رَبّـِي كَــانَ عـَفْـوُكَ أَعْظـــمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَـــــزَلْ
تَجُوْدُ وَتَعْـفــُو مِــنَّــةً وَتَــكَــــــرُّمَا
فَإِنْ تَنْتَقِمْ مِنِّي فَلَسـْتُ بِـآيِـــــــــسٍ
وَلَــتوْ دَخَـلَتْ نَفْسِي بِجِرمِي جَهَنَّـــمَا
وَلــولاَكَ لَمْ يُغْوَى بِإِبْلِيْسَ عَابِـــــــدٌ
فَـكَيـْفَ وَقَـدْ أَغوَى صَفِيَّكَ آدَمَـــــا
وَإِنِّيْ لآتِي الذّنْبَ أَعْــرِفُ قَـــــــدْرَهُ
وَأَعـلَـمُ أَنَّ اللهَ يَـعـْفُـو تَـرَحُّــمَـــــا
قال الذهبي إسناده ثابت عنه[495].
وهذا الخوف والجزع والبكاء الذي تجده في تراجم السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو مصداق لقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ﴾[496]
عن عائشة ل أنها قالت: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ص عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ﴾ قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ﴿أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾»[497]. ومن هذا ما أخبر الله به عن خليله إبراهيم عليه السلام ﴿وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ [498].
روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي، عن وهيب بن الورد: أنه قرأ: ﴿وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآ﴾ ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك[499].
تنبيه:
أما ما يتعلق بوصف عمرو للموت فوردت روايات أخرى ضعيفة عند ابن سعد وابن أبي الدنيا وابن عساكر، والبعض قد يستشكل هذا الوصف؛ لحديث البراء الطويل وكون هذا الوصف يشابه حال الفجار عند وقت نزع الروح، وهذا الاستشكال؛ نتيجة عدم التفريق بين مرض الموت ونزع الروح، فوصف عمرو هو للسكرات التي هي مقدمات الموت، ومرض الموت وشدته، وهي مرحلة متقدمة على النزع؛ إذ كيف يحث على السنة في تجهيز جنازته ويصف الموت على فرض صحته وهو في حالة النزع؟!
فالسكرات هي مقدمات الموت، وهي ألم الموت ومرضه و{ شدّته الذاهبة بالعقل }[500] وهي ثابتة في الكتاب والسنة قال تعالى: ﴿وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ﴾[501].
ولم يسلم سيد الخلق وأحبهم من سكرات الموت فكان عند موته يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» أخرجه البخاري من حديث عائشة[502]. وفي رواية عنها قالت: «مَاتَ النَّبِيُّ ص وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي[503] فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ المَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا، بَعْدَ النَّبِيِّ ص»[504].
وفي رواية: «مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللهِ ص»[505].
قال الحافظ ابن حجر: «وفي الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته»[506] اهـ.
قال القرطبي: «فأحب الله أن يبتليهم- أي الأنبياء- تكميلاً لفضائلهم، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصاً ولا عذاباً، بل هو كما قال كمال رفعة مع رضاهم بجميل ما يجزي الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد مع إمكان التخفيف، والتهوين عليهم ليرفع منازلهم ويعظم أجورهم قبل موتهم»[507].
قال المباركفوري: «لما رأت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة على سوء عاقبة المتوفى، وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات. وإلا لكان ص أولى الناس به، فلا أكره شدة الموت لأحد ولا أغبط أحداً يموت من غير شدة»[508].
ولما بلغ عائشة ل وفاة أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشِيِّ- جبل بأسفل مكة[509] على رأس أميال منها -، فنقله ابن صفوان إلى مكة قالت: «ما آسى من أمره إلا على خصلتين: إنه لم يعالج[510] ولم يدفن حيث مات. قال نافع: وكان مات فجأة»[511].
وقال عمر بن عبد العزيز: «ما أحب أن تهون علي سكرات الموت إنه آخر ما يكفر به عن المرء المسلم»[512].
* * *
[470] نهج السعادة للشيخ المحمودي (8/362 ).
[471] معنى أطباق أي أحوال قال تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ). شرح النووي (2/137).
[472] نهج البلاغة لابن أبي حديد (6/323-325).
[473] نهج السعادة الشيخ المحمودي (8/362 ).
[474] الطبقات (4 /260)
[475] المستدرك (3/514) رقم (5915).
[476] (46/192).
[477] اللسان لابن حجر (4/386).
[478] ميزان الاعتدال للذهبي( 4/304)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/176).
[479] كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1) رقم (121).
[480] أخرجه أحمد (10) رقم (60160)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2784).
[481] أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (4) رقم (2702). ومعنى لَيُغَانُ أي أنه يتغشى القلب ما يلبسه يقال غُينت السماء غينًا وهو إطباق الغيم السماء والغيم والغين واحد. والمراد به قِيلَ: الْفَتَرَات وَالْغَفَلَات عَنْ الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفْتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ، وَقِيلَ هُوَ هَمّه بِسَبَبِ أُمَّته، وَمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالهَا بَعْده، فَيَسْتَغْفِر لَهُمْ وقيل غير ذلك. انظر: إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (8/197).
[482] منهاج السنة النبوية ( 5/484).
[483] إكمال المعلم شرح صحيح مسلم والحديث أخرجه أحمد (15) رقم (9515)، وأبو داود (3/ 176) رقم (3173) واللفظ له، من حديث أبي هريرة. قال الشيخ الألباني: وفي سنده من لم يسم، لكنه يتقوى بشواهده المرفوعة، وبعض الآثار الموقوفة. وقال شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره.
[484] المصدر السابق.
[485] شرح النووي على صحيح مسلم (2/138-139 ).
[486] (4/99).
[487] يجزعه: أي ينسبه إلى الجزع ويلومه عليه أو معنى يجزعه يزيل عنه الجزع، وهو كقوله تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِم﴾، أي أزيل عنهم الفزع. فتح الباري لابن حجر (7/52).
[488] أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب (5) رقم (3692).
[489] بِكَسْرِ ضَاد مُعْجَمَة بُخْلًا لِذَهَابِهَا. حاشية السندي على سنن ابن ماجة (7/464)
[490] أخرجه ابن أبي شيبة (13) رقم ( 35453) واللفظ له، وابن أبي الدنيا في المحتضرين (1/175).
[491] أخرجه ابن المبارك في الزهد (2/38)، وأحمد في الزهد (1/153).
[492] أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (1/243) رقم (235).
[493] حديث أبي الفضل الزهري (2/99) رقم (598).
[494] أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (1/236).
[495] سير أعلام النبلاء (10/76).
[496] سورة المؤمنون الآية (60).
[497] أخرجه أحمد (42) رقم ( 25263)، والترمذي: أبواب: التفسير، باب: ومن سورة المؤمنون (5) رقم (3175)، واللفظ له، وابن ماجه: كتاب: الزهد، باب: التوقي على العمل (2/1404) وصححه الألباني في الصحيحة (1/304).
[498] سورة البقرة الآية (127).
[499] التفسير (1/233).
[500] تفسير البيضاوي (5/141).
[501] سورة ق: الآية (19).
[502] البخاري: كتاب المغازي، باب مرض النبي ص ووفاته (5) رقم (6145).
[503] الحاقِنة: الوَهْدة المنْخَفِضَة بين التَّرْقُوَتَيْن من الحلق وقيل ما سفل من الذقن والذاقنة ما علا منه وقيل ما دون الترقوة من الصدر. الذاقِنة: الذَّقَن. وقيل طَرَف الحُلْقوم. وقيل ما يَناله الذَّقَن من الصَّدْر. والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها ص. انظر النهاية لابن الأثير(2/408)، وفتح الباري لابن حجر(8/139).
[504] أخرجه البخاري (4) رقم (4181).
[505] أخرجه الترمذي: أبواب الجنائز، باب ما جاء في التشديد عند الموت (2) رقم (979).
[506] فتح الباري (11/363).
[507] انظر: التذكرة (1/20).
[508] تحفة الأحوذي (3/37).
[509] الصحاح للجوهري (3/ 1000)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (35/ 40).
[510] أرادت أنه لم يعالج سكرة الموت فتكون كفّارة لذنوبه. تهذيب اللغة للأزهري (1/240).
[511] تاريخ دمشق لابن عساكر (35/38)
[512] أخرجه أحمد في الزهد (1/298)، ومن طريقه أبونعيم في الحلية (5/317).
ومقصد من تمسك بهذا الطعن في خلق عمرو وأمانته والزعم بأنه لما ولي مصر ابتز منها أموالاً كثيرة من غير وجه شرعي.
يقول علي الكوراني: وجمع عمرو ثروة طائلة من الفتوحات، وكان شديد الحرص على الولاية وقد ظهرت ثروته مبكراً في عهد عمر[513].
وقال الريشهري: وخلف ثروة طائلة، ودراهم ودنانير وافرة. وذكر أن أمواله المنقولة بلغت سبعين رقبة جمل مملوءة ذهباً[514].
وأدلتهم على ذلك:
- مارواه الحاكم في المستدرك: عن قتادة أنه قال: لما احتضر عمرو بن العاص، قال: كيلوا مالي، فكالوه، فوجدوه اثنين وخمسين مداً. فقال: من يأخذه بما فيه؟ يا ليته كان بعراً[515].
- وما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: عن الحسن أنه قال: لما احتضر عمرو بن العاص، نظر إلى صناديق، فقال: من يأخذها بما فيها؟ يا ليته كان بعراً، ثم أمر الحرس، فأحاطوا بقصره. فقال بنوه: ما هذا فقال: ما ترون هذا يغني عني شيئاً[516].
- وبما ذكره الذهبي في السير: قال: يقال: خلف- أي عمراً- من الذهب سبعين رقبة جمل مملوءة ذهباً[517].
- وبما ذكره المقريزي في المواعظ والاعتبار بأنه: خلف سبعين بهاراً دنانير، والبهار: جلد ثور، ومبلغه أردبان بالمصري، فلما حضرته الوفاة أخرجه، وقال: من يأخذه بما فيه، فأبى ولده أخذه، وقالا: حتى ترد إلى كل ذي حق حقه، فقال: والله ما أجمع بين اثنين منهم، فبلغ معاوية، فقال: نحن نأخذه بما فيه[518].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من خمسة أوجه:
الوجه الأول - من جهة السند-:
جميع هذه الروايات التي تحدد وتحصر مال عمرو لا تصح، وإليك التفصيل:
رواية الحاكم: أخرجها من طريق إبراهيم بن عصمة العدل ثنا السري بن خزيمة ثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو هلال الراسبي عن قتادة به.
إبراهيم بن عصمة العدل النيسابوري شيخ الحاكم: قال الذهبي: أدخلوا في كتبه أحاديث، وهو في نفسه صادق[519]، وقال ابن حجر: وهذا الرجل من مشائخ الحاكم قال في تاريخه أدركته وقد شاخ وكان قد سمع أباه وغيره قبل الثمانين ومائتين وكانت أصوله صحاحاً وسماعاته صحيحة فوقع إليه بعض الوراقين فزاد فيه أشياء قد برأ الله أبا إسحاق منها[520].
وأبوهلال الراسبي واسمه محمد بن سليم: قال أبو بكر الأثرم: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن أبى هلال يعنى الراسبى قال: قد احتمل حديثه إلا أنه يخالف في حديث قتادة وهو مضطرب الحديث عن قتادة[521]. وروايته هنا عن قتادة، وقتادة بن دعامة السدوسي وإن كان ثقة ثبت[522] إلا أنه لم يسمع من عمرو بن العاص فروايته عنه مرسلة وقد تقدم[523].
أما رواية ابن أبي الدنيا فهي ضعيفة أيضاً: أخرجها من طريق عبد الرحمن بن صالح قال: حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن به.
أشعث في هذا السند يحتمل أن يكون ابن سوار وهو ضعيف ويحتمل أن يكون غيره ممن يقبل حديثه كأشعث بن عبد الله بن جابر الحُداني وهو صدوق، أو أشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة فقيه، ثلاثتهم رووا عن الحسن البصري، وروى عنهم حفص بن غياث[524] والحسن البصري كثير التدليس ولم يصرح هنا بالتحديث، فلا يقبل حديثه حتى يصـرح، وقد تقدم الكلام على مراسليه.
وماذكره الذهبي فلم يسنده بل قال وقيل.
كذلك ماذكره المقريزي لم يسنده. فدل على عدم صحة هذه الروايات[525].
الوجه الثاني: أنه ذكر في الرواية التي فيها (سبعين بهاراً دنانير) بأن أولاده امتنعوا من أخذها لما عرض عليهم، وقد ورد ما يناقضها، ففي تاريخ دمشق: أنه لما حضرته الوفاة قال له ابنه عبد الله: يا أبتاه أوص في مالي ومالك ما بدا لك، قال: فدعا كاتباً فقال اكتب فجعل يكتب، قال: فلما أسرع في المال، قال: يا أبة لا أحسبك إلا قد أتيت على مالي ومال إخوتي فلو بعثت إلى إخوتي فتحلل ذلك منهم، قال عمرو: للكاتب اقرأه فقرأه فقال: عبد الله بن عمرو بخ بخ، قال: فقال له عمرو: يا عبد الله أتشكر هذا؟ فوالله لامرأة من المهاجرات أقبلت تتغير في صرحو تقوده إلى رسول الله ص يحمله عليه في سبيل الله خير من هذا كله، جاء ذاك من حيث جاء، وجاء هذا من حيث جاءنا عبد الله والله لقد هلكنا إلا أنا معتصمين بلا إله إلا الله[526].
الوجه الثالث: تقدم في ترجمته أن أباه كان ثرياً وكان يلبس الحرير والديباج وأن عمراً كان تاجراً وكان له بستان عظيم بالطائف يُسمى الوهط يتمناه الملوك، أدخل في عريش الوهط ألف ألف عود، كل عود بدرهم.
الوجه الرابع: أن الدولة الإسلامية في بدء أمرها كانت شحيحة الموارد، فكثير من الصحابة كان لا يجد ما يأكله، وبعضهم يجد إزاراً ولايجد رداء، فلما منَّ الله عليهم بالفتوحات توسعت موارد الدولة ووسع على الناس حتى إن بعض التابعين رأى جابراً صلى في إزار قد عقده من قبل قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب، قال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد النبي ص [527].
هذا من حيث العموم، أما من حيث الخصوص فقد كان أبوهريرة س يصرع من الجوع في عهد النبي ص، ولما كبرت الدولة الإسلامية، وكثرت مواردها بسط الله عليه الرزق.
وولاه عمر على البحرين فأتاه بأربع مائة ألف من البحرين، فقال: ما جئت به لنفسك؟
قال: عشرين ألفاً. قال: من أين أصبتها؟
قال: كنت أتجر.
قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال[528].
ومعلوم شدة عمر ومحاسبته للأمراء فيما ينالوه من أموال ولو كان من تجارة أو حرفة.
وهذا الزبير بن العوام كان مصْرفاً يمشي على الأرض وكان جميع ماله كما قال الذهبي:
خمسون ألف ألف ومائتا ألف[529]. يعني خمسين مليون ومائتي ألف في ذلك الزمان.
قال عبد الله بن الزبير: وقتل الزبير ولم يدع ديناراً ولا درهماً، إلا أرضين بالغابة، وإحدى عشـرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة وداراً بالكوفة، وداراً بمصر...وما ولي إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجاً، ولا شيئاً إلا أن يكون في غزو مع النبي ص، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان[530]. وكثير من الصحابة كان فقيراً فأغناه الله من فضله. فإذا حصل الثراء لمن كان فقيراً فزيادة ثراء التاجر من باب أولى.
الوجه الخامس: ثبت أن علاقة عمر س بولاته كانت مبنية على السمع والطاعة له، ومساعدته ومعاونته في أعباء الخلافة، وثبت أنه كان يراقبهم ويلاحظ تعاملهم مع الرعية، وإعطاءها واجباتها وحقوقها، وكان يعاقب من ثبت تقصيره وتعديه، وكان يراقب مصادر أموالهم ويقاسمهم إياها إذا ارتاب في أمرها[531]، فأنى لأحد أن يأخذ من مال الدولة من غير وجه شرعي في خلافة عمر، وأما في خلافة عثمان فقد عُزل، ثم تولى لمعاوية ثلاث سنين، فهل يعقل أنه نال هذا المال أثناء ولايته لعمر، وبعضاً من خلافة عثمان، وولايته لمعاوية، فكيف لو قيل: إن تهمة جبايته لمال مصر موجهة له أثناء ولايته لمعاوية وهي ثلاث سنين!!!. فتبين لك أخي الكريم أنها مجرد أقاصيص وأساطير لا محل لها من الإعراب.
[513] قراءة جديدة في الفتوحات (2/170).
[514] موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (5/313).
[515] المستدرك (3/513).
[516] تاريخ دمشق (46/192).
[517] (3/78).
[518] (1/830).
[519] ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 48).
[520] لسان الميزان (1/ 80).
[521] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7 / 273)
[522] التقريب لابن حجر (5518).
[523] (ص/109).
[524] تحفة الأحوذي (3/37).
[525] تنبيه: وجدت في بعض مواقع الإنترنت – الشبكة العنكبوتية – للنصارى: أن عبد الله بن عمرو بن العاص امتلك قرية عسقلان- وهي من مدن فلسطين – بكل ما فيها وما عليها، وهي من حبس – أي وقف- عمرو لولده. وعزى ذلك إلى كتاب المُغْرِب في حلي المَمْرِب- القسم الخاص بمصر – لابن سعيد الأندلسي، والكتاب مطبوع جزء منه والباقي مفقود، وطبع جزء من القسم الخاص بمصر باسم النجوم الزاهرة في حلي حضرة القاهرة ولم أجده فيه، ولو وجد مستقبلاً أو جد في كتاب آخر فإنه لا يقبل إلا بسند صحيح وهو محال. والذي فتح عسقلان معاوية كما في تاريخ الطبري (4/241)، وقيل فتحها عمرو بن العاص ثم نقض أهلها وأمدهم الروم ففتحها معاوية. كما في فتوح البلدان للبلاذري ص (144) ثم هل يعقل أن أميراً من أمراء الفتوح يمتلك مدينة أو قرية بأكلمها ينفرد بها من دون جيش المسلمين!!، وفي زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب!!! لا شك أن من لديه قليلاً من العلم بأحكام الجهاد سيسخر من هذه العبارة ولو كان من غير المسلمين لو كان منصفاً. وسيأتي مزيد بيان لبعض أحكام الجهاد، وعدالة عمر بن الخطاب س، وثناء النصارى أنفسهم على حسن معاملة عمرو بن العاص لأهل مصر؛ في الشبهة الأولى من المبحث الخامس.
[526] تاريخ دمشق لابن عساكر (46/192)، وقوله: صرحو تقود، كذا في المصدر وفيه سقط أشار إليه المحقق.
[527] أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب: عقد الإزار على القفا في الصلاة (1) رقم (345).
[528] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (4 / 44).
[529] المصدر نفسه (1 / 66).
[530] الطبقات الكبرى (3/ 108).
[531] دراسة نقدية في المرويات في شخصية عمر بن الخطاب (2 / 1157). وأما ما روي بأن عمر س أرسل محمد بن مسلمة إلى عمرو بن العاص ليقاسمه ماله. فقد قال صاحب الكتاب نفسه (2 /660): رواه ابن عبد الحكم، فتوح مصر (ص/146)، البلاذري، فتوح البلدان (ص/220، 221)، أنساب الأشراف (ص/270،271)، العسكري، الأوائل (ص/ 118120)، وفي إسناده عبد الله بن عبد العزيز لم أجد له ترجمة، ووثقه تلميذه محمد بن سماعة الرملي، وهو ثقة من العاشرة. تق (482)، حيث قال: حدثني عبد الله بن عبد العزيز شيخ ثقة، وهو معضل من رواية عبد الله المتقدم الذكر عن عمر س، وإسناده عند البلاذري من رواية عبد الله بن المبارك عن عمر س وهو ثقة من الثامنة روايته عن عمر معضلة، وفي إسناده عند العسكري عبد الله بن شبيب، قال الذهبي: أخباري علامة لكنه واهٍ. ميزان الاعتدال (2/438)، وهو معضل من رواية محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ثقة من السادسة، روايته عن عمر معضلة، فالأثر ضعيف.
الشبهة الأولى: لعن النبي ص له حين هجاه.
الشبهة الثانية: دعاء النبي ص عليه.
الشبهة الثالثة: تحذير النبي ص من اجتماع عمرو بمعاوية ب، وأن اجتماعهما لا يأتي بخير
شبهات حول علاقته بالنبي ص
وذلك لما روي أن عمرو بن العاص هجا رسول الله ص بأبيات من الشعر، فقال رسول الله ص: اللهم إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمراً بكل بيت لعنة[532].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: - من جهة السند -:
أخرجه ابن قتيبة[533]: من طريق أبي الخطاب زياد بن يحيى بن حسان عن سهل بن حماد أبي عتاب الدلال، وابن أبي حاتم[534]، والروياني في مسنده[535]، ومن طريقه الجوزقاني[536]، وابن عساكر[537]: من طريق محمد بن المثنى عن سهل بن حماد أبي عتاب الدلال، وأخرجه الطحاوي[538]: من طريق أحمد بن المفضل الحفري؛ كلهم عن عيسى بن عبد الرحمن، نا عدي ابن ثابت، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله ص «اللَّهُمَّ إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ، فَاهْجُهُ وَالْعَنْهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي، أَوْ مَكَانَ مَا هَجَانِي».
عيسى بن عبد الرحمن وقع مصرحاً في الأباطيل للجوزقاني بأنه الزرقي، وفي غريب الحديث لابن قتيبة وابن أبي حاتم أنه السلمي.
فالأول: عيسى بن عبد الرحمن أبو عبادة ويقال: أبو عباد الزرقي.
قال ابن حجر: عيسى بن عبد الرحمن بن فروة وقيل: ابن سبرة الأنصاري أبو عبادة الزرقي متروك من السابعة[539].
وقال الجوزقاني: هذا حديث باطل، لا أعلم أحداً رواه سوى عيسى بن عبد الرحمن بن فروة الرزقي المديني، وهو منكر الحديث. قال أبو حاتم الرازي: عيسى بن عبد الرحمن بن فروة منكر الحديث، ضعيف الحديث، شبيه بالمتروك، وقال أبو زرعة الرازي: عيسى بن عبد الرحمن بن فروة ليس بالقوي[540].
والثاني: عيسى بن عبد الرحمن السلمي ثقة من السادسة[541].
ولعل الصواب أنه السلمي؛ لوروده مصرحاً به في طريق آخر:
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا أبي وأبو زرعة، قالا: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي، عن عدي بن ثابت، قال: قال رسول الله ص، مرسلاً[542].
لكن وإن كان السلمي ثقة إلا أن الإسناد معلول بالإرسال.
قال ابن أبي حاتم: وسألت أبي، عن حديث سهل بن حماد، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن عدي، عن البراء، عن النبي ص.
فقال أبي: هذا خطأ، إنما يرويه عن عدي، عن النبي ص، مرسلاً بلا براء[543].
فالحديث لايصح؛ لأنه مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف.
وللحديث طريق آخر:
قال ابن أبي حاتم: وسمعت أبا زرعة، وحدثنا: عن سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن أبي حمزة يعني السكوني، عن جابر يعني الجعفي، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن حذيفة[544]. وهذه المتابعة مظلمة؛ لأن في سندها جابر بن يزيد الجعفي.
كذبه ابن معين، وزائدة، وليث بن أبي سليم، وأيوب، وابن عيينة.
قال أبو حنيفة: ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشئ من رأيي إلا جاءني فيه بأثر. وزعم أن عنده ثلاثين ألف حديث لم يظهرها.
وقال أبو حاتم الرازي عن أحمد بن حنبل: تركه- أي جابر- يحيى وعبد الرحمن.
وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث[545].
زيادة على ماتقدم أنه مدلس وقد عنعن ولم يصرح بالتحديث.
قال ابن حجر: ووصفه الثوري، والعجلي، وابن سعد بالتدليس. وقد عده ابن حجر في المرتبة الخامسة: فيمن ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع[546].
وأخرجه ابن عساكر[547] من طريق آخر: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي طالب علي بن محمد حدثني أبي حدثني أبو عمرو محمد بن مروان بن عمر القرشي أخبرني جعفر بن أحمد بن معدان نا الحسن بن جهور نا القاسم بن عروة عن ابن دأب قال: قدم أبو الأسود الديلي على معاوية بن أبي سفيان بعد مقتل علي بن أبي طالب وقد استقامت له البلاد، فأدنى معاوية مجلسه وأعظم... فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الذي ترى هجا رسول الله ص بأبيات من الشعر، فقال رسول الله ص «اللهم إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمراً بكل بيت لعنة».
هذا الطريق أيضاً لا يصح؛ لأن في سنده ابن دأب وهو: عيسى بن يزيد بن بكر دأب الليثى المدنى.
قال الحافظ: وكان أخبارياً علامة نسابة، لكن حديثه واه.
وقال خلف الأحمر: كان يضع الحديث، وقال البخاري وغيره: منكر الحديث.
وقيل: إنه كان ذا حظوة زائدة عند المهدي والهادي بحيث إنه أعطاه مرة ثلاثين ألف دينار. وقال أبو حاتم: منكر الحديث[548].
وأبو الأسود الديلي الدؤلي ويقال البصري اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان ويقال عمرو بن ظالم ويقال عمرو بن عثمان أو عثمان بن عمرو ثقة فاضل مخضرم[549]. فعلى هذا يكون الحديث مرسلاً، والمرسل من قسم الضعيف، زد على ما تقدم أن ابن دأب منكر الحديث.
الوجه الآخر: -من جهة المتن-: لو سلمنا أن الحديث ثابت يجاب بأن هذا كان في الجاهلية وقد أسلم س، واشترط قبل مبايعته للنبي ص أن غفر الله له، فأعلمه ص أن الإسلام يجبُّ ما قبله، وقَبِل ص بيعته، وأثنى عليه كما تقدم في ترجمته[550].
قال ابن قتيبة: «ونرى هذا من قول رسول الله ص كان قبل إسلام عمرو بن العاص س».
قال ابن عساكر: «في إسناده مقال، وهذا قبل إسلامه، والإسلام يجبُّ ما قبله».
قال الذهبي: «– بعد ذكره الحديث - قلت: يعني قبل أن يسلم، والحديث منكر»[551].
[532] جواهر المطالب في مناقب الإمام علي لابن الدمشقي (2/219)، مواقف الشيعة للأحمدي الميانجي (2/383).
[533] غريب الحديث (1/287).
[534] علل الحديث (2/444).
[535] (1) رقم (382).
[536] الأباطيل (ص/60).
[537] تاريخ دمشق (46/118).
[538] مشكل الآثار (7/349) رقم (2814).
[539] التقريب رقم (5306).
[540] الأباطيل (1/322).
[541] التقريب رقم (5308).
[542] علل الحديث لابن أبي حاتم (2/344).
[543] المصدر نفسه.
[544] المصدر نفسه.
[545] انظر: تهذيب الكمال للمزي (4/468-469).
[546] انظر: تعريف أهل التقديس لابن حجر (1/53) رقم (133).
[547] تاريخ دمشق (25/177).
[548] لسان الميزان لابن حجر (4/ 408).
[549] التقريب لابن حجر، رقم (7940).
[550] (ص/74).
[551] ميزان الإعتدال (5/382).
وذلك لما روي عن النبي ص أنه سمع صوت رجلين يتغنيان وهما يقولان:
لا يزال حواري يزول عظامه... زوى الحرب عنه أن يجن ويقبرا
فسأل عنهما فقيل له: معاوية وعمرو بن أبي العاص فقال: اللهم أركسهما في الفتنة ركسا ودعهما إلى النار دعا[552].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من خمسة أوجه:
الوجه الأول -من جهة الإسناد-: هذا الحديث ضعيف جداً.
أخرجه الطبراني[553] من طريق عيسى بن سوادة النخعي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس س قال: سمع رسول الله س صوت رجلين... الحديث.
قال الهيثمي في المجمع[554]:
رواه الطبراني، وفيه عيسى بن سوادة النخعي، وهو كذاب. حديث لا يصح.
قال أبو حاتم: منكر الحديث. قال ابن معين: كذاب رأيته[555].
وجاء من حديث أبي برزة س.
أخرجه ابن أبي شيبة[556] ومن طريقه أحمد[557] وأبو يعلى[558]، وأخرجه البزار[559] وابن حبان في المجروحين[560]، ومن طريقه ابن الجوزي[561] كلهم من طريق محمد بن فضيل يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبي هلال العكي عن أبي برزة بنحوه، وفيه: فقال النبي ص: انْظُروا مَنْ هُمَا؟ قَالَ، فَقَالُوا: فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ص..الحديث.
هذا الإسناد فيه يزيد بن أبي زياد، قال ابن الجوزي كان يلقن في آخر عمره فيتلقن، قال علي ويحيى: لا يحتج بحديثه. وقال ابن المبارك: ارم به. وقال ابن عدي: كل رواياته لا يتابع عليها[562].
وشيخه سليمان بن عمرو بن الأحوص مجهول قاله ابن القطان[563].
أبو هلال العكي: قال البزار: غير معروف.
تنبيهات:
1- في جميع طرق حديث أبي برزة لم يُسم الرجلان اللذان دعا عليهما النبي ص عدا طريق ابن حبان.
2- وقع في مسند البزار: «نَظَرَ إِلَى رَجُلَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ، يَتَمَثَّلانِ بِهَذَا الشِّعْرِ فِي حَمْزَةَ..» وفي مصنف ابن أبي شيبة ومسند أبي يعلى: «وذلك قبل أن تحرم الخمر».
وجاء عن المطلب بن ربيعة س، ولم يسم فيه الرجلان أيضاً.
أخرجه الطبراني في الأوسط[564] حدثنا محمد بن حفص بن بهمرد ثنا إسحاق بن الحارث الرازي ثنا عمرو بن عبد الغفار الفقيمي ثنا نصير بن أبي الأشعث وشريك وأبو بكر بن عياش عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن ربيعة قال بينما رسول الله ص في بعض أسفاره يسير في بعض الليل إذ سمع صوت... فإذا رجل يطارح رجلا للغناء...
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن نصير بن الأشعث إلا عمرو بن عبد الغفار.
وعمرو هذا قال فيه أبو حاتم: متروك الحديث.
وقال ابن عدي: ليس بالثبت بالحديث حدث بالمناكير في فضائل علي س...، وهو متهم إذا روى شيئاً من الفضائل، وكان السلف يتهمونه بأنه يضع في فضائل أهل البيت وفي مثالب غيرهم[565].
ويزيد بن أبي زياد تقدم ضعفه.
فيتبين لك أخي الكريم أن الحديث لا يصح بجميع طرقه، وحكم الذهبي على الحديث- الذي فيه ذكرعمرو ومعاوية- بالنكارة [566]، وكـذا الشيـخ الألباني[567] وقال ابن القيم: كذب مختلق. وذكر أن كل حديث ورد في ذم عمرو بن العاص ومعاوية بأنه كذب[568].
الوجه الثاني: أن الحديث مضطرب في متنه- مع ضعف أسانيده- وقع في بعض الروايات بأن الذي دعا عليهما النبي ص هما: عمرو بن رفاعة بن التابوب، ومعاوية بن رافع، وهما منافقان، أخرجه ابن قانع[569] وابن عدي كلاهما من طريق: عبد الله بن عمر، ثنا شعيب بن إبراهيم، ثنا سيف بن عمر حدثني أبو عمر مولى إبراهيم بن طلحة، عن زيد ابن أسلم، عن صالح شقران قال: بينا نحن ليلة في سفر، إذ سمع النبي ص صوتاً، فقال: «ما هذا؟» فذهبت أنظر، فإذا معاوية بن التابوب، وعمرو بن رفاعة بن التابوب، ومعاوية بن رافع يقول:
لَا يَزَالُ حَوَارِيُّ تَلُوحُ عِظَامُهُ رَوَى[570]....
الْحَرْبَ عَنْهُ أَنْ يَمُوتَ فَيُقْبَرَا
فأتيت النبي ص فأخبرته فقال: «اللهم اركسهما ركسا، ودعهما إلى نار جهنم»، فمات رفاعة قبل أن يقدم النبي ص من ذلك السفر.
قال السيوطي: وهذه الرواية أزالت الإشكال وبينت أن الوهم وقع في الحديث الأول في لفظة واحدة وهي قوله ابن العاصي؛ وإنما هو ابن رفاعة أحد المنافقين، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين، والله أعلم[571].
ولكن الطريق أيضاً لا يثبت؛ لأن في سنده: سيف بن عمر وهو: التميمي صاحب الفتوح -، قال الذهبي[572] له تواليف، متروك باتفاق.
والرواي عنه: شعيب هو: ابن إبراهيم الكوفي، ففي ترجمته: ساق حديثه هذا ابن عدي[573] وقال: وشعيب بن إبراهيم هذا له أحاديث وأخبار وهو ليس بذلك المعروف ومقدار ما يروي من الحديث والأخبار ليست بالكثيرة وفيه بعض النكرة؛ لأن في أخباره وأحاديثه ما فيه تحامل على السلف.
وقال الذهبي: هو راوية كتب (سيف)، فيه جهالة[574].
تنبيه: ورد عند ابن قانع: سعيد أبو العباس التيمي، وصوابه شعيب بن إبراهيم كما في الكامل لابن عدي.
الوجه الثالث: أخي الكريم: قد تبين لك ضعف طريقي الحديث وأنهما لا يثبتان من جهة الإسناد، وتقدم أن المعيَّن في أحدهما معاوية بن رافع، وعمرو بن رفاعة بن التابوب وهما منافقان.والطريق الآخر المعين فيه معاوية وعمرو بن العاص أصحاب رسول اللهص، فعلى فرضية صحتهما يقال: بأن الأمر اشتبه على الراوي أو ظن خلاف المقصود، وإذا تطرق الاحتمال؛ بطل الاستدلال.ثم لماذا حمل الحديث على منصوص أحد طريقيه دون الآخر! ولماذا نخص به أصحاب رسول الله ص! فهل هذا إلا محض التحكم، والتحكم باطل، على أن الحديث لا يثبت في أحد.
وكل هذه الافتراضات إذا سلمنا ثبوت الحديث، وقد تبين لك ألا مجال لصحته.
الوجه الرابع: إذا قلت يحتمل تعدد القصة، فيجاب أن في بعض الطرق التي نصت بأنهما معاوية وعمرو بن العاص: أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، وفي بعض الطرق أنه في غزوة أحد.
فهذا يبين أنه كان قبل إسلامهما لأن إسلام عمرو كان قبل الفتح بستة أشهر، ومعاوية من مسلمة الفتح.
ويجاب: بأنهما أسلما وقبل النبي ص إسلامهما حتى أن عمراً اشترط قبل مبايعته للنبي ص أن يغفر الله له، فقَالَ ص: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»[575]، بل قال ص: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ»[576] وجعله أميراً في غزوة ذات السلاسل[577]، وجعل معاوية من كتابه كما رواه ابن عباس[578]ش، ودعا له فقال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ»[579].
الوجه الخامس: هل كان من هديه وسيرته ص الدعاء على أصحابه بالفتنة والنار؟!
كيف يكون ذلك منه وهو القائل لأم سليم «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شرطي عَلَى رَبِّى أَنِّى اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّى فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ القيامة»[580].
وقال أنس بن مالك س: لم يكن النبي ص سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً كان يقول لأحدنا عند المَعْتِبَةِ: «مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ»[581]، بل لما كان رسول الله ص يدعو على بعض المشركين على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام. نزلت: ﴿لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ﴾ [582].
عن أبي هريرة س قال: قيل: يارسول الله ادْعُ على المشركين قال: «إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»[583]. فعلمت بهذا أخي الكريم أن ما نُسِب إليه ص من دعائه على عمرو بن العاص ومعاوية ب مخالف لهديه ص.
فائدة: قال ابن حجر: حكى ابن بطال أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين، ودليله قوله تعالى: ﴿لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ﴾ قال والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم، ودخولهم في الإسلام، ويحتمل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم[584].
[552] الغدير للأميني (10/140)، أحاديث أم المؤمنين عائشة لمرتضى العسكري(1/295).
[553] المعجم الكبير (11) رقم (10970).
[554] ( 8/121 ).
[555] ميزان الاعتدال (3/312).
[556] المصنف (15/232-233) رقم (38875).
[557] ( 4/421 ).
[558] (13) رقم (7436).
[559] ( 2/69 ).
[560] المجروحين ( 3/101 ).
[561] الموضوعات ( 2/270 ).
[562] تهذيب الكمال للمزي (32/138).
[563] بيان الوهم والايهام في الأحكام (4/ 287).
[564] (7) رقم (7080).
[565] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/246)، الكامل لابن عدي (5 /146-147).
[566] السير (6/131).
[567] السلسلة الضعيفة (14) رقم (6567).
[568] نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول (1/108-109)، المنار المنيف (1/118).
[569] معجم الصحابة (2) رقم (466).
[570] في المصادر المتقدمة (زوى).
[571] اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/391).
[572] المغني في الضعفاء (1/419).
[573] الكامل ( 5/7 ).
[574] ميزان الاعتدال (3/377).
[575] أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1) رقم (121).
[576] تقدم تخريجه (ص/76).
[577] أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات السلاسل (3) رقم (3462)، ومسلم: كتاب: فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: من فضائل أبي بكر الصديق س (7) رقم (6328).
[578] أخرجه مسلم: كتاب: فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: من فضائل أبي سفيان بن حرب س (7) رقم (6565).
[579] أخرجه أحمد (29) رقم (17895)، والترمذي: أبواب: المناقب، باب: مناقب معاوية بن أبي سفيان س .(6) رقم (3842) وقال حسن غريب، وصححه الألباني الصحيحة (1969).
[580] أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: من لعنه النبي ص، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجراً ورحمة (4) رقم (2603).
[581] أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب: « لم يكن النبي ص فاحشاً ولا متفحشاً» (5) رقم (5684).
[582] أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (4) رقم (3842)، ومسلم: كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة (1) رقم(675).
[583] أخرجه مسلم: كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها (4) رقم (2599).
[584] فتح الباري لابن حجر(11/ 196).
وذلك لما روي عن زيد بن أرقم أنه دخل على معاوية فإذا عمرو بن العاص جالس معه على السرير فلما رأى ذلك زيد جاء حتى رمى بنفسه بينهما فقال له: عمرو بن العاص: أما وجدت لك مجلساً إلا أن تقطع بيني وبين أمير المؤمنين؟ فقال زيد: إن رسول الله ص غزا غزوة وأنتما معه فرآكما مجتمعين، فنظر إليكما نظرا شديداً، ثم رآكما اليوم الثاني، واليوم الثالث، كل ذلك يديم النظر إليكما، فقال في اليوم الثالث: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما، فإنهما لن يجتمعا على خير[585].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: - من حيث السند-:
هذا الحديث ضعيف جداً.
أخرجه ابن مزاحم[586] قال: نصر عن أبى عبد الرحمن قال: حدثنى العلاء بن يزيد القرشى، عن جعفر بن محمد قال: دخل زيد بن أرقم على معاوية، فإذا عمرو بن العاص جالس معه على السرير...الحديث.
هذا الإسناد فيه علتان:
العلة الأولى: نصر بن مزاحم المنقري تقدم الكلام عليه[587].
العلة الثانية: انقطاع السند فإن جعفر بن محمد: هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله، المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام[588] مات سنة ثمان وأربعين ومئة وهو ابن ثمان وخمسين وولد سنة ثمانين[589]. بمعنى أنه ولد بعد موت عمرو بن العاص على الأقل بثلاثين سنة؛ فإن عمرو بن العاص توفي سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين[590].
وللحديث طريق آخر: أخرجه الطبراني[591] - ومن طريقه ابن عساكر[592]- حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا سعيد بن عفير حدثني شداد بن عبد الرحمن[593] من ولد شداد بن أوس عن أبيه عن يعلى بن شداد عن أبيه: أنه دخل على معاوية س وهو جالس وعمرو بن العاص على فراشه فجلس شداد بينهما وقال: هل تدريان ما يجلسني بينكما؟ إني سمعت رسول الله ص يقول: «إذا رأيتموهما جميعاً ففرقوا بينهما، فوا لله ما اجتمعا إلا على غدرة، فأحببت أن أفرق بينكما».
قال ابن عساكر: سعيد بن عبد الرحمن وأبوه مجهولان. وأقره الحافظ[594]، وقال ابن أبي حاتم في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن شداد: سألت أبي عنه، فقال: محمد بن عبد الرحمن وأبوه لا يعرفان وحديثه عن أبيه عن جده شداد بن أوس منكر[595].
قال الهيثمي[596] رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن يعلى بن شداد ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
فيتبين لك أخي الكريم: أن هذا الحديث ضعيف جداً، ولا يجوز أن ننسب للرسول ص هذا القول- لن يجتمعا على خير - وحاشاهما عن ذلك فقد مدح ص عمراً بقوله «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ»[597]، وكان موضع ثقة لديه إذ هو أحد عماله وأمرائه، وائتمن معاوية فجعله من كُتَّابه، ودعاله بالهداية كما تقدم[598].
الوجه الثاني: أن قوله (مااجتمعا إلاعلى غدرة). كلام يستلزم أن يكون كل واحد منهما منفرداً موصوفاً بهذا الوصف، فيكون عمرو بن العاص رجلاً غادراً، وكذلك معاوية بن أبي سفيان غادراً – وحاشاهما- ل. إذ لوكان عمرو في نفسه رجلاً صالحاً أميناً، فأي ضرر في اجتماع أمينين صالحين؟ فمن أين تأتي الغدرات؟ فمثل هذا كمثل ماء طاهر لاقى ماءاً طاهراً فممن يأتي الخبث؟!.
وإذ قد تبين هذا نقول إن النبي ص قال كما في صحيح مسلم -: «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِى أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ».
وفي رواية أخرى «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»[599].
ففي هذا الحديث بروايتيه أن من وَلِيَ أمر المسلمين عليه أن يجهد لهم وينصح ولا يغشهم، ومن أكبر النصح أن يُولِّي عليهم الأمناء الصادقين المرضيِّ السيرة.
ومن أكبر الغش والخيانة أن يُولِّي عليهم من يَعرفُ منه غدراً ويخاف منه غائلة، وقد وجدنا أن رسول الله قد ولىَّ عمروبن العاص على جيش من المسلمين في غزوة ذات السلاسل - وفي القوم أبو بكر وعمر- ثم بعثه إلى عمَّان وظل عليها والياً إلى أن مات رسول الله ص.
فلا يرد في عقل عاقل، ولايستقيم في ذهن لبيب أن يقول رسول الله ص هذا الكلام السابق ويحذر من غش الأمة، ويعظم أمر الولاية حتى يقول لأبي ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، ثم هو يُولِّي على المسلمين في حروبهم وفي أمر دينهم ودنياهم من يعلم منه الغدر والخيانة، وفي المسلمين من هو أرضى لله ورسوله منه. ورسول الله المسدد من ربه فإن خفي عليه أمر عمرو فإن الله سيسدده ويكشف له حاله كما كشف له أمر المنافقين، فهل يعقل أن يكون عمرو بن العاص س ممن ينطوي على غدر ثم يوليه رسول الله ص ويستعمله، ويقره الله على هذا ولا يبين له خبيئة نفسه ومكنون صدره؟!
ثم لايقف الأمر على توليته واستعماله، بل ويمدحه ويثني عليه، ويستمر عمرو في ولايته حتى موته ص، ثم خلفاؤه من بعده يتابعونه على ذلك السَنَن، ويحتذون حذوه في السر والعلن!
إذا تبين لك هذا؛ علمت أنه محال عقلاً وغير جائز شرعاً أن يظن برسول الله وخلفاءه من بعده أن يولوا على المسلمين من يتهمونه بخبثة أويظنون به غدراً. بل هذا مما تأباه العقول الرشيدة وترفضه النفوس السليمة، والأمر الذي تقبله النفوس السليمة وتتدين به العقول الرشيدة أنه كان محمود السريرة؛ لذلك ولوه من الأعمال ما رأوه أهلاً لها من غير شك فيه ولا رِيبة.
ومما يشهد لحسن سريرته؛ جهاده وسعيه في نشر الإسلام في بقاع كثيرة من بلدان العالم القريبة والبعيدة.
ومما يأتي على هذا الحديث من القواعد ويجتث جدوره: أن رسول الله قال: - فيما رواه الترمذي وغيره- «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ»[600]، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ: عَمْرٌو وَهِشَامٌ»[601] [602].
الوجه الثالث: قوله: (مااجتمعا إلا على غدرة) كلام باطل، فإن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ل قد اجتمعا على خير؛ فاجتمعا في الجهاد في غزوة حنين بعد فتح مكة، وفي تبوك فلم يذكر أنهما تخلفا عن الغزوة واجتمعا في حجة الوداع وكذلك في حروب الشام.
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان[603]: «وفتحت عكة في حدود سنة 15 على يد عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان».
وقال ابن كثير في البداية والنهاية[604]: «فبينما عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون».
فساروا نحوهم فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه فأجابهم عمر س إلى ما سألوا، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة، وضرب عليهم الجزية، واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير، وشهد في الكتاب خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وهو كاتب الكتاب وذلك في سنة خمس عشرة»[605].
[585] وقعة صفين (ص/218-219)، والغدير للأميني (2/128).
[586] وقعة صفين (218-219).
[587] (ص/116).
[588] التقريب لابن حجر (950).
[589] تهذيب الكمال للمزي (5/97).
[590] التقريب لابن حجر (5053).
[591] المعجم الكبير(7/289).
[592] تاريخ دمشق (46/169).
[593] وقع في تاريخ دمشق ولسان الميزان{ سعيد} بن عبدالرحمن وصوابه شداد كما في بقية المصادر.
[594] لسان الميزان (3/36)
[595] الجرح والتعديل (7/315).
[596] المجمع (7/496).
[597] تقدم (ص/60).
[598] (ص/154).
[599] (1) رقم (142).
[600] تقدم تخريجه (ص/76).
[601] تقدم (ص/60).
[602] درء الانتقاص عن عمرو بن العاص، لمحمد كمال (ص/46-48) بتصرف.
[603] (4/144).
[604] (9/658).
[605] درء الانتقاص، لمحمد كمال (ص/50).
الشبهة الأولى: تأليبه على قتل عثمان س.
الشبهة الثانية: ركونه إلى حزب معاوية س في الدنيا
الشبهة الثالثة: اتقاؤه علياً س بعورته أثناء المبارزة
الشبهة الرابعة: قتله وتحريقه لمحمد بن أبي بكر
شبهات حول علاقته بالصحابة ش
ومفاد ذلك: ما روي عن أبي عون مولى المسور قال: كان عمرو بن العاص على مصر عاملاً لعثمان، فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة، واستعمل عبد الله بن سعد على الخراج، ثم جمعهما لعبد الله بن سعد، فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان...فكان يأتي علياً مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان، ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلما كان حصر عثمان الأول خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع فنزل في قصر له يقال له العجلان... فبينما هو جالس في قصره ذلك ومعه ابناه محمد وعبدالله وسلامة بن روح الجذامي،...فلما بلغه مقتل عثمان، قال: أنا أبو عبدالله قد يضرط العير والمكواة في النار[607]، فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مر به راكب آخر فناداه عمرو: ما فعل الرجل يعني عثمان، قال: قتل، قال: أنا أبو عبدالله إذا حككت قرحة نكأتها[608]، إن كنت لأحرض عليه حتى إني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل، فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحق من حافرة الباطل، وأن يكون الناس في الحق شرعاً سواء، وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ففارقها؛ حين عزله.
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من أربعة أوجه:
الوجه الأول: - من جهة السند -: ذكر هذه القصة الطبري في تاريخه[609] من طريق الواقدي أن عبد الله بن جعفر حدثه عن أبي عون مولى المسور قال كان عمرو بن العاص به.
القصة لا تثبت؛ لأن في سندها علتان:
الأولى: الواقدي: محمد بن عمر متروك[610].
الثانية: أبو عون مولى المسور لعله ابن أبي حازم، قال أبو زرعة: مديني لا نعرفه. ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل[611] قال: روى عن عبد الله بن الزبير روى عنه عبد الله بن جعفر المخرمي.
الوجه الثاني- من جهة المتن-: من تأمل القصة المروية عن ابن عون يجزم ببطلان ما نسب إلى عمرو بغض النظر عن ضعف إسنادها وذلك للآتي:
أولاً: تفيد القصة بأن تحريضه على عثمان س كان مشاعاً ومذاعاً إذ لم يقتصر على كبار الصحابة كعلي وطلحة ب بل حتى الحجاج والرعاة، ومعلوم أن عمراً انضم لمعاوية في المطالبة بدم عثمان! فلو كان فعلاً قد حرض عليه لبدأ بقتله أهل الشام إذ كان السبب في ذلك.
ثانياً: في الأثر أنه كان يأتي علياً ويألبه على عثمان، فلو كان تحريضه لعلي س على عثمان ثابتاً؛ لكشف أمره أمير المؤمنين علي س وبين أنه من المحرضين، وأن ما وصل الأمر إلى ما وصل إليه إلا بسبب تحريضه وتأليب الناس عليه.
ثالثاً: في الأثر بأنه: قالها أمام ابنه عبد الله، وقد تقدم[612] بأنه أحد السابقين أسلم قبل أبيه، وكان فاضلاً حافظاً عالماً قرأ الكتاب، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، فكيف نستطيع أن نصدق بأنه أقر أباه على هذا التحريض؟ وقد تقدم في الفصل الأول أنه لما حصل ذات يوم بين عمرو بن العاص وبين المغيرة بن شعبة كلام في الوهط فسبه المغيرة، فقال عمرو: يا آل هصيص أيسبني ابن شعبة؟ قال ابنه عبد الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، دعوت بدعوى القبائل، وقد نهى رسول الله ص عن دعوى القبائل، قال: فأعتق ثلاثين رقبة[613].
أفيعقل أن يقال: إنه أنكر على أبيه نداءه لقبيلته والتعصب القبلي ثم لا ينكر على أبيه في تحريضه لقتل خليفة المؤمنين؛ لمجرد عزله عن ولاية مصر!.
رابعاً: ختمت القصة بدليل ساطع على بطلانها إذ يقول: وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ففارقها؛ حين عزله.
فأفادت القصة بأن عمراً فارق أم كلثوم لما عزله عثمان، مع أن المذكور في كتب التراجم بأن عمرو بن العاص تزوجها بعد موت عبد الرحمن بن عوف ثم ماتت عنده، وفي بعض المصادر - تحديد المدة - «فمكثت عنده شهراً، ثم ماتت» !![614].
فتبين لك أخي القارئ الكريم: بعد هذا التأمل؛ أن القصة ملفقة زيادة على ضعف سندها.
الوجه الثالث: أن هناك رواية أخرى تصادم وتخالف هذه الرواية وتتوافق مع شخصية الصحابي الجليل عمرو بن العاص س، بل وتدل على بطلان هذه الرواية وأنها بعيدة عن الواقع.
قال الطبري[615]: وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين بايع عمرو بن العاص معاوية ووافقه على محاربة علي؛ وكان السبب في ذلك ما كتب به إليَّ السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان قالوا: لما أحيط بعثمان س خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجهاً نحو الشام، وقال: والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله عز وجل بذل، من لم يستطع نصره فليهرب. فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، وخرج بعده حسان بن ثابت، وتتابع على ذلك ما شاء الله.
قال سيف: عن أبي حارثة وأبي عثمان قالا: بينا عمرو بن العاص جالس بعجلان ومعه ابناه إذ مر بهم راكب فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة، فقال عمرو: ما اسمك؟ قال: حصيرة، قال عمرو: حصر الرجل، قال: فما الخبر؟ قال: تركت الرجل محصوراً، قال عمرو: يقتل ثم مكثوا أياماً فمر بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال من المدينة، قال عمرو: ما اسمك؟ قال قتال، قال عمرو: قتل الرجل، فما الخبر؟ قال: قتل الرجل، قال: ثم لم يكن إلا ذلك إلى أن خرجت، ثم مكثوا أياماً فمر بهم راكب فقالوا: من أين؟ قال من المدينة قال عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب، قال: عمرو يكون حرب، فما الخبر؟ قال: قتل عثمان بن عفان س وبويع لعلي بن أبي طالب، قال عمرو: أنا أبو عبدالله تكون حرب من حك فيها قرحة نكأها، رحم الله عثمان وغفر له، فقال سلامة بن زنباع الجذامي: يا معشر قريش إنه والله قد كان بينكم وبين العرب باب فاتخذوا باباً إذ كسر الباب، فقال عمرو وذاك الذي نريد ولا يصلح الباب إلا أشاف[616] تخرج الحق من حافرة البأس ويكون الناس في العدل سواء ثم تمثّل عمرو في بعض ذلك:
يـا لـهـف نـفـسي عـلـى مــالــكـــ
وهــل يصـرف اللهـف حـفظ القدر!
أنــزع مــن الحـــرّ [617] أودى بـــهـــم
فــأعــذرهم أم بـقـومــي ســـــكر!
ثم ارتحل راجلاً يبكي كما تبكي المرأة، ويقول: واعثماناه أنعى الحياء والدين حتى قدم دمشق، وقد كان سقط إليه من الذي يكون علم فعمل عليه.
ولكن هذه الرواية أيضاً لا تثبت كسابقتها؛ لأن في سندها: (سيف بن عمر) وهو: التميمي متروك[618].
والرواي عنه: شعيب هو: ابن إبراهيم الكوفي، ففي ترجمته؛ ساق حديثه هذا ابن عدي[619] وقال: وشعيب بن إبراهيم هذا له أحاديث وأخبار وهو ليس بذلك المعروف ومقدار ما يروي من الحديث والأخبار ليست بالكثيرة وفيه بعض النكرة؛ لأن في أخباره وأحاديثه ما فيه تحامل على السلف.
وقال الذهبي: هو راوية كتب (سيف)، فيه جهالة[620].
قد تبين لك أخي الكريم أن الرواية- التي تزعم أن عمرو ألب الناس على عثمان – ضعيفة السند وما ذكر في متنها- مع نكارته - لا يتناسب مع صفات الصحابة الذين زكاهم الله من فوق سبع سموات، أضف إلى ذلك وجود روايات أخرى وإن كانت ضعيفة أيضاً لكنها تناقض الروايات الأولى، وهي موافقة للأصول، وتتناسب مع صفاتهم وليس في متنها نكارة؛ فأي الروايتين أحق بالأخذ إن كنتم تعلمون؟.
الوجه الرابع: أن يكون هذا الحديث مما تناقلته الألسنة بقطع النظر عن صحته؛ لهذا نقله أبو عون مولى المسور وهو لا يعلم أنه غير صحيح، وليس هذا ببعيد في عصر كان يموج بفتن كثيرة،[621] لا سيما وأنه لا يُدرى عن من أخذ هذه الرواية!.
وبعد ذكر هذه الأوجه: فلتتيقن أخي الكريم أن نسبة هذا الأمر للصحابي لجليل لا تصح، ولا يجوز أن ننسب أمراً ما لأي شخص دون بينة صحيحة، فكيف بصحابي امتدحه النبي ص وأثنى عليه كما مر بك في الفصل الأول[622].
[606] كتاب وقعة صفين لابن مزاحم (ص/38)، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1/136).
[607] يضرب هذا للرجل يتوقع الأمر قبل أن يحل به، وللرجل يخاف الأمر فيجزع قبل وقوعه فيه. المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (7/158)، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري (3/45).
[608] يضرب مثلا للرجل المصيب بالظنون فإذا ظن فكأنه رأى. الأمثال لابن سلام(ص/16) جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (1/118)، المستقصى في أمثال العرب للزمخشري (1/124).
[609] (4/ 357).
[610] تقدم (ص/118).
[611] (9/414).
[612] (ص/63).
[613] تقدم (ص/74).
[614] تقدم (ص/61).
[615] تاريخ الطبري (4/ 558)، وانظر: تاريخ دمشق (55/28).
[616] أشاف جمع إشْفَى وهو مخرز الإسكاف. المعجم الوسيط (1/19). وأراد به الشيء الدقيق الحاد الذي يُستخرج به.
[617] كذا في تاريخ الطبري (حر) ولعلها مصحفة من الجن كما هي في تاريخ دمشق (55/28).
[618]) تقدم (ص/146).
[619] تقدم (ص/146).
[620] تقدم (ص/146).
[621] درء الانتقاص عن عمرو بن العاص لمحمد كمال (ص/84).
[622] (ص/74).
وذلك لما رواه عبد الوهاب بن يحيى بن عبد الله بن الزبير نا أشياخنا...وذكر أن عمرو بن العاص استشار ابنيه- بعد الجمل- إلى أي الفريقين يعمد، فقال له عبد الله ابنه: إن كنت لا بد فاعلاً فإلى علي، فقال له عمرو: ثكلتك أمك إني إن أتيت علياً قال لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره، فأتى معاوية.
وفي قصة أخرى: أن علياً بن أبي طالب كتب إلى عمرو بن العاص، فلما أتى عمراً الكتاب أقرأه معاوية الكتاب، وقال: قد ترى ما كتب إلي علي بن أبي طالب، فإما أن ترضيني وإما أن ألحق به فقال له معاوية: فما تريد؟ قال أريد مصر مأكلة، فجعلها له معاوية كما أراد، فاتخذ عمرو بن العاص أربعة.
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: - من جهة السند-: القصة الأولى أخرجها ابن عساكر في تاريخه[624]:
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد أنا أحمد بن الحسن بن خيرون أنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم أنا أحمد بن إسحاق بن نيخاب نا إبراهيم بن الحسين بن علي نا يحيى بن سليمان الجعفي قال وحدثني زيد بن الحباب العكلي أخبرني جويرية بن أسماء الضبعي حدثني عبد الوهاب بن يحيى به.
ونا إبراهيم بن الحسين نا يحيى بن سليمان نا إبراهيم بن الجراح قال: ثم رجع إلى حديث أبي يوسف عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن أبيه أو عن غيره قال: لما بلغ عمرو بن العاص بيعة الناس علياً دعا ابنيه عبد الله ومحمداً فاستشارهما... وذكر الرواية الثانية.
الإسنادان ضعيفان. السندالأول فيه عبد الوهاب بن يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير قال الحافظ: مقبول[625]. يعني إن توبع وإلا فلين، كما نص عليه في المقدمة. وأشياخه مبهمون. والسند الآخر ضعيف فيه إبراهيم بن الجراح.
قال ابن حبان: إبراهيم بن الجراح من أصحاب الرأي سكن مصر يروى عن أبي يوسف وغيره وأهل العراق روى عنه أحمد بن عبد الله الكندي يخطىء[626].
ومحمد بن إسحاق هو ابن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق إمام المغازي صدوق يدلس[627]. وقد عنعن في هذا السند ولا تقبل روايته إلا إذا صرح.
والقصة الثانية: أخرجها كذلك ابن عساكر[628]: أخبرنا أبو عبد الله البلخي أنا أبو الحسن علي ابن الحسين ابن أيوب أنا أبو علي بن شاذان أنا أحمد بن إسحاق بن نيخاب نا إبراهيم بن الحسين بن علي نا يحيى ابن سليمان الجعفي حدثني عبد الرحمن بن زياد أنا أبو الصباح الأنصاري الواسطي نا أبو هشام الرماني عن من حدثه قال: كتب علي بن أبي طالب إلى عمرو ابن العاص..الخ.
وهذه القصة ضعيفة كسابقتها؛ لأن في سندها: عبد الغفور أبو الصباح الواسطي.
قال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء.
وقال ابن حبان: كان ممن يضع الحديث.
وقال البخاري: تركوه.
وقال ابن عدى: ضعيف منكر الحديث[629].
وفي أنساب الأشراف[630] طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلة:
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثني بشير بن عقبة أبو عقيل: عن الحسن قال: لما كان من أمر علي ومعاوية ما كان؛ دعا معاوية عمرو بن العاص إلى قتال علي فقال: لا والله لا أظاهرك على قتاله حتى تطعمني مصر؛ فأبى عليه فخرج مغضباً. ثم إن معاوية ندم وقال: رجل طلب إلي في شيء على هذه الحال فرددته؟ فأجابه إلى ما سأل.
وفي طبقات ابن سعد[631].
قال: أخبرنا معاذ بن معاذ قال: أخبرنا أبو عون عن الحسن قال: كان الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص، وكان أحدهما يبتغي الدنيا والآخر يبتغي الآخرة.
الإسناد إلى الحسن البصري صحيح، ولكنه لم يشهد الحادثة فقد كان صغيراً بالمدينة ومعاوية بالشام، وقد سئل أبو زرعة: لقي الحسن أحداً من البدريين؟ قال: رآهم رؤية، رأي عثمان بن عفان وعلياً، قلت: سمع منهما حديثاً؟ قال: لا، وكان الحسن البصري يوم بويع لعلي س ابن أربع عشرة، ورأى علياً بالمدينة ثم خرج علي إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك.
وقد حكم العلماء على مراسيل الحسن بالضعف، قال ابن سعد: قالوا ... وكان ما أسند من حديثه وروى عن من سمع منه فحسن حجة، وما أرسل من الحديث فليس بحجة.
وقال أحمد بن حنبل: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد.
قال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح.
قال العلائي: كثير التدليس وهو مكثر من الإرسال.
قال علي بن المديني: رأى الحسن أم سلمة ولم يسمع منها ولا من أبي موسى الأشعري[632].
فثبت مما تقدم عدم حضور الحسن للحوار الذي نقله عن عمرو بن العاص ومعاوية ل، وقد تقدم في التمهيد أنه قد كثر التزوير والإشاعات عن الصحابة في هذه الفتنة، فربما سمع الحسن هذه الشائعة فظنها صدقاً فحكاها كما سمعها، ثم ذكر بأن أحد الحكمين كان يبتغي الدنيا بناءً على ما سمع، والقصة أصلاً لم تثبت[633].
الوجه الثاني: أن في سياق الرواية نكارة لا تتوافق مع شخصية عمرو وسيرته.
إذ سياق الرواية كأنها تتحدث عن قائد عسكري في عنفوان شبابه له شغف بالمال والولاية - ولو على حساب دينه - لاه عن الآخرة غافل عن الموت، وهذا الوصف لا يتناسب مع مجتمع الصحابة، المجتمع الذي تربى أفراده على يد نبينا محمد ص وتعلموا منه حقارة الدنيا ودناءتها قولاً وفعلاً، وعمرو وما أدراك ما عمرو! من أفاضل الصحابة صاحب الفتوحات، شهد له النبي ص بالإيمان والصلاح، وعندما أراد إرساله وتأميره على جيش ذات السلاسل قال له: «يَا عَمْرُو اشْدُدْ عَلَيْكَ سِلاَحَكَ، وَثِيَابَكَ، وَأْتِنِي فَفَعَلْتُ فَجِئْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ، وَقَالَ: يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ وَجْهًا، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزعَبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ زَعبَةً صَالِحَةً، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، إِنَّمَا أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ، وَالْكَيْنُونَةِ مَعَكَ، قَالَ: يَا عَمْرُو، نَعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ، لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»[634] ولو كان باطن عمرو مخالفاً لظاهره؛ لأعلم الله رسوله ص بما يبطنه عمرو. أضف إلى ذلك أن عمراً كان عمره آنذاك يناهز الثمانين وهو سن يناسبه الوقار والزهد عن الدنيا وجمع الأموال بالطرق المباحة فضلاً على أن يتوصل للدنيا بسفك الدماء والطرق المحرمة، وتاريخه شاهد بذلك.
الوجه الثالث: مما يدل على أن عمرو بن العاص انضم لمعاوية اجتهاداً لا طمعاً في الدنيا؛ أنه لما علم بقتل عمار بن ياسر فزع فزعاً شديداً ودخل على معاوية يخبره بالأمر، ففي مسند أحمد عن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص، فقال: قتل عمار، وقد قال رسول الله ص: تقتله الفئة الباغية، فقام عمرو بن العاص فزعاً يُرجِّع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قُتل عمار، فقال معاوية: قد قتل عمار، فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله ص يقول: تقتله الفئة الباغية، فقال له معاوية: دحضت[635] في بولك، أو نحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا[636].
وقد يقال لماذا لم يدخل معاوية وعمرو ب في بيعة علي س بعد قتل عمار؛ إن كانا يريدان الحق؟
والجواب: أنهما امتنعا من الدخول في بيعة علي س؛ لعدم تمكينهما من قتلة عثمان س، وعلي س أخر القصاص حتى يستتب له الأمر وتهدأ الفتنة، لا سيما وأن الذين حاصروا عثمان جمع غفير – فطلب علي س منهم الدخول في البيعة فأبوا، فتوجه إليهم ليدخلهم في بيعته فرفضوا مبايعته حتى يقتص من القتلة، فرأى علي قتالهم – لأنهم في نظره بغاة – حتى يدخلهم في بيعته؛ فحصل القتال بين الصفين، وهم متيقنون أنهم على الحق؛ لأنهم يطالبون بدم عثمان وقد قال تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا﴾[637]. ومعاوية؛ ابن عمه، وأقوى أوليائه في الطلب بالقصاص، والقتلة في صف علي.
ولعلمهم أن النبي ص أمر عثمان بعدم التنحي عن الخلافة إذا طلب منه المنافقون ذلك وأخبره أنه سيقتل مظلوماً، ففي مسند أحمد قوله ص: يا عثمان، إن الله مقصمك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على أن تخلعه فلا تخلعه لهم، ولا كرامة[638].
وعن جبير بن نفير، قال: كنا معسكرين مع معاوية بعد قتل عثمان، فقام كعب بن مرة البهزي فقال: لولا شيء سمعته من رسول الله ص ما قمت هذا المقام، فلما سمع بذكر رسول الله ص، أجلس الناس، فقال: بينما نحن عند رسول الله ص، إذ مر عثمان بن عفان مرجلاً قال: فقال رسول الله ص:
لتخرجن فتنةٌ من تحت قدمي- أو من بين رجلي- هذا، هذا يومئذ ومن اتبعه على الهدى، قال: فقام ابن حوالة الأزدي من عند المنبر، فقال: إنك لصاحب هذا؟ قال: نعم، قال: والله إني لحاضر لذلك المجلس، ولو علمت أن لي في الجيش مصدقاً كنت أول من تكلم به[639].
فلما قتل عمار كان كالصعقة لهم، إذ كيف يكونون فئة باغية وهم يطالبون بدم الخليفة عثمان، وقتلته أيضاً موجودون في صف علي، وقد وصفهم النبي ص بالنفاق، ثم هم لم يبدؤوه بالقتال[640] بل هو من قدم بقوله هم رموه بين أسيافنا ورماحنا.
وتألم[641] عمرو بن العاص لموت عمار، وبشر قاتله وسالبه بالنار، ورأى أن الإثم مقصور على من قتله، ففي مسند أحمد بن أبي غادية، قال: قتل عمار بن ياسر فأخبر عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله ص يقول: إن قاتله، وسالبه في النار، فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله، قال: إنما قال: قاتله، وسالبه[642].
وبقي الألم ملازماً له لكنه لم يتيقن من خطئه للأسباب المتقدمة، ولعل ما يدل على هذا قوله عند موته: كنت على أطباق ثلاث وذكر الحالة الأولى: وهي وقت كفره، والحالة الثانية: وهي وقت إسلامه وجهاده وحياته مع نبينا ص، ثم ذكر المرحلة الثالثة وهي قوله: ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها؛ ومعناه ما ورد في مسند أحمد ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدري علي أم لي[643].
فهو لم يجزم بالخطأ ولكنه خاف أن يكون أخطأ في اجتهاده وجانب الصواب، والله أعلم.
الوجه الرابع: ثبت في السنة النبوية ثناء النبي ص على الطائفتين المتقاتلتين، ووصفهما بأنهما عظيمتين، ففي صحيح البخاري من حديث أبي بكر س أنه سمع النبي ص يقول في شأن ابنه الحسين ابن علي ب: إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[644].
ومن المعلوم أن معاوية سكان قائد الطائفة الأخرى وعمرو س كان وزيره.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله ص: تَمرُقُ مارقةٌ من الناس، فَيَلِي قَتَلهُم أولى الطائفين بالحق[645]. فوصف الرسول ص – الذي لا ينطق على الهوى – الطائفتين بأنهما عظيمتان، وأنهما من المسلمين، وأن أولاهما بالحق وأقربهما الطائفة التي تقتل الخوارج، وهي طائفة أمير المؤمنين علي س، وهو – أي القتال بين الطائفين – إخبار عن أمر مغيب أعلمه الله بالوحي فهو من دلائل نبوته، فكيف يقال: بأن عمراً قاتل لأجل المال أو أن معاوية قاتل من أجل الملك، وقد وصف رسول الله طائفته بأنها عظيمة وأنها على الحق، وهو زعيمهم وعمرو يعتبر الرجل الثاني بعده؟!!
الوجه الخامس: كيف يسوغ لنا وصف صاحب رسول الله ص بأنه وقف في صف معاوية؛ لأجل حطام الدنيا لا اجتهاداً منه؛ والقصة أصلاً لا تثبت، وقد قالت العرب: ثبت عرشك ثم انقش.
ليس من العدل أن ننسب لغير الصحابة أمراً ما بدون بينة صحيحة فكيف بالصحابي!.
أخي الكريم: لو نقل لك كلام سيء عن شيخك أو صاحبك، وليس ثمة شهود، أو وجد شهود ولكن غير عدول هل تقبل؟
بالطبع كل عاقل سيقول لا وألف لا؛ فكيف نقبل ذلك في صحابة رسول الله ص، هل هذا من العدل؟! أخي الكريم، اسأل نفسك هذا السؤال ولا تسأله غيرك.
[623] كتاب وقعة صفين لابن مزاحم (ص/38)، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1/136).
[624] تاريخ دمشق (46/165).
[625] التقريب رقم (4265).
[626] الثقات (8/69).
[627] التقريب رقم (5725).
[628] (46/170).
[629] الميزان (4/381).
[630] (1/320).
[631] (4/113).
[632] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/157)، المراسيل لابن أبي حاتم الرازي (ص:8)، جامع التحصيل (ص160/90)، تدريب الراوي (1/204).
[633] روي أن عمار بن ياسر دنا من عمرو بن العاص في يوم صفين وقال له: يا عمرو بعت دينك بمصر تباً لك تباً طالما بغيت في الإسلام عوجاً. أخرجه الطبري (3/98) من طريق منصور بن أبي نويرة عن أبي مخنف قال حدثني مالك بن أعين الجهني عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر به. وأخرجه ابن مزاحم وقعة صفين (ص261) من طريق عمر قال: حدثني عبد الرحمن ابن جندب، عن جندب بن عبد الله قال: قام عمار بن ياسر بصفين فقال .... إلخ. الإسنادان ضعيفان جداً، في سند الطبري منصور بن يعقوب بن أبي نويرة قال ابن عدي: يقع في حديثه أشياء غير محفوظة. الكامل في الضعفاء (6/392)، وأبو مخنف لوط بن يحيى، قال الذهبي: أخباري تالف لا يوثق به، ومالك بن أعين الجهني: مجهول تقدم الكلام عليهما (ص/40). وفي السند الآخر: نصر بن مزاحم المنقري صاحب الكتاب متروك، وشيخه عمر بن سعد أيضاً متروك الحديث قاله أبو حاتم، تقدم (ص113)، عبد الرحمن بن جندب مجهول قاله ابن حجر في لسان الميزان (3/408). = = وفي طبقات ابن سعد (4/258) سند آخر أيضاً ضعيف جداً. قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني مفضل بن فضالة عن يزيد بن أبي حبيب قال: وحدثني عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن أبي عون قالا: لما صار الأمر في يدي معاوية استكثر طعمة مصر لعمرو ما عاش ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتبديره وعنائه وسعيه فيه، وظن أن معاوية سيزيده الشام مع مصر فلم يفعل معاوية ..... السند فيه علتان: الأولى: الواقدي وهو متروك وقد تقدم (ص/202). الثانية: الإرسال فإن يزيد بن أبي حبيب وعبد الواحد بن أبي عون من الرواة عن التابعين، انظر: ترجمتهما من تهذيب الكمال (18/463)، (32/103).
[634] تقدم (ص/77).
[635] أصل الدحض الزيق يُقال: دحض يدحض دحضاً إذا زلق. غريب الحديث لابن قتيبة (1/321).
[636] مسند أحمد (29/317). تنبيه: في صحيح البخاري (1/97) وقع بلفظ: ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار. = = قال ابن حجر: فإن قيل كان قتله بصفين وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم. فتح الباري (1/542).
[637] سورة الإسراء الآية (33).
[638] تقدم (ص/60).
[639] أخرجه أحمد (29/608)، والطبراني في المعجم الكبير (20/316) قال الألباني: وإسناد أحمد صحيح على شرط مسلم. السلسلة الصحيحة (7/319).
[640] انظر: منهاج السنة لابن تيمية (4/459: 391: 383)، (8/523).
[641] اما ما ورد عنه بأنه فرح لموت عمار فهي رواية باطلة منكرة، أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق (68/28)، وابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب (10/4671) كلاهما من طريق: إبراهيم بن ديزيل عن يحيى بن سليمان الجعفي عن نصر بن مزاحم عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال: سمعت الشعبي رجع إلى حديثه عن الأحنف بن قيس قال: ثم حمل عمار بن ياسر عليهم فحمل عليه ابن حوي السكسكي وأبو الغادية الفزاري قال: وأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن حوي فاحتز رأسه، وقد كان ذو الكلاع سمع قبل عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله ص لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح لبن، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك ما هذا يا عمرو فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا فأصيب عمار بعد ذي الكلاع مع علي، وأصيب ذو الكلاع مع معاوية قبل ذلك، فقال عمرو بن العاص لمعاوية، والله يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً بقتل عمار أو ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار؛ لمال بعامة أهل الشام، ولأفسد علينا جندنا .... إلخ. هذا سند مظلم فيه ثلاث علل: العلة الأولى: نصر بن مزاحم المنقري متروك، تقدمت ترجمته ص(120). العلة الثانية: عمرو بن شمر الجعفي الكوفي أبو عبد الله. قال يحيى: ليس بشيء، وقال الجوزجاني: زائغ كذاب، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث، وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: منكر الحديث جداً ضعيف الحديث لا يشتغل به تركوه لم يزد على هذا شيئاً. انظر: لسان الميزان (4/367). العلة الثالثة: جابر بن يزيد الجعفي كذبه جمع من العلماء، تقدمت ترجمته (ص/255).
[642] المسند (29/311) من طريق عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا أبو حفص، وكلثوم بن جبر، عن أبي غادية به. كلثوم بن جبر صدوق يخطئ وهو من رجال مسلم. انظر التقريب رقم (5653)، وصحح هذا الإسناد الألباني في الصحيحة (5/19).
[643] تقدم (ص/235).
[644] تقدم (ص/66).
[645] تقدم (ص/67).
ومفاد ذلك: ماجاء في بعض الروايات أن عمراً قال لمعاوية: أتجبن عن علي وتتهمني في نصيحتي إليك؟ والله لأبارزن علياً ولومت ألف موتة في أول لقائه، فبارزه عمرو فطعنه علي فصرعه فاتقاه بعورته فانصرف عنه علي وولى بوجهه دونه.
وكان علي س لم ينظر قط إلى عورة أحد حياء وتكرماً وتنزهاً عما لا يحل ولا يجمل بمثله كرم الله وجهه[646].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من سبعة أوجه.
الوجه الأول: أن القصة لم ترد مسندة إلا في كتاب الإمامة والسياسة[647]- المنسوب إلى ابن قتيبة-.
وقد أنكر عدد من المؤرخين والمحققين نسبته إلى ابن قتيبة، يقول شاكر مصطفى: أما كتاب الإمامة والسياسة...فكتاب موضوع أكثر من مرة، ويبحث في تاريخ الخلافة وشروطها منذ وفاة الرسول ص حتى عهد المأمون. وقد تشكك العلماء في نسبة الكتاب إلى ابن قتيبة. وأول من أعلن ذلك وعلله هو غاينفوس المجريطي في صدر كتابه عن الأندلس سنة 1881 م ثم تبعه دورزي وآخرون[648]. وقال الدكتور عبد الحليم عويس عن الكتاب بأنه: مليء بالغرائب فيما يتعلق ببني أمية وصاحبه، متحيز ضدهم وهو لا يذكر لنا مصادره، ولا سلسلة رواته، والذين درسوا حياة ابن قتيبة يشككون في نسبة الكتاب إليه؛ لأن ابن قتيبة أديب أكثر منه مؤرخاً...كما أنه كان أمينا في ترجماته التي وردت في كتابه المعارف لبعض شخصيات العصر الأموي، وهو مايتناقض مع ما أورده- إذا صح نسبته إليه - في كتاب الإمامة، فالكتاب فضلاً عن كونه مشكوك النسبة إلى صاحبه لم يوثق رواياته[649].
والذي دفع العلماء إلى إنكار نسبة الكتاب إلى ابن قتيبة؛ الأدلةُ القاطعة والبراهينُ الساطعة الدالة على بطلان نسبة الكتاب إليه، يشهد بصدقها من له أدنى مسكة من فهم للتاريخ وإليك بعضها:
1- أن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكروا هذا الكتاب ضمن كتبه.
2- أن الكتاب يذكر أن مؤلفه كان بدمشق، وابن قتيبة لم يخرج من بغداد إلا إلى دينور.
3- أن الكتاب يروى عن أبي ليلى، وأبو ليلى كان قاضياً بالكوفة سنة (148هـ) أي قبل مولد ابن قتيبة بخمس وستين سنة.
4- أن المؤلف نقل خبر فتح الأندلس عن امرأة شهدته، وفتح الأندلس كان قبل مولد ابن قتيبة بنحو مائة وعشرين سنة[650].
5- أن مؤلف الكتاب يذكر فتح موسى بن نصير لمراكش، مع أن هذه المدينة شيدها يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين سنة (455هـ) وابن قتيبة توفي سنة (276هـ).
6- أن مؤلف الإمامة والسياسة يروي كثيراً عن اثنين من كبار علماء مصر، وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ عن هذين العالِمَين، فدل ذلك كله على أن الكتاب مدسوس عليه[651].
7- أن في الكتاب جهل تاريخي لا يمكن أن يفوت ابن قتيبة، كاعتباره: أبا العباس والسفاح شخصيتين، وجعله الرشيد خلفاً للمهدي، وذِكره أن ابنه عبد الله دس له السم، وليس للمهدي ابن بهذا الاسم.
8- أن شيوخ ابن قتيبة الذين يردون عادة في كتبه لا ذكر لهم أبدا في هذا الكتاب.
9- أن المؤلف مالكي الهوى والمذهب، وابن قتيبة حنفي.
10- أن أسلوب الكتاب مغاير لمألوف أسلوب ابن قتيبة، فيه عناية بالقصص والرواية[652].
قال أحمد صقر: وقد نسب إلى ابن قتيبة كتاب مشهور شهرة بطلان نسبته إليه كتاب الإمامة والسياسة، وهل يسيغ هذه النسبة عقل؟ مع عرفانه بأن مؤلف الإمامة والسياسة.. ثم قال بعد أن ساق الدليلين الرابع والخامس المتقدمين: إن هذا وحده يدفع نسبة الكتاب إلى ابن قتيبة، فضلاً عن قرائن وأدلة أخرى كلها يثبت تزوير هذه النسبة[653].
وبعد هذه الدراسة نعلم علم اليقين أن كتاب الإمامة والسياسة لا يصح نسبته إلى ابن قتيبة للأدلة الآنفة الذكر، وهي واضحة في بطلان نسبة الكتاب إليه وضوح الشمس في رابعة النهار.
الوجه الثاني: لو سلمنا بصحة نسبة الكتاب إليه فإسناد القصة غير صحيح.
قال عبد الله بن مسلم: حدثنا ابن أبي مريم وابن عفير قالا: حدثنا ابن عون قال: أخبرنا الخول بن إبراهيم وأبو حمزة الثمالي وبعضهم يزيد على بعض والمعنى واحد فجمعته وألفته على قولهم ومعنى ما أرادوا عن علي بن الحسين قال: لما أنكر الناس على عثمان بن عفان صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه....
ابن عون: هو عمر بن عون بن عمرو بن تميم الأنصاري أبو عون.
قال ابن أبي حاتم: روى عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمرة الأنصاري روى عنه سعيد بن كثير ابن عفير المصري نا عبد الرحمن قال سألت أبي عنه فقال مجهول[654].
والخول بن إبراهيم لم أجد له ترجمة.
وأبو حمزة الثمالي: ثابت بن أبي صفية الثمالي بضم المثلثة أبو حمزة واسم أبيه دينار وقيل سعيد كوفي ضعيف مات في خلافة أبي جعفر قاله الحافظ[655].
علي بن الحسين هو: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي زين العابدين ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور[656] لم يدرك عثمان س بل قال أبو زرعة لم يدرك جده علياً س [657] فالأثر منقطع مع ضعف بعض رواته.
الوجه الثالث: أن في متن القصة نكارة إذ أن هذا الفعل لايتوافق مع صفات الصحابة الأجلاء بل لا يليق حتى بالفضلاء من هو دون الصحابة، ويتنزه عنه كل كريم.
الوجه الرابع: مما يدل على عدم ثبوت القصة أنها تنافي الثابت والوارد والمعروف تاريخياً عن شخصية عمرو، فعمرو وما أدراك ما عمرو، موصوف بالشجاعة في الجاهلية والإسلام، فقد كان في الجاهلية ضمن من خرج يوم أحد بزوجته التماس الحفيظة وأن لا يفروا.
وفي يوم الأحزاب كانت خيل المشركين تطيف بالخندق وتطلب غرة ومضيقاً من الخندق فتقتحم فيه وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك يطلبان الغفلة من المسلمين. وقد أقام هو وخالد مع أبي سفيان في مائتي فارس بعد أن سار جميع العسكر حماية لهم حتى لايطلبهم جيش المسلمين.
أما في الإسلام فله مواقف كثيرة تدل على شجاعته:
1- فقد ولاه ص على سرية نحو الشام، فيهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار منهم أبوبكر وعمر فأحسن تدبيرها.
2- تكذيبه لمسيلمة عياناً بعد موت النبي ص عند رجوعه من عمان قائلاً: (أما والله إنك لكاذب وإنا لنعلم أنك لمن الكاذبين).
3- وهو أحد القادة الأمراء في فتوحات الشام... وعندما رغب أبوبكر في ذهاب عمرو إلى فتح الشام خيره بين البقاء على ولايته في عمان وذهابه للشام: فكتب إليه عمرو: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به.
4- لما كان يوم اليرموك رأى عمرو بن العاص صاحب الراية ينكشف بها أخذها ثم جعل يتقدم وهو يصيح إلي يا معاشر المسلمين فجعل يطعن بها قدما وهو يقول: اصنعوا كما أصنع حتى إنه ليرفعها وكأن عليها ألسنة المطر من العلق.
5- وهو الذي دخل على الأرطبون بنفسه كأنه رسول فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه وتأمل حضرته حتى عرف ما أراد إلى غير ذلك من المواقف البطولية[658] التي تدحض هذا الزعم. فما نسب لعمرو س يتنافى مع شخصيته، بل هذا يتنافى مع صفات العرب حتى في الجاهلية، فلسان حالهم يقول إما عيشة كريمة أوموتة كريمة فلا يرضون المهانة والمسبة، وتاريخهم شاهد على ذلك.
الوجه الخامس: القصة لو صحت فهي تعود بالملامة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب س؛ لتفويته قتل عمرو س وهوالمحرك الثاني للفتنة – في رأي الخصوم- لمجرد إظهار عورته؛ لأن تفويت هذه الفرصة من علي س تدل على عدم أهليته العسكرية والسياسية وحاشاه.
الوجه السادس: من أمارات الوضع أنه يرد عند أكثر من حادثة مبارزة لعلي س وكل من المغلوبين فيها كشفوا استهم وعورتهم وكأنه أمر مدبر.
- قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني، قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله ص تحت راية الأنصار وأرسل إلى عليٍّ أن قدم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة، وهو صاحب لواء المشركين.
هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله. وقد فعل ذلك.
- علي س يوم صفين مع بسر بن أبي أرطاة؛ لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.
- وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين أبدى عن عورته فرجع علي أيضاً[659].
مسلمة بن علقمة المازني أبو محمد البصري صدوق له أوهام من الثامنة. بمعنى أنه في الطبقة الوسطى من أتباع التابعين فأين هو من غزوة أحد؟! بل بينه وبينها بعد المشرقين. فالسند مقطوع.
الوجه السابع: لو كان كشف العورة يدرأ القتل؛ لاستعمله كل أحد مع علي س ولشاع عنه وانتشر ولما حصل له مقصود من قتال، وهو قدح في سياسة علي الشرعية وتدابيره الحربية.
فلا يخفى عليك أخي الكريم بعد سرد هذه الأدلة أنه لا يجوز نسبة هذا الأمر إلى الصحابي الجليل عمرو بن العاص؛ لما تبين لك من أدلة بطلانه.
ومما أنوه بذكره هنا: أن من الأخطاء الشائعة التي قد لا يُتنبه لها عدَّ هذا الفعل من دهاء عمرو والتحدث به في المجالس، مع أن القصة أصلاً باطلة من عدة وجوه، ظلمات بعضها فوق بعض.
[646] وقعة صفين (424)، ومروج الذهب (2/405)، والغدير للأميني (1/66).
[647] الإمامة والسياسة (1/89).
[648] التاريخ العربي والمؤرخون (241).
[649] بنو أمية في التاريخ (14).
[650] ذكرها ثروت عكاشة في مقدمة كتاب المعارف لابن قتيبة (ص/56).
[651] محب الدين الخطيب في تحقيقه كتاب العواصم (262).
[652] التاريخ العربي والمؤرخون (241).
[653] مقدمة تحقيقه لـ ( تأويل مشكل القرآن ) (ص/32).
[654] الجرح والتعديل (6/252).
[655] التقريب رقم (818).
[656] التقريب رقم (4715).
[657] جامع التحصيل للعلائي (1/240).
[658] انظر: الفصل الأول (ص/68).
[659] البداية لابن كثير (5/368)، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/73).
وذلك لما بلغ عائشة قتل محمد بن أبي بكر جزعت عليه جزعاً شديداً وجعلت تقنت وتدعو في دبر الصلاة على معاوية وعمرو بن العاص[660].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول من جهة السند: هذا الأثر أخرجه الطبري[661] معلقاً:
قال أبو مخنف فحدثني محمد بن يوسف بن ثابت الأنصاري عن شيخ من أهل المدينة قال: كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية بن أبي سفيان جواب كتابه:
أما بعد فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمراً لا أعتذر إليك منه، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفني المثلة كأنك شفيق، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم فأجتاحكم في الوقعة،.. وخرج محمد في ألفي رجل، واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، فأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا من كنانة سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يقربها لعمرو بن العاص، ففعل ذلك مراراً فلما رأى ذلك عمرو؛ بعث إلى معاوية بن حديج السكوني فأتاه في مثل الدهم فأحاط بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فلما رأى ذلك كنانة بن بشر؛ نزل عن فرسه ونزل أصحابه وكنانة يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِين﴾[662]، فضاربهم بسيفه حتى استشهد رحمه الله.
وأقبل عمرو بن العاص نحو محمد بن أبي بكر وقد تفرق عنه أصحابه؛ لما بلغهم قتل كنانة حتى بقي وما معه أحد من أصحابه، فلما رأى ذلك محمد خرج يمشي في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها، وجاء عمرو ابن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج في قارعة الطريق فسألهم هل مر بكم أحد تنكرونه؟ فقال أحدهم: لا والله إلا أني دخلت تلك الخربة فإذا أنا رجل فيها جالس. فقال ابن حديج هو هو ورب الكعبة، فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به نحو فسطاط مصر، قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو ابن العاص، وكان في جنده فقال: أتقتل أخي صبراً؟ ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر، فقال معاوية: أكذاك قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن محمد بن أبي بكر، هيهات أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر، فقال لهم محمد: اسقوني من الماء؟ قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاك قطرة أبداً، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً محرماً فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك يابن أبي بكر. ثم إن محمد بن أبي بكر نال من معاوية بن حديج هذا ومن عمرو بن العاص ومن معاوية ومن عثمان بن عفان أيضاً، فعند ذلك غضب معاوية بن حديج فقدمه فقتله ثم جعله في جيفة حمار فأحرقه بالنار، فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً وضمت عياله إليها، وكان فيهم ابنه القاسم، وجعلت تدعو على معاوية وعمرو بن العاص دبر الصلوات.
وذكر الواقدي أنه: لما قتل كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، فهرب عند ذلك محمد بن أبي بكر فاختبأ عند رجل يقال له جبلة بن مسروق، فدل عليه فجاء معاوية بن حديج وأصحابه فأحاطوا به فخرج إليهم محمد بن أبي بكر فقاتل حتى قتل[663].
هذه القصة ضعيفة جداً؛ لأن في إسنادها: لوط بن يحيى، قال الذهبي: أبو مخنف أخباري تالف لا يوثق به[664].
ومحمد بن يوسف بن ثابت بن قيس بن شماس مذكور في كتب التراجم بيوسف بن محمد- قال أبوداود في سننه عند حديث «اكْشِفِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ»: وهو الصواب[665]-، أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل[666] ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف حاله، روى عنه عمرو بن يحيى بن عمارة[667].
قال ابن حجر: يوسف بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس... مقبول «يعني حيث يتابع، وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة» من السابعة قيل فيه: محمد بن يوسف[668].
وفي الإسناد الراوي عن محمد بن أبي بكر شيخ من أهل المدينة، وهذا مبهم، والمبهم من قسم الضعيف؛ لأنه لايعرف من هو فضلاً عن حاله، فإسناد القصة ضعيف جداً لا يقوى على إمكانية الاستدلال به.
الوجه الآخر: لو سلمنا أن الأثر ثابت ففيه:
- أن معاوية بن حديج قتله بعثمان، ومحمد بن أبي بكر من الذين دخلوا الدار على عثمان، إلا أنه لم يقتله، قال ابن كثير: والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها. فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً[669].
- ودعاء عائشة ل على معاوية وعمرو بن العاص ب؛ لقتل أخيها- على فرض صحته - أمر جبلي وطبيعي؛ لأن ما من شخص إلا ويحزن على قتل أخيه أوقريبه، ويدعو على من قتله، أو كان سبباً في ذلك. مع أن الذي قتل محمد بن أبي بكر على الصحيح هو معاوية بن حديج؛ لما في صحيح مسلم[670] عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ. فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لاَ يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - ص - يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ». وجاء مصرحاً باسمه في مسند أبي عوانة[671]
- والبيهقي[672]: «كيف وجدتم ابن حديج في غزاتكم هذه».
- وعمرو بن العاص في هذا الخبر- على افتراض صحته- أراد أن يحقن دم محمد فلا لوم عليه.
- ثم إن معاوية س كان متأولاً في قتال علي س ومن كان في صفه، ويرى أنه على الحق وأنه ولي دم عثمان س، ومحمد بن أبي بكر ممن اقتحم دار عثمان س فهو متهم بقتل عثمان في نظر معاوية س وأصحابه.
- وعائشة مثلاً ترى أن محمداً قتل ظلماً من أصحاب معاوية. وعائشة أم المؤمنين ل صحابية فما الذي سنجنيه من معرفة أن هذا الصحابي دعا على هذا الصحابي، خلاف مضى فلماذا نقحم أنفسنا فيه؟!.
- ثم إنهم سيختصمون عند الله يوم القيامة قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُون﴾ [673].
- وليس هذا أول خلاف بين الصحابة، فهم بشر غير معصومين.
- وما علينا حسابهم؛ بل كلهم صائرون إلى الله قال تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيۡنَآ إِيَابَهُمۡ٢٥ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا حِسَابَهُم﴾ [674].
- والذي يجب علينا أن نقدرهم, ونجلهم فالخطأ منهم وارد، ولكن لا نقبله ولا نتنقصهم؛ لمكانتهم عند الله، فقد اصطفاهم الله لرسوله ص وأثنى عليهم بقوله: ﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطَۡٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا﴾[675] وأثنى عليهم ص وأخبر أنهم خير القرون، ونهى عن سبهم وتنقصهم[676].
[660] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (6/72)، والغدير للأميني (2/133).
[661] تاريخه (3/131).
[662] سورة آل عمران الآية (145).
[663] البداية والنهاية لابن كثير (10/ 661).
[664] تقدم (ص/38).
[665] (11) رقم (3887).
[666] (9/222).
[667] (4/472).
[668] التقريب رقم (7879).
[669] البداية لابن كثير (10/308)، وأخرج الأثر مسنداً ابن أبي شيبة في المصنف (15/219)، وخليفة في تاريخه (1/39)، وابن حنبل في الفضائل (1/472)، وابن شبه في تاريخ المدينة (4/1285)، والطبري في تاريخه (1/ 384).
[670] صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم(2) رقم (1828).
[671] (4 /381).
[672] السنن (9/43).
[673] سورة الزمر من الآية (31).
[674] سورة الغاشية الآية (25-26).
[675] سورة الفتح الآية (29).
[676] للمزيد ارجع لتمهيد الرسالة غير مأمور.
الشبهة الأولى: الاستيلاء على أموال الأقباط وإهانتهم.
الشبهة الثانية: كتابته لأمير المؤمنين عمر س يصف أهل مصر بأوصاف غير لائقة.
الشبهة الثالثة: أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية.
الشبهة الرابعة: تركه تحطيم (أبو الهول) والأهرام
قبل الشروع في المبحث الخامس، أذكر محورين مهمين تمهيداً لبعض المطالب وهي على النحو التالي:
*أصلهم، ومسكنهم:
ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب، أنّ القبط تنسب إلى قبطيم بن مصرايم بن مصر بن حام بن نوح، وأن قبطيم أوّل من عمل العجائب بمصر وأثار بها المعادن وشق الأنهار لما ولي أرض مصر بعد أبيه مصرايم، وأنه لحق بلبلة الألسن، وخرج منها وهو يعرف اللغة القبطية،... وقيل: بل قفط بن حام بن نوح، نكح بخت بنت يتاويل بن ترسل بن يافث بن نوح، فولدت له بوقير، وقبط أبا قبط مصر...وقيل القبط من ولد قبط بن مصر بن قفط بن حام بن نوح، وبمصر هذا سميت مصر[677].
فتبين لك أخي الكريم: أن سكان مصر الأصليين هم الأقباط، وهناك سكان آخرون كالعرب وبني إسرائيل، واليونان، والرومان، منهم بقايا الغزاة، ومنهم من سكن للتجارة أو لصلاحية أرضها أو لأمر آخر.
*ديانتهم:
بعد أن نجّا الله نوحاً ومن كان معه في السفينة، قسم أولاده على الأمصار، قال تعالى:﴿وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ﴾[678]. ثم مات نوح، واستمر أولاده على الدين الحق.
ثم رجع الشيطان إلى إضلالهم ودعاهم إلى عبادة الأصنام كما أضل آبائهم من قبل واستمرت مصر على عبادة الأصنام[679].
ومع فشو الشرك وانتشاره، ووجود الانحراف في عقائد الناس إلا أنه وجد في مصر آنذاك ممن هو على دين الإسلام يكتم إيمانه تأثراً بمن وجد في مصر من الأنبياء كيوسف وأبيه يعقوب وموسى عليهم السلام، ويظهر هذا جلياً فيما حكاه الله لنا عن الرجل الصالح مؤمن آل فرعون عندما نصح قومه وحذر هم بأس الله في الدنيا والآخرة ﴿وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ جَآءَكُمۡ يُوسُفُ مِن قَبۡلُ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ﴾ [680]. ولكن الأغلبية الغالبة كانوا على الشرك وظلوا على ذلك حتى انتشرت النصرانية في مصر وأصبحت الدين الرسمي للدولة[681].
فصار دين الأقباط هو النصرانية حتى بعث الله نبينا محمداً وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين وأرسله للناس كافة، وجعل دينه ناسخاً لجميع الأديان، فدعا جميع الملل إلى الإسلام، فمنهم من استجاب، ومنم من امتنع، ومنهم من رد رداً حسناً، كما هو حال المقوقس عظيم القبط، وأهدى له مارية القبطية. فبشـر النبي ص أصحابه قبل موته بأنهم سيفتحون مصر وأوصاهم بهم خيراً، ثم شاء الله أن تفتح في عهد الخلفية الراشد عمر بن الخطاب س على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص س- بمشورة منه - فأصبحت مصر بنعمة الله دولة إسلامية. فالفضل أولاً لله ثم لعمرو بن العاص لما من الله عليه من قوة اليقين به، ولما آتاه من شجاعة وحنكة ودهاء.
[677] المواعظ (3/257)، وقد اختلف أَهل العلم في المعنى الذي لأَجله سُمِّيَت هذه الأرض بمصر، على عدة أقوال منها: علماً منقولاً عن اسم رجل واختلف في تحديده، وأكثر المؤرخين على أنها سميت بمصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. سمّيت مصر لأنها الحد ما بين المشرق والمغرب. 2- أنها مشتقة من مصرت الشاة إذا أخذت من ضرعها اللبن فسميت: مصر لكثرة ما فيها من الخير مما ليس في غيرها فلا يخلو ساكنها من خير يدرّ عليه منها كالشاة التي ينتفع بلبنها، وصوفها، وولادتها. 3- قال ابن الأعرابيّ: المصر الوعاء، ويقال للمعا المصير، وجمعه مصـران ومصارين، وكذلك هي خزائن الأرض. انظر: المواعظ والاعتبار (1/26-27)، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (131)، وتاج العروس للزبيدي (14/126).
[678] سورة الصافات الآية (77).
[679] المواعظ والاعتبار (4/389).
[680] سورة غافر الآيات (28-34).
[681] تاريخ بن خلدون (2/89).
فتح المسلمون مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بمشورة من عمرو بن العاص- ب - لأسباب عديدة منها:
أولاً: أداء واجب البلاغ والدعوة إلى الله امتثالاً لأمر الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[682].
ثانياً: إقامة دين الإسلام نظاماً حياتياً شاملاً علي أرض الله كلها ومنها مصر. يقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾ [683]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِين﴾ [684].
لقد آمن المسلمون أن لهم مهمة، وهي امتداد لمهمة محمد صلي الله عليه وسلم التي عبر عنها ربعي بن عامر س بين يدي القائد الفارسي رستم: أن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام – وهي نفس الكلمات التي رددها عبادة بن الصامت بين يدي المقوقس عظيم القبط.
ثالثاً: بالإضافة إلى ما سبق فإن مطاردة قوات الاحتلال الروماني بأرض مصر والشمال الأفريقي ضروري؛ حتى لا يتمكن العدو من حصار بلاد الشام وجزيرة العرب من الجنوب والغرب، بل وأيضاً حرمان العدو من الانطلاق من ثغور مصر والإسكندرية وطرابلس الغرب لمهاجمة ثغور بلاد الشام الإسلامية، ولتكون مصر أيضاً قاعدة آمنة لفتح الأندلس وما وراءها.
رابعاً: تحقيق بشارة النبي محمد صلي الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا»[685][686].
[682] سورةالمائدة الآية (67).
[683] سورة التوبة الآية (33).
[684] سورة الأنبياء الآية (107).
[685] أخرجه مسلم (4) رقم (2543) بنحوه.
[686] فتح مصر، د. جمال عبدالهادي (ص/29) باختصار يسير.
وذلك لما ذكره حنا أسقف نقيوس- يوحنا النقيوسي- في كتابه تاريخ العالم[687] الفصل (113): بأن عمرو بن العاص «...قبض على القضاة الرومان وقيّد أيديهم وأرجلهم بالسلاسل، والأوتاد الخشبية، ونهب أموالاً كثيرة، وقام بمضاعفة الضرائب على الفلاحين وأجبرهم على إحضار العلف لخيوله، وبالإجمال مارس كل أعمال العنف.
وفي الفصل (121) يقول يوحنا النقيوسي: وأنا لعاجز عن أن أصف مدى الحزن والأنين الذي أصاب المدينة بعد ذلك، فقد بلغ الضيق بالسكان إلى درجة سلموا أبناءهم في مقابل المبالغ الضخمة التي كان عليهم دفعها شهرياً»[688].
وكذلك ما ذكره ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر[689]: «إن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: من كتمني كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته. وسمع عمرو أن أحد أهالي الصعيد اسمه بطرس كان عنده كنز، فلما سأله أنكر، ولما تبين لعمرو صحة ما سمع أمر بقتله، فبدأ القبط بإخراج (إظهار) ثرواتهم؛ خوفاً من القتل».
وفي نفس الكتاب يقول ابن عبدالحكم: «إن بعض الأقباط ذهبوا لعمرو بن العاص طالبين أن يخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصير لها، فأجاب عمرو: لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك. إنما أنتم خزانة لنا إن كُثّر علينا كثّرنا عليكم وإن خُفف علينا خففنا عليكم»[690].
الجواب:
يجاب على هذه الشبهة من ستة أوجه:
الوجه الأول: ما أوردوه عن عمرو بن العاص في ظلم الأقباط وإهانتهم واستيلائه على أموالهم، وأنه بلغ بهم الضيق إلى درجة أنهم سلموا أبناءهم في مقابل المبالغ الضخمة التي كان عليهم دفعها شهرياً، كل ذلك مجرد أقاصيص وحكايات لا أسانيد لها.
الوجه الثاني: من تعاليم الدين الإسلامي[691] أن يُخيِّر المسلمون الكفار قبل الحرب بإحدى ثلاث خصال:
الخصلة الأولى: الإسلام:
وهو أول ما يرجى من الكفار ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وهو الذي لأجله أرسل الأنبياء، فإن أسلموا قبل منهم، وأصبحوا من رعايا الدولة الإسلامية، ويطالبون بتطبيق أحكام الإسلام.
فإن أبوا الدخول في الإسلام ندعوهم إلى الخصلة الثانية وهي دفع الجزية:
فإن امتنعوا عن دفع الجزيةندعوهم إلى الخصلة الثالثة وهي الحرب.
فيستعان بالله في قتالهم ويطلب منه النصر، فإذا حقق الله لهم النصر فإنهم يأخذون جميع أموالهم وأسلحتهم غنيمة، وأما الأسرى فيخير فيهم الإمام؛ نظراً للمصلحة. ودليل التخيير قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ...﴾[692]، وكذلك ما ورد عن النبي ص في تعامله مع أُسارى الكفار، وكذا تعامل الخلفاء الراشدين من بعده.
وهل أرض مصر فتحت عنوة أم صلحاً أم بعضها عنوة وبعضها صلحاً؟ في المسألة عدة أقوال للسلف[693] رحمهم الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية يجمع بين الأقوال ويقول: فتحت أولاً صلحاً، ثم نقض أهلها العهد فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب ب يستمده، فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة.
ولهذا روي من وجوه كثيرة: أن الزبير سأل عمر بن الخطاب ب أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام، فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئاً للمسلمين ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم، ثم وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفه ومات بعضهم فاستقر الأمر على ذلك[694].
وعلى كل حال لو قلنا فتحت عنوة فهي غنيمة للمسلمين إلا أن عمر منع قسمتها، ورأى أن يحبسها فيئاً للمسلمين ينتفع بفائدتها أول المسلمين، ولو قلنا صلحاً فمعلوم أنه لم يكن ابتداءً فإنهم مانعوا وقاتلوا في أول الأمر بدليل ما ورد في الآثار، وأن صاحب الإسكندرية رضي بدفع الجزية بعد أن تفرق السبايا في مكة واليمن، فتم المصالحة على رد السبايا الموجودة في أيديهم في مصر وما أخذ من قبل أن يتم الصلح كان من باب الغنيمة التي أباحها الشرع.
وأما بعد أن تم الصلح فإن المسلمين وفوا لهم وأحسنوا معاملتهم وقد شهد بذلك النصارى أنفسهم كما سيأتي في الوجه التاسع.
ولو قلنا بعضها عنوة وبعضها صلحاً، فيكون الحدث في المدن التي فتحت عنوة أو التي فتحت صلحاً قبل أن يتم الصلح، وحوز المسلمين لهذه الغنائم؛ أخذاً بتعاليم الإسلام، وليس ظلماً لهم ولكن جراء كفرهم بالله، وأما حادثة قتل عمرو من كتمه الكنز فهي شبيهة بقتل النبي ص ابن أبى الحقيق عندما أخفى مسك حيي بن أخطب، وذلك حينما قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض وألجأهم إلى قصرهم فصالحوه على أن لرسول الله ص الصفراء والبيضاء والحلْقة[695]، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً لحيى بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر كان احتمله معه يوم بنى النضير حين أجليت النضير، فيه حليهم، قال فقال النبي ص لسعية «أَيْنَ مَسْكُ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ». قال: أذهبته الحروب والنفقات. فوجدوا المسك فقتل ابن أبى الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم وأراد أن يجليهم فقالوا يا محمد دعنا نعمل فى هذه الأرض ولنا الشطر ما بدا لك ولكم الشطر[696].
وأما ماذكر من إجبارهم بإحضار العلف لخيولهم، فهذا يدخل في الصلح فلإمام أن يصالحهم بما يراه، وفي بعض عقود الصلح التي حصلت في وقت الصحابة يشترطون عليهم كذلك ضيافة مَن مر مِن المسلمين ثلاثة أيام.
وأما ما ذكر في امتناعه من الإخبار عن الجزية الواجبة عليهم يجاب عليه بالآتي:
1- أن الأثر إسناده ضعيف.
أخرجه ابن عبد الحكم: قال وروى حيوة بن شريح حدثني الحسن بن ثوبان أن هشام بن أبي رقية اللخمي حدثه أن صاحب إخنا قدم على عمرو بن العاص فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها فقال عمرو: وهو يشير إلى ركن كنيسة لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب إخنا فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله، وأسر النبطي، فأتي به عمرو فقال له الناس: اقتله، فقال: لا بل انطلق فجئنا بجيش آخر.
حدثنا سعيد بن سابق قال كان اسمه طلما وإن عمراً لما أتي به، سوره وتوجه وكساه برنس أرجوان وقال له: إيتنا بمثل هؤلاء فرضي بأداء الجزية، فقيل لطلما لو أتيت ملك الروم فقال لو أتيته لقتلني وقال قتلت أصحابي.
الأثر إسناده منقطع؛ لأن الراوي بين عبد الحكم وحيوة لا يعرف، ولو صح فيكون معناه أنه حصل بعد نقض الصلح الذي كان، فقد جعل ابن عبد الحكم امتناع عمرو من إخبار النبطي بمقدار الجزية؛ سبباً لنقض الإسكندرية العهد في خلافة عثمان. وقد كان الصلح وتحديد الجزية في عهد عمر وكتبت فيه الكتب، فدل ذلك أنه حصل نقض ثم فتحها عمرو مرة ثانية، وصارت معاملتهم معاملة الأرض التي فتحت عنوة، ولا يلزم الإمام بتحديد مقدار معين بل قد يجعلها حسب احتياج الدولة، ثم في الأثر أنه أحسن إليه: سوره، وتوجه، وكساه برنس أرجوان، وأطلق سراحه- وقد كان ألَّب عليه الروم- ولكنه بعد ذلك أذعن للجزية ورضي بالجلوس وأبى أن يرجع لملك الروم وهو على دينه؛ لما يخشاه من بطشه. فأين تجد هذه الأخلاق؟!.
2- أنه منقوض بما ورد عن عمرو في تحديد الجزية ومن ذلك:
- عقد الصلح- الذي ذكره الطبري- الذي أبرمه عمرو بن العاص مع أهل مصر، ونصه «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم، وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثاً في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً وكذا وكذا فرساً على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة، شهد الزبير وعبدالله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر. فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح[697].
- وفي الأموال لابن زنجويه (1/362)، وفتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم (92)، وفتوح البلدان للبلاذري (216)، والاكتفاء للكلاعي (2/ 335): أن المقوقس الذي، كان على مصر، كان صالح عمرو بن العاص على أن يفرض على القبط دينارين دينارين، وليس على الشيخ الفاني، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ولا على النساء شيء.
الوجه الثالث: إن نظام الجزية الذي فرضه عمرو على الأقباط الذين لم يعتنقوا الدين الإسلامي أقل بكثير من الزكاة الواجبة على المسلمين، وقد تقدم تحديد الجزية، ومع ذلك كان يعفي من دفعها النساء والأطفال والشيوخ، والفقير الذي لا كسب له، وقد كانوا في العهد البيزنطي يدفعون الضرائب الباهظة، وكانت ترهقهم إرهاقاً شديداً حتى أصبحت الغالبية العظمى من فلاحي مصر بمثابة عبيد وأرقاء للأرض، وقد ذكر المؤرخ الانجليزي (أ. جونسون) في كتابه الذي أسماه:(مصر البيزنطية)، والمؤرخ(أ. هاردي) في كتابه الذي أصدره بعنوان: (الملكيات الضخمة في مصر البيزنطية) الكثير من المآسي والتفاصيل عن هذا العهد البغيض، حيث كان كبار الملاك من الروم يعاملون الفلاحين المصريين كأنهم قطعان من الماشية سخرت لخدمتهم دون أن يكون للفلاحين أو أسرهم أية حقوق. وقد انتهت هذه المآسي بالفتح الإسلامي، فقد وجد المصريون في المسلمين أخلاقاً وطباعاً تختلف كل الاختلاف عن أخلاق وطباع هؤلاء المستعمرين الروم؛ من أجل ذلك تمنوا لهم الانتصار على الروم لكي يضعوا نهاية العهد البيزنطي الظالم الذي كانت مصر ترزح تحت نير استعباده[698].
الوجه الرابع: إنَّ أخذ الجزية منهم؛ مقابل بقائهم في الدولة الإسلامية ومنعة المسلمين لهم وحمايتهم، كما قال عمرو س لأبي مريام لما أراد دخول مصر فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة. ولذا لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا: شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم[699]. إضافة إلى ما تقدم فإن في أخذ الجزية منهم فائدة عظيمة لهم؛ إذ أن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوقع المصلحة العليا، وذلك هو شأن القواعد الشرعية[700]، فدفع الجزية وإن كان ذل في ظاهره فإنه رحمة من الله لهم إذ لو قتلوا لا نسد عليهم باب الإيمان ولكان مسكنهم النيران، لذا كان بقائهم بين المسلمين مع دفع الجزية مصلحة كبيرة؛ إذ يرون بذلك عزة الإسلام وذل الكفر وهذا أدعى لهم لدخول الإسلام ليكونوا بذلك من أهل الجنان.
ولا يفهم من دفع الجزية أنهم يظلمون بل يعاملون المعاملة الشرعية فيرحم كبيرهم وعاجزهم.
الوجه الخامس: أن الإسلام لم يكن بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم؛ حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم، والتاريخ البشري أصدق شاهد على ذلك.
وقد نقل العهد القديم والجديد شيوع هذه الصورة، ففي إنجيل متى أن المسيح عليه السلام قال لسمعان: ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب. قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار (متى 17/24-25).
ويذكر العهد القديم شرعة الجزية في شرائع التوراة، وأن الأنبياء عليهم السلام أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة حين غلبوا على بعض الممالك، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا إلى اليوم، وكانوا عبيداً تحت الجزية (يشوع 16/10)، وقد جمع لهم بين العبودية والجزية.
وفي المسيحية أمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها، فقد ذكر إنجيل متى أنه قال لسمعان بطرس: اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك (متى 17/24-27).
ويذكر إنجيل متّى أنه في مرة أخرى سئل: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟.. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه (متى 22/17-21).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة، ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول بولس: لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر، لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضاً بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام. (رومية 13/1-7)[701].
الوجه السادس: ما ذكروه عن عمرو في ظلم الأقباط واضطهادهمقلب للحقائق، ومن قرأ التاريخ عرف بطلانه، بل لو كان للتاريخ لسان ينطق لقال: سبحانك هذا بهتان عظيم، ولو أنطق الله أرض مصر لحدثت أخبارها ولألجمت بالحجج أفاكها.
ومعلوم تاريخياً[702] أن مصرأصبحت مصر تحت حكم الرومان من 30 ميلادي – 295 ميلادي. وظلت المسيحية تنتشر في هدوء في مصر منذ عصر نيرون، ومنذ زيارة مرقس الرسول للإسكندرية، وقد لاقت هذه الديانة الجديدة العداء من الأباطرة الدولة البيزنطية الوثنيين لا سيما في عصر دقلديانوس (284-305م)- آخر وأعظم الأباطرة حيث سامهم سوء العذاب، إلى أن جاء عهد قسطنطينوس ويصبح الإمبراطور الأوحد للإمبراطورية ويصدر قراراً باعتبار المسيحية ديناً رسمياً معترفاً به وذلك عام 323 ميلادية.
بيد أن الأقباط لم يكونوا لينعموا طويلاً إذ سرعان ما ثار الجدل والنزاع حول صفات المسيح وطبيعته، إذ ذهبت الكنيسة المصرية إلى المناداة بأن للمسيح طبيعة واحدة، وقررت الدولة بعد مجمع خلقدونية مذهب القسطنطينية مذهب الطبيعتين، واعتبرت مذهب الطبيعة الواحدة كفراً وخروجاً على الدين الصحيح، ثم تُوج هرقل إمبراطور سنة 610م وفي عهده سنة 616م نجح الفرس في غزو مصر وبقيت مصر في أيديهم عشر سنوات ساموا فيها المصريين الخسف والعذاب أشكالاً. إلى أن قام هرقل وقاتلهم وهزمهم، وبعد أن خلص البلاد من يد الفرس حول نظره إلى توحيد العقيدة النصرانية، وقال: إن قال أحد إن مجمع خلقدونية حق فخلوه وإن قال إنه ضلال وكذب غرقوه في البحر[703]. وهرب الرهبان والقساوسة إلى الجبال والأديرة والكهوف هرباً من القتل والسجن والاضطهاد منهم بنيامين، واستمر الحال حتى شاء الله أن ينقذ المصرين على أيد جيوش عمرو بن العاص، الذي اقتحم بجيوشه حدود مصر عام 641 م في عهد عمر بن الخطاب، وهلل الرهبان والأساقفة المصريون الهاربون في الصحاري والكهوف، وأعطاهم عمرو الأمان.
الوجه السابع: أن عمراً لا يتصرف من قِبل نفسه إنما هو أمير من قبل الخليفة يأتمر بأمره، وعمر إنما هو خليفة خليفة رسول الله ص، وكان وقافاً عند حدود الله كما هو معلوم في تراجمه. وخلافة عمر قد بلغ فيها العدل ذروته، إنه عصر الفاروق وما أدراك ما الفاروق، يهابه الصغير والكبير بل الإنسان والشيطان.
وقد حصلت في خلافته مواقف كثيرة تبين أن العدل بلغ في ذلك الزمن ذروته إليك بعضاً منها:
- فعن قتادة عن سعيد قال: شخص رجل من الدهاقين[704] إلى عمر بن الخطاب في مظلمة له، فلما قدم المدينة سأل عن عمر فقيل: هو ذاك وإذا هو مستلق قد جمع إزاره تحت رأسه، ودرته إلى جنبه، فقال: إني أريد أمير المؤمنين، قيل: فذاك أمير المؤمنين عمر، فقال في نفسه: لقد غررت بنفسي وذهبت بنفقتي، ثم دنا من عمر فأخبره بقصته، فأخذ قطعة جلد فكتب فيها بخطه: لينصفن هذا الدهقان، أو لأبعثن من ينصفه. فقال الدهقان: لقد خبت وخسرت، أنفقت مالي وأتعبت نفسي، وتجشمت هذا السفر البعيد الشديد، ثم رجعت بقطعة جلد من صحيفة، وهم أن يلقيها، فلما صار إلى العامل ودفعها إليه قام على رجليه فلم يجلس حتى أنصفه، فقال الدهقان: هذا والله الملك، وهذه الطاعة لا ما كنا فيه[705].
- بعث عمر س حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف لجباية الخراج، ومسح أرض السواد، وقال لهما محذراً من تكليف أهل الذمة ما لا يطيقونه من الخراج: تخافا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق. فقال عثمان: لو شئت لأضعفت، وقال حذيفة: لقد حملت الأرض أمراً هي له مطيقة، وما فيها كبير فضل، فجعل عمر يقول: انظر ما لديكما أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق[706].
- ومما روي عن عمر س في الرأفة بأهل الذمة أنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير، ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر س بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم[707].
- وكتب إلى واليه في مصر: واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه: ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [708] يريد أي من المؤمن أن يُقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله ص بهم، وأوصى بالقبط فقال: «استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً»، ورحِمُهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال رسول الله ص: «من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة» احذر يا عمرو أن يكون رسول الله ص لك خصماً، فإنه من خاصمه خَصَمه[709].
- وقد أوصى س عند وفاته مَنْ بعده بالعناية بأهل الذمة، وإعطائهم حقوقهم، والرأفة بهم.
قال س:... وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله ص أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم[710].
فإذا بلغ العدل إلى هذه الدرجة أترى أنه سيظلم قبطيا؟ وهل سيسكت الصحابة وغيرهم عن عمرو لو أخذ أموالهم ظلماً أم سيبلغون الخليفة؟!
الوجه الثامن: أن مما ينقض هذه الشبهة شهادة النصارى أنفسهم على حسن معاملة عمرو، وحسبك بالشهادة إذا كانت من أهلها.
فهذه شهادة نصارى حمص حين كتبوا إلى أبي عبيدة بن الجراح س: «لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم»[711]، ثم أغلقوا أبواب المدينة في وجه الروم إخوانهم في العقيدة.
قال يوحنا النقيوسي: «وأمر عمرو برفع الضرائب التي كانت مفروضة على الكنائس، ولم يأخذ شيئاً من أملاك الكنائس، كما لم يرتكب أي عمل من السلب أو النهب، بل كان يحميها خلال حكمه»[712].
وقال ساويرس بن المقفع: - بعد ذكره للخلاف الذي حصل بين النصارى في طبيعة عيسى- «وظفر هرقل بالمغبوط مينا أخي الأب بنيامنين البطرك فنزل عليه بلايا عظيمة وأشعل في جنبيه المشاعل حتى خرج شحم كلاه من جنبه وسال على الأرض، وقلع أضراسه وأسنانه باللكم لاعترافه بالأمانة،...وكان هرقل... الكافر قد أوصاهم وقال: إن قال أحد أن مجمع خلقدونية حق خلوه، ومن قال: إنه ضلال وكذب غرقوه في البحر. ففعلوا ذلك ورموه في البحر... ثم ذكر أن عمرو بن العاص لما فتح مصر أعطى الأمان لبنيامين فقال: فكتب عمرو بن العاص إلى أعمال مصر كتاباً يقول فيه: الموضع الذي فيه بنيامين بطرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمناً مطمئناً، ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته.
فلما سمع القديس بنيامين هذا عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر، وثلث سنين قبل أن يفتح المسلمون.
ثم وصف فرح الأقباط بقوله: وكانت الشعوب فرحين مثل العجول الصغار إذا حل رباطهم وأطلقوا على ألبان أمهاتهم[713].
والآن أفسح المجال ليعقوب نخلة روفيلة يبين لنا إحسان عمرو بن العاص للأقباط وذلك بما قام به من تكريمهم، كذلك رحمته بهم في عدم إرهاقهم بالخراج وإلحاحه على الخليفة في عدم طلب الزيادة، وأطلق لهم الحرية الدينية وفي المقابل أظهر الأقباط حبهم له وحزنوا لموته.
قال: ولما ثبت قدم العرب في مصر شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الآهلين واستمالة قلوبهم إليه واكتساب ثقتهم به وتقرب سراة القوم وعقلائهم منه وإجابة طلباتهم، وأول شيء فعله من هذا القبيل استدعاء بنيامين البطريرك الذي سبق القول أنه اختفى من إمام هرقل ملك الروم،... ولما حضر وذهب لمقابلته ليشكره على هذا الصنيع، أكرمه وأظهر له الولاء، وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته، وعزل البطريرك الذي كان أقامه هرقل، وردّ بنيامين إلى مركزه الأصلي معززاً مكرماً وهكذا عادت له المياه إلى مجاريها وبعد اختفائه مده طويلة قاسى فيها ما قاسه من الشدائد حتى سماه بعضهم(بالحكيم) وقيل: إن عمراً لما تحقق ذلك منه قربه إليه وصار يدعوه في بعض الأوقات ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد وخيرها، وقد حسب الأقباط هذا الالتفات مِنَّة عظيمة وفضلاً جزيلاً لعمرو.
وأَمَر عمرو بأن من لا يرغب من الروم البقاء في مصر فليخرج منها بأمان، ومن يفضل البقاء تضرب عليه الجزية، ويكون له ما للأقباط وعليه ما عليهم. وكان عدد الروم بمصر ينوف عن ثلثمائة ألف نفس، فهاجر أغلبهم ولم يبق منهم إلا من كانت له علاقات ومصالح لا تسمح له بالخروج منها والابتعاد عنها. وانتهز القبط خروج الروم فرصة مناسبة فوضعوا يدهم على كثير من كنائسهم وأديرتهم ولحقاتها بدعوى أنها كانت في الأصل ملكاً لهم، والروم نزعوها من يدهم قوة واقتداراً بسبب ما كان بينهم من الشقاق، ومن ذلك الحين عاش الروم بالحسنى، وانتهت من بينهم المنازعات والمخاصمات التي كانت تقضي إلى قتل الألوف المؤلفة؛ لزوال أسبابها.
ثم أخذ عمرو في تنظيم البلاد وإذ كان يعلم أن صاحب الدار أدرى بما فيها؛ استعان بفضلاء القبط وعقلائهم على تنظيم حكومة عادلة تضمن راحة الأهالي والوالي معاً، فقسم البلاد إلى أقسام يرأس كل منها حاكم قبطي، له اختصاصات وحدود معينة ينظر في قضايا الناس ويحكم بينهم، ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة، وعين نواباً مخصصين من القبط، ومنحهم حق التدخل في القضايا المختصة بالأقباط والحكم فيها بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية؛ فكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني، وهي ميزة كانوا قد جردوا منها في أيام الدولة الرومانية... وضرب الخراج على البلاد بطريقة عادلة وولى عليه متول من ذويه يقبضه على أقساط في آجال معينه حتى لايتضايق أهل البلاد. ورتب الدواوين فاختص الأقباط بمسك الدفاتر وسائر الأعمال الكتابية والحسابية، وكانت كلها تجري باللغة القبطية، وبلغ ما جباه عمرو من الخراج في السنة اثني عشر مليوناً من الدنانير، مع أن الذي كان يجيبه المقوقس في أيام الروم أقل من ثمانية عشر مليوناً، وبالجملة: فإن القبط نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها منذ أزمان.
ولما مات الخليفة عمر بن الخطاب وتولى عثمان بن عفان الخلافة من بعده فصل عمرو بن العاص عن مصر و ولى مكانه عبدالله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة وهو الذي كان حاكماً على الوجه القبلي في إمارة عمرو بن العاص.
... ولما عاد إليهم عمرو بن العاص في أيام معاوية فرحوا به، ولما مات حزنوا عليه وكان لهم الحق في ذاك الحزن لأنه لم يتول على مصر أميراً أحسن التدبير مثله، ومما حبب الأقباط في عمرو وجعلهم يميلون إليه كل الميل أنه كان مراعياً في تصرفاته مصلحتهم وراحتهم، فلم يجب منهم في مدة إمارته من الأموال أكثر مما صولحوا عليه بغير زيادة أو نقص ولا في غير أجالها المضروبة لجمعها وتحصيلها[714].
وذكرت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها – شمس العرب تسطع على الغرب – عدالة المسلمين وسماحتهم في الفتوحات ثم قالت: فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف[715].
فتبين لك أخي الكريم – مما سبق -: أن ما نسب إلى عمرو بأنه ظلم الأقباط أو نهب أموالهم، بهتان عظيم، وقلب للحقائق، فلقد كان حسن السيرة، وقد تقدم معك كيف فرح أهل مصر لما عاد عمرو لحكم مصر في خلافة معاوية، وكيف كان حزنهم لموته.
* * *
[687] (ص/209).
[688] (233-234).
[689] (ص ٨٧).
[690] (ص/١٥٣).
[691] كما في حديث بُريدة بن الحُصَيب س، قال: كان النبي ص: إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ...الحديث أخرجه مسلم كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (3) رقم (1731).
[692] سورة محمد الآية (4).
[693] انظر: فتوح مصر لابن عبدالحكم (ص/97- 104).
[694] أحكام أهل الذمة (3/1187- 1188).
[695] الصفراء الذهب، والبيضاء الفضة، والحلقة السلاح عاماً، وقيل: هي الدروع خاصة. انظر: غريب الحديث للخطابي (1/ 563)، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 427)
[696] أخرجه أبوداود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: ما جاء في حكم أرض خيبر (3) رقم (3008).
[697] تاريخ الطبري (4 /109).
[698] الجزية في الإسلام لمحمد المحامي (ص/24).
[699] فتوح البلدان للبلاذري (1/162).
[700] انظر: الفروق للقرافي (3 / 21).
[701] المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين، لعلي بن نايف الشحود (1 / 448).
[702] انظر: تاريخ مصر لساويرس (573)، وتاريخ الأمة القبطية يعقوب روفيلة (ص/24-38)، وتاريخ وحضارة مصر القديمة لسمير أديب (309-318)، وتاريخ وآثار مصر الإسلامية، د. أحمد عبدالرزاق (13-14).
[703] ولم يقتصر على الأقباط الذين ليسوا على مذهبه بل اشتد أيضاً على اليهود وذلك بعلة أنهم كانوا يحرضون الفرس على قتل المسيحين، فأباح للنصارى قتلهم وسلب أموالهم وسبي نسائهم. تاريخ الأمة القبطية (ص/36).
[704] جمع دُِّهقان - بكسر الدال وضمها - والجمع أيضاً دهاقنة، والاسم: الدَّهْقَنَةُ وهو فارسي معرب يطلق على رئيس القرية وعلى التاجر وعلى من له مال وعقار. انظر: القاموس المحيط (ص/1546)، والمصباح المنير (ص/106).
[705] أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف (3 / 407).
[706] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3 / 337).
[707] دراسة نقدية في المرويات في شخصية عمر بن الخطاب (2 / 1055) وأثر عمر الأخير حين مر على سائل كبير يهودي يسأل، قال صاحب الكتاب في الحاشية: رواه أبو يوسف، الخراج (ص/ 139)، قال: حدّثني عمر بن نافع عن أبي بكر. ابن زنجويه، الأموال (1) رقم (165)، ومداره على عمر بن نافع الثقفي، كوفي ضعيف من السادسة. التقريب (417)، فقد نص المزي على أنه هو الراوي عن أبي بكر العبسي، وأما العدوي فهو ثقة. فالأثر ضعيف.اھ ذكر المزي في التهذيب بأنه روى عن عن أبي بكر العبسي وهذه قرينة للترجيح لايجزم بها، وله شاهد عند أبي عبيد في الأموال رقم (119): من طريق محمد بن كثير، عن أبي رجاء الخراساني، عن جسر أبي جعفر قال: شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة، قرئ علينا بالبصرة: أما بعد، وذكر فيه: وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: « ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك» قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي الصنعاني أبو يوسف نزيل المصيصة صدوق كثير الغلط. التقريب رقم (6251)، ومطر بن طهمان الوراق أبو رجاء السلمي مولاهم الخراساني صدوق كثير الخطأ وحديثه عن عطاء ضعيف التقريب رقم (6699). وجسر بن فرقد القصاب أبو جعفر بصري، قال البخاري ليس بذاك عندهم وقال ابن معين ليس بشيء وقال النسائي ضعيف، وقال: سعيد بن عامر جسر بن فرقد فقال: رحمه الله، الثقة الأمين، كان رجلا صالحاً، وقال أبوحاتم: ليس بالقوي كان رجلاً صالحاً. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/539) لسان الميزان (2/ 104).
[708] الفرقان من الآية (74).
[709] جامع الأحاديث للسيوطي (28) رقم (30971)، كنز العمال للمتقي الهندي (5) رقم (14304).
[710] أخرجه البخاري (3) رقم (2887).
[711] فتوح البلدان للبلاذري (ص/139).
[712] تاريخ العالم القديم (233).
[713] انظر: تاريخ مصر، لساويرس (573-595).
[714] تاريخ الأمة القبطية، يعقوب نخلة روفيلة (54-64).
[715] (ص/364).
ومفاد ذلك: ما تناقلته بعض الألسنة في وصف عمرو لأهل مصـر- رجالاً ونساء - بأوصاف غير لائقة. من ذلك قوله- زعموا - في أهل مصر: «أكيس الناس صغاراً وأحمقهم كباراً»[716].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من أربعة أوجه:
الوجه الأول: إن هذا الوصف الذي ينسب لعمرو بن العاص لا يثبت عنه، وقد وردت بعض هذه العبارات في كتب التاريخ وذلك حينما سئل عن بعض الأمصار فوصف كل أهل مصر بوصف، وقال في أهل مصر: «أكيس الناس صغاراً وأحمقهم كباراً».
أخرج هذا الأثر: الفسوي في المعرفة والتاريخ[717]، ومن طريقه ابن عساكر[718]:
من طريق نعيم بن حماد حدثنا رشدين عن عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال: سئل عمرو بن العاص... قالوا: فأهل مصر؟ قال أكيس الناس صغاراً وأحمقهم كباراً».
هذا الإسناد ضعيف جداً فيه علتان:
العلة الأولى: رِشْدين بن سعد بن مفلح المهري أبو الحجاج المصري.
قال أحمد: لا يبالي عمن روى، وليس به بأس في الرقاق، وقال: أرجو أنه صالح الحديث.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو زرعة: ضعيف.
وقال الجوزجاني: عنده مناكير كثيرة.
قلت: كان صالحاً عابداً سيئ الحفظ غير معتمد.
وعن قتيبة قال: ما وضع في يد رشدين شيء إلا وقرأه.
وقال النسائي: متروك[719].
العلة الثانية: فيه انقطاع، فإن بكير بن عبد الله لم يدرك عمرو بن العاص، قاله ابن عساكر[720].
وللأثر طريق آخر: أخرجه أبو بكر ابن المقرئ[721]، ومن طريقه ابن عساكر[722] من طريق: أحمد بن زكريا، ثنا أبو بكر إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الثقفي النيسابوري سنة اثنتين وتسعين ثنا عبيد الله بن عمر، ثنا أبو أمية بن يعلى، وكان قد أدرك نافعاً عن علي بن زيد بن جدعان قال: قال رجل لعمرو بن العاص: صف لي الأمصار قال: فذكر نحوه.
هذا الإسناد فيه ثلاثة علل:
العلة الأولى: أبو أمية بن يعلى: هو إسماعيل.
قال يحيى بن معين: ضعيف ليس بشيء.
قال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف الحديث ليس بقوي.
قال النسائي: متروك الحديث.
قال أبو حاتم: ضعيف الحديث أحاديثه منكرة.
قال ابن حبان: ممن تفرد بالمعضلات عن الثقات حتى إذا سمعها من العلم صناعته لم يشك أنها موضوعة، لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للخواص من الاعتبار.
قال الهيثمي: ضعيف جداً[723].
العلة الثانية: علي بن زيد بن جدعان.
قال شعبة: حدثنا علي بن زيد - وكان رفاعاً.
وقال– مرة-: حدثنا علي قبل أن يختلط.
وكان ابن عيينة يضعفه.
قال حماد بن زيد: كان يقلب الأحاديث.
وقال أحمد: ضعيف.
قال يحيى: ليس بذاك القوى.
وقال مرة: ليس بشيء.
وقال البخاري، وأبو حاتم: لا يحتج به.
وقال الفسوي: اختلط في كبره.
وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه[724].
العلة الثالثة: الانقطاع.
قال ابن عساكر: علي بن زيد بن جدعان يضعف فيما رواه عن من أدركه فكيف بما رواه عن من لم يدركه، وهو لم يدرك عمرو بن العاص ولم يره[725].
قال ابن عساكر:
وقد روي معنى هذا عن ابنه عبد الله بن عمرو، ثم أسنده إلى الإمام مالك، قال قال عبد الله بن عمرو بن العاص «... ولأهل مصر أكيسهم صغاراً وأحمقهم كباراً».
قال ابن عساكر: وهذا منقطع فإن مالكاً لم يدرك عبد الله بن عمرو[726].
فتبين لك أخي الكريم أن هذا القول غير ثابت عن عمرو بن العاص ولا عن ابنه عبد الله.
وقد وردت هذه العبارة بسند غير صحيح عن ابن الكَوَّاء[727] حيث قال: «أكلة من غلب»، وابن لسان الحُمَّرة[728]حيث قال: «عبيد من غلب» ذكرها ابن عساكر في تاريخه وعقبها بقوله:
وعبد الله بن الكواء لا يعتمد على ما يرويه فكيف يعتمد على ما يقوله عن نفسه ولا عن غيره ويحكيه، والاحتجاج بما قاله ابن لسان الحمرة من الاحتجاجات الباطلة المنكرة[729].
وقد حكى بعض أصحاب كتب التراجم مثل هذه العبارات عن أيوب بن القِرِّية- بدون إسناد-، عندما سأله الحجاج عن طبائع أهل الأرض فذكر الأمصار ووصف كل مصر منها بوصف[730]. وأيوب هذا كما قال الذهبي: أعرابي أمي فصيح، مفوه يضرب ببلاغته المثل، وفد على عبد الملك، وعلى الحجاج، فأعجب بفصاحته، ثم بعثه رسولاً إلى ابن الأشعث إلى سجستان، فأمره أن يخلع الحجاج، ويقوم بذلك ويشتمه، فقال: إنما أنا رسول. فقال: لتفعلن أو لأضربن عنقك، ففعل فلما انتصر الحجاج جئ بابن القِرِّية [731] فسأله عن البلدان والقبائل، ومآثر العرب، والآفات فأجابه عما أراد فقال: فما آفة الحجاج بن يوسف قال لا آفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكا فرعه، فقال: أظهرت نفاقاً ثم قال: اضربوا عنقه فلما رآه قتيلاً ندم[732].
فتبين لك أخي الكريم: أن كل من نُقلت عنه هذه العبارات فيما تقدم لم يصح عنه وآخرهم ابن القِرِّية ذُكر من غير سند، ومع ذلك كل من تقدم لم يذكر عن نسائها شيئاً.
الوجه الثاني: الذي ثبت عن عمرو وصفه البليغ لأرض مصر، وكان مما قاله يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات كما تقدم في الفصل الأول[733].
الوجه الثالث: أن عمراً لما أراد دخول مصر أرسل إلى المقوقس بجيش لمنعه فلما رآهم وقد تصافوا لقتاله أرسل إليهم: «لا تعجلونا لنعذر إليكم وترون رأيكم بعد، فكفوا أصحابهم وأرسل إليهم عمرو إني بارز فليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك وأمن بعضهم بعضاً، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلدة فاسمعا إن الله عز وجل بعث محمداً ص بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد ص، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم وأوصانا بكم حفظاً لرحمنا فيكم وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة، ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيراً فإن رسول الله ص أوصانا بالقبطيين خيراً؛ لأن لهم رحماً وذمة»[734].
ومن المحال أن يذكر وصية الرسول ص أمامهم وأمام المسلمين ثم يصفهم بعد ذلك بهذا الوصف، بل مازال يوصي بالأقباط خيراً حتى بعد فتح مصر كما جاء في خطبته الشهيرة في الفسطاط: «واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيراً».
وروي عن ابنه عبد الله أنه قال: قبط مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب عامة، وبقريش خاصة[735].
الوجه الرابع: عمرو بن العاص يعلم علم اليقين ماحكاه الله عن سحرة فرعون من إيمانهم بموسى وثباتهم أمام فرعون رغم تهديدهم بقطع أطرافهم وبصلبهم على جذوع النخل، ويعلم ما كان من ثبات امرأة فرعون وماشطة بنت فرعون رغم ما نالا من العذاب والنكال، وهو الذي أخبر الأقباط بوصية الرسول ص لما لنا فيهم من رحم – أمنا هاجر- وذمة- مارية القبطية- فهل يصدق عاقل لبيب – بعد هذا- أن هذه العبارات ينطق بها لسان عمرو بن العاص! بل لم يتفوه بها صحابي.
فإذا علمت ما تقدم فتيقن أخي الكريم أن هذه العبارات بعيدة كل البعد عن الصحابة بل لا تمت إليهم بصلة، وتقدم أنها نسبت في كتب التراجم- بدون إسناد - لابن القِرِّية، ولو ثبت ذلك عنه فلا ضير؛ إذ هو رجل أعرابي أمي فصيح في زمن الحجاج بن يوسف وهو من البلغاء، وليس هو في عداد العلماء.
[716] انظر: المعرفة والتاريخ للفسوي (ص/364)، تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 358).
[717] (2/ 411).
[718] تاريخ دمشق (1/ 358).
[719] ميزان الاعتدال، للذهبي (2/ 49).
[720] ميزان الاعتدال (2/ 49).
[721] معجم ابن المقرئ (ص/174).
[722] تاريخ دمشق (1/ 358).
[723] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/203)، الضعفاء والمتروكون للنسائي (ص/113) المجروحين لابن حبان (3/ 147-148)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 268).
[724] تاريخ دمشق (1/ 358).
[725] المصدر نفسه.
[726] المصدر نفسه.
[727] هو: عبد الله ابن الكواء من رؤوس الخوارج قاله الذهبي في الميزان، وقال ابن حجر: وقال البخاري لم يصح حديثه قلت وله أخبار كثيرة مع علي وكان يلزمه ويعييه في الأسئلة وقد رجع عن مذهب الخوارج وعاود صحبة علي. لسان الميزان (3/ 329).
[728] هو: وفاء بن الأشعر التميميّ يعرف بابن لسان الحمرة، كان مشهوراً بالفصاحة، وكنيته أبو كلاب، مذكور في المعمّرين. الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 495).
[729] تاريخ دمشق (1/ 360).
[730] وفيات الأعيان (1/ 252)، السير للذهبي ( 4/346-347)، شذرات الذهب لابن العماد (1/93).
[731] السير(4 / 346).
[732] انظر: شذرات الذهب (1 / 94).
[733] (ص/81-82).
[734] تاريخ الطبري (2 / 514)، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير (10 /90).
[735] فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص/24).
وذلك لما ذكره ابن العنبري في كتابه مختصر الدول حيث قال:
وفي هذا الزمان اشتهر بين الإسلاميين يحيى المعروف عندنا بغرماطيقوس أي النحوي. وكان اسكندرياً يعتقد اعتقاد النصارى اليعقوبية ويشيد عقيدة ساوري. ثم رجع عما يعتقده النصارى في التثليث. فاجتمع إليه الأساقفة بمصر وسألوه الرجوع عما هو عليه، فلم يرجع؛ فأسقطوه عن منزلته. وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية. ودخل على عمرو، وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية- التي لم تكن للعرب بها أنسة- ما هاله ففتن به. وكان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقة، ثم قال له يحيى يوماً: إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها فما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به. فقال له عمرو: وما الذي تحتاج إليه؟ فقال: كتب الحكمة التي في خزائن الملوكية، فقال له عمرو: ما لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكتب إلى عمر وعرفه بقول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها مايوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها، فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها، فاستنفذت في ستة أشهر فاسمع ماجرى واعجب[736].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من سبعة أوجه.
الوجه الأول: أن القصة المذكورة لا إسناد لها، وقد ذكرها عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، المتوفى سنة (629 هـ - 1231 م)[737]، ومن بعده علي بن يوسف القفطي، المتوفى سنة ( 646 هـ - 1248 م) [738]، وغريغوريوس الملطي، أبو الفرج المعروف بابن العبري- من نصارى اليعاقبة - المتوفى سنة (685 هـ - 1286 م)[739]، وآخرهم المقريزي، المتوفى سنة (845 هـ - 1441 م)[740].
ومع ذلك لم يُسندها أحد.
الوجه الثاني: أن ثمة أمور في المتن تبين أن القصة ملفقة ومصطنعة، وبيانها فيما يلي:
1- أن يوحنا الذي ذكر في القصة- بأنه طلب من عمرو الكتب - توفي قبل الفتح العربي بثلاثة وأربعين عاماً وأكد على سبق وفاته بتلر، وقال: بأنه أمر مقرر لا شك فيه[741].
2- لو سلمنا أن المكتبة أحرقت كما قيل، لكان الأقرب إلى الأذهان أن تحرق فوق ربوة القلعة، ولكن القصة تريدنا أن نقول: إن تلك المكتبة قد كلفت الناس مشقة حملها في عيب ليفرقها بين الحمامات العدة، لتتخذ وقوداً مدة ستة أشهر. وما كل ذلك سوى نسيج من الباطل، فإن تلك الكتب إذا كان قد قضي عليها بالحرق لأحرقت حيث هي، وما كان عمرو بن العاص وقد أبى أن يعطيها لصديقه (فليبونس) ليجعلها في أيدي أصحاب الحمامات في المدينة، فإنه لو فعل ذلك لاستطاع (حنا فليبونوس) أو سواه من الناس أن يستنقذوا عدداً عظيماً منها بثمن بخس في تلك الشهور الستة التي قيل: إنها جعلت وقوداً للحمامات فيها[742].
3- مما لا شك فيه أن كثيراً من الكتب في مصر في القرن السابع كانت من الرق وهو لا يصلح للوقود، وما كان أمر الخليفة ليجعله ليصلح لذلك. فلنسائل إذن أنفسنا ماذا كان من أمر تلك الكتب المخطوطة على الرق. وإذا نحن استبعدناها فكيف يتصور أحد أن يبقي من سواها يكفي لوقود أربعة آلاف حمام مدة مائة وثمانين يوماً. إن إيراد القصة على هذه الصورة مضحك، وإنه ليحق لنا أن نسمع ما فيها ونعجب[743].
4- إن القصة تشير إلى واحدة من مكتبتين: الأولى: مكتبة المتحف وهذه ضاعت في الحريق الكبير الذي أحدثه قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل فتح العرب، وأما الثانية: وهي مكتبة السرابيوم، فإما أن تكون قد نقلت من المعبد قبل عام391، وإما أن تكون قد هلكت أو تفرقت كتبها وضاعت، فتكون على أي حال قد اختفت قبل فتح العرب بقرنين ونصف قرن[744].
5- إن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية عندما عقد (قيرس) صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية، لكان من المؤكد أن تنقل كتبها، وقد أبيح ذلك في شرط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة التي بين عقد الصلح ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهراً[745].
ولا يمكن أن يبقى شك في الأمر بعد ذلك فإن الأدلة قاطعة وهي تبرر ما ذهب إليه (رينودو) من الشك في قصة أبي الفرج وما ذهب إليه(جبون) من عدم تصديقها ولا بد لنا أن نقول إن رواية أبي الفرج لا تعدو أن تكون قصة من أقاصيص الخرافة ليس لها أساس في التاريخ[746].
الوجه الثالث: أن متقدمي المؤرخين أغفلوا ذكرها مع أهمية الحدث وجسامته؛ فدل على عدم وجودها زمن الفتح، وإنما تناقلته الألسن في أزمنة متأخرة لا يعلم مصدرها، ولعل مختلقها من الحاقدين على الإسلام أراد به تشويه صورة الإسلام. قال بتلر: «إن كُتَّاب القرنين الخامس والسادس لا يذكرون شيئاً عن وجودها، وكذلك أوائل القرن السابع»[747].
وقال: لو صح أن هذه المكتبة قد نقلت، أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقة لما أغفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم كان قريب العهد من الفتح مثل (حنا النقيوسي) ولما مر على ذلك بغير أن يكتب حرفاً عنه[748]. وكان رئيساً لأساقفة الوجه البحري مات في الحكم الأموي.
«ولوكانت الرواية صحيحة؛ لذكرها (أوتيخا) المؤرخ المعاصر للفتح الإسلامي لمصر، والذي وصف فتح مصر بإسهاب»[749].
قال جاك ريسلر:...قبل ختم هذه الدراسة المتعلقة بالمكتبات من المفيد البت المنصف في خرافه شرسة بوجه خاص. فقد اتهم عمرو بن العاص أنه نفذ أمر الخليفة عمر بتحطيم مكتبة الإسكندرية.
والحال خلافاً لهذه التهمة، يستحسن أن نلاحظ أن مكتبة أُولى كانت قد أحرقت، بأمر من يوليوس قيصر سنة 48 ق.م، وأن النصارى دمروا مكتبة أخرى من النوع ذاته في عهد البطريرك تيوفيل سنة 392. وأن عدة معارك وقعت بين 392 و 642، وهو عصر التحطيم المزعوم. زد على ذلك أن عدداً من الكتب كان عرضة للزوال في خلال مائتين وخمسين سنة وذلك بسبب الإهمال وعدم الاعتناء. وأخيراً كانت خمسة قرون ونصف القرن قد مرت وانصرمت ما بين وقوع الحادثة المزعومة وأول إعلان عنها، في حين أن أي معاصر لها لا يأتي على ذكرها ولو حتى ايطيخيوس مطران[750] الإسكندرية الذي وصف الإسكندرية سنة 933، وفوق ذلك لم يكن مثل هذا الموقف مألوفاً في سلوك عمرو الذي كان قد حال بنفسه دون نهب عدة مدن وحتى أنه انقلب على عادة قديمة جداً حين أعلن حرية العبادات بكل جرأة [751].
الوجه الرابع: وجود عدد من المؤرخين من غير المسلمين يثبتون ويؤكدون أن الحريق وقع قبل الفتح الإسلامي.
تقول الدكتورة زيغريد هونكة:«الحق الذي لا مراء فيه أن المجمع العلمي، الذي ضم أكاديمية الإسكندرية التي شيدها الملك بطليموس الأول سوتر عام 300 ق.م. كان مصدر إشعاع علوم الإغريق الهلينية، بمكتبته الضخمة التي حوت قرابة مليون مخطوطة، قيل: إنها جمعت كل ما كتب باللغة اليونانية؛ على أن ذلك المجمع العلمي الشامل لكافة أنواع العلوم والمعارف وقتذاك كانت ألسنة النيران قد أتت عليه عام 47 ق م. إبان حصارقيصر للإسكندرية، ثم إن كليوباترة أعادت تشيد المكتبة وتزويدها بعدد لايستهان به من المخطوطات من مكتبة برجمانون المصرية.
على أن القرن الثالث الميلادي كان بداية التدمير المخطط:
- فترى القيصر كاراكلا يلغي الأكاديمية ويحلها، ويسفك دماء علمائها في مذبحة وحشية فظيعة...
- كما أن البطريرك النصراني عام 272 م يغلق المجمع ويشرد علماءه آمراً بحرق (مؤلفات الكفرة)؛ فيبيدها المشتعلون حماساً دينياً من النصارى...
وفى عام 366 م يحول القيصر فالنس (السيزار يوم) إلى كنيسة وينهب مكتبته ويحرق كتبها، ويضطهد فلاسفته ويلاحقهم بتهمة ممارسة السحر والشعوذة...
وفى عام 391 م - مواصلة استئصال شأفة الكفرة - أي غير النصارى- يفلح البطريك[752] ثيوفيلوس في الحصول على إذن القيصر ثيودوزيوس لهدم (السرابيوم) كبرى الأكاديميات وآخرها، وموئل حكمة العصور القديمة، والقبلة الذائعة الصيت يحج إليها طالبو الحكمة من كل صوب، ويترك مكتبتها بما حوتة من ثلاثمائة ألف مخطوطة نهبا للنيران، قرير العين بتشييده ديراً وكنيسة على أنقاضها....
- أما ما نجا ومن نجا فقد أمسى غرضاً لعصابة نصرانية من الغلاة المراهقين انتشرت في الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي تولت مواصلة تدمير علوم الكفرة وفلسفتهم وتحطيم مراكز ثقافتهم وآثارهم ومكتباتهم والهجوم على علمائهم، كما اعترف بذلك في وقاحة ودون خجل سيفروس الأنطاكي- الذي صار فيما بعد بطريرك القبط وكذا صديقاً له.
وهكذا نرى أن المكتبات القديمة في مصر جميعاً لم يكن لها أي وجود أيام دخول العرب الإسكندرية عام 642 م[753].
قال بتلر: «غير أننا نسبعد كل الاستبعاد أن تكون مكتبة السرابيوم الكبرى قد بقيت إلى القرن السابع، من غير أن نجد فى كتابة أحد من كتاب القرنين الخامس والسادس ما يدل على وجودها دلالة صريحة لا لبس فيها ولا إبهام. ولنذكر من ذلك مثلاً واحداً وهو (حنا مسكوس) وقد سبق لنا ذكر زيارته لمصر مع صديقه (صفرونيوس) قبل فتح العرب بسنين غير كثيرة. وقد بينا ماكان عليه هذان الرجلان من محبة العلم، وشغفهما بالكتب ومايتصل بها، وقد كتبا مقداراً عظيماً وسافرا إلى كثير من بلاد مصر، وأقاما فيها زمناً طويلاً، ولكنا لا نرى في كتاب من كتبهما إذا قلبناها واستوعبنا قراءتها ذكراً لمكتبة عامة في البلاد، اللهم إلا لمكاتب أفراد الناس، وعلى ذلك يكون قد مر قرنان لا تذكر فيهما تلك المكتبة»[754].
قال جيبون: «وأنا من جانبي أميل ميلاً شديداً إلى جحد الواقعة نفسها وسائر ما يترتب عليها من النتائج!... فشهادة مؤلف كأبي الفرج يكتب في هذه المسألة بعد ستة قرون، وهو أجنبي عن مصر، يقيم في مكان بعيد كل البعد عن تخومها- ترجح عليه رجحاناً شديداً دلالة الإغفال أو الصمت عن الإشارة إلى شيء من ذلك في كتابات أقدم مؤرخَيْن لهذا العهد، وكلاهما مسيحي، وكلاهما من أهل مصر نفسها، وأقدمهما البطريق يوتيخوس، وكلاهما أسهب في وصف فتح العرب للإسكندرية وأفاضا في ذكر تفصيلاته[755].
قال العقاد: «وأحرى شيء أن يلاحظ في مسألة المكتبة هذه أن الذين أدحضوها وأبرأوا عمر من تبعتها كان معظمهم من مؤرخي الأوروبين الذين لا يتهمون بالتشيع للمسلمين وكانوا جميعاً من الفئات الذين يؤخذ بنتائج بحثهم في هذا الموضوع».
وذكر نَصْيِّ بتلر وجيبون المتقدمَيْن ثم قال:
والمستشرق كازانوفا يسمي الحكاية أسطورة ويقول: «إنها نشأت بعد تاريخ الحادثة بستة قرون وبنقضها لمثل الأسباب التي لخصناها في كتاب بتلر، ثم يقول: وهناك اعتراض أخطر مما تقدم وهو إن ما ذكر عن يحيى النحوي منقول عن كتاب الفهرست لابن النديم في أواخر القرن العاشر، وفيه يحيى هذا عاش حتى فتحت مصر، وكان مقرباً من عمرو ولم يذكر شيئاً عن مكتبة الإسكندرية، فحادثة المكتبة إذن من أوهام القفطي أخذها عن خرافة شائعة في عصره.
فمن جملة هذا العرض لآراء نخبة من الفئات في هذه المسألة يحق لنا أن نعتقد: أن كذب الحكاية أرجح من صدقها، وأنها موضوعة في القرن الذي كتبت فيه ولم تتصل بالأزمنة السابقة له بسند صحيح، أو ربما كانت مدسوسة على الرواة المتأخرين؛ للتشهير بالخليفة المسلم، وتسجيل التعصب الذميم عليه وعلى الإسلام.
وإذا كانت هذه الحكاية من تلفيق النيات السيئة فالمعقول ألا توضع قبل القرن السادس الهجري الذي تسربت فيه إلى الكتب المدونة، وهذا يفسر لنا كل غموض يستوقف النظر في الحكاية من جميع أطرافها.
لأن تلفيق هذه الحكاية يستلزم عناصر شتى لا تجتمع كلها في وقت واحد قبل القرن السادس للهجرة...
وقد يستلزم تلفيق الحكاية أن تكون مصر وأخبارها موضع اهتمام ومثار قيل وقال، ولم تكن مصر قبلة أنظار العالم كما كانت في أوقات الحروب الصليبية، يوم كانت هي ميدان الفصل ومناط الظفر والهزيمة بين جيوش الدنيا المحشودة فيها أو على أبوابها. وقد يستلزم كذلك أن يكون العصر عصر حَزَازَة بين الإسلام وخصومه كما كان عصر الحروب الصليبية وما قبله بقليل.
... فتلفيق الحكاية إذن كان عجيباً في أيام فتح الإسنكدرية وما تلاها من الأزمنة إلى زمان القفطي والبغدادي وأبى الفرج الملطي، ولهذا لم تظهر حكاية المكتبة في تلك الأيام. وتلفيقها في عصر الحروب الصليبية غير عجيب لاجتماع الأسباب التى يستلزمها ذلك التلفيق[756].
الوجه الخامس: أن بعض المؤرخين زار المكتبة قبل الفتح الإسلامي ووجدها خالية.
فقد زار (أورازيوس orazius) الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي، فذكر أن رفوف المكتبة خالية من الكتب عند زيارته (ينعق فيها البوم) بعد أن أتلفت بنحو عشرين سنة، وقد أتلفها(تيوڤيل) بطريق الإسكندرية، بعد أن نال الأمر الإمبراطوري بإتلافها[757].
الوجه السادس: الإسلام لم يكن في يوم من الأيام عدواً للعلم، إنه الدين الذي بدأ دستوره الإلهي الخالد بكلمة(اقرأ)، وثنى بقسم(بنون)-التي هي الدواة-(ن، والقلم ومايسطرون)....وإن أعمال الخلفاء من بني أمية، ومن بني العباس في الحفظ على الكتب الهندية والفارسية والرومية واليونانية والسريانية كثيرة جداً، بل وسعى بعض هؤلاء الخلفاء إلى جلب هذه الكتب من مدن أوربة وغيرها، وبذلوا الكثير من أجل الحصول عليها، وسعوا إلى ترجمتها إلى العربية والاستفادة منها في مختلف الاختصاصات كالطب والفلك والرياضيات والنبات وغيرها، أما كتب الفلسفة اليونانية فقد درسوها ونقدوها وأوجدوا فلسفة إسلامية تقف في وجه الفلسفة اليونانية ذات الأصول الوثنية المادية.
وهذا الموقف السليم من كتب الشعوب ومكتباتهم أمر طبيعي في الإسلام، اقتبسه المسلمون من سنة رسول الله ص، فعندما فتح المسلمون حصن الوطيح، وحصن السلالم في غزوة خيبر، وجدوا صحائف متعددة من التوراة، فجاء اليهود يطلبونها، فأمر رسول الله ص بدفعها إليهم.
وهذا التسامح والموقف الإنساني سبقه تسامح آخر عندما ترك صحائف اليهود ولم يتعرض لها بسوء، ولم ينظر لها نظرة غير طبيعية، مع شدة عداوة اليهود للمسلمين، فقد سمح لبني النضير بعد غزوة أحد بحمل صحفهم عند جلائهم عن المدينة المنورة[758].
بل قد قال ص: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»[759]؛ فكان من الصحابة- كابن مسعود، وعبدالله بن عمرو، وابن عباس ش- أحياناً يحكون من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله ص في هذا الحديث.
قال ابن كثير: ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم[760].
الوجه السابع: أن الغرب المتمسك بالمسيحية هو الذي ظل بضعة عشر قرناً عدواً للعلم محارباً له، بعيداً عن المدنية والعلوم والمعارف والصناعات النافعة إلى غاية يخجل العقل من تصورها، وما نفع أوربة ما لديها من الدين ورجاله في رفعها مما كانت فيه من التأخر والهمجية، ولم تتقدم نحو التمدنية إلا يوم اختلطت بالمسلمين، وعندها قامت قيامة الإكليروس عليها، وكفَّروا كل من يتعلم غير علوم الكنيسة واضطهدتهم وقتلتهم وحرقتهم، إلى غير ذلك من الفضائع التي شوهت وجه الإنسانية[761].
وجاء في مجلة (المقتبس): قال كوندي في تاريخه: إن مسيحيي إسبانية لما استولوا على قرطبة حرقوا كل ماطالت إليه أيديهم من مصنفات المسلمين، وعددها مليون وخمسون ألف مجلد، وجعلوها زينة وشعلة في يوم واحد، ثم رجعوا على سبعين مكتبة في الأندلس وأنشأوا يتلفون كل ما عثروا عليه في كل إقليم من مؤلفات العرب، وقال أحد مؤرخيهم(ربلس): إن ماحرقه الإسبانيون من كتب الأندلسيين بلغ ألف ألف وخمسة آلاف مجلد، وذكر بعض المؤرخين أن أحد جثالقتهم أمر بإحراق ثمانين ألف مجلد في ساحات غرناطة عقيب استيلائهم عليها، وإنهم قبضوا على ثلاث سفن قاصدة مراكش تنقل ما عز على المسلمين أن يخلفوه وراءهم من أسفارهم فألقوها في قصر الإسكوريال، ثم لعبت فيها النيران[762].
الوجه الثامن: نفرض أن عمر بن الخطاب أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، فما هى الوصمة التي تلحقه من هذا الأمر؟ ولماذا كان يحرم عليه أن يحرقها ويجب عليه أن يستبقيها ويفتح أبوابها؟ ولماذا كان ينبغي أن يكون على يقين أنها شيء مفيد للمسلمين ولغيرها من الأمم، وأنها ذخيرة من ذخائر العالم لا يجوز التفريط فيها؟ أمن النقص في تفكير الإنسان أن ينشأ بمعزل عن بلاد اليونان وعن عصر حكماء اليونان فلا يطلع على الفلسفة اليونانية؟ أكانت فائدة تلك واضحة كل الوضوح من أحوال أقوامها الذين حفظوها، إن صح أنهم حفظوها؟
إن أحوال الروم والقبط في ذلك العهد لم يكن فيها دليل واحد على أنهم محتفظون بينهم بمعرفة نفيسة، وأن ضياع كتبهم فيه ضياع لذخيرة من ذخائر العالم التي لا يجوز التفريط فيها.
فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفاسف الأمور. فإذا كان عمر غير مطالب بعلم الفلسفة اليونانية أو غير ملوم على فوات الاطلاع عليها، وإذا كانت أحوال الأمم التي هي أهلها لا تدل على قيمتها بل تسوغ الاعتقاد بخلوها من كل قيمة، فأين هو العيب في تفكيره إن صح أنه فكر على ذلك المنوال؟
إنما يعيب الإنسان أن يكون عدواً للمعرفة على إطلاقها ولم يكن عمر عدواً للمعرفة ولا معرضاً عنها، بل كان مشغوفاً بها حيث رآها دينية أدبية، ومن قومه أتت أو من غير قومه.
فكان يستشير الغرباء في تدوين الدواوين ومنافع الصناعة ولا ينتهي عن علم شيء إلا أن يكون فيه فتنة أو ضلال. وكان ولا ريب يؤثر للمسلمين أن يقبلوا على دراسة القرآن ويقدموا فهمه على فهم كل كتاب. وهذا واجبه الأول الذي لا مراء فيه، وما من أحد هو مطالب بهذا الواجب قبل أن يطالب به عمر على التخصيص؛ لأنه الخليفة الذي في عهده انتشر المسلمون بين أقطار المشرق وخيف عليهم أشد الخوف أن ينحل العقد الذي جمعهم وبث فيهم الهمة والبأس وسودهم على العالمين.
وفي الأخبار التي نقلت بهذا الصدد أن رجلاً أنبأه أنهم لما فتحو المدائن أصاب كتاباً فيه كلام معجب، فسأل: أمن كتاب الله؟ قال لا. فدعا بالدرة فجعل يضربه بها وهو يقرأ:
﴿الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ١ إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [763].
ثم قال: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم».
رويت هذه الرواية عن عمر بن ميمون عن أبيه، وليس فيها ما يأباه العقل ولو حكمنا على عمر بحكم الدنيا وحكم التجربة الواقعية وتركنا حكم الدين والإيمان إلى حين.
فبالتجربة الواقعية أيقن عمر أن المسلمين بكتابهم خرجوا من الظلمات إلى النور، وانتصروا على من حاربوه، وعندهم كل كتاب.
وما فرغ المسلمون بعد من قراءة القرآن ولا انقضت على تداوله بينهم سنوات فكيف يرضى الخليفة الذي يهمه أمر رعاياه أن ينصرفوا عنه إلى كتب لا يؤمن ما فيها؟ وكيف يكون الحال إذا تفرقوا شذر مذر ولهم فى كل بلد قراءة غير هذا الكتاب الذي لم يفرغوا منه ولم يستوعبوا كل ما فيه؟ أمن عداوة المعرفة هذا، أو من إيثار المعرفة التي تتقدم على غيرها؟ وإذا لم تتقدم هذه المعرفة على غيرها في السنوات الأولى من تداول القرآن الكريم فمتى تتقدم؟ ومتى يعطي القرآن حقه من الفقه والوعي والإقبال؟ وأين هي الغنيمة الروحية التي تعدل في كتاب من الكتب بعض ما غنمه المسلون بوحي القرآن في صدر الإسلام؟
فعلى أي فرض من الفروض لم يكن في تصرف عمر ما يأباه العقل الذي ينظر إلى الحقائق المشهودة والآ ثار الواقعة، ويجوز أنه أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية على أبعد احتمال، ولكن الذي يجوز لمنصف أن يفهم من ذلك أنه عدو الثقافة وهو الأديب الفقيه الخطيب، وهو قد وازن بين معرفة ظاهر النفع ومعرفة مجهولة ظواهرها كلها تغري باتهامها. ولا لوم عليه أن يولد حيث يجهلها، ولا لوم عليه أن يتهمها وهي لم تنفع أهلها يوم رآهم يخبطون في الضلالة والهزيمة، ولا يقال عن عقل يفكر هذا التفكير إنه لم يفكر على هدى مستقيم[764].
فيتلخص لنا - أخي الكريم - مما تقدم أن هذه الأسطورة المنسوبة إلى المسلمين لم يذكرها المؤرخون المتقدمون المعاصرون للفتح أو من بعدهم إلى القرن السادس ولو كان الحدث صحيحاً؛ لذكروه، لاسيما حنا النقيوسي الذي كان معاصراً للحكم الأموي وكان يتعسف في كتاباته عن عمرو ويوصفه بأشياء لم يفعلها وحاول أن يعكس صورة الفتح الحقيقية، ولوكان أحرقها عمرو لذكرها، لكن ربما لم يخطر بباله أن يلصقها بعمرو، أو أنه استبعد أن يصدقها أحد لقدم حصول الحادثة عن الفتح. ومما يؤكد مضي زمن الحادثة عن الفتح زيادة على ماتقدم: شهادة من رأى المكتبة خالية قبل الفتح، ووجود جمع كبير من المؤرخين غير المسلمين ممن درس هذه الحادثة وأكد على أنها متقدمة عن الفتح بأعوام كثيرة. فلا يبقى لنا بعد هذه المقدمات إلا أن نصل إلى النتيجة الصحيحة وهي أن حريق المكتبة كان قبل الفتح الإسلامي، وأن المسلمين منه براء كبراءة الذئب من دم يوسف.
[736] مختصر الدول لابن العبري، (ص/176). وانظر: ترجمته في الأعلام للزركلي (5/ 117).
[737] انظر: الإسقاط في مناهج المستشرقين، د. شوقي أبوخليل، (ص/124)، والحضارة العربية لجاك ريسْلر (106-107).
[738] أخبار العلماء بأخبار الحكماء (1/266).
[739] مختصر الدول لابن العبري (ص/176). وذكر د. شوقي أبوخليل بأن قصة إحراق عمرو للمكتبة حذفت من هذا الكتاب في طبعته الأخيرة. انظر كتابه الإسقاط (ص/125) الحاشية.
[740] المواعظ والاعتبار (1/99).
[741] فتح العرب لمصر، بتلر (422).
[742] المصدر نفسه (421).
[743] المصدر نفسه.
[744] المصدر السابق (441).
[745] المصدرنفسه.
[746] المصدر نفسه.
[747] فتح العرب لمصر (ص/441).
[748] المصدر نفسه.
[749] الإسقاط في مناهج المستشرقين، د. شوقي أبوخليل (126).
[750] مرتبة دينية تحت الجاثليق وفوق الأسقف. تقدم (ص/91).
[751] الحضارة العربية لجاك ريسْلر (106-107).
[752] قال الليث: البطريق: بلغة أهل الشام والروم هو القائد، وجمعه بطارقة. تهذيب اللغة (9/ 303 ).
[753] الله ليس كذلك (ص/73-74).
[754] فتح العرب لمصر (ص/438).
[755] عمرو بن العاص لنظمي لوقا (ص/149).
[756] عبقرية عمر (590).
[757] الإسقاط في مناهج المستشرقين، د. شوقي أبوخليل (127).
[758] المصدر السابق (ص/130).
[759] أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3) رقم (3274).
[760] يعني للحديث المتقدم «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» انظر: تفسير ابن كثير (1/8-9).
[761] الإسقاط في مناهج المستشرقين، د. شوقي أبوخليل (ص/127).
[762] المصدر نفسه (ص/130).
[763] سورة يوسف الآيات (1-2).
[764] عبقرية عمر للعقاد (ص/82-184).
ومفاد ذلك: أن ترك عمرو بن العاص س- عندما فتح مصـر- لتحطيم (أبو الهول) والأهرام دليل على عدم وجوب تحطيم التماثيل التي لا تعبد[767].
الجواب: يجاب على هذه الشبهة من ثمانية أوجه.
الوجه الأول: القول بأن الصحابة رأوها وتركوها دعوى تحتاج إلى إثبات، وليس هناك ما يثبت ذلك.
الوجه الثاني: كون الصحابة ومنهم عمرو بن العاص، رأوها أو لم يروها احتمالان واردان لا يستطاع الجزم بأحدهما، لكن عند توارد الاحتمالات يؤخذ بالاحتمال الراجح ويترك المرجوح، فإن تساويا تساقطا ونظر إلى دليل آخر. والذي يظهر أن احتمال كونهم لم يروها أرجح لعدة أمور منها:
أ- أنه لم يرد لها ذكر على لسان الصحابة ولا التابعين ولو كانا ظاهرين لكانا موقع سؤال ولنقل إلينا.
ب- في كتاب آثار مصر القديمة[768] ذكر أن أول من ذكر الأهرامات ابن الفقيه الذي زار مصر في القرن الثالث الهجري /أو التاسع الميلادي، وأما أبو الهول فكان أول من ذكره المقدسي البشاري الذي زار مصر في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي في جملة مختصرة ضمن حديثه عن الجيزة إذ قال: ((وثم صنم يزعمون أنه الشيطان كان يدخله فيكلمه حتى كسر أنفه وشفتيه))اﻫ[769]. إلا أنه ليس صريحاً بأنه أبو الهول والذي ذكره صراحة ابن جبير - في كتابه الرحلة - الذي زار مصر في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ذكر عبد اللطيف البغدادي - في كتابه الإفادة - الذي زار مصـر في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي: أن الذي يظهر من (أبو الهول) رأسه وعنقه قال: «ويزعمون أن جثته مدفونة تحت الأرض ويقتضي للقياس أن تكون جثته بالنسبة إلى رأسه سبعين ذراعاً»[770]. فيحتمل أنه كان في القرن الأول الهجري وقت دخول الصحابة رضوان الله عليهم، مدفون في الرمال.
الوجه الثالث: أن المرء لا يحكم على الشيء بموقف واحد، بل لا بد أن ينظر في المواقف الأخرى أو في الحالات المشابهة؛ ومن ثم يستطيع أن يتوصل إلى نتيجة صحيحة.
ومعلوم موقف الإسلام[771]من التماثيل، فقد كسر ص الأصنام لما دخل الكعبة يوم الفتح، وأمر بالصور فمحيت، وكانت توجد صورة إبراهيم وإسماعيل ومريم عليهم السلام كما في البخاري[772]، ولم يصح أنه استثنى صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام[773]، ولم يرد أن هذه الصور كانت تُعْبَد، وأرسل ص الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكسر الأصنام، فبعث سعد بن زيد الأشهلي س لهدم مناة، وعمرو بن العاص لهدم سواع، وخالد بن الوليد لهدم العزى[774]. فهدم التماثيل وإزالتها أمر راسخ لدى الصحابة سواء أعدت للعبادة أو لم تعد لذلك.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يرسخ هذا الأمر لمن لم يدركوا رسول الله ص، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ص؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»[775].
فنجد في الحديث كلمة تمثال وقبر نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، فنحن مأمورون بطمس كل تمثال، وتسوية كل قبر مرتفع، أما التفريق بين ما أعد للعبادة وما لم يعد لها، دعوى لا دليل عليها، بل الأدلة دالة على العموم، وسيأتي بيانه في الوجه الآتي.
الوجه الرابع: أن النبي ص نهى عن التصاوير وأمر بإزالتها - سواء اتخذت للعبادة أو لم تتخذ لذلك- ويتضح ذلك في عدة أحاديث منها:
1- ما روته عائشة ل قالت: دخل علي النبي ص وفي البيت قرام فيه صور فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه، وقالت قال النبي ص: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ»[776].
2- عن أبي زرعة قال دخلت أنا وأبو هريرة دارا تبنى بالمدينة لسعيد أو لمروان قال: فرأى مصوراً يصور في الدار، فقال: قال رسول الله ص: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً»[777].
3- عن أبي هريرة س، قال: قال رسول الله ص:
«تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلاَثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِينَ»[778].
فهذه الأدلة تفيد تحريم عموم الصور[779]، وهل يقول عاقل أن الستر الذي هتكه الرسول ص في بيته أعد للعبادة عياذاً بالله، فقد غضب وأزالها بيده وهي مجرد رسم باليد لم يُقصد تعليقها بل جاءت ملصقة بالستر، ومع ذلك شملها النهي والوعيد، وإذا شمل النهي والوعيد الرسم باليد فصناعة التمثال لا شك أنه يدخل في هذا الوعيد من باب الأولى.
ولا يقال أيضاً: بأن هذا التشديد في النهي عن التصوير لقرب ذلك العهد من عبادة الأوثان؛ لأن أدلة التحريم عامة وليس فيها ما يدل على هذا التخصيص، ولقد أحسن ابن دقيق العيد المالكي الشافعي إذ يقول: وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور. ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان. وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده-لا يساويه في هذا المعنى. فلا يساويه في هذا التشديد- هذا أو معناه – وهذا القول عندنا باطل قطعاً، لأنه قد ورد في الأحاديث: الإخبار عن أمر اللآخرة بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام: المشبهون بخلق الله، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة، لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي، يمكن أن يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبه بخلق الله[780].
الوجه الخامس: أن الصور ذات الأجسام أو مالها ظل محرمة بالإجماع.
قال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع[781].
وقال النووي: وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره[782].
ولم يفصل العلماء عند نقل الإجماع على تحريمه، بين ما اتخذت للعبادة، أو اتخذت للرمز والتذكار، أو بين ما كان قر يبا من زمن الجاهلية، أو كان بعيدا عنها.
الوجه السادس: في شريعتنا الإسلامية قاعدة عظيمة من القواعد الكلية الكبرى، وهي: أن اليقين لا يزول بالشك.
فتكسير الصحابة للأصنام والتماثيل في عهد النبي ص معلوم يقيناً، وما قيل في الصحابة بأنهم لم يتعرضوا لهدم التماثيل في البلدان المفتوحة يدخله عدة احتمالات: إما أنها كانت داخل معابدهم التي قد صولحوا على إبقائها[783]، أو أنها كانت مطمورة تحت الرمال، أوعجزوا عن إزالتها لصلابتها وضخامتها. فهذه ثلاثة احتمالات، وكل احتمال منهن وارد، فلا يزول ما علم يقيناً بما فيه شك واحتمال.
الوجه السابع: لو سلمنا أنها كانت موجودة - في غير خارج معابدهم التي صولحوا عليها- وتركوها، لا يد ل على أنهم تركوها رضاً بل عجزاً وقد تقدم معك ضخامة وصلابة الأهرام (أبو الهول)، وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه: في الفصل الرابع: بأن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، قال: ويشهد لذلك أيضاً أنَّا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدّول عن هدمها وتخريبها مع أنّ الهدم أيسر من البناء بكثير؛ لأنّ الهدم رجوع إلى الأصل الّذي هو العدم، والبناء على خلاف الأصل.
فإذا وجدنا بناء تضعف قوّتنا البشريّة عن هدمه مع سهولة الهدم، علمنا أنّ القدرة الّتي أسّسته مفرطة القوّة، وأنّها ليست أثر دولة واحدة، وهذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لمّا شرع الرّشيد في هدمه وجمع الأيدي عليه واتّخذ له الفؤوس وحماه بالنّار وصبّ عليه الخلّ حتّى إذا أدركه العجز ثم أقصر عن هدمه، وكذلك اتّفق للمأمون في هدم الأهرام الّتي بمصر وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل، وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جوّ بين الحائط والظّاهر وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم[784].
فإذا علمت أخي الكريم: ما امتازت به هذه التماثيل من قوة وصلابة، فكيف نريد من الصحابة أن يزيلوا هذه الأجسام الصلبة والكتل الصخرية بسيوفهم البيضاء وأسلحتهم الأولية، وقد علمنا أنهم كانوا يحاصرون العدو وهم في قصورهم الأيام العديدة ولا يستطيعون ثقب الجدار، ولو رجعنا للأعوام الماضية ورأينا كيف بذلت طالبان من جهد لتحطيم بوذا وهم في عصر التقنيات، فكيف بالأسلحة القديمة.
الوجه الثامن: أن الذي أمر بكسر التماثيل والأصنام هو الذي قيدها بالاستطاعة قال رسول الله ص «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[785]وهذا من سماحة ديننا الإسلامي.
قال تعالى:﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾[786]،وقال تعالى:﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾[787].
فالله سبحانه جعل القيام ركناً في الصلاة لا تصح الصلاة بتركه ولو سهواً مع القدرة عليه، ومع ذلك إذا لم يستطع المصلي القيام رخص له أن يصلي قاعداً، كذلك أسقط الله الصيام عن الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام، والمريض المزمن وأمرهم بالإطعام، وأمر بالحج وقيده بالاستطاعة.
فإذا كانت هذه أركان الإسلام ولم يكلف الله فيها المسلم ما لا يطيق فكيف بغيرها؟!.
وعليه ومن خلال ما سبق فإنه قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك ضعف هذه الروايات التي شوهت تاريخ الصحابي الجليل عمرو بن العاص، وكل من عرف مجتمع الصحابة معرفة حقيقية يجزم ببطلان ما نسب إليه زوراً وبهتاناً قبل أن يقرأ ما يبطل زيفها، لأن الصحابة هم أفضل الناس بعد الأنبياء، اصطفاهم الله لصحبة نبيه ص، فهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، وهم قدوة الشعوب في كل جيل، وأئمة الناس في كل ما يصلح شؤونهم من دين ودنيا، وعلم وحكمة، وأدب وفضيلة، وبذل وفداء، كيف لا يكونوا كذلك ومعلمهم ومؤدبهم أفضل الخلق وسيد ولد آدم محمد صلوات ربي وسلامه عليه، ويكفي أن الله سبحانه زكاهم من فوق سبع سمواته، ووعدهم بالحنسى وهي الجنة[788].
وعمرو س أحد الصحابة وهو ممن قال الله فيه: ﴿وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾، فمن رابه شيء في سيرة هذا الصحابي الجليل فليقل كما قاله ص «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ».
[765] يربض أبو الهول على مقربة من الوادي الخاص بالملك خفرع في قلب مكان منخفض على الحافة الشرقية لهضبة الجيزة متجها نحو الشرق وهو جزء من مجموعه الملك خفرع الهرمية. وأبو الهول عبارة عن ربوة ضخمة من الصخر كانت في حقيقة الأمر جزءاً من أحد المحاجر التي استخدمها العمال لقطع الأحجار اللازمة لبناء المقابر والأهرامات، وقد تركها العمال على ما يبدوا لعدم صلاحيتها ولقد فكر مهندسوا الملك خفرع في استغلال هذه الكتله الضخمة فشكلوها على شكل أسد رابض هائل الحجم له رأس إنسانية تمثل الملك خفرع نفسه وفوق رأسه لباس الرأس الملكي المعروف باسم النمس وحية الكوبرا على جبهته و اللحية الطويلة المستعارة وهما شعاران للملكية. واسم (أبو الهول) ربما يرجع إلى اللفظ المصري القديم بر حول «بمعني» بيت الأسد. تاريخ وحضارة مصر لسمير أديب (ص/80). مقاييس التمثال هي كالأتي: الارتفاع 66 قدماً، والطول 240 قدماً، وطول الأذن 4أقدام و6 بوصات، الأنف 5 أقدام و7 بوصات، الفم 7 أقدام و7 بوصات، العرض الكلي للوجه 13 قدماً و8 بوصات. انظر: أبو الهول، د. سليم حسن (ص/86).
[766] أكبر الأهرام ما يسمى بالكامل أو الأكبر الذي كان ارتفاعه 146متراً ( وأصبح الآن 137متراً) وكان طول القاعدة المربعة 230 متراً ( وأصبح الآن 227 متراً) في آثار مصر القديمة (ص/50) وأصبح الآن 170متراً، ويسمى هذا الهرم بالأكبر. ويشغل مساحة تزيد عن 12 فدان. تاريخ وحضارة مصر القديمة (ص/59-71) باختصار.
[767] مقال قي صحيفة الوطن، لسليمان بن عبد الله التركي، عدد (179)، الثلاثاء 2/1/1422هـ. كما في كتاب معابد الكفار لإبراهيم الفهيد (ص/187).
[768] آثار مصر القديمة في كتابات الرحالة العرب والأجانب لجيلان عباس (ص/53).
[769] المصدر نفسه (87).
[770] انظر المصدر نفسه (87-88).
[771] وأما امتنان الله على نبيه سليمان عليه السلام بقوله تعالى: ﴿يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ﴾ قيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان. لأن التمثال وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهاداً، قال ص: « إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور». أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحاً في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد ص. وعن أبي العالية لم يكن اتخاذ التصاوير إذ ذاك محرما. انظر: التفسير الوسيط للواحدي (3/ 489)، وتفسير القرطبي (14/ 272)، والسراج المنير للخطيب الشربيني (3/ 286).
[772] (2) رقم (1524)، (3) رقم (3173).
[773] وأما ما ذكر من الآحاديث بأن النبي ص أمر بترك صورة عيسى بن مريم وأمه فهي ضعيفة من عدة وجوه: منها ضعف إسنادها مع نكارة متنها، ومنها أنه ورد عن غير واحد من الصحابة « أن النبي ص أمر في يوم الفتح بأن تمحى كل صورة في الكعبة ولم يستثني أي صورة»، من ذلك ما رواه عن ابن عباس ب: « أن رسول الله ص لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ» أخرجه البخاري (4 /156)، وما رواه جابر أن النبي ص أمر عمر بن الخطاب س زَمَنَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ أَنْ يَأْتِيَ الْكَعْبَةَ فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا وَلَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى مُحِيَتْ كُلُّ صُورَةٍ فِيهِ». أخرجه أحمد (23) رقم (15109) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. ومارواه أسامة بن زيد قال: « دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ص فِي الْكَعْبَةِ وَرَأَى صُوَرًا قَالَ: فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لاَ يَخْلُقُونَ». أخرجه الطيالسي (1) رقم (623)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7741)، وسيأتي معك في الوجه الرابع شدة إنكار النبي للصور وغضب لما رآها في بيته وأخبرنا بأنها الملائكة لا تدخل بيت فيه صورة، فكيف سيرضى أن تبقى في بيت الله!، وما ورد عن بعض التابعين أنهم رأوها. يحمل على عدة وجوه منها 1- يحتمل أن تكون صورة مريم وعيسى محفورة في عمود البيت بحيث لا يذهبهما الغسل بالماء، فلهذا بقيت إلى أن احترق البيت في عهد ابن الزبير. 2- يحتمل أن تكون مصبوغة بصبغ ثابت لا يذهبه الماء أو أنه قد ذهب بعض الصبغ حين محيت بالماء في زمن النبي ص وبقي منه بقية تظهر منه الصورة. 3- يحتمل أن يكون بعض النصارى وضعها بعد زمان النبي ص وبعد زمان الخلفاء الراشدين، ولا سيما في زمن الفتنة التي كانت في زمن يزيد بن معاوية فقد يتسمى بعض النصارى بالإسلام بحيث لا يرد عن دخول مكة ودخول الكعبة فيصور صورة مريم وعيسى ليفتن المسلمين بذلك ويوهمهم أن النبي ص قد أقر صورتهما، ويحتمل أن يكون ذلك من عمل بعض من أسلم من النصارى بعد زمان النبي ص وزمان الخلفاء الراشدين ش والله أعلم. وليس في بقاء صورة مريم وعيسى في الكعبة بعد زمان النبي ص ما يدل على أن النبي ص قد أقر ذلك، فإنه ص لا يقر المنكر ولا يرضى به وقد قال الله تعالى في صفته ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ {الأعراف: 157}. والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يظن بالنبي ص أنه يقر شيئاً من الصور أو يأمر بإبقائها، ومن ظن ذلك فقد ظن بالنبي ص ما لا يليق به. وانظر للاستزادة ما كتبه التويجري في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد واحد وأربعون، تحت عنوان (التنبيه على خبر با طل في أخبار مكة).
[774] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/146-147).
[775] أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر (2) رقم ( 969 ).
[776] أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله (5) رقم (5758) واللفظ له، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (3) رقم (2107).
[777] أخرجه البخاري: كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وهو العزيز الحكيم} (5) رقم (5609)، ومسلم: كتاب: اللباس والزينة، باب: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (3) رقم(2111) واللفظ له.
[778] أخرجه أحمد (14) رقم (8430)، والترمذي: أبواب: صفة جهنم، باب: ما جاء في صفة النار (4 / 282) واللفظ له، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (512).
[779] ويستثنى من ذلك ما أوجبته الضرورة، كما في صور الهويات المدنية والجوازات والمطلوبين، وغيرهما من الاستثناءات المفصلة في الكتب الفقهية.
[780] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/371-372).
[781] فتح الباري (10 / 391).
[782] شرح النووي على مسلم (14 / 82).
[783] فتترك بشرط عدم إظهارها وإخراجها خارج تلك المعابد انظر: معابد الكفار وأحكامها لإبراهيم الفهيد (ص/192).
[784] انظر: تاريخ ابن خلدون (1/ 13).
[785] أخرجه البخاري: كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله ص (6) رقم (6858) واللفظ له، ومسلم: كتاب: الفضائل، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعا.. (2) رقم (1337).
[786] سورة البقرة من الآية (286).
[787] سورة الحج من الآية (78).
[788] تقدم بيان مكانة الصحابة ش (ص/15).
وبعد هذا العرض المتواضع أشكر المولى سبحانه وتعالى أن وفقني للبحث في هذا المجال العظيم؛ مجال الدفاع عن الصحابة الكرام ش، فله سبحانه وتعالى الحمد على توفيقه وتسديده، وأسأله سبحانه المزيد من فضله ونواله، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
ثم إنه يجدر بي أن أختمها بأهم النتائج التي توصلت إليها، ثم أعقبها بالتوصيات المتعلقة بالموضوع:
النتائج:
- الصفات الحميدة والأخلاق الرفيعة منها ما تكون سجية في المرء، ومنها ما تكتسب من بيئة مجتمعه، وأفراد قبيلته.
- من الظلم تحميل الأبناء جرم والديهم، أو تعييرهم به.
- الأصل أن من ثبت إسلامه، أو عدالته، أو فضله بيقين؛ لايزول عنه ذلك إلا بيقين.
- ليس من العدل أن ينسب لشخص ما أمراً بدون بينة صحيحة.
- حرص المسلم على تطبيق السنن حين احتضاره من دلالة توفيق الله له.
- استعمال النبي ص لشخص ما من الصحابة في بعض المهام دليل على فضل ذلك الصحابي وعدالته.
- الصحابة ش كلهم عدول ويتفاوتون في الدرجة.
- من أراد أن يتوصل إلى نتيجة صحيحة من خلال دراسته لعصر من عصور التاريخ؛ عليه أن يدرسه بطبيعة ذلك العصر وأخلاقه، لا بطبيعة وأخلاق عصر آخر.
- تتغير طبيعة المجتمع من حين لآخر لأسباب منها؛ تغير البيئة، وطبيعة السلطان.
- المعرفة بطبيعة مجتمع ما وأخلاقه؛ تمنح صاحبها البصيرة بسبر الأخبار المشاعة عنه.
- من أسباب حصول الفتن؛ الفهم الخاطئ، والجهل، والحقد، والحسد.
- حفظ اللسان من أهم سبل النجاة في زمن الفتن.
- بسبب الفتن التي حصلت بين الصحابة أثيرت شبه حول بعضهم، منهم عمرو بن العاص س، وهذه الشبه المثارة حوله تندرج تحت خمسة أقسام:
القسم الأول: شبهات تتعلق بنسبه س.
والقسم الثاني: شبهات تتعلق بعدالته س.
والقسم الثالث: شبهات حول علاقته بالنبي ص.
والقسم الرابع: شبهات حول علاقته بالصحابة س.
والقسم الخامس: شبهات حول فتحه لمصر وحكمه لها، وعلاقته بأهلها عموماً والأقباط خصوصاً.
- جميع هذه الشبه - البالغ عددها ستة عشر- بعيدة كل البعد عن هذا الصحابي الجليل بل لا تمت إليه بصلة، فهي بين ضعيف لا يصح إسناده وهو الغالب، أو صح سنده ولكن حمل معناه على معنى غير مراد، يفطن له من عنده أدنى مسكة من علم، أو معرفة بمجتمع الصحابة ش الذين زكاهم الله من فوق سبع سموات، ورحم الله عبدالله بن المبارك إذ يقول: الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ. وقال بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ. يَعْنِى الإِسْنَادَ[789].
- وأخيراً قد لا أكون استقصيت جميع الشبه- المثارة حول الصحابي الجليل- مما لها ذكر في كتب السنة المعتمدة، لكن إن وجدتَ شيئاً منها فهي كسابقتها، وقد وضعتُ لك الخطوط؛ فبادِ بَيْنَ الخَيْطَيْنِ واعرف الأمثال والأشباه.
وفي الأخير لا يسعني إلا أن أعترف بالقصور والتقصير في الدفاع عن هذه الشخصية الفذة، وإنما سيرته الخالدة وأقواله التاريخية هي من يجيب عما يثار حوله ويراد المساس بجنابه؛ والله بأسمائه الحسنى أسأل وصفاته العليا أتوسل أن يسلك بنا سبل مرضاته وطريق أوليائه، وهو حسبي ونعم الوكيل؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
التوصيات:
- التعاون بين العلماء والباحثين في كتابة الأبحاث المتعلقة بالصحابة وذلك بذكر فضائلهم، والثناء المتبادل بينهم، ودحض ما يثار حولهم.
- تحقيق كتب التواريخ والسير لبيان الأحاديث والآثار والقصص الضعيفة والموضوعة التي تتعلق بالصحابة رضوان الله عليهم.
- على الكاتب والخطيب والواعظ - عند حديثه عن الصحابة - أن يتنبه من ذكر الأحاديث والآثار والقصص الضعيفة والموضوعة التي تمس بجنابهم.
- توعية المجتمع بحب جميع الصحابة والترضي عنهم، وبيان فضلهم، وخطورة تنقصهم؛ وذلك من خلال الندوات وتوزيع الكتب والأشرطة المتعلقة بهذا الموضوع.
[789] مقدمة صحيح مسلم (ص/15).
1- الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1394هـ- 1974 م.
2- آثار مصر القديمة في كتاب الرحالة والعرب والأجانب جيلان عباس. تقديم مختار السّويفي. الدار المصرية اللبنانية.
3- أحاديث أم المؤمنين عائشة المرتضى العسكري. دار التوحيد(ط5) عام 1414هـ.
4- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لعلاء الدين بن بلبان الفارسي. تحقيق شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة عام 1418هـ.
5- أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي. راجع أصوله محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية. بيروت: لبنان (ط3) عام 1424 هـ - 2003 م.
6- أحكام أهل الذمة لابن القيم. تحقيق: يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري. دار رمادى: الدمام. عام 1418 – 1997 م.
7- أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي. دار الأندلس: بيروت عام: 1416هـ-1996م.
8- أخبار العلماء بأخيار الحكماء لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي تحقيق إبراهيم شمس الدين. دار الكتب العلمية: بيروت. عام 1426 هـ - 2005 م
9- الأخبار الطوال للدينوري. وثق أصوله محمد الحاج علي. عام 1421هـ.
10- أخبار مكة للفاكهي في قديم الدهر وحديثه. تحقيق د. عبد الملك عبد الله دهيش. دار خضر: بيروت.
11- الاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي. تحقيق: عبد اللطيف عبد الرحمن. دار الكتب العلمية: بيروت(ط3) عام 1426 هـ - 2005م.
12- الأدب المفرد للإمام البخاري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار البشائر الإسلامية: بيروت (4ط) عام 1417 هـ – 1997م.
13- إرواء الغليل لناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي عام 1405 هـ.
14- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبرتحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، طبعة دار الكتب العلمية. عام1415 هـ -1995م.
15- أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثيرتحقيق علي معوض. دار الكتب العلمية.
16- الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين للدكتور شوقي أبوخليل، دار الفكر المعاصر: بيروت.
17- الإصابة في تميز الصحابة لابن حجر، دار الكتب العلمية. عام 1415هـ.
18- أصول السرخسي تحقيق أبي الوفاء الأفغاني دار الكتاب العلمية.
19- الأعلام للزركلي دار العلم للملايين (ط8) عام 1989م.
20- الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء لسليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي تحقيق: د. محمد كمال. عالم الكتب عام1417هـ-1997م.
21- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري. تحقيق خليل المنصور. دار الكتب العلمية. عام 1418هـ - 1997م.
22-الأمثال لأبي عبيد بن سلام (الشاملة).
23- أنساب الأشراف للبلاذري. تحقيق الزكار والزركلي. دار الفكر بيروت 1417 هـ.
24- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي. دار إحياء التراث العربي: بيروت. عام 1419 هـ.
25- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهله لأبي بكر الباقلاني (الشاملة).
26- بحار الأنوار للمجلسي دار إحياء التراث العربي: بيروت.
27- بداية المبتدي للمرغيناني. مكتبة ومطبعة محمد علي صبح: القاهرة.
28- البداية والنهاية للحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير. تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي. دار هجر. عام 1418 هـ - 1997 م.
29- البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن. تحقيق: مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال. دار الهجرة: الرياض. عام: 1425هـ- 2004م.
30- بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام لأبي الحسن بن القطان تحقيق: د. الحسين آيت دار طيبة: الرياض. عام 1418 هـ- 1997م.
31- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني. دار الكتب العلمية (ط2) عام 1406هـ.
32- البرهان في علوم القرآن للزركشي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية عيسـى البابـى الحلبي وشركائه. عام 1376هـ -1957م.
33- تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي. دار الهداية.
34- التاج والإكليل لمختصر خليل لابن المواق. دار الكتب العلمية. عام 1416هـ.
35- تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة. دار الفكر: بيروت(ط2) عام 1408 هـ.
36- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي: بيروت. عام 1407هـ - 1987م.
37- تاريخ الأمة القبطية ليعقوب نخلة روفيله. مطبعة متروبول(ط2) عام2000م.
38- تاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري دار التراث: بيروت(ط2) 1387 هـ.
39- تاريخ العالم القديم يوحنا النقيوسي.
40- التاريخ الكبير للبخاري. دار الكتب العلمية.
41- تاريخ المدينة النبوية لابن شبه. تحقيق: فهيم محمد شلتوت. دار الفكر عام173 هـ.
42- تاريخ مصر من خلال مخطوطة البطاركة لساويرس ابن المقفع. تحقيق عبد العزيز جمال الدين. مكتبة مدبولي. عام 2006م.
43- تاريخ دمشق لابن عساكر. دار الفكر. تحقيق: العمروي. عام1418 هـ.
44- تاريخ عمرو بن العاص د. حسن إبراهيم حسن مكتبة مدبولي – القاهرة عام1996م.
45- تاريخ مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر الربعي تحقيق د. عبد الله الحمد. دار العاصمة. عام1410 هـ.
46- تاريخ وآثار مصر الاسلامية من الفتح العربي وحتى نهاية العصر الفاطمي للدكتور أحمد عبد الرزاق. دار الفكر العربي: القاهرة عام1420 هـ -1999م
47- تاريخ وحضارة مصر القديمة للدكتور سمير أديب. مكتبة الاسكندرية. عام1997م.
48- تحذير العبقري من محاضرات الخضري لمحمد العربي التباني. دار الكتب العلمية عام 1374 هـ -1955م.
49- تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين للدكتور محمد أمحزون دار طيبة. عام: 1415 هـ-1996م.
50- تفسير ابن أبي حاتم تحقيق: أسعد محمد الطيب. المكتبة العصرية.
51- تقسيرالقرآن العظيم لابن كثير. تحقيق سامي بن محمد سلامة. دار طيبة (ط2) 1420هـ - 1999م.
52- تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني. تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد. عام 1420 هـ - 1999م.
53 - تهذيب الكمال للمزي. تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة. عام
1413 هـ-1992م.
54- تهذيب اللغة للأزهري. تحقيق عبد السلام هارون، الدار المصرية.
55- الثقات لابن حبان. طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الدكن – الهند، الطبعة الأولى عام 1420 هـ - 1982 م.
56- جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير المحقق: أحمد محمد شاكر. مؤسسة الرسالة. عام 1420 هـ - 2000 م.
57- جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي تحقيق حمدي السلفي. عالم الكتب: بيروت. (ط2) عام 1407 هـ.
58- الجامع الكبير للإمام الحافظ أبي عيسى الترمذي. تحقيق: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي: بيروت. عام 1996م.
59- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر دراسة وتحقيق: فواز أحمد زمرلي. مؤسسة الريان - دار ابن حزم. عام 1424-2003 هـ.
60- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. تحقيق: هشام سمير البخاري دار عالم الكتب: الرياض. 1423هـ/ 2003م
61- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، تحقيق المعلمي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند. عام 1372هـ - 1952م.
62- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي لابن الدمشقي. تحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي. مطبعة پاسدار إسلام: قم - ايران-. عام 1416هـ
63- الحاوى الكبير للماوردى. دار الفكر: بيروت.
64- الحضارة العربية لجاك ريسْلر. تعريب الكتور خليل أحمد. منشورات عويدات. بيروت عام 1993م.
65- حكم شهادة الكفار وإقرارهم بأتسابهم للصنعاني. تحقيق عبد الله عجمي و وليد عبدالحق. دار نسائم: صنعاء - اليمن-.
66- حلية الأولياء وطبقات الأتقياء لأبي نعيم الأصبهاني. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت(ط3) عام 1400 هـ -1980م.
67- حياة الحيوان الكبرى لأبي البقاء الدميري. دار الكتب العلمية. عام 1424 هـ.
68- الخراج لأبي يوسف. تحقيق: طه عبد الرءوف، سعد حسن. المكتبة الأزهرية للتراث.
69- دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية س لعبد السلام بن محسن آل عيسى. عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. عام 1423 هـ/2002م.
70- الرحيق المختوم للمبارك فوري. دار إحياء التراث العربي (ط2) 1420 هـ.
71- الروض المربع شرح زاد المستنقع للبهوتي. تحقيق: سعيد محمد اللحام. دار الفكر بيروت.
72- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لشهاب الدين الآلوسي تحقيق: على عبد البارى عطية. دار الكتب العلمية. عام 1415 هـ.
73- روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي. تحقيق: زهير الشاويش. المكتب الإسلامي، بيروت(ط3) عام 1412هـ / 1991م.
74- الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري دار الكتب العلمية عام 1405 هـ.
75- الزهد لابن المبارك تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي دار الكتب العلمية- بيروت.
76- السلسلة الصحيحة للألباني. مكتبة المعارف: الرياض. عام1415 هـ -1995م.
77- السلسلة الضعيفة للألباني. مكتبة المعارف: الرياض 1425 هـ.
78- السنة لأبي بكر الخَلَّال تحقيق: د. عطية الزهراني. دار الراية: الرياض. عام 1410هـ - 1989م.
79- سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار الفكر.
80- سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. دار الكتاب العربي ـ بيروت.
81- السنن الكبرى للبيهقي. نشر مجلس دائرة المعارف النظامية: الهند ببلدة - حيدر آباد- عام 1344 هـ.
82- سنن الكبرى للنسائي. تحقيق: د.عبد الغفار سليمان البنداري, سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية عام 1411 هـ - 1991م.
83- سؤالات مسعود بن علي السجزي مع أسئلة البغداديين عن أحوال الرواة للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري تحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر. دار الغرب الإسلامي: بيروت عام 1408هـ - 1988م.
84- سير أعلام النبلاء للذهبي، طبعة مؤسسة الرسالة (ط11) عام 1417هـ.
85- السيرة النبوية لابن هشام تحقيق طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل عام 1411 هـ.
86- شرح السنة للبغوي. تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد زهير الشاويش. المكتب الإسلامي. عام 1396 هـ -1976م.
87- شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين. دار ابن الجوزي: السعودية (4) عام 1424هـ.
88- الشرح الكبير لأبي البركات أحمد بن محمد العدوي، الشهير بالدردير، إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركاء.
89- شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه.
90- الشـريعة للآجري. تحقيق: الدكتور عبدالله الدميجي. دار الوطن(ط2).
91- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي. دار الكتب العلمية: بيروت.
92- الصحابة ومكانتهم عند المسلمين لمحمود عيدان أحمد الدليمي. رسالة ماجستير (الشاملة).
93- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري. تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين: بيروت (ط4) عام 1407 هـ 1987 م.
94- صحيح البخاري. تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير: بيروت (ط3) عام 1407 هـ - 1987م.
95- صحيح مسلم. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي بيروت.
96- صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته للألباني. المكتب الإسلامي. (ط3) عام 1408 هـ -1998م.
97- صفوة الصفوة لابن الجوزي تحقيق: محمود فاخوري - د. محمد قلعه جي. دار المعرفة: بيروت (ط3) عام 1405 هـ – 1985م.
98- الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي. تحقيق عبد الله القاضي. دار الكتب العلمية عام 1406 هـ.
99- طبقات الحنابلة أبو الحسين ابن أبي يعلى. تحقيق: محمد حامد الفقي. دار المعرفة: بيروت.
100- الطبقات الكبرى لابن سعد. تحقيق إحسان عباس. دار صادر: بيروت. عام 1968م.
101- طبقات خليفة بن خياط تحقيق: د. أكرم ضياء العمري. دار طيبة: الرياض (ط2) عام 1402 هـ - 1982م.
102- عبقرية عمر عباس العقاد. دار نهضة مصر. عام 1998 م.
103- العقيدة رواية أبي بكر الخلال لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. تحقيق: عبد العزيزالسيروان. دار قتيبة: دمشق. عام 1408 هـ-1988م.
104- عمرو بن العاص للدكتور نظمي لوقا. مكتبة غريب.
105- العواصم من القواصم لابن العربي المالكي. تحقيق محب الدين الخطيب - ومحمود مهدي الاستانبولي. دار الجيل: بيروت. (ط2) عام 1407هـ - 1987م.
106- العيال لابن أبي الدنيا. تحقيق: د نجم عبد الرحمن خلف. دار ابن القيم: الدمام. عام 1410هـ - 1990م.
107 - غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للألباني. المكتب الإسلامي: بيروت (ط3) عام 1400 هـ -1980م.
108- الغدير للأ ميني. دار الكتاب العربي: بيروت (ط4) عام 1397هـ.
109- غريب الحديث لا بن قتيبة تحقيق. د. عبد الله الجبوري. مطبعة العاني: بغداد. عام 1397 هـ.
110- غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام. دار الكتاب العربي: بيروت. عام 1397 هـ -1967م.
111- الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي. دار الفكر.
112- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر. مؤسسة مناهل العرفان. عام 1421 هـ.
113- فتح العرب لمصر لبتلر تعريب محمد فريد. مكتبة الدبولي: القاهرة. (ط2) عام 1416 هـ -1996م.
114- فتح مصر للدكتور جمال عبدالهادي. دار الطباعة والنشر الإسلامية. مكتب القاهرة.
115- فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم تحقيق: محمد صبيح. مكتبة مدبولي. القاهرة.
116- الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق للقرافي. تحقيق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية: بيروت عام 1418هـ - 1998م.
117- الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم: مطبعة التمدن: القاهرة1321 هـ.
118- فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل تحقيق: د. وصي الله محمد عباس. مؤسسة الرسالة: بيروت. عام1403 هـ - 1983 م.
119- الكامل في التاريخ لابن الأثير. تحقيق عمر عبدالسلام تدمري. الكتاب العربي: بيروت عام 11422 هـ-2001م.
120- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي. تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض. طبعة دار الكتب العلمية.
121- كتاب الفتن لنعيم بن حماد. تحقيق: سمير أمين الزهيري. مكتبة التوحيد: القاهرة 1412 هـ-1992م.
122- كتاب الفتوح لابن أعثم. دار الأضواء. عام 1411 هـ.
123- كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري. تحقيق: محمد أبو الفضل و عبد المجيد قطامش. دار الفكر (ط2) عام 1988 م.
124- كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي تحقيق: علي حسين البواب. دار الوطن: الرياض. عام 1418هـ - 1997م.
125- لسان العرب لابن منظور. دار صادر: بيروت. عام 1410 هـ -1990م.
126- لسان الميزان لابن حجر. دار الكتاب الإسلامي.
127- متن الطحاوية للطحاوي(الشاملة).
128- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين لابن حبان البستى. تحقيق محمود ابراهيم زايد. دارالمعرفة: بيروت.
129- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي. تحقيق الدرويش دار الفكر: بيروت عام 1414 هـ-1994م.
130- مجموع الفتاوى لابن تيمية. جمع و ترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم. مؤسسة قرطبة.
131- المجموع شرح المهذب للنووي. دار الفكر.
132- المحكم والمحيط لابن سيده. تحقيق هنداوي. دار الكتب العلمية 1421 هـ2000م.
133- مختار الصحاح للرازي تحقيق: محمود خاطر. مكتبة لبنان: بيروت عام 1415هـ.
134- المخصص لا بن سيده تحقيق: خليل إبراهم جفال. دار إحياء التراث العربي: بيروت. عام 1417هـ- 1996م.
135- المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي. تحقيق: الأعظمي. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي: الكويت.
136- مروج الذهب ومعادن الجوهرللمسعودي. تحقيق: عبدالأمير مهنا. مؤسسة الأعلمي: بيروت. عام1411 هـ -1991م.
137- المستدرك على الصحيحين لأبي عبدالله الحاكم النيسابوري. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية: بيروت. عام 1411 هـ - 1990م.
138- المستقصى في أمثال العرب لأبي القاسم محمود بن عمر للزمخشري. دارالكتب العلمية: بيروت (ط2) عام 1987م.
139- مسند أبي حنيفة لأبي نعيم الأصبهاني تحقيق: نظر محمد الفاريابي. مكتبة الكوثر: الرياض. عام 1415 هـ.
140- مسند أبي داود الطيالسي تحقيق التركي. دارهجر.
141- مسند أبي يعلى الموصلي. طبعة دار المأمون للتراث. تحقيق حسين سليم أسد. عام 1404 هـ.
142- مسند الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون. مؤسسة الرسالة (ط2) عام 1420هـ - 1999م.
143- مسند البزار. تحقيق: د محفوظ الرحمن. مكتبة العلوم والحكم: المدينة. عام 1415 هـ -1994م.
144- مسند الروياني. تحقيق أيمن أبو يماني. مؤسسة قرطبة: القاهرة. عام 1416 هـ.
145- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي. المطبعة الأميرية بالقاهرة (ط5).
146- المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة. تحقيق عامر العمري الأعظمي. الدار السلفية. عام 1403 هـ.
147- معجم البلدان ياقوت بن عبد الله الحموي. تحقيق: فريد الجندي. دارالكتب العلمية. 1410هـ-1990م.
148- معجم الصحابة لابن قانع. تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي. مكتبة الغرباء الأثرية.
149- المعجم الكبير للطبراني. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. مكتبة ابن تيمية.
150- المعجم الوسيط. دار إحياء التراث العربي (ط2).
151- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع لأبي عبيد البكري الأندلسي تحقيق: مصطفى السقا. عالم الكتب.
152- معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. طبعة دار الفكر. عام 1399 هـ.
153- معرفة الصحابة لأبي نعيم. تحقيق: عادل العزازي. دار الوطن (الرياض) عام 1419 هـ - 1998 م.
154- المعرفة والتاريخ للفسوي. تحقيق: د. أكرم ضياء. مكتبة الدار: المدينة. عام 1410هـ.
155- المغازي للواقدي. تحقيق: د. مارسدن جُونس عالم الكتاب (ط3)عام 1404هـ.
156- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني. دار الكتب العلمية عام 1415هـ - 1994م.
157- المغني في الضعفاء للذهبي. تحقيق الدكتور نور الدين عتر.
158- المغني لابن قدامة المقدسي. دار الفكر: بيروت. عام 1405 هـ.
159- المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين. جمع وإعداد الباحث علي بن نايف الشحود(الشاملة).
160- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة السَّخاوي. تحقيق محمد عثمان. دار الكتاب العربي (ط3) عام 1417 هـ - 1996م.
161- المنمق في أخبار قريش محمد بن حبيب البغدادي. طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية: بحيدر آباد- الهند -.
162- منهاج السنة النبوية شيخ الإسلام بن تيمية تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة. عام 1406 -1986 م.
163- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي. دار إحياء التراث العربي. بيروت (ط2) عام 1392 هـ.
164- المواعظ والاعتبار المقريزي. تحقيق: محمد زينهم. مكتبة مدبولي: القاهرة.
165- مواقف الشيعة للأحمدي الميانجي. مؤسسة النشـر الإسلامي. عام 1416هـ.
166- مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل للحطاب الرُّعيني. تحقيق: زكريا عميرات. دار عالم الكتب. عام 1423هـ - 2003م
167- المؤتلف والمختلف الدارقطني. تحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر. دار الغرب الإسلامي: بيروت عام: 1406 هـ - 1986 م.
168- الموضوعات لابن الجوزي تحقيق نور الدين شكري. مكتبة أضواء السلف: الرياض. عام 1418 هـ -1997م.
169- ميزان الاعتدال للذهبي. تحقيق: الشيخ علي معوض- والشيخ عادل عبدالموجود. دار الكتب العلمية. عام 1416هـ-1995م.
170- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري الاتابكي. وزارة الثقافة والإرشاد القومي. دار الكتب: مصر.
171- نسب قريش لمصعب الزبيري. دار المعارف (ط3).
172- نفحات من منبر رسول الله ص للثبيتي. دار طيبة: مكة المكرمة (ط2) عام 1423 هـ.
173- نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين أحمد النويري. المؤسسة المصرية العامة. عام 1424 هـ - 2004 م.
174- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير. تحقيق: خليل شيحا. دار المعرفة: بيروت. عام 1422 هـ -2001م.
175- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم. تحقيق: أحمد السقا. دار الريان.
176- وقعة صفين لابن مزاحم المنقريي. تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون المؤسسة العربية الحديثة (ط2)1382 هـ.