1821

الغلاف

الفتاوى
الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
الطبعة الثانية
1441هـ - 2020م



جمع ومراجعة
عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد آل محمود

ساهم في إنجاز هذا الكتاب:
التبويب والتنسيق: الشيخ إبراهيم الصبيحي / الشيخ عادل الحرازي
التخريج والهوامش: الشيخ جميل حمود

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وبعد؛

فقد منَّ الله علي بالاهتمام بتراث والدي الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، وكان موضوع هذا الكتاب أي: (الفتاوى) مما كثر طلبه من طلبة العلم والناس الراغبين في معرفة فتاوى الشيخ في المسائل المختلفة.

وقد قمت بجمع هذه المجموعة من الفتاوى والتي لا تغطي إلا جزء من فتاواه وجمعتها من إرشيف مراسلاته ومن مقابلات صحفية أجاب فيها عن عدد من الاستفتاءات وكذلك من خطبه التي تناول فيها ما يرد به على المستفتين. ومع ذلك فإن ما لم نتمكن من جمعه لا يزال أكثر من ذلك.

وأرجو أن أتمكن مستقبلاً من إخراج جزء ثانٍ من هذه الفتاوى وأدعو الله أن يعينني على ذلك وأن يبارك في وقتي حتى أتمكن من إكمال هذه المهمة والمشاريع المماثلة.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد آل محمود

[email protected]

كتاب الإيمان

حكم التكذيب ببعض الأنبياء السابقين

السؤال: ما حكم من يكذِّب ببعض الأنبياء السابقين؟ [6/74]

الجواب [رقم: 1]:

إنه من يكذِّب نبيًّا من الأنبياء فإنه يعتبر مكذبًا لسائر الأنبياء، وكافرًا بالله عز وجل. فالذين يكذِّبون بنبوة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، أو يكذِّبون بمعجزاته التي أثبتها القرآن، فإنهم يعتبرون مكذِّبين لسائر الأنبياء، وكافرين بالله عز وجل.

ومثلهم الذين يكذِّبون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، أو يكذِّبون بالقرآن النازل عليه من الله، أو يزعمون بأنه شيء فاض على نفس محمد بدون أن يوحي به الله إليه، أو ينزل به جبريل عليه السلام عليه، فإنهم يُعتبَرون بأنهم مكذِّبون بنبوة عيسى ابن مريم، ونبوة موسى وسائر الأنبياء؛ لأن من كذَّب نبيًّا واحدًا كذَّب سائر الأنبياء. ولأن التكذيب بمحمد أو التكذيب بالقرآن النازل عليه يستلزم التكذيب بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، والتكذيب بمعجزاته التي أثبتها القرآن الحكيم وكذلك غيره من الأنبياء.

***

حكم الإنجيل الموجود حاليًا عند النصارى

السؤال: هل الإنجيل الموجود حاليًا بين يدي النصارى هو الإنجيل النازل على عيسى عليه السلام؟ [6/76]

الجواب [رقم: 2]:

إن الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن ليس هو الإنجيل النازل على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وإنما هو مبدل منه، وفيه التحريف الكثير، والكذب على الله وعلى الأنبياء، كما يعترف العقلاء من علمائهم بذلك، يقول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون ٧٩[سورة البقرة، الآية: 79].

لأن النصارى يجيزون للقسيسين بأن يُغيِّروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، فيجعلون الحرام حلالاً؛ لأنهم ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ [سورة التوبة، الآية: 31] فجعلوا المسيح هو الله، وجعلوه ثالث ثلاثة، والقرآن والإنجيل بريئان من ذلك: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار ٧٢[سورة المائدة، الآية: 72].

﴿يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلا ١٧١[سورة النساء، الآية: 171].

وهذا القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام هو معجزة الدهور، وآية العصور، محفوظ في المصاحف وفي الصدور، منذ نزل إلى يوم القيامة.

سبب عدم إيمان النصارى بمحمد ﷺ

السؤال: ما سبب انصراف علماء النصارى وعامتهم عن الإيمان بمحمد ﷺ والقرآن النازل عليه؟ [6/80]

الجواب [رقم: 3]:

إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق دين الإسلام واعتقاده، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وبالقرآن النازل عليه الذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد ٤٢[سورة فصلت، الآية: 42] هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين[أطلق عليهم المبشرين من باب ذكرهم بما عرفوا به وإلا فإن دعوتهم لا تعد تبشيرًا] عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بقولهم بأنه رجل عاقل، وأنه عبقري، وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه، أو ينزل به جبريل عليه، تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.

فهم يتلقون هذا الكذب من القسيسين والمبشرين مما جعلهم يتأثرون به، ويتربون في حال صغرهم على اعتقاده. فهذا التأثر والتأثير قد أُشرِبت به قلوبهم حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

والأمر الثاني: هو أن تكذيب أذكيائهم، والمفكرين منهم، إنما نشأ عن عدم معرفتهم باللغة العربية، التي هي لغة الإسلام، والتي يعرف بها بلاغة القرآن، لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين.

فبلاغة القرآن بلغته، ومعرفة أحكامه وحكمته، وعموم هدايته ومنفعته، وذوق حلاوته، كل هذا إنما يدرك عن طريق لغته، كقوله سبحانه: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون ٣ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون ٤[سورة فصلت، الآيتان: 3 – 4].

إن عدم معرفة الأمم للغة العربية التي هي لغة القرآن هو أكثف حجاب يحول بينهم وبين اعتناق الإسلام واعتقاده، والتصديق بالرسول وبالقرآن النازل عليه.

أما ترجمة القرآن الموجودة بأيدي النصارى الآن - وقد تُرجم عدة تراجم - كلها ليست بالقرآن، وتبعد جدًّا عن بلاغة القرآن، وفيها الشيء الكثير من الخبط والخلط، الخارج عن معاني القرآن، فلا تسمى قرآنًا. وإنني أنصح عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم، بأن يوجهوا عنايتهم ورغبتهم إلى تعلم اللغة العربية، فإن تعلمها يعد من الأمر الواجب على كل أحد، وخاصة من يرغب في الدخول في الإسلام، وبها يعرف أحكام العبادات من الصلاة والزكاة والصيام، ويتبين له بطريق الوضوح أن دين الإسلام هو الدين القويم، ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم[سورة الأحقاف، الآية: 30]. لأنه دين سعادة وسيادة وسياسة، صالح لكل زمان ومكان. قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه ﴿ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .

إن كثيرًا من أذكياء النصارى قد تغيرت أفكارهم بعدما تعلموا اللغة العربية، فظهر لهم من فضل الإسلام وصدق القرآن ما خفي على سلفهم. لهذا أخذوا يدعون قومهم إلى الرجوع إلى الإسلام، وإلى العمل بما شرعه من الأحكام، لكونهم أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم، ولا شريعة تنظمهم، وقد كثر الداخلون في الإسلام في هذا الزمان وأخذوا يزدادون في الدخول عامًا بعد عام.

أسباب ضعف الدين

السؤال: ما هي الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى ضعف الدين؟ [6/98]

الجواب [رقم: 4]:

كل ضعف حصل بالمسلمين فبسبب ما ضيعوا من تعاليم الدين، حتى التنازع والاختلاف والقتال بين حكام المسلمين، فكلها ذنوب تورث الضعف والذل وحلول الفشل.

ولضعف الدين عوامل عديدة تساعد على ضعف الناس، منها:

قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه يفسد الإسلام ثلاثة أشياء: الأئمة المضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن[أخرجه ابن بطة في الإبانة، وبنحوه الدارمي (220) بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه].

وروى مسلم عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» [أخرجه الترمذي (2229)، وأصله في صحيح مسلم (2889)].

أكبر معجزات النبي ﷺ

السؤال: ما هي أكبر معجزات النبي محمد ﷺ؟ [6/137]

الجواب [رقم: 5]:

معجزة القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام، والذي هو الحجة البالغة العظمى على خلقه. فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسِفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، والواقي عن الرذيلة. مأدبة الله في أرضه، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يَخْلَقُ[أي: لا يبلى] على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، فيه خبر الأمم السابقة مع أنبيائهم، وما جرى منهم، وما جرى عليهم ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُون ٧٦ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين ٧٧[سورة النمل، الآيتان: 76 – 77].

فيا لك من آيات حق لو اهتـدى
بهن مريد الحق كن هواديـا
ولكن على تلك القلوب أكنـة
فليست وإن أصغت تجيب المناديا

وهذا القرآن المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة؛ منها السور الطوال والقصار، مع ما اشتمل عليه من البلاغة؛ أنزله الله على هذا النبي العربي الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوبات، وكما قيل: كفاك بالأمي معجزة. يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون ٤٨بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُون ٤٩[سورة العنكبوت، الآيتان: 48 – 49]. وقد تحدى الله جميع الخلق على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨[سورة الإسراء، الآية: 88] وهذا التحدي لجميع الخلق؛ هو أعظم معجزة لنبوة محمد ﷺ، وصِدْق رسالته والقرآن النازل عليه. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ٤٤لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين ٤٦[سورة الحاقة، الآيات: 44 – 46].

ولا يقال: إن هذا القرآن فاض على نفس محمد ﷺ بدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه السلام ! فإن هذا صريح في التكذيب به. وهي مقالة الوحيد العنيد القائل: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَر ٢٥[سورة المدثر، الآية: 25] ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ٥قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ٦[سورة الفرقان، الآيتان: 5 – 6] ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين ١٠٢[سورة النحل، الآية: 102].

وللنبي ﷺ معجزات غيره: كنبع الماء من بين أصابعه[يشير إلى حديث أنس رضي الله عنه حينما رأى الماء ينبع من بين أصابع النبي ﷺ، والحديث في صحيح البخاري (200)، ومسلم (2279)]، وتكثير الطعام القليل[يشير إلى قصة تضييف أم سلمة للنبي ﷺ وبعض أصحابه وأن النبي ﷺ مس الطعام ودعا فيه بالبركة حتى أكل وشبع القوم عن آخرهم. والحديث أخرجه البخاري (5381)، ومسلم (2040)]، وغير ذلك. والمعجزة العظمى هي القرآن، فهو معجزة الدهور وآيات العصور.

معجزات النبي ﷺ

السؤال: ما هي معجزات النبي ﷺ؟ [6/27]

الجواب [رقم: 6]:

معجزات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كثيرة جدًّا. ولسنا بصدد إحصائها في هذا المقام الضيق، فمنها: نبع الماء من بين أصابعه[تقدم تخريجه ص14]، ومنها تكثير الطعام القليل حتى يشبع منه الخلق الكثير[تقدم تخريجه ص14]، ومنها قصة الأعرابية صاحبة السطيحتين - أي: الراويتين - وحاصلها ما رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين قال: كنا في سفر مع النبي ﷺ، فاشتكى إليه الناس من العطش، فدعا عليًّا وفلانًا، فقال: «اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا المَاءَ» فانطلقا فلقيا امرأة بين سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أَمْسِ هذه الساعة. فقالا لها: انطلقي. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فجاءا بها إلى رسول الله، ودعا النبي وأطلق العزالي[العزالي جمع عزلاء، وهو مصب الماء من القربة ونحوها] ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا. فملؤوا قربهم وقدورهم وأوانيهم، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: «اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ». وأيم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءة منها حين ابتدأها. وقال لها رسول الله: «تَعْلَمِينَ، مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا» [ما رزئنا: أي ما أنقصنا]. فأتت أهلها، وقالوا: ما حبسك عنا؟ قالت: العجب؛ لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ. ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر ما بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقًّا[صحيح البخاري (344)، وصحيح مسلم (682)]. وبسبب هذه المعجزة أسلم قومها.

وكان العرب يسمون الرسول الصابئ؛ من أجل أن الناس يصبون إليه؛ أي يميلون إليه ويدخلون في دينه.

ومثله ما جرى له مع شاة أم معبد وكانت عجفاء هزيلة لا تطيق المشي مع الصحاح، فمسح ضرعها، وسمى الله عليها؛ فتنافجت، واجترت، ودرّت، ثم انفجرت باللبن[رواه الحاكم في المستدرك (4274) من حديث هشام بن حبيش بن خويلد رضي الله عنه].

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

لكن المعجزة الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة هي معجزة القرآن الحكيم، الذي تحدى الله به جميع الأولين والآخرين، على أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا مع بلاغتهم، وشدة فصاحتهم ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨[سورة الإسراء، الآية: 88].

فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي من الرذيلة.

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدِ أُوْتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ بِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [صحيح البخاري (4981)، وصحيح مسلم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أقوى وأقوم قيلا

إن معجزات سائر الأنبياء قد وقعت بوقتها، ومضت بمُضِيِّ زمنها، بحيث لا يشاهدها الناس الآن، غير أن المسلمين يؤمنون بها بدون أن يشاهدوها، تبعًا لإيمانهم بسائر المغيبات التي أخبر الله بها.

وإنما المعجزة الخالدة الدائمة، والمشاهدة بالأبصار إلى يوم القيامة، هي معجزة القرآن الذي فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم. يقول الله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ٩٩ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ١٠٠[سورة طه: 99 – 100].

***

طبيعة الإسراء وهل كان بالروح أم بالجسد

السؤال: هل أسري برسول الله ﷺ بروحه فقط؟ أم بروحه وجسده؟ [6/29]

الجواب [رقم: 7]:

الصحيح من أقوال العلماء أنه أُسرِيَ برسول الله ﷺ بروحه وجسده، لكون المقام، وفحوى المقال، ينبئ عن معجزته العظمى في خبر الإسراء.

فأثبت القرآن أن الله أسرى بعبده ورسوله محمد ﷺ ليلاً من المسجد الحرام. فقيل: أُسرِيَ به من الحجر. وقيل: من بيت أم هانئ. إلى المسجد الأقصى الذي هو بيت المقدس. وهذا الإسراء معجزة عظمى خارقة للعادة، والمعجزة كاسمها بحيث يعجز الناس عن معارضتها والإتيان بمثلها، وهي تدل على صدق نبوة من أتى بها.

***

رؤية الرسول ﷺ ربه ليلة المعراج

السؤال: هل رأى رسول الله ﷺ ربه عز وجل ليلة المعراج؟ [6/30]

الجواب [رقم: 8]:

الصحيح من أقوال العلماء، ومن نصوص القرآن والسنة، أن الرسول لم ير ربه تلك الليلة، لكون رؤية الرب مستحيلة في الدنيا كما حكى الله عن نبيه موسى. ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي [سورة الأعراف، الآية: 143].

يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم ٥١[سورة الشورى، الآية: 51].

ولما سئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟» [رواه مسلم (178) من حديث أبي ذر رضي الله عنه] أي حال دون رؤيته نور.

قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه. ثم استدلت بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير[سورة الأنعام، الآية: 103] [رواه البخاري (4855)، ومسلم (177)، والترمذي (3068)، وأحمد (24227)].

وأما قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ١٨[سورة النجم، الآية: 18]. فإنه جبريل حين رآه في صورته التي خلقه الله عليها بمنظر عظيم هائل.

***

الاحتجاج والاعتذار بالقدر

السؤال: يعتذر بعض الناس عن تقصيرهم في العبادة أو ارتكابهم المنكرات بأنه أمر مكتوب عليهم. فكيف نرد عليهم؟ [6/148]

الجواب [رقم: 9]:

إن أضر ما ابتلي به الشخص هو العجز والكسل، وأكثر الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاءً وقدرًا.

فمتى صارحت الشخص ونصحته عن ترك الصلاة مثلاً، أو نهيته عن شيء من المنكرات، كشرب المسكرات، اعتذر إليك قائلاً: إنه أمر مكتوب علي! فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب المنكرات جبري. نظير ما حكى الله عن المشركين حيث قالوا: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين[سورة النحل، الآية: 35]. فالمحتج بالقدر حجته داحضة عند ربه؛ لأنه باحتجاجه بالقدر يريد أن يبطل الأمر والنهي اللذين عليهما مدار العبادات والأحكام، وأمور الحلال والحرام.

والله سبحانه خلق الإنسان، وركَّب فيه السمع والبصر والعقل؛ ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه، واستعمالها في سبيل قوته، ووقاية صحته، وحفظ بنيته. وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه. وكل ما شرعه رسول الله لأمته، وأمر به، فإنه من الدين الذي يجب اتباعه واستعماله، ويدخل في عموم قوله: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ» [رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، وعليه مدار العمل مع إيمانهم بالقضاء والقدر. فهم يقدمون الأمر على القدر، ويدفعون القدر بالقدر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما بلغه أنه قد وقع الطاعون بالشام، فامتنع عن دخول البلد من أجله، وعزم على الرجوع بأصحابه. ولما قال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم. وقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله[أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

ويقولون: القدر لا يمنع العمل، ولا يجب الاتكال عليه، ولا الاحتجاج به، إلا في حالة بذله للأسباب التي تقيه وترقيه وتحفظه. فمتى غلبه الأمر بعد ذلك، فإنه لا يلوم نفسه على تقصيره أو تفريطه ولن يلومه الناس؛ إذ قد ينزل بالشخص من البلايا والمحن ما لا طاقة له به. ولهذا قال: «وَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا» [جزء من الحديث السابق قبلُ الذي رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] لأن هذا من اللوم المذموم.

***

معنى القدر وتأثير الدعاء فيه

السؤال: ما معنى القدر وحقيقته؟ وهل يرد الدعاء أو الصدقة ما قدره الله على الإنسان؟ [6/153]

الجواب [رقم: 10]:

حقيقة القدر: هو الإخبار عن سبق علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنه يعلم ما كان، وما سيكون كيف يكون؛ لأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال عباده. فعلمه بالأشياء قبل وقوعها شيء، والجبر منه عليها شيء آخر. فقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عبدالله بن عمرو أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» [صحيح مسلم (2653)]. وهذه الكتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل أن تقع وتكون.

قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا، فأنزل: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير ٧٠ [سورة الحج: 70][ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان (ص199)، ونسبه لابن عباس. وأخرجه ابن جرير في تفسيره (16-491)، وعبدالرزاق في تفسيره (2-239) وذكره السيوطي في الدر المنثور (4-665)، وابن رجب وابن كثير في تفسيرهم كلهم يروونه أن ابن عباس سأل كعبًا فأجاب بهذا].

وثبت أن الله يدفع القدر بالقدر، وأن الله يمحو القدر بالقدر. وسمع من دعاء عمر أنه يقول: اللَّهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا فامحني وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت[أخرجه اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1206 — 1207) وابن بطة في الإبانة الكبرى (1565)]. والله يقول: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب ٣٩[سورة الرعد، الآية: 39] مما يدل على أن هذا المحو قد أزيل به قدر كتاب سابق.

وفي حديث ثوبان أن النبي ﷺ قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَتَدْفَعُ مِيْتَةَ السُّوْءِ» [رواه ابن حبان (872) والحاكم (1814) وقال: صحيح على شرطهما. وآخره عند الترمذي (664)]. وفي دعاء القنوت: «وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ» [رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما] فأثبت في هذا الحديث كون الدعاء يرد القدر والقضاء. كما أن الصدقة تدفع ميتة السوء. وكذا قوله: «وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ» [أخرجه أحمد (22386) من حديث ثوبان رضي الله عنه] سواء حملناه على زيادة الأيام والليالي، أو على البركة في العمر، والكل واقع بقضاء الله وقدره.

***

الدعاء يرد القدر

السؤال: هل يرد الدعاء ما قدره الله على الإنسان؟ [6/179]

الجواب [رقم: 11]:

الدعاء سلاح المؤمن يستدفع به البلاء حتى المنعقد بطريق القدر والقضاء، فإنه يدفع شره. كما ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» [رواه الإمام أحمد في مسنده (22413)، وابن ماجه (4022)، والطبراني في الدعاء (31)، جميعًا من حديث ثوبان رضي الله عنه]. فأخبر الصادق المصدوق أن الدعاء يرد القدر والقضاء. مثال ذلك أنه يكتب على الإنسان أنه يعيش فقيرًا، أو أنه يصاب بقتل، أو بصدم سيارة أو غرق أو حرق أو غير ذلك مما يتحدث الناس أنه مكتوب عليه في الأزل، ثم لا يزال يدعو ويتضرع إلى الله سبحانه، فيستجيب الله دعوته، ويمحو ما كتب عليه بطريق القضاء والقدر، لأن الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت، فيعيش في الدنيا معافى، غنيًّا سعيدًا.

ولهذا كان من دعاء القنوت أنه يقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي وَاصْرِفْ عَنِّي شَرَّ مَا قَضَيْتَ» [رواه الإمام أحمد في مسنده (1718)، وأبو داود (1425)، والنسائي (1745)، والترمذي (464)، والدارمي (1632)، وابن حبان في صحيحه (722)، والطبراني في الدعاء (735 – 749)، جميعًا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما].

ولولا أن الدعاء يدفع شر القدر والقضاء لما دعا به النبي ﷺ، ولما علمه أمته.

فصرْفُ القدر والقضاء بالدعاء هو أمر واقع من الله، وثابت في شرع الله. فحذار حذار أن يعجز أحدكم عن الدعاء ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي فإنه سيحصل لي، دعوت أو لم أدع. فإن هذه حجة الملاحدة الذين أبطلوا مشروعية الدعاء وتأثير ثوابه، اتكالاً منهم على القدر المكتوب. والله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، وجعل الدعاء سببًا للإجابة. وأنزل الله في كتابه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ١٨٦[سورة البقرة، الآية: 186] وقد استعاذ النبي ﷺ من أربع فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلَبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفَسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ» [رواه مسلم (2722)، وأبو داود (1548)، والترمذي (3482)، والنسائي (5442)، وابن ماجه (250)، من حديث عدة من الصحابة] أي: لا يستجاب له.

والمؤمن في الدنيا بمثابة الغريق في لُجَّة البحر، يقول: يا رب يا رب، حتى يصل إلى ساحل السلامة والنجاة، لأن البلايا والرزايا والأحداث والأخطار والأوجاع المزعجة تفاجئ الإنسان من حيث لا يحتسب، ولا ملجأ ولا منجى له من هذه البلايا والرزايا إلا بالالتجاء إلى الله بالدعاء والتضرع، لأنه نعم الملتجأ ونعم المولى ونعم النصير.

***

الإنسان مخير أم مسير

السؤال: هل الإنسان مخير أم مسيَّر؟ [ص150]

الجواب [رقم: 12]:

إن الإنسان مخير، أي: فاعل مختار لعمله؛ سواء كان خيرًا أو شرًّا. فلا يقع فعل مقصود إلا من فاعل مختار. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظ ١٠٤[سورة الأنعام، الآية: 104] وقال: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف، الآية: 29] أما من قال: إن الإنسان مسيَّر فإن هذه طريقة الجبرية القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله وتصرفاته. ويصفونه في تصرفه بالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح اضطرارًا لا اختيارًا.

وينشدون في ذلك:

ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال لـه
إياك إياك أن تبتل بالمـاء

وأقول: إن هذا الشعر هو من الكذب المفترى على الله وعلى رسوله ﷺ، فهو بعيد عن الحق والعدل. فإن الله سبحانه لم يخلق الإنسان في الدنيا مكتوفًا عن العمل والسعي، والأخذ بأسباب الحول والقوة، وسائر ما يؤهله من السعادة والوصول إلى الغاية والنعيم في الدنيا وفي الآخرة. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ٣[سورة الإنسان، الآية: 3]. ويقول: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ٧٨[سورة النحل، الآية: 78] فهذه هي الوسائل والأسباب التي تنجيه من عذاب الدنيا وعقاب الآخرة؛ فسيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته. أما إذا عطل الإنسان هذه المنافع، ولم يستعملها في سبيل ما خلقت له من عبادة ربه، واستعمالها في مصالحه ومنافعه المباحة، فسيكون بمثابة الأعمى والأصم، أو كالميت المكتوف. كما قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة الأحقاف، الآية: 26] وقال: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ٤٤[سورة الفرقان، الآية: 44].

وحكى سبحانه عن أهل النار: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير ١٠فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِير ١١[سورة الملك، الآيتان: 10 – 11] فقد خلق الله الإنسان، وخلق له السمع والبصر والعقل، وخلق له أيضًا جميع ما يحتاج إليه في الدنيا من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية، فكل العقاقير التي يستعملها الأطباء لعلاج الأمراض، والوقاية من البلاء والوباء، فهي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه، رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بمرض يزاوله ويشفيه. فهي من قدر الله التي يقدر الله بها دفع البلاء ورفعه؛ لكون الدواء أمانًا للصحة وقت المهلة.

فالقائلون: ألقاه في اليم مكتوفًا؛ هم الجبرية الذين يحتجون بالقدر، يحاولون أن ينزهوا أنفسهم عن سوء ما فعلوا من المنكرات وترك الطاعات. ويحيلون جورهم وفجورهم، من تركهم الطاعات، وارتكابهم المنكرات، وشرب المسكرات؛ إلى القضاء والقدر، وما أذنب القضاء والقدر، ولكنهم هم المذنبون. فلو تعدى ظالم على أحد هؤلاء بضربه، أو أخذ ماله، أو انتهاك محارمه، ثم احتج على سوء فعله بالقضاء والقدر، فإنه لن يقبل منه هذا الاحتجاج؛ لعلمه أنه احتجاج باطل حاول به التوصل إلى باطل ببديهة العقل. فكيف يقبل على الله في ترك طاعاته، وارتكاب محرماته؟!!

ولهذا يدعو بعض العلماء أن يجاوب الجبرية بالصفع على الوجه، ويقال: هذا قضاء الله وقدره. كما كنت تحتج به.

ولما جيء إلى عمر بن الخطاب بسارق قد سرق، واعترف. فقال له عمر: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره!! فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. ثم أمر به فقطعت يده[أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 317) من حديث عمر رضي الله عنه، وفي إسناده كذاب].

ومثله احتجاج بعضهم بقول الشاعر:

جرى قلم القضاء بما يكـون
فسيان التحرك والسكـون

وهذا أيضًا يعد من أفسد الشعر، يتمشى على عقيدة الجبر كما ذكرنا فيما سبق. وهذا القول وهذا الاعتقاد باطل بمقتضى النقل والعقل. فهم يصورون القضاء والقدر في نفوسهم، بمثابة الغُلِّ في العنق، والقيد في الأرجل، بحيث لا يتفصى[أي: لا يتخلص ويفلت] أحد عنه، ولا محيص للناس منه. وهو مدفوع بقول النبي ﷺ في هذا الحديث: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ» [رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

***

الصبر وأقسامه

السؤال: ما أقسام الصبر؟ [6/162]

الجواب [رقم: 13]:

إن الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عما حرم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.

فأعلاه: الصبر على طاعة الله؛ لأن ملازمة الطاعات، ومواصلة الأعمال الصالحات؛ يحتاج إلى صبر ومصابرة، يقول الله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين ٤٥[سورة البقرة، الآية: 45]. وقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ٢٠٠[سورة آل عمران، الآية: 200]. وقد سمى رسول الله ﷺ انتظار الصلاة بعد الصلاة بالمرابطة [انظر: صحيح مسلم (251) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. كما سمى شهر رمضان بشهر الصبر[سنن النسائي (4-218) برقم (2408) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «شَهْرُ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صَوْمُ الدَّهْرِ» صححه الألباني]، لأن فيه صبرًا على طاعة الله من الصيام والصلاة، وصبرًا عما حرم الله من الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان.

وكل الشرائع المفترضة على العباد فإنها تحتاج في أدائها إلى صبر ومصابرة. فالمحافظة على الصلاة في الجماعات بطريق الاستمرار تحتاج إلى صبر، وأداء الزكاة طيبة بها نفسُه، وافدة عليه كل عام تحتاج إلى صبر، وكذا صيام رمضان ونوافله، وبالخصوص في شدة الحر يحتاج إلى صبر، وكذا سائر نوافل العبادات تحتاج إلى صبر ومصابرة.

والثاني: الصبر عما حرم الله؛ من الربا والزنا وشرب الخمور، وأكل أموال الناس بالباطل، وقتل النفس بغير حق. فالكف عن كل هذه يعد من الصبر عما حرم الله. وقد قيل: لا تنظر إلى ازدحامهم عند المساجد، ولكن انظر إلى وقوفهم عند الحدود والمحرمات؛ لأن أفعال الطاعات يفعلها البر والفاجر، وأما ترك المحرمات، فلا يتركها إلا صِدِّيق[قال سهل: أعمال البر يعملها البر والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلى صديق. حلية الأولياء (10-211)].

وأما الصبر على أقدار الله المؤلمة، فمثل المصائب في الأهل والأولاد، وانتقاص المال أو ذهابه بنزول جائحة فيه. فكل هذه من الصبر على أقدار الله، و«إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» [أخرجه البخاري (1283) ومسلم (926) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].

***

القرآن حجة لك أو عليك

السؤال: ما معنى كون القرآن حجة للإنسان أو عليه؟ [6/163]

الجواب [رقم: 14]:

في الحديث «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» [رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه] فهذا عدل الله في عباده، فإن الله سبحانه أنزل كتبه، وأرسل رسله ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[سورة النساء، الآية: 165]. فالقرآن صادق مصدق، وشافع مشفع، من جعله أمامه فحافظ على فرائضه، واجتنب محارمه، فإنه يقوده إلى الجنة. ومن ترك طاعاته، وارتكب محرماته، فإنه يسوقه إلى النار. لأنه يبعث يوم القيامة كالرجل الشاحب يخاصم أقوامًا ويخاصم دون آخرين، فيقول في حق من حفظ فرائضه، واجتنب حدوده ومحرماته: يا رب حمَّلْتَه إياي، فخير حامل: حفظ حدودي، وحافظ على طاعتي، واجتنب معصيتي. ولم يزل يلقي دونه بالحجج حتى يقال: شأنك به. فيأخذه بيده، ويدخله الجنة. وأما الثاني فيقول: يا رب حمَّلْتَه إياي، فبئس حامل، ضيع فرائضي، وارتكب معصيتي. فلا يزال يلقي عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به. فيكبه على وجهه في نار جهنم.

ولهذا قالوا: ما جالس القرآن أحد قام سالمًا، بل إمَّا له، وإمَّا عليه.

***

الشرك الأكبر الذي لا يغفر

السؤال: ما هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر؟ [6/216]

الجواب [رقم: 15]:

الشرك الأكبر: هو أن يدعو قبرًا أو وليًّا أو نبيًّا أو ملكًا أو شجرًا أو حجرًا أو غير ذلك. فيتوسل بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته. فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يُغفَر؛ لأن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، من صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله. فهؤلاء الذين يدعون الأموات، ويتوسلون بهم، ويزدحمون رجالاً ونساءً على قبورهم، يعتبرون مشركين بربهم، لأن الشرك اعتقاد وقول وعمل.

***

دعاء غير الله شرك

السؤال: ما حكم من يدعون غير الله ويتوسلون بهم؟ وهل يعتبر هذا شركًا؟ [6/187]

الجواب [رقم: 16]:

يقول سبحانه: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا[سورة النساء، الآية: 36] لما أمر بالعبادة نهى أشد النهي عما يبطلها؛ فقال: ﴿وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا[سورة النساء، الآية: 36] فالشرك يحبط الأعمال، ومن يشرك بالله فقد حبط عمله، و﴿مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [سورة المائدة، الآية: 72]. وأخبر سبحانه بأنه لا أضل ممن يدعو مخلوقًا حيًّا أو ميتًا ويتوسل به ليشفع له عند ربه في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون ٥وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين ٦[سورة الأحقاف، الآيتان: 5 – 6] وقال: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ١٣إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ١٤[سورة فاطر، الآيتان: 13 – 14] وهو الله. وقال: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِين ١٠٦[سورة يونس، الآية: 106]. إنه لا أبلغ في الزجر عن الشرك من القرآن الكريم.

والعجب أن عبدة القبور والأوثان في هذا الزمان، ينكرون تطبيق هذه الآيات على شركهم ويقولون: إنما نزلت هذه الآيات في المشركين الأولين، كأن الشرك والمشركين كانوا فانقرضوا، وأنهم - بزعمهم - مغفور لهم في شركهم ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ[سورة يونس، الآية: 18]. فشرك المتأخرين أكبر وأنكر من شرك الأولين. والنبي ﷺ قد بُعِث إلى الناس وهم متفرقون في عباداتهم، منهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، فقاتلهم جميعًا، ولم يفرق بينهم. فالذين يدعون الرسول ﷺ عند قبره، أو يدعون عليًّا، أو يدعون عبدالقادر كلهم يعتبرون مشركين ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨[سورة الجن، الآية: 18].

***

حكم دعاء الرسول ﷺ والاستغاثة به

السؤال: ما حكم دعاء الرسول ﷺ والاستغاثة به؟ [7/33]

الجواب [رقم: 17]:

إن من أعظم ما يقع فيه بعض المسلمين دعاؤهم واستغاثتهم برسول الله ﷺ كأن يقولوا: يا محمد اشفع لي، يا محمد أنقذني، يا محمد أنقذ أمتك من المهالك. ومثله قول بعضهم:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العمم

فهذا كله يعد من الشرك الأكبر الذي لا يغفر، ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين [سورة المائدة، الآية: 5] ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار[سورة المائدة، الآية: 72].

والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» [رواه مالك في الموطأ (593-183) مرسلاً، وأحمد (7358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وكل من دعا الرسول ﷺ واستغاث به فقد عبده لأن الدعاء مخ العبادة!

وأخبر سبحانه بأنه لا أضلَّ ممن يدعو من دون الله، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون ٥وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين ٦[سورة الأحقاف، الآيتان: 5 – 6] فسمى الله دعاءهم عبادة؛ لأن من دعا مخلوقًا فقد عبده. وقال: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِين ١٠٦[سورة يونس، الآية: 106] فأخلصوا الدعاء لربكم، وأكثروا من الصلاة على نبيكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

***

التشاؤم بأيام معينة

السؤال: ما حكم التشاؤم بشهر صفر أو بيوم الأربعاء أو بما بين العيدين؟ [6/280]

الجواب [رقم: 18]:

هنالك أشياء تعلقت بها قلوب بعض الضعفة وهي تضر ولا تنفع، مثل تشاؤمهم بشهر صفر، أو تشاؤمهم بيوم الأربعاء، فلا يسافرون فيه، ويزعمون أنه يوم نحس مستمر، أو يتشاءمون بما بين العيدين، فلا يتزوجون فيه، فهذا التشاؤم والاعتقاد إنما نشأ من الجاهلية الأولى، وهو من الطيرة التي هي من الشرك، والطيرة على من تطيّر، وإلا فإن هذه الأيام لا تفعل شيئًا من الشر في أنفسها! بل هي كسائر أيام السنة التي ينزل فيها الخير والنصر ويستجاب فيها الدعاء

***

حكم تعليق الحروز

السؤال: ما حكم تعليق الجوامع والحروز على الأولاد أو السيارات ويزعمون أنها تدفع الجان وعين الإنسان؟ [6/281]

الجواب [رقم: 19]:

ما يفعله بعض سخفة العقول من تعليق الجوامع على أجسامهم، وعلى أولادهم ودوابهم، يزعمون أنها تدفع عنهم الجان وعين الإنسان، وهذا يدخل في الشرك. فإن من علق شيئًا فقد أشرك.

وفي الحديث: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» [رواه النسائي (4079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وقد دعا عليه رسول الله ﷺ فقال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ» [رواه أحمد (17404)، وأبو يعلى (1759)، بإسناد جيد، والحاكم (7501) وقال: صحيح الإسناد، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه].

لهذا يقع التسلط من الشياطين على الذين يعلقون الجوامع، وتسمى الحروز والعزائم والتمائم. ولهذا ورد في الحديث: «مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً – أي: جامعة من إنسان - كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ» [رواه ابن أبي شيبة (23473) عن سعيد بن جبير من قوله] لكونه أنقذه من عبودية الشيطان.

والمؤمن يلتجئ إلى ربه، ويتوكل عليه، ويكفيه أن يقول: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ» [رواه البخاري (3371) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]. ونحو ذلك من الأوراد الشرعية.

وأما الرقية بالآيات القرآنية، والأوراد النبوية، فإنه لا بأس بها. وقد رقى النبي ﷺ ورقي، وكان إذا جاءه المريض قال: «بسم الله أرقيك، من كل شر يؤذيك، من كل عين حاسد، ومن كل شيطان مارد، الله يشفيك» [رواه مسلم (2186) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك»].

***

تعظيم قبور الأولياء والصالحين

السؤال: يلاحظ في بعض بلدان المسلمين انتشار قبور الأولياء والصالحين التي يلجأ لها الناس، ويقصدونها للدعاء والاستغاثة لقضاء الحاجات، ويقربون لها القرابين، ولا ينكر ذلك منكر بل وتحميهم الدولة. فما رأيكم؟ [6/347]

الجواب [رقم: 20]:

إن مدار الإسلام على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك به، وإن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام اسمًا. والله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين[سورة يوسف، الآية: 103].

لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالإيمان، والانقياد لطاعته بالصلاة والزكاة والصيام، والبراءة من الشرك وعبادة الأوثان، فلا يكون مسلمًا إلا بذلك. وقد سمعنا عن بعض البلدان العربية الإسلامية التي أهلها مسلمون، والتي يزعم حكامها بأنهم مسلمون، بأنه قد تفشى وانتشر فيها الشرك، وعبادة الأوثان، وصاروا يعبدون قبور الأولياء والصالحين، ويدعونهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، ويسألونهم الشفاعة، ويقربون لهم القرابين من الذبائح، مما أهل به لغير الله. وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر؛ لكونه مفسدًا للعقول وللفطر، ولسائر البشر، ومحبطًا لسائر الأعمال من الصلاة والصيام.

﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء، الآية: 116]، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار ٧٢[سورة المائدة، الآية: 72]. ومع السكوت عنه، وإقرار أهله عليه، فإنه ينتشر ويشتهر، ويغرق عامة الناس فيه. ومع هذا نرى هؤلاء الحكام الذين يزعمون بأنهم مسلمون يقرون قواعد هذا الشرك في بلادهم، ويحمونها ويحترمون أهلها، وهذا عمل مناف لصحة إسلامهم؛ فإن الإسلام الصحيح ينفي الشرك ويحاربه، ويعلن البراءة من أهله. يلتمس رضا الله بسخطهم، فإن من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. والله أكبر على من طغى وكفر وتكبر.

وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ١٠٤[سورة آل عمران، الآية: 104].

لقد خسر الناس التواصي بالحق، والتناهي عن المنكر، فأدخلوا الشرك الأكبر، وعبادة القبور في سياسة حكام البشر، فلا يتعرض أحد لإنكارها، ونسوا أمر الله الذي أوجب الكفر بها وبأهلها، وحرم إقرارها والسكوت عنها.

وإن سنة رسول الله ﷺ، وسيرة أصحابه في فتوح البلدان؛ أنهم يبدؤون قبل كل شيء بإزالة معابد الشرك والأوثان، ليطهروا عقول الناس وعقائدهم من خرافات الشرك والأوثان.

***

حكم الذبح للجن والزار والقبور

السؤال: ما حكم الذبح للجن أو للزار أو الذبح للقبر؟ [7/53]

الجواب [رقم: 21]:

ذبح الأضحية في يوم الأضحى هي من العبادة لرب العالمين، كما أن الذبح للجن، والذبح للزار، والذبح للقبر يعد من الشرك المبين، ومن الشرك بالله الذبح لغير الله، وفي البخاري عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» [هو في صحيح مسلم (1978)] أي: مراسيمها.

كتاب الطهارة

حكم الأحذية المصنوعة من جلد الخنزير

السؤال: حضرة العالم الجليل فضيلة الشيخ عبدالله بن محمود حفظه الله رئيس المحاكم الشرعية بدولة قطر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ[سورة المائدة، الآية: 3] صدق الله العظيم.

استفسرنا من بعض أهل العلم عن طهارة جلد الخنزير بالدباغة والمستعمل في الأحذية، ونظرًا لظروف عملنا فإن بعض الشركات المنتجة للأحذية الجلدية ترسل لنا البضاعة وبعد وصولها يتبين أنها مصنوعة من جلد الخنزير المدبوغ، وقد سألنا بعض أهل العلم فرأيناهم على آراء مختلفة، بعضهم يقول: إن جلد الخنزير يطهر بالدباغة، وبعضهم يقول: إنه لا يطهر، وهم يفتقرون إلى النص القرآني أو الحديث النبوي لدعم رأيهم، لذلك نتقدم إليكم بالسؤال آملين منكم بيان حقيقة الأمر، وبالتالي الإفتاء في جواز أو عدم جواز توريد واستعمال هذه الأحذية، أفيدونا يرحمكم الله شاكرين لكم ذلك، والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلصان محمد وعبدالله ملا حسن آخوند عوضي المنامة - البحرين

الجواب [رقم: 22]:

حضرة الأخوين الكريمين محمد وعبدالله ملا حسن آخوند عوضي المحترمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،

فقد استلمنا كتابكم رقم 1439/4 تاريخ 13/10/94هـ الذي أشرتم فيه عن حالة والد المتوفى م.ع إمام مسجد الأصمخ سابقًا وأنه فقير ويعول عائلة كبيرة.

نفيدكم بأن الإمام المذكور قد خلف زوجته التي في قطر وقد أجرينا لها راتبًا شهريًّا.

وكذا استلمنا كتابكم المؤرخ في 28/10/1974م الذي أشرتم فيه إلى استعمال جلد الخنزير في الأحذية التي تستوردونها.

نفيدكم بأن الراجح هو جواز استعمالها في هذا الموضوع وجواز الاتجار فيها؛ لأن الله سبحانه إنما حرم لحم الخنزير ولم يحرم الانتفاع بجلده. أحببت تعريفكم بذلك والباري يحفظكم.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

فتاوى الحيض والنفاس

المبادرة للاغتسال حال الطهر

السؤال: ما حكم ما تفعله بعض النساء من كونها ينقطع عنها دم الحيض أو النفاس فتبقى اليومين والثلاثة لا تغتسل ولا تصلي خشية من معاودة الدم لها؟ [6/309]

الجواب [رقم: 23]:

ما تفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم النفاس، أو دم الحيض، ثم تبقى اليومين والثلاثة لا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم وفي كلها تقول: أخشى أن يعود عليّ الدم. فهذا خطأ وتفريط منها في العبادة. فمن واجب المسلمة متى انقطع عنها الدم أن تبادر إلى الاغتسال في الحال، ثم إلى فعل الصلاة والصيام من غير تأخير. والمرأة من نساء البوادي متى كانت في البر، وانقطع عنها دم الحيض، أو دم النفاس، وليس عندها ماء لتغتسل به، فإنه يجب عليها أن تضرب الصعيد أي التراب بيديها تنوي بذلك رفع الحدث عنها وتمسح به وجهها ويديها، ثم تصوم وتصلي، لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ - أي: والمسلمة - وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» [رواه الترمذي (124)، والإمام أحمد في مسنده (21371)، والبزار في مسنده (3973)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه].

***

أحكام المرأة في حالة الولادة غير الطبيعية

السؤال: الحمد لله القائل: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون[سورة النحل، الآية: 43]، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى الآمر بطلب العلم ولو كان بالصين[هذا حديث باطل لا تصح نسبته للنبي ﷺ، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (416)].

سماحة الرئيس لرئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته...

وبعد، يشرفني كثيرًا أن أتوجه إلى سماحتكم بجملة من المسائل الدينية التي استعصى عليّ حلها، فأرجو من سماحتكم أن تتفضلوا بإفتائي فيها بما علَّمكم الله وأجركم على المولى الكريم الذي لا يُضيع أجر المحسنين. ومرفق طيه لائحة المسائل المطلوب حلها.

وبالإضافة إلى ذلك أتمنى من سماحتكم أن ترفقوا مع الرد نسخة للأجوبة الخمسة التي أجبتم بها سابقًا على أسئلة الأخ الشيخ الحاج عثمان كوثيتا منذ بضع سنين...

ودونكم رقمها في سجل الفتاوى: 522 – التاريخ: 11/6/1400هـ، 26/4/1980م.

وتفضلوا سماحة الرئيس بقبول فائق احترامي وتقديري.

ودمتم للإسلام والمسلمين ذخرًا ومعتمدًا. حفظكم الله برعايته، وسدد خطاكم، آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(8-9-1404هـ، 8-6-1984م) المدير: عبدالرحمـٰـن كوليبالي

السؤال الرابع: بعض النسوة تعسر عليهن الولادة، فيضطر إلى توليدهن بطريقة العملية الجراحية. ولربما يحصل من جرّاء ذلك خروج الولد عن طريق غير الفرج. فما حكم أمثال هؤلاء النسوة في الشرع من ناحية دم النفاس، وما حكم غسلهن شرعًا؟

السائل: عبدالرحمـٰـن كوليبالي مدير مدرسة الرشاد ص. ب 388 كوروغو جمهورية ساحل العاج (غرب إفريقيا) التاريخ: 11/6/1400هـ الموافق: 26/4/1980م. والسلام.

الجواب [رقم: 19]:

إلى فضيلة الشيخ عبدالرحمـٰـن كوليبالي - مدير مدرسة الرشاد - كوروغو. (25/9/1404هـ، 24/6/1984م).

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد؛

فقد سألت عن مسألة: أحكام المرأة في حالة الولادة غير الطبيعية.

يوجد بعض النساء يتعسرن في حالة الولادة بالطريق الطبيعي فتحتاج إلى شق البطن وإخراج الجنين من غير الفرج.

إن هذه المرأة تعتبر نفساء، والدة من الوالدات، ولو كانت الولادة من غير طريق الفرج، إذ الأصل خروج الولد من البطن بأي طريق كان. ثم إن هذه يجب عليها أن تتريث عن الصلاة وعن الصيام ما دام الدم موجودًا، فإذا انقطع الدم فقد انقطع موجب الترك، لهذا يجب أن تصلي وتصوم، وتقضي ما فاتها من الصيام في خلال المدة، بعد أن تغتسل للنفاس عند انقطاع الدم، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

ولو فرضنا عدم وجود الماء عند انقطاع الموجب، فإنها تضرب الصعيد بيديها وتمسح به وجهها ويديها، ثم تعتبر طاهرة من الطاهرات، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم[سورة النساء، الآية: 43].

والنبي ﷺ قال: «الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» [تقدم تخريجه في ص42].

ولا فرق بين كون الدم خارجًا عن طريق الفرج أو غيره كطريق العملية إذ الحكم واحد.

***

كتاب الصلاة

استقبال القبلة في الطائرة والسيارة

السؤال: كيف يتوجه للقبلة من يكون في الطائرة أو السيارة؟ [6/116]

الجواب [رقم: 24]:

من كان في طائرة، أو في سيارة فإنه يصلي حيث توجهت به الطائرة أو السيارة، مستقبل القبلة أو مستدبرها، إذ لا يمكنه إلا ذلك. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة، الآية: 115].

***

ماذا يقرأ من لا يحفظ الفاتحة

السؤال: بماذا يقرأ من لا يحفظ فاتحة الكتاب؟ [6/117]

الجواب [رقم: 25]:

قد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني لا أحسن شيئًا من القرآن في الصلاة، فعلمني. قال: «قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ». قال: يا رسول الله، هذا لربي، فما لي؟ قال: «قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي» [رواه أبو داود (832)، والنسائي (924)، و أحمد (19110)، وابن حبان في صحيحه (1809)، والدارقطني (1195) من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه].

وأما من يحفظ الفاتحة فإن قراءتها ركن في الصلاة، لقول النبي ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» [رواه البخاري (756)، ومسلم (394) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه].

***

صلاة غير القادر على القيام أو الجلوس

الجواب [رقم: 26]:

المحب الفاضل الشيخ- ن. ث...... حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته... إني أسأل الله لك الصحة والعافية.

أخي! سألني خادمك عن مسألتين تختصان بك:

إحداهما: عن الصلاة حيث لم تستطع الصلاة على إثر الإصابة الحاصلة لك، وكان الواجب أن تصلي على حالتك لكون رسول الله ﷺ قال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَمُسْتَلْقِيًا» [أخرجه البخاري في صحيحه (1117)، ولفظه: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»]، وحيث مضى عليك زمن طويل لم تستطع فعل الصلاة فيه، ويشق عليك ضبطه مع العجز الذي أصابك عن فعلها، فإني أرجو أن يغفر الله لك ما أسلفت من كل ما نسيت... ومن واجبك أن تستقبل الأمر بالمحافظة على كل صلاة في وقتها، ويغفر الله لك ما نسيت منها مما عجزت عن فعله في وقته، وعليك بالنوافل فإنها تجبر خلل الفرائض.

التاريخ: (17/2/1407هـ، 20/10/1986م).

***

أسئلة عن الصلاة فوق منصة حفر البترول في البحر

فضيلة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود.

رئيس المحاكم الشرعية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأنتم تعلمون ولا شك عمليات الحفر التي تجري في البحر للتنقيب عن البترول، وحفر الآبار هو من العمليات الحيوية لاقتصادنا الوطني، وتجري هذه العمليات بصورة مستمرة على منصات الحفر بواسطة طواقم من العاملين الذين يشتغلون بموجب نظام محدد لنوبات العمل، وقد طلبت إدارة الحفر المسؤولة عن هذه النشاطات في مؤسستنا إبداء الرأي في بعض المسائل المتعلقة بأداء الصلاة أثناء سير عمليات الحفر على المنصات ليتسنى تنظيم جداول العمل على أكمل وجه، ونحن بدورنا نود أن نستفتي فضيلتكم، ونستوضح عن بعض هذه المسائل المطروحة، ومنها:

1– هل يجب تخصيص مكان معين للصلاة على منصة الحفر، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ضيق المجال واكتظاظ هذا الموقع بالأجهزة والمعدات والمرافق الأساسية الأخرى؟

2– هل يجوز للفرد الصلاة خارج مكان نومه إذا وجد مكان نظيف آمن في منطقة العمل؟

3– هل يجب أن يصلي الشخص المشغول بعمل في وقت الاختيار أم تجوز له الصلاة في وقت الضرورة إذا صادف ذلك فترات الراحة المقررة له يوميًّا بموجب جدول العمل؟

4– هل تستوجب صلاة الجمعة إيقاف عمليات الحفر، علمًا بأن ذلك يؤثر على سلامة الموقع والعمل وآبار البترول؟

نرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة على هذه الأسئلة، حيث إن ردكم سوف يساعدنا على تنظيم أساليب وجداول العمل للمسلمين العاملين لدينا على أجهزة الحفر البحرية.

والله وليّ التوفيق...

(17/2/1406هـ) المخلص عن- المؤسسة العامة القطرية للبترول (العمليات البحرية) أحمد حسن بلال (المدير التنفيذي)

***

صلاة العمال فوق منصة حفر البترول

الجواب [رقم: 27]:

إلى الإخوان الكرام العاملين في (العمليات البحرية).

المؤسسة العامة القطرية للبترول.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

وبعد، فقد استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم من حرصكم عن السؤال عن الصلاة، وهل تختص بها بقعة معينة مع ضيق المكان وكونه مشغولاً بأدوات وأجهزة الحفر.

ومن المعلوم أن البقعة شرط لصحة الصلاة في حق المستطيع؛ لكونه متى تضايق المكان وازدحم بالآلات فإن الناس يصلون على حسب حالهم ومحلهم. والنبي ﷺ يقول: «صَلِّ قَائِمًا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» [أخرجه البخاري في صحيحه (1117)]. ومتى ضاق المقام عليهم في حالة القيام فإنهم يصلون وهم قعود.

***

صلاة العامل خارج مكان نومه

الجواب [رقم: 28]:

والسؤال الثاني: هل يجوز للعامل الصلاة خارج مكان نومه ما دام نظيفًا آمنًا؟

فالجواب: أنه لا شك في صحته، فأي مكان تيسر له ورأى الصلاة فيه ممكنة فإنه يصلي فيه على حسب حاله منفردًا أو مع الجماعة.

***

الصلاة في وقت الضرورة

الجواب [رقم: 29]:

والسؤال الثالث: هل يجوز للإنسان أن يصلي في وقت الضرورة إذا لم يتيسر له الوقت الاختياري؟

فالجواب: أنه لا حرام مع ضرورة، وأنه يجوز للإنسان وللجماعة أن يجمعوا بين الوقتين مع قصرهم للصلاة، فيصلوا الظهر والعصر جمعًا وقصرًا ركعتين ركعتين، ويصلوا المغرب والعشاء جمعًا، فلا يبقى مع هذا ضرورة أبدًا.

***

صلاة الجمعة في حق هؤلاء العمال في حفر الآبار البحرية

الجواب [رقم: 30]:

والسؤال الرابع: هل تستوجب صلاة الجمعة إيقاف عمليات الحفر؟

فالجواب: أن صلاة الجمعة في حق هؤلاء العمال في حفر الآبار البحرية ليست عليهم جمعة واجبة لإلحاقهم بالمسافرين، إذ عملهم أشد من السفر، ومراقبة ما يخشى أن يقع فيه من الخطر وأنواع الضرر، فهم لا جمعة واجبة عليهم أبدًا.

فهذا حاصل جواب ما وقع السؤال عنه، ومن الواجب عليكم مراعاة الحفاظ على أداء فروضكم، وأن تهتموا بالتحفظ على أداء صلاتكم على حسب استطاعتكم. والباري يحفظكم...

(4/3/1406هـ، 16/11/1985م)
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الصلاة المبتدعة في آخر جمعة من رمضان

السؤال: فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود المكرم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أرجو التفضل بالإجابة على السؤال التالي:

يوجد في باكستان أهل بلد يقومون في آخر جمعة من رمضان - كل عام - بالأذان والصلاة خمسة فروض جماعة، كل فرض أربع ركعات، ويقولون بأن هذا قضاء مما فاتهم، فهل هذا مقبول في الشرع الإسلامي، أم أنه بدعة؟

وجواب مكتوب من قبل فضيلتكم له أثر عظيم، حتى يمكن أن يروه رؤية العين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

10/7/1405هـ
عبدالله بن صفه شاه

الجواب [رقم: 31]:

الحمد لله، وبعد، فقد سألني رجل عن أهل قرية في باكستان ابتدعوا خمس صلوات يصلونها في آخر جمعة من رمضان، ويزعمون أنهم فعلوها احتياطًا عما ذهب عنهم على سبيل النسيان.

فالجواب: أن هذه الصلاة بهذه الصفة وفي مثل هذا اليوم هي بدعة محدثة، فليست من السنة ولا من العبادة، وكل بدعة ضلالة، صاحبها في النار، ولو فرضنا أنه ذهب عليهم أو على أحد منهم صلاة على سبيل النسيان فإنها عفو، والنبي ﷺ يقول: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» [أخرجه ابن ماجه في سننه (2045) عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وابن حبان في صحيحه (7219)]، وفي محكم القرآن: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[سورة البقرة، الآية: 286]، قال تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ» [رواه مسلم (126)]، لهذا يجب الكف عن مثل هذه الصلاة المبتدعة، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا وكافة المسلمين لالتزام الحق وعدم العدول عنه إلى الباطل، وإني أستغفر الله لي ولكم، والسلام.

(10/7/1405هـ، 31/3/1985م)
عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

حكم الصلاة الفائتة بالنسبة للمريض الذي يجري عملية جراحية

السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على النبي الكريم.

﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون [سورة النحل، الآية: 43].

السؤال الثاني: معلوم في قانون الطب بالضرورة أن المريض الذي تُجرى له عملية جراحية يلزم تنويمه قبل القيام بهذه العملية، فمن المحتمل في تلك الفترة أن تفوته بعض أوقات الصلاة وهو مغمى عليه طبيعيًّا فلا يقضي من الصلوات إلا ما أفاق في وقتها أو لا؟

السائل: عبدالرحمـٰن كوليبالي مدير مدرسة الرشاد ص. ب 388 كوروغو جمهورية ساحل العاج (غرب إفريقيا) التاريخ: 11/6/1400هـ الموافق: 26/4/1980م. والسلام

الجواب [رقم: 32]:

إلى فضيلة الشيخ عبدالرحمـٰـن كوليبالي - مدير مدرسة الرشاد - كوروغو. (25/9/1404هـ، 24/6/1984م)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فقد سألت عن مسائل:

2– المريض الذي ستجُرى له عملية جراحية وينوّم قبلها لعدة أيام:

الجواب:إن هذه الأيام التي ذهب صحوه فيها بالاختيار طبيًّا فإنه يجب تداركها بقضائها مفرقة، لقول النبي ﷺ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» [أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه].

فهو حينئذ بمثابة النائم عن الصلاة، والله يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ٦٢[سورة الفرقان، الآية: 62]. قالوا: من فاتته صلاته بالليل كان له من النهار مستعتب، ومن فاتته صلاته بالنهار كان له من الليل مستعتب.

ولا يقاس على المغمى عليه طبيعيًّا؛ لكون هذا قد وقع الإغماء عليه من الله بدون سبب منه في رضاه، فكان مرفوعًا عنه القلم حتى يفيق.

***

أهمية الفريضة وحكم من يصليها في البيت بدل المسجد

السؤال: ما أهمية فريضة الصلاة للمسلم؟ وما حكم من يصليها في البيت بدل المسجد؟ [6/33]

الجواب [رقم: 33]:

الصلاة التي هي عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل. تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، يقول الله سبحانه: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون ٤٥[سورة العنكبوت، الآية: 45]. تفتح باب الرزق، وتيسر الأمر، وتشرح الصدر، وتزيل الهم والغم، وهي من أكبر ما يستعان به على أمور الحياة وعلى جلب الرزق، وكثرة الخيرات، ونزول البركات، وقضاء الحاجات.

وكان الرسول والصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة، أو وقعوا في شدة من الشدائد، فزعوا إلى الصلاة[عن حذيفة قال: كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلَّى. أخرجه أحمد وغيره]؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين ٤٥[سورة البقرة، الآية: 45] فهي قرة العين للمؤمنين في الحياة، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». رواه الإمام أحمد، والنسائي من حديث أنس[رواه أحمد في المسند (12294)، والنسائي (3939)].

والمحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات هي العنوان على صحة الإيمان، لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِين ١٨[سورة التوبة، الآية: 18]. وعمارتها تحصل بالصلاة فيها، ومن بنى مسجدًا يحتسب ثوابه عند الله بنى الله له قصرًا في الجنة، أما من بنى مسجدًا ثم هجره من الصلاة فيه، فإنه آثم في عمله وهجرانه لمسجد ربه، وفي الحديث: «أَنَّ النَّاسَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَعْمُرُوْنَ الْمَسَاجِدَ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» [لم نجده بهذا اللفظ، وعند ابن خزيمة في صحيحه (1322) عن أنس مرفوعًا: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ بِالمَسَاجِدِ»، وفي لفظ عنده (1321): «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ بِالمَسَاجِدِ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً»].

وكان الصحابة يرون التارك للصلاة في الجماعة منافقًا، يقولون ذلك ولا يتأثمون، كما في صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق[رواه مسلم (654)].

لأن من صفة المنافق ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون ٥٨[سورة المائدة، الآية: 58]. فنفى الله عنهم العقل الصحيح؛ من أجل عدم إجابتهم لنداء الصلاة؛ الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح.

***

واجب الآباء تجاه أولادهم فيما يتعلق بالصلاة

السؤال: ما الواجب على الأب تجاه ولده فيما يتعلق بفريضة الصلاة؟ [6/38]

الجواب [رقم: 34]:

ينبغي الأخذ بأيدي أولادكم إلى الصلاة في المساجد معكم، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، ولأنها بمثابة الدواء الفرد، تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر.

وإنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على الصلاح وفعل الصلاة في المساجد معكم؛ فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَمَن يَعْشُ أي: يعرض ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين ٣٦ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون ٣٧[سورة الزخرف، الآيتان: 36 – 37].

أما إذا ترك الوالد الصلاة فإن الولد يتأسى به في تركها؛ لأن الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر. وإذا صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية، فمتى ترك الوالد الصلاة تركها الولد، وتركتها الزوجة والبنات.

***

كتاب الجمعة

لا يشترط عدد أربعين للجمعة

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

السؤال: الجماعة الساكنون في مكان بعيد عن المسجد الجامع بالبلد.

الجواب [رقم: 35]:

فإنه يجوز لهم أن يصلوا الجمعة لوقتها، ولا يشترط تمام العدد أربعين، بل تصح الجمعة بعشر، وأقل وأكثر، لكون اشتراط الأربعين وقع منهم بناءً على ما رواه كعب بن مالك في أول جمعة صلاها رسول الله ﷺ وكانوا أربعين، فصادف كونهم أربعين بدون أمر من رسول الله، وثبت أن رسول الله صلى الجمعة باثنين وعشرين رجلاً في قصة العير الذين نزل فيهم قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة: 11][انظر: تفسير الطبري (23/386 / 388)، والحديث أخرجه الدارقطني في السنن (2/307) رقم (1583)، ومن طريق البيهقي في الكبرى (3/259) رقم (5627)]. فتصح صلاة الجمعة بدون أربعين.

صلاة الجمعة خلف الواعظ المسافر

السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه وبعد؛

فإني أتقدم إلى دار الإفتاء بقطر لفضيلة الشيخ رئيس المحاكم الشرعية عبدالله بن زيد آل محمود... راجيًا تحري الإجابة الناجزة، ولكم الأجر...

أسند إليّ حاكم أبو ظبي الوعظ والإرشاد العام رسميًّا في إمارات الساحل، ولن أجد فرصة أشمل للنفع من خطبة الجمعة برضا أئمة المساجد وترحيبهم بدافع الحب منهم لي، ولكن وجد أهل العلم الذين يقولون: إنه لا تجوز صلاة الجمعة خلف واعظ ينتقل من مقر سكنه إلى إمارة بينها وبينه مسافة قصر؛ لأن الواعظ سيكون مسافرًا.

والمطلوب: كيف ينطبق حكم مسافر على واعظ وظيفته الرسمية التجول في الإمارات بأمر الحاكم ورضا أئمة المساجد وهذه طبيعة عمله، وليس الواعظ مسافرًا، ولكنه يتردد بين بلدة وأخرى بخصوص أداء المهمة الدينية فقط المعين لها، والمعترض يزعم بطلان الخطبة والصلاة على مذهب المالكية، ثم هل يجوز للذين ينهون عن الصلاة يوم الجمعة وراء المسافر، هل يجوز لهم أن يقلقوا الإمام فيما إذا كان الإمام مذهبه يجيز صحة ذلك؟ هذا على فرض صحة القول بأنه لا تجوز الصلاة وراء المسافر، ولن نسلم بصحة هذا القول فيما يتعلق بالواعظ العام المعين رسميًّا لهذه المهمة برضا أئمة المساجد كلهم في كل بلد، خصوصًا وقد أصبحت الإمارات الست التي يعمل فيها الواعظ في حكم إمارة واحدة بعد الاتحاد الذي تم بينها هذا العام، (دولة الإمارات العربية المتحدة)، وكيف يمنع نفع الواعظ العام المعين لهذا من أجل قول منسوب إلى بعض أهل العلم؛ ثم نرجو توضيح الدليل من كتاب الله وسنة رسوله على أن العالم إذا كان مسافرًا وانتفع الناس واهتدوا بوعظه في خطبة الجمعة، فكيف يمنع ويقدم بدله من لا يكاد يبين؟ ثم كيف ينطبق حكم السفر على واعظ عيّن لهذه المهمة الدينية التي يتعطش إليها المجتمع لحبهم للوعظ من قلوبهم وانتفاعهم به، وكيف ينطبق حكم المسافر عليه وهو المعين لهذا؟ خصوصًا وقد أصبحت الإمارات المتحدة دولة واحدة في ظل الاتحاد.

نرجو بإذن الله سرعة الشفاء بالجواب الذي يفتح الطريق أمام الدعوة الإسلامية، ويتيح لها الازدهار والانتشار ويقضي على التعصب الذي مبناه حب الأنانية، وليس بيت القصيد مسافر وغير مسافر...

أفيدونا، ولكم الثواب يا أولي الألباب من الملك الوهاب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

(18 جمادى الثانية 1391هـ، 9/8/1971م) المستفتي/ محمد بن حسن التندي

الجواب [رقم: 36]:

الحمد لله، بناءً على السؤال الصادر من الشيخ محمد بن حسن التندي، الواعظ العام في إمارة أبوظبي وسائر قرى عمان الساحل، حيث طلب الجواب عن حكم الواعظ المتنقل من بلد إلى بلد في سبيل نشر الوعظ والإرشاد، بين البلدان في تقديمه عليهم في صلاة الجمعة، وقد حصل من قال بمنع إمامته؛ لاعتبار أنه مسافر ليس بمقيم، فهل تصح إمامته بهم في الجمعة أم لا؟

إنني أبدي الاعتذار عن تأخير الجواب لكون وصول الرسالة المتضمنة للسؤال صادف غيبة مني عن محل عملي في إجازة صيفية، وهذا أوان الاستدراك للجواب.

إن فقهاء الحنابلة قالوا: ولا تنعقد الجمعة بمسافر، ولا يكون إمامًا فيها، (قاله في المغني)[المغني لابن قدامة (2/195)]، يريدون بعدم انعقاد الجمعة به؛ لأنه لا يحسب في العدد المشروط لصحة الجمعة، بناءً على القول المرجوح بأنها لا تصح الجمعة إلا بحضور أربعين من أهل وجوبها. وهذا القول مقتبس من مفهوم حديث: «لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ» [أخرجه الطبراني في الأوسط (1/249)(818)، والصواب أنه من قول ابن عمر رضي الله عنهما كما ذكر البيهقي في السنن الكبرى (3/262) (5639)]. قالوا: لأنه ليس من أهل فرض الجمعة فلم تنعقد به، ولا تصح إمامته لكونه ليس بمستوطن، والاستيطان شرط لوجوب الجمعة، هذا حاصل ما قرروه في حجة المنع من إمامته، ويتبين بطريق الوضوح أنه لا دليل عندهم على ذلك، وإنما هي من تدقيقات الفقهاء العارية عن الدليل، وحديث: «لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ» ليس فيه ما يدل على أنه متى صلى مع المقيمين لا تكون له جمعة، فكما أنه تصح إمامته بالمقيمين في سائر الفرائض حتى في الرباعية فيقصر ويتم الناس، فكذلك تصح إمامته في الجمعة بطريق القياس والنص، وقد صلى النبي ﷺ بأهل مكة صلاة الظهر، فصلاها ركعتين، فلما سلم التفت إليهم فقال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» [أخرجه مالك في الموطأ (1/213) (404)] فما هذا الفرق في صحة إمامته في سائر الفرائض ويمنع من إمامته في الجمعة؟ والصحيح أن المسافر كما تصح منه الجمعة بالإجماع متى فعلها مع المقيمين، فإنها تصح خلفه، إذ الجمعة كسائر الفرائض، وقد كان رسول الله ﷺ، ثم الخلفاء من بعده يرسلون الأمراء والقضاة إلى البلدان، فيتولون بهم صلاة الجمعة وهم ليسوا بمستوطنين، ونقل في المغني عن أبي حنيفة والشافعي أنه يجوز للمسافر أن يكون إمامًا في الجمعة، ووافقهم مالك على ذلك[المغني لابن قدامة المقدسي (2/253)]. انتهى.

وهذا هو الحق والصواب ونحن نفتي بموجبه، والله أعلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(9/8/1391هـ، 29/9/1971م)
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

حكم خطبة الجمعة بغير العربية

السؤال: هل يجوز الصلاة في مسجد ببلد أجنبي إذا كانت الخطبة بعضها بالعربية وبعضها بلغة ذلك البلاد؟

الجواب [رقم: 37]:

أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وأن هذه البلد التي غالب أهلها لا يحسنون اللغة العربية في أداء خطبة الجمعة والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [رواه البخاري (7282) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] فهذه البلد التي غالب أهلها لا يحسنون الخطبة بالعربية وقد يحسنون شيئًا وتضيع عنهم أشياء فهؤلاء صلاتهم الجمعة صحيحة واقعة موقعها في الصحة والإجزاء ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ومن المعلوم أن الإسلام بدأ غريبًا فغالب الخطباء في بدايتهم لا يحسنون الخطبة بالعربية ومع هذا فقد صحت جمعتهم فلا يطالبون بإبطالها، فقول الفقهاء في الخطبة بالعربية مأخوذ من حالة الناس، فهؤلاء الذين صلوا بهذه الخطبة التي بعضها بالعربية وبعضها باللغة الأجنبية صلاتهم صحيحة بلا إشكال، فهذا حاصل ما نفتي به في مثل هذا السؤال ليكون معلومًا وكي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم من ترك صلاة الجمعة بلا عذر

السؤال: ما حكم من ترك صلاة الجمعة بلا عذر؟ [6/42]

الجواب [رقم: 38]:

افترضت الجمعة على النبي ﷺ بمكة كسائر الصلوات الخمس، لكنه لم يتمكن من إقامتها بمكة، من أجل أن المشركين يمنعونه من ذلك. ولما هاجر بعض الصحابة إلى المدينة، أمر النبي مصعب بن عمير بأن يصلي بهم الجمعة. قال عبدالرحمـٰـن بن كعب — وكان قائد أبيه بعدما عمي — قال: «كان أبي إذا سمع أذان الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت: يا أبت إنك إذا سمعت أذان الجمعة ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: نعم يا بني، إنه أول من جمّع بنا في (نقيع الخضمات) في (حرة بني بياضة)، وذبح لنا شاة، فتغدينا عنده. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون» [رواه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وابن خزيمة (1724)، وابن حبان (7013)].

أخذ بهذا الحديث من اشترط لصحة الجمعة حضور أربعين من أهل وجوبها. ولا دليل في الحديث على اشتراط هذا العدد؛ لأنها قضية حال صادفت كونهم أربعين بدون تحديد من الشارع، والصحيح أن الجمعة تصح ولو بدون أربعين، فكل قوم في قرية فإنه يجب عليهم أن يقيموا صلاة الجمعة، ولو كانوا عشرة، أو أقل أو أكثر.

أما النبي ﷺ فإن أول جمعة صلاها في مسجد بني عبد الأشهل بالمدينة حين قدم إليها مهاجرًا، ونزل على أبي أيوب الأنصاري، فوافق قدومه يوم الجمعة، فصلى بالناس، وحُفِظَ من خطبته في ذلك اليوم بعد حمد الله والثناء عليه أنه قال: «أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوْا، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، تُنْصَرُوا، تُرْزَقُوا وَتُجْبَرُوا، وَاعْلمُوا أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي مَقَامِي هَذَا، مَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا، وَاسْتِخْفَافًا بِقَدْرِهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا وَلَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا وَلَا صِيَامَ لَهُ» [رواه ابن ماجه (1081)، والطبراني في الأوسط (1261)، من حديث جابر رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

وفي هذا الحديث دليل على عقوبة التارك للجمعة بدون عذر؛ فإنه متعرض لإحباط عمله من صلاته وصيامه، ثم هو متعرض لوقوع دعاء النبي ﷺ عليه، حيث قال: «فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ». ومن لا يجمع الله شمله يكون مشتت الحال، كثير الهم والغم والبلبال، كما أن من لا يبارك في أمره يكون دائمًا هلوعًا جزوعًا، جموعًا منوعًا؛ كشارب البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا. فهو فقير، لكنه لا يؤجر على فقره، بل الفقير أحسن حالاً منه. ومن دعاء النبي ﷺ أنه قال: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كل فائتة بخير» [رواه ابن خزيمة (2728) من حديث ابن عباس مرفوعًا بإسناد ضعيف].

***

حكم من يصلي الجمعة ولا يصلي الفرائض الخمس

السؤال: يحرص بعض المسلمين على حضور الجمعة ولكنهم لا يصلون الفرائض اليومية؟ [6/44]

الجواب [رقم: 39]:

يوجد من الناس في بعض الأمصار من يحافظ على حضور الجمعة لكنه يهمل فرائض الصلاة في سائر الأوقات؛ لزعمه أن حضور الجمعة يكفِّر عنه عدم حضوره الصلوات الخمس، ويتأولون حديث: «الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» [رواه مسلم (233) بلفظ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ»]. وحديث: «من صلى الجمعة كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام» [رواه مسلم (857) بلفظ: «مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»].

وهؤلاء ممن قال الله فيهم: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ١٥١[سورة النساء، الآية: 151] فإن تكفير ما بين الجمعة إلى الجمعة مشروط بالمحافظة على سائر الصلوات الخمس، وصيام رمضان، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» [أخرجه مسلم (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] فشرط التكفير كونه يجتنب الكبائر. وترك الصلاة هو من أكبر الكبائر، بل إن تعمد ترك الصلاة كفر بالله؛ لأنها عمود الإسلام، والناهية عن الفحشاء والآثام. من تركها فقد كفر كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» وفي رواية: «مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ» [أخرجه مسلم (82) من حديث جابر رضي الله عنه، وابن ماجه (1080) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] وقد أجمع العلماء على كفر من استباح ترك الصلاة.

***

آداب يوم الجمعة

السؤال: ما هي آداب الجمعة التي ينبغي للمسلم المحافظة عليها؟ [6/45]

الجواب [40]:

إن للجمعة آدابًا ينبغي للمسلم المحتسب أن يحافظ على آدابها رجاء ثوابها، فمنها: الاغتسال لها، ولبس أحسن الثياب، ومس الطيب، وإذا دخل المسجد صلى ما يتيسر له، فمن الصحابة من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل، ومنهم من يصلي أكثر، والنبي ﷺ قد حث على هذا كله، فقال: «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس أحسن ثيابه، ومس من طيب أهله، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا؛ ومن لغا فلا جمعة له» رواه مسلم[صحيح مسلم (857) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وقال: «من تكلم والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا. ومن قال لصاحبه: أنصت. والإمام يخطب فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» [أخرجه أحمد (2033) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

فمن فوائد هذه الأحاديث، أن خروج الإمام، وشروعه في الخطبة، أنه يمنع من فعل التطوع بالصلاة، ويمنع من الكلام. فلا يجوز لأحد أن يقوم ثم يصلي؛ لأن هذا وقت نهي، إلا إذا دخل المسجد والإمام يخطب، أو المؤذن يؤذن، فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس؛ لما في صحيح مسلم عن جابر: أن النبي ﷺ كان يخطب، فدخل رجل — يقال له: سليك الغطفاني — فجلس قبل أن يصلي ركعتين. فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ، أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» [صحيح مسلم (875)].

ومن آداب الجمعة: الاستماع للخطبة، وألا يتكلم بشيء؛ فإن الكلام يبطل ثواب الجمعة. وألا يتخطى رقاب الناس إلى بقعة يريد أن يصلي فيها، وقد نهى رسول الله ﷺ عن تخطي رقاب الناس في المسجد، ولما رأى النبي رجلاً يتخطى رقاب الناس قال له: «اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ، وَآنَيْتَ» [أخرجه ابن ماجه (1115) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما].

***

فضل التبكير إلى الجمعة

السؤال: ما هو فضل التبكير لصلاة الجمعة؟ [6/44]

الجواب [رقم: 41]:

ينبغي للمسلم أن يغتنم التبكير للجمعة، ويغتنم ثوابها وفضلها؛ لأن حضور الجمعة خير من الدنيا وما فيها، وإن الملائكة يكتبون الأول فالأول، كما أن الشياطين تغدو براياتها إلى الأسواق، يثبطون الناس عن الصلاة. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلأْتُ قَلْبَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» [أخرجه أحمد (8696)، والترمذي (2466)، وابن ماجه (4107)، وابن حبان (393) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

***

حكم صلاة الظهر بعد الجمعة

السؤال: يصلي بعض الناس الجمعة ثم يصلي الظهر بعدها، فما الحكم؟ [6/47]

الجواب [رقم: 42]:

يجب على المصلي أن يعتقد اعتقادًا جازمًا بصحة جمعته التي يصليها مع الإمام، ومع جماعة المسلمين، وأنها جمعة صحيحة تامة، يرجو ثوابها وأجرها عند الله، ولا يختلج في قلبه الشك في صحتها بناءً على ما يسمعه من بعض الفقهاء الذين يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد. فقد سمعنا عن بعض البلدان أن بعضهم يصلي الجمعة بنية فاسدة؛ حيث يدخل فيها وفي نيته أن يعيدها ظهرًا لاعتقاده بطلانها. ولا شك أن الداخل في صلاة الجمعة بنية فاسدة فإن جمعته فاسدة «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» [رواه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه]. ونحمد الله أننا في عافية من هذه البدعة فلا تفعل عندنا، وإنما ننصح عنها من ابتلي بها من إخواننا المسلمين الذين جعلوا هذه البدعة بمثابة الزيادة في الدين، وهي من وساوس الشياطين، ونعوذ بالله ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس ٤الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس ٥مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ٦[سورة الناس، الآيات: 4 – 6] فهؤلاء الذين يفعلون ذلك، يعتبرون بأنهم خاسرون لفضل جمعتهم وفرضها، فينصرفون عن الجمعة بخفي حنين حيث خسروا الجمعة حين دخلوها بنية فاسدة. والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا. كما أنهم يخسرون صلاة الظهر، فلا تصح منهم، فينصرفون وقد خسروا الجمعة، وخسروا صلاة الظهر ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم ٣٣[سورة محمد، الآية: 33].

***

المفاضلة بين الجمعة والعيدين

السؤال: هل يوم الجمعة أفضل أم العيدين؟ [6/283]

الجواب [رقم: 43]:

إن الله سبحانه قد افترض على عباده المؤمنين وجوب العمل بشرائع الدين، ومن آكدها الصلوات الخمس المفروضة؛ التي هي عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر. وآكدها الجمعة التي هي عيد الأسبوع، والتي هي أفضل من عيد الأضحى وعيد الفطر. والجمعة هي أفضل يوم طلعت عليه الشمس.

كتاب صلاة التطوع

صلاة الاستسقاء

السؤال: متى تقام صلاة الاستسقاء وما حكمها؟ [7/334]

الجواب [رقم: 44]:

صلاة الاستسقاء هي صلاة دعاء وتضرع، سنها رسول الله ﷺ وفعلها الأنبياء قبله، فروى الإمام أحمد، وصححه الحاكم، أن رسول الله قال: «خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَسْتَسْقِي، فَرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا، رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إِلَى السَّمَاءِ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاكَ وَرَحْمَتِكَ، فَقَالَ: ارْجِعُوْا فَقَدْ سُقِيْتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ» [أخرجه أحمد في الزهد (449)، والطبراني في الدعاء (968) من قول أبي صديق الناجي مقطوعًا. ورواه الطحاوي في مشكل الآثار (875)، والدارقطني (1797)، والحاكم (1215) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، ولكن بلفظ: ««خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ...»]. إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، قال علي رضي الله عنه: وأيم الله ما كان قوم في رغد من العيش، فزال عنهم ذلك، إلا بخطيئة اجترحوها. ولو أن الناس حين تحل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربهم في رقة من قلوبهم، وصدق من نياتهم، لرد لهم كل ما كان شاردًا، وأصلح لهم ما كان فاسدًا ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون ٩٦[سورة الأعراف، الآية: 96]، ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون ٤١[سورة الروم، الآية: 41].

والاستسقاء هو طلب السقيا من الله، لكون السين والتاء للطلب، وقد جاء الصحابة إلى رسول الله ﷺ وقالوا: يا رسول الله؛ أجدبت الأرض، وقحط المطر، فاستسق لنا ربك. فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فصلى بهم ركعتين، ثم خطب الناس فقال: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ» ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمـٰـن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إلـٰـه إلا الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، اللَّهم أنت الله لا إلـٰـه إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث والرحمة، ولا تجعلنا من اليائسين، اللَّهم اسقنا وأغثنا، اللَّهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللَّهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللَّهم إنا خلق من خلقك. ليس بنا غنى عن سقياك ورحمتك. اللَّهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللَّهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين» [روى بعضه أبو داود (1173) عن عائشة رضي الله عنها بلفظ مقارب].

ثم يقلب رداءه ويتوجه إلى جهة القبلة ويدعو.

***

صلاة الضحى

السؤال: ما فضل ركعتي الضحى؟ [6/297]

الجواب [رقم: 45]:

إن في الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلاً مطلوب منه أن يتصدق عن كل مفصل بصدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، وتأتي الرجل فتحمله على دابته أو سيارته صدقة، أو ترفع له متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.

فهي بمثابة الصدقة عن سائر هذه الأعضاء، وقد صلى النبي ﷺ في بيت أم هانئ يوم الفتح ثماني ركعات وذلك ضحى[رواه البخاري (357)]، ولهذا يستحب فعلها في البيت؛ لأنها من الأسباب التي تدخل في البيت البركة وسعة الرزق، وتحف أهل البيت الملائكة، وتغشاهم الرحمة.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، فإن الله جاعل في بيوتكم من صلاتكم خيرًا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا» [رواه البخاري (432)، ومسلم (777) عن ابن عمر رضي الله عنهما دون قوله: «فإن الله جاعل في بيوتكم من صلاتكم خيرًا» فهو عند مسلم (778) من حديث جابر رضي الله عنه]. أي: تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها، وعلى كل حال فإنه لا أفضل من مسلم يعمر في الإسلام لتسبيحة أو تهليلة أو صدقة أو صلاة ركعة أو صيام يوم.

***

هل صلاة التراويح بدعة حسنة؟

السؤال: هل تعتبر صلاة التراويح بدعة حسنة؟ [6/324]

الجواب [رقم: 46]:

من سنن رمضان صلاة التراويح، فقد سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً.

وما شاع على ألسنة بعض الناس، وفي بعض كتب المتأخرين، من قولهم إن التراويح بدعة حسنة، فهذا لا أصل له، فليس في الإسلام بدعة حسنة بل كل بدعة سيئة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والنبي ﷺ قال: «إن الله افترض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا ويقينًا كان كفارة لما مضى» [رواه النسائي (2210)، وأحمد (1660)، والبيهقي في شعب الإيمان (3343) واللفظ له من حديث عبدالرحمٰن بن عوف رضي الله عنه].

وسميت تراويح من أجل أن الناس يطيلون القيام والركوع والسجود فيها، وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، ويستريحون بين كل أربع ركعات، ولا ينصرفون إلا في فروع الفجر.

وفي البخاري أن رسول الله ﷺ صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى غص المسجد بالناس، فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» [أخرجه البخاري (1129)، ومسلم (761) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وقد زال هذا المحذور الذي خشيه رسول الله ﷺ بموته، وبقي الاستحباب على حاله. فتعتبر صلاة التراويح جماعة أنها سنة سنها رسول الله لأمته. ويدل له حديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» [رواه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (1364)، وابن ماجه (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه].

فكان الناس زمن النبي ﷺ، وزمن أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، يصلون أوزاعًا متفرقين، يصلي الرجل بالرجلين والثلاثة، ويصلي بالرهط ويصلي الرجل وحده، فقال عمر: أما إني لو جمعت هؤلاء على إمام واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمع الرجال على أبي بن كعب، والنساء على تميم الداري، واستمر الأمر على هذه الحالة، فخرج عمر ليلة ورأى الناس يصلون مجتمعين فأعجبه ما رأى فقال: نعمت البدعة[أخرجه مالك (1/114/3)، والبخاري (2010) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه].

وليس معنى قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة. أنه الذي ابتدع صلاة التراويح جماعة، فقد صلاها رسول الله ﷺ جماعة ثلاث ليال واعتذر عن مواصلة عمله؛ خشية أن تفرض على الناس. وإنما أراد بقوله: نعمت البدعة. يعني: تنظيم الناس للاجتماع لها؛ حيث ضم سائر الجماعات والأفراد لصلاة التراويح على إمام واحد.

***

قيام الليل والوتر

السؤال: ما توجيهكم لمن لا يوتر في الليل؟ وما عدد ركعاتها؟ [6/365]

الجواب [رقم: 47]:

آكد النوافل الوتر. فقد قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ» [رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وقال: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» [رواه أبو داود (1416)، والترمذي (453)، والنسائي (1675)، وابن ماجه (1169) من حديث علي رضي الله عنه].

وقال: «الْوَتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» [أخرجه أبو داود (1419) من حديث بريدة رضي الله عنه، كررها ثلاثًا. وإسناده ضعيف].

ومن كل الليل قد أوتر رسول الله[رواه البخاري (996)، ومسلم (745) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وسأل النبي ﷺ أبا بكر فقال: «مَتَى تُوتِرُ؟» فقال: أوتر قبل أن أنام. ثم سأل عمر قال: أوتر من آخر الليل. فقال رسول الله ﷺ: «أما أبو بكر فأخذ بالحزم ونام على الوتر، وأما عمر فأخذ بالقوة» [أخرجه أبو داود (1434) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه].

«فَمَنْ خَافَ أَلا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةِ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذلِكَ أَفْضَلُ» [رواه مسلم (755) من حديث جابر رضي الله عنه].

وأعلى الوتر إحدى عشرة ركعة، وأقله ركعة واحدة.

والوتر حق. فمن أحب أن يوتر بسبع فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل[روى أبو داود (1422)، والنسائي (1710) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعًا: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ»].

وكان النبي ﷺ يحافظ على عشر ركعات؛ وهي؛ ركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها. فهذه هي السنن التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها، وإن فاته شيء منها سن له قضاؤه.

***

كتاب المساجد

حكم الصلاة جماعة في المنزل وترك المسجد

السؤال: سماحة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود... رئيس المحاكم الشرعية بقطر سلمه الله. تحية صادقة، وبعد: فإني أرغب من سماحتكم التفضل بالإجابة على الأسئلة التالية، جزاكم الله خيرًا، وهي:

خامسًا: ما حكم الصلاة لعدد من الناس جماعة مع أن قربهم مسجد؟

وإني إذ آمل من الله ثم منكم أن تنال رسالتي كل اهتمامكم وحرصكم، أثابكم الله وسدد خطاكم، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(25/4/1408هـ)
المقدم ابنكم/ عبدالحميد بن عبدالعزيز

الجواب [رقم: 48]:

خامسًا: سألت عن حكم الصلاة لعدد من الناس جماعة مع أن قربهم مسجد؟

الجواب: فظاهر مذهب الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة أنه يجوز ذلك، ويسقط به الفرض عن هؤلاء المصلين، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم أنه لا بد من الصلاة في المسجد، وحديث ابن أم مكتوم حيث استأذن النبي ﷺ أن يصلي في بيته؛ لأن بينه وبين المسجد نخلاً وواديًا وهو أعمى، فقال له رسول الله: «أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟»، قال: نعم، قال: «فَأَجِبْ» [أخرجه مسلم (653)، والنسائي (850) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وكذا حديث ابن عباس: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ» [أخرجه ابن ماجه في سننه (793)]، وقد هم النبي ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة[أخرجه البخاري (644)، ومسلم (651). ولفظه: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ»]، لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة. فهذه النصوص تؤيد صحة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم. وهو ما نفتي به.

***

حكم تحية المسجد في وقت النهي وحين خطبة الجمعة

السؤال: هل يجوز صلاة تحية المسجد في وقت النهي؟ وهل يصليها من يدخل المسجد والإمام على المنبر في الجمعة؟ [6/366]

الجواب [رقم: 49]:

السنن التي لها سبب فمثل تحية المسجد. ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» [رواه البخاري (444)، ومسلم (714) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه] سواء كان في وقت نهي كبعد العصر، أو غيره.

وحتى الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب، أو المؤذن يؤذن، فإنه لا يجلس حتى يركع ركعتين؛ لما في الصحيح أن النبي ﷺ كان يخطب. فدخل رجل يقال له: سليك الغطفاني، فجلس. فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ، أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». أي: خففهما[رواه البخاري (931)، ومسلم (875) من حديث جابر رضي الله عنه].

***

حكم احتجاز بقعة معينة في المسجد

السؤال: ما حكم من يحتجز له بقعة في المسجد ثم يتخطى رقاب الناس إليها؟ [6/46]

الجواب [رقم: 50]:

واجب على المسلم أن يجلس حيث ينتهي به الجلوس من المسجد بدون أن يتخطى رقاب الناس، وبدون أن يحتجز له بقعة يضع فيها عصا أو مصلى، ثم يتخطى رقاب الناس إليها، فقد عدّ بعض العلماء هذا ظلمًا، كما أنه بدعة لكونه يحجز هذه البقعة عن المبكرين السابقين إلى المسجد، والسابق إلى المسجد أحق بالتقدم إليها؛ لأن الله يقول: ﴿وَالسَّابِقُون السَّابِقُون ١٠أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُون ١١[سورة الواقعة، الآيات: 10 – 11] وقد قال بعض العلماء بعدم صحة الصلاة في ذلك المكان المحجوز؛ لأنها بمثابة البقعة المغصوبة. حيث إن مَن مَنعَ المستوجبين للتقدم في الروضة والصف المتقدم فقد ظلمهم حقهم. وقد قيل:

ووضع المصلى في المساجد بدعة
وليس من الهدي القويم المحمدي
وتقديمه في الصف حجر لروضـة
ومنع لها عن سابق متعبـد

***

حكم حجز المكان في المسجد يوم الجمعة أو في الحرم

السؤال: ما حكم ما يفعله بعض الناس من وضع مفارش أو سجاجيد لحجز مكان لهم يوم الجمعة أو في الحرم؟

الجواب [رقم: 51]:

ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين بل محرم، وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟

فيه قولان للعلماء، لأنه غصب بقعة في المسجد ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان.

والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول فالأول كما قال النبي ﷺ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ يتمّون الصف الأول فالأول ويتراصّون في الصف» [رواه مسلم (430)، وأبو داود (661)، والنسائي (816)، وابن ماجه (922) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه].

وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» [رواه البخاري (615)، ومسلم (437) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى يستهموا: يضربون القرعة].

والمأمور أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من وجه تأخره، ومن غصبه لبقعة من المسجد ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيها، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى رقاب الناس، وفي الحديث: «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتُّخِذَ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّمَ» [رواه الترمذي (513)، وابن ماجه (1116) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف]، وقال رسول الله ﷺ للرجل: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ، وَآنَيْتَ» [رواه أبو داود (1118)، والنسائي (1399)، وأحمد (17674) من حديث عبدالله بن بسر رضي الله عنه].

وهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟ فيه قولان: أحدهما ليس له ذلك لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، والثاني وهو الصحيح : له ذلك، فيرفعه ويصلي مكانه لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم وهو مأمور بذلك أيضًا، ولكن لا يتمكن من فعل هذا المأمور إلا برفع ذلك المفروش، وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به، وأيضًا ذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب وذلك منكر، وفي الحديث: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ...» [رواه مسلم (69) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه] الحديث، لكن ينبغي أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أعظم منه.

***

صلاة المنفرد خلف الصف في المسجد

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

الرجل الذي دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة وصفّ الناس خلف الإمام وطلب من بعض المأمومين أن يتأخر معه فامتنع عليه حتى أتم صلاته منفردًا في بعضها.

الجواب [رقم: 52]:

الجواب: اعلم يا أخي! أنه ثبت في الحديث أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً يصلي فذًا خلفه فقال له: «ألا دخلت معهم أو اجتررت رجلاً، لأنه لا صلاة منفردًا خلف الصف» [رواه أبو يعلى (1588)، والطبراني في الكبير (22/145/394) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

وهذه المسألة هي من مفردات مذهب الإمام أحمد، قال ناظمها:

والفذُّ من يقوم خلف الصف
صلاته باطلة لا تكفي

لكن لضرورة الحال عندما لا يجد هذا الرجل من يصلي معه فإن صلاته أولها وآخرها صحيح، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة.

***

كتاب الجنائز

حكم النياحة على الميت

السؤال: [ما حكم رفع الصوت في البكاء ولطم الخدود وشق الجيوب؟ [7/107]]

الجواب [رقم: 53]:

عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ لعن النائحة[رواه أبو داود (3128)، وأحمد (11622)، والبيهقي في السنن الكبرى (7113) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وإسناده ضعيف]. وهي التي تندب الميت، وتعدد محاسنه بصوت عال مع البكاء، كأن تقول: واكاسباه، وامُطعِمَاه، واحياتاه، وَازِينَتاه.

وقال: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تَقُوْمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» [رواه مسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه].

وقد حرم رسول الله ﷺ ضرب الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعاء الجاهلية[رواه البخاري (1297)، ومسلم (103) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»].

قالت أم عطية: أخذ علينا النبي ﷺ في البيعة: أن لا ننوح[رواه البخاري (1306)، ومسلم (936)].

وقال ﷺ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» [رواه مسلم (927) من حديث عمر رضي الله عنه] يعني أنه يتألم في قبره من بكاء أهله عليه. أما البكاء الذي هو مجرد دمع العين، وحزن القلب، بدون رفع صوت، فهذا لا بأس به. فقد قال النبي ﷺ حين مات ابنه إبراهيم: «العَيْنُ تَدْمَعُ، وَالقَلْبُ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَّبُّ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» [رواه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].

***

حكم تجصيص على القبور

السؤال: [ما حكم تجصيص القبور؟ [7/106]]

الجواب [رقم: 54]:

روى مسلم في صحيحه قال: نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، أو يبنى عليه[أخرجه مسلم (970) من حديث جابر رضي الله عنه]. وقد ابتدع الناس في هذا الزمان بدعة التجصيص على القبر، ووضع الآجر فوقه. وهذه بدعة منكرة، تدعو إلى متابعة الناس عليها على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى. فمن الواجب إزالة البناء والتجصيص عن القبور حتى تبقى على حالة ما عليه قبور المسلمين، يردون تراب القبر عليه بدون زيادة، ثم يرشونه بالماء، ويضعون شيئًا من الحصى فوقه ليحفظ التراب. اهـ.

***

حكم البناء على القبور والعكوف عندها

السؤال: ما حكم البناء على القبور والعكوف عندها مدة؟ [7/106]

الجواب [رقم: 55]:

ما يفعله بعض الناس في بعض البلدان من البناء على القبور، ثم العكوف عندها مدة من الزمان، فإنه من المنكر، ويؤول إلى الشرك الأكبر، كما أن أول شرك حدث في الأرض، هو الغلو في قبور الصالحين، بل الطريقة الشرعية هي أن تدفنوا أمواتكم وترجعوا إلى دنياكم.

***

كتاب الصيام

التطوع بالصيام بعد النصف من شعبان

السؤال: هل يجوز التطوع بالصيام بعد نصف شعبان؟ [6/297]

الجواب [رقم: 56]:

هنالك حديث يسمعه بعض الناس وهو قوله: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، فَلاَ تَصُومُوا إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» [أخرجه أبو داود (2337)، والنسائي في الكبرى (2923) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] رواه أهل السنن. لكن الأئمة ضعفوا هذا الحديث، وحكموا ببطلانه، وأنه يجوز للإنسان أن يصوم ما شاء بعد منتصف الشهر إلا أنه لا يجوز أن يصوم يوم الشك لقول النبي ﷺ: «لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» [أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

***

صيام مختل الشعور أو المجنون

السؤال: ما حكم صيام مختل الشعور؟ [6/309]

الجواب [رقم: 57]:

مختل الشعور، عديم المعرفة فإنه لا يجب عليه صيام ولا إطعام.

***

إذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس فهل صيامها صحيح؟

السؤال: ما حكم اليوم الذي صامته المرأة إذا حاضت بعد غروب الشمس؟

الجواب [رقم: 58]:

حضرة الفاضل المكرم الدكتور/ حمد العبدالله البسام - حفظه الله -.

سلام عليكم...

تلقيت كتابكم المؤرخ في 11 رمضان 92هـ ونرد على ما استفهمت فيه ما يلي:

1– المرأة إذا جاءتها العادة بعد غروب الشمس فإن صومها في يومها صحيح بناءً على الأصل المتيقن، أما إذا حاضت قبل الغروب وجب عليها القضاء.

***

صيام النفساء إذا طهرت قبل الفجر

السؤال: إذا طهرت النفساء قبل طلوع الفجر فهل تصوم؟

الجواب [رقم: 59]:

2– النفساء إذا انقطع عنها الدم قبل الفجر فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس، وصيامها صحيح، وإذا اغتسلت وجب عليها أن تقضي صلاة المغرب والعشاء والفجر من تلك الليلة التي انقطع عنها الدم فيها.

صيام الحائض إذا طهرت قبل الفجر

السؤال: إذا طهرت الحائض قبل طلوع الفجر فهل تصوم؟

الجواب [رقم: 60]:

3– الحائض نفس الحكم في النفساء إذا انقطع عنها دم الحيض قبل الفجر وجب عليها أن تصوم، وصيامها صحيح ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس، وتقضي الأوقات الثلاثة من تلك الليلة، أما إذا لم تطهر إلا بعد طلوع الفجر فإنه يجب عليها الإمساك ثم القضاء لهذا اليوم.

***

استعمال المرأة حبوب منع الحيض لأجل الصيام

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

— الجواب في المرأة التي إذا دخل عليها شهر رمضان استعملت أكل الحبوب التي تمنع الحيض، ومثله عند حجها متى خافت أن لا يتم حجها.

الجواب [رقم: 61]:

فإن استعماله بهذه الصفة جائز، ولا ينبغي أن تستمر على فعلها بعد الفراغ من صومها وحجها، لكون الدم شر خارج عنها، ومتى بقي في الجسم فوق العادة أفسده، فتركه أفضل من فعله، ولا نقول بتحريمه والحالة هذه.

***

حكم الحجامة أثناء الصيام

السؤال: هل الحجامة تفسد الصوم؟

الجواب [رقم: 62]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى المحب الفاضل الشيخ عبدالله بن محمد بن عبيد رئيس المحاكم الشرعية بعرعر حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله، وبعد... فقد استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، سألت عما يلي:

1– الحجامة[الحجامة: حرفة الحجَّام. وهي مص الدم من الجرح أو القيح من القرحة بالفم أو بآلة كالكأس (انظر: معجم لغة الفقهاء1/210، والموسوعة الفقهية الكويتية 2/68)] في رمضان تبطل الصيام في ظاهر مذهب الحنابلة، مستدلين بحديث شداد بن أوس أن النبي ﷺ مرّ على رجل يحتجم في رمضان فقال: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ، وَالْمَحْجُومُ» [رواه أبو داود (2369)، والنسائي في الكبرى (3127)، وابن ماجه (1681)، وأحمد (17112)، وابن حبان (3533)، وانظر: صحيح ابن خزيمة (1963)] رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان، والفطر بالحجامة هو من مفردات مذهب الحنابلة.

قل أفطر الحاجم والمحجوم
بذا أتى النص عداك اللوم

ومذهب الأئمة الثلاثة عدم الفطر بالحجامة مستدلين بحديث أنس قال: «أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي ﷺ فقال: «أَفْطَرَ هَذَانِ»، ثم رخص النبي ﷺ بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم» [رواه الدارقطني (2260)، وعنه البيهقي في الكبرى (8302)]. رواه الدارقطني وقوّاه، وروى البخاري عن ابن عباس: أن النبي ﷺ احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم[رواه البخاري (1938)]، ولا شك أن القول بهذا أقوى دليلاً، ومذهب الحنابلة أحوط.

***

سحب الدم لا يفطر

السؤال: ما حكم سحب الدم بالفصد وغيره للصائم؟

الجواب [رقم: 63]:

2– سحب الدم قليله وكثيره بالفصد[الفصد: شق العرق وقطعه، يقال فصده يفصده فصدًا وفصادًا فهو مفصود وفصيد. وفصد الناقة عند العرب في الجاهلية شق عرقها ليستخرج دم العرق فيشربه. (لسان العرب مادة (فصد) 3/336)] وغيره، فهذا لا يفطر الصائم، ولا يقاس على الحجامة وعملها.

***

حكم الحقنة أثناء الصيام

السؤال: ما حكم الحقنة أثناء الصيام؟

الجواب [رقم: 64]:

3– الحقنة تبطل الصيام في ظاهر الأئمة الثلاثة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية[الفتاوى الكبرى (5/376)] وكذا ابن حزم[المحلى (6/180)] عدم الفطر بها، وهو ما نفتي به إلا أن تكون إبرة مغذية فهي مفطّرة.

***

الفرق بين الإبرة الدوائية والإبرة المغذية

السؤال: هل هناك فرق بين الإبرة الدوائية والإبرة المغذية بالنسبة للصيام؟

الجواب [رقم: 65]:

5– الإبرة التي يضرب بها الذراع أو الفخذ أو الظهر لا تفطر في ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[الفتاوى الكبرى (5/376)] مستدلاً على ذلك بوضع الدواء في الجائفة والمأمومة[جراحة في البطن تصل إلى الجوف (المعدة) (لسان العرب 9/34)] التي تصل إلى أم الدماغ، فيضعون فيهما الأدوية، وهو نفس ما يفعل عن طريق الإبرة الطبية، وكون الصحابة يستعملونه وهم صائمون استدلال صحيح واقع موقعه.

أما الإبرة التي يقصد بها التغذية فإنها مفطرة.

حكم القطرة في العين والكحل أثناء الصيام

السؤال: هل تجوز القطرة في العين والكحل أثناء الصيام؟

الجواب [رقم: 66]:

4– القطرة في العين ومثلها الكحل يجوز في رمضان، وإن كان بعض المذاهب يوجب الكف عنه.

***

حكم استنشاق البخور وشم الطيب أثناء الصيام

السؤال: ما حكم استنشاق البخور واستعمال الطيب للصائم؟

الجواب [رقم: 67]:

استنشاق البخور لم أعرض بذكره في الخطبة وإذا تعمد استنشاقه ودخل حلقه فسد صومه أما استعمال الطيب للصائم فجائز.

فهذا حاصل ما سألت عنه، والباري يحفظكم.

(23/9/1392هـ، 30/10/1972م)
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

أسئلة عن الصيام موجهة للشيخ في لقاء صحفي

نشرته مجلة الفجر القطرية بتاريخ الإثنين (19 رمضان 1396هـ، 13 سبتمبر 1976م) في حوار صحفي مطول أجراه عبدالسلام عوض مع فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود تضمن كثيرًا من الأسئلة المثيرة التي تمس واقع الناس وقد نشر بجريدة الفجر تحت عنوان: (إنهم لا يحكمون بشريعة الله) قال المحاور في بداية الحوار:

لو سألني إنسان عنه بعد أن لقيته... فلن أجد على لساني سوى كلمتين:

أولهما: أنه رجل صريح لا ينافق ولا يجامل.

أما الثانية: فإنه رجل ليس ممن يغيرون من مواقفهم ولا مبادئهم تحت أي ظرف من الظروف، ولا لأي سبب من الأسباب.

ذلك هو فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر.

واحد من الذين يرون أن الحق حق.. وأن الحق أحق أن يتبع.. من هنا كان رأيه الذي لا يداريه.. ومهما اختلفت معه... فلن تستطيع إلا أن تحترم رأيه.. وفكره.. وأصالته.

معه دار هذا الحديث الذي امتد على ما يقرب من الساعتين، والذي امتلأ بالآراء الشجاعة.. والأفكار المثيرة.. والقضايا المتنوعة والحساسة، والتي لم يجتهد في أن يداري رأيًا له فيها، حتى لو عرف أنه سيغضب عليه الآخرون، أو أنه لن يكون وفق هواهم أو وفق ما يتبعون.

تحدث عن مدى مطابقة أحدث نظريات العلم مع آيات كتاب الله الكريم.. وناقش أسباب هبوط مستوى الجمعة في المساجد، وتعرض لموضوع غلاء المهور كمشكلة بارزة من مشكلات المجتمع القطري... وتكلم عن الزكاة وقال في صراحة: إن الناس لا يخرجون زكاتهم.. وأعلن أن الدولة مطالبة بالتدخل لتأخذ حق الله من الذين تقاعسوا عن أدائه... وأكد أن الحكم بالشريعة التي أنزلها الله هو العاصم الوحيد لما نحن فيه الآن.. وناشد حكام العرب والمسلمين بضرورة العودة إلى شريعة الله التي هجروها، وأن يتناسوا خلافاتهم التي لن تؤدي إلا إلى الشقاق والفراق.

كما ناقش الشيخ موقفه من تعليم المرأة.. ومن عملها في المصالح والدوائر الحكومية.. وقال: إن سفرها حرام حتى ولو كان لطلب العلم... وقال في نهاية حديثه: لن أدخل التليفزيون حتى لو طلبوني لإلقاء حديث ديني.

من أين أبدأ يا سيدي؟

لتكن البداية من عند شهر رمضان..

قلت للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود:

***

من ترك قضاء ما عليه من صيام إلى رمضان التالي

السؤال الأول: من أفطر بعذر ثم تكاسل في القضاء إلى أن لحقه رمضان التالي... ماذا يفعل؟

الجواب [رقم: 68]:

هو في كل الأحوال مطالب بأن يقضي ما عليه... أما في هذه الحالة بالذات فإنني أرى أنه إلى جانب القضاء يقوم بإطعام مسكين عن كل يوم أفطره، وذلك دعم وتقوية للقضاء.

***

حكم معجون الأسنان وقطرة العين وحقنة الدواء

السؤال الثاني: اختلفت الآراء حول معجون الأسنان، وقطرة العين، وحقنة الدواء.. البعض يقول: إنها مفطرة.. والبعض الآخر يقول: إنها تفسد الصيام.. والبعض لا يرون حرجًا في ذلك.. ما رأي فضيلتكم؟

الجواب [رقم: 69]:

معجون الأسنان هو بمثابة (السواك) وقد أجاز الفقهاء نقلاً عن الصحابة، نقلاً عن رسول الله ﷺ أن (يستاك) الإنسان أول النهار وآخره، بل وهناك نص عن النبي عليه الصلاة والسلام ورد في البخاري عن عامر بن ربيعة يقول: رأيت النبي يستاك وهو صائم[ذكره البخاري معلقًا (كتاب الصيام /باب سواك الرطب واليابس للصائم) (3/31)، وأسنده أبو داود (2364)، والترمذي (725) بإسناد فيه ضعف]. والمعجون بمعنى ذلك، ولا حرج فيه، ولكن ينبغي أن يتحرز الصائم خشية أن يدخل شيء إلى حلقه.. ولو غلبه ذلك فلا يفطر.

أما قطرة العين والأذن فلم يرد بشأنها نص بدعوى أنها من المفطرات.. وقال البعض: إنه إن وجد طعمها في حلقه يفطر.. والراجح عندنا أنه يجوز الكحل والقطرة في العين والأذن متى كان ذلك ضروريًا.

***

قضاء الصيام في حال المرض والإطعام

السؤال: ماذا يفعل المريض أو من يشق عليه الصيام؟

الجواب [رقم: 70]:

المسألة الثانية: قضاء الصيام الذي فات عليك في حال مرضك. فالله يقول: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[سورة البقرة، الآية: 184]. وقد رخص للرجل الذي لا يستطيع الصوم إلا بمشقة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه بعد ذلك. وإطعام المسكين يقدّر بعشرة إلى عشرين ريالاً قطريًّا.

فهذا أكثر ما يطعم به، فإن زاد على ذلك فله أجره، ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [سورة البقرة، الآية: 197].

هذا جواب ما وقع عنه السؤال. وأنت أكرم من يوصف له.

والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

الإطعام عن المريض الذي لا يرجى شفاؤه وحكم التقديم أو التأخير وإخراجه دفعة واحدة

السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على النبي الكريم.

﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون[سورة النحل، الآية: 43].

السؤال الأول: يقال عن المريض الذي لا يرجى شفاؤه، إنه يطعم بدل الصيام... هذا الإطعام الذي يلزمه، فهل يجوز له التقديم أو التأخير فيه بدلاً من إعطاء المد يوميًّا... كأن يقدم جميع الأمداد اللازمة في مطلع رمضان دفعة واحدة، أو يؤخرها إلى انتهاء رمضان...؟

السائل: عبدالرحمٰن كوليبالي مدير مدرسة الرشاد ص. ب 388 كوروغو جمهورية ساحل العاج (غرب إفريقيا)

الجواب [رقم: 71]:

إلى فضيلة الشيخ عبدالرحمٰن كوليبالي - مدير مدرسة الرشاد - كوروغو. 25/9/1404هـ، (24/6/1984م).

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فقد سألت عن مسائل:

المريض الذي يشق عليه الصيام ووجب عليه الإطعام، هل يجوز تقديمه جملة؟

1– هذا المريض الذي وجب عليه الإطعام بدل الصيام. هل يجوز تقديمه بجملته عند مستهل رمضان أو عند انتهاء رمضان بدلاً من المد اليومي؟

والجواب: إنه متى كان هذا المريض يشق عليه إعطاء هذا الطعام يوميًّا فإنه يجوز له تقديمه بجملته؛ لكونه ليس مشروطًا عند كل يوم، بل متى أخرجه بجملته فقد وقع في الصحة والإجزاء، سواء قدمه في أول رمضان أو آخره لنهاية رمضان.

***

إفطار الجنود المرابطين في الخنادق إذا شق عليهم الصيام

السؤال: هل يجوز الإفطار للجنود المرابطين في حالة الاستنفار؟

الجواب [رقم: 72]:

أرفع لسمو الفاضل الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ولي العهد، حفظه الله بالإسلام وأسبغ عليه سوابغ النعم والإحسان. وبعد:

فقد وصل لي سؤال عن الجنود المرابطين وفي حالة استنفار، وإنهم يصيبهم مشقة زائدة على المعتاد من إطالة وقوفهم في الشمس أو في داخل الخنادق مما يزيد في مشقة الصيام عليهم فوق المعتاد، وأن الجواب يتمشى مع فحوى السؤال، فهؤلاء الذين يعانون المشقة الزائدة من الحفريات أو من الخنادق أو في الشمس فهذا أو أمثاله من العذر المبيح للفطر والقضاء من عدة أيامٍ أخر؛ لأن من قواعد الشرع أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وقد أفتى الفقهاء الحصّادين للزرع بأن يفطروا ويقضوا بدله من أيامٍ أخر، وكذلك الدواسون الذين يدوسون الزرع على الدواب فقد رخص لهم في الفطر لضرورة ما يقاسونه من الجهد والمشقة، ومثله الغواصون؛ فقد أفتى العلماء بالفطر في عملهم حتى لا يخسروا وقت كسبهم، ومثله فطر الحامل والمرضع فقد أفتوهما بالفطر ويقضون بدل ما أفطروا من أيام أخر، وهذا كله يتمشى مع قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[سورة البقرة، الآية: 185] إذ مشقة هؤلاء تزيد على مشقة الحامل والمرضع والشيخ والكبير وسائر ما ذكرنا من مشقة الحصادين والدواسين.

أحببت تعريفكم بذلك للعلم به وتعميمه على الجهات المختصة، وأنتم أكرم من يوصف به، والباري يحفظكم.

التاريخ: 5/9/1406هـ، الموافق: 13/5/1986م
عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

حكم السفر في رمضان لركاب البحر للغوص بغرض الكسب

السؤال: ما حكم السفر في رمضان للذين يعملون في الغوص وهل الانغماس في الماء يفسد الصوم؟ وما أحكام قصر الصلاة في السفر؟

الجواب [رقم: 73]:

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها السائل قد بلغني ما نشرت من طلب الإفتاء في جواز السفر في رمضان لركاب البحر الذين يغوصون فيه للاكتساب منه.

والثانية: عن الانغماس في الماء وهل يبطل به الصيام أم لا؟ ولم أزل أترقب كلام الأكابر فيها ولم أظفر من ذلك بشيء، فقلت على قدر قليل علمي، فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمني:

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، لا يخفى على كل مسلم عاقل أن الله أرسل رسوله محمدًا بالبيان وأنزل عليه القرآن فيه آيات للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، وقد أوجب فيه على عباده المؤمنين الصيام وجعله أحد أركان الإسلام فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ إلى قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[سورة البقرة، الآيات: 183 – 185]، وهذا أمر حتمي وإيجاب على من شهد استهلال رمضان وهو مقيم بالبلد معافىً في الجسد أن يصوم حتمًا، ثم ذكر الرخصة في الإفطار لمن كان أهلاً لها من مسافر ومريض ونحوهما بشرط نية القضاء فقال: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[سورة البقرة، الآية: 185] وقد اتفق العلماء بحمد الله على جواز الفطر في السفر بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولم يختلف في ذلك أحد إذا كان السفر مباحًا سواء كان برًّا أو بحرًا شتاءً أو صيفًا على رواحل أو بواخر، وإنما وقع الاختلاف في التفضيل بين الفطر والصيام، وفي قدر مسافة السفر، وفي مدة الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر.

فذهب الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن الصيام أفضل لقول الله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ[سورة البقرة، الآية: 184] وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر أفضل لحديث: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» [رواه البخاري (1946)، ومسلم (1115) من حديث جابر رضي الله عنه] ولأحاديث أخر، والكل جائز بالاتفاق لما في الصحيحين عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم[رواه البخاري (1947)، ومسلم (1118) بنحوه]، وقد قال حمزة بن عمرو الأسلمي: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال النبي ﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحٌ عَلَيْهِ» [رواه مسلم (1121)] وقد صام النبي ﷺ في السفر وأفطر. وأما قدر مسافة السفر فبعضهم قال: إذا كان قاصدًا لمكان بُعده عن بلده أربعة برد جاز له القصر وهي ستة عشر فرسخًا أو يومان قاصدان لمسير الأقدام ودبيب الأجمال بالأحمال قصر وأفطر، حتى ولو قطع هذه المسافة في ساعة في نحو سيارات أو طيارة أو سفينة، وهذا مذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد، والبحر في ذلك كالبر، والاعتبار بالمسافة لا بجري السفينة فإنها مع مساعدة الهواء لها تقطع في الساعة الواحدة ما لا يقطعه البعير من البر يومًا، والمعتبر عندنا هو نية المسافر لا وجود حقيقتها فمن نواها قَصَر وأفطر حتى ولو رجع قبل استكمالها، لكنه يصوم ويتم في رجوعه فقط.

وقد خالفهم جملة من العلماء في عدم التحديد بذلك، منهم الموفق ابن قدامة صاحب المغني وأحد شيخي مذهب الحنابلة، قال في كتابه المغني: ولا أرى لما صار إليه الأئمة من التحديد بذلك حجة، وقد أباح الله القصر لكل من ضرب في الأرض، وقد سمى النبي ﷺ اليوم سفرًا في قوله: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» [رواه البخاري (1088)، ومسلم (1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] والتقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح الفطر والقصر لكل مسافر. ثم ذكر أدلة جلية من الأحاديث النبوية والآثار السلفية اكتفيت بالعزو إلى كتابه عن كتابتها حتى قال: وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به الأئمة، فقد قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرض له وهي عشرة فراسخ وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه. انتهى[المغني لابن قدامة (2/188 – 190)].

وفي صحيح مسلم عن أنس: أن النبي ﷺ كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين[صحيح مسلم (691)]، قال ابن حجر في فتح الباري: وهذا أصح حديث ورد في بيان ذلك، وأصرحه، ثم رد على من خالفه أو تأوله[فتح الباري (2/567)]، وبهذا أخذ شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: يجوز الفطر والقصر في كل ما يسمى سفرًا ولا يتقدر بمدة[انظر: مختصر الفتاوى المصرية (1/267)]، وقال ابن القيم في كتاب (الهدي النبوي): فصل: ولم يكن من هدي رسول الله ﷺ تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد ولا صح عنه في ذلك شيء، وقال: وقد صلى أهل مكة مع رسول الله بعرفة ومزدلفة قصرًا وجمعًا ولم يأمرهم بالإتمام مع قربهم من بلدهم، وهذا أوضح دليل في أن مسافة الفطر والقصر لا يتحدد بمسافة محدودة ولا بأيام معدودة[زاد المعاد (2/53، 216 – 217)].

وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان في معنى هذا الكلام:

فما حدد المعصوم قدر مسافة
لفطر ولا قصر فهل أنت مقتد؟

ومن لم يتخذ علماء المذاهب أربابًا بل قدم السنة والكتاب تبين له الراجح والصواب ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[سورة الأحزاب، الآية: 36]، ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا[سورة النور، الآية: 51].

وبهذا يتبين جواز فطر هؤلاء الذين يغوصون في رمضان إذا قصدوا مكانًا نائيًا عن البلد مسافة السفر بحيث يسمى قصدهم سفرًا ويستحب فطرهم فيه، وأي سفر أشد وأشق من سفر هؤلاء الذين يحملون معهم من الأطعمة والأشربة ما يمونهم شهرًا فأكثر حتى إنهم ليحملون معهم أشياء من أنواع الأدوية ما لا يحمله مسافر سواهم وما ذاك إلا لمشقتهم وعزمهم على تجديد سفرهم ومن نيتهم أن لا يرجعوا إلى أهلهم قبل نفاد زادهم أو قانون بلادهم. وليس غالب هؤلاء هائمين فإن الهائم هو راكب الطريق الذي لا ينوي مكانًا ولا بلدًا معينًا كسائح وطالب مغترب وإن لم يكن على طريق فهو راكب التعاسيف.

وإنما هؤلاء يقصدون أمكنة مشهورة لديهم باستخراج اللآلئ حتى إنهم ليتحدثون بقصدهم قبل الخروج من بلدهم.

ولا أرى عند من منع من السفر للغوص في رمضان دليلاً من كتاب ولا سنة ولا قول إمام من الأئمة، إلا أنه لم يعده مشهورًا فصار عنده منكرًا وزورًا، ولا عجب ممن أنكر فإن من جهل شيئًا عاداه، وقد خلق الإنسان جهولاً. ولو قيل باستحباب سفرهم مع شدة حاجتهم وحاجة من يمونون لكان له وجه؛ لحديث: «كفى المرء إثمًا أن يضيِّع من يمون» [رواه أبو داود (1692)، وأحمد (6495) وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ: «يقوت»].

ولا شك أن عملهم هذا من أطيب المكاسب، لولا كثرة ما يشوبه من الربا فيما بينهم.

فيا ليت شعري ما الذي أباح الفطر في مباح الأسفار من جميع الجهات وحرمه فيما يشبه الجهاد، وفي الحديث: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ» وأحسبه قال: «كَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ، وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ» [رواه البخاري (6007)، ومسلم (2982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ولو تدبر العاقل ما ذكر الله في آيات الصيام لعلم أن الله رحيم ذو امتنان، وذلك قوله: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[سورة البقرة، الآية: 185]، ولو كان السفر في رمضان حرامًا أو مكروهًا لكان التاجر أولى بالمنع من الفقير، مع أنه لم يقل بذلك أحد من المسلمين، والكلام في هذه المسألة لا يحتمل هذا البسط؛ وهل يخفى النهار، ولكن كما قال القائل:

عليك بالبحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقـر

لا أرى المانع لهم من السفر للغوص في رمضان في قديم زمنهم إلا هو فتوى عالم لديهم تمسكوا بها ووقفوا عندها، فالناس أعتى من أن يقفوا بأجمعهم لدى الفتوى، فإن كانت ثم موجودة لدى أحد فلتبدُ وتُنشر كي تُرى وتُنظر مع إعلام المنازع بأن الرد عند التنازع هو إلى كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، لقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[سورة النساء، الآية: 59] ولكنهم بسبب الأرزاق الدارة عليهم منهم من يتركه للتفرغ للعبادة ومنهم من يتركه إجماعًا وعادة، ومن قال بالمنع فهو مطالب بالدليل والمؤمن لدى الحق أسير.

وأما مدة الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر فالصحيح أنه إذا كان مقيمًا في مكان مدة غير معلومة ولا يعلم متى تنقضي حاجته منه بل لو أخبر عن مكان أوفق وأرفق منه انتقل إليه فهذا يقصر ويفطر حتى ولو أقام أشهرًا، فقد أقام النبي ﷺ بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة[انظر: الفتح الرباني (5/111) برقم (1227)، وأبو داود (2/27) برقم (1235)]، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال[أخرجه البيهقي في المعرفة، وعبدالرزاق في مصنفه (2/533)، وقال ابن حجر في الدراة: إسناده صحيح] الثلج بينه وبين القفول، وكل من جاز له القصر جاز له الفطر ولا عكس.

وأما إن نوى إقامة فوق أربعة أيام فهذا فيه الخلاف المعروف، فمذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد أن هذا حكمه حكم المقيم من الإتمام والصيام، وقال أبو حنيفة: إن نوى أقل من خمسة عشر يومًا قصر وأفطر، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: بل يقصر ويفطر إلى أن يرجع إلى بلده كما فعل رسول الله ﷺ حين أقام بتبوك عشرين يومًا وبمكة تسعة عشر يومًا، وفي كلها يقصر ولا يتم، ولم يقل للأمة: إذا زاد أحدكم على أربعة أيام فليتم، بل ولا ثبت عنه حرف واحد في ذلك مع أنه الشارع المقتدى به[هذه فتوى قديمة قبل عصر النفط في حدود عام 1361هـ/1941م].

***

حكم انغماس الصائم في الماء

الجواب [رقم: 74]:

وأما مسألة انغماس الصائم في الماء وهل يبطل به الصيام أم لا؟

فالجواب: قد ذكر فقهاء الحنابلة أن للصائم أن يغوص في الماء إذا كان لغسل مشروع أو تنظف، أو غرض من الأغراض، ويكره عبثًا ولا يفطر به من فعله، كالمبالغة في المضمضة والاستنشاق، كما ذكر ذلك في الإقناع والمنتهى، واختار صاحب المحرر أن غوصه في الماء كصب الماء عليه، ولهذا قال الإمام أحمد: للصائم أن ينغمس في الماء ما لم يخف أن يدخل مسامعه، لكن لو قدرنا دخول الماء حلقه في غوصه إكراهًا عليه فهو داخل تحت العفو لحديث: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَإِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» [رواه أبو داود (1235)، وأحمد (14139) من حديث جابر رضي الله عنه]وقد ثبت أصل الغسل عن رسول الله ﷺ كما في حديث عائشة وأم سلمة أنه «كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ» متفق عليه[رواه عبدالرزاق في المصنف (4339)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/217)، (5476)]، وفي صحيح البخاري عن أنس أنه قال: إن لي أبزَنًا أتقحم فيه وأنا صائم[رواه ابن ماجه (2043، 2045)، وابن حبان (7219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ...»، «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ...» والأبزن: حجر منقور شبه الحوض]. وقد كره الإمام مالك غوص الصائم في الماء، وما ذكر بعض من لا علم عنده من أن الأنف والأذن إذا دخلهما الماء فسد به الصيام فلا يخفى أن هذا قول بلا برهان، فقد ذكر الفقهاء أن الأنف والأذن من أحكام الظاهر فلا يضر ما دخلهما ما لم يصل إلى جوف الحلق.

هذا ما أقول، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

***

من أكل أو شرب ناسيًا أو ظانًا أن الفجر لم يطلع بعد

السؤال: ما حكم من أكل أو شرب ناسيًا، وما حكم من أكل أو شرب ظانًا أنه ليل فتبين أن الصبح طالع؟ [6/309]

الجواب [رقم: 75]:

من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، ولا قضاء عليه، ومن أكل أو شرب ظانًّا أنه ليل فتبين أن الصبح طالع، فصيامه صحيح ولا قضاء عليه. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَإِ، وَالنِّسْيَانِ» [رواه البخاري (1925 — 1926)، ومسلم (1109)].

***

السحور وفضله

السؤال: يتناول كثير من الناس قبل النوم عشاءهم، ولايستيقظون للسحور فما قولكم فيهم؟ [6/311]

الجواب [رقم: 76]:

إن تناول السحور وقت السحر سنة وفضيلة، وقد سماه رسول الله ﷺ بالغداء المبارك.

وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» [ذكره البخاري تعليقًا (3/30) (كتاب الصيام / باب اغتسال الصائم)].

وقال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» [أخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم (2457) مرفوعًا].

وقال: «تَسَحَّرُوا، وَنِعْمَ السَّحُورُ التَّمْرُ» [رواه ابن حبان في صحيحه (3467)، والطبراني في الأوسط (6434)، وأبو نعيم في الحلية (8/320) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه أحمد (11086) بإسناد قوي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].

وقال: «تَسَحَّرُوا، وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ» [رواه مسلم (1096)، وأبو داود (2343)، والترمذي (709)، والنسائي (2166) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه].

وقال: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» [رواه الطبراني في الكبير (6689) من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه].

وقال: «تَسَحَّرُوا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ الْغَدَاءُ الْمُبَارَكُ» [أخرجه الطبراني في الكبير (17/131 )(322) من حديث عقبة بن عبد السلمي وأبي الدرداء رضي الله عنهما، بإسناد ضعيف، لكن له شاهد صحيح عند النسائي (2164)، وأحمد (17192) من حديث المقدام رضي الله عنه بلفظ: «عَلَيْكُمْ بِغَدَاءِ السُّحُورِ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَدَاءُ المُبَارَكُ». ورواه ابن حبان في صحيحه (3476) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما].

فأرشد النبي ﷺ أمته إلى فضيلة السحور ولو بأقل شيء ليتقووا به على الصيام، وحتى يتعودوا التيقظ آخر الليل لذكر الله والدعاء والاستغفار والصلاة وتلاوة القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» [رواه البخاري (1923)، ومسلم (1095) من حديث أنس رضي الله عنه].

فأحب رسول الله ﷺ لأمته أن يستيقظوا في هذا الوقت المبارك، حتى يكون منهم من يصلي، ومنهم من يدعو، ومنهم من يستغفر، ومنهم من يتلو القرآن، وحتى لا يكونوا من الغافلين. فسماه السحور المبارك من أجل ذلك. ومن أجل أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. وهذه فضيلة عظيمة، ويتبعها ما هو أفضل منها، وهو شهود المتسحرين لصلاة الفجر في جماعة، والذي ورد في فضله أن رسول الله قال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيْامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ» [أخرجه مسلم (656) والترمذي وأبو داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه].

وقال: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ» [رواه مسلم (657) من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنهما].

أما الرجل الأكول النؤوم، الذي يملأ بطنه بعد العشاء من الطعام ولحوم الأنعام، ثم ينام عليه بعد العشاء، ويجعله سحورًا، ولعله لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، أو إلا وقت الضحى، فهذه خصلة ذميمة وعادة لئيمة، وكم فات رقاد الضحى من غنيمة، فإن التقلل من الأكل والتيقظ وقت السحر فضيلة. كما أن كثرة الأكل، وكثرة النوم رذيلة.

وفي وقت السحر تتنزل الرحمة، وتقسم الغنيمة على القائمين، فما يطلع الفجر إلا وقد حاز القائمون الغنيمة، وحمدوا عند الصباح السرى، وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.

***

صيام الجوارح عن المعاصي

السؤال: يمتنع بعض الناس في رمضان عن الطعام والشراب ولكنهم لا يمتنعون عن السب والغيبة والنميمة. فما قولكم فيهم؟ [6/317]

الجواب [رقم: 77]:

الصيام ليس عن مجرد الطعام والشراب فقط، إنما الصيام عن اللغو والرفث، ومن لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن السب واللعن، والغيبة والنميمة والكذب؛ لأن الصوم جنة، يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام، ورديء الكلام، وظلم الأنام، فإن سابه أحد أو شتمه أحد، وجب أن يلجم لسانه بلجام التقوى، وأن يتمسك من الورع بالعروة الوثقى، وليقل: إني صائم، كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام، وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان، ومن كان الصوم له جنة في الدنيا عن الآثام، كان له جنة عن النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

***

صوم يوم عرفة وفضله

السؤال: ما حكم صيام يوم عرفة؟ وما فضله؟ [6/370]

الجواب [رقم: 78]:

قال النبي ﷺ فيه: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى عشية يوم عرفة لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيْرٌ» [رواه الترمذي (3585) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما].

ولما سئل النبي ﷺ عن صوم يوم عرفة قال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ». رواه مسلم عن أبي قتادة[صحيح مسلم (1162)]، أي: يكفِّر الصغائر من الذنوب.

الدعاء والصيام

السؤال: ما الحكمة في إيراد آية ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ١٨٦[سورة البقرة، الآية: 186] بين آيات الصيام؟ [6/178]

الجواب [رقم: 79]:

قد ذكر العلماء الحكمة في وضع هذه الآية بين آيات الصيام. ذلك أن الصائم يتوسع في أفعال العبادة ويكثر من الدعاء، والتضرع إلى الله في كل أوقاته، وعند فطره وسحوره؛ لعلمه أن للصائم دعوة لا تُرد، فهي إرشاد من الله إلى الدعاء عند كل فطر، إذ الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين ٦٠[سورة غافر، الآية: 60] فسماه عبادة وتوعد سبحانه كل من استكبر عن عبادة ربه، وأعرض عن دعائه، بأنهم ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين أي: صغيرين حقيرين ذليلين.

فالدعاء عماد الدين، ونور السماوات والأرض، وسلاح المؤمن كما ثبت ذلك في الحديث[رواه أبو يعلى (439)، والحاكم في المستدرك (1812) من حديث علي رضي الله عنه بإسناد ضعيف]. وهو بمثابة الكنز المدخر لحالة الأزمات، والوقوع في الشدات، لأن من عرف الله في الرخاء، عرفه في الشدة «وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» [رواه الترمذي (2516)، وأحمد (2669) من حديث أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما]. فـ«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ» [رواه الترمذي (3370)، وابن ماجه (3829)، وأحمد (8748) عن أبي هريرة رضي الله عنه]، و«الله يحب الملحين بالدعاء» [رواه الطبراني في الدعاء (20)، والبيهقي في الشعب (1073) وضعفه]، فـ«أَلِظُّوا بِيَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ» [رواه أحمد (17596)، والنسائي في الكبرى (7669)، والطبراني في الدعاء (92) من حديث ربيعة بن عامر رضي الله عنه]. أي: الزموا وداوموا. و«مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» [رواه الترمذي (3373) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

الحرص على العبادة في رمضان والإهمال بقية السنة

السؤال: ما قولكم لمن يحرص على العبادة في رمضان ويهمل في بقية السنة؟ [6/362]

الجواب [رقم: 80]:

فما أحسن الحسنات بعد الأعمال الصالحات تتلوها، وما أقبح المنكرات بعد الأعمال الصالحات تمحقها وتعفوها، «فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ». رواه مسلم[رواه مسلم (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وروى مسلم أيضًا أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» [رواه مسلم (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه]، لأن الحسنة بعشر أمثالها، وفعله هذا يدل على رغبته في الخير، وفي العمل الصالح في رمضان وفي غير رمضان.

ولما قيل لبعض السلف: إن قومًا يتعبدون في رمضان، ولا يتعبدون في غيره، فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في رمضان، كن ربانيًّا ولا تكن رمضانيًّا.

ولما قال أناس من الصحابة: إنا إذا أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد. فقال لهم بعض من سمعهم من الصحابة: ويحكم! والله لا يسائلكم الله إلا عما افترض عليكم، وما أنتم إلا من نبيكم، وما نبيكم إلا منكم، والله لقد قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه، وإنكم تخطئون بالليل والنهار، وإن النوافل يكمل بها خلل الفرائض[رواه الطبراني في مسند الشاميين (1916)، والمروزي في قيام الليل (ص 33 – المختصر) عن عائشة رضي الله عنها].

***

كتاب الزكاة

أهمية الزكاة وحكم من يتقاعس عن أدائها

السؤال: ما رأيكم في الزكاة وتقصير كثير من المسلمين في أدائها؟

الجواب [رقم: 81]:

الزكاة إحدى دعائم الإسلام، ويجب على المسلمين أن يؤدوها، ويجب على الحاكم أن يأخذ الزكاة من الممتنع من أدائها بطريق الجبر، لأن الصحابة قاتلوا مانعي الزكاة، واعتبروهم مرتدين، ثم هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادة والصلاة. قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا[سورة التوبة، الآية: 103].

***

نصاب الزكاة

السؤال: ما هو نصاب الزكاة في الذهب والفضة؟

الجواب [رقم: 82]:

أجمع العلماء أن الزكاة تجب في خمس أواق ولا تجب فيما دونها، وحرر الفقهاء من جميع المذاهب أن زنة خمس الأواق مائة وأربعون مثقالاً، والوقية الواحدة ثمانية وعشرون مثقالاً، وحرر المثقال بأنه وزن اثنين وسبعين حبة من الشعير المتوسط، والريال الفرانسي ثمانية مثاقيل.

وقد ذكر الثقات من الصاغة بأن غش الريال هو السدس، وأسقطنا من كل ريال سدسًا فصار النصاب من الفضة الخالصة سبع عشرة ريالاً ونصف الريال، وصار النصاب من الأريل المغشوشة إحدى وعشرين ريالاً، والرطل اثنتا عشرة وقية، والوقية - بالضم وبالتشديد - أربعون درهمًا، والدرهم خمسون حبة شعير وخمسا حبة، وعشرة الدراهم سبعة مثاقيل، وزنة الوقية بالفرانسية ثلاثة أريل ونصف ريال، وزنتها للروبيات تسع روبيات إلا ربع روبية.

ونصاب الذهب عشرون مثقالاً، والمثقال[وزن المثقال: 4 غرامات وربع (4، 25 غرام)] وزن ثنتين وسبعين حبة من الشعير المتوسط، وهو قدر سبعة وعشرين زرًا من الحمران، ومن المشاخص قدر عشرين مشخصًا، وزنة الريال الفرانسي ثمانية مثاقيل.

فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وهي زنة ريالين ونصف فرانسة أو ستة روبيات وربع روبية.

وهي زنة عشر نيرات بحيث أن زنة النيرتين روبية وربع.

قسمة الريال الفرانسي بالدراهم الإسلامية بالتحرير تقريبًا تسعة دراهم، كذا قيل، قاله حسن بن حسين بن محمد بن عبدالوهاب.

زنة النيرتين روبية وغران.

زنة النيرة خمس من الفضة أو اثنين.

والدينار وزن إحدى وسبعين حبة شعير ونصف حبة.

***

طباعة الكتب الدينية والوقفية من الزكاة

السؤال: سماحة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود... رئيس المحاكم الشرعية بقطر سلمه الله. تحية صادقة، وبعد: فإني أرغب من سماحتكم التفضل بالإجابة على الأسئلة التالية، جزاكم الله خيرًا، وهي:

— هل يجوز طباعة الكتب الدينية والوقفية من الزكاة؟

— ما حكم جمع الطوابع التذكارية؟ وهل تجب الزكاة عليها؟ علمًا بأن قيمتها قد تصل إلى مائة ألف ريال رمزيًّا، وأما سعرها عند الهواة فيفوق ذلك كثيرًا؟

وإني إذ آمل من الله ثم منكم أن تنال رسالتي كل اهتمامكم وحرصكم، أثابكم الله وسدد خطاكم، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(25/4/1408هـ) المقدم ابنكم/ عبدالحميد بن عبدالعزيز

الجواب [رقم: 83]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم عبدالحميد بن عبدالعزيز.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخي: استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، سألت عن عدد من المسائل:

السؤال: هل يجوز طباعة الكتب الدينية والوقفية من الزكاة؟

إن الله سبحانه حصر صرف الزكاة في ثمانية أقسام في قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ[سورة التوبة، الآية: 60]، لكن بعض الفقهاء من علماء المذاهب حصروا سبيل الله في الجهاد والمجاهدين، والراجح بمقتضى الدليل أنه أعم وأشمل؛ لأن سبيل الله هو ما يعمل في سبيل طاعة الله؛ كبناء المساجد والقناطر والطرق والمدارس، ومنها طباعة الكتب الدينية لوقفها على العلماء وطلاب العلم، ومن دعاء النبي ﷺ إذا أصبح وإذا أمسى قال: «اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ، وَمَتِّعْنِي بِسَمْعِي، وَبَصَرِي، وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ» [أخرجه مالك في الموطأ (721/234) بلاغًا، وابن أبي شيبة في المصنف (29193) عن مسلم بن يسار مرسلاً]، مما يدل على أن سبيل الله هو السبيل الموصل إلى الله وإلى ثوابه وجنته.

***

زكاة الطوابع التذكارية

السؤال: سألت عن بيع الطوابع التذكارية؟

الجواب [رقم: 84]:

إذا اجتمع عند الإنسان منها قدر مائة أو أكثر فهي بهذه الحالة وبهذه الثمنية تعتبر قيمة الزكاة عليه على حسب قيم الطوابع التذكارية في السوق، فإن كان لا قيمة لها فلا زكاة فيها.

حكم صرف أموال الزكاة في بعض الأمور

السؤال: ما الحكم في صرف زكاة المال في الأموال والأمور التالية:

1– البضائع الراكدة ما بين سنتين إلى خمس سنوات دون أن يباع منها شيء، وبيع جزء يسير منها، والأمل في بيعها بسعر الشراء ضعيف؟

2– مخصص البضائع الراكدة والتالفة؟

3– مخصص مكافأة نهاية الخدمة للعاملين بالمؤسسة؟

4– إذا كان لي دين على شخص تغير حاله من يسر إلى عسر لا يستطيع سداد دينه وأصبح من مستحقي الزكاة، هل يجوز سداد دينه من الزكاة التي أنوي إعطاءه؟ وكيف؟

5– تخصيص مبلغ من زكاة المال وتأخيره في مساعدة أحد الأقارب على فترات بمبلغ مقرر كل فترة خلال سنة أو أقل؟

6– صرف زكاة المال للعاملين بالمؤسسة من موظفين وعمال رواتبهم الشهرية تتراوح ما بين 800– 3000 ريال وغالبهم أصحاب أسر؟

7– التبرع والمساهمة من زكاة المال في الأعمال الخيرية وبناء المساجد والمدارس ومنشآت خيرية أخرى؟

8– الديون المشكوك في سدادها؟

عبدالله علي العبدالله مؤسسة غرناطة التجارية التاريخ: 9/6/1407هـ، الموافق: 7/2/1987

الجواب [رقم: 85]:

الحمد لله: وردت إلينا بعض الأسئلة تتعلق بأمر الزكاة، وكانت إجابتها كالآتي:

1– ما حكم الشرع في زكاة البضائع الراكدة التي لا يباع منها شيء لعدة سنوات، وقد تباع بسعر ضعيف؟

الجواب:

إن هذه البضائع الراكدة تدخل مع البضائع الأخرى، وتقوّم آخر العام بحالتها حسب سعرها في السوق، ويخرج عن الجميع الزكاة، هذا إذا بيع منها شيء خلال السنة، أما إذا كسدت السنة فإنه لا يحسب عليها زكاة، وإذا بيعت في أي وقت يحسب عليها زكاة العام الذي بيعت فيه.

2– مخصص البضائع الراكدة والتالفة؟

الجواب [رقم: 86]:

هذا المخصص عبارة عن نسبة من المال تحسب في الميزانية، ولكنها أموال تعمل في حركة الشراء والبيع، ولذلك تحسب آخر العام مع باقي الأموال، ويخرج عليها الزكاة المفروضة.

3– مخصص مكافأة نهاية الخدمة للعاملين بالمؤسسة؟

الجواب [رقم: 87]:

هذا المخصص ما دام لم يسلم لأي عامل ولم تنتقل ملكيته له، فإنه يضم للمال العام للتجارة، ويخرج عليه الزكاة. أما إذا حجز في حساب صاحبه، فقد خرج من حوزة العمل إلى العامل.

4– إذا كان لي دين على شخص تغير حاله من يسر إلى عسر لا يستطيع سداد دينه وأصبح من مستحقي الزكاة، فهل يجوز سداد دينه من الزكاة؟ وكيف؟

الجواب [رقم: 88]:

والجواب: أنه يجوز إعطاء المعسر وغير القادر على سداد الديون من الزكاة باعتبار أنه من الغارمين، أحد الأصناف الثمانية المستحقين للزكاة، ويسلم له الزكاة، ويكون تصرفه فيها باختياره، فقد يسدد جزءًا من الدين وينفق الباقي على نفسه وعياله... المهم ألا تحدث مقاصة بأن تخصم من دينه نسبة ما تنوي إعطاءه له من الزكاة.

5– تخصيص مبلغ من زكاة المال وتأخيره في مساعدة أحد الأقرباء على فترات بمبلغ مقرر كل فترة خلال سنة أو أقل؟

الجواب [رقم: 89]:

الجواب: يجوز توزيع الزكاة على فترات زمنية بدلاً من أن تدفع دفعة واحدة كي يستفيد منها مستحقها على فترات...

6– صرف زكاة المال للعاملين بالمؤسسة من موظفين وعمال وغالبهم أصحاب أسر؟

الجواب [رقم: 90]:

الجواب:يجوز صرف الزكاة للعاملين بالمؤسسة إذا كانوا من مستحقي الزكاة، ويتطلب ذلك معرفة أحوالهم وتفاوت درجة احتياجهم، ولا يصرف لهم الزكاة إذا ملكوا نصاب الزكاة، فهناك من هو أحق منهم.

7– التبرع والمساهمة من زكاة المال في الأعمال الخيرية كبناء المساجد والمدارس؟

الجواب [رقم: 91]:

الجواب: يجوز إخراج جزء من زكاة الأموال في بناء المساجد والمدارس، خاصة في البلدان الفقيرة والتي هي في حاجة إلى بناء مسجد أو تعميره أو بناء مدرسة أو مستشفى للعلاج.

8– الديون المشكوك في سدادها.

الجواب [رقم: 92]:

الجواب: لا تدخل في حساب المال الذي يخرج عنه الزكاة؛ لأنها لم تقبض وقد لا تسدد مستقبلاً، وإذا تم تسديدها فيدفع عنها الزكاة لعام واحد؛ العام الذي دفعت فيه.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

مسائل تتعلق بالزكاة

الحمد لله: وردت إلينا بعض الأسئلة تتعلق بموضوع الزكاة.

الجواب [رقم: 93]:

والجواب: بالنسبة لزكاة الأموال المؤجرة، فالزكاة تكون في غلتها، فإذا اجتمع عند الإنسان أربعون ألفًا أخرج زكاتها ألفًا، أو كانت عشرون ألفًا، وقد دار عليها الحول، فزكاتها 500 ريال، أي: ربع العشر، في كل مائة ريالان ونصف، وإذا بقيت الأملاك غير مؤجرة فلا زكاة فيها..

بالنسبة للأراضي الراكدة التي كسدت، فإنه ليس فيها زكاة حتى يبيعها، ثم يخرج زكاة سنة واحدة.

بالنسبة للأثاث والتركيبات في المحلات لا زكاة فيها؛ لأنها تابعة لتأسيس المحل، والسيارات المستعملة للركوب وخدمة المحل، فإنه لا زكاة فيها، كما أسقط النبي ﷺ الزكاة في سنوات الحرث.

أما المعدات الصناعية والإنشائية، فهذه يجب فيها الزكاة، بحيث تقوَّم بسعر يومها.

أما بالنسبة لصرف الزكاة للإنسان المعسر أو قريب فقير، بحيث يعطى من الزكاة مبلغًا، يستطيع به إنشاء مشروع يغنيه عن الحاجة، فالجواب أن ذلك جائز، وتبلغ الزكاة مبلغًا في الصحة والإجزاء، وكذلك يجوز صرف الزكاة للمساهمة في الأعمال الخيرية كالمساجد والملاجئ والمستشفيات والجمعيات الخيرية؛ لأن هذا يعد في سبيل الله.

أما بالنسبة لصرف مبلغ من الزكاة للعاملين في المؤسسة من قبل مالكها كما أعده لهم، فهذا جائز متى كانوا في حالة الفقر ولم يستعملها وقاية عن زكاته الواجبة.

أما ما يعطى لبعض الأشخاص، كمندوبي الشركات لأجل تآلفهم واستمرار علاقتهم بالمؤسسة، فإني لا أراه محرمًا متى كان على سبيل الهدية لا الزكاة. هذا ما لزم... كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

زكاة عقار الاستثمار

السؤال: صاحب الفضيلة المحترم الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.. الموقر رعاه الله وحفظه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أنكم تتمتعون بكامل الصحة والرفاهية، فضلاً لا أمرًا، أرجو تنويرنا عن المسائل الآتية:

— إذا كان للإنسان عقار للاستثمار، واجتمع من إيجاره مبلغ، وقبل مرور الحول على هذا المبلغ، اشترى عقارًا أيضًا للاستثمار، فهل على هذا المبلغ زكاة؟

وفقكم الله وحفظكم.

المخلص: حمد العبدالله

الجواب [رقم: 94]:

13/6/1403هـ.

إلى الفاضل الدكتور حمد العبدالله، حفظه الله.

وسلام عليكم ورحمة الله... وبعد، فإنني استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، خصوصًا ما أشرت إليه من السؤال عن المسائل التي أحدها:

السؤال: إذا كان للإنسان عقار للاستثمار، واجتمع من إيجاره مبلغ، وقبل مرور الحول على هذا المبلغ، اشترى عقارًا أيضًا للاستثمار، فهل على هذا المبلغ زكاة؟

الجواب: أنه متى قبض غلة هذا المال عند دوران الحول فإنه يجب عليه إخراج زكاته بالغًا ما بلغت؛ لقوله سبحانه: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[سورة الأنعام، الآية: 141]، فلا تفوت زكاته بشرائه عقارًا آخر.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

تدخل الدولة لتنظيم الزكاة

السؤال: قلت لفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود:

هل تعتقد أن الناس يخرجون زكاتهم طبقًا لما أمر الله.. وألا ترى ضرورة تدخل الدولة لتنظيم هذه الرسالة؟

من لقاء صحفي مع مجلة الفجر القطرية في 19 رمضان 1396هـ (13/9/1976م).

الجواب [رقم: 95]:

ارتسمت علامات الانفعال على وجه الشيخ الوقور.. وقال في نبرة حادة قاطعة:

الناس لا يخرجون زكاتهم.. الناس لا يخرجون زكاتهم.. والدولة مقصرة في عدم إلزام الناس.. إن واجب الدولة أن تتدخل.. وواجب الدولة أن تلزم الناس بما تقاعسوا عنه.. وقد ناشدت سمو الشيخ خليفة - أمير البلاد[أمير دولة قطر السابق] - بضرورة التدخل في هذا الأمر.. ولا أكتم هذا.. قال لي: ينبغي أن نشكل لجنة.. وآخر مرة قال لي: لا بد أن نبحث هذا الموضوع معك وتقول لنا رأيك.

كان الرسول عليه الصلاة والسلام ومن بعده خلفاؤه رضي الله عنهم يبعثون بعمالهم ليأخذوا زكاة المسلمين.. كانوا يأخذونها من كل مسلم مكلف.. فما بالك بهؤلاء الذين يملكون الملايين ولا يدفعون زكاتها، بل ولا يجدون من يجمعها منهم، أو يحضهم على أدائها.. أليس هذا هو حق الله.. هناك مشاريع ضخمة وشركات كبيرة وعقارات بلا حدود.. إن ترك هذه الشركات بهذه الملايين التي تتعامل بها دون أخذ زكاة منها تقصير في الواجب.. ومن ناحيتي فسوف أقوم في كل خطبة جمعة بتبصير الناس إلى الخطأ الفادح الذي يرتكبونه بعدم أدائهم للزكاة.. هذا الموضوع لا هوادة فيه.. إنه حق الله.. وهذا هو شرعه.. والسكوت عنه ذنب يحمله كل مسؤول..

ورأيي أيضًا أنه لا بد من أن نضع قانونًا لتنظيم هذه المسألة.. بل ولا بد من أن تصدر الدولة قرارًا بتأسيس صندوق للزكاة.

***

إخراج زكاة الفطر نقدًا

السؤال: هل يجوز دفع النقود في زكاة الفطر؟

الجواب [رقم: 96]:

في الحديث عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نعطيها زمن النبي ﷺ صاعًا من بر، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط.

وإنما خص هذه الأصناف بالذكر؛ من أجل أنها عمدة ما يقتات به في زمنهم وبلدهم، فالحضر من سكان المدينة عمدة قوتهم هو التمر والبر والشعير، حتى إن البر النقي يعد من القليل، وقد توفي رسول الله ﷺ ودرعُه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير. أما الأعراب في زمنه؛ فإنه يوجد عندهم الأقط، فخص هذه الأصناف بالذكر؛ لكونها غالب ما يقتات في زمنه.

وليس الحكم مقصورًا على الاختصاص بها وعدم الاجتزاء بغيرها؛ فإن الحكم يدور مع علته، وفطرة الصائم تتمشى على غالب قوت بلده فالتفطير بالأرز جائز لسكان هذا المكان؛ كما هو مذهب الشافعي، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى جواز إخراج القيمة إذا كانت أنفع للفقراء، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام[يرى ابن تيمية أن إخراج القيمة في زكاة الفطر وغيرها يجوز للمصلحة الراجحة. قال في مجموع الفتاوى (25/79): «وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع: هل يجوز مطلقًا؟ أو لا يجوز مطلقًا؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة، أو المصلحة الراجحة؟ على ثلاثة أقوال - في مذهب أحمد وغيره - وهذا القول أعدل الأقوال» يعني القول الأخير. وقال في موضع آخر (25/82): «وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك، فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز، وعند أبي حنيفة يجوز، وأحمد قد منع القيمة في مواضع، وجوزها في مواضع، فمن أصحابه من أقر النص، ومنهم من جعلها على روايتين. والأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه... إلى أن قال رحمه الله: «وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به»]، كما جوزوا أخذ القيمة في زكاة الإبل والغنم، وقد رأينا الفقراء في هذا الزمان، وفي خاصة هذا المكان يفضلون النقود على الطعام؛ لحاجتهم إلى النقود في شراء الكساوي والمؤن ليوم العيد، ولا يقبلون الطعام على اختلاف أنواعه إلا بطريق الكراهية والإغماض، وقد يبيعونه بأقل من قيمته للحصول على النقود كما هو معروف ومشاهد.

***

كتاب الحج والعمرة

المنافع التي يشهدها الحجاج في الحج

السؤال: ما هي المنافع التي يشهدها الحجاج في قوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ؟ [7/6]

الجواب [رقم: 97]:

يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ٢٧لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير٢٨[سورة الحج، الآيتان: 27 – 28]. وهذه المنافع التي يشهدها الحج شاملة لمنافع الدنيا، ومنافع الآخرة.

فمن منافع الدنيا أن يلقى المسلمون بعضهم بعضًا في بلد من دخله كان آمنًا، فيتعارفون ويتعاشرون ويتواصلون ويتناصحون، فيتفكرون في علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، وإزالة الإحن والشحناء من بينهم.

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أمراء الأمصار وسائر العمال بأن يلقوه في موسم الحج فيسأل كل واحد عما تولاه من شؤون رعيته، وما تحتاجه من الإصلاح والتعديل.

ومن المنافع المتاجرة بينهم في الموسم وغير ذلك.

وأما منافع الآخرة، فما يحصل لهم من المغفرة لمن أخلص نيته، وأصلح عمله، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الحجاج والعمار وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن أنفقوا أخلف الله عليهم» رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما[رواه ابن ماجه (2892)، والطبراني في الأوسط (6311) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند ضعيف. ورواه النسائي (2625)، وابن خزيمة (2511)، وابن حبان (3692) بلفظ: «وَفْدُ اللهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي، وَالحَاجُّ، وَالمُعْتَمِرُ»، وسنده صحيح].

***

المقصود بشرط الاستطاعة في الحج

السؤال: ما المقصود بالاستطاعة في الحج؟ [7/7]

الجواب [رقم: 98]:

يقول الله سبحانه: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً[سورة آل عمران، الآية: 97] وعن أنس قال: قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». رواه الدارقطني وصححه الحاكم[سنن الدارقطني (2446)، ومستدرك الحاكم (1613)]. والراجح إرساله.

وشَرَط الفقهاء الأمن على نفسه من خوف الهلاك.

***

الحج في الأمم الماضية قبل الإسلام

السؤال: هل فُرض الحج على الأمم الماضية قبل الإسلام؟ [7/7]

الجواب [رقم: 99]:

الحج من الشرائع القديمة؛ فكان الأنبياء وأممهم المطيعون لهم يحجون البيت الحرام، كما في الحديث: أن النبي ﷺ مر بوادي عسفان فقال: «يا أبا بكر، لقد مر بهذا الوادي هود وصالح على بكرات خطمهما الليف يحجون هذا البيت العتيق» [أخرجه أحمد (2067)، والبيهقي في شعب الإيمان (3714) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده ضعف].

وقال: «لقد مر بالروحاء سبعون نبيًّا فيهم نبي الله موسى يؤمّون هذا البيت العتيق» [أخرجه أبو يعلى (4275) من حديث أنس رضي الله عنه بسند ضعيف]، وكانت قريش تحجه قبل الإسلام، غير أنهم أدخلوا فيه عبادة الأصنام؛ فهذا البيت هو أول بيت أسس في الأرض لعبادة الله عز وجل، وللصلاة فيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين ٩٦فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين ٩٧[سورة آل عمران، الآيتان: 96 – 97].

وفي صحيح البخاري عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن أول بيت وضع في الأرض؟ قال: «المَسْجِدُ الحَرَامُ». قلت: ثم بعد هذا؟ قال: «المَسْجِدُ الأَقْصَى» قلت كم بينهما؟ قال: «أَرْبَعُوْنَ عَامًا» [رواه البخاري (3366)، ومسلم (520)].

***

أول حجة في الإسلام وسبب تأخر النبي ﷺ بالحج

السؤال: في أي سنة فرض الحج؟ ومَن أول من حج بالناس؟ ولماذا لم يبادر النبي ﷺ بالحج؟ [7/8]

الجواب [رقم: 100]:

فتح النبي ﷺ مكة عام ثمانية من الهجرة. وفي السنة التاسعة أمر النبي أبا بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس، وكان عدم مبادرته إلى الحج في هذه السنة، أن الناس قد اعتادوا أعمالاً منكرة يعملونها في الطواف؛ وذلك أنهم يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف بها. فأنزل الله سبحانه: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون[سورة الأعراف، الآية: 28]. ولهذا أرسل النبي ﷺ عليًّا بأن ينادي في الناس بسورة براءة، وألاّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فأجله إلى مدته ﴿أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[سورة التوبة، الآية: 3][انظر: صحيح البخاري (469)]، وروى مسلم في صحيحه عن جابر: مكث النبي ﷺ تسع سنين لم يحج[صحيح مسلم (1218)].

***

الإحرام من جدة لغير أهلها

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

الرجل الذي سافر إلى جدة، ثم بدا له أن يعتمر منها أو يحج فهل يصح إحرامه من جدة؟

الجواب [رقم: 101]:

فالجواب: أنه يصح إحرامه من جدة، لأنها ميقات لكل من أتى عليها من غير أهلها بالنص، ولنا رسالة في ذلك مطبوعة، نتحفكم بذلك إن شاء الله (يمكن الرجوع إليها في موقع الشيخ على الشبكة ضمن رسالة «أحكام منسك حج بيت الله الحرام»).

***

ماذا تفعل المرأة إذا حاضت قبل الإحرام

السؤال: ماذا تفعل من تنوي الإحرام إذا حاضت أو نفست؟ [7/8]

الجواب [رقم: 102]:

خرج رسول الله ﷺ حتى أتى ذا الحليفة - وهي ميقات أهل المدينة - فنزل بها وبات بها تلك الليلة، فولدت أسماء بنت عميس - زوجة أبي بكر - فأرسلت إلى رسول الله ﷺ. فقالت: كيف أصنع؟ فقال لها رسول الله: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» [رواه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما]. فدل هذا الحديث على أن الحائض والنفساء تغتسل للإحرام وتحرم كما يحرم سائر الناس، وإحرامها صحيح. قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة.

***

صفة الإحرام وحكم التلفظ بالنية

السؤال: ما هي صفة الإحرام بالحج؟ وهل يلزم التلفظ بالنية؟ [7/9]

الجواب [رقم: 102ب]:

في الحديث أن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل وتطيب. قالت عائشة رضي الله عنها: طيبت رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت[رواه البخاري (1539)، ومسلم (1189)]. فطيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه؛ كدهن الورد، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه.

صفة الإحرام بالحج:

ثم إن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل؛ فأحرم في إزار ورداء، وصلى ركعتين بعد إحرامه؛ والإحرام هو نية الدخول في نسك الحج والعمرة، ولا يلزمه التلفظ بالنية، بل لو أحرم كما يحرم الناس صح، ويصير متمتعًا ولو لم يتلفظ بنية الحج، وهذا هو الظاهر من فعل الصحابة رضي الله عنهم.

***

من أحرم بعمرة ونيته الحج بعد ذلك

الأخ الفاضل/ الشيخ حسن بن عبدالله مراد - حفظه الله تعالى -.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، سألتني عن الرجل ينوي العمرة ويحرم بها ومن نيته الحج بعد فراغه من عمل العمرة وهل هذا عليه فدي[الفدي كما تقوله العامة: هو الهدي، أي: ذبح النسك للمتمتع والقارن] أي ذبح نسك أم لا؟

الجواب [رقم: 103]:

فالجواب: أنه من بعد مراجعة النصوص وأقوال الفقهاء يتبين أن من أحرم بالعمرة ومن نيته الحج في سفرته تلك فإنه متمتع يجب عليه الهدي، أي: ذبح شاة، وذلك بإجماع العلماء، سواء تكلم بنية المتعة أو لم يتكلم، وإنما وجب عليه النسك من أجل الترفه بين الحج والعمرة بإباحة الطيب والجماع وسائر المباحات، ومن أجل أنه جمع نسكين في سفرة واحدة، ولهذا يقول الفقهاء في صورة التمتع: وذلك بأن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم يفرغ من أعمالها ثم يحرم بالحج في عامه ويجب عليه نسك، وهذا هو الذي أمر به النبي ﷺ أصحابه كما في حديث جابر حيث قال لهم: «اجعلوا إحرامكم للعمرة وحلوا» [من حديث جابر الطويل رواه مسلم في صحيحه] ففعلوا ذلك، فلما طافوا وسعوا وقصروا أحلوا من إحرامهم ولبسوا ثيابهم وجب عليهم النسك، ومن لم يجد النسك فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فهذا هو الأمر الصحيح بلا خلاف، أما ما ذكرت عن فتوى الشيخ محمد بن مانع بسقوط الدم في مثل هذه الصورة فلا أعرف عن حقيقته شيئًا، أحببت تعريفك بذلك للعلم به.

(9/11/85هـ، 1/3/66م)
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

معنى التلبية

السؤال: ما معنى التلبية بالحج؟ [7/9]

الجواب [رقم: 104]:

معنى «لَبَّيْكَ» أي: ملازمًا لطاعتك، مجيبًا لدعوتك، وهي من ألطف التحيات التي يستجيب بها المدعو لمن دعاه، فإنك إذا دعوت شخصًا فأجابك بقوله: «لَبَّيْكَ» فإن محبته تتغلغل في قلبك. وأصل التلبية: أن الله سبحانه لما أمر نبيه إبراهيم عليه السلام ببناء البيت؛ فامتثل أمر ربه طائعًا، وساعده ابنه إسماعيل مسارعًا. فلما فرغا من بنائه، أمره بأن ينادي في الناس بالحج. فقال: يا رب صوتي ضعيف فمن ذا الذي يجيبني؟ فقال الله: عليك الصوت، وعلينا البلاغ. فصعد جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس، إن الله قد بنى لكم بيتًا فحجوا[ذكره الفاكهي في أخبار مكة (1/67) بمثل معناه]. فالحاج في تلبيته يجيب نداء ربه لما دعاه إلى بيته، ويقول: لبيك اللَّهم لبيك.

***

حكم حج الصبي وكيفيته

السؤال: هل حج الصبي غير البالغ جائز؟ وهل يجزئ عن حجة الإسلام؟ وما كيفية إحرامه وحجه؟ [7/10]

الجواب [رقم: 105]:

سار رسول الله ﷺ في طريقه - يعني في الحج - حتى لقي ركبًا بالروحاء قال: «من القوم؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أنا رسول الله» فرفعت امرأة إليه صبيًّا فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولكِ أجر» [أخرجه مسلم (1336) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

فدل هذا الحديث على استحباب إحرام الصبي للحج بحيث يحرم عنه وليه، ويطوف به، ويسعى به، ويرمي عنه، ويذبح عنه، إن كان إحرامه بالتمتع، وإن إحرامه له هو من باب الاستحباب لا الوجوب، وإنما شرع للتمرين على العبادة، لكن هذا الحج لا يجزيه عن حجة الإسلام. اهـ.

***

حكم الاستنابة في الحج

السؤال: هل تجوز الاستنابة في الحج؟ [7/10]

الجواب [رقم: 106]:

دل حديث المرأة الخثعمية (التالي) على أن الرجل الكبير، والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان الطواف ولا السعي، ولا الزحام مع الناس؛ أنه يجوز لهما أن يستنيبا من يحج عنهما، فيُحْرِم النائب عنهما بالعمرة ومتمتعًا بها إلى الحج، ويفعل سائر ما يفعله الحاج.اهـ.

***

نيابة المرأة عن الرجل في الحج

السؤال: هل يجوز للمرأة أن تحج عن الرجل؟ [7/10]

الجواب [رقم: 107]:

سار رسول الله ﷺ في طريقه وهو حاج، فجاءت امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ» [رواه البخاري (6228)، ومسلم (1334) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

فدل هذا الحديث على جواز حج المرأة عن الرجل، وأن المرأة يجوز لها أن تحج عن أبيها أو عن أمها، كما يجوز للرجل أن يحج عن أبيه وعن أمه إذا كان قد حج عن نفسه.اهـ.

حكم النذر بالحج

السؤال: ما هو حكم النذر بالحج؟ [7/10]

الجواب [رقم: 108]:

سألته - يعني النبي ﷺ - امرأةٌ قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» [أخرجه البخاري (1852) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

فدل هذا الحديث على أن من نذر فعل طاعة من الطاعات، كمن نذر أن يحج، أو نذر أن يصوم عشرة أيام، أو أن يتصدق بكذا أو كذا، فإن هذا النذر نذر طاعة، قد أوجبه على نفسه، فلزمه الوفاء به. وقد مدح الله في كتابه الذين يوفون بالنذر. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ» [أخرجه البخاري (6700)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجه (2126) من حديث عائشة رضي الله عنها]. والنذر على الإطلاق مكروه، وليس بمحبوب؛ لأن الناذر يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» [أخرجه البخاري (6692)، ومسلم (1639) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]. لكنه متى ألزم نفسه بنذر الطاعة، من الحج أو الصيام أو الصدقة، وجب عليه به الوفاء، فإن مات قبل وفائه قضاه عنه وليه؛ لما في الصحيحين عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» [أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147) من حديث عائشة رضي الله عنها]. وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، فهو الذي يُقضى عن الميت، لأنه بمثابة الدَّيْن الذي يتعين المبادرة بقضائه.

***

ماذا يجتنب المحرم من اللباس

السؤال: ما الذي يجب على المحرم اجتنابه من اللباس في الإحرام؟ [7/11]

الجواب [رقم: 109]:

سئل النبي ﷺ: ماذا يلبس المحرم؟ فقال: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافِ، إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ» [أخرجه البخاري (1543)، ومسلم (1177) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الوَرْس: نبت أصفر يصبغ به (النهاية في غريب الحديث والأثر (5/173 – مادة: ورس)].

إن من سنة الإحرام؛ أن يتجرد الإنسان عن كل ما يعتاد لبسه، فلا يلبس القميص ولا العمائم ولا القلنسوة ولا السراويلات ولا الخفاف بل يتجرد عن كل مخيط، فيحرم في إزار ورداء، يشبهان أكفان الموتى، بحيث يتساوى في هيئة الإحرام الشريف والوضيع، والغني والفقير، والملك والمملوك، والوزير والصعلوك؛ كما يتساوون في الصلاة وفي الطواف وفي سائر العبادات، «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» [أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

***

تغطية المحرم رأسه أو حلقه لسبب صحي وما يتوجب عليه

السؤال: إذا اضطر المحرم لتغطية رأسه أو حلقه لسبب صحي فماذا يتوجب عليه؟ [7/12]

الجواب [رقم: 110]:

متى كان الإنسان يشتكي رأسه لعلة يجدها في نفسه إذا كشف رأسه، واحتاج إلى ستر رأسه؛ فإنه يجوز أن يستر رأسه، ويفدي بما يجزئ في الأضحية، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ». رواه البخاري[أخرجه البخاري (1814)، ومسلم (1201)]. ولا يبطل بذلك إحرامه ولا حجه، بل يكفيه عن حلق رأسه، أو تقليم أظفاره، أو لبس المخيط من القميص والسراويل، بأن يفديه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام. وكل هذا على التخيير، وحجه صحيح، أما تغطية الفم لسبب صحي فجائزة ولا تؤثر في إحرامه. اهـ.

***

حكم عصب المرأة جبهتها لتمنع مس الخمار لوجهها

السؤال: تستعمل بعض النساء عصابة على جبهتها لتمنع مس الخمار لوجهها، فهل يجب ذلك؟ [7/12]

الجواب [رقم: 111]:

أما المرأة فإن إحرامها في وجهها؛ فلا تلبس البرقع، ولا النقاب، فتزيل عن وجهها النقاب الذي يستعمله نساء الأعراب، إلا عندما يراها أحد من الرجال؛ فإنها تسدل الخمار على وجهها.

تقول عائشة: كانت إحدانا تكشف وجهها في إحرامها، فمتى رأينا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها [أخرجه أبو داود (1833)، وأحمد (24021) بإسناد ضعيف]. فإن انتقبت المحرمة – أي: لبست النقاب على وجهها - وجب عليها أن تفدي عنه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، ولا يجب عليها أن تستعمل العصابة على جبهتها لتمنع بها مس الخمار لوجهها، فهذا لم يثبت فعله عن نساء الصحابة. ولو فرض أن الخمار مس وجهها من أجل هبوب الهواء، أو غير ذلك، فإن هذا لا يضرها ولا يقدح في صحة حجها.

***

ما تفعل المرأة إذا حاضت في الحج

السؤال: ما يجب على من ابتليت بالحيض في سفر حجها؟ [7/13]

الجواب [رقم: 112]:

دخل - النبي ﷺ - على عائشة وهي تبكي فقال: «ما يبكيك، لعلك نفست؟» أي: حضت، فأشارت إليه أي نعم. فقال: «إِنَّ هَذَا أَمَرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» [رواه البخاري (294)، ومسلم (1211) من حديث عائشة رضي الله عنها] وفي رواية قال: «أرفضي حجك واجعليها عمرة» أي: قولي لبيك عمرة وحجًّا. وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيَكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» [أخرجه مسلم (1211)، والشافعي في المسند (1005 — 1006)].

فالحيض خلقة وجبلة في المرأة خلقه الله لحكمة غذاء الجنين في البطن، كما أن صفار البيضة يغذي الفرخ حتى يتم. ولهذا الحامل لا تحيض، ومتى خرج منها الدم فإنه نقص في الحمل، ويعتبر بأنه دم فساد لا تترك له الصلاة ولا الصيام، وهو من مكملات المرأة، لكون المرأة التي تحيض هي المستعدة للحمل.

فالمرأة متى ابتليت بخروج الحيض عند الإحرام، أو عند قرب دخولها مكة، فإنها تدخل العمرة على الحج وتقول: لبيك عمرة وحجًّا. فتصير قارنة ولا تطوف، ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، ويكفيها لحجها وعمرتها طواف واحد، وسعي واحد، ولو بعد الوقوف ورمي الجمار.

***

مكث الحائض أو النفساء في المسجد الحرام

السؤال: هل يجوز للحائض أو النفساء المكث في المسجد الحرام أو غيره من المساجد؟ [7/14]

الجواب [رقم: 113]:

رخص الفقهاء للحائض والنفساء متى توضأت وضوء الصلاة بأن تمكث في المسجد الحرام وغيره من المساجد متى أمنت تلويثه، لكون الوضوء يخفف من حدث الحيض والنفاس، وكذا الجنابة. وقالوا: إن الصحابة كانوا يمكثون في المسجد بعد الوضوء وهم مجنبون، ولهذا قال ناظم المفردات:

وبوضوء جنب أو حائض
أو نُفَسَا بلا نجيع فائض
لهم يجوز اللبث كالعبـور
في مسجد ذاك علـى المشهور

***

حكم الرمَل والاضطباع ومتى يشرع

السؤال: ما حكم الرمل والاضطباع في الطواف؟ وهل يشرع في كل طواف؟ [7/14]

الجواب [رقم: 114]:

في حديث جابر: ثم سار رسول الله ﷺ حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، فرمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة[أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه] - والرمل هو: العدو مع تقارب الخطى - واضطبع بردائه فجعله تحت إبطه الأيسر. وهذا الرمل والاضطباع إنما يشرعان في طواف القدوم من السفر فقط. وما عدا ذلك فإنه يطوف ماشيًا بسكينة ووقار.

***

اكتفاء المتمتع بسعي واحد لحجه وعمرته

السؤال: هل يصح للمتمتع أن يكتفي بسعي واحد عن حجه وعمرته كالقارن على حد سواء؟ [7/26]

الجواب [رقم: 115]:

لم يثبت عن النبي ﷺ أنه سعى بل اكتفى بسعي القدوم عن الحج والعمرة؛ لكون القارن يكفيه سعي واحد عن الحج والعُمرة. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم أن المتمتع يكفيه سعي واحد عن حجه وعمرته، كالقارن، إذ هما في الحكم سواء، وهذا معنى قول النبي: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما]. إذ الدخول هو أن يكتفى بسعي أحدهما عن الآخر، وهذا هو نفس ما فعله الصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، ثم طافوا مع النبي ﷺ طواف الإفاضة، ولم يعيدوا السعي اكتفاء بسعي العمرة. فاكتفاء الرسول ﷺ بسعي واحد عن حجه وعمرته، هو أمر مسلم لا خلاف فيه؛ لكونه قارنًا.

والصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، لم يثبت تخلفهم عنه لاستئناف سعي ثانٍ لحجهم.

وبذلك تظهر فائدة دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وكونه يكتفى بطواف أحدهما وسعيه عن الآخر.

ونحن لا نشك في صحة حج من اكتفى بسعي واحد عن حجه وعمرته في حج التمتع كالقارن على حد سواء، كما هو فعل الصحابة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم. وبما أننا نخشى أن يلقى هذا الحاج أحدًا من أهل العلم الذين لم يفقهوا في المسألة حق الفقه، فيقول له: بطل حجك، فيعود باللائمة على نفسه وعلى من أفتاه؛ لهذا فإن الأحوط في حق هذا أن يسعى مع طواف الإفاضة حتى يكون مطمئنًّا من اللائمة، مع العلم بأننا لا نشك في صحة حج من اقتصر على سعي واحد، والله أعلم.اهـ.

***

الجمع والقصر في منى وعرفة ومزدلفة

السؤال: ما هي السنة فيما يتعلق بالجمع والقصر للصلاة في منى وعرفة ومزدلفة؟ [7/15]

الجواب [رقم: 116]:

يجوز الجمع والقصر، ففي صفة حجة النبي ﷺ أنهم في اليوم التاسع توجهوا إلى عرفات، وصلى بهم رسول الله ﷺ الظهر والعصر قصرًا وجمعًا حتى أهل مكة. فكانوا يقصرون معه الصلاة بنمرة ومزدلفة ومنى.

***

فضل يوم عرفة وما يقال فيه

السؤال: ماذا ورد في فضل يوم عرفة؟ وهل ليوم عرفة دعاء مخصوص؟ [7/16]

الجواب [رقم: 117]:

إن يوم عرفة أفضل أيام الدنيا كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إلـٰـه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» [أخرجه الترمذي (3585) من حديث عبدالله بن عمرو بلفظ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ...»].

ويكثر من ذكر الله ويسبحه ويستغفره أو يسكت. إذ ليس لعرفة دعاء مخصوص، إذ المقصود الوقوف بها، لحديث «الْحَجُّ عَرَفَةُ» [أخرجه أبو داود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (3016)، وابن ماجه (3015)، وأحمد (18774) من حديث عبدالرحمٰن بن يعمر الديلي رضي الله عنه].

حكم النزول والمبيت بالمزدلفة

السؤال: ما الحُكم في نزول مزدلفة والدّفع منها، وما حكم حج من لم يتمكن من النزول بمزدلفة مضطرًّا؟ [7/18]

الجواب [رقم: 118]:

المبيت بمزدلفة إلى نصف الليل واجب في ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، وقال الإمام مالك: إن نزل بها ثم دفع، فلا شيء عليه، وإن لم ينزل بها فعليه دم.

وقال في الإفصاح: أجمعوا على أنه يجب البيتوتة بمزدلفة جزءًا من الليل في الجملة إلا مالك فإنه قال: هو سنة مؤكدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب.

قال: واختلفوا فيمن ترك المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل، هل يجب عليه دم أم لا؟

فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه في تركها مع كونها واجبة عنده.

وقال مالك: يجب في تركها الدم، مع كونها سنة عنده.

وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدم، مع كونها واجبة عندهما.

فهذه الأقوال مع اختلافها خرجت من هؤلاء الأئمة مخرج الاجتهاد منهم لكونهم لم يجدوا عن رسول الله ﷺ نصًّا صحيحًا صريحًا في تحديد الواجب من المبيت، وهل هو الليل كله أو نصفه؟ فاجتهد كل واحد منهم في القول فيه على حسب الحالة والحاجة في زمنهم؛ من قلة الحاج، وسعة المكان، والطرق، والقدرة على تصرف الإنسان بما يريد.

وإن الأمر الذي لا نزاع فيه هو أن النبي ﷺ نزل بمزدلفة بعد انصرافه من عرفة، فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين. ثم رقد حتى طلع الفجر فصلى بعدما تبين الفجر. ثم وقف بالمشعر الحرام؛ فذكر الله وهلله، وأخذ يدعو حتى أسفر جدًّا، ثم دفع من مزدلفة ومعه أصحابه حتى أتى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه، وحلق رأسه، ولبس ثيابه. وبعدما أكل من لحم هديه وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بالبيت طواف الحج.

فهذا أفضل ما يفعله الحاج، إذ إنه سنة رسول الله ﷺ الفعلية، وسيرة خلفائه وأصحابه، حتى في حالة الزمان وشدة الزحام؛ فإنه يكون أوفق وأرفق به، إذ إنه بعد انصرافه من مزدلفة يجد فجوة خالية من شدة الزحام بين المتعجلين والمتأخرين، فهو أفضل ما ننصح به، وندعو الناس إليه؛ لأنه لا يلزم أن يتيسر هذا التسهيل لكل أحد.

***

حكم حج من لم يتمكن من النزول بمزدلفة مضطرًا

السؤال: ما حكم حج من لم يتمكن من النزول بمزدلفة مضطرًا وتجاوزها؟

إن الحاج زمن النبي ﷺ وزمن الخلفاء وفي كل السنين السابقة يكونون قليلين، فلا يحج من أهل البلدان البعيدة أحد، ولا يحج من أهل البلدان القريبة إلا النادر.

أما الآن، وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات، وسهلت المواصلات بوسائل المراكب الهوائية، والبرية، ودكت عقبات التعويق، وقطع دابر قطاع الطريق، وشمل الناس الأمن المستتب في أنحاء الحرم، وسائر السبل المفضية إليه. فمن أجله توافد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون، وفي كل زمان يزيدون، فعظم الخطب، واشتد الزحام، وصار الناس بعد انصرافهم من عرفة يسيرون مقسورين غير مختارين، يتحكم فيهم قائد السيارة، وشرطة نظام المرور، بحيث يمنعون السائق من الوقوف والانصراف عن طريقه، لكون أرض مزدلفة مملوءة بالناس والسيارات، وربما تمادى بهم سيرهم حتى يصلوا إلى المسجد الحرام، فيطوفوا طواف الإفاضة وهم قد مروا بمزدلفة لكنهم لم يقفوا ولم ينزلوا بها.

ولأجله كثر السؤال عن حج هؤلاء، وهل هو صحيح أم لا؟

فالجواب: إننا على دينٍ كفيلٍ بحل مشكلات العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان. ولو فكرنا فيه بإمعان ونظر؛ لوجدنا فيه الفرج عن هذا الحرج. وقد قيل: إن الحاجات هي أم الاختراعات؛ لهذا يجب على العلماء الاجتهاد في تجديد النظر فيما يزيل عن أمتهم وقوع الخطر والضرر. والنبي ﷺ قد أرخص للظعن والضعفة بأن يدفعوا بالليل ويرموا الجمرة بالليل. كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة، وحديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس[صحيح البخاري (1676 - 1681)].

وكما ثبت الدفع إلى مكة من حديث عائشة قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة المزدلفة فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم[سنن أبي داود (1942)].

وكل الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن، لم تثبت تحديد المبيت بجزء من الليل، ولا تقييده بنصفه كما قيده الفقهاء بذلك، وترجم له البخاري في صحيحه، ما عدا أن أسماء بنت أبي بكر قالت للذي يُرحلها: هل غاب القمر؟ فقال: لا. فأخذت تصلي. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا. قال: فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: يا بني، إن رسول الله ﷺ أذن للظعن[صحيح البخاري (1679) والظعن أي: النساء]. ومثله قاله ابن عمر حين دفع من مزدلفة بأهله من الليل[صحيح البخاري (1676)]. وكلها لا تدل على تحديد ولا تقييد.

ونتيجة الجواب عن هذا السؤال: أن حج هؤلاء يعتبر صحيحًا بدون دم، إذ هو نظير ما فعلته أم سلمة زوج النبي ﷺ كما في حديث عائشة. قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم[سنن أبي داود (1942)]، وهو جنس ما فعله هؤلاء من دفعهم من مزدلفة إلى الجمرة، ثم إلى مكة؛ لطواف الإفاضة بطريق القسر غير مختارين. وهو غاية وسعهم، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

ولأن الحاج بعد انصرافه من عرفة يمر بمزدلفة في طريقه. وقد قال الفقهاء: إن حكم من مر بعرفة حكم من وقف بها في تمام حجّه، ومثله من مر بمزدلفة ولم يقف بها، ثم إن بقية مناسك الحج التي تفعل بعد الوقوف بعرفة، مثل المبيت بمزدلفة، والرمي، وطواف الإفاضة، كلها من الأمور التي رفع رسول الله ﷺ فيها عن أمته الحرج في تقديم شيء على شيء منها. فإنه ما سئل يوم العيد عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ» [رواه البخاري (83)، ومسلم (1306) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما].

وبما أنها حصلت الرخصة من النبي ﷺ في الدفع بالليل للظعن والضعفة بدون تحديد ولا قيد، فإن أكثر الناس في حالة هذا الزحام الشديد قد صاروا بمثابة الظعن والضعفة، بل أشد في حالة استعمال هذه الرخصة التي قصد بها التسهيل، فيسِّروا ولا تعسِّروا.

وقد قال الإمام مالك: إن المبيت بمزدلفة سنة مؤكدة.

وقال الإمام الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب.

وقال الإمام أبو حنيفة: ليس عليه شيء في تركه، قاله في الإفصاح.

وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة والشافعية المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة، قال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى، ولا مزدلفة، وقيل: أهل الأعذار كالمريض ومن له مال يخاف ضياعه، حكمه حكمهم في ترك البيتوتة. قال في الكشاف: جزم به الموفق، والشارح، وابن تميم. وهذا كله يرجع إلى كون الدين مبنيًّا على جلب المصالح ودفع المضار.اهـ.

***

هل دم المتعة والقران للنسك أم هو دم جبران؟ ومتى يذبح؟

السؤال: دَم المتعة والقران، هل هو دَم نسُك أو دم جبران؟ وهل يجوز ذبح النسك في اليوم السابع أو الثامن؟ [7/21]

الجواب [رقم: 119]:

قال الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[سورة البقرة، الآية: 196] فأوجب سبحانه ذبح الهدي على المتمتع من أجل ترفهه باستعمال المباحات من الطيب والنساء، ولبس الثياب فيما بين الحج والعمرة. كما أوجب الدم على القارن من أجل أنه قرن بين الحج والعمرة بعمل واحد، واكتفى عنهما بطواف وسعي واحد، لدخول الحج في العمرة إلى يوم القيامة. فوجب عليه من أجله ذبح نسك، وهو ما يجزئ في الأضحية.

وهذا الدم هو دم نسك وليس بدم جبران، لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد أو أيام التشريق كالأضحية ولا يسمى أضحية.

والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد، فقال في خطبته: «أي يوم هذا؟ أليس هو يوم النحر؟» قالوا: بلى[أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه].

ويسمى يوم النحر؛ لأن جميع المسلمين ينحرون فيه. فالحجاج ينحرون نسكهم، وأهل البلدان والأمصار ينحرون فيه أضاحيهم.

وذهب الإمام الشافعي: إلى أن دم المتعة والقران دم جبران، وبنى عليه القول بجواز ذبحه في اليوم السابع، أو الثامن، أي: قبل العيد، وخالفه كافة العلماء في ذلك. وحققوا بأنه دم نسك. وأنه لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد وأيام التشريق. والنبي ﷺ لما أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوا سعيهم عن العمرة؛ أنه أبدى الأسف في سوقه الهدي معه؛ والذي امتنع بسببه عن أن يحل من إحرامه. فقال: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً». فقام سراقة بن مالك بن جعشم، قال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه].فالرسول قد تمنى التحلل من إحرامه بعد سعيه، كما فعل أصحابه. لكنه مأمور بأن لا يحل منه حتى ينحر هديه الذي ساقه معه. يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[سورة البقرة، الآية: 196] فمحله الزماني هو يوم العيد، وأيام التشريق. كما أن محله المكاني هو منى، وفجاج مكة كلها منحر. فمن نحر دم التمتع قبل العيد؛ فهو كمن ذبح أضحيته قبل العيد، والنبي ﷺ خطب الناس فقال: «إنا نريد أن نصلي، ثم ننحر، من فعل هذا قد أصاب سنتنا، ومن فعل غير ذلك؛ فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله» [رواه البخاري (965)، ومسلم (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما]. فمن ذبح دم نسكه في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع، فإنما هو دم لحم وليس من النسك في شيء. ويسقط دم المتعة والقران بإحداثه سفرًا مسافة قصر فيما بين الحج والعُمرة، كأن يسافر إلى المدينة، أو إلى الطائف، أو إلى جدة، فيسقط عنه دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة. قال ناظم المفردات:

مسافة القـصر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقـران
سقوطه فواضح البرهان

وقد استغل هذا القول المطوفون، وأخذوا يشغلون به أذهان الناس ليتعجلوا به أكل اللحم، وانخدع لقولهم أكثر الغرباء الذين يجهلون أحكام الشرع.

وبعض العلماء غير المحققين عندما يرى عظمة مصرع الحيوان بمنى وكونه يركم بعضه بعضًا ولا يأكلها الناس، رأى أن يتوسط بالقول في إباحة ذبحه في اليوم السابع أو الثامن، كأنه بذلك يريد التخفيف من الذبح بمنى، وهذا من باب الاستشفاء عن الداء بالداء. إذ لو سُمح للناس بأن يذبحوا نسكهم في اليوم السابع أو الثامن فإن البيوت والشوارع والأزقة تكون منتنة مجيفة من إلقاء الجيف فيها والفرث والدم في وقت هي مغلقة بكثرة الحجاج، بحيث لا يتمكن عمال البلدية من دخولها لتنظيفها، فينجم عن ذلك سوء النتائج، من تعفن الهواء الذي قد ينجم عنه الوباء، والوقاية خير من العلاج.

إذا استشفيت من داء بداء
فأكثر ما أعلك ما شفاك

***

نحر النسك قبل العيد

السؤال: هل يجوز نحر نسك التمتع أو القران قبل العيد؟ [7/15]

الجواب [رقم: 120]:

لا يجوز، لحديث جابر والذي ورد فيه عن صفة حج النبي ﷺ: فلما كان آخر سعيه بالمروة، قال لأصحابه: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» [أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما]. وفي هذا دليل على تحديد نحر نسك التمتع والقران بيوم العيد وأيام التشريق، وأنه لا يجوز قبل ذلك، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [أخرجه مسلم ضمن الحديث السابق]. فحل الناس كلهم، وقصروا من رؤوسهم، ولبسوا ثيابهم، ودارت مجامر الطيب بينهم، إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، فإنهم بقوا على إحرامهم، ولم يحلوا منه إلا يوم العيد بعدما رموا جمارهم، ونحروا هديهم.

***

رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال

السؤال: هل يجوز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال؟ [7/23]

الجواب [رقم: 121]:

نعم يجوز ذلك، فقد ركب رسول الله ﷺ راحلته فجعلوا يسألونه، فما سئل عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ». فرفع الحرج عن الناس في جميع ما قدموه أو أخروه من بقية مناسك الحج، حتى سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت. فقال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ». وهذا الحديث في الصحيحين عن ابن عباس[أخرجه البخاري (83)، ومسلم (1306) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وليس من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]. وهو نص صريح في جواز تقديم رمي الجمار قبل الزوال، أو تأخيرها عن هذا الوقت، فيجوز رميها في أية ساعة شاء من ليل أو نهار، أشبه النحر والحلق، وأشبه طواف الإفاضة - الذي هو ركن الحج - فقد طاف رسول الله ﷺ وأصحابه يوم العيد بعدما أكلوا من لحم هديهم، وشربوا من مرقه. ثم قال العلماء بجواز التوسعة في فعله، وأنه يطوف في أية ساعة شاء من ليل أو نهار من يوم العيد، أو سائر أيام التشريق.

فلا أدري ما الذي جعلهم يشددون في عدم جواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق؛ وهو عمل يقع بعد التحلل الأول، وفيه حديث: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ». رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عائشة[مسند أحمد (25103)، وسنن أبي داود (1978) وإسناده ضعيف].

وإذا طاف طواف الإفاضة فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث يباح له كل ما يفعله من سائر المباحات من الطيب والجماع وغير ذلك. ولو مات لحكم بتمام حجه، قاله في الإقناع. وقال أيضًا: إنه لو أخر رمي الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد ثم رماها كلها في اليوم الثالث أجزأه ذلك أداءً لاعتبار أن أيام منى كالوقت الواحد، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية؛ لكونه قد وقع التسهيل، والتيسير من النبي ﷺ في بقية واجبات الحج التي تفعل يوم العيد، وأيام التشريق، حيث إنه لم يُسأل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ» [رواه البخاري (83)، ومسلم (1306) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما].

وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

من ذلك: أن العباس استأذن النبي ﷺ أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقاية الحاج فأذن له في ذلك، ولم يأمره باستنابة من يرمي بدله، كما أنه رخص لرعاة الإبل في البيتوتة بعيدًا عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد وبعد الغد ليوم النفر، وقيس عليه كل من يخاف على نفسه وماله. والله أعلم. اهـ.

وقال الشيخ في موضع آخر: ص27:

لعل السبب في تأخيره - ﷺ - رمي الجمار إلى الزوال أنه يريد أن يخرج بالناس مخرجًا واحدًا للرمي وللصلاة في مسجد الخيف؛ ليكون أسمح وأيسر لهم.

ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال لا ترموا الجمرة حتى تزول الشمس حتى يكون فيه حجة لمن حدده. وأما قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» [رواه مسلم (1297)، وأبو داود (1970)، والنسائي (3062)، وأحمد (14943)، والبيهقي في الكبرى (5/204) (9524) من حديث جابر رضي الله عنه] فإن مناسكه تشمل الأركان، والواجبات، والمستحبات، وأما تحديد الفقهاء للرمي أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب، فإنه تحديد خال من الدليل، وقد أوقع الناس في الحرج والضيق لكون الجمع كثيرًا، وزمن الرمي قصير، وحوض المرمى صغير، وصار الناس يطأ بعضهم بعضًا عنده، والنبي ﷺ قد بيّن للناس ما يحتاجون إليه، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير فيما يفعلونه في يوم العيد وأيام التشريق إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ». فنفى وقوع الحرج عن كل شيء من التقديم والتأخير، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. والحالة الآن، وفي هذا الزمان، هي حالة حرج ومشقة وضرورة، توجب على العلماء إعادة النظر فيما يزيل عن أمتهم هذا الضرر، ويؤمِّن الناس من مخاوف الوقوع في هذا الخطر الحاصل من شدة الزحام، والسقوط تحت الأقدام، حتى صاروا يحصون وفيات الزحام كل عام، إذ هو من باب تكليف ما لا يستطاع، ولا يلزم بتركه مع العجز عنه دم، وصار الحكم بلزومه مستلزمًا للعجز عنه، والله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر

هل يسقط الرمي بالعجز؟

السؤال: هل يسقط الرمي عَمّن لا يستطيع الوصول إلى موضع الجمار بدون استنابة؟ [7/25]

الجواب [رقم: 122]:

الأصل في هذا هو قول النبي ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. فكما أن واجبات الصلاة تسقط عمن لا يستطيعها؛ فكذلك واجبات الحج. فإنها تسقط عمن لا يستطيعها؛ لأن واجبات الصلاة آكد من واجبات الحج، بحيث إن واجبات الصلاة لو تعمد ترك واجب منها بدون عذر بطلت صلاته، بخلاف واجبات الحج، فإنه لو تعمد ترك واجب بدون عذر لم يبطل حجه وإنما عليه دم.

ومتى كان أصل فرض الحج يسقط عمن لا يستطيعه بنص القرآن، فما بالك بسقوط الواجب المعجوز عنه؛ إذ هو أولى بالسقوط بدون استنابة. وليس عندنا ما يثبت الاستنابة في واجبات الحج عند العجز عنها.

لهذا أفتينا ضعاف الأجسام، وكبار الأسنان، والمصابين بالمرض، من رجال ونساء - الذين لا يستطيعون الوصول إلى الجمار - بأن الرمي يسقط عنهم بدون استنابة ولا دم عليهم، كما أن أصل الحج يسقط عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بنص القرآن، فما بالك بسقوط الرمي عمن لا يستطيعه إذ هو من باب الأولى والأحرى.

وقد أسقط النبي ﷺ طواف الوداع عن الحائض بدون استنابة. وقد عده الفقهاء من واجبات الحج، وهذا واضح جلي لا مجال للجدل في مثله، إذ ليس عندنا ما يثبت صحة التوكيل في سائر واجبات الحج أو مستحباته. اهـ.

***

حكم الطواف قبل رمي الجمار

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

السؤال: الأشخاص الذين طافوا قبل رمي الجمار من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.

الجواب [رقم: 123]:

فالجواب: إن تقديم الطواف على رمي الجمار جائز بلا شك؛ لأن التقديم والتأخير معفو عنه، والرسول ما سئل عن شيء قُدِّمَ أو أُخِّرَ إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ» [رواه البخاري (83)، ومسلم (1306) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

أما شدة الزحام الذي يباشره الناس عند رمي الجمار فقد أخرجنا فيها رسالة تبيح للناس بأن يرموا الجمار في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، مع العلم أن رمي الجمار ساقط عن كل من لا يستطيع من رجل كبير وامرأة، ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[سورة البقرة، الآية: 185].

***

حكم الجمع والقصر في أيام منى

السؤال: هل الأفضل الجمع والقصر في أيام منى أم عدمه؟ [7/27]

الجواب [رقم: 124]:

لم يحفظ عن رسول الله ﷺ منذ دخل مكة إلى أن خرج منها أنه جمع بين الصلاتين إلا في عرفة؛ جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم؛ لاتصال الوقوف، وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وما عدا ذلك فإنه يقصر الصلاة ولا يجمع. قال ابن مسعود: «من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع في منى فقد كذب عليه».

***

حكم المبيت بمنى لمن ضاق عليه المكان

السؤال: ما حكم المبيت بمنى؟ وماذا يفعل من ضاقت عليه أرض منى؟ [7/28]

الجواب [رقم: 125]:

عد الفقهاء المبيت بمنى من واجبات الحج، وقد أنزل الله فيه: ﴿وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى[سورة البقرة، الآية: 203] فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والنبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [رواه مسلم (1141)، وأحمد (20722) عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه] وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد. فمن تعجل بالانصراف في اليوم الثاني فلا إثم عليه، وإنما وجب المبيت بمنى من أجل تكميل بقية الحج، الذي يفعل فيها من الرمي والنحر والحلق، ولكن متى ضاقت منى بالناس، فإنه من الجائز أن ينزلوا بما جاورها من أرض مزدلفة أو عرفة أو محسّر؛ لكونها ضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. ولأن ما جاور الشيء يعطى حكمه، أشبه المسجد الحرام، حيث أدخل فيه كثير من البيوت بما اشتملت عليه من المرافق والمنافع، وصار حكمها حكم المسجد الحرام، ويلتحق الزائد بالمزيد في الفضيلة، ومثله الوقوف بعرفة، فقد قال النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَجَمْعٌ - أَيْ: مُزْدَلِفَةَ - كُلُّهَا مَوْقِفٌ» [رواه مسلم (1218)، وأحمد (14440) من حديث جابر رضي الله عنه].

فوسع النبي ﷺ للناس في مواقفهم. فمتى ضاق الموقف بالناس جاز الوقوف بما جاوره، كما جازت الصلاة في الطرق عند مضيق الناس وزحمتهم، كما أن في إحدى الروايتين عن أحمد أن المبيت بمنى سنة ولا دم في تركه، اختارها عبدالعزيز (غلام الخلاّل) صاحب الشافي، وهي مذهب أبي حنيفة. قاله في الإفصاح. اهـ.

***

حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الوداع

السؤال: ما الحكم إذا حاضت المرأة قبل طواف الوداع؟ [7/29]

الجواب [رقم: 126]:

يسقط طواف الوداع عن المرأة إذا حاضت، وقد دفع رسول الله ﷺ منه إلى المسجد الحرام، فطاف طواف الوداع وقيل له: إن صفية قد حاضت. فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فقالت عائشة: إنها قد أفاضت قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ» [رواه البخاري (4401)، ومسلم (1211) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه]. فدل على أنه لا يجب على الحائض طواف الوداع، ولا الاستنابة فيه لسقوطه عنها.

***

طواف الوداع للمعتمر

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

1– عن المسألة الأولى: المعتمر هل يجب عليه وداع عند خروجه من البلد؟

الجواب [رقم: 127]:

فالجواب: أن الأمر ورد بالعموم، وهو أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت، والأمر شامل للحاج والمعتمر، ولو تركه المعتمر لشغل أو ضرورة فإنه لا يجب عليه الفداء.

***

هل يبدأ الحاج بمكة أو بالمدينة أولاً

السؤال: هل الأفضل للحاج أن يبدأ بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة؟ [7/30]

الجواب [رقم: 128]:

أنه لا مشاحة في ذلك، وبداءته بجعل المدينة هي طريقه إلى مكة أفضل من إنشائه السفر إلى القبر.

***

حكم زيارة قبر النبي ﷺ في الحج

السؤال: هل يصح الحج بدون زيارة قبر النبي ﷺ؟ [7/30]

الجواب [رقم: 129]:

يستحب للحاج متى وصل إلى المدينة ودخل المسجد النبوي أن يزور قبر رسول الله ﷺ، وقبر صاحبيه ويسلم عليهم، مع العلم أنه لا علاقة لزيارة المدينة في الحج، بل الحج صحيح بدونها. وأما حديث «مَنْ حَجَّ، وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» [انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (ح 45)]. فإنه حديث مكذوب على رسول الله بتحقيق علماء الحديث، بل الحديث الصحيح هو قول النبي ﷺ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا - أي: تعتادون مجيئه -، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا - أي: تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها -، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ» [رواه أبو داود (2042)، وأحمد (8804) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

***

حكم التمسح بجدار وشبابيك حجرة القبر النبوي

السؤال: ما حكم الزحام عند قبر النبي ﷺ والتمسح بجدار الحجرة والشبابيك؟ [7/31]

الجواب [رقم: 130]:

عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها ويدعو فنهاه، فقال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ» [رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7542)، وأبو يعلى (469)، والضياء في المختارة (429)] فلا معنى لهذا الزحام عند القبر ولا التمسح بجدار الحجرة والشبابيك فكل هذا يعد من الغلوّ الذي نهى عنه رسول الله، فالذي يصلي ويسلم على رسول الله في مشارق الأرض ومغاربها والذي يصلي ويسلم عليه عند حافة قبره هما في التبليغ سواء. وليس الذي يصلي ويسلم عليه عند جانب قبره بأفضل من الذي يصلي عليه في بيته، أو في مسجد قومه، أو في أي بقعة من مشارق الأرض أو مغاربها؛ لأن الله وكّل ملائكته الكرام يبلغونه سلام أمته.

***

حكم القيام إلى القبر النبوي بعد كل فريضة للسلام عليه

السؤال: ما حكم القيام إلى قبر النبي ﷺ بعد كل فريضة للسلام على النبي؟ [7/32]

الجواب [رقم: 131]:

من البدع كون بعض الناس بالمدينة متى سلموا من صلاة الفرض، نفروا وقاموا إلى القبر يسلمون على رسول الله ﷺ، وقد عده الإمام مالك بدعة! لأنه ليس من عادة الصحابة، ولا السلف الصالح أنهم يفعلون ذلك، وإنما يكتفون بتسليمهم عليه في صلاتهم، حيث يقولون: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ». وهذا السلام بهذه الصفة يكون كافيًا، ولن يضيع عند الله ولا عند نبيه وحبيبه محمد ﷺ.

المفاضلة بين الصدقة وحج التطوع

السؤال: أيهما أفضل: الصدقة على المضطرين أم حج التطوع؟ [7/35]

الجواب [رقم: 132]:

إن أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، هو المحافظة على الفرائض الواجبات، ثم التزود بعدها بنوافل التطوعات. وهذه التطوعات بعضها آكد من بعض؛ لأن منها ما هو مقصور النفع على فاعله، مثل: نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فلا ينتفع الناس بعمل الشخص في مثل هذه التطوعات.

أما المتعدي نفعه إلى الغير فهو: مثل عمل الصدقة، والصلة، وسائر الأفعال الخيرية التي ينتفع بها الناس، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير أفضل من العمل المقصور على النفس، لهذا ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوعات ما هو أصلح لقلبه، وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، وكذا عكسه.

من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين، وعلى الفقراء والمضطرين، أفضل من حج التطوع، سواء كان حجه عن نفسه، أو عن والديه وأقاربه الميتين، لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة، وشدة فاقة، لا سيما عند قرب العيد وفي عشر ذي الحجة التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة. فتشتد حاجة الفقير لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولأهله وعياله، فتقع الصدقة بالموقع الذي يحبه الله من تفريج كربه وقضاء حاجته.

وكل من تأمل القرآن والحديث، فإنه يجد فيهما الحث والتحريض بفنون من التعبير، كلها تحفز الهمم، وتنشط الأمم إلى الكرم، وقد مدح الله الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتًا من أنفسهم، أي: يطمئنون ويوقنون بأن ما أنفقوه يخلف عليهم، كقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً[سورة البقرة، الآية: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا يدرك المتصدق والمزكي سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة في ماله، حتى في يد وارثه ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين[سورة سبأ، الآية: 39] فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف.

وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الصدقة والصلة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والقطيعة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

إن أكثر الناس يكسلون عن النفقة فيما هو من واجبهم، وفي الأمر المرغب فيه في حقهم، فتراهم يكسلون عن أداء الزكاة الواجبة، وعن الصدقة على الأرحام، وعلى الفقراء والمضطرين، ولكنهم ينشطون على النفقة في سبيل حج التطوع، وهم قد حجوا ثم حجوا. فيتركون العمل الواجب عليهم، والفاضل في حقهم، ويعدلون عنه إلى العمل المفضول، والذي تركه أفضل من فعله.

وإنني أقول على سبيل النصيحة رجاء أن تعيها أذن واعية: أما الشخص الذي لم يقض فريضة حجة الإسلام، فإنه يجب عليه أن يبادر بقضائها ما دامت الفرصة ممكنة، فإن الفرص تمر كمر السحاب، وبالحج يستكمل أركان الإسلام.

أما هؤلاء الذين قضوا فريضة الحج، وأرادوا أن يتزودوا بالنوافل، فإن الأفضل في حقهم صرف ما سينفقونه على الفقراء والمضطرين وسائر فقراء المسلمين في داخل البلاد وخارجها؛ لأن الصدقة على الفقراء والمضطرين لها موقع عظيم في مثل هذه الأيام الفاضلة، وخاصة عشر ذي الحجة التي العمل فيها أفضل من العمل في غيرها.

وإن كان أحدهم مدينًا وجب عليه أن يصرف نفقته إلى قضاء دينه ليعتق نفسه من ذل المطالبة بالدين؛ فإن الدين همٌّ بالليل وذل بالنهار، ولأن قضاء الدين واجب، والتطوع بالحج مستحب، أو أنه مكروه في حقه، فلا يقدم المستحب أو المكروه على الواجب.

إن من النساء في وقت الحج من تقلق راحة زوجها في مطالبته بالحج بها. فتلجئه بإلحاحها إلى الحرج والمشقة وتحمل الديون المرهقة، ثم تخليه عن العمل الذي هو كسبه، وفيه معيشة عياله، فيتحمل هذا كله في سبيل رضاها والحج بها. ولعلها قد قضت فرضها، ثم حجت مرة بعد أخرى، وهذه تعتبر مأزورة غير مأجورة، فإن الأفضل في حقها هو طاعة زوجها، ثم الإكثار من عبادة ربها في بيتها، فتصوم وتصلي وتتصدق. فإن النبي ﷺ لما حج نساؤه قال لهن: «هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ» [رواه أبو داود (1722)، وأحمد (21905)، والبيهقي في الكبرى (4/535)، (8622) عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه]، أي: الْزَمْنَ الجلوس في البيوت، فبعضهن لم تفارق بيتها، لا لحج ولا لعمرة، حتى توفاها الله. منهن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

إن الصدقة بما سينفقه في حج التطوع هي أفضل من حج التطوع، لكون الصدقة من العمل المتعدي نفعه إلى الغير فتصادف الصدقة من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فصدقته تقع بالموقع الذي يحبه الله، وتكون أفضل من تطوعه بحجه وعمرته.

ومثله الذين يضحون لوالديهم الميتين، فإن الصدقة عن والديهم أفضل من ذبح الأضحية، فإنه لا أضحية للميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحي شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وتأسيًا بأبينا إبراهيم، ونبينا محمد، عليهما الصلاة والسلام، وحتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهم في أعيادهم من القرابين، والله سبحانه أمر بالحج في آية واحدة؛ لكنه أمر بالصلاة والصدقة وسائر الأفعال الخيرية أكثر من ثلاثمائة مرة، وتكرار ذكرها هو مما يدل على فضل فعلها.

وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.

وما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة، فلو جربتم لعرفتم. وصدق الله العظيم ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين[سورة سبأ، الآية: 39]. ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون[سورة التغابن، الآية: 16].

إن أكثر الناس قد غلب عليهم حب الشهرة، فجعلوا الحج والعُمرة بمثابة سفر النزهة كي يقال: حج فلان، وحجت فلانة. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحًا، وابتغي به وجهه؛ لهذا نرى خشوع العبادة قد غرب عن قلوب الناس في مشاعر الحج ومشاهده، فالركب كثير والحاج قليل.

وإنني أقول على سبيل النصيحة لهؤلاء الذين يتطوعون بالحج كل عام، أو عامًا بعد عام، وأخص أهل مكة، وأهل البلدان المجاورة للبلد الحرام من سائر بلدان المملكة العربية السعودية وأهل الخليج وما حولهم، وأن الأفضل في حق هؤلاء هو الإكثار من عبادة ربهم في بلدهم، فيكثرون من الصلاة والصيام والصدقة، ويصرفون ما سينفقونه في حجهم إلى الفقراء والمساكين والمضطرين وسائر أفعال الخير، فإن هذا أفضل من تطوعهم بحجهم وعمرتهم.

أضف إلى ذلك أن المجاورين بالبلد الحرام، والذين يترددون للحج عامًا بعد عام، بأنهم يتعرضون للأضرار ومواقع الأخطار، من تصادم السيارات وانقلابها، ويصيب الناس الضرر الشديد منهم بتضييقهم على الناس بسياراتهم وخيامهم ومسالك طرقهم ومشاعر حجهم. وفي الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، حتى لا يكاد يجد الإنسان مكانًا لموضع جبهته في المسجد الحرام، وكله من شدة زحمة المجاورين للبلد الحرام، والذين يترددون إلى الحج عامًا بعد عام.

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أهل مكة بأن يخلوا المطاف للحجاج الغرباء. فاحتساب التوسعة على الناس في هذا الزمان فيه فضل، ولفاعله أجر، ونيته تَبْلُغ مبلغ عمله.

وإنني أنصح كبار الأسنان وضعاف الأجسام من رجال ونساء الذين يشق عليهم الزحام ويخشى من سقوطهم تحت الأقدام، متى قضوا فرضهم بأن يلزموا أرضهم، ويكثروا من عبادة ربهم في بلدهم، فإن أبواب الخير كثيرة؛ وليس الحج من أفضلها، وليحافظوا على حياتهم وصحتهم، فلا يتعرضوا للبرد القارص، ولا للحر القاتل. فإن البرد سريع دخوله، بطيء خروجه، ويتزايد ضرره، ويعظم خطره في أوله. كما قال علي رضي الله عنه: اتقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يعمل في الأبدان كعمله في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق[ذكره المناوي في فيض القدير (2/393) دون إسناد].

هذا وإن الوقاية خير من العلاج، ونية المؤمن تبلغ مبلغ عمله؛ والحمد لله الذي جعل الحج فرض في العمر مرة واحدة، ولم يفرضه على التكرار، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين[سورة البقرة، الآية: 195]، ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[سورة النساء، الآية: 29].

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

***

فضل عشر ذي الحجة وأفضل الأعمال فيها

السؤال: ما فضل عشر ذي الحجة؟ وما هو العمل الصالح الذي يحب الله عز وجل الإكثار منه؟ [6/370]

الجواب [رقم: 133]:

الأيام العشر من ذي الحجة هي الأيام المعلومات، المخصوصة بالتفضيل في محكم الآيات. في قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْر ١وَلَيَالٍ عَشْر ٢[سورة الفجر، الآيتان: 1 – 2] فأقسم الرب بها لشرفها على حسب ما قيل في تفسيرها. والتي قال النبي ﷺ فيها: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ» [رواه أبو داود (2438)، والترمذي (757)، وابن ماجه (1727)، وأحمد (1968) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]. وهذا العمل الصالح الذي يحب الله الإكثار منه في خاصة هذه الأيام، يشمل الصلاة والصيام، والصدقة بالمال، وسائر أفعال البر والإحسان، وللصدقة فيها شأن كبير، وأجر من الله كثير، لكون الصدقة في هذه الأيام تصادف من الفقير موضع حاجة، وشديد فاقة، لما يتطلبه الفقير من حاجة العيد من النفقة والكسوة، وسائر المؤنة الضرورية، فهذا من العمل الصالح المتعدي نفعه إلى الغير.

ومن العمل الصالح أيضًا الصيام في هذه الأيام، فقد كان بعض السلف يصومون عشر ذي الحجة كلها. وبعضهم يصوم بعضها؛ لأن هذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا؛ من أجل أن فيها يوم عرفة، الذي قال النبي فيه: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية يوم عرفة: لا إلـٰـه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» [رواه الترمذي (3585) من حديث عبدالله بن عمرو بلفظ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ...»].

ولما سئل النبي ﷺ عن صوم يوم عرفة قال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ». رواه مسلم عن أبي قتادة[صحيح مسلم (1162)]، أي: يكفر الصغائر.

ولهذا يستحب الجهر بالتكبير في عشر ذي الحجة في المساجد وفي الأسواق والطرق، جهرًا لا يؤذي به أحدًا.

وفي البخاري أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما حتى إن للسوق لضجة بالتكبير[صحيح البخاري (2/20) (كتاب الحج/ باب فضل العمل في أيام التشريق) معلقًا، وانظر: فتح الباري (2/381)].

وصفته أن يقول: الله أكبر، الله أكبر لا إلـٰـه إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

***

كتاب النكاح

تزويج تارك الصلاة ومستحل المنكرات

السؤال: ما حكم تزويج الأب ابنته الرجل لا يصلي ولا يصوم ويستحل المنكرات؟ [7/282]

الجواب [رقم: 134]:

يحرم على المسلم أن يزوج ابنته، أو موليته برجل ملحد، يعرف أنه لا يصلي ولا يصوم، أو يعرف عنه أنه يستحل فعل المنكرات، وشرب المسكرات؛ لأن تزويج مثل هذا خطر على المرأة في دينها وعقيدتها ونسلها ونفسها، فقد قيل: من زوج موليته بفاجر، فقد قطع رحمه منها.

وتزويج المسلمة بمن يستبيح ترك الصلاة والصيام لا ينعقد بذلك النكاح أصلاً بل تبقى معه كشبه الزانية، والله تعالى يقول: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَٰئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم٢٦[سورة النور، الآية: 26].

***

مشكلة ارتفاع المهور وكيفية الحد منها

السؤال: من أبرز المشاكل الاجتماعية في قطر، ارتفاع قيمة المهور.. لماذا.. وإلى متى.. وكيف يمكن الحد من ذلك؟!

الجواب [رقم: 135]:

لقد أصدرت إعلانًا بأمر سمو الأمير بأن يتقيد الناس بقدر معلوم فرضناه عليهم من الصداق.. لكن أعوزتنا الحيلة في السيطرة على الناس.. كما أن الحكومة أعوزتها الحيلة في التغلب على هذه المشكلة.. وعندي أن الوقت المقبل سيؤدب الناس ويبدل آراءهم من التشديد إلى مراعاة التيسير والتسهيل.. ولي رسالة تحت الطبع تعالج هذا الموضوع، كان أهم ما ألحقته بها تفسير قول الله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا[سورة النساء، الآية: 20]، وهي الآية التي قيل: إن امرأة عارضت بها عمر بن الخطاب حينما وقف يدعو إلى عدم المغالاة في الصداق.. وأنه قال بهذه المناسبة: (أصابت امرأة وأخطأ عمر)[انظر: مسند الفاروق لابن كثير (2/573)]، وقد أثبت أن هذه القضية كلها لا صحة لها. والمؤكد أن عمر لم يتراجع عن رأيه الذي كان فيه خير العباد.

***

بسم الله الرحمن الرحيم

أسئلة في لقاء لطلبة المعهد الديني نشرت في (مجلة الحق) التي يصدرها المعهد الديني الثانوي بالدوحة في العدد الثالث الصادر بتاريخ رمضان 1384هـ الموافق يناير 1965م

اجتمعنا نحن طلاب الصف الأول الثانوي - في نطاق دراستنا للمجتمع القطري - وطلاب الثاني الثانوي في رحاب استطلاعاتنا عن مادة «المجتمع الإسلامي» التي يدرّسها الأستاذ سليمان الستاوي. وقطع «الباص» الطريق في دقائق إلى هذا الحرم المهيب، إلى المحكمة الشرعية.

كان اللقاء مع رجل يتحمل مسؤوليته في أكثر من مجال...!! إنه واحد من هذه القلة النادرة المطلعة المتفقهة، التي تطبق العلم على العمل. وفي إحدى غرف المحكمة أقبل علينا مسلمًا رئيس القضاة، ودائرة الأوقاف والمساجد في قطر، فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.

كانت جلستنا مهيبة، تناوبنا فيها توجيه الأسئلة، وكلنا آذان، وكلنا اهتمام، وتفضل الشيخ مجيبًا بعلم غزير، ونهج أصيل، وتقدير لمواطن الداء والدواء. ودارت الأسئلة أول الجلسة حول الأسرة، ولا غرو فالأسرة هي الصورة المصغرة للمجتمع، بصلاحها وتماسكها يكون صلاح المجتمع وتماسكه:

رؤية الشاب للفتاة التي يريد الزواج بها

السؤال: عند الرغبة في الزواج هل يجوز أن يرى الشاب الفتاة؟

الجواب [رقم: 136]:

يجوز أن ينظر إليها بقصد الزواج في حدود الشرع، ولا يصح أن يخلو بها، وفي الحديث: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ» [رواه أبو داود (2082)، وأحمد (17389) من حديث جابر رضي الله عنه]، وقال لجابر حين خطب امرأة: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» [رواه الترمذي (1087)، والنسائي (3235)، وابن ماجه (1866)، وأحمد (18137) من قوله للمغيرة بن شعبة وليس لجابر رضي الله عنه] أي: يؤلف.

***

غلاء المهور، وتحديدها

السؤال: ما رأي فضيلتكم في غلاء المهور؟ وهل يمكن تحديدها؟

الجواب [رقم: 137]:

غلاء المهور من عوامل الشؤم على المرأة وعلى أهلها؛ لأنه يتسبب في بقاء الفتيات في بيوت أهليهن عوانس أيامى، ولا بأس من تحديدها، ما دامت على هذه الصورة من الارتفاع، وإن الشرع لا يخالف في ذلك إذ هي من المصالح العامة، والدين مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد عزم عمر في وقته على تحديدها.

***

مشكلة مغالاة الناس في المهور وتكاليف العرس

السؤال: ما رأيكم في مغالاة الناس في المهور وتكاليف العرس؟ [7/278]

الجواب [رقم: 138]:

متى كان النكاح الشرعي من سنن المرسلين، ومن ضرورات بقاء نوع الآدميين فإن من الواجب على العقلاء فتح أبوابه، وتسهيل طرقه وأسبابه، وذلك بالقضاء على المتطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة التي هي بمثابة العقبة الكؤود في طريق المعوزين والمتوسطين من أبناء المسلمين، بحيث تحول بينهم وبين الاتصال بمن يرغبون نكاحه من بنات عمّهم، وأهل بلدهم، فيجب أن يعقدوا الاجتماعات على أثر الاجتماعات، في تبادل الآراء النافعة في سبيل ما يختصر لهم الطريق، ويزيل عن شبابهم الحرج والضيق، وذلك بتخفيض مؤن تكاليف النكاح، الذي يذهب أكثرها في سبيل الإسراف والتبذير، والتوسع في العطايا والهدايا وسوء التدبير، فيكون خسارة على الزوج، وعلى أهل الزوجة، والمرأة حرة ليست بسلعة توضع للمزايدة، وإنما تقاطع الناس بالتكلّف.

والنبي ﷺ قال: «خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ» [رواه أبو داود (2117)، وابن حبان (4072) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه بإسناد صحيح]. وقال: «خير النكاح أقله كلفة» [لم نجده بهذا اللفظ]. ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله ﷺ فإنه ما أصدق أحدًا من نسائه، ولا أصدقت أحد من بناته أكثر من خمسمائة درهم» [رواه أبو داود (2106)، والترمذي (1114)، وابن ماجه (1887)]. وهو قدر يقل عن مائة ريال؛ لأن الفضلاء من الكرماء، لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل قصدهم اتصال حبل الخاطب الكفء بالمخطوبة في حالة راحة ورفاهية، فهم يحاربون الإسراف الضار بالزوج وأهل الزوجة.

ولا يستنكفون عن خطبة الرجل الكفء لبنت أحدهم وموليته، كما عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان بن عفان فاعتذر، لعدم رغبته في النكاح، ثم عرضها على أبي بكر الصديق، فسكت، ولم يجب بنفي ولا إثبات، ثم خطبها رسول الله ﷺ فتزوجها.

إن المتطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة، قد تركت البنات الأبكار العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن، وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة هي جريمة التكاليف الشاقة. يخطب الخاطب، فيقولون: هذا ليس بتاجر، ويخطب الآخر، ويقولون: هذا مرتبه ليس بكثير، ويخطب الآخر، ويقولون: هذا لا يدفع لنا إلا القليل. فتذهب نضارة البنت في سبيل هذا الترديد، كأنه يضع ابنته للمزايدة، ولو ترك لها الخيار لقبلت الخاطب الكفء على ما تيسر، وقالت: رزقي ورزقه على الله.

والله يقول: ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ[سورة النور، الآية: 32].

والأيامى هم كل من لا زوج له؛ من رجل وامرأة، يأمر الله عباده بأن يسهلوا ويساعدوا على تزويج الأيامى. ومعنى الآية: إنه لا ينبغي لكم أن تمتنعوا عن إجابة الخاطب الكفء بما تحسونه من قلة ماله، وضعف حاله، فإن الزواج من أسباب الغنى، ولأن الفقر وصف عارض يقع فيزول، وكم من فقير عاد بعد الزواج غنيًّا.

والنبي ﷺ قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنْ لَا تَفْعَلُوْا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» [رواه الترمذي (1084)، وابن ماجه (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. إن بعض الناس يعدون بناتهم بمثابة المتاجر، فمتى خطب أحد منهم ابنته، أو أخته، وأجاب خطبته، أخذ يسن له السكين، ليفصل ما بين لحمه وعظمه، بحيث يفضي إلى زوجته وهو عظم بلا لحم، وجسم بلا روح، كله من أجل التكاليف الشاقة التي تلجئه إلى تحمل الديون التي من لوازمها الهموم والغموم، ولم يشعروا أن راحة الزوج ورحمته، هو من راحة ابنتهم ورحمتها.

فمن رأي الحزم، وفعل أولي العزم، تكاتف العقلاء على مراعاة التسهيل والتيسير وعدم التعسير، فإن التيسير يمن وبركة، فيسِّروا ولا تعسِّروا، والله إنه ليبلغني عن الرجل الكريم، وصاحب الخلق القويم، معاملة صهره بالتسامح والتسهيل، حيث يأخذه باليد التي لا توجعه، ثم يسلم إليه زوجته في حالة راحة، وعدم كلفة، فيرتفع في نفوسنا قدره، وينتشر بين الناس شرفه وفخره؛ لأن هذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة.

ومن نصيحتي للمرأة ذات الخلق والدين بأن تكون عونًا لزوجها على نوائب الدهر بما يستطيعه، فقد قيل: امرأة الصعلوك إحدى يديه، ولا ينبغي أن تطالبه بما يعجزه ويشق عليه؛ من نفقة زائدة على الحاجة، كساعة ثمينة، أو صيغة ذهب، أو غير ذلك من الكماليات التي قد يعجز عنها الموظف الصعلوك.

وحرام عليها أن تهجر فراش زوجها، أو تخرج من بيته في سبيل مطالبته بما يعجزه ويشق عليه، والنبي ﷺ قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُم، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم» [رواه مسلم (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فزوجة الموظف الصعلوك، لا ينبغي لها أن تنظر إلى زوجة التاجر، فإن جود الرجل من موجوده، وكل إناء ينضح بما فيه، وعادم المال لا يعطيه، بل ينبغي أن تصبر، فإن الصبر مفتاح الفرج، وعسى الله أن يجعل له بعد عسر يسرًا.

ومما ينبغي أن ننصح به مراعاة الاقتصاد والاقتصار في وليمة العرس، التي وصفها رسول الله ﷺ: بأنها شر الطعام يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها[رواه البخاري (5177)، ومسلم (1432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فيتجنبوا التوسع فيها، ويقتصروا على قدر الكفاية، عملاً بالسنة. حيث قال النبي ﷺ: «أَوْلِمْ، وَلَوْ بِشَاةٍ» [رواه البخاري (2049)، ومسلم (1427) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه]. و(لو) قيل: للتكثير، وقيل: للتقليل.

وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه بمدّين من شعير[رواه البخاري (5172) من حديث صفية بنت شيبة رضي الله عنها]، وهو سيد الخلق أجمعين. فما يفعله بعض الناس، من كون أحدهم يذبح في وليمة العرس خمسين ذبيحة، أو أربعين ذبيحة، أو أقل أو أكثر، وربما ذبح معها بكرًا من الإبل، ويتبعها الأرز والفواكه، وغالب الناس يتعذرون من الحضور إليها، خصوصًا الفضلاء، فتبقى اللحوم والطعام بحالها، بحيث تحمل ويقذف بها في مواضع القمام، وبطون الأنعام، ونفوس الكثير من الفقراء تحن إلى القدر، ولا شك أن هذا مال ضائع على الزوج، وعلى أهل الزوجة، كما قيل:

ولم يحفظ مضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المضاع

إن هذه التكاليف قد أفضت بالكثير من شباب المسلمين إلى التزوج بالوثنيات من الهنديات، أو بالنساء الملحدات اللاتي لا دين لهن ولا خلق، واللاتي يتظاهرن بترك الصلاة والصيام، وسائر شرائع الإسلام، ويجهرن بعدم وجوب ذلك عليهن.

ومن المعلوم أن نكاح مثلهن حرام على المسلم ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ[سورة الممتحنة، الآية: 10].

***

إجبار الرجل ابنته البكر على الزواج ممن يختاره لها

السؤال: هل للأب إجبار بنته البكر على الزواج من شخص يختاره لها؟

الجواب [رقم: 139]:

قال الشيخ سليمان بن سحمان:

وليس لأب جبر بكر على امـرىءٍ
أبته ولم ترضاه إن كنت مقتد
وهذا خلاف السنة المحضة التـي
أتتنا عن المعصوم أكمل مرشد
فإن أكرهت فاردد إليها مخيـرًا
فإن لم تشأ فافسخ ولا تتقيـد
وهذا هو القول الصحيح الذي به
ندين إلـٰـه العالمين ونقتـدي

أشار الناظم إلى حديث ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت النبي ﷺ فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله، (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه) وأعلّ بالإرسال، وأجيب عنه بأنه رواه أيوب بن سويد عن الثوري عن أيوب موصولاً. وكذا رواه معمر بن سليمان عن زيد بن حيان عن أيوب موصولاً. وإذا اختلف في إرسال الحديث ووصله فالحكم لمن وصله، قال المصنف: الطعن في الحديث لا معنى له لأن له طرقًا يقوي بعضها بعضًا[انظر: سنن أبي داود (2096)، وابن ماجه (1875)، ومسند أحمد (2469)، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي (10/47)، وتنقيح التحقيق لابن عبدالهادي (4/305 – 306)، والتلخيص الحبير لابن حجر (3/349)].

ويؤيده حديث أبي هريرة في المتفق عليه: «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» [رواه البخاري (6968)، ومسلم (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] وهذا الحديث أفاد ما أفاده الأول ودل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح. ولمسلم: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا» [صحيح مسلم (1421) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وقد أخرج النسائي عن عائشة: «إن فتاة دخلت عليها وقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله ﷺ، فأتى فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء» [رواه النسائي (3269)، وأحمد (25043)]. انتهى.

وذهب أحمد والشافعي إلى أن للأب إجبار ابنته البكر البالغة على النكاح لمفهوم حديث «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» [رواه مسلم (1421) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] فإنه دل أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها. ويرده: أن هذا مفهوم لا يقاوم المنطوق.

***

تزويج الرجل ابنته بالدَّين يكون عليه

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

المسألة الثانية: الرجل المدين الذي عليه دين حالّ ودين مؤجّل، فأوفى الدين الحالّ وبقي المؤجل، وعند حلول الأجل لم يجد وفاءً وكانت عنده بنت فقال الدائن: زوجني هذه البنت بما بقي لي من الدين، فزوّجه.

الجواب [رقم: 140]:

فهذا الزواج نراه صحيحًا إذا رضيت البنت به، وهو نظير استئجار موسى ابنة شعيب التي تزوجها على أن يرعى في غنمه ثماني حجج، أي: سنين ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ[سورة القصص، الآية: 27] فزوّجه وتمّم له عشر سنين، فهو زواج صحيح.

***

حكم تحديد النسل

السؤال: ما رأي الإسلام في تحديد النسل؟

الجواب [رقم: 141]:

يجوز في الإسلام على أن يكون بموافقة الزوجين، إلا أن الإسلام يحرم الإجهاض وقتل الجنين، ويحرم أن يحكم بإلزامه على الناس أجمعين، أما اتفاق المرأة والزوج على تحديد النسل بينهما فلا أرى وجهًا في المنع منه لأن الحق لهما فيه.

***

حكم المولود قبل مضي ستة أشهر من الزواج

السؤال: الحمد لله: سألني رجل عن ابن له تزوج بامرأة من أهل بلد آخر - بتاريخ (2/6/1400هـ، الموافق: 17/4/1980م) ثم ولدت له ولدًا حيًّا سويًّا قويًّا بتاريخ (8/11/1400هـ، 17/9/1980م) فأشكل عليهم هذا الولد... فهل يلتحق بالزوج العاقد على المرأة أم لا؟

الجواب [رقم: 142]:

فأجبته: بأن سائر أئمة المذاهب المالكية والشافعية والحنابلة لا يلحقون الولد بالعاقد على المرأة إلا بعد مضي ستة أشهر من زمن عقد النكاح وبدون ذلك لا يلحقون.

لهذا يعتبر هذا الولد البالغ من مدة العقد إلى زمن الولادة خمسة أشهر وخمسة أيام، فإن هذا لا يلتحق بالزوج العاقد على المرأة، لاعتبار أنها حملت به قبل العقد عليها فلا ينسب إلى أبيه، ويعتبر نكاحه بهذه المرأة باطلاً.

وللمعلومية حرر كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم القسم بين الزوجات

السؤال: ما حكم القسم بين الزوجات؟ [7/131]

الجواب [رقم: 143]:

واجب المسلم العادل أن يراعي العدل في القسم بين زوجاته في المبيت والمقيل، وفي الكسوة والنفقة، إلا أن تسقط إحداهن حقها باختيارها، فقد وهبت سودة نوبتها وليلتها لعائشة[أخرجه البخاري (2593) حديث عائشة رضي الله عنها].

وليس من واجب القسم المساواة بين الزوجات في النفقة، فيجوز أن يخصص إحدى الزوجات بزيادة نفقته على حساب زيادات مصرفها في بيتها، لكونها تقصد لالتماس الصدقة، أو لأن لها عيالاً، ونحو ذلك. فهذا جائز، وليس من الجور في شيء.

ومن الجور وعدم العدل كون بعض الناس متى استجد له امرأة، ووقعت عنده بموقع المحبة والحظوة، هجر امرأته القديمة وقلاها وآذاها، وقطع صلته بها ومبيته عندها، وقطع نفقته عليها وعلى عياله منها بدون سبب يوجبه منها، ولم يزل ذلك دأبه بها إلى أن يبلى شبابها.

وهذا لا يجوز، فإن الله يأمر بالعدل والإحسان.

وكان النبي ﷺ يقول في المجامع العظام: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» [رواه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في ذكر خطبته ﷺ في حجة الوداع بعرفة].

وكان يقول: «اتَّقُوا اللهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ، الْمَرْأَةِ الْأَرْمَلَةِ وَالصَّبِيِّ الْيَتِيمِ» [رواه ابن ماجه (3678)، وأحمد (9666) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالمَرْأَةِ» بإسناد حسن، ورواه البيهقي في الشعب (10542) عن أنس بن مالك رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره الشيخ وإسناده ضعيف جدًّا].

وكان يقول: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» [رواه الترمذي (3895)، وابن حبان في صحيحه (4177) عن عائشة رضي الله عنها].

حكم إيذاء المرأة لأجل المخالعة

السؤال: ما حكم من تزوج امرأة ثم أبغضها وأخذ يضارها ويضربها ليجبرها على مخالعته؟ [7/132]

الجواب [رقم: 144]:

من تزوج امرأة فوقع بغضها في نفسه، ولم تحظ بمودته، فأخذ يضارّها أو يضربها، لتفتدي منه فترد عليه الذي دفعه لها، فهذا حرام، ولا يفعله إلا الأراذل اللئام، وما يأخذه من المال منها فإنه حرام وليس بحلال؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا ٢٠وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ٢١[سورة النساء، الآيتان: 20 – 21] بل إن الكرام متى تصرّمت حبال مودتهم، وعزموا على فراق زوجاتهم، متعوهن بشيء من المال، وتحف الإكرام والاحترام، ليجبروا بذلك صدع الفراق، ومرارة الطلاق ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين ٢٤١[سورة البقرة، الآية: 241].

***

واجب الرجل تجاه معاشرة زوجته

السؤال: ما الذي يجب على الرجل تجاه معاشرة زوجته؟ [6/227]

الجواب [رقم: 145]:

متى تيسر قران الشخص بزوجة ديّنة صالحة، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة وافرة، فإن الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله.

فمن واجب هذه النعمة أن يعاشر هذه الزوجة بالمعروف والإكرام، والاحترام وحسن الخلق، وطيب الكلام. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» [رواه الترمذي (1162)، وأحمد (10106)، وابن حبان في صحيحه (4176) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح].

وقال: «اتَّقُوْا اللهَ فِي الضَّعِيْفَيْنِ، الْمَرْأَةِ، وَالْيَتِيمِ» [تقدم تخريجه في ص188].

وسأل معاوية بن حيدة النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» [رواه أبو داود (2142)، وابن ماجه (1850)، وأحمد (20027) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه].

وطاف ببيت رسول الله ﷺ نساء يشتكين أزواجهن. فقام رسول الله خطيبًا فقال: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ مِنْ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» [رواه أبو داود (2146)، وابن حبان (4189) من حديث إياس بن عبدالله بن أبي ذباب].

يقول الحكماء: إن النساء يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام. وما استقصى كريم قط.

والنبي ﷺ يقول: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» [رواه مسلم (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فهؤلاء الأقوام الذين يعاملون نساءهم باللعن والسب، وشتم الآباء والأمهات، والحط من أقدارهن بقذفهن، هم يعتبرون من شرار الناس الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، ويتأسى بهم أولادهم في إساءة أخلاقهم.

أما خيار الناس فهم ينزهون أنفسهم وألسنتهم، ويصونون أحسابهم وأحساب أنسابهم عن هذه المعاملة الفاسدة، والأقوال السافلة، ويعاشرون أهلهم بالإكرام والاحترام وطيب الكلام، ويتمتع بأهله في عيشة هنية، ومعاشرة مرضية، يعامل أهله بالوفاق وحسن الأخلاق. إذا دخل بيته سلم على أهله، والسلام من أسباب المحبة والألفة، وينشر في البيت البركة والرحمة. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» [رواه الترمذي (2698) من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

***

واجب المرأة تجاه معاشرة زوجها

السؤال: ما الواجب على المرأة تجاه معاشرة زوجها؟ [6/228]

الجواب [رقم: 146]:

من واجب المرأة إكرام زوجها واحترامه، وألا تُسمِعه من الأقوال إلا ما يحب، وأن تجتنب السب واللعن له، أو لعيالها منه، وأن تجتنب معاشرة الأغيار من الأجانب الذين يسعون بإفسادها وهدم شرفها وشرف بناتها؛ لأن المرأة مدرسة لأهل بيتها، فإما أن تكون مدرسة صالحة لنَبْتِ الخير والصلاح في البنين والبنات، أو أنها مدرسة فاسدة، تفسد تربية من تتولاه من البنين والبنات. فالمرأة تأمر عيالها بالوضوء، وبالصلاة عند دخول وقتها، وتربي بناتها تربية حسنة، فتلبسهم الثياب السابغة الساترة التي تستر بها جميع بدنها، وتجنبهم الثياب القصار التي هي لباس الذل والصغار، لباس الخزي والعار، لباس المتشبهات بالكفار، وهو اللباس الذي يبدو منه يد المرأة إلى حد الآباط، ورجلها إلى نصف الساق، ويبدو منه الرأس والرقبة والنحر، فهذا لباس التبرج الذي نهى الله عنه في كتابه المبين، وقد صار محبوبًا لدى عشاق التفرنج الذين ضعف تمسكهم بالدين، فكانت المرأة منهم تتزين بالثوب القصير الضيق الذي يصف كل شيء من جسمها، حتى تكون شبه العارية، كما أخبر النبي ﷺ عن نساء أهل النار بأنهن: «كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يجدن عَرف الجنة» [رواه مسلم (2128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] يعني ريحها. ويرحم الله نساء الصحابة من المهاجرين والأنصار، لما نزل قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ[سورة الأحزاب، الآية: 59] عمدن إلى مروط كثيفة، فشققنها على رؤوسهن وأبدانهن، فخرجن لا يعرفهن من التستر أحد[رواه بنحوه البخاري (4759)، وابن أبي حاتم في التفسير (14406) من حديث عائشة رضي الله عنها].

***

كتاب المحرمات من الرضاع

الإخوة لأم من الرضاعة، والرضعتان لا تحرمان، وإنقاذ المرأة من الهلاك لا يحرمها

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

المرأة التي أرضعت طفلاً أو طفلة من زوج ثم طلقها زوجها فتزوّجت بآخر وأتت بأولاد؟

الجواب [رقم: 147]:

فإن هؤلاء أولاد إخوة لأولئك الأولاد من الرضاعة، لكونهم رضعوا جميعًا من لبن امرأة واحدة، فانطبق فيهم حرمة الرضاع فكانوا إخوة لأم.

أما المرأة التي أتوها بطفلة فأرضعتها وأشبعتها مرة واحدة ثم عادوا بها إليها فأرضعتها ثانية.

فاعلم يا أخي: أنه لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات، فلا تحرم الرضعة والرضعتان، فهذا ظاهر مذهب الحنابلة.

أما الرجل الذي أنقذ امرأة من الهلاك في غرق وحرق فإنه لا يكون محرمًا لها بسبب الإنقاذ، وهذا بإجماع الفقهاء على ذلك.

***

الرضعة الواحدة لا تحرم

السؤال: الحمد لله، سألني رجل عن امرأة أرضعت طفلاً وطفلة رضعة واحدة (فقط) والطفل والطفلة أبناء عم، وقد بلغا سن الزواج الآن ويريد الرجل أن يتزوج بابنة عمه التي رضعت معه من المرأة الأجنبية لمرة واحدة، فهل يجوز له أن يتزوجها؟

الجواب [رقم: 148]:

بما أن الرجل والمرأة قد رضعا من امرأة أجنبية لمرة واحدة، فلا تحرم المرأة على الرجل لأن من شروط الرضاع الذي يحرم النكاح أن يكون خمس رضعات مشبعات.

لذلك، يجوز للرجل أن يتزوج بابنة عمه التي رضعت معه من المرأة الأجنبية لمرة واحدة... وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

9/5/1409هـ، الموافق: 22/2/1983م
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم الزواج من بنت أخته من الرضاع

إلى فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - حفظه الله -.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة، وبعد؛

أرجو من فضيلتك عدم المؤاخذة لأني لم أستطع الحضور شخصيًّا لظروف عملي، وإنه يسعدني ويشرفني وكل مسلم أن أتحدث إلى فضيلتك، شخصيًّا، أكرر اعتذاري وأخبرك أني أتتبع خطاباتك وحديثك في إذاعة قطر الشقيقة يوم الجمعة عند صلاة المغرب، وأمدك الله بالعمر الطويل لتكمل هذه المسيرة.

السؤال يا فضيلة الشيخ هو:

إني أريد الزواج من بنت عمي وخالتي بنفس الوقت، ولكن هناك عقبة في طريق هذا الزواج وهي أني رضعت من جدتي أم أمي وأم خالتي في نفس الوقت، والسبب هو مرض أمي الشديد وكان قد توفي طفل قبلي بسبب مرض أمي الشديد، وأنا مع العلم لم أرضع مع البنت، بل رضعت هي من أمها خالتي وأنا عندما رضعت من جدتي كان عمر خالتي 14 سنة ولم تتزوج ولم تنجب البنت التي أريد الزواج منها على سنة الله ورسوله ﷺ وكان عمر زوجتي أكثر من 35 سنة. (وشكرًا) والآن يا فضيلة الشيخ أريد أن أقطع الشك باليقين.

أدام الله عمرك وبقيت للمسلمين ذخرًا وفخرًا، أرجو يا فضيلة الشيخ إذا تكرمت أن ترد الجواب على نفس الورقة مع ختم أو أي شيء يثبته، وشكرًا.

وليد صياح مطر فهد العنوان: دولة الكويت

الجواب [رقم: 149]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم/ وليد صياح مطر فهد، حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد؛

فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، خصوصًا ما أشرت إليه من شأن الرضاعة، حيث ذكرت بأن الجدة أم الأم قد أرضعتك في حال الحاجة بسبب مرض الوالدة، وكأنك تريد أو تحب الزواج ببنت خالتك، وبالتحقيق يتبين أنك أخ لخالتك من الرضاعة، وهذه البنت التي تحب الزواج بها تعتبر بنت أختك وأنت خالها، فلا تحل لك لاعتبار أنها تحرم عليك بالرضاعة... وستجد إن شاء الله ما يغنيك عنها.

أحببت تعريفك بذلك للعلم به.... والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

سريان حرمة الرضاع من جهة الأب بالرضاعة

صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود... حفظه الله.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛

فأرجو إفتائي في الواقعة التالية، علمًا بأنني سأكون عند الرأي الذي تفتونني به إن شاء الله.

1– عطا الله تزوج من فاطمة التي أرضعت عمر (من خارج العائلة) - الذي هو أنا - مع ابنتها لمدة عشرين يومًا... ثم طلقت وتوفيت، تزوج عطا الله نفسه من هذه التي أنجبت له ابنة هي اعتدال.

2– تزوج عمر (أنا) من اعتدال وأولدها ستة أكبرهم في التاسعة وأصغرهم عمره ثلاثة شهور...

3– في شهر ذي الحجة 1404هـ، أعلمت بأن زوجتي اعتدال هي أختي ولا يجوز لي نكاحها على اعتبار (لبن الفحل)، فاعتزلت زوجتي من ذلك الحين حتى أتبين وجه الحق في المسألة، فكتبت إليكم راجيًا إفتائي علمًا بأنني كتبت إلى فضيلة المفتي العام للمملكة الأردنية أبلغه بذلك وأطلب حكم الشرع ولم أتلق الجواب إلى الآن، فأرجو من فضيلتكم إفتائي وجزاكم الله عني خير الجزاء، ووفقكم لخدمة دينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقدمه/ عمر موسى علي الفرجان الأردن

الجواب [رقم: 150]:

إلى الفاضل/ عمر موسى علي الفرجان.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد؛

تسلمت كتابكم الكريم، أشرت فيه إلى أن المرأة فاطمة قد أرضعت ولدًا هو عمر من لبن زوجها عطا الله، وتوفيت هذه المرأة وتزوج عطا الله امرأة أخرى تدعى هندًا، فأنجبت له بنتًا تسمى اعتدالاً، فتزوجها عمر، فسألت عن كيفية زواج عمر لها وعن طريق الحلال والحرام في ذلك.

فاعلم يا أخي أن عمر قد صار ابنًا للرجل عطا الله من الرضاع، ثم تزوج عمر من بنت عطا الله اعتدال وهي بالحقيقة أخته من الرضاع من طريق (لبن الفحل) لكون لبن الفحل يحرم لحديث: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» [رواه البخاري (2645)، ومسلم (1447) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] فعمر هو ابن عطا الله من الرضاع كما أن اعتدال هي بنت عطا الله من النسب، فثبتت الحرمة بينهما، فكانت اعتدال أخت عمر من الرضاع، وهذا النكاح بينهما هو خطأ داخل تحت العفو؛ لأن الله يقول: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[سورة البقرة، الآية: 286] قال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» [رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

والعيال منها هم عيال عمر بلا شك، فلا يدخل في أنفسكم شيء من الشك في ذلك، لأن مثلها يقع دائمًا بين الناس، لأن مسائل الرضاع دقيقة وتكون في بعض الحالات خفية...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود
15/1/1405هـ، الموافق: 30/9/1984م

***

خالها من الرضاعة

رسالة: محمد علي عنده حرمتين وتوفي وعليه بنت هي فاطمة وواحدة من حريمه، كانت حاملاً، وجابت ولد من حماها من الرجل الذي توفي، وتزوجها حسن محمد وهي ترضع الولد، حسن بن مسعود، مرضت حرمة حسن مسعود وعليها ولد وروَّحه إلى امرأة حسن محمد ورضعته لمدة شهرين وكبر الولد حسن مسعود وبنت الرجل الذي مات تزوجت لها واحد من جماعتها وجاء عليها له بنت فيريد يزوجها ولد حسن مسعود فهل تصح له. نرجو الإفادة عنها... وسلام عليكم.

الجواب [رقم: 151]:

الحمد لله: سألني الرجل المسمى مسعود حسن عما يلي:

يوجد رجل يدعى محمد علي عنده زوجتان إحداهما تسمى خضرة والثانية وعلة، وقد توفي محمد علي وزوجته خضرة حامل وجاءته بولد أسموه محمد بن حسن ثم تزوجت خضرة رجلاً يسمى حسن بن محمد وهي ترضع ابنها محمد بن محمد، ويوجد لهم جار اسمه حسن بن مسعود مرضت زوجته وله ولد يسمى مسعود بن حسن وكان رضيعًا وأرضعته خضرة مع ابنها محمد بن محمد.

أما الزوجة الثانية للمتوفى محمد علي والمسماة وعلة لها بنت تسمى فاطمة بنت محمد علي تزوجت رجلاً يسمى سعيد مسعود وجاءت ببنت اسمها مانعة بنت سعيد، ويريد الآن مسعود حسن الذي رضع مع خالها محمد بن محمد أن يتزوجها فهل يجوز له أم لا؟

الجواب: لا يجوز أن يتزوج مسعود حسن بمانعة بنت سعيد بحيث إنها بنت فاطمة بنت محمد علي، فيكون مسعود حسن أخًا لفاطمة بنت محمد من الرضاع، ويكون خال مانعة بنت سعيد من الرضاع. لهذا لا يصح أن يتزوجها. كي لا يخفى.

(1/11/1390هـ، 28/12/1971م)
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

كتاب الطلاق

الطلاق للتهديد لا يقع وفيه كفارة يمين

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود الموقر رعاه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أرجو أنكم بخير ورفاهية.

سبق أن وجهت إلى فضيلتكم سؤالاً، وحتى الآن لم أتشرف منكم بالجواب عليه، مما جعلني أعتقد أن الرسالة لم تصلكم، فهأنذا أعيد على فضيلتكم، راجيًا سرعة الجواب المدروس من الناحيتين الدينية والدنيوية:

2- لقد علمنا من رسائلكم أن الطلاق والتحريم من قبل الزوج لحمل الزوجة على شيء أو منعها منه يعتبران أيمانًا لها كفارة، ولا يقع طلاق ولا تحريم، فهل إذا أصبح الزوج جاهلاً مركبًا، متطرفًا، عنيدًا، غير مبال حتى بقطيعة الرحم، بحيث يمنع زوجته عن أقرب الناس لها بدون سبب شرعي، هل لا إثم على الزوجة من إتيان ما منعها إياه بدون علمه، ويكون الإثم عليه هو بسبب تعديه حدوده، ولا حرج على الزوجة؟

الجواب [رقم: 152]:

الجواب: هو أننا نحكم على من طلق زوجته بموجب اليمين، كأن يقول: إن خرجت من بيتي فأنت طالق، أو إن دخلت بيت آل فلان فأنت طالق، فهذا نحكم فيه بأن فيه كفارة اليمين، لكونه لم يرد طلاقها، وإنما أراد منعها، ومثله إذا قال: أنت عليّ حرام إن فعلت كذا. ففعلته، ففيه كفارة اليمين، لأن الله قال لنبيه: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم ١قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ٢[سورة التحريم، الآيتان: 1- 2]. وسبب هذا حين حرم الرسول على نفسه جاريته مارية ليستبقي بذلك رضا زوجاته، وقيل: إنها نزلت في العسل الذي أسقته إحدى نسائه، لهذا يقول ابن عباس: من حرّم زوجته ففيه كفارة يمين، ثم قرأ: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [سورة التحريم، الآية: 2][انظر: تفسير الطبري (23/83 - 87)].

أما هذا الرجل الذي منع زوجته من زيارة أقاربها فإن مبنى النكاح على الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، فلم يمسك بالمعروف من حرّم على المرأة زيارة أقاربها، إلا أن يكون هناك سبب يقتضي المنع من كون البيت محتفًّا بالشبهات فيمنعها بسببه، فمن واجبها طاعته في ذلك... وإذا لم يكن هناك شيء من الشبهات فإنه لا إثم عليها في زيارة أهلها بعلمه أو بغير علمه، إذ ليس محجورًا عليها في فعل البر والصلة.

***

حلف بالطلاق على الزوجة إن هي زارت أختها

صاحب الفضيلة المحترم الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.. الموقر رعاه الله وحفظه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أنكم تتمتعون بكامل الصحة والرفاهية.

فضلاً لا أمرًا، أرجو تنويرنا عن المسائل الآتية:

6- زوج متغطرس حلف على زوجته بالطلاق أو التحريم إن هي زارت أختها في بيتها أو قبلت منها هدايا؛ ذلك لأنه كان يكره زوج الأخت، فإزاء قطع صلة الرحم هذه، هل يجوز للزوجة الذهاب إلى بيت أختها وقبول هداياها بدون علم الزوج المتغطرس؟

وفقكم الله وحفظكم.

المخلص: حمد العبدالله

الجواب [رقم: 153]:

13/6/1403هـ

إلى الفاضل الدكتور حمد العبدالله، حفظه الله.

وسلام عليكم ورحمة الله... وبعد، فإنني استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، خصوصًا ما أشرت إليه من السؤال عن المسائل التي أحدها:

السؤال السادس: الزوج المتغطرس الذي حلف على زوجته بالطلاق أو التحريم إن هي زارت أختها في بيتها أو قبلت منها هدايا... وتسأل: هل يجوز للزوجة أن تذهب لبيت أختها وتقبل هداياها دون علم زوجها؟

الجواب: إنه يجب على الزوجة أن تطيع زوجها فيما أمرها به، وتنتهي عما نهاها عنه، ولعله يحاذر من بيت الأخت ما يخشى وقوعه على زوجته، فمن واجبها أن تواصلها بالسلام والسؤال بالهاتف أو غيره.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

حكم الطلاق في المحاكم الإنجليزية

الأسئلة الموجهة من مجلة «المسلمون» بلندن إلى فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود والرد عليها.

السؤال الرابع: يتوقف كثير من الأئمة في قبول الطلاق الذي تصدره المحاكم الإنجليزية؛ لأنهم يرون أن القضاة غير مؤهلين للحكم بين المسلمين، فما حكم هذا الطلاق شرعًا؟ وهل يصح للمسلمة التي طلقت عن هذا الطريق أن تتزوج قبل الحصول على الطلاق الصحيح؟

الجواب [رقم: 154]:

فالجواب: أن الله سبحانه قد مدح الذي جاء بالصدق وصدّق به، وهذه المحاكم في البلدان الإنجليزية وكذا سائر المحاكم القانونية قد تولت الحكم بين الناس طوعًا وكرهًا وهم يعرفون الخير والشر ويعرفون أنواع الأضرار الواقعة من الزوج على زوجته ويعرفون المحق من المبطل.

فمتى أصدروا حكمًا بطلاق امرأة مستوجبة للطلاق من زوجها، لكن زوجها معاند ومصرّ على الإضرار بها فإن هذا الحكم الصادر من المحكمة في طلاقها يعتبر صحيحًا، لكونه من أمور الحياة الذي يشترك في معرفتها المسلم والكافر والبر والفاجر، فمتى أبقينا هذه المرأة أو أبقت المحكمة هذه المرأة على حالة الإضرار بها، والزوج مصرّ على عدم طلاقه لها، فإنها تذهب حياتها في سبيل النزاع والخصام وفي سبيل الترديد والتلديد.

وعلى كل حال فإن إصدار المحكمة القرار بطلاقها يعتبر نافذًا، ويعتبر ما يترتب عليه من طلاقها وإباحتها لزوج تريده بعد انقضاء عدتها بحيضة واحدة[يرجح الشيخ الرأي القائل باستبراء المختلعة بحيضة واحدة. ويدل عليه حديث امرأة ثابت بن قيس التي اختلعت من زوجها فأمرها الرسول ﷺ أن تعتد بحيضة. رواه الترمذي (1185)، وأبو داود (2229)، والنسائي (3497)].

***

الطلاق ثلاثًا في مجلس واحد

السؤال: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد؛

فأطلب الفتوى الشرعية في هذه المشكلة.

في نزاع مع زوجتي ألقيت عليها يمين الطلاق بقولي في مجلس واحد أنت طالق طالق طالق، وكان هذا في 1408هـ، وكانت زوجتي حائضًا، ثم سافرت عند أهلها في عمان، فهل يحق لي العودة إلى زوجتي؟ وهل تحسب هذه الطلقات طلقة واحدة، ويحق لي مراجعتها؟

أفتوني بحكم الإسلام جزاكم الله خيرًا، وأن تكون الفتوى كتابة لأعرضها على أهلها في عمان. والحمد لله.

الجواب [رقم: 155]:

إن هذا الطلاق الواقع من الرجل المذكور أحمد على زوجته المذكورة كلثم وهي حائض، فإنه طلاق لاغ لا عمل عليه ولا يتعلق به حكم فهو لغو محض، وإن هذه المرأة المسؤول عنها هي باقية في عصمة زوجها إلى حد الآن ويجب نفقتها عليه وله الحق في ردها إليه لاعتبار هذا الطلاق لاغيًا لا يتعلق به حكم تحريم، فهذا هو الحكم الصحيح في مثل هذا الطلاق الواقع بهذه الصفة، وللمعلومية حرر كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود
حرر في 19/5/1409هـ، الموافق: 28/12/1988م

***

طلاق الحائض في الطهر

السؤال: ما الحكم في رجل طلق زوجته وهي حائض ثم طلقها ثانية وهي في طهر جامعها فيه؟

بخيت طالب

الجواب [رقم: 156]:

التاريخ: 7/12/1408هـ، الموافق: 20/7/1998م

سألني بخيت طالب عن طلاق وقع على زوجته صفته أنه طلقها وهي حائض ثم طلقها ثانية وهي في طهر جامعها فيه، لهذا أفتيت بأن هذا الطلاق لغو ولا يقع على المرأة، وأنه يباح له مراجعتها له لتبقى زوجة له كحالتها السابقة، وللمعلومية حرر كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

طلاق الحائض

السؤال: فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - الموقر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا طلقت زوجتي بأن كتبت ورقة وبها قلت لها: أنت طالق طالق طالق، وسلمت الورقة لوالدها، الآن أريد أن أعيدها إلى عصمتي. هل لي الحق في ذلك شرعًا؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التاريخ: 2 من رمضان عام 1408هـ، الموافق: 18/4/1988م

الجواب [رقم: 157]:

الحمد لله: بما أنه قد سألني الرجل الباكستاني الجنسية عن طلاق وقع منه لزوجته وصفته أنه قال لها: أنت طالق طالق طالق، وهي حائض بزعمه، لهذا أفتيته بأن هذا الطلاق لاغٍ لا عمل عليه ولا تحرم به المرأة، وأن له الحق في مراجعتها لتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة، ليكون معلومًا كيلا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

يمين الطلاق والطلاق البدعي

السؤال: صاحب السماحة فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - حفظه الله -.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أفيدكم بأنه وقع مني عدة طلقات على زوجتي، أولها قلت لأحد الإخوان أعطني شيئًا معلومًا لديك وإن لم تعطني فزوجتي طالق، ولم يعطني شيئًا مما ذكر، ولم يكن في نيتي الطلاق البتة، وكنت جاهلاً بالحكم، ثم وقع طلاق بعد مدة طويلة صار بيني وبينها خلاف طويل فطلقتها طلقة واحدة ثم راجعتها، ولم أكن أعلم أهي في حيض أم لا أو في طهر جامعتها فيه، ورأيت من علامات الحيض حال إرسال متاعها، ثم طلقتها طلقة واحدة في طهر جامعتها فيه فبقيت عند أهلها حتى تاريخه، وكنت في هذه المدة وفي اليوم الذي وقع مني الطلاق فيه وهو تاريخ 22/5/1408هـ، مريضًا مرضًا مؤثرًا على حالتي النفسية بموجب خطاب مدير مكتب العمل الرئيسي بالوسطى بطلب الكشف علي المرفق صورته، وفي أثناء هذه المدة أشار عليَّ بعض الإخوان بأن أطلقها طلقة حتى تخرج من عدتها وتبين مني وقد تم ذلك... ولكنني بعد شفائي ورجوع حالتي النفسية الصحيحة اشتقت إلى أهلي وأولادي. فآمل إفتائي بحكم طلاقي هذا، وهل لي من رجعة؟ والسلام.

التاريخ: 20/11/1408هـ، الموافق: 4/7/1988م.

الجواب [رقم: 158]:

الحمد لله: بما أنه حضر لديّ/ سليمان بن عبدالرحمٰن من أهل حوطة سدير، وسألني عن طلاق مفرق صدر منه لزوجته/ هيا.

الطلاق الأول: أنه أراد شراء شيء فقال لصاحب الدكان علي الطلاق أن تبيعني فلم يبعه، فيعتبر هذا الطلاق يمينًا يكفر عنها بكفارة يمين.

الطلقة الثانية: أنه طلقها طلقة واحدة ولا يدري أهي طاهر أم حائض؟ فهذه طلقة وقد راجعها فيه.

الطلقة الثالثة: أنه طلقها في طهر جامعها فيه وراجعها، فهذه الطلقة غير واقعة لقول الله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[سورة الطلاق، الآية: 1].

الطلقة الرابعة: غرني بعض الأصحاب حيث أشاروا عليّ بأن أطلقها فطلقتها هذه الطلقة ولم أراجعها وخرجت من عدتها، وأنا الآن نادم على كل ما وقع مني عليها وأريد الرجوع إلى زوجتي.

وحيث إن المرأة خرجت من عدتها، فتحل له بعقد جديد.

هذا ما لزم، وللمعلومية حرر كيلا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم قول الرجل لزوجته أنت طالق بالثلاث

السؤال: وقع نزاع بيني وبين زوجتي وعلى أثره قلت لها: اذهبي فأنت طالق بالثلاث. وقد ندمت كما ندمت زوجتي ونريد العودة إلى بعضنا إن كان حلالاً.

الجواب [رقم: 159]:

التاريخ: 20/6/1408هـ، الموافق: 8/2/1988م.

الحمد لله: بما أن مبارك وقع بينه وبين زوجته نزاع وعلى أثره قال لها: اذهبي فأنت طالق بالثلاث، ثم ندم على وقوع الطلاق منه عليها، كما أنها ندمت على فراق زوجها، فجاءني يسألني عن حلالها وحرامها، وزعم أنه لم يقع منه طلاق على زوجته المذكورة إلا هذه المرة لا غير، لهذا أفتيته بأن هذا الطلاق يقع عن طلقة واحدة، وأنه حلال عليه أن يراجعها وتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة.

وللمعلومية حرر كيلا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الطلاق قبل الدخول بالزوجة وهل يحسب من عدد الطلقات بعد الزواج بها بعقد جديد

السؤال: فضيلة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود - رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - الموقر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أريد من حضرتكم التكرم علينا في هذه الفتوى، وموضوعها الآتي:

لقد تزوجت من ابنة خالي، عقدت عليها ولم أدخل بها، وقد هددني والدي بأن أطلقها وهددها هي الأخرى كذلك، وتم الطلاق تحت التهديد والخوف من والدي لأنني كنت في سن 19 سنة في تلك الأيام.

وبعد فترة 5 سنوات أراد الله أن أتزوجها ودخلت بها شرعًا أمام الله والمسلمين، ولكن للأسف إنني طلقتها بعد ذلك مرتين، وكنت في حالة من الغضب، كان مرة بسبب عمتها، ومرة بسبب أهلها، ولي منها ابنة الآن عمرها سنتان، وهي تريد أن ترجع لي للعشرة ولتربية البنت، ولكن أنا حتى الآن ثلاث سنوات ونصف وأنا متوقف عن ردها بسبب الطلاق الأول الذي كنت مجبرًا من شدة الخوف، هل هذا الطلاق الإجباري تحت التهديد يصح في شرع الله أم يكون باطلاً عند الله.

والأمر متروك لفتوى فضيلتكم... بارك الله فيكم للعباد والمسلمين.

العراقي إبراهيم

الجواب [رقم: 160]:

الحمد لله: بالمحكمة الشرعية الكبرى بقطر لدي أنا رئيسها: سألني الرجل العراقي إبراهيم قائلاً: (لقد تزوجت بالمرأة صباح بنت راغب زواجًا شرعيًّا، وقبل الدخول بها أوقعت عليها الطلاق، ثم تزوجتها من جديد بعد طلاقها بعقد جديد ودخلت بها وحصل بيني وبينها طلاق، وأوقعت عليها الطلاق لأول مرة ثم راجعتها في عدتها، ثم أوقعت عليها الطلاق للمرة الثانية ولم أراجعها في المرة الثانية)، ويريد إرجاعها إليه لتكون له زوجة شرعية.

الجواب: بعد الاطلاع على سؤال الرجل المذكور أفتيناه بأن الطلاق الأول الذي وقع من قبل الدخول على زوجته المذكورة لا عدة عليها، وقد عقد عليها من جديد، فهذا الطلاق الواقع من قبل الدخول في العقد الأول لا يحسب مع الطلقتين الواقعتين بعد الدخول في العقد الثاني، بل يحسب عليه الطلقتان الواقعتان بعد الدخول، ولم يبق له من سنة الطلاق إلا طلقة واحدة فإذا أوقعها على زوجته طلقت منه وبانت بينونة كبرى ولا تحل له بعدها حتى تنكح زوجًا غيره، وله الحق الآن في إعادة زوجته إلى عصمته بعقد جديد ومهر جديد حسب الطريقة الشرعية وتكون له زوجة على ما بقي له من سنة الطلاق.

فهذا ما أفتيته به وصلى الله على سيدنا محمد.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

حكم طلاق المرأة نفسها دون القاضي

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم مفلح بن محمد، سلام عليكم.

سألت عما سمعت بالإذاعة من أن امرأة طلعت من بيت زوجها وأنها طلقت نفسها بلا سبب يوجبه، ثم تزوجت بآخر وأتت منه بأولاد، ثم مات عنها إلخ. فما حالتها مع الزوج الأول؟

الجواب [رقم: 161]:

اعلم يا أخي أن المرأة لا تطلق نفسها بتاتًا، وإنما الطلاق لمن أخذ بالساق، أي: للزوج الذي بيده الوثاق، إلا إذا حكم حاكم بطلاقها لسبب يوجبه من المسوغات الشرعية، كأن يطلقها أو يفسخ عقد النكاح القاضي بسبب إضرار الزوج بها، أو قطعه النفقة عنها، أو عدم قسمه لها، أو كونه عنِّينًا لا يستطيع أن يجامعها، وغير ذلك من المسوغات الشرعية، كأن يشتد بغضه لها فيفسخ القاضي عقد نكاحها بسببه عندما ترد إليه نفقته، فحكم القاضي في هذه الحالات يقطع النزاع ويجعلها خليَّة من الزوج الذي فسخت منه، وتنقطع صلته بها، فمثل هذه المسألة ترفع إلى قاضي البلد ويخبر بالسبب وينتظرون ما يقول، وليست هذه المسألة بكثيرة الوقوع بين الناس وإنما تقع على سبيل الندور.

وعلى كل حال؛ فإنها متى طلقت نفسها بدون أن يطلقها زوجها وبدون أن يفسخ لها القاضي فإن هذا الطلاق لا يقع وتبقى زوجة للأول كحالتها السابقة حتى ولو تزوجت غيره، ويختلف الحكم والجواب عليه باختلاف الحالة والواقع، ولكل سؤال جواب...

والباري يحفظكم.. والسلام.

(17/5/1401هـ)
عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

طلاق مريض الأعصاب، والطلاق في الحيض

الحمد لله: بما أن محمد بن ع، قطري الجنسية، سألني عن طلاق وقع منه على امرأته صيتة بنت س، صفته بزعمه: أنه وقع شجار بينه وبين ولده، قال: فحاولت أن أضرب الولد فحالت أمه بيني وبينه فقلت لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، عندي أعصاب لا أتمالك معها نفسي من شدة الغضب، فندمت حالاً على ما وقع مني وراجعت زوجتي في الحال، وهي أم عيالي، فأنا أشكو إلى الله حالي. وبسؤال المرأة صيتة أفادت بأن هذا هو سبب الأمر الواقع، فأوقع الطلاق عليّ وأنا حائض وهو لا يتمالك نفسه من شدة الغضب دائمًا، هذا حاصل ما تدّعي به، وثبت بما شهد به راشد بن بخيت بن عليان وحمد بن فهد القوبعي بأن الرجل محمد بن ع ندرك عليه خفة العقل حين وقع منه الطلاق ويشتد غضبه دائمًا على أهله، كما شهد علي بن حمد بن حنزاب بمثل ذلك.

الجواب [رقم: 162]:

لهذا أفتيته بأن هذا الطلاق الأخير الواقع منه لا يعتد به ولا يحرّم زوجته عليه؛ لكونه طلقها في حالة ما يملك فيها نفسه وهي حائض، وقد ردّ النبي ﷺ زوجة ابن عمر عليه حين طلقها وهي حائض، فأمره بمراجعتها [رواه البخاري (5251)، ومسلم (1471) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]، وبناءً على سوء حالة هذا الشخص أفتيته بمراجعة زوجته وتبقى حلالاً له كحالتها السابقة من غير عقد ولا غيره.

وللمعلومية حرر كي لا يخفى.

(2/1/1403هـ، 19/10/1982م)
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الطلاق الثلاث في المجلس الواحد

السؤال:

التاريخ: 3/4/1407هـ، الموافق: 4/12/1987م.

حضرة فضيلة الشيخ رئيس المحاكم الشرعية بدولة قطر الموقر، تحية طيبة. وبعد؛

أرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة على هذا الاستفتاء:

رجل طلق زوجته وهو أول طلاق يحدث بينهما في حال غيظ وغضب ومشاجرة حدثت بينهما بالكلام، فتلفظ عليها: طالق ثلاث مرات، مع ذكر اسمها، ماذا يرى فضيلتكم في هذا الأمر، هل يثبت طلاقها أم له الحق في مراجعتها على سنة الله ورسوله؟

أرجو الإفادة من فضيلتكم، دمتم ذخرًا للأمة الإسلامية، والسلام عليكم.

مقدم الاستفتاء المطلق (ناصر محمد)

الجواب [رقم: 163]:

الحمد لله: للجواب عن السؤال فإن هذا الطلاق الواقع أول مرة ولو بذكر الثلاث أنه طلاق رجعي يبيح للزوج مراجعتها في عدتها؛ لكونه أحق بها، ولقوله سبحانه: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[سورة البقرة، الآية: 228] فلا يحرمها هذا الطلاق على زوجها بنص القرآن والسنة، فقد طلق أبو ركانة امرأته ثلاثًا فقال له رسول الله: «رَاجِعْ امْرَأَتَكَ فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ» [رواه أبو داود (2196)، وأحمد (2387) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ]، وآخر من الصحابة طلق امرأته وحلف أخوها بألا يردها إليه فأنزل الله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[سورة البقرة، الآية: 228][رواه البخاري (5331) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه]. فهذا الطلاق بهذه الصفة متى راجعها زوجها في عدتها قبل أن تحيض ثلاث مرات فإن رجعته صحيحة لكون الطلاق الشرعي ثلاث طلقات في ثلاث أطهار، فإذا طلقها مرة واحدة ثم راجعها في عدتها فإنها زوجته ولا حاجة لاستئناف العقد، أما إذا تركها حتى خرجت من عدتها فإنها تحل له بعقد جديد، هذا حاصل ما نفتي به ونعمل بموجبه، والله يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الطلاق الثلاث في طهر واحد يقع واحدة

السؤال:

فضيلة الشيخ رئيس المحاكم الشرعية للشؤون الدينية بدولة قطر الموقر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

أرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة على فتواي وهي على النحو التالي:

حيث إني متزوج من امرأة ولي منها ولد، وقد حدث بيني وبينها بعض المشاجرة في حالة عدم الشعور وفي حالة الغضب، فدخل علي أخوها فقلت له: خذ أختك فهي طالق ثلاثًا، وهي للمرة الأولى، ماذا ترون فضيلتكم هل يثبت طلاقها؟ أم الشريعة الإسلامية تبيح لي مراجعتها؟

أرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العاشر من ربيع الأول 1407هـ،
الموافق: 12/11/1986م مقدم الاستفتاء المطلق - سلطان بن راشد

الجواب [رقم: 164]:

الحمد لله: للجواب عن السؤال فإن هذا الطلاق الواقع أول مرة ولو بذكر الثلاث أنه طلاق رجعي يبيح للزوج مراجعتها في عدتها لكونه أحق بها، ولقوله سبحانه: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [سورة البقرة، الآية: 228] فلا يحرّمها هذا الطلاق على زوجها بنص القرآن والسنة، فقد طلق أبو ركانة امرأته ثلاثًا فقال له رسول الله: «رَاجِعْ امْرَأَتَكَ فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ» [أخرجه أحمد (1/265) عن ابن عباس]، وآخر من الصحابة طلق امرأته وحلف أخوها بألا يردها إليه فأنزل الله: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون٢٣٢[سورة البقرة، الآية: 232]. فهذا الطلاق بهذه الصفة متى راجعها زوجها في عدتها قبل أن تحيض ثلاث مرات فإن رجعته صحيحة؛ لكون الطلاق الشرعي ثلاث طلقات في ثلاثة أطهار، فإذا طلقها مرة واحدة ثم راجعها في عدتها فإنها زوجته ولا حاجة لاستئناف العقد، أما إذا تركها حتى خرجت من عدتها فإنها تحل له بعقد جديد، هذا حاصل ما نفتي به ونعمل بموجبه، والله يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.

(17/3/1407هـ، 19/11/1986م)
رئيس المحاكم الشرعية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

طلاق المغلوب على عقله

مستشفى حمد العام، التاريخ: 13/9/1406هـ، الموافق: 21/5/1986م.

الاسم: محمد حسن، الجنسية: قطري، العمر: 40 سنة. الوضع العائلي: متزوج.

أشهد أن السيد محمد يعاني من اضطراب نفسي منذ فترة طويلة وتردد على العيادة النفسية والقسم الداخلي، وهذه الشهادة حررت على حسب طلب المريض.

الدكتور- أمين علي

استشاري ورئيس قسم الأمراض النفسية

الجواب [رقم: 165]:

التاريخ: 14/9/1409هـ، الموافق: 22/5/1986م.

الحمد لله: بما أن الرجل/ محمد حسن قطري الجنسية يعاني من الصرع في أكثر الأوقات وقد شهد له الأطباء بذلك وقد أوقع الطلاق على زوجته وندم على طلاقها.

لهذا أفتيته بعدم وقوع الطلاق منه عليها لكونه مغلوبًا على عقله، ويجوز له أن يراجعها كحالتها السابقة.

وللمعلومية حرر كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم الطلاق بالثلاث في المجلس الواحد، والطلاق أثناء الحمل

السؤال:

فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله تعالى لكم السعادة والتوفيق لما فيه صلاح المسلمين. وبعد؛

فما قولكم في رجل يطلق زوجته ثلاث تطليقات في مجلس واحد وهو في غضب شديد وهي حامل ويعطيها حقها من المهر وغيره، ثم بعد شهور يريد مراجعتها إلى عصمته بعقد جديد، هل يجوز ذلك أم لا؟

أفيدونا بذلك وجزاكم الله خير الجزاء.

الداعي إلى الخير/ فاروق جاويد من فارس.

الجواب [رقم: 166]:

إن الطلاق بالثلاث أو بالمائة في مجلس واحد، نعتبره نحن طلقة واحدة، وأنه يحق للزوج مراجعتها ما دامت حاملاً بدون عقد ولا غيره، أما إذا تركها ولم يراجعها حتى وضعت فإنها تحل له بعقد جديد، لقوله سبحانه: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[سورة البقرة، الآية: 228] أي: في مدة العدة. فهذا حاصل ما نفتي به في هذه القضية، والباري يحفظكم.

13/10/1425هـ، 1/7/1985م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الطلاق أثناء الحمل والرجعة بعد الولادة

السؤال:

25/6/1405هـ.

فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - بقطر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، دمتم دائمًا في حفظ الله ورعايته.

ما قولكم في رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات دفعة واحدة وهي حامل ثم بعد وضع حملها يريد أن يرجعها إلى عصمته بعقد جديد هل يجوز له ذلك أم لا؟

أفتونا في ذلك وجزاكم الله خير الجزاء.

العنوان: إيران بندر لنكه منطقة كاوبندي دشتى أخوكم- فاروق دشتي مالك

الجواب [رقم: 167]:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الجواب عن هذا الرجل الذي طلق امرأته بالثلاث جميعًا دفعة واحدة وهي حبلى ولم يقع منه طلاق عليها قبل هذا وقد وضعت حملها، فهذا الطلاق يعد بينونة صغرى، وبموجب وضع حملها تحل لزوجها بعقد جديد لاعتبار أن الطلاق بالثلاث دفعة يكون عن طلقة واحدة، فكأنه لم يطلقها إلا مرة واحدة. وفي ذلك أنزل الله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ[سورة البقرة، الآية: 232].

أحببت التعريف بذلك للعلم به كي لا يخفى.

(30/7/1405هـ، 3/4/1985م)
رئيس المحاكم الشرعية

***

حكم الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه

السؤال:

الحمد لله: وجه تحريره؛ سألني حسني محمود - أردني الجنسية -، عن طلاق وقع منه على زوجته صفته بزعمه أنه قال لها طالق مرة ثم راجعها ثم أوقع الطلاق الثاني وراجعها، وفي الثالثة طلقها في طهر جامعها فيه.

الجواب [رقم: 168]:

لهذا أفتيته بأن هذا الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه بأنه حرام ولا يقع ويجب أن يراجعها وتبقى معه حلالاً عليه كحالتها السابقة إلى أن يطلقها الثالثة طلاقًا صحيحًا.

وللمعلومية حرر كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر

المكره على الطلاق والطلاق في الطهر الذي جامعها فيه

السؤال:

التاريخ: 15/6/1405هـ، الموافق: 6/3/1985م.

الحمد لله: سألني محمد بن علي عن طلاق وقع منه على زوجته نورة، بزعمه أنه طلقها في طهر لم يجامعها فيه، ثم راجعها، ثم طلقها المرة الثانية بعد خمسة أشهر تقريبًا من الطلاق الأول، ثم راجعها، ثم طلقها الثالثة حيث أكرهته على طلاقها وفي طهر جامعها فيه، ثم جاء يسأل عن هذا الطلاق.

الجواب [رقم: 169]:

فأفتيته بأن هذا الطلاق الأخير لم يتحقق حيث إنه مكره على طلاقها وفي طهر قد جامعها فيه، فكان هذا الطلاق الأخير غير صحيح وتبقى زوجته مباحة له على ما بقي لهن من سنة الطلاق، ومن واجبه أن يحفظ لسانه عن الطلاق.

ليكن معلومًا كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم الطلاق المشروط

السؤال:

التاريخ: 17/5/1405هـ، الموافق: 7/2/1985م.

الحمد لله: سألني حمد، قطري الجنسية، عن طلاق وقع منه على زوجته تركية قائلاً: إن ردّت عليّ حلالي فهي طالق، فلم ترد عليّ شيئًا ولم ترغب في الطلاق.

الجواب [رقم: 170]:

فأفتيته بأن هذا الطلاق بهذه الصفة لم يقع لكونه مشروطًا برد ماله ولم يحصل، فصار لاغيًا لا عمل له عليه ولا تحرم زوجته عليه، بل هي حلال عليه كحالتها السابقة.

وذلك كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الطلاق البدعي لا يقع

السؤال:

حضرة سماحة الشيخ الفاضل قاضي المحكمة الشرعية بدولة قطر الموقر.

سلام الله عليكم ورحمة منه وبركاته. وبعد؛

جئتكم مستفتيًا حول موضوع: رجل طلق زوجته ثلاثًا لم يذكر اسمها عند وقوع الطلاق بأن نطق أو لفظ عليها طالق، علمًا فقد كان الطلاق في حالة غضب حتى إنه فقد الذاكرة ولديه من هذه الزوجة تسعة أطفال.

أرجو من فضيلتكم التوضيح هل يستطيع المطلق مراجعتها شرعيًّا لكي يتمكن الأطفال من العيش تحت ظل والديهما دون التفرق، وما هو الذي يلزم على المطلق بحق الشرع، وتفضلوا.

مقدمه - سعيد بن حمد 13/2/1405هـ

الجواب [رقم: 171]:

الحمد لله: سألني الرجل/ سعيد بن حمد من سكنة وادي المعاول بسلطنة عمان عن طلاق وقع منه على امرأته سلمة، صفته - بزعمه - أنه قال لها في حالة غيظ وغضب منذ أكثر من سنة قال لها: طالق طالق طالق. وهي أم عياله، وقد أوقع هذا الطلاق من دون ترتيب وتهذيب وفي طهر جامعها فيه حسب زعمه، وقد اعترف أنه طلقها في زمن ماض ثم راجعها على حسب فتوى من أحد العلماء، لهذا أفتيته بأن هذا الطلاق بهذه الصفة لا يقع لكونه طلاقًا بدعيًا، وأنه يباح له أن يعود إليها وتعود إليه على حسب نكاحهما السابق، فهي مباحة له، ولا يحسب هذا من الطلاق لكونه وقع على غير نظام شرعي، والله يقول: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[سورة الطلاق، الآية: 1]، أي: في قبل عدتهن ﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ[سورة الطلاق، الآية: 1]، فهذا الطلاق الواقع بالثلاث جميعًا وفي طهر جامعها فيه هو من التعدي لحدود الله، فلا يقع لقول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْه أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها].

لهذا أفتيت السائل بجواز مراجعته لزوجته ويتمتع بها حسب حالها السابق.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر
عبدالله بن زيد آل محمود
التاريخ: 14/2/1405هـ، الموافق: 7/11/1984م

الطلاق الثلاث في طهر واحد لا يقع إلا طلقة واحدة، وصفة الطلاق السني

السؤال:

الحمد لله: سألني الرجل/ محمد البلوشي عن طلاق وقع من ابن أخيه المدعو/ رسول بخش، وزوج ابنته المسماة/ خاتون، بأن زوج ابنته المذكور طلق زوجته في حالة غضب بالثلاث في مجلس واحد، وقد سألوا أحد قضاة البحرين وهو الشيخ يوسف صديقي فأفتى بكون هذا الطلاق عن طلقة واحدة ويصح للزوج مراجعة زوجته بدون عقد.

الجواب [رقم: 172]:

هذه الفتوى الصادرة من أحد القضاة هي فتوى صحيحة واقعة في موقعها الصحيح؛ من كون هذا الطلاق الذي لم يسبقه شيء من الطلاق يعتبر طلقة واحدة، حتى لو طلقها مائة مرة في مجلس واحد، وحكم الحاكم يزيل النزاع، فهذه المرأة هي حلال لزوجها كحالتها السابقة لحكم النبي ﷺ في طلاق أبي ركانة حيث طلق زوجته بالثلاث في مجلس واحد، فجعلها النبي ﷺ طلقة واحدة وقال لأبي ركانة: «رَاجِعْ امْرَأَتَكَ» [سبق تخريجه في صفحة 216]، والله سبحانه يقول: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ[سورة البقرة، الآية: 229] يعني مرة بعد مرة، ولا يكون جميعًا أبدًا، لكون الزوج لا يملك إلا طلقة واحدة، ثم يترك زوجته، إن أحب راجعها وإن أحب فراقها تركها ومضت في سبيل انقضاء عدتها، فهذا الذي نحكم به ونعمل بموجبه، ونعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه الحق من الله، وأنه الطلاق المشروع، والله خليفتي على كل مسلم.

كي لا يخفى.

التاريخ: 23/1/1404هـ، الموافق: 29/10/1983م
رئيس المحاكم الشرعية بقطر
عبدالله بن زيد آل محمود

***

يمين الطلاق كفارته كفارة يمين

السؤال:

الحمد لله: بتاريخ اليوم الحادي والعشرين من شهر رجب المحرم عام 1398هـ، الموافق: السادس والعشرين من شهر يونيو (حزيران) عام 1978.

حضر الرجل/ جابر بن حنفي - مصري الجنسية - واستفتاني على صيغة طلاق حلفه على زوجته المسماة/ عديلة، قائلاً بلسانه: لقد قلت لزوجتي المذكورة - عليَّ الطلاق ما تبيتي الليلة في البيت، ولكنها باتت في البيت ولم تخرج منه.

الجواب [رقم: 173]:

فأفتيته بأن هذا اليمين هو يمين الطلاق وليس الطلاق الشرعي، وعليه كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين، أي: ما يقارب خمسين ريالاً تقريبًا، فهذا ما اعترف به الرجل على نفسه، وقد أجبته على ذلك.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

طلاق الحامل

السؤال:

الحمد لله: حضر لدي الرجل المدعو/ عبدالله بن سالم من سكنة الدوحة (قطري الجنسية) فسألني قائلاً: إن لي زوجة تدعى/ مي، تزوجتها في البحرين ثم نقلتها إلى قطر فأوقعت عليها طلقة أولى وأرجعتها، ثم طلقتها طلقة ثانية وكانت خلالها حبلى، فقيل لي: إن هذا الطلاق غير صحيح وهي في حملها، فهذا صفة الأمر الواقع مني في خصوصه.

الجواب [رقم: 174]:

لذلك أفتيت بأن الطلاق الثاني الواقع عليها وهي حبلى يعتبر صحيحًا واقعًا موقعه، وإنها بوضع حملها تعتبر بائنًا منه بحيث لا تحل له إلا بعقد جديد برضاها واختيارها، ومهر يسمى لها وبولي وشاهدي عدل، لكون هذا الطلاق يعتبر بينونة صغرى، وقد جعلت للغائبة حجتها وكل ذي حق على مستحقه.

وهذا للعلم كي لا يخفى.

1/3/1398هـ، الموافق: 8/2/1978م
رئيس المحاكم الشرعية بقطر
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة يكون طلقة واحدة

السؤال:

لحضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - رئيس محكمة القضاء بقطر - حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله تعالى: أسأل الله تعالى لكم زيادة في العلم وبركة في العمر وتوفيقًا في العمل وحسن عاقبة في الأمور، ثم إنه وقعت لي مشكلة بخصوص الطلاق الثلاث، ونحن العوام كما تعلمون لا نفكر في الأمر، وإذا وقعنا في المشكلة سألنا عمن يحلها لنا، وحقيقة الأمر كما يلي: لي زوجة ولي منها خمسة أولاد وهي حامل الآن، وقبل هذا بشهرين أوقعت الطلاق الثلاث عليها في مجلس واحد، وذلك في حين النزاع والقهر، وهنا عندنا إذا أوقع رجل الطلاق يلزم أن يراجع المحكمة فتصدر الحكم إلى المحضر الرسمي للزواج والطلاق حتى يثبت الطلاق، وقد قيدت الطلاق في المحضر إلا أنني لم أجد الطلاق هناك، والطلاق كما عرضت؛ أوقعت الثلاث في مجلس واحد، وأنا الآن نادم والأولاد يترحم عليهم والزوجة في همّ واضطراب، فالرجاء من فضلكم إذا كان في الأمر سعة ويمكن أن أعود أنا وزوجتي إلى الحياة أن تبينها لي، ولكم في هذا أجر جزيل، فذلك بمنزلة إحيائنا وتجديد مستقبل الأولاد الصغار الذين لا ذنب لهم في هذا؛ لأن المفتين في بلادنا يقولون وقع الطلاق على المعتمد في المذاهب الأربعة، وسمعنا أن قولاً لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الخصوص أن الطلاق الثلاث في مجلس واحد لا يقع إلا واحدًا، وسمعنا بعدم وقوع طلاق الغضبان الفاقد للوعي، وإذا لم يكن قول بهذا الخصوص ووقع الطلاق فبعد وضع الحمل وتمام العدة للمرأة هل هناك طريق في الاكتفاء بالعقد المجرد دون التصرف، نرجو من فضيلتكم حلّ مشكلتنا فإننا من هذا الأمر في محنة وضيق وهم وارتباك، وأنا موظف صغير والزوجة والأولاد في هم كبير.

الأحقر: محمد بن عبدالرحمٰن

الجواب [رقم: 175]:

السيد/ محمد بن عبدالرحمٰن... المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد: فردًّا على رسالتكم المؤرخة في 17/11/1397هـ، حيث سألتم عن الطلاق الواقع منك بزعمك على زوجتك وهو الطلاق بالثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد.

ج: إن الله سبحانه يقول في محكم التنزيل ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ وفي الثالثة ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون[سورة البقرة، الآية: 229] فحكم الله يوجب أن يكون الطلاق مرفقًا لقصد التروي وإزالة الغضب الذي يعتري الإنسان حتى يكون في سعة وفي مهلة من تدارك أمره، وهو رحمة من الله لعباده حيث لم يجعله دفعة واحدة، فالطلاق بالثلاث بكلمة واحدة يكون عن طلقة واحدة، وهذا اختيار شيخ الإسلام والعلامة ابن القيم وكثير من أهل الحديث والعلم من خاصة المتأخرين، ونحن نفتي بذلك، بحيث يجعل هذا الطلاق الواقع منك بمثابة طلقة واحدة متى راجعت زوجتك في العدة – أي: قبل أن تلد - فإن الرجعة صحيحة، وراجع زوجتك وتبقى معك على ما بقي لك من سنة الطلاق، ومن الشعر في هذا المعنى قول بعضهم:

ألا قل في الطلاق لموقعيـه
بما في الشرع ليس له وجـوب
غلوتم في ديانتكم غلـوًّا
يضيق ببعضه الشرع الرحيب
أراد الله تيسيرًا وأنتـم
من التعسير عندكمُ ضـروب
فذا ابن القيم الفقهاء كم قد
دعاهم للصواب فلم يجيبـوا

فإن ارتجعت زوجتك في العدة – أي: قبل أن تلد - فإنها زوجة شرعية كحالتها السابقة بدون عقد ولا غيره... وإن خرجت من العدة بأن وضعت حملها، ولم يسبق منكم طلاق لها قبل هذه المرة، فإنه يجوز لك أن تعود عليها بعقد جديد.

فهذا حاصل ما نفتي به ونرى أن ارتجاعك لزوجتك في زمن العدة صحيح وتبقى معك كحالتها السابقة فيما بقي لك من سنة الطلاق.

ليكن معلومًا لديك كي لا يخفى، والسلام.

التاريخ: 6/2/1397هـ، الموافق: 17/11/1977م
رئيس المحاكم الشرعية بقطر
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الخلع لا ينقص عدد الطلاق

السؤال:

الحمد لله: سألني- عبدالله بن زايد، من سكنة البحرين، عن طلاق وقع منه على زوجته المسماة- منى، صفته - بزعمه - أنه قال لها من مدة تزيد على السنة: (أنت طالق للسنة)، وكانت حاملاً، فوضعت حملها بعد وقوع هذا الطلاق عليها، ثم إنه تزوجها بعقد جديد مستوف لشروط الصحة، ثم إنه بعد عقد الزواج عليها وبعد مضي مدة خالعها على مال معلوم، ثم ندم بعد مخالعته عليها وحاول ارتجاعها في مدة عدتها بعد مضي اثنين وعشرين يومًا بزعمه، ثم سألني عن إباحتها له بعقد أو بدون عقد.

الجواب [رقم: 176]:

فأجبته بأن الطلاق الأول السابق منه بعد مضي سنة هي طلقة واحدة، وقد انقضت عدتها بوضع حملها، ثم إنه خطبها فتزوجها بعقد جديد، فوقعت المخالعة منه عليها.

لهذا: أفتيته بأن الطلاق الواقع منه على زوجته/ منى هي طلقة واحدة محققة، والثانية هي مخالعة على مال، والمخالعة على مال، لا تنقص عدد الطلاق لكنها بينونة صغرى، وكونه يجوز له أن يعقد عليها من جديد لبقاء سنة الطلاق في يده، ولم يفرط في الإيقاع إلا بطلقة واحدة وإلا بالخلع على المعاوضة، والخلع لا ينقص عدد الطلاق.

لهذا يباح له أن يعقد عليها عقدًا مستأنفًا من جديد برضاها وتبقى زوجة له كحالتها السابقة.

حررته للعلم به كي لا يخفى.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

يمين الطلاق بغير نية الطلاق لا يقع وفيه كفارة يمين

السؤال:

حضرة سماحة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر - حفظه الله -.

السلام عليكم ورحمة الله. وبعد؛

فإنه لمن دواعي سروري أن أتقدم لسماحتكم بهذا السؤال راجيًا ولو كلفت عليكم الرد عليه.

إنه عندما كنت في القاهرة من مدة ست سنين تقريبًا حصل بيني وبين أحد أنسابي هناك مشاجرة وصلت إلى أنني فقدت أعصابي وغضبت غضبًا شديدًا وتلفظت قائلاً: إن أم خالد (يعني زوجتي) طالق بالثلاث إن زرتكم في القاهرة (أو طبيتها) أما زيارتها فلا مانع لدي، وقد استثنيت المجيئات الرسمية، وكان ذلك في حالة غضب شديد، وفي العام الماضي سافرت إلى أمريكا، وفي رجوعي نزلت في القاهرة وأقمت فيها خمسة عشر يومًا ولست في مهمة رسمية، وزرت العائلة هناك، هذا حاصل ما حدث معي، أرجو من سماحتكم إفادتي، والله يرعاكم بحفظه، والسلام عليكم.

محبكم المخلص: عبدالله بن ح

الجواب [رقم: 177]:

من عبدالله بن زيد آل محمود، إلى الأخ الفاضل عبدالله بن ح، سلام عليكم.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم أشرت فيه إلى السؤال الذي حاصله: أنك على إثر مغاضبة بينك وبين أصهارك قلت: زوجتي أم خالد طالق بالثلاث إن زرتكم في القاهرة (وطبيتها)، وقد استثنيت بزعمك المجيئات الرسمية، وكان ذلك في حالة غضب شديد، وذكرت أنك في العام الماضي سافرت إلى أمريكا وفي رجوعك نزلت في القاهرة وأقمت فيها خمسة عشر يومًا ولست في مهمة رسمية، وأنت زرت العائلة هناك الذين حلفت عليهم، هذا حاصل ملخص السؤال.

الجواب: يظهر من سبب الحلف بالطلاق أن الذي هيجك هو المغاضبة بينك وبين أصهارك، وأنك طلقت بالثلاث بلفظ واحد على الامتناع عن زيارتهم في القاهرة وعلى عدم النزول بها، وهذا الطلاق الواقع منك بهذه الصفة نعتبره يمين طلاق وليس بالطلاق المفرق بين الرجل وامرأته؛ لأنك لم ترد به طلاق زوجتك، وإنما قصدت به الامتناع عن زيارة أصهارك وعن نزولك بالقاهرة، وقد فعلت ما حلفت عليه من زيارة أصهارك ومن نزولك في القاهرة، فنحن في دائرة عملنا نفتي بأن هذا الطلاق بهذه الصفة هو يمين طلاق مكفر وليس بالطلاق، كما أفتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - والعلامة ابن القيم وكثير من العلماء، لهذا عليك كفارة يمين، أي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم وتنحل عنك يمين هذا الطلاق، وتبقى زوجتك أم خالد المحلوف عليها مباحة لك وليست بحرام عليك كحالتها السابقة. فهذا ما نفتي به لتكونوا على نظر منه.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

عبدالله بن زيد آل محمود

قول الرجل أنت طالق بطلقة وطلقتين وثلاث طلقات

التاريخ: 13/1/1407هـ

السؤال: ما قول علماء الإسلام وفقهاء سيّد الأنام في خصوص رجل طلق زوجته بلفظ: زوجتي بنت فلان مطلقة مني بطلقة وطلقتين وثلاث طلقات، ولقد كرر العبارة المذكورة مرتين في مجلس واحد، وهل هذا النوع من الطلاق رجعي أم لا؟ أفتونا تؤجروا.

الجواب [رقم: 178]:

التاريخ: 20/1/1407هـ، الموافق: 24/9/1986م

الحمد لله: جاءني سؤال من الرجل/ مبارك - إيراني الجنسية.

يقول فيه إنه قال لزوجته: زوجتي مطلقة مني بطلقة وطلقتين وثلاث طلقات، وقد كرر هذه العبارة في مجلس واحد. يسأل هل هذا الطلاق رجعي أم لا؟

والجواب: أن هذا الطلاق الصادر منه بهذه الصفة هو طلاق رجعي يجوز للزوج مراجعة زوجته ما دامت في عدتها، ولا عبرة بقوله طلقتين وثلاث طلقات... فما وقع منه طلقة واحدة رجعية، أما إذا كانت الزوجة قد خرجت من عدتها فيجوز له أن يتزوجها بعقد جديد.

هذا ما لزم، كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

متى تطلب الزوجة الطلاق في حال غياب الزوج عنها

السؤال: ما أقصى مدة يمكن أن يتغيب فيها الزوج عن زوجته؟ وهل لها الحق حينئذ في طلب الطلاق؟

الجواب [رقم: 179]:

إذا غاب الرجل أكثر من ستة أشهر بلا عذر فللمرأة أن تطالب بالطلاق في مذهب الإمام أحمد، وهذا أقل تقدير قيل فيه، أما إذا كان معذورًا في سفره في مثل حاجة أو تجارة أو تكسب على أهله وهو قائم بمؤنة كفايتها فإنه لا حق لها في المطالبة بالفسخ عند انتهاء هذه المدة، وللاجتهاد مجال في هذه القضية.

***

الطلاق في المجتمع القطري

السؤال: هل يعتبر الطلاق في المجتمع القطري مشكلة؟

الجواب [رقم: 180]:

الطلاق في المجتمع القطري قليل عند ذوي الأسر الفاضلة، وأكثر ما يوجد وقوعه عند همج الناس وسفلتهم.

***

أهم أسباب الطلاق في قطر

السؤال: ما هي أهم أسباب الطلاق التي توجد في قطر؟

الجواب [رقم: 181]:

سوء التفاهم بين الزوجين، وعدم وجود الروابط العاطفية، ونفور كل منهما من الآخر، و«ما أحسن الفراق إذا لم تتلاءم الأخلاق»... وكذلك من أهم أسباب الطلاق: اختلاط الأجانب بالنساء، ووسوستهم لهن، وتنفير أحد الزوجين من صاحبه.

***

مذاهب العلماء في الطلاق بالثلاث

السؤال: أيعد الطلاق بالثلاث طلقة واحدة أم ثلاثًا؟

الجواب [رقم: 182]:

هناك خلاف بين العلماء، منهم من يذهب إلى أن الطلاق بالثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثًا كما عليه مذهب الأئمة الأربعة. ومنهم من يعتبره طلقة واحدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان الطلاق على عهد الرسول ﷺ وأبي بكر يقع طلقة واحدة[رواه مسلم (1472)]، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشوكاني وكثير من علماء الحديث، وهو الذي نفتي به في المحاكم الشرعية القطرية، وهو المقتضي للتيسير ورفع الحرج والموافق لنصوص الكتاب والسنة.

***

حكم جعل العصمة بيد الزوجة

السؤال: هل يجوز جعل «العصمة» في يد الزوجة؟

الجواب [رقم: 183]:

لا يجوز من الناحية الشرعية جعل العصمة في يد الزوجة. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء[سورة النساء، الآية: 34]، وفي الحديث: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» [رواه ابن ماجه (2081)، والطبراني في الكبير (11800)، والدارقطني (3991)، والبيهقي (7/590)، (15116) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

***

الرجعة في العدة ومتى تنقضي

السؤال:

التاريخ: 14/5/87هـ، الموافق: 20/8/67م.

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الأخ/ عبدالله بن ش المحترم.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد أشرفت على الورقة المحررة في صفة الطلاق الواقع منك وحاصلها أنك تقول: (قد طلقت زوجتي «بخيته» على سنة الله ورسوله وأذنت لمن يشهد) بتاريخ: 13/4/1387هـ.

الجواب [رقم: 184]:

فالجواب: إن هذا الطلاق يعتبر عن طلقة واحدة، لأن هذا هو الطلاق المشروع في سنة الله ورسوله، فيجوز لك أن تراجعها بدون عقد ولا غيره إذا لم تخرج من العدة، أي: إذا لم تحض ثلاث حيضات وتبقى معك زوجة لك كحالتها السابقة بإجماع العلماء على ذلك، فإن حاضت ثلاث حيضات بعد وقوع هذا الطلاق فهي لا تحل لك إلا بعقد مستأنف من جديد برضاها ورضى وليها، أحببت تعريفك بذلك، والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

صفة الطلاق الشرعي، وطلاق اللغو

السؤال:

التاريخ: 22/10/1406هـ، الموافق: 29/6/1986م.

الحمد لله: حضر لديّ أنا رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية الرجل-باسم عادل - فلسطيني الجنسية - وحضرت لحضوره زوجته/ هناء بنت محمد واعترف أمامي على زوجته المذكورة قائلاً: إنه منذ ثلاث سنين قال لزوجته: يمين الله أنت طالقة بالثلاث، فأفتاه أحد المشايخ بأن هذه عن طلقة واحدة وأرجعها إليه. والمرة الثانية من حوالي سنة ونصف قال لأخيها: أختك طالق ثم راجعها. وآخر مرة في آخر رمضان قال لزوجته بعد خلاف وشجار بينهما: أنت طالق.. طالق.. طالق.

الجواب [رقم: 185]:

والجواب: أننا متى طبقنا هذا الطلاق الواقع منه على الطلاق الشرعي لم نجد له موافقة من الطلاق الشرعي المقتضي للفراق وعدم الوفاق لأمور؛ منها: أن الطلاق الأول القائل فيه: يمين الله أنت طالق بالثلاث، وقد أفتاه من أفتاه بوقوعه عن طلقة واحدة وكونه يجوز له رجعتها، وفعلاً راجعها واستدامت معه سنين. والطلاق الثاني في قوله لأخيها: أختك طالق، ثم راجعها بدون سؤال شيخ والرجعة صحيحة، وكونها تبقى على إباحتها لزوجها كحالتها السابقة لأن الرجعية زوجية.

أما الطلاق الثالث قوله لزوجته: أنت طالق.. طالق.. طالق. وقد وقع هذا الطلاق في طهر جامعها فيه. وعندما نطبق هذا الطلاق المتعدد الواقع منه نجده واقعًا في لغو الطلاق غير واقع موقع الصحة والإباحة. لكون الطلاق الشرعي الذي يترتب عليه صحة موقعه يكون في طهر لم يجامعها فيه. وحقيقة ما ثبت عند الله ورسوله من ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي ﷺ عن هذا الطلاق. فقال له: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، وَتَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا». متفق عليه[صحيح البخاري (5251)، وصحيح مسلم (1471)].

يشير في هذه السنّة إلى قوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ[سورة الطلاق، الآية: 1] أي: في قُبل عدتهن، وذلك بأن يوقع الطلاق عليها في طهر لم يجامعها فيه. وقد ضاق صدر بعض المقلدين للفقهاء المتأخرين بهذا الطلاق على صفته، فمنهم من تورع عن الإفتاء بالإلزام به، ومنهم من تورط في الحكم بصحته غير مبال بحكم الله ورسوله، لأن أكثر الناس في هذا العصر مقلدة لمذهبهم ويسمّون سجناء الألفاظ، وقد عناهم العلامة ابن القيّم في قوله:

وأكثرهم بسجن اللفظ محبـو
سون خوف معرّة السّجانِ
والكل إلا الفرد يقبل مذهـبًا
في قالـب ويرده في ثانِ

وهم الذين عناهم الرصافي في شعره حيث قال:

ألا قل في الطلاق لموقعيـه
بما في الشرع ليس له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلـوًّا
يضيق ببعضه الشرع الرحيب
أراد الله تيسيرًا وأنتـم
من التعسير عندكم ضروب
فذا ابن القيم الفقهاء كـم قد
دعاهم للصـواب فلم يجيبوا

ومثله العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية فقد صرّح تصريحًا ليس بالتلويح على أن كل طلاق يخالف سنة ما شرعه الله في الطلاق من كونه طلق زوجته وهي حائض أو طلقها في طهر جامعها فيه فإنه غير واقع شرعًا، لقول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها].

أما رأيت في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين، وكون النبي ﷺ لم يعتبر طلاق ابن عمر في هذه الحالة ولم يدخله في عدد الطلاق المشروع فصار لغوًا لا يعتبر به، ولا تحرم الزوجة على الزوج من أجله؟!

فهذا الطلاق المتعدد من هذا الشخص نظير الطلاق الواقع من ابن عمر حيث لم يعدّه النبي ﷺ شيئًا وأمره بأن يراجع زوجته.

لهذا فإننا نأمر هذا المطلق بأن يراجع زوجته على كتاب الله وسنة رسوله لكونها لا تحرم عليه، فهذا حاصل ما نفتي به للعلم به، إذ الحق أحق أن يتبع، والقرآن جدير بأن يستمع.

والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

الفرق بين الطلاق الشرعي والطلاق البدعي

السؤال: ما هو الطلاق الشرعي والطلاق البدعي؟ [7/190]

الجواب [رقم: 186]:

شرع الله الطلاق، وما أحسن الفراق إذا لم تتلاءم الأخلاق، وهذا الطلاق بما أنه مباح ومشروع، لكنه بغيض عند الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللهِ الطَّلاَقُ» [رواه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018)، والحاكم (2794) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه أبو داود (2177)، والبيهقي (7/527) (14895 - 14896) مرسلاً، ورجح إرساله أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه (4/117) (1297)، والدارقطني في العلل (3123)]. لأنه يحدث العداوة والبغضاء بين الأصهار، ويقطع النسل المطلوب في الشرع تكثيره، فمتى دعت الحاجة إليه، وجب أن يراعى فيه حسن الأدب بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه، لقوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ[سورة الطلاق، الآية: 1]. فينبغي أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فهذه العدة التي أمر الله أن تطلق فيها النساء. أما جمع الثلاث بلفظ واحد، فهو بدعة. فقد طلق رجل امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام رسول الله ﷺ غضبان فقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» [رواه النسائي (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه]. ومن وكل في طلاق امرأة، فإنه لا يملك - أي الوكيل - إلا واحدة، وكذلك الطلاق في طهر قد جامعها فيه، فإنه حرام أيضًا، فالطلاق الشرعي أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، أو وهي حامل، ثم هو مخير قبل طهرها من عدة الطلاق بين أن يراجعها بلا عقد ولا رضاها، وبين أن يمضي الطلاق. وما دامت في العدة؛ فإنها بمثابة الزوجة، يجب عليه نفقتها وسكناها. يقول الله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ[سورة الطلاق، الآية: 1] فلو مات الزوج قبل أن تخرج من العدة ورثته، لكون الرجعية زوجية، أو ماتت هي في أثناء عدتها ورثها زوجها.

والعدة ثلاث حيض ممن تحيض، أو وضع الحمل إذا كانت حاملاً، وإن كانت آيسة قد انقطع عنها الحيض لكبرها فعدتها ثلاثة أشهر.

ثم قال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وحدود الله محرماته، وسمي حدًّا لأنه فصل ما بين الحلال والحرام، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوْهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوْهَا» [رواه الطبراني في الكبير (22/221/589)، والدارقطني (4396)، وأبو نعيم في الحلية (9/17)، والبيهقي (10/21/19726) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه].

إن المسلم متى عمل بأدب الشرع في الطلاق، فطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فإنه لا يندم. ويؤجر في عمله بحكم الله، وقد يزول عنه الغضب وسكرته، وتعاوده حسن الفكرة والندم، فيكون زمام امرأته بيده، بحيث يراجعها. وهذا معنى قوله: ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا[سورة الطلاق، الآية: 1].

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

إن أكثر ما أوقع العوام في الطلاق بالثلاث جميعًا، حتى كأنهم لا يعرفون غيره، عدم تنبيه العلماء لهم على إساءة فعلهم، وكذا الذين يكتبون صكوك الطلاق، أكثرهم من العوام، لا يعرفون سنة الله في الطلاق والعامي مشتق من العمىٰ، والله يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون ٤٣ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ٤٤[سورة النحل، الآيتان: 43 - 44].

لهذا ذهب بعض العلماء المحققين إلى جعل الثلاث الواقعة بلفظ واحد عن طلقة واحدة، فيجوز للزوج مراجعتها في عدتها، وتبقى معه كحالته السابقة بدون عقد على ما بقي له من سنة الطلاق. وإذا خرجت من العدة قد بانت منه، وحلت لزوج تريده، ويجوز للزوج أن يتزوجها بعقد جديد. اهـ.

***

سكنى المطلقة الرجعية

السؤال: هل تبقى المطلقة في بيتها لحين انتهاء عدتها أم تذهب لبيت أهلها؟ [7/191]

الجواب [رقم: 187]:

قال سبحانه: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ[سورة الطلاق، الآية: 6] فأوجب الله سبحانه سكنى المطلقة في البيت الذي تسكن فيه عند زوجها، ما دامت باقية في عدته، حتى لو طال مكثها. وحرام على المرأة أن تخرج من هذا البيت؛ لأن النبي ﷺ قال: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» [رواه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (3532)، وابن ماجه (2031) من حديث فريعة بنت مالك رضي الله عنها] أي: حتى تتم العدة، وما يقوله بعض العوام من أن المرأة متى طلقت، فإنه حرام أن تبقى عند زوجها في بيته؛ فهذا خطأ، بل يجب عليها أن تبقى في بيت مطلقها ما دامت في عدته، ويجوز لها أن تتزين له، ويجوز أن ينظر إلى وجهها لعل الله يحدث في قلبه محبتها، والرغبة في مراجعتها، إذ الرجعية زوجية، فما دامت في العدة، فحكمها حكم الزوجة، إلا في حالة الجماع، فإنه متى جامعها فقد راجعها على ما بقي له من سنة الطلاق، ومن واجبه أن يشهد على رجعتها، كما أشهد على طلاقها. اهـ.

كتاب العدة

عدة المطلقة

السؤال:

السيد/ مدير دائرة العمل والشؤون الاجتماعية - المحترم

وزارة العمل والشؤون الاجتماعية/ الدوحة.

لقد استلمت كتابكم سألتم عن: عدة المطلقة.

الجواب [رقم: 188]:

أن المدة تختلف باختلاف حالة المرأة، فعدة المطلقة كبيرة السن لا تحيض؛ ثلاثة أشهر، أما المرأة التي تحيض فعدتها ثلاث حيض، وعدة الحامل وضع حملها سواء طالت أو قصرت.

فهذا ملخص ما سألتم عنه، والباري يحفظكم.

(24/10/1392هـ، 8/5/1972م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

عدة المرضع التي لا تحيض بسبب الرضاع

السؤال:

إلى المحب الفاضل/ الشيخ عبدالله بن سليمان – المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

كتابك الكريم وصل وأشرت فيه عن المرأة التي ارتفع حيضها من الرضاع ماذا يكون عدة الطلاق من مثلها؟

الجواب [رقم: 189]:

فاعلم أن المرأة المطلقة التي ارتفع حيضها من الرضاع فإن الحكم فيها بأن تبقى في عدتها حتى يعود عليها الحيض فتعتد به، وهذا مما أجمع الفقهاء عليه لكونها من ذوات الأقراء، أحببت تعريفك بذلك للعلم به.

مع المعذرة عن تأخير رد الجواب لكون الكتاب الواصل إلينا منكم قد فقد من بين أيدينا فبقينا مدة طويلة ولم نعثر عليه حتى الآن.

والباري يحفظكم والسلام.

(19/8/86هـ، 3/12/66م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حداد المرأة العاملة في الدوائر الحكومية على زوجها

السؤال:

الحمد لله: ورد إلينا سؤال عن عدد من النساء توفي عنهن أزواجهن وهن في أعمالهن لدى الدوائر الحكومية أو غيرها، فماذا يجب على المرأة في حدادها؟

هل يجب عليها التخلي عن عملها ولزوم بيتها؟ أم ماذا يجب عليها؟

الجوب [رقم: 189ب]:

فالجواب: أن الإحداد في حكم الشرع هو التخلي عن الزينة وعن اللباس المشتهر بالجمال وعن اجتناب الطيب والكحل، والتخلي عن كل ملبوس من الذهب، واجتناب الحناء والخضاب وتحمير الوجه ونتفه، هذا هو حقيقة الإحداد الذي يجب على المرأة المسلمة اجتنابه، ويستمر الإحداد لغير الحامل أربعة أشهر وعشرًا؛ لقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[سورة البقرة، الآية: 234]، أما المرأة الحامل فإن حدادها هو مدة حملها، سواء طال أو قصر؛ لقوله سبحانه: ﴿وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[سورة الطلاق، الآية: 4].

والإحداد في هذه المدة هو من طاعة الله وعبادته، وليس هو بغلٍّ في العنق ولا قيد في الرجل، فيجوز للحادَّة التي تكتسب بعملها لنفسها وعيالها لدى أية جهة أن تمضي في عملها وكسبها مع مجانبتها لما حرم عليها، فتكتسب من عملها وتدخل وتخرج لحاجتها، إلا أنها في الليل تلزم بيتها، والنبي ﷺ حكم في نساء الشهداء بأن يجتمعن عند إحداهن يتحدثن، فإذا وجب المبيت انصرفت كل امرأة إلى بيتها.

لهذا قلنا إنه يجوز للمرأة الحادة أن تشتري حاجتها من السوق وأن تواصل عملها وخدمتها في المستشفيات أو المدارس، ولا حرج عليها في مخاطبة الرجال الأجانب في سبيل عملها، ومن واجبها أن تحافظ على فرائضها من صلاتها وصومها، ولا حرج عليها في لمس الرماد أو اللحم أو الطبخ وسائر ما تعمله قبل الإحداد يجوز لها أن تعمله في حالة الإحداد بلا حرج ولا إثم، وأن تستعمل الغطاء التام لجسمها بحيث لا يظهر شيء من ساقيها أو ذراعيها أو شعر رأسها؛ لأن هذا واجب ستره قبل الإحداد وفي حالة الإحداد آكد، وتجتنب الخلوة بالرجال في حاجة أو في غير حاجة، فإنه ما خلا رجل بامرأة إلا والشيطان ثالثهما.

لكن يجوز لها الكلام فيما يلزم مع الرجال الأجانب كحالتها قبل الإحداد، ولا يجوز أن يصرح لها أحد من الأجانب بخطبتها في حالة إحدادها، أما النوم فلا تنام إلا في بيتها الذي توفي عنها زوجها وهي فيه، والأفضل أن تكون مع من يؤنسها من النساء.

ولا تمنع المرأة الحادة من التنظيف، بتقليم الأظفار ونتف وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالصابون والامتشاط، ولا يحرم عليها الأبيض من الثياب ولا ما هو ملون لدفع الوسخ، وقد روت أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَخْتَضِبُ» [رواه أبو داود (2304)، والنسائي (3535)].

ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث (أي: أيام) إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، إذا لم تكن حاملاً أو إلى نهاية حملها طال أو قصر، ويجوز لها أن تنظر في المرآة ومشاهدة التلفزيون والتخاطب مع من يخاطبها بطريق الهاتف.

فهذا حاصل ما ننصح به في بيان الإحداد وحكمه والله خليفتي عليكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

حداد المرأة العاملة في الشرطة

السؤال:

فضيلة رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية.

رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية.

الدوحة:

تحية طيبة. وبعد؛

أرجو التكرم بالعلم بأن الشرطية فاطمة م تقدمت بطلب لمنحها إجازة لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام مدة الحداد الشرعي نظرًا لوفاة زوجها بتاريخ: 22/2/1398هـ.

أكون شاكرًا لو تكرمتم بالتوجيه في هذا الأمر من الناحية الشرعية حتى نتمكن من إجراء الترتيبات الإدارية اللازمة على ضوئه.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام...

(29/2/1398هـ، 7/2/1978م) العميد/ عن قائد الشرطة يحيى حسين علي نور

الجواب [رقم: 190]:

السيد العميد - يحيى حسين علي نور - المحترم.

قيادة الشرطة. الدوحة.

تحية طيبة. وبعد:

فردًّا على كتابكم بشأن الشرطية المذكورة التي توفي زوجها وطلبت منكم إجازة لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام وهي مدة الحداد الشرعي، وقد طلبتم منا توضيح أمر الحداد.

لذا فإننا نحيطكم علمًا بأن المرأة المسلمة إذا مات عنها زوجها وجب عليها لزوم الحداد الشرعي ومدته أربعة أشهر وعشرة أيام وفاء للعشرة الزوجية وظهور الحمل إذا كان هناك حمل، مع عدم الزينة ومشاهدة الرجال الأجانب الذين لا يحلون لها.

فبناءً على ما تقدم أوجب عليها الشرع الإقامة في بيتها للمدة المضروبة حتى ينتهي حدادها.

هذا للعلم وتفضلوا بقبول وافر الشكر والتقدير.

(7/3/1398هـ، 14/2/1978م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

لوازم الإحداد على الزوج

السؤال: ما هي لوازم الإحداد على الزوج؟ [7/192]

الجواب [رقم: 191]

من لوازم العدة: التزام الإحداد على الزوج، وهو اجتناب الزينة من الطيب والحناء والكحل والثياب الجميلة المصبوغة للجمال أو الملونة بالنقش، لحديث أم عطية وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «...وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا...» [رواه البخاري (5342 - 5343)، ومسلم (938)، والنسائي (3534، 3536)، وابن ماجه (2087) من حديث أم عطية رضي الله عنها] أي: بالطيب. فهذا هو الإحداد. والأحسن أن تحد في الثوب الأسود، أو الأخضر، أو غيره من لون واحد، ولا بأس أن تبدله بغيره من جنسه، ولا بأس أن تغتسل وتتنظف كل وقت.

ويجوز أن تغتسل بالصابون الذي ليس له رائحة. ويجوز أن تخرج لنخلها أو حرثها، متى كان لها زرع أو نخل. كما يجوز أن تخرج إلى بيت جارتها لحاجتها لذلك، فقد أمر النبي ﷺ نساء الشهداء بأن يجتمعن في بيت امرأة منهن، فمتى آواهن المبيت ذهبت كل امرأة إلى بيتها. ويجوز أن تذهب للمستشفى لحاجة العلاج، وتكلم الطبيب ويكلمها. فما يفعله بعض النساء المسلمات من التشديد عليها، وكونها تمكث في دار لا تخرج منها، أو لا تكلم أحدًا ولا يكلمها أحد، أو لا تتنظف؛ فكل هذا التشديد خارج عن حدود الشرع، لم يثبت عن رسول الله ﷺ الأمر به، بل تفعل في إحدادها كما تفعل قبل وفاة زوجها، ما عدا أنها تجتنب الطيب والزينة من الحليّ وغيره، وتجتنب الخضاب (الحنّاء) والكحل، وتستعمل الثياب التي ليس فيها نقش. فهذا هو الإحداد الشرعي لكل امرأة، كبيرة السن، أو صغيرة، فهما في الحكم سواء.اهـ.

***

السؤال:

يقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون[سورة النحل، الآية: 43].

بعد التحية والاحترام: نتقدم بالسؤال ونرجو من أصحاب الفضيلة الجواب، والسؤال: امرأة طلبت من زوجها الطلاق رغبة منها، والزوج غير راغب في طلاقها، لكن المرأة أصرت على الطلاق مقابل إسقاط صداقها وما تستحقه من الزوج. ووكلت خالها بشهادة رجل واحد على أن يحضر لدى الزوج ويطلقها باعتباره ولي أمرها، حضر الخال لدى الزوج ومعه الشاهد، وطلبا من الزوج أن يطلق دون أن يدفع لها شيئًا بناءً على طلبها، وافق الزوج على طلاقها شريطة إسقاط حقها، وعلى أن لا يدفع لها شيئًا، والزوج لفظ الطلاق ثلاثًا، أنت طالق أو طالق طالق طالق.

في اليوم الثاني الزوجة طالبت بتسليم حقها ودفع صداقها، ما رأي الشرع في ذلك؟ هل الطلاق يقع إذا الزوج رفض تسليم حقها، علمًا بأن الطلاق فيه شرط، والزوج غير راغب بالطلاق، نرجو الإجابة جزاكم الله خيرًا عنا وعن المسلمين.

الجواب [رقم: 192]:

ما دامت الزوجة قد طلبت من زوجها الطلاق ووافق الزوج شريطة إسقاط حق الزوجة من صداق وغيره، ووافقت الزوجة على ذلك، فالطلاق بهذه الصفة صحيح يعد خلعًا حيث افتدت الزوجة نفسها، وليس لها حق المطالبة فيما أسقطته، وإذا ندم كل منهما على ذلك فللزوج أن يرجع زوجته بعقد جديد وصداق جديد.

4/3/1408هـ، 26/10/1987م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

كتاب الحضانة

حكم الحضانة

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة رئيس المحاكم الشرعية بقطر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

ما قولكم دام فضلكم في رجل طلق زوجته وله منها ولدان، عمر الأول أربع سنوات وعمر الثاني سنة وأربعة أشهر، وقد طلب من مطلقته ضم ولديه إليه بحجة أنه أحق بالحضانة منها، مع العلم بأنه ليس له أم ولا أخت، وهو مقيم في بلد غير البلد الذي تقيم فيه مطلقته التي ما زالت عزبى.

نلتمس من فضيلتكم الإجابة، ولكم من الله عظيم الأجر والثواب.

والسلام عليكم ورحمة الله.

داعيكم المخلص/ محمد بن عبدالله المهزع

الجواب [رقم: 193]:

حضرة الأخ المكرم- محمد بن عبدالله المهزع حفظه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

كتابكم المؤرخ بدون؛ أشرتم فيه إلى أن رجلاً طلق زوجته وله منها ولدان، عمر الأول أربع سنوات وعمر الثاني سنة وأربعة أشهر، وقد طلب من مطلقته ضم ولديه بحجة أنه أحق بالحضانة منها، مع العلم بأنه ليس له أم ولا أخت، وهو مقيم في بلد غير البلد الذي تقيم فيه مطلقته التي ما زالت عزبى.

الجواب: أنه قد وقع النزاع عند النبي ﷺ بين الرجل ومطلقته في ابن لهما، وكل واحد منهما يريد حضانته، فقالت الأم: يا رسول الله؛ إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول الله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» [رواه أبو داود (2276)، وأحمد (6707) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه]. فهذا قضاء رسول الله ﷺ في مثل هذا، غير أن المحضون لا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه، وإذا كان الأب في بلد غير بلد الأم فيرى الفقهاء من الحنابلة أن الأب أحق بحضانته.

وعلى كل حال؛ فإن هذه المسألة اجتهاد بحيث يجتهد من يحتكمان عنده في حل المشكلة بطريق شرعي، والله سبحانه الهادي إلى سداد الرأي في الحكم، والسلام.

(11/4/1387هـ، 19/7/1967م) رئيس المحاكم الشرعية عبدالله بن زيد آل محمود

***

الأحق بالحضانة إذا تزوجت الأم

السؤال:

الحمد لله: لقد سألني يوسف بن محمد عن خصوص حضانة ابن له يدعى- محمد له من العمر أربع عشرة سنة، وبنت تدعى/ لولوه لها من العمر ثلاث عشرة سنة، والاثنان قد طلق أمهما في بلد البحرين وانتقل ساكنًا في بلد قطر، ويسأل من أحق بحضانة الابن والبنت؟

الجواب [رقم: 194]:

قد نص الفقهاء على أن الوالد إذا انتقل إلى مكان ليسكنه فحضانة الابن والبنت له، لكون الأم قد انقطع حقها من الحضانة بالزواج، والأب أحق من الجدة على سائر المذاهب المعتبرة؛ لأن الأب أقدر على القيام برعاية الولد وتهذيبه وتأديبه على ما يفعله، كما أنه أشد غيرة وحفظًا للبنت من غيره.

فهذا حاصل ما نفتي بموجبه، حررته للعلم به كي لا يخفى.

(24/7/1352هـ، 17/11/65م) قاله رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

هل يلزم إذن الوالد بالسفر لمن هم في حضانة الأم؟

السؤال:

حضرة صاحب السماحة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود – الموقر.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

لا يخفى على سماحتكم أنه نتيجة لطلاق الزوج لزوجته، يترتب إصدار حكم من المحكمة بشأن حضانة الأولاد وتقدير النفقة وأجرة الحضانة لهم. وفي بعض الحالات تطالب المطلقة بجوازات سفر لأولادها الذين هم في حضانتها، والمطلق يرفض ذلك، وأحيانًا ترغب المطلقة في السفر مع أهلها، سواء أيام الصيف للنزهة أو للعلاج، والمطلق يرفض أخذ المطلقة للمحضون خارج البلاد.

فأرجو من سماحتكم الرأي السديد في مثل هذه الحالات، هل يلزم المطلق باستخراج جوازات سفر لأولاده الذين هم في حضانة أمهم المطلقة والسماح لهم بالسفر معها لمدة معينة؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(9/11/1408هـ، 23/6/1988م) أحمد بن علي بن حجر قاضي المحكمة الشرعية الأولى

الجواب [رقم: 195]:

الفاضل المكرم الشيخ أحمد بن علي بن حجر.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛

فإشارة إلى كتابكم تسألون فيه: هل يلزم المطلق باستخراج جوازات سفر لأولاده الذين هم في حضانة أمهم المطلقة وهل يسمح لهم بالسفر معها لمدة معينة وهم في حضانتها؟ سواء أيام الصيف أو للعلاج.

والجواب: أن المرأة المطلقة إذا كانت من أهل البلاد - قطرية الجنسية - ويقيم الأولاد معها في حضانتها، فيلزم المطلق باستخراج جوازات سفر لأولاده منها، ولا تمنع من السفر بهم إلى الخارج؛ لأنه والحالة هذه لا خوف عليهم وسيعودون إلى بلدهم على أن تسلم الجوازات للأم الحاضنة.

أما غير القطرية المقيمة إقامة صحيحة لتربية أولادها في حضانتها، فيسمح فقط لسفر الأطفال الرضع مع أمهم والعودة، ويستخرج للطفل جواز سفر يكون مع الأم، أما غير الرضع فأمرهم مفوض إلى أبيهم، إن شاء وافق لهم بالسفر مع أمهم، وإن شاء سافرت الأم وحدها، وعادت إلى البلاد لتواصل تربية أولادها، يستثنى من ذلك ما يراه القاضي من سفر الأولاد مع أمهم لمصلحتهم.

هذا ما لزم... والباري يحفظكم.

(15/11/1408هـ، 29/6/1988م) عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

كتاب العطايا والنفقات

وجوب التسوية بين الأولاد في العطية والوصية

السؤال: ما هو الواجب فيما يتعلق بالعطية للأولاد أو البنات وإعطاء البعض دون الآخرين؟ [7/132]

الجواب [رقم: 196]:

من العدل وجوب التسوية بين الأولاد في العطية والوصية، وكان السلف الصالح يراعون العدل بين الأولاد حتى في القُبَل.

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير: أن أباه نَحَله بعض ماله، فقالت أمه عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله ﷺ. فانطلق بي أبي إلى النبي ﷺ يشهده على صدقتي، فقال له رسول الله ﷺ: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟» قال: لا. قال: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ». وفي رواية قال: «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ». قال: فرد أبي تلك العطية[رواه البخاري (2587، 2650)، ومسلم (1623)].

يقول العلماء: إن من شؤم هذا التخصيص وقوع العداوة والبغضاء في قلوب الإخوة على أبيهم، وعلى أخيهم المخصص بالعطاء دونهم، ووقوع العداوة من بعضهم على بعض، فينشأون متقاطعين متباغضين.

فمن أراد أن يخلف لأولاده مشكلة يتقاطعون عليها الأرحام، ويستمر فيها من بينهم النزاع والخصام، فليخصص أحدهم بالعطية أو يوقف الوقف على أحدهم، أو الأرض. ولم ينه الرسول والشارع الحكيم عن هذا التخصيص إلا من أجل شؤمه، وانتزاع بركته، وسوء عاقبته.

ومن الناس من يحابي بماله البنين دون البنات؛ ليحرمهن من حقهن، وهذا أيضًا يعد من الظلم، ومن الجنف والجور، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث. ولما قسم الله الميراث في سورة النساء، وبين ما يخص كل واحد من الورثة، قال بعد تقسيمه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ١٣وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين١٤[سورة النساء، الآيتان: 13 - 14]. يفسره حديث: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوْهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوْهَا» [رواه الطبراني في الكبير(22/221/589)، والدارقطني (4396)، وأبو نعيم في الحلية (9/17)، والبيهقي (10/21/19726) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه]. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ١٣٥[سورة النساء، الآية: 135].

ومن المشاهد بطريق الاعتبار أن المبرور بطريق الجور مضرور، وأن المحروم من حقه مرحوم، أي: تسبق له الرحمة من الله تعالى، ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا ١١[سورة النساء، الآية: 11].

وههنا قضية هي لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره؛ وذلك أن عبدالملك بن مروان خلف لعياله مالاً كثيرًا، يكفيهم لنفقتهم نهاية أعمارهم، وزادهم رضخًا في المال ليقيهم من الوقوع في الفقر. أما عمر بن عبدالعزيز فإنه لم يخلف لعياله سوى سبعين دينارًا، وقيل له: أوصِ لعيالك. قال: لا. إن عيالي أحد رجلين: إما رجل تقي، وإما ولد فاجر، ولا أريد أن أعين الفاجر على فجوره بشيء من المال، فتوفي رحمه الله عن غير مال. فدار الدهر بدورته. قال الراوي: فلقد رأيت عيال عمر بن عبدالعزيز يتصدقون على عيال عبدالملك بن مروان، ولقد رأيت أحد عيال عمر بن عبدالعزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله.

فاحفظ الله يحفظك في دينك وأهلك وعيالك. وفي الحديث: «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه، فليتق الله» [أخرجه ابن أبي الدنيا في الاعتبار وأعقاب السرور (88) برقم (71) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (31/222) بلفظ مقارب، وهو: «ما من ميت يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه». وهو من كلام عمر بن عبدالعزيز لا النبي ﷺ، وقد نسبه إليه ابن رجب في جامع العلوم والحكم. ولعل الوهم دخل من قصة عمر بن عبدالعزيز فتُوُهِّم أن هذا حديث مرفوع، والله أعلم].

فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

من تجب عليهم النفقة من الأقارب

السؤال:

السيد/ مدير دائرة العمل والشؤون الاجتماعية – المحترم.

وزارة العمل والشؤون الاجتماعية/ الدوحة.

لقد استلمت كتابكم وقد سألتم عمن تجب عليهم النفقة من الأقارب عند فَقْد الأب والجد والابن.

الجواب [رقم: 197]:

أن وجوب النفقة عند فقد الآباء والأبناء ترجع إلى الورثة على حسبه من خاصة الأقارب، ومن حجبه الميراث سقطت عنه النفقة، وتفصيل ذلك يعرف من كتب الفقه، ويشترط لوجوبها كون الوارث غنيًّا بالنفقة الفاضلة عن كفايته وكفاية عياله وسائر مؤنته، وأن يكون المنفق عليه عاجزًا عن الكسب والتسبب، أما إذا كان الورثة ليسوا بأغنياء الغنى التام، أو أنهم محجوبون بوارث، أو أن الحكومة لا تتفرغ لمباراة هذا الشخص بانتزاع الحق منه في كل شهر؛ لشغلها بأعمالها عنه، فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الفقير لا يحال في نفقته على القريب الوارث.

(24/10/1392هـ، 8/5/1972م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

وجوب نفقة الوالد على أولاده بعد الطلاق

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - المحترم - رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - الدوحة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

يرجى إفادة فضيلتكم بأننا نتلقى من حين لآخر طلبات كثيرة من نساء مطلقات، يطلبن من الوزارة مساكن مجانية ومساعدات اجتماعية لهن ولأولادهن بحجة أنهن مطلقات، والأزواج يتركون الأبناء معهن دون أن يقدموا لهم النفقات الضرورية أو يتولوا إعالتهم.

وحيث إن الأمر له صلة وثيقة بالشرع فإني أرجو فضيلتكم بإفادتنا عن حدود الشرع وحكمه في مثل هذه الحالات، فهل الأب هو الملزوم بإعالة أبنائه وتأمين السكن لهم عند حصول الطلاق بين الزوجين؟ أم أنه يجوز تخلي الأب عن إعالة الأبناء وترك إعالتهم على الأم المطلقة وسكنهم معها؟ وإلى أي سنة من العمر بالنسبة لكل من البنين والبنات يمكن إلزام الأب بإعالة أولاده وسكنهم عند طلاق الأم والتزوج من أخرى؟ وما هي الوسيلة التي يمكننا من خلالها إلزام الأب بإعالة أولاده وتأمين سكنهم عند انفصاله عن الأم؟ وهل يمكننا إحالة مثل هذه القضايا لفضيلتكم لتطبيق حكم الشرع وحدوده عليهم؟ أم بماذا تنصحون فضيلتكم ليتسنى لنا حل مثل هذه القضايا حلاًّ شرعيًّا عادلاً وحفظ حقوق الدولة والمواطنين؟

وتفضلوا فضيلتكم بقبول فائق التحية والاحترام... (1 فبراير 1977م).

علي أحمد الأنصاري وزير العمل والشؤون الاجتماعية

الجواب [رقم: 198]:

سعادة وزير العمل والشؤون الاجتماعية المحترم...

وزارة العمل والشؤون الاجتماعية/ الدوحة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

ردًّا على كتابكم رقم 489/97 – وح/14هـ/161، تاريخ 1/2/1977م الذي أشرتم فيه أنكم تتلقون طلبات كثيرة من نساء مطلقات، يطلبن من الوزارة مساكن مجانية ومساعدات اجتماعية لهن ولأولادهن بحجة أنهن مطلقات، والأزواج يتركون الأبناء معهن دون أن يقدموا لهم النفقات الضرورية أو يتولوا إعالتهم. وتطلبون مني بيان حكم الشرع في ذلك موضوع.

فاعلم يا أخي أن الشرع الإسلامي قد فصل ذلك أحسن تفصيل، فحكم على المولود له (أي: الرجل) برزق أولاده وكسوتهم، ومن لوازم ذلك مسكنهم، فيجب على الرجل أن يقوم بواجبه من إسكان عياله الباقين في حالة الصغر حتى يستغنوا بمكسبهم، وهذا أمر واجب لا مندوحة فيه... حتى إن لم تبنِ لهم الحكومة مسكنًا، ولكن الناس قد ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، فصار أكثر الجفاة الجهلة لا يبالون بعيالهم، ولا يقومون بواجب حقهم، وغاية عملهم أن يُحملوا المرأة، ثم يهملوها هي وأولادها، وقد صدر الحكم منَّا في قضايا متعددة بين الرجل وبين زوجته أو مطلقته أم عياله، حينما يريد أن يفر بالمسكن عن عياله ويتصرف فيه بالبيع أو التأجير، ولا يبالي بما يصيب عياله وأمهم التي تربيهم وتخدمهم، فحكمت ببقاء العيال وأمهم في البيت الذي بنته الحكومة فوق رؤوسهم، وأشعرنا الأب بأن البيت لم يبن لك وحدك، وإن العيال القصر العاجزين هم أحق بالسكنى فيه حتى يستغنوا بكسبهم، وعلى هذا الحكم أرجعنا كثيرًا من أمهات الأولاد إلى بيوتهم المبنية لهم، ومنعنا آباءهم من التصرف في هذه البيوت ما داموا مقيمين فيها في حال صغرهم، وعلى هذا جرى العمل مني بقضايا متعددة نرفق اليوم صورًا منها للاستفادة في هذا الموضوع، والباري يحفظكم.

(22/2/1397هـ، 10/2/1977م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

التبذير المذموم

السؤال: ما هو التبذير المذموم في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ؟ [7/305]

الجواب [رقم: 199]:

التبذير هو أن ينفق المال جزافًا في سبيل البذخ والشهوات، والتفنن في المأكولات، والتأنق في المركوبات، والتغالي في المستعملات، وسائر الكماليات؛ لأن الاقتصاد خير كله. وفي الحديث: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»[رواه الإمام أحمد في مسنده (4269)، والطبراني في الكبير (10118)، والأوسط (5094) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/252)، والألباني في السلسلة الضعيفة (4459)، وله شواهد تقويه]. وقال: «الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْعَيْشِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّيْنِ» [رواه الخطيب في تاريخ بغداد (12/11) عن أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف]. وقال: «الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ» [رواه الطبراني في الأوسط (6744)، وفي مكارم الأخلاق (140)، والبيهقي في الشعب (6148) عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد ضعيف]؛ لأن المال الحلال لا يحتمل الإسراف، ومن المشاهد المحسوس أن المسرفين المبذرين يصابون بالفقر قبل أن يموتوا؛ لأن إنفاقهم المال في سبيل الإسراف والتبذير، وعدم حسن التدبير، مؤذن بزواله وارتحاله، كما أن إنفاقه على النفس والأهل والعيال، والتجمل منه بأنواع الزينة المباحة، والصلة منه والصدقة هو عنوان شكره المستلزم لنموه وبركته، لكونه أنفق المال في سبيل ما خلق له.

فدين الإسلام هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من سبيل حلها، وفي الحديث: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» [رواه أحمد (17763)، والبخاري في الأدب المفرد (299)، وابن حبان (3210) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه بإسناد صحيح على شرط مسلم]. ويقول: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» [رواه الترمذي (1209)، والدارمي (2581) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]. وقد ذهب أهل الدثور بالأجور - أي: أهل الأموال - بالدرجات والنعيم المقيم، وحسبكم ما تسمعونه من كتاب ربكم، يقول الله: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً[سورة النساء، الآية: 5]، والسفهاء هم الذين لا يحسنون حفظ المال ولا تثميره، سواء كانوا من النساء أو من الرجال؛ لأن السفه خفة في العقل، علامته عدم حفظ المال. وقوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً أي: تقوم بها أبدانكم وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم، ويقوم بها شرفكم وقوتكم، وقد سأل النبي ﷺ ربه سعة الرزق، واستعاذ من الفقر[روى أبو داود في سننه (1544) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ...». وعند الطبراني في الدعاء (1049) بإسناد ضعيف عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي، وَانْقِطَاعِ عُمْرِي»]. يقول ابن عقيل: أقسم بالله لو عبس الفقر في وجه أحدكم لعبس في وجهه أهله وعياله وأقاربه.

وفي الحديث: «الْحَسَبُ الْمَالُ» [رواه الترمذي (3271)، وابن ماجه (4219)، وأحمد (20102) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه]. ثم قال: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ٢٧[سورة الإسراء، الآية: 27]. فجعل المبذرين إخوان الشياطين دليلاً على مهانته ومذلته؛ لأن الشياطين هم الذين يبطرون نعمة الله ولا يشكرونها، فما استديمت نعم الله بمثل شكره وحسن عبادته، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه.

ومن أراد أن يعرف عناية الله بعباده في حفظ أموالهم، فليقرأ قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ[سورة البقرة، الآية: 282].

وهذا من تمام عناية الله بعباده في حفظ أموالهم، حيث أمرهم بالحزم، وفعل أولي العزم، وأن يكتبوا ما لهم من الحقوق عند الناس من صغيرة وكبيرة؛ لأن القرآن تعليم دنيا ودين.

وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِيْنِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيْهَا مَعَاشِي» [رواه مسلم (2720) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

والحكماء والعلماء والأدباء يمدحون الجود بالمال في سبيل الحق من الصلة والصدقة، ومساعدة المنكوبين والمضطرين، والجهاد به عند دعاء الحاجة إليه.

فيجب أن يكون رخيصًا في هذه السبل الخيرية، كما يجب أن يحفظ عن الضياع، وعن السفهاء المبذرين، كما قيل في صفة الرجل الحازم السخي حسن التدبير والتقدير:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

لأن البر وفعل الخير هو همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا.

وقال آخر يمدح رجلاً حسن السياسة في العطاء والمنع:

وهُوبُ تلاد المال فيما ينوبه
منُوعٌ إذا ما مَنْعُه كان أحزما

والنبي ﷺ قد سبق الشعراء والحكماء إلى كل قول سديد، وفعل حميد؛ ففي الحديث: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» [رواه الإمام أحمد في مسنده (4269)، والطبراني في الكبير(10118)، والأوسط (5094) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/252)، والألباني في السلسلة الضعيفة (4459)، وله شواهد تقويه].

وقال: «الِاقْتِصَادُ بِالنَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ»[رواه الطبراني في الأوسط (6744)، وفي مكارم الأخلاق (140)، والبيهقي في الشعب (6148) عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد ضعيف].

وقال: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»[رواه البخاري (5975)، ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وأكثر الناس يغرق في السرف والترف، ولا يحس بغلطه إلا بعد ذهاب المال عن يده، وتراكم الديون عليه، وقد استعاذ النبي ﷺ من المأثم والمغرم وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» [رواه البخاري (832)، ومسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وفي الحديث: «أَقِلُّوا مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ، وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ» [رواه البيهقي في شعب الإيمان (5166) من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

فمن فنون السرف، كون بعض الأثرياء يشتري خاتم الماس بعشرة آلاف، وعشرين ألفًا. وقد سمعت أن بعض الخواتم تبلغ قيمته مائة ألف وأكثر. وهذا يعد غاية في الإسراف والتبذير. فإن أفضل ما تحلى به الشخص العظيم، هو التواضع مع القدرة؛ فمن تواضع لله رفعه، كما أن من تعاظم في نفسه وفي زيه ولبسه، فإنه يصغر قدره في الناس.

إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في النـاس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين

ومن الإسراف شراء ساعة الذهب بآلاف مؤلفة، وهذا بما أنه غاية في السرف الذي يذمه الشرع، ويمجّه العقل، وينافي الاقتصاد والعدل، فإنه من الأمر المحرم بنص الشرع، إذ لا يجوز للمسلم أن يتحلى بساعة الذهب، ولا خاتم الذهب، إذ هو حرام على ذكور الأمة حل لإناثها.

ومن الإسراف ما يفعله بعض النساء المثريات في بعض البلدان، من شراء ثوب بآلاف من الريالات على حساب أن تحفل في عرس أو عيد، ويقوم مقامه في الجلال والجمال وستر الحال، ثوب قيمته أقل بكثير، وقس عليه سائر المستعملات.

ومن الإسراف التوسع في الموائد التي تصنع لإكرام شخص، أو وليمة عرس، أو قدوم غائب، بحيث يذبح قدر عشرين ذبيحة، أو ثلاثين ذبيحة، وربما ذبح معها بكرًا من الإبل، ويحتف بها أشياء كثيرة من المأكولات الثمينة والفواكه، ويقوم المدعوون إليها وهم يمقتونها، لخروجها عن قانون العدل والاقتصاد، وحسن التدبير، إلى عمل الإسراف والتبذير، إذ يكفي في الإكرام والاحترام دون هذا التكلف الزائد؛ لأن من سقطت كلفته، دامت ألفته، وما خرج عن حد القصد والاعتدال، دخل في حدود الذم والاعتلال.

وقد مدح الله الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قوامًا، لهذا تجد هذه الموائد الموحشة تشمئز منها نفوس العقلاء؛ لاعتبار أنها من الأموال الضائعة، بحيث تحمل اللحوم والطعام، ويرمى بها في مواضع القمام، وبطون الأنعام، والكثير من الفقراء تحن بطونهم إليها.

وقد قيل:

ولم يحفظ مُضَاعَ المجد شيءٌ
من الأشياء كالمال المضاع

إنه ما توسع أحد في النفقات الزائدة على الحاجة، إلا ويقصِّر بأداء الحقوق الواجبة عليه، من قضاء ديون للناس لازمة وغيرها، فيقع من أجل توسّعه في تحمل الدَّين الذي هو همّ بالليل، ومذلة بالنهار.

فدين الإسلام الذي نعتقده، هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من فنون حلها، ومراعاة القصد، والاعتدال في الأمور كلها.

ومن الإسراف الذميم، التطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة، في سبيل الأنكحة؛ لأن التسهيل يمن، كما أن التكاليف شؤم، فيسِّروا ولا تعسِّروا، وخير النكاح أيسره، وخير النكاح أقله كلفة.

وإنما تقاطع الناس بالتكلف. وإنما بقيت العذارى الأبكار عوانس في بيوت آبائهن من التكلف؛ لأن المقصود من النكاح الشرعي، هو اتصال حبل الخاطب الكفء بالمخطوبة ليتحمل أمانتها، والقيام بكلفة مؤنتها، ويقيم نفسه مقام الخادم لها، في جلب حوائجها، حتى تكون سعيدة بيت، وسيدة عشيرة، وأم بنين وبنات، والذين هم من زينة الحياة.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

***

كتاب المواريث

قسمة ميراث: زوجة وبنتان وعصبة

السؤال:

التاريخ: 15/2/1407هـ، الموافق: 18/10/1986م

الحمد لله: حضر لدينا الرجل/ محسن محمد بكر هيثم، وسألني عن:

رجل توفي، يدعى/ سالم عبدالرب، وانحصر إرثه في زوجته/ فاطمة بنت عبدالرب محمد، وفي بنتين، هما/ عذبة بنت سالم هيثم، ونعمة بنت سالم هيثم، وفي عصبة أولاد أخويه، وهم/ محمد بكر هيثم عبدالرب، ومنصر بكر هيثم عبدالرب، وعلي نصر هيثم عبدالرب، لا غير.

وكان من جملة ما سألني، هل ابن العم المدعو/ محمد منصر هيثم، يرث مع وجود الورثة المذكورين أم لا؟

الجواب [رقم: 200]:

أما ميراث المتوفى المذكور فيقسم بين الزوجة، ولها الثمن من التركة، وبين البنتين (ولهما الثلثان) من أصل التركة، والباقي من بعد الثمن والثلثين للعصبة الثلاثة، أما ابن العم فليس له ميراث لأنه محجوب بأولاد الأخوين.

حررته للعلم به كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الوصية لأبناء الابن المتوفى بمثل نصيب والدهم وبما لا يزيد عن الثلث

الجواب [رقم: 201]:

سألني ماجد بن مبارك قائلاً: إن لي ثلاثة أولاد، وهم هلال والثاني عمرو والثالث مبارك، وبنت هي غفول بنت ماجد، ثم إن الابن (مباركًا) توفي وخلف أربعة أولاد وبنتًا، ويريد ماجد أن يوصي لأولاد ابنه بمثل ميراث أبيهم يقل عن الثلث، والإنسان مباح له بأن يوصي بالثلث، فكانت وصيته بمثل ميراث أبيهم صحيحة ونافذة، وفعلاً اعترف ماجد أمامي بوصيته، لأولاد ابنه مبارك وأختهم بنت مبارك بمثل ميراث أبيهم مبارك، فصارت الوصية صحيحة نافذة بشهادة هلال وعمرو، وكتب شاهدًا به عبدالمعبود علي موسى الكاتب برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر.

كي لا يخفى.

التاريخ: 11/2/1405هـ، الموافق: 4/11/1984م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

قسمة ميراث: زوج وبنت وأخ

السؤال:

إلى فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - أدام الله بقاءه.

تحية... وبعد:

أتقدم إليكم بكتابي هذا راجيًا من فضيلتكم أن تفيدوني به.

امرأة ماتت عن أخ وزوج وبنت، ولها تركة، فما استحقاق هؤلاء المذكورين من الميراث لكل واحد منهم؟

نرجو إفادتنا أطال الله عمركم.

الجواب [رقم: 202]:

الحمد لله: الجواب أن المسألة تقع من أربعة سهام؛ للبنت النصف سهمان، وللزوج الربع سهم واحد، وللأخ الشقيق الربع وهو الباقي سهم واحد، وبذلك استغرقت الفروض.

كي لا يخفى.

(البنت = نصف.. الزوج = ربع.. الأخ الشقيق = الربع الباقي).

25/4/1405هـ، 16/1/1985م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

قسمة ميراث: أب وجدة لأم

السؤال: الحمد لله، سألني الرجل/ يوسف محمد - من أهل فارس - عن ميراث ابنه المتوفى/ محمد قائلاً: لقد توفي ولدي المذكور عني أنا أبوه/ يوسف محمد، وعن جدته أم أمه المسماة/ عائشة، لا غير، فأنا أطلب إيضاح الميراث من يستحقه؟ حيث قام أبناء عمومة أم ابني المتوفى يطلبون الميراث من ولدي، فهل لهم الحق في الميراث أم لا؟

الجواب [رقم: 203]:

إن ميراث المتوفى/ محمد يخص جدته عائشة لها منه السدس، والباقي للأب/ يوسف محمد، ولا يدخل معه أحد في ميراث ولده لا إخوته ولا غيرهم.

وبناء على طلبه أفتيته بذلك، وللعلم حرر.

14/8/1401هـ، 16/6/1981م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الحكم في مخلفات متوفى أجنبي له أم وولد دون البلوغ

السؤال:

إلى حضرة النائب عن شركة نفط قطر المحدودة المحترم.

بعد التحية والاحترام...

كتابكم المؤرخ 31 يناير سنة 1958 وصل. عرفتم فيه بخصوص المتوفى لديكم المدعو يوسف أحمد مسقطي (كيودي رقم 4575) طلبتم مني الإفتاء عن خصوص مخلفاته، وذكرتم بأن له أمًّا في مسقط، وأن له ولدًا صغيرًا سنه دون البلوغ، وهو باق في حضانة محمد موسى في القصر، وأن المتوفى قد أصدر التوكيل منه إلى أخ له يسمى حارب بن أحمد يشتغل في مستشفى البحرين.

الجواب [رقم: 204]:

فبما أن الفتوى تتمشى على قدر السؤال وسلامته عن الاختلال، وكونه لا يوجد للمتوفى وارث سوى الأم والابن، فعليه؛ فإن طريق الحكم يوجب التحفظ على مخلفات الهالك ثم بيعها في سوق نفاقها وضم قيمة الأغراض إلى ماله من النقود عند الشركة وغيرها، ومن بعده ينظر في حاله وماله، فإن كان عليه شيء من الديون للناس يبدأ بتسليمها؛ وبعدها يكون للأم السدس والبقية للابن ينفق عليه منه تدريجيًّا في كل شهر إلا أن يتبرع المتكفل له بنفقته.

والحاصل أنه يباع الموجود من الأثاث ويعمل به كما ذكرنا، أما توكيله لأخيه فبيان حكمه موقوف على العلم بصورته، هل هو توكيل على ولده الصغير أو توكيل على التركة أو توكيل مطلق.

وفي الختام تفضلوا بقبول الاحترام.

(20/7/1377هـ) قاله قاضي قطر

***

قسمة ميراث زوجة وأبناء بنين خمسة وبنات بنين أربع

السؤال:

حضرة الشيخ القاضي عبدالله آل محمود رئيس المحاكم الشرعية بقطر... المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد، نرجوكم الإجابة على سؤالي هذا خطيًّا للاعتماد.

عن رجل كان معه ولدان، الأول خلف ولدًا وبنتين ومات، وبعد مدة توفى الولد الثاني وقد خلف أربعة عيال وبنتين، عاش الأولاد في رعاية جدهم والد والدهم وجدتهم زوجة جدهم، وبعد مدة توفي جدهم وقد أوصى بهم زوجته، وقد ترك ثروة لعيال عياله، والآن يريدون قسمتها كيف تقسم؟ نرجوكم الإجابة خطيًّا للاعتماد على ذلك، وجزاكم الله خيرًا.

مقدمه: محمد ناجي... من اليمن.

الجواب [رقم: 205]:

الحمد لله، سألني رجل عن ميت توفي عن زوجة وأولاد بنين خمسة، وعن بنات بنين أربع، ويريد قسمة تركة المتوفى بموجب الأنصبة الشرعية.

الجواب: في هذه الحالة يعتبر أبناء وبنات الابنين بمثابة الأبناء للجدّ فتكون القسمة من ستة عشر سهمًا (16 سهمًا)، للزوجة (الثمن) سهمان (2 سهم)، والباقي - وقدره أربعة عشر سهمًا (14سهمًا) - يقسم بين الأولاد الخمسة والبنات الأربع للذكر مثل حظ الأنثيين، فيكون نصيب الولد الواحد سهمان، ونصيب البنت الواحدة سهم واحد، وتتم القسمة بعد إخراج الدين إن وجد، أو الوصية بثلث وغيره، كما يخرج بقية صداق الزوجة المؤجل من أصل التركة؛ لأنه يعتبر بمثابة الدين على الميت.

فهذا حاصل القسمة في تركة المتوفى بين الورثة المذكورين.

18/2/1400هـ، الموافق: 6/1/1980م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

قسمة ميراث زوجة وأم وأخ شقيق وأخت شقيقة ووصية للزوجة

السؤال:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ.

أما بعد، فقد سألني أحد الأشخاص قائلاً: توفي رجل عن زوجة وعن أم وعن أخ شقيق وعن أخت شقيقة، فما نصيب كل واحد منهم من الميراث، حيث إن الزوج أوصى للزوجة بنصف التركة، فهل يجوز ذلك شرعًا؟

الجواب [رقم: 206]:

أولاً: بالنسبة للزوجة - فإن لها من الزوج الربع في حالة عدم وجود الأبناء من الصلب - ذكورًا وإناثًا - أو عدم وجود أبناء الابن - ذكورًا وإناثًا - وإذا زاد عدد الزوجات عن واحدة فهن شركاء في الربع.

ثانيًا: للزوجة الثمن - في حالة وجود أبناء الصلب أو أبناء الابن، فإنها لا تزيد عن الثمن وتشترك فيه الزوجة الواحدة حتى الأربع - فهن شركاء في الثمن - فللزوجة الواحدة أو الزوجات الثمن - ولا يزيد نصيبهن عن فرضهن المقرر شرعًا - أي لا يرد عليهن من الميراث بعد فرضهن.

أما إنها تأخذ نصف التركة فهذا لا يجوز شرعًا كما أنه لا وصية لوارث، أي لا يجوز للميت أن يوصي لوارثه بشيء من المال ويحرم الآخرين منه.

ثالثًا: بالنسبة للأم، فإن لها الثلث من الابن في عدم وجود أبناء الصلب ذكورًا وإناثًا - أو جمع من الإخوة ذكورًا وإناثًا - وما عدا ذلك فلها السدس من التركة ولا تزيد عليه، والباقي من التركة بعد ذلك فيقسم بين الإخوة والأخوات مهما بلغوا من العدد، بحيث يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.

ملاحظة:

أما بالنسبة للزوج والزوجة فلا يرد عليهما شيء من التركة بعد فرضهما.

حررته للعلم به كي لا يخفى.

1/11/1398هـ، الموافق: 3/10/1987م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

أب وابن توفيا في آن واحد ولا يعرف أيهما الأسبق في وفاته

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ الجليل عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فالرجاء من فضيلتكم إرشادنا في المسألة المبينة أدناه شرحًا مع الدلائل المشهورة حولها:

وفاة رجل مع ابنه في سيارة نقل واحدة في حادث واحد، دون أن يعرف من السابق في الوفاة، الرجل إثر ضربة قوية في الرأس لم يعرف منه سوى شيء من جلد الرأس إلى أذن واحدة ووجود كسور في الكتف، ورجل واحدة كسرها قوي معلقة فقط بالجثة بواسطة شيء من الجلد، ووجود شق في البطن وخروج المصران منه، ووجود أثر دهس على الظهر حتى عاد عريضًا زيادة عن الحجم الطبيعي.

الابن: إثر ضربة في فكه الأدنى مع وجود أثر لنزيف دموي، إثر ضربة مع وجود أثر سواد (نزيف تحت الجلد) تحت السرة.

المطلوب: هل يستحق الابن أو ورثته من إرث أبيه أم لا؟ أفتونا تؤجروا.

والله تعالى نرجوه أن يحفظكم ويوفقكم في خدمة الدين الحنيف.

(تذكرة): الرجل هو عبدالحميد وابنه عبدالله، علمًا بأن الرجل توفي عن أحياء آخرين: زوجة وولد وبنت. ولكم جزيل الشكر.

حاج إبراهيم علي بندر عباس - إيران

الجواب [رقم: 199]:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:

لقد سألني الرجل/ حاج إبراهيم علي بكتاب موجه منه إلينا من بندر عباس بإيران، يستفتي فيه عن حكم الشرع في أخيه المتوفى/ عبدالحميد، وفي ابن أخيه المتوفى أيضًا المدعو/ عبدالله عبدالحميد، حصل لهما حادث سيارة فتوفيا به في آن واحد ولا يعرف أيهما الأسبق في وفاته، فهل يرث أحدهما الآخر؟

الجواب: إن حكم الشرع في هذه المسألة بأن لا يرث أحدهما الآخر لكونه لم يعرف أيهما الأسبق في وفاته قبل الآخر حيث ذكر الناظم في الرحبية قوله:

وإن يمت قوم بهدم أو غرق
أو حادث عمّ الجميع كالحرق
ولم يكن يُعْلَمُ حالُ السابق
فلا تورِّث زاهقًا من زاهق
وعدَّهم كأنّهم أجانب
فهكذا القول السديد الصائب

ومصاب هؤلاء هو حدث عم الجميع فلا توارث بينهم، وكل ميراث واحد منهم لورثته.

حررته للعلم به كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود 13/4/1401هـ، الموافق: 17/2/1981م

تسبب في وفاة قريبه بحادث سير فهل يرثه

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

- الرجل السائق الذي ركب معه أبوه أو قريبه ممن يرثه فأصيبت السيارة بانزلاق مما سبّب موت الأشخاص بها.

الجواب [رقم: 207]:

فالعلماء علّقوا الدية والإرث بالسبب، فهذا السائق تلزم قبيلته (عاقلته) الدية، واختلف الفقهاء في الميراث بين من يرى عدم توريثُ القاتل خطأ ومن يرى توريثه. والرأي الذي نراه أنه يرث من جميع المال عدا الدية فتقسم بين بقية الورثة.

***

كتاب الوصايا

الوصي يقوم مقام الموصي

الجواب [رقم: 208]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى المحب الحفي الأخ/ إبراهيم بن محمد، حفظه الله بالإسلام.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخي، لقد سرّني وصول كتابك الكريم، وقد فهمت ما تضمنه من كلامك القويم، الدال على الحفاوة الودية والمحبة الدينية، أشرت فيه إلى خصوص العيال من البنين والبنات، وأن منهم الصغار الذين لم يبلغوا سن الرشد حتى الآن، وأشرت إلى أخيهم الكبير، وأنه سيئ السيرة، تدرك منه سوء التصرف في نفسه، والجفاء وعدم الوفاء بإخوته وأخواته، وترغب في إبعاده عن مالهم وعن سائر التصرفات فيما يتعلق بشأن تزويجهم، وتريد أن تنص بالوصية عليهم إلى الأخ/ عبداللطيف بن علي العيسى في حفظ مالهم وتزويجهم، وأن لا يكون لأخيهم المذكور سبيل عليهم.

فاعلم يا محب أن هذا العمل جائز شرعًا، وأن الوصي يقوم مقام الموصي في كل شيء، من حفظ مال الأيتام وتزويجهم والتصرف لهم بما ينمي مالهم ويستدعي تكثيره وتوفيره، ولن يبقى للأخ اعتراض عليه شرعًا لقيامه مقام الوالد في التزويج وحفظ المال وسائر التصرفات الشرعية.

ثانيًا: أشرت أن لك والدة وزوجة وبنت أخ قد توفوا رحمهن الله وترغب في أن تجعل لك ولهن شيئًا من مالك في فعل الخير يكون ثوابه لك ولهن، فهذا عزم رشيد إن شاء الله، وإن الذي أشير به، وأنصح بموجبه: إلى أن تنظر إلى من تعرف من فقراء أقاربك وفقراء القبيلة الذين هم من جملة الأرحام، وإلى كل من يمت لك بقرابة ورحم من طريق العمومة والخؤولة من رجال ونساء، وإلى من تعرف من أهل الصلاح والتقى من أهل الأحساء أو شقراء[السائل أصله من شقراء ويقيم في الإحساء]، ثم تنص في وصيتك لكل شخص بشيء مسمى من الصدقة يدفع إليه في ثوابك وثواب من ذكرت بحيث ينفذها الوصي عند لزومها، أي: بعد الوفاة من بعد الإمداد في العمر على طاعة الله إن شاء الله.

ولم أقصد بتعداد من ذكر حصرهم، لكون الانتخاب والتقدير راجع إلى رأيك، إن هذا العمل وهذا الرأي هو أفضل ما أدلك عليه وأشير به عليك، وما أريد أن أخالفك إلى غيره، فإنني عازم على مثله في خاصة ما يتعلق بوصيتي، بحيث إن الموصى له يأخذ صدقته الموصى بها له قبل أن يأخذ الوارث مستحقه؛ لأن الله سبحانه قدم الوصية قبل الإرث، أما فرض التقدير لكل شخص فإنه راجع إلى رأيك؛ لأنك أعرف مني برحمك.

وهذا العمل هو أفضل من الوصية بالثلث الذي يوقع الوارث والوصي في الحرج والمشقة لصعوبة تخلصه، وهو أفضل أيضًا من الوصية بالأضحية.

ثم إن تخليد الوصية وإثباتها في حالة صحة الشخص يعد من فعل الحزم ورأي أولي العزم، وهي لا تقرب أجلاً ولا تؤخره، والموصي أمير نفسه في تصرفه، وتغيير وصيته ما دام في حياته، فله أن يزيد من يشاء، وينقص من يشاء، ويثبت من يشاء، ويمحو من يشاء؛ لكونها لا تلزم إلا بالموت، وإنني أنصحك عن عدم مؤاخذة الولد الجافي على جهله وجفائه، فلا تعمل معه أي حيف أو حرمان؛ لأنه وإن عصى الله فيك فإن من واجبك أن تطيع الله فيه، وتعدل به مع إخوته لكون الحيف بالاختصاص هو مما يسبب الإحن والشحناء بين الإخوة والأخوات، والله يقول: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً[سورة النساء، الآية: 11]، ويقول: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا[سورة النساء، الآية: 135]، فهذه نصيحتي لك، والله خليفتي عليك، وأستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، وأبلغ سلامي الأخ/ عبداللطيف وابنه.

والباري يحفظكم.

(3/1/1390هـ، 5/8/1975م) رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

حكم الوصية بالثلث

السؤال: هل الوصية بالثلث مستحبة لكل أحد؟ [7/96]

الجواب [رقم: 209]:

قد شاع بين الناس من عوائدهم الوصية بالثلث، كأنه من الأمر الواجب على كل أحد، سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وهذا خطأ. فإن الوصية بالثلث ليست مستحبة لكل أحد. فالمقل من المال الذي ليس عنده مال كثير، وقد يكون له عيال صغار كثيرون، فإن ترك الوصية في حقه أفضل من الوصية بالثلث؛ لأن ما يخلفه من المال لعياله وورثته فإنه بمثابة الصدقة منه عليهم، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا آجَرَكَ اللهُ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ» [رواه البخاري (1295)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه]. ولأن الوصية بالثلث، يحرج عياله ببيع بيتهم الذي يسكنون فيه في حياتهم لأن بيعه من لوازم تصفية الثلث، فترك الوصية للمقل من المال خير من الوصية.

أما الغني المكثر من المال، الذي له عقارات، وأسهم في الشركات وفي البنوك، وله ديون عند الناس وقد يكون عليه حقوق للناس. فالوصية بالثلث جائزة في حقه، لكن فيها نوع حرج ومشقة على الوصي وعلى الورثة، لصعوبة التخلص من الثلث الذي يشمل كل شيء، والذي ننصح به وندعو إليه هو: أن يوصي بشيء معلوم من المال، ثم ينظر إلى أرحامه وجيرانه وفقراء بلده، فيوصي لكل واحد منهم بشيء معلوم، يأخذه قبل أن يأخذ الوارث حقه.اهـ.

***

كتاب الجهاد

حكم الجهاد بالنفس في أفغانستان لغير الأفغان

فضيلة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود... حفظكم الله.

الموضوع: رأي الشرع في الموضوع الآتي:

رجل يبلغ سن الرشد، عاقل متزوج، ترك دراسته الجامعية قبل الإتمام، وذهب مع زوجته إلى أفغانستان لمساندة إخوانه المجاهدين هناك، وذلك عن طريق تدريس الأطفال والكبار اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم في مخيمات اللاجئين ومعسكرات المجاهدين، لقد أقدم هذا الرجل على خطوته هذه بدون رضا أو موافقة والديه، بل إن والديه أنكرا عليه بشدة فعلته هذه وطلبا منه الرجوع إما إلى بلده أو إلى مقر دراسته على وجه السرعة، وذلك لخوفهم عليه وعلى زوجته من أن يصيبهما مكروه، حيث إن الوالدين مستندان إلى الرأي الذي يقول بأن الجهاد في هذه الحالة – أي: الجهاد الأفغاني - ليس فرض عين على غير الأفغانيين، ولا سيما الجهاد بالنفس، وأن ابنهما هذا يستطيع مساعدة المجاهدين بالمال عن طريق إكمال دراسته الجامعية وحصوله على وظيفة، وبالتالي على مصدر تمويل المجاهدين، ولكن الابن غير موافق على هذا الرأي، ولم يرضخ لطلب والديه بعدم الذهاب إلى أفغانستان؛ لأنه مستند إلى الرأي القائل بأن الجهاد الأفغاني فرض عين على الأفغانيين وغير الأفغانيين على السواء.

فالرجاء يا فضيلة الشيخ، أن ترد على هذا الموضوع كتابيًّا وتشرح رأي الشرع فيه، لكي يتسنى لي حل هذه المشكلة وجمع شمل هذه الأسرة المسلمة المحافظة لما فيه الخير لمجتمعنا الإسلامي.

وجزاكم الله خيرًا عن أتعابكم، وجعله الله في ميزان حسناتكم يوم القيامة إن شاء الله.

(7/5/1405هـ، 28/1/1985م) عبدالرزاق رفيع الصديقي المؤسسة العامة القطرية للبترول/ (العمليات البحرية)

السؤال: ما هو حكم الجهاد بالنفس في أفغانستان للقطريين أو غيرهم من الدول البعيدة عن أفغانستان؟... وهل يثاب المسلم الذي يخرج في هذه الحالة للجهاد هناك دون موافقة والديه ورضاهما؟

الجواب [رقم: 202]:

حكم الجهاد في هذه الحالة هو فرض كفاية بالنسبة للقطريين ومن في حكمهم، وهو فرض عين بالنسبة للأفغان الذين دهمهم العدو في بلادهم، والجهاد بالمال قد يكون أنفع للأفغان، فهم لا ينقصهم الرجال بقدر ما ينقصهم العتاد والسلاح والمؤن، والأولى لمن هو في البلاد الغنية أن يسعوا لجمع المال وأن يجتهدوا في توصيله للمجاهدين والمهاجرين إعانة لهم على عدوهم... قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُون ١٥[سورة الحجرات، الآية: 15].

وإن الأفضل في حق هذا الرجل طاعة والديه والجهاد عليهما، فإنه أفضل من جهاده في بلاد الأفغان.

(13/5/1405هـ، الموافق: 3/2/1985م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم جهاد العدو الصائل والإعانة عليه

السؤال: ما حكم جهاد العدو الصائل والإعانة عليه من مثل قتال العرب لليهود؟ [7/123]

الجواب [رقم: 210]:

جهاد هذا العدو الصائل واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن تعذر عليه ببدنه، تعين عليه بماله، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ[سورة التوبة، الآية: 111].

ولأن المال بمثابة الترس للإسلام، يستجلب به العدد والعتاد، وسائر وسائل الجهاد، ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد، فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب، ويستعان به في الطعن والضرب، والمسلم يجاهد بنفسه وماله، وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبًا مفروضًا يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله، وفي المال حق سوى الزكاة فمن لم يكن عنده زكاة، وجب أن يساهم بقدر استطاعته، كل على حسب مقدرته، والدرهم بسبعمائة درهم، وعند الله أضعاف كثيرة.

ولست أقول: إن مساعدة هؤلاء المجاهدين أنها مستحبة فحسب، وإنما أقول: إنها واجبة كوجوب الصلاة والصيام؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والنبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ» [رواه أبو داود (2504)، والنسائي (3096)، وأحمد (12246) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].

إنه من بعد حروب الصحابة والتابعين، ثم حروب صلاح الدين مع التتر والصليبيين، حينما أجلاهم عن بلدان العرب المسلمين، لم نسمع بالجهاد في سبيل الله الصحيح الحقيقي، إلا في هذا القتال الواقع بين المسلمين مع اليهود، فهذا هو الجهاد في سبيل الله حقًّا، والذي يجب أن يضحى في سبيله بالنفس والنفيس.

لأن هؤلاء المجاهدين المباشرين للقتال؛ هم بمثابة المرابطين دون ثغور المسلمين، يحمون حدود المسلمين وحقوقهم، فهم يحاربون دون أديانكم وأبدانكم، يحاربون دون ذراريكم ونسائكم، يحاربون دون مجدكم وشرفكم وحسن سمعتكم. وقد طلبوا النجدة والمساعدة من إخوانهم المسلمين، وقد أوجب الله عليكم نصرتهم، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ[سورة الأنفال، الآية: 72] والنصر يكون بالقوة والرجال، ويكون بالمال ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ[سورة النور، الآية: 33]، فمن العار أن تنعموا وهم بائسون، أو تشبعوا وهم جائعون، أو يضعفوا وأنتم مقتدرون، والمسلم كثير بإخوانه، قوي بأعوانه.

وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق، كالجهاد في سبيل الله، إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، والناس إنما يستحبون اقتناء المال لحوادث الزمان.

وهذا القتال هو أشد حادثة وقعت على الإسلام والمسلمين في هذه السنين، وله ما بعده من العز أو الذل، نعوذ بالله من الخذلان.

إن في العهد الذي عهده رسول الله ﷺ لأمته أن ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم[انظر: صحيح البخاري (3179)، وصحيح مسلم (1370)، وسنن أبي داود (4530)، وسنن الترمذي (2127)، وسنن النسائي (4745) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه]، ومعنى كونهم يدًا على من سواهم، أنهم متى بغى عدو على المسلمين كهؤلاء اليهود، فإن من الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره؛ لأن المسلم كالبنيان للمسلم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[سورة المائدة، الآية: 2].

لقد بلغكم من الأخبار المشهورة، والجرائد المنشورة، أن مدار قوة اليهود، تتركز على مساعدات قومهم لهم، أفلا يكون المسلمون أحق بالسبق إلى هذه الفضيلة التي أوجبها عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنتم تقاتلون على الحق وهم على الباطل.

إن الله سبحانه قد أوجب الجهاد، وأمر بالاستعداد له بالقوة، ومن المعلوم أنه لا قوة بعد الله إلا بالمال، وبدونه يقع الناس في الذل والضر ولا بد.

وكيف يصول في الأيام ليث
إذا وهت المخالب والنيوب

إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه نخوة دينية، أو غيرة عربية، فساهموا في الفضل، وتنافسوا في البذل، فمنهم من ضحى بالنفس، ومنهم من جاد بالنفيس؛ لأنه لا خبيئة بعد بؤس، ولا عطر بعد عروس، والمال لا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وناهيك بالحاجة إليه في أزمة القتال.

لا تذخروا المال للأعداء إنهمُ
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا

﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ[سورة محمد، الآية: 38]، ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون[سورة التغابن، الآية: 16].

***

أنواع الجهاد

السؤال: هل يقتصر معنى الجهاد على الغزو لقتال الكفار؟ أم له معاني أخرى؟ [6/172]

الجواب [رقم: 211]:

من الناس حينما يسمعون بآيات الجهاد في القرآن، فيظنون كل الظن أن المراد بالجهاد هو الغزو لقتال الكفار، وهذا نوع من الجهاد وليس الجهاد محصورًا فيه. بل الجهاد أعم وأشمل؛ لأن الجهاد هو: بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق، ونفع الخلق، والجهاد قولي وفعلي، يكون باللسان وبالحجة والبيان، ويكون بالسيف والسنان، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [رواه الترمذي (1621)، وأحمد (23951)، وابن حبان (4706) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه].

فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو نوع من الجهاد في سبيل الله، وهو واجب على كل واحد بحسبه، فعلى العالم واجب الجهاد في نشر العلم وتعليمه، وتذكير الناس به، والنصيحة بنشر ما ينفعهم، والتحذير عما يضرهم ما ليس على غيره، وعلى الحاكم من وجوب الجهاد في تنفيذ الحق والحكم بالعدل، ونصر المظلوم، واستيفاء حقه، وقمع الظالم وإيقافه على حده، وإقناعه بحقه؛ ما ليس على غيره. ولن تقدَّس أمة لا يؤخذ الحق من قويهم لضعيفهم.

فالجهاد واجب على كل أحد بحسبه، وواجب على كل أحد مع أهله وعياله بحيث يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر، ويأمرهم بالصلاة في المسجد معه، عملاً بقوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[سورة طه، الآية: 132].

فالجهاد بالحجة والبيان، والأمر بالخير، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: هو جهاد أنبياء الله ورسله. وإنما شرع القتال لتأييده واستقامته؛ لأنه قوام الدين، ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا[سورة الفرقان، الآية: 31].

***

نصيحة لمن يتجسسون على المجاهدين

السؤال: المسلمون في حالة الحرب مع اليهود في فلسطين ويوجد من المسلمين من وقع في حبائل اليهود فأصبح يتجسس على قومه ويبث الدعايات ضد المجاهدين، فما هي نصيحتكم لهم؟

الجواب [رقم: 212]:

الظلم يخص والبلاء يعم، قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[سورة الروم، الآية: 41]، لقد أصبح الفساد دالة هلاك وهو أكبر أعداء المسلمين.

نعم، المسلمون منهم من يتجسس للأجانب على قومه ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه فأين إسلامهم وإيمانهم؟! أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله؟! أم بمثل هذا تكون أخوة الإيمان وولايته؟! أو بمثل هذا يظنون العز والنصر والتمكين في الأرض لهم سعاة بين أيدي الأجانب على ملتهم ووطنهم وقومهم، كلما عاتبهم الإنسان على خيانة اعتذروا بعدم إمكان المقاومة، ولقد كانوا قادرين على أن يخدموا ملتهم بسيوفهم، فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم، فأبوا إلا أن يكونوا بطانة للأجانب على قومهم، وأبوا ألا أن يكونوا زوادًا لهم على بلادهم، وأبوا إلا أن يكونوا مطايا للأجانب على أوطانهم.

وأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي أو تفضيل حكم الأجنبي خطرًا.

إنهم اكتفوا عن الإسلام بمجرد الركوع والسجود والأوراد والأذكار، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والأخرى لما كان القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد والإيثار على النفس والصدق والصبر ونجدة المؤمن لأخيه والعدل والإحسان وجميع مكارم الأخلاق.

***

كتاب البيوع

تصرف الوكيل بخلاف إذن موكله

السؤال:

حضرة الأخ العزيز المكرم فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود حفظه الله:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعد التحية ومزيد الاحترام أرجو لكم دوام الصحة والسعادة والتوفيق.

وبعد؛

إنني أعرض عليكم هذه القضية الصغيرة؛ لأجل أن تفيدونا بفتواكم حتى لا يعلق بذمتنا شيء.

هناك رجل يدعى سالمًا، وقد أوصينا أن يحضر لنا بعيرًا من عمان بأوصاف محددة، وذلك بشهادة اثنين، هما طالب وعلي، وقد حضر الرجل وأحضر معه بعيرين بدل البعير الذي أوصيناه به، وكلاهما مخالف للشروط والأوصاف التي حددناها، وأخبرناه بأنهما لا يصلحان لنا، وقد عرضنا عليه أجرتهما بالكامل حتى يعيدهما ولكنه رفض، وقد ترك عندنا البعيرين، ونحن نطعمهما ونصرف عليهما يوميًّا، ولكننا لا نستطيع أن نستمر على هذه الحال، وإنني أرى أن نبيعهما بواسطتكم، وندع الثمن عندك، حتى يأتي صاحبهما، ويستلم ثمنهما، والرأي أولاً وأخيرًا لكم، وإنني بانتظار تكرمكم بإفادتي بالموضوع.

وختامًا أهديكم أطيب أماني الخير والسعادة، والله يحفظكم ويرعاكم.

(7/6/1976) أخوكم/ جاسم بن ج

الجواب [رقم: 213]:

حضرة المحب الفاضل الشيخ جاسم بن ج حفظه الله بالإسلام.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، أشرت إلى السؤال عن الرجل الذي وكل رجلاً على شراء بعير موصوف بصفات محددة ومضبوطة، وأن هذا الوكيل تصرف بشراء بعيرين بدل البعير، وهما مخالفان لسائر الأوصاف.

فقد تعرف أن الفتوى على حسب السؤال، ومتى كان الأمر بهذه الصفة فإن الوكالة لاغية، ولا يلزم الموكل شراء مثل هذين البعيرين، ويبقيان على ملك صاحبهما، فإن تعذر وصول هذا الوكيل أو وصول البعيرين إليه لبعد مسافته، وتعذر السفر بالبعيرين إليه، فإنهما يباعان على حظه، ويجري التحاسب بينه وبين الموكل في الزائد والناقص، وإن اختلف السؤال عن حقيقته فإن الفتوى تختلف في ذلك، وكل ذي حق على حقه.

والباري يحفظكم، والسلام عليكم.

التاريخ: 10/6/1396هـ، الموافق: 8/6/1976 رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

الترويج للسلع عن طريق النصيب

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة عبدالله بن زيد آل محمود.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية الدوحة..

تحية طيبة. وبعد؛

إشارة إلى الفتوى التي أصدرتموها فضيلتكم بتاريخ 18/4/1395هـ في شأن تحذير سائر التجار من الترويج لسلعهم عن طريق النصيب لعدم جواز هذا العمل؛ لما يحتويه من خداع وتغرير بالناس...

نتشرف بالإحاطة أنه قد ورد إلى الوزارة شكاوى من بعض أصحاب مصانع المياه الغازية ضد القائمين على إنتاج مشروب (غازي) والمسؤولين عن إدارته، حيث إنهم لجؤوا في الآونة الأخيرة إلى لصق وتوزيع إعلانات دعاية وترويج لذلك المشروب تتضمن وعودًا للجمهور بجوائز عينية مختلفة كالسيارات والثلاجات والأفران والشماسي إلخ.

وحيث إن ذلك الإجراء يتنافى مع حكم الفتوى المنوه عنها - والمرفق نسخة منها - لذلك نتشرف بإحالة الأمر إلى فضيلتكم برجاء التكرم بالعلم واتخاذ ما قد ترونه مناسبًا في شأنه.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

(6/5/95هـ، 17/5/1975م) القائم بأعمال مدير الوزارة (إسماعيل صدقي حافظ)

الجواب [رقم: 214]:

إلى سائر التجار والبياعين لأصناف المتاجر.

سلام عليكم.

وبعد: فقد عملنا التحقيق بالتدقيق عما يسمى بالنصيب، وصفته أن يخفي التاجر صورة شيء ما؛ إما سيارة أو ثلاجة أو راديو، فيخفي هذه الصورة في صمامة زجاجة أو شيء غيرها، ويوهم الناس أن من وجد هذه الصورة أو عثر عليها فإنه يعطى هذه الصورة عينًا؛ سيارة أو ثلاجة أو غيرها، وبالتحقيق لهذا العمل بهذه الصفة وجدنا أن فيه نوعًا من الخداع والتغرير قصد به فاعله التدليس والتلبيس على الناس بكثرة السحب من هذه السلعة ورجاء الحصول على هذه الصورة، ولعله لا يضع شيئًا قطعًا، وإنما قصد الترويج بهذه الدعاية؛ لهذا تحقق عندي بأن هذا عمل لا يجوز شرعًا وأنه حقيقة من الخداع والتغرير والتدليس والتلبيس، لهذا يجب الكف عن هذا العمل لاعتبار أنه غير جائز ويمنع المسلم أن يلبس على المسلم، وأنه لا خداع ولا خبيئة، و«مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» [رواه مسلم (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فحصنوا تجارتكم بالصدق، وانتهوا عن هذا العمل، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون[سورة النور، الآية: 31].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(18/4/1395هـ، 30/4/1975م) عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

عقد الإيجار ينفسخ بفقدان منفعة المؤجَّر

السؤال:

من عبدالله بن زيد آل محمود، إلى الأفاضل علماء هيئة التمييز بالمملكة العربية السعودية، حفظهم الله بالإسلام، وأسدى عليهم سوابغ النعم والإحسان.

الحمد لله: سألني أحد القضاة الكرام قائلاً: إنني أحب أن أتفاهم معكم بما أرجو أن أستفيد منكم، وذلك أنه يوجد في سائر بلدان المملكة أوقاف كثيرة استأجرها أناس من المتولين لها ممن ينتسب إلى ولاية هذه الأوقاف لكونها آهلة، فيؤجرها بعشر سنين وعشرين سنة وثلاثين سنة وأقل وأكثر، على أن يقوم المستأجر بعمارتها، ثم يسكن بإيجار مسمى معلوم يدفعه كل عام، وفي هذه السنين صدر من الحكومة ما لا يخفى على أحد، وذلك في فتح الطرق في البلاد، فيتناول الطريق كثيرًا من بيوت الأوقاف، وجرت العادة إقامة لجنة عدليّة في البلاد تقوم بتثمين الأرض، ثم تثمين البناء الذي وضعه المستأجر لكون القص والاقتطاع يستأصل مثل هذه البيوت؛ أرضها وبناءها؛ لتوسيع الطرق ومواقف السيارات، وجعلها مدارس وغير ذلك من الحاجات، قال: فلا أدري عن طريق الحكم في فصل حق المستأجر من حق المالك.

الجواب [رقم: 215]:

فأجبته بأن القضية في هذه المسألة واضحة جليّة، حيث قال العلماء: إن الإيجار الصحيح يلزم على حالته إلى انتهاء مدته، وإنه متى تعطل الانتفاع بهذا المستأجر بأن أخذته الحكومة مثلاً للانتفاع العام فإن العقد فيه ينفسخ لفقدان منفعته، أشبه البعير المستأجر إلى مكة فيموت في أثناء الطريق، ومتى انفسخ العقد فإن المستأجر يرجع بقيمة بنائه حسب ما قدرته له اللجنة العدلية، كما أن صاحب الأرض (أي: ولي الوقف) يرجع بقيمة أرضه بالغة ما بلغت، قال في الروض المربع شرح زاد المستقنع ص102:

وإن اكترى أرضًا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي من المدة؛ لأن المقصود بالعقد قد فات، أشبه ما لو تلف.

وقال في الإقناع وفي شرحه ص320:

قال الشيخ تقي الدين فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناء وقفه عليه: متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل، قال في الإنصاف: وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك. انتهى.

وهذه المسألة جلية عند الفقهاء، قد تتابعوا فيها بالقول بذلك، فقال القاضي: هذا هو المتبادر إلى علمي، وقد حكمت بموجبه، ولكن المشايخ أو قال: علماء هيئة التمييز ردوا حكمي بذلك، وكأنهم يحاولون أن يحكم للمستأجر بأكثر من حقه من قيمة الأرض، حتى إن بعض الناس في البلاد، وخاصة المستأجرين، قد استولوا على قيمة الأرض وقيمة البناء.

مع العلم أن الحكومة واللجنة المنصوبة لتقدير قيمة الأملاك من قبلها يزيدون في تثمين البناء، كما يزيدون في تثمين الأرض، فالمستأجر يأخذ حقه من زيادة التثمين في بنائه، فقد يبني في هذا البيت في حالة رخص الأسعار بعشرة آلاف أو أقل أو أكثر، فيقوم له بناؤه بأربعين ألفًا أو أقل أو أكثر.

هذا حاصل ما يقوله فضيلة القاضي، وأن هذه من المسائل الجلية الظاهرة، وكونه لا حق للمستأجر في غير قيمة بنائه، كما لا حق لأهل الأرض في غير قيمة أرضهم، فكل واحد منهما يقف على حده ويقنع بحقه بلا ضرر ولا إضرار.

أما أخذ زيادة من قيمة الأرض، أو كونه يحكم للمستأجر بقيمة الأرض والبناء، فهذا مما لم يقل به أحد من العلماء؛ إذ عقد الإجارة وقع على المنفعة، ومتى زالت المنفعة انفسخ العقد بزوالها، ورجع كل ذي حق على حقه، ودعوى بعضهم أن هذا المستأجر متى زالت الأرض عنه وزال بناؤه فإنه لن يجد ما يعوض عن أرضه بالقيمة المناسبة، فهذه حجة داحرة، فإن ذهاب هذه الأرض بما فيها من البناء واقع على الجهتين، صاحب الأرض والمستأجر، والخصم فيها هو الحكومة، والمضار الجزئية التي تصيب المستأجر أو تصيب أهل الأرض مغتفر في ضمن المصالح العموميّة، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

فلا يزال ضرر المستأجر بضرر المؤجر صاحب الأرض؛ إذ الضرر لا يزال بالضرر.

وربما أن هذه القضية تعتبر من القضايا العامة التي قد وقع الناس فيها في كل مكان.

أحببت التفاهم فيها مع المشايخ الكرام، مع علمي أن حقيقة خبرتهم ستسبقني إلى صحة ما أقول.

وأرجو متى تبين لهم خلاف ما أقول فإنهم يرفعونه لنا للاستفادة منه.

والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم.

والباري يحفظكم.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر

***

تأخر المستأجر عن دفع الأجرة عن الوقت المتفق عليه

السؤال:

الحمد لله: لقد حضر لدي الرجل - مصطفى محمد مندوب السيد عبدالله، وسأل الآتي:

يوجد شخص مستأجر في بيوت المتوفى/ الشيخ عبدالرحمٰن، وإيجار البيت ستمائة ريال شهريًّا، وحسب قانون الإيجارات إذا الشخص تأخر عن المدة القانونية، وهي عشرة أيام، يحق لصاحب الملك إخراج المستأجر من البيت؛ لأنه لو خرج من البيت يستطيع تأجيره بما يقارب ثلاثة آلاف ريال، وفعلاً تأخر المستأجر المدعو/ محمود السيد عن دفع الإيجار مدة ستة أيام بعد المدة المسموح بها، وأردنا أن نخرجه، ولكن نريد أن نبرئ ذمتنا، فلجأنا إلى الشرع لشرح القضية له وأخذ رأيه في ذلك، هل يصيبنا إثم إذا أبقيناه في البيت، وأن يستمر في دفع الإيجار كالسابق لأنه مال أيتام؟ كما أبلغنا المستأجر المذكور بأنه كان مريضًا في هذه الفترة ولديه شهادة مرضية تثبت ذلك حسب قوله.

الجواب [رقم: 216]:

الإجابة: فمن بعد سماع القضية من جميع أطرافها فإنه لا إثم على الوكيل في إبقاء المستأجر في بيت الأيتام بنفس الإيجار كحالته السابقة.

حرر للعلم كي لا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

فض خصومة في أرض شراكة بين اثنين

من الأحساء بتاريخ 19/9/1378هـ، الموافق 28/3/1959م.

حضرة العالم الفاضل فضيلة الشيخ المكرم عبدالله بن زيد آل محمود سلمه الله.

بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والسؤال عن صحتكم جعلها الله صحة دائمة عليكم وأنتم بخير وسرور.

وبعد، أدام الله وجودكم على طاعة الله ورسوله، وصلكم برفقة هذا الكتاب سؤال استفتاء بصفة خاصة، نسترحم من الله ثم من فضيلتكم أن تلخصوا ذلك، وتعطونا الإفادة بما أعطاكم الله سبحانه من كتابه وسنة نبيه ﷺ، ربنا يجزيكم عنا خير الدارين، والله يحفظكم. والسلام.

سؤال استفتاء: دعوى بين خصمين كلاهما شراكة في ملكية أرض مشاع بينهما، أحدهما مدعٍ بثلث الأرض بتوليه قبضة اليد من مدة أربعين سنة، والآخر معارض، والمعارض عنده حجة شرعية محتوية على ثلثي الأرض بعد زوال ثلاثة أرباع الثمن بختم الشيخ أحمد بن مشرف قاضي الأحساء محررة في 23 محرم 1282هـ، ثم جرى سير الدعوى من المعارض على المدعي لدى قاضي المحكمة، وعند سؤال المعارض أجاب قائلاً: إن الثلث الذي في قبضة يد المدعي هو وقف لجدي، وعند المدعي بإيجاره، وعندي بينة ورقة الوصية في بلد البحرين، وأطلب إعطائي مدة لإحضارها، وأعطاه قاضي المحكمة مدة طويلة، وبعد عدة مراجعات للمحكمة، وطالت الدعوى إلى أربع سنوات، وعند النهاية حضر المعارض لدى قاضي المحكمة، واعترف بعجزه عن كل بينة، وعن إحضار ورقة الوصية التي وعد بإحضارها من البحرين، وحينئذ طلب القاضي بينة المدعي على تملكه الثلث، وأحضر المدعي شاهدين عدلين ومعدلين من لدن الشرع، وشهد الشهود بتوليه قبضة يد المدعي على الثلث المذكور من مدة أربعين سنة، وبعد ذلك زود قاضي المحكمة المعارض وأعطاه مدة شهرين ربما يجد شيئًا مما ذكره، وعند نهاية المدة المذكورة حضر المدعي وأحضر المعارض لدى قاضي المحكمة، وعند سؤاله أجاب المعارض بعجزه عن كل شيء، وبعد عجز المعارض هل يتسنى للقاضي أن يستأنف ويذكر بذيل الصك الصادر من عنده من المحكمة أنه إذا وجدت ورقة تعارض البينة ينظر فيها، هل لديه إسناد قوي مما تتضمنه نصوص الأحكام الشرعية حتى يسوغ له الأمر كما ذكره مما اشترط للخصم المعارض خلاف ما تقدم من البينة الواضحة.

الجواب [رقم: 217]:

جواب الاستفتاء: الخصومة الحاصلة بين الشخصين المشتركين بملكية أرض مشاع أحدهما مدعٍ بثلثها ببينة توليه لها، ووضعه اليد عليها، وتصرفه فيها من مدة أربعين سنة، والثاني معارض له يحاول رفع يده عنها بحجة شرعية تحتوي على ثلثي الأرض بعد نزول ثلاثة أرباع الثمن بختم الشيخ أحمد بن مشرف قاضي الأحساء محررة في 23 محرم سنة 1282هـ، ثم جرى سير الدعوى من المعارض على صاحب الثلث قائلاً: إن الثلث الذي في قبضته هو وقف لجدي، فهو عنده بإجارة ليس له بملك، وقد عجز بعد ضرب المدة الطويلة له عن إثبات الوقفية وتصحيح الوصية وبقائه تحت تصرفه بأجرة.

فاعلم: يا محب أن مدعي الثلث قد قويت جنبة حجته، وتأيدت بينته بأمرين:

أحدهما: وضعه اليد كل هذه السنين الطويلة بمقتضى تصرف الملكية من غير أن يحاول أحد من الفريق المعارض رفع يده أو دفعها أو مطالبته بإيجارها، ومثل هذه يعتبرها الفقهاء المحققون من موجبات التملك في ظاهر الحكم؛ إذ لا يتصور الوضع لليد كل المدة الطويلة من صاحب الثلث مع قرب خصمه منه، ومشاهدته له، وعدم اعتراضه عليه إلا وهي ملكه، إلا أن يكون المعارض صغيرًا فكبر، أو امرأة عاجزة عن إقامة الدعوى في المحاكم، أو أبله من الرجال يعجزه الرأي والروية، فالحكم يدور مع العلة، ويختلف الحكم في وضع اليد المدة الطويلة بين الأقارب وبين الأجانب؛ لوقوعه مع الأقارب فيها غالبًا بخلاف الأجنبي.

الأمر الثاني: مما تأيدت به بينة المدعي للثلث هو: الوثيقة الموجودة بيد المعارض بخط الشيخ أحمد بن مشرف، وختمه في إثبات ثلثي الأرض بعد نزول ثلاثة أرباع الثمن، ولم يتعرض فيها للثلث بذكر الوقف، فكان ملكًا مطلقًا لواضع اليد، ومن العجب عجز صاحب الثلث عن إثبات انتقاله إليه بطريق يعلم سببه، ومع عدمه وعجز المعارض عن إحضار بينة ترفع يده، فليس للقاضي العدل سوى ما حكم به في استدامة وضع يد صاحب الثلث على ثلثه بعد شهادة العدلين باستدامة تصرفه فيه كل السنين العديدة.

يبقى أن يقال: إن الشبهة قوية في الملكية، فعلى القاضي عند تسجيل الحكم أن يحتاط، فيقول: حكمت بموجبه بعد عجز المعارض عن إثبات وقفيته، أو كونه أحق به، ومع وجودها فالحكم مستأنف لأجله، وكل ذي حق على حقه، إذ الحكم لا يغير الحق عن وضعه، وإنما يقطع النزاع في وقته.

ليكون معلومًا.

الدوحة في 19/5/1389هـ، (2/8/1969)

***

من مات عن حق فلورثته

السؤال:

فضيلة قاضي المحكمة الشرعية المحترم.

رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - الدوحة.

تحية طيبة وبعد،

نود عرض الموضوع الآتي على فضيلتكم:

يرجى التكرم بالعلم بأنه لدى أحد المواطنين عقار في مدينة الدوحة، تم تثمينه بواسطة اللجنة المختصة بالبلدية، وأخطر صاحب العقار بذلك، إلا أنه لم يوافق على التثمين، وفي هذه الأثناء انتقل إلى رحمة الله تعالى، وآلت ملكية العقار لورثته الشرعيين.

وقد قام الورثة في الوقت الحالي بالمطالبة بالسعر الحالي للأرض.

نعرض الأمر على فضيلتكم آملين الإفادة برأي الشرع في ذلك ومدى أحقية الورثة في المطالبة بزيادة السعر من عدمه.

وتفضلوا بقبول فائق التحية والاحترام.

(25/2/1405هـ، 18/11/1984م) علي محمد الخاطر مدير البلدية

الجواب [رقم: 218]:

الفاضل المكرم/ مدير بلدية الدوحة - المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله... وبعد؛

فقد استلمت كتابكم رقم ب د/ 26/1139 - المؤرخ في 25/2/1405هـ. والجواب عن السؤال الوارد به، والذي سألتم فيه عن العقار الذي جرى تثمينه من اللجنة المختصة بالبلدية، ولم يوافق مالكه على التثمين المذكور حتى مات.

فالجواب: إن من مات عن حق فلورثته، فيجب تثمينه في الوقت الحالي حتى يرضى الورثة لكونه حقًّا لهم. وقد جرى العمل باعتراف الورثة وجوبًا ومنعًا، فهم يستحقون التثمين من جديد.

والباري يحفظكم.

(29/2/1405هـ، 22/11/1984م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم البيع إذا تراخى القبول عن الإيجاب لاختلاف البلد

السؤال: ما حكم صحة البيع إذا تراخى القبول عن الإيجاب بسبب وجود كل من البائع والمشتري في بلدين مختلفين؟

الجواب [رقم: 219]:

حكى بعض العلماء الإجماع على أنه لا يجوز لمكلف أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، وبعث عمر رضي الله عنه من يقيم من الأسواق من ليس بفقيه، وأركان البيع ثلاثة: عاقد، ومعقود عليه وصيغة، والكلام على العاقد والمعقود عليه يأتي في الشروط.

ولو قال المشتري: بعني بكذا أو اشتريت منك بكذا، فقال البائع: بارك الله لك فيه أو هو مبارك عليك صح البيع، ولو قال البائع: بعتك إن شاء الله أو قال المشتري: قبلت إن شاء الله، صح البيع، وإن تراخى القبول عن الإيجاب أو عكسه صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه عرفًا، وإن تفرقا قبل الإتيان بما بقي منهما أو تشاغلا بما يقطعه لم ينعقد البيع.

وإن كان المشتري غائبًا عن المجلس فكاتبه البائع أو راسله بقوله: بعتك داري بكذا، فلما بلغ المشتري الخبر قَبِل البيع صح العقد؛ لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن الإيجاب.

***

البيع بالتقسيط وشرط البائع رهن المبيع بباقي الثمن المؤجل

التاريخ: 20/5/1383هـ

أرفع إلى فضيلة نائب الحاكم حفظه الله، عن خصوص السندات التي يستعملها التجار لبيع السيارات بالتقسيط على سائر المشترين، فهم يشترطون شروطًا.

منها:

1– أنه لا يحق للمشتري بيع السيارة أو التصرف بها إلا بعد مراجعة البائع وأخذ موافقته ما لم يكن المشتري قد سدد جميع أقساط السيارة.

2– كل تأخير عن دفع قسط من الأقساط المستحقة يحق بموجبه للبائع اتخاذ الإجراءات القانونية والتي قد تؤدي إلى حجز السيارة.

الجواب [رقم: 220]:

وبالتأمل لهذين الشرطين يتبين أنها شرطان صحيحان وأن السيارة المذكورة تعتبر بمثابة الرهن اللازم في المتبقي من الحق اعتمادًا على الشرط، والمؤمنون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. فنحن نحكم بثبات حق التاجر في الذمة ويتعلق بالسيارة فلا يسوغ للمشتري التصرف فيها بما يوجب انتقالها عن ملكه إلا بعد تسديد الطلب، أو الإذن الصادر بالرضاء من التاجر لاعتبارها رهنًا في بقية الطلب.

كيلا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

بيع موصوف في الذمة

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

أما السؤال: الرجل الذي أسلم خمسة عشر ألفًا في سيارة موصوفة تدفع إليه عام 1407هـ وهما في السنة 1406 أي: بعد السنة.

الجواب [رقم: 221]:

فهذه المسألة يسميها الفقهاء بيع موصوف في الذمة، وهو صحيح في ظاهر مذهب الحنابلة، وإذا اختلفت الصفة اختلّ العقدُ ورجع صاحب الدراهم إلى دراهمه بدون زيادة ولا نقصان، ولم يزل الناس يعتادون التبايع بالصفة من قديم الزمان وحديثه، وكان رسول الله ﷺ يشتري الناقة بالناقتين إلى أجل عند حاجة الجهاد في سبيل الله.

ومثله ما يستعمله بعض الناس من دفع الدراهم إلى أحد البادية في قعود أو ناقة موصوفة يدفعها في وقت كذا وكذا إلى بعد السنة أو فوقها، فإن هذا عقد صحيح، وقد حصل العمل به من النبي ﷺ.

ومثله الذي أسلم إلى رجل في طعام موصوف يدفعه عند الجذاذ...

فإن هذا السَّلَم بهذه الصفة صحيح واقع موقعًا في الصحة.

لكن لا يجوز لمن له هذا الطعام أن يبيع على صاحبه، أي: بسعره الذي جرى العقد عليه، لأنه تصرف في بيع ما لم يقبض، والنبي ﷺ يقول: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ» [رواه أبو داود (3468)، وابن ماجه (2283) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

***

المحرمات الواجب اجتنابها في البيع والشراء

السؤال: ما هي الأمور المحرمة في البيع والشراء والتي يجب على التاجر المسلم اجتنابها؟ [7/226]

الجواب [رقم: 222]:

لا يحل للبائع أن يخفي عن المشتري ما في السلعة من العيوب، ولا أن يقول: سيمت بكذا، وهو كاذب، ولا أن يقول: اشتريتها بكذا، وهو إنما اشتراها بأقل، فمتى فعل ذلك، فإن للمشتري الخيار في فسخ العقد؛ لوقوع الغدر والتدليس عليه.

إن البيع الصحيح: هو بيع المسلم للمسلم بلا غش ولا خيانة ولا خديعة ولا كذب. فهذا البيع هو البيع المبرور الذي قال فيه النبي ﷺ: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» [رواه أحمد (17265)، والبزار (3731)، و الحاكم (2160) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه]. فالبيع المبرور مقرون به اليمن والبركة في السلعة وفي الثمن.

أما البيع المشوب بالخيانة والخداع والكذب، فإنه مقرون به الشؤم والفشل ومحق الرزق. وفي الحديث: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ» [رواه الترمذي (1210)، وابن ماجه (2146)، وأحمد (20999)، والدارمي (2580)، وابن حبان في صحيحه (4910) من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه].

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». منهم «رجل حلف على سلعة بعد العصر، لقد أعطي بها كذا، وكذا، فصدقه المشتري وهو كاذب» [صحيح البخاري (7212)، وصحيح مسلم (108) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وفي صحيح مسلم عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: المنان بعمله، والمسبل إزاره خيلاء، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» [صحيح مسلم (106) من حديث أبي ذر رضي الله عنه].

وإنما حشر أكثر التجار فجارًا؛ من أجل استباحتهم لأكل زكاة مالهم وللخيانة والخداع والتغرير والكذب، وخروجهم عن حدود العدل والصدق. وكفى بك إثمًا أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق وأنت به كاذب، يقول: سيمت مني هذه السلعة بكذا، وهو كاذب في ذلك.

وقد عمل بعضهم شيئًا من الحيل المحرمة، والتغرير والخداع؛ يشتري أحدهم الأرض بسبعمائة ألف، ويكتبون ثمنها في صك الشراء بمليون خداعًا وتدليسًا، وهذا كله من الأمر الحرام.

ومثله ما يستبيحه بعض التجار؛ من أن أحدهم يشتري بضائع من الخارج، ثم يطلب من الشركة أن تكتب في قوائمها أكثر من قيمتها؛ لقصد عرضها على الحكومة أو على المشترين. فيأخذ قدرًا زائدًا بطريق الخيانة والغدر والتغرير والكذب.

وقد حث النبي ﷺ على الصدق. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» [صحيح البخاري (6094)، وصحيح مسلم (2607)].

وعن عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» [رواه أحمد (22757)، وابن حبان في صحيحه (271)، والحاكم (8066)، والبيهقي في الكبرى (12691)، وفي الشعب (4464)].

فالمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب، قيل للنبي ﷺ: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون بخيلًا؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون كذابًا؟ قال: «لَا» [رواه مالك (2/990/19) من حديث صفوان بن سليم مرسلًا].

لهذا تجد التاجر الصادق الأمين، يركن الناس إلى معاملته، وإيداع أموالهم عنده، وعرض السلع الرخيصة عليه، لمحبتهم له وثقتهم به، وحسن ظنهم بصدقه وأمانته، فتتوسع تجارته، وينتشر بين الناس فخره وشرفه.

وأما الكذاب الخائن، فإن الناس لا يزالون منه على حذر، بحيث يحذر بعضهم بعضًا من معاملته، وعدم الثقة به، فتكسد تجارته، ويسقط قدره، ويكون كذبه بمثابة الكلب يطرد الرزق عن بابه، ويمنعه من سلوك أسبابه، ولا يجني جان إلا على نفسه، وقد قال النبي ﷺ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مِمَّا فَاتَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ» [رواه أحمد (6652)، والطبراني في الكبير (13/57/141)، والبيهقي في الشعب (4463) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما].

فهذه الخلال هي التي تجمل التجارة وتنميها، وتنزل البركة فيها، وتحبب الناس للمتصف بها.

وكان النبي ﷺ إذا جرب على أحد شيئًا من الكذب سقط من عينه، واستهان عنده، فلا يقبل عليه بالرضا، حتى يجدد توبته عن تلك الكذبة، ويحث أصحابه على اعتياد الصدق في أقوالهم وأعمالهم ومعاملتهم، وحتى التخاطب مع الصغار من أولادهم. كما في حديث عبدالله بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله جالس في بيتنا. فقالت: تعال أعطك كذا - أي: تمرة - فقال رسول الله ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُطِعْهُ لَكُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً» [رواه أبو داود (4991)، وابن أبي شيبة (25609)].

مراده بهذا تهذيب أمته صغارهم وكبارهم على اعتياد الصدق، وتربيتهم على التخلق به، واجتناب الكذب، وتقبيحه في نفوسهم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، وعلى التخلق به، حتى يصير نكتة راسخة في قلبه.

والكذب مجانب الإيمان، وهو من خصال النفاق، كما في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وفي رواية: «إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» [رواه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والرواية الثانية عند البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

لهذا يرى العقلاء من علماء النفس أن من فساد التربية للصبي، كونه يُعوَّد الكذب في التخاطب معه وكثرة تخويفه من الكلب، أو من الجن عند بكائه، فيتربى في نفسه هذا التخويف، فيتخلق بالرعب والخوف والاضطراب، فيخاف من كل شيء، ومن الجن، فيصورهم في نفسه، وهو لا خوف عليه منهم، ولا يزال دائمًا يخاف من هذا التخويف في نومه ويقظته، حتى يكبر معه في نفسه حالة كبره، ويصير طبيعة له.

ومن شؤم الكذب أنه ينفق السلعة؛ لكنه يمحق الكسب، ويؤذن بالفشل، والله أعلم.

***

حكم الاتجار بالخمر والخنزير والتماثيل مع غير المسلمين

السؤال: ما حكم الاتجار في الخمر والخنزير والتماثيل؟ وهل يجوز بيعها على غير المسلمين؟ [6/356]

الجواب [رقم: 223]:

إياكم والاتجار في الأعيان المحرمة؛ كالخمر ولحم الخنزير، والصور المجسمة، فإنه حرام بيعها، حرام شراؤها، حرام اتخاذها في البيوت، وقد خطب رسول الله ﷺ على رتاج الكعبة فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ» [رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581) من حديث جابر رضي الله عنه].

فلا يستحل بيع هذه الأعيان بعد هذا البلاغ سوى رجل فاجر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يحرِّم ما حرم الله ورسوله، ولا يدين دين الحق.

ولا يقولنّ أحدكم: إني إنما أبيعها على النصارى والمشركين، فإن الله إذا حرّم شيئًا حرّم بيعه وشراءه وثمنه. فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.

***

مسائل في الربا

الأجناس التي يدخل فيها الربا

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

أما سؤالك عن الربا، وهل هو مقصور على الستة المذكورة في حديث عبادة [رواه مسلم (1587) ولفظه: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»] أو هو عامّ في ما يشبهه من سائر الأجناس؟

الجواب [رقم: 224]:

والصحيح أن الربا عام لسائر الأجناس، فإنه يدخل فيها الربا، وإنما خصّ رسول الله ﷺ الستة لكونها رائجة في زمنهم وفي بلدهم، وقيس عليها ما يشبهها من سائر الحبوب المتنوعة.

***

حكم القرض الربوي من البنك لاستخدامه في بناء قطعة أرض

حضرة فضيلة الشيخ الجليل عبدالله بن زيد آل محمود.

رئيس قضاة المحاكم الشرعية.

الدوحة - قطر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد؛

فلقد أردنا معرفة فتواكم في موضوع يشغل بالنا كما يشغل بال الكثيرين هذه الأيام، ورغم فتاوى العلماء المتغايرة في مواضيع مشابهة لم نقتنع حتى الآن برأي معين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، ولاعتقادنا بفتاويكم في المعاملات المختلفة نرجوكم أن تفتونا بالرأي القاطع والدليل المقنع في هذا الموضوع؛ كي نتمكن وغيرنا من التصرف حسب الشريعة الإسلامية في الظروف المشابهة، ولا نقع في الحرام بسبب جهل أو تجاهل، جزاكم الله عن كل اجتهاداتكم لصالح المسلمين خير الجزاء، وأسبغ عليكم من نعمه في الدنيا والآخرة بما يكافئ مقامكم الكريم:

1– شخص أو أكثر لهم قطعة أرض يريدون بناءها للاستفادة منها لأنفسهم أو لغيرهم، ولكن لا يوجد لديهم المال الكافي للبناء، مما يضطرهم عمل ذلك إلى تمويل المشروع من جهة أخرى بقرض من بنك أو اتفاق يقوم البنك بموجبه بتمويل مشروع البناء حتى يتم، ومن ثم يسترجع المبلغ المصروف على البناء من أصحابه بأخذ الإيجار العائد من جزء أو كل البناء لمدة معينة كخمس سنوات مثلاً أو أكثر، حسب المبلغ المصروف مع البناء، علمًا بأن البنك يضيف مبلغًا على إجمالي المبلغ المصروف، أو بمعدل معين لمدة التسديد قد تسمى عمولة أو غيرها، ولكنه في الأصل مبلغ مضاف على المصاريف، يتقاضاه البنك نظير المدة التي يتم خلالها استرجاع القرض أو السلفة للبنك. فهل يجوز هذا شرعًا؟

2– في حالة عدم جواز الطريقة السابقة قد يقوم الشخص أو الأشخاص المذكورون بالبناء عن طريق غير مباشر، فهم يتقدمون للبنك بمواصفات البناء، ويقوم البنك بعقد اتفاق البناء مع مقاول البناء، وفي هذه الحالة يتفق البنك مع الشخص أو الأشخاص المذكورين على:

أ أن يبني لهم البنك أرضهم حسب المواصفات المتفق عليه ويسلم لهم كامل البناء في مدة معينة متفق عليها.

ب يحدد البنك تكلفة المشروع على الزبائن إجمالاً على أن يدفعوا للبنك هذا المبلغ خلال مدة معينة، كخمس سنوات مثلاً أو أكثر، بأقساط شهرية أو سنوية حسب الاتفاق دون تحديد معدل للعمولة، وذلك بتحديد المبلغ اسمًا، وفي هذه الحالة من جهة البنك قد يحتسب من ضمن المبلغ المتفق عليه عمولة أو غيرها، ولكنه من جهة الزبون قد يعتبره تكلفة البناء بهذا المبلغ المتفق عليه دون أخذه في الاعتبار ما يتكون منه هذا المبلغ. فهل يجوز هذا شرعًا؟

3– أن يأخذ الشخص أو الأشخاص المذكورون القرض أو السلفة من البنك للبناء، على أن يسدد لهم القرض بعد إتمام البناء دون تحديد المدة حسب مقدرتهم، علمًا بأن يأخذ البنك معدلاً معينًا من الإيجار كعشرة بالمائة مثلاً ما دام القرض لم يسدد. فهل يجوز هذا شرعًا؟ أفتونا رحمكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(13 محرم 1394هـ، 4/1/1974م) المخلصون محمد وعبدالله ملا حسن آخوند عوضي ص. ب: 121 - المنامة - دولة البحرين

الجواب [رقم: 225]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى محمد وعبدالله ملا حسن آخوند عوضي، سلام عليكم.

أخي؛ لقد استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، أشرت إلى السؤال عن شخص له قطعة أرض يريد بناءها لاستغلالها والاستفادة منها في إيجارها، غير أنه لا يوجد لديه المال الكافي للبناء، فهل يجوز أن يستقرض من البنك القدر الكافي لمصرفها إلى نهاية الإتمام علمًا بأن البنك يضيف مبلغًا معينًا على المبلغ المصروف إلى نهاية التسديد، وتسمى عمولة، ولكنه في الأصل مبلغ مضاف إلى المصاريف يتقاضاه البنك مقابل المدة التي يتم خلالها استرجاع القرض للبنك، فهل يجوز هذا شرعًا؟

فالجواب: أن الله سبحانه إنما حرم الربا رحمة منه لعباده؛ لعظم ضرره وشدة خطره وكون متعاطيه محاربًا لربه، «وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ آكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ» [رواه مسلم (1598)، وأحمد (14263) من حديث جابر رضي الله عنه]، ولم يأت على شيء من المحرمات من الوعيد أشد مما أتى على الربا؛ لكونه يقوض بالتجارات، ويوقع في الأزمات، ويهدم بيوت الأسر والعائلات، وقد توعده الله بالمحق والفشل وانتزاع البركات، ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة، الآية: 276].

والربا أنواع، أشده وأشره الذين يستدينون النقود من البنوك، وتأخذ البنوك ترابي عليهم الأرباح المسماة بالعمولة متى تأخر الدين، وأكثر الناس يدخل في التعامل مع البنوك مع يقينه أنها سترابي عليه إلى نهاية قضاء الدين، كما ذكره السائل، حتى يصير القليل كثيرًا، وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات الأحكام، ولعن رسول الله آكله ومؤكله وكاتبه من بين الأنام، ويكفر مستحل مثل هذا الربا عند جمهور علماء الإسلام، فلا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتحيل على إباحية هذا الربا بشيء من الأعذار الباردة الفاسدة، فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.

وإن المراباة بنقود الأوراق المالية هي بمثابة المراباة بالذهب والفضة على حد سواء؛ لمساواتها لها في علة الثمنية التي قيل: إنها السبب في علة الربا في النقود.

وإنه من المعلوم في هذا الزمان أن الناس قد غرقوا في التعامل بالربا والريبة بسبب استحداثهم فنونًا من المعاملات، مثل الاتساع في استيراد السلع والحاجات، وتوسيع التجارات، وتأسيس الشركات، وكذا عقد الاتفاقات على المشاريع العظيمة والعمارات وسائر البنايات الفخمة، وهذه كلها تحتاج بداعي الضرورة إلى الكثير من النقود مما يدخل في عدد الملايين، وما كل أحد يجد من النقود ما يقضي به حاجته ويؤهله إلى إتمام عمله بدون حاجة إلى غيره كما ذكر هذا السائل في رسالته، فهم يطلبون ويطالبون بالإفتاء في فتح باب الربا للاستدانة من البنوك بحجة الحاجة، والله يقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُون ٧١[سورة المؤمنون، الآية: 71].

إن المسلم العاقل ينبغي له أن يلحظ السلامة والعافية من المراباة، وأن لا يغتر بكثرة الغارقين في الربا، ولا في نجاح بعض الأفراد في استدانته من البنك، حيث تحصل على بناء العقارات والحوانيت التي تحصل من إيجارها على غلة كبيرة، فإن الاتجار بصفة هذه المعاملة لن ينجح صاحبها، فإن حقيقة الربا عاقبته إلى قلته ولو بعد حين؛ إذ إن مضار الربا مشهورة، ووقائعه مشهودة، فكم أذهب من عقار، وكم أفقر من دار، وإن الشخص متى وقع في شبك البنك المرابي مرة واحدة فإنه لا يكاد يتخلص منه طول حياته، بل لا يزال الأهل والأبناء والبنات يتوارثون هذا الربا على ظهورهم، وقد يتولد عنه بمرور الزمان ما يكون أكثر من رأس المال بمرات عديدة، لكونه يرابي برأس ماله، وبالربح في حالة فقر المدين وفي حالة وفاته، حتى يتراكم الدين عليه فتتراكم الهموم والغموم على صاحبه، ثم يهدد ببيع عقاره، ومحاكمته المقتضية لإذلاله وشهرة إفلاسه، مع ما يعرض للتجارة ولسائر الأعمال من عوامل الكساد والبوار وإثارة الحروب والفتن والاضطراب، التي من لوازمها كساد الغلات، وسقوط قيم العقارات، كما يقع كثيرًا في سائر الحالات والمحلات، وعلى أثره تراه يجر الويلات على إثر الويلات؛ من جراء دخوله في معاملة المراباة، وخير الناس من وعظ بغيره.

إنه من المعلوم أنه قد شمل الناس موجة من التعامل بالربا، والغرق فيه، والاستهانة بأمره وعدم التنفير عنه، وعما قليل سيتمنى الكثيرون الخلاص منه بعد أن يذوقوا مرارة كدره وسوء عاقبة أمره، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون[سورة الشعراء، الآية: 227].

وخلاصة الجواب أن من ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ٢وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ٣[سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3]، ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [سورة الطلاق، الآية: 4]، وقد روي في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُم اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تطلبوه بما يسخطه، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته...» [رواه ابن أبي شيبة (34332)، والبيهقي في شعب الإيمان (9891) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه] فهذا الشخص الذي يريد بناء قطعة هذه الأرض للاستفادة من غلتها، وليس عنده من النقود ما يكفي لإحكامها وإتمامها حسب رغبته في نظامها، فقد قيل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع

فمن الحزم ورأي أولي العزم أن يبني هذا الإنسان ما يستطيع بناءه، ويؤجل بناء الباقي إلى حين ميسرته.

أو يدخل معه بمقتضى الاشتراك من يساعده على إتمام عمله؛ فإن يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه[ورد بهذا اللفظ في حديث ضعيف رواه الدارقطني]، وعند أبي داود بلفظ: «أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ...».

أو يضارب بهذه الأرض بحيث يجعلها بمثابة القرض، ويسمى عند الناس بالبضاعة، بحيث يجعل لهذه الأرض قيمة، وينفق على بنائها الآخر من بنك أو تاجر راغب فيها، وبعد تمامها يتقاضى كل منهما رأس ماله من غلتها، ثم تبقى الأرض وبناؤها وغلتها مشتركة بين الاثنين.

وأمر آخر، وهو أن يبنيها البناء الموصوف المتفق عليه شخص أو بنك أو غيره، في مقابلة الانتفاع بها عشر سنين أو عشرين سنة، ثم يسلمها إلى صاحبها، فإن هذا جائز، وإن كان بعض العلماء يجادل في جوازه، ولا نرى وجهًا لمنعه؛ إذ هو من العقود الجائزة بين الطرفين، وليس فيه ربًا ولا جهالة ولا غرر.

وعلى كل حال؛ فإن العقود المشروعة الجائزة السليمة من الربا كثيرة، ولكن الناس آثروا التبايع بدين النقود من البنوك لسهولة تناولها والانتفاع بها، ويغيب عنهم سوء عاقبتها، وكل المسائل المسؤول عنها تدخل في جواب ما ذكرنا، إذ كلها تعامل مع البنك على أن يأخذ على الدين أقساطًا من الربح تسمى عمولة، وهذا هو عين ربا الجاهلية.

نسأل الله سبحانه أن يعصمنا بدينه، وأن يأخذ بنواصينا عما يسخط، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(2/2/1394هـ) عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

الربا بين الوالد وولده، وبين الدولة والرعية

سماحة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود... رئيس المحاكم الشرعية بقطر سلمه الله. تحية صادقة، وبعد: فإني أرغب من سماحتكم التفضل بالإجابة على الأسئلة التالية، جزاكم الله خيرًا، وهي:

1– هل يجري الربا بين الأب وولده؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل يقاس عليه الربا بين الدولة والرعية؟

2– ما حكم بيع سند مساهمة أرض عقارية بزائد عن قيمته الأصلية المكتوبة؟

3– ما حكم شراء الأسهم المطروحة من الشركات والمضمونة الربح من الدولة بنسبة 15%؟

وإني إذ آمل من الله ثم منكم أن تنال رسالتي كل اهتمامكم وحرصكم، أثابكم الله وسدد خطاكم، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(25/4/1408هـ) المقدم ابنكم/ عبدالحميد بن عبدالعزيز

الجواب [رقم: 226]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم عبدالحميد بن عبدالعزيز.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخي: استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، سألت عن عدد من المسائل:

الأولى: هل يجري الربا بين الأب وولده؟

الجواب: إن الربا - وخاصة ربا النسيئة - إنه محرم على الإطلاق بالكتاب والسنة وإجماع علماء المسلمين، ومراباة الرجل على ابنه، أو الابن على أبيه، هي من هذا القبيل، لكون الربا ينافي الرحمة والإحسان المطلوب من كل أحد لأخيه الأجنبي، فما بالك بالقريب؟ أما الربا بين الدولة والرعية فليس كل ما يسميه الناس ربًا أنه ربًا حقيقي، وأموال الدولة هي أموال لكافة المسلمين، فمتى أخذت الدولة من المستقرض رمزًا من النقود في سبيل سير النظام والعمل للموظفين أو غيرهم، فإنه لا يكون ربًا في هذه الحالة؛ لكون الإرفاق بالقروض من الحكومة محققًا، ولا يدخل في مسمى الربا المحرّم.

***

حكم بيع السند بزيادة عن قيمته الأصلية

الثانية: حكم بيع السند بزيادة عن قيمته الأصلية

الجواب [رقم: 227]:

الجواب: إن الناس قد ابتلوا في هذه السنين بمعاملات وشركات محتفة بالشكوك والظلمات، لكن العلم بمثابة النور الذي يهتدى به، وبيع الأسهم من الشركات جائز بزائد ثمنه أو ناقصٍ، وقد عمل به الصحابة مع امرأة تدعى تماضر إحدى زوجات عبدالرحمٰن بن عوف، وكان عبدالرحمٰن من المكثرين للمال من الذهب والفضة والإبل والغنم والخيل والعقارات، فصالحوا هذه الزوجة، وكان معه أربع زوجات، عن إخراجها من تركة زوجها بخمسة وثمانين ألف دينار، وهذا في معناه بيع السهام من الشركات، ولنا رسالة مؤلفة عنوانها: (أحكام عقود التأمين ومكانها من شريعة الدين) وذكرنا هذه المسألة فيها؛ فلتراجع[طبعت ضمن مجموع رسائل الشيخ، طبعة وزارة الأوقاف القطرية كما توجد ضمن موقع الشيخ على الشبكة].

***

حكم شراء الأسهم المعروضة من الشركات

ثالثًا: سألت عن شراء الأسهم المعروضة من الشركات والتي تدعمها الحكومة بشيء من المساعدات؟

الجواب [رقم: 228]:

الجواب: إن هذه الأسهم يجوز شراؤها وبيعها على صفة ما ذكرت، ولا يتناولها شيء من شبهة الربا، فهي من جملة الحلال الذي قال الله فيه: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[سورة البقرة، الآية: 275].

وليست من باب بيع الدراهم بالدراهم في شيء، فهي حلال قطعًا.

***

استفتاء حول شؤون مالية

السؤال:

9/6/1400هـ، 24/4/1980م.

فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، الموقر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

1– نرجو إفادتنا عن مدى جواز استعمال فوائد على الريال النقدي على أساس الوضع الموجود (العملة الورقية)، أي إذا صاحبُ فلوس أودعها في البنك، وأخذ عليها نسبة ربح مئوية، مثل 10% أو أقل أو أكثر.

2– مدى جواز أخذ ربح على قيمة الدولار بدفع مؤجل، أي يشتري الدولار مثلاً بسعر نقد ويبيعه بربح، مثلاً المشتري بالسعر الحاضر 37,3 ريال (ثلاثة ريالات وسبعة وثلاثون هللة) ويبيعه 75,3 ريال (ثلاثة ريال وخمسة وسبعون هللة) مؤجل.

مقدرين لفضيلتكم إفادتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عبدالعزيز ومحمد العبدالله الجميح الرياض

الجواب [رقم: 229]:

من عبدالله بن زيد آل محمود، إلى المحب الفاضل عبدالعزيز ومحمد العبدالله الجميح، حفظهما الله.

سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته...

إني أرجو أن تكونوا بصحة وعافية، أحوالنا بحمد الله تسركم من كافة الوجوه. أوزعنا الله وإياكم شكر نعمته وحسن عبادته.

أخي، أشرتم في الكتاب الموجّه إلينا إلى السؤال عن مسائل:

أحدها: إذا صاحب فلوس أودعها في البنك وأخذ عليها نسبة ربح مثلا: 10% أو أقل أو أكثر.

فالجواب: إن هذا التعامل بهذه الصفة يعدونه من ربا الفضل الذي حرم سدًّا لذريعة ربا النسيئة، لكون الإنسان متى احتاج إلى استدانة نقود بنقود إلى أجل مسمى معلوم، فإنه عند حلول الأجل سيكون عادمًا للوفاء فيرابي عليه البنك وهو نائم على فراشه، بحيث يرابي بالأصل وبالربح حتى يربو القليل فيعود كثيرًا، ومعلوم أن صاحب البنك ليس بهذه الصفة، فإنه يعطي أرباحًا 4% إلى 5%، ويبيعها بربح 10% أو أكثر. لكن العلماء رأوا سد الذريعة عن الربا مع صاحب البنك وغيره. وعلى كل حال فإنها معاملة سيئة بهذه الصفة.

السؤال الثاني: عن جواز أخذ ربح على قيمة الدولار بدفع مؤجل، أي يشتري الدولار بسعر نقد، ثم يبيعه بربح. مثال ذلك كونه يشتريه بثلاثة ريالات وسبعة وثلاثين هللة، ثم يبيعه بثلاثة ريالات وخمسة وسبعين هللة مؤجل.

فالجواب: إن هذا التبليغ بهذه الصفة هو بيع دراهم حاضرة بدراهم مؤجلة على حد سواء؛ لأن هذه العملة الورقية على اختلاف أنواعها، ومنها عملة الدولار، فإنها بمثابة النقود من الذهب والفضة، فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلا يدًا بيد غير مؤجل.

فالذهب بالفضة يدًا بيد، وهكذا سائر العملات الورقية.

وهنا تبايع يفعله أهل نجد يقرب من هذه الصفة، وهو أن يبيعوا على الحرّاث أو الصعلوك طوابق خام أو أكياس عيش أو سكر إلى أجل، ثم يبيعها ممن اشتراها، ويسمون هذه المسألة بعقد التورق. ويقول شيخ الإسلام: إنه بيع دراهم بدراهم بينهما طوابق خام؛ لكون المستدين لهذا الخام إنما قصد بيعه وأخذ ثمنه، فكأنه باع دراهم بدراهم، لكن سائر المذاهب يجيزون هذا، فإذا اشتراها الدائن فإنها تسمى مسألة العينة التي ورد الحديث بذمها وتحريمها[انظر: سنن أبي داود (3462)، ومسند أحمد (5007) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]. وبعضهم يقول لغريمه عند حلول الدين: تعال استدن مني وأوفني، وهذا يسمى قلب الدين على المعسر، وهو من أربى الربا، بل هو نفس ربا النسيئة المحرم بالكتاب والسنة، وإجماع علماء الإسلام على تحريمه بلا خلاف.

***

القرض السكني مع اشتراط زيادة نسبة معينة كبدل إشراف المهندسين

صاحب الفضيلة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود - حفظه الله في الدنيا والآخرة -.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

أرجو التكرم من فضيلتكم بالإجابة على سؤالي المدون في هذه الورقة إجابة أستنير وأستفيد منها، وأرجو أن تكون مكتوبة ترسل مع حامل هذه الرسالة إليكم السيد/ هاشم، أو ترسل من قبلكم على عنوان كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء باسمي الموضح أعلاه، وجزاكم الله تعالى خير ما جزى عالمًا عن مجتمعه.

السؤال: شركة تمنح موظفيها أراضي سكنية أو تقرضهم مبلغًا من المال قدره [50+ راتب الموظف + 100000 ريال] وتخفض عنه عند السداد [20%] من ذلك المبلغ، إذا استمر في العمل لديها، مع أنها تطالبه بزيادة [5%] من المبلغ المقترض وذلك بدل إشراف المهندس على البناء وعمل الموظفين، والمشايخ عندنا منهم من أحل هذا القرض ومنهم من منعه، وكثير منا قد استفاد من هذه القروض، ومنا من هو مقدم عليها، لكنه متردد في أخذها لما سمع من التحريم من البعض، علمًا بأن البناء يكون حسب مواصفات متفق عليها لدى الطرفين بحيث لا ينقص عنها، أما الزيادة عليها فلا تمنع من الشركة. والحمد لله وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه.

2/4/1407هـ محبكم الداعي لكم السيد عبدالرحيم بن السيد إبراهيم

الجواب [رقم: 230]:

إلى المحب الفاضل السيد/ عبدالرحيم بن السيد إبراهيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فإني استلمت كتابك الكريم وفهمت ما تضمنه من سؤالك القويم، وحاصله [شركة تمنح موظفيها أرضًا سكنية وتقرضهم مبلغًا من المال قدره (50 + راتب الموظف + 100000) ريال. وتخفض عنه عند السداد 20% من ذلك المبلغ إذا استمر في العمل لديها، مع أنها تطالبه بزيادة 5% من المبلغ المقترض وذلك بدل إشراف المهندس على البناء وعمل الموظفين].

والجواب: الذي يظهر لي من هذا السؤال أن الاتفاق بين العامل والشركة على هذه الصفة أنه حق يجب الوفاء به، والغامض فيه هو زيادة 5% من المبلغ، لكنها محسوبة عن بدل إشراف على البناء الخاص بالبيت، وهذا شرط مقابل عمل، وليس هذا من القرض المحرم.

أحببت التعريف بذلك للعلم به. ومن السهل أن تسأل كبار العلماء عن هذا الأمر الغامض، وفوق كل ذي علم عليم.

هذا ما لزم، مع إبلاغ السلام كافة العلماء والمشايخ، والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

عبدالله بن زيد آل محمود

حكم البنوك الربوية

السؤال: ما حكم الإسلام في البنوك، والإيداع فيها بفائدة؟

الجواب [رقم: 231]:

الإسلام يحرم الربا ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[سورة البقرة، الآية: 275]. فلا يجوز تناول ربح من وديعة أو غيرها مكتسب من الربا. والبنوك مؤسسة على العمل بربا الجاهلية. إما أن تقضي حالاً وإما أن ترابي.

***

البنوك في قطر

السؤال: بالنسبة للبنوك في قطر هل تدخلت المحكمة؟

الجواب [رقم: 232]:

عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد رجونا أن يقوم البنك الوطني بإعطاء سلف بدون فائدة[استجابت الحكومة القطرية لطلب الشيخ وقدمت قروض الصندوق العقاري ببنك قطر الوطني بدون فوائد فكانت الفائدة عامة].

الربا المحرم

السؤال: ما هو الربا المحرم؟ [7/214]

الجواب [رقم: 233]:

الربا المحرم أنواع:

أشده وأشره: ربا النسيئة؛ وهو أن يستدين النقود من البنوك، أو من بعض التجار، ومتى حل الدين ولم يجد وفاء مدّوا في الأجل، وزادوا ربحًا في الثمن، على حد ما يقول المرابي في الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن ترابي. فيربو المال على المدين، حتى يصير كثيرًا. وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، ولعن رسول الله ﷺ آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه[رواه مسلم (1598)، وأحمد (14263) من حديث جابر رضي الله عنه] من بين الأنام.

لأن ضرر هذا النوع من الربا يقوض بالتجارات، ويوقع في الحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات. فكم سلب من نعمة! وكم جلب من نقمة! وكم خرب من دار! وكم أخلى دارًا من أهلها فما بقي منهم ديّار!

فالمتعاطي للربا، يسرع إليه الفقر والفاقة، ويحيق به البؤس والمسكنة، ويلازمه الهم والغم، ويندم حيث لا ينفعه الندم.

وحسب المرابي من الشر كونه محاربًا لربه في حياته وبعد وفاته. يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين ٢٧٨ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون٢٧٩[سورة البقرة، الآيتان: 278 - 279].

وقد وصف الله المرابي في فساد تصرفاته بالمجنون فقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[سورة البقرة، الآية: 275].

والنوع الثاني: ربا الفضل، وقد حرمه الله على لسان نبيه ﷺ لكونه يقود إلى ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، وهو ما يتعامل به الناس اليوم، بحيث يستدينون النقود من البنوك لتوسيع تجارتهم، فيحل الدين وليس عندهم وفاء فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم. فترابي بأصل الدين وبالربح حتى يكون القليل كثيرًا.

وشرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، قد حرم هذا العمل، بدليل أنه حرّم بيع الذهب بالفضة إلى أجل. فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» [صحيح البخاري (2177)، وصحيح مسلم (1584)]. متفق عليه من حديث أبي سعيد.

***

الربا في الأوراق النقدية

السؤال: هل تقوم الأوراق المالية مقام الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة؟ [7/216]

الجواب [رقم: 234]:

حرم الإسلام بيع الذهب بالفضة إلى أجل فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» [سبق تخريجه]. متفق عليه من حديث أبي سعيد.

فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ، وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة، وكونه ينطبق عليها ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة. في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» [جزء من الحديث السابق] وكما روى البخاري ومسلم عن عمر، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ - أي: الفضة - رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» [صحيح البخاري (2134)، وصحيح مسلم (1586) واللفظ له]، يعني يدًا بيد، فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نَسَاءة.

وليس الحكم مخصوصًا بهما، ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما، ويعمل عملهما في القيمة والثمنية؛ فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره، وتسوي بينهما في الحكم، وتمنع التفريق بينهما؛ لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.

فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها.

فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الذهب بالفضة، ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة، رحمة منه بأمته؛ ولهذا نرى بعض الناس يتحيل إلى التوصل إلى هذا الأمر المحرم، وإباحة تعاطيه، بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم بأن حكم النظير يعطى حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العملات بعضها ببعض هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الذهب بالفضة نسيئة.

وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي وصف بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم ١٢٨[سورة التوبة، الآية: 128] ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة، وإن لم تظهر مضرته في الحال، فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

إن صاحب الدراهم - كصاحب البنك وغيره - متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل، ثم يجري المراباة بها، فإنه يتحصل على الزيادات بطريق الربا بدون تعب ولا مشقة ولا رضى من المدين، فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون ٢٨٠[سورة البقرة، الآية: 280].

لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود؛ فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل، ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة: إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ[انظر: صحيح البخاري (832)، وصحيح مسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وإن المشاهدة في الحاضرين، هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين. فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي، فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة؛ لقصد التوسع في التجارات، أو شراء الأراضي، أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على إثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات، وعدم نفاقها في سائر الأوقات.

أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان، كقيام الحروب، أو الكوارث والحريق، وغيرهما مما يؤذن بالكساد والركود، فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج، حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون، فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ[سورة البقرة، الآية: 276] فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم.

لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة، الذي هو ربا الجاهلية، الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين، وعجز عن الوفاء زادوا في الربح، ومدوا في الأجل، فترابي البنوك بالدين وبربحه، حتى يصير القليل كثيرًا؛ ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.

وقد حَمَى النبي ﷺ هذا الحمى، وسد الطرق التي تفضي إليه، فحذّر أشد التحذير عن مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه، وكل امرئ بما كسب رهين.

ولقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر، والتحذير والوعيد الشديد عن جريمة الربا، ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات، فمنها قوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ١٣٠وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ١٣١ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون ١٣٢[سورة آل عمران، الآيات: 130 - 132]. ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة، هو أن يعامل به كل أحد، فيرابي بأصل الدين وبالربح.

فأمر الله المؤمنين بتقواه، وأن ينتهوا عما حرم الله، ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر، واجتناب النهي.

ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ٢٧٥[سورة البقرة، الآية: 275]. ففي هذه الآية بيان لفساد سيرة المرابين، وسوء سريرتهم، وأنهم كالمجانين في كسبهم الربا، وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم، والحرام هو ما حرموه. ثم هم يتحيلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا؛ فيرتكبون ما ارتكبت اليهود، فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.

ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح، ورأي رشد وسداد، وأنه متى جاءته دعوة هدى، تردعه عن هذا الردى، فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته، فإننا لا نقول له اخرج من مالك كله، وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة، الآية: 275].

فمتى أسلم شخص مرابٍ، وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص، وجب أن يتخلى عن الربا منها، أي الزيادة على رأس المال بإسقاطها، لاعتبار أنه ملك الغير.

ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم، فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها، التي هي الربا الزائد على رأس المال؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون[سورة البقرة، الآية: 279]. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» [رواه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع]، يعني بذلك إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة.

ومثله صاحب البنك: متى كان يعامل الناس بالربا، وبالبيع المباح، ثم تاب عن تعاطي الربا، فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى صاحبه، وما جهله أو نسيه مما طال عليه الزمان، فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة، وله ما سلف، وأمره إلى الله، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ - من معاملته - ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة، الآية: 275]، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. وأما من عاد إلى معاملته بالربا، وأصر على معصيته ﴿فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون[سورة البقرة، الآية: 275].

***

نصيحة لآكل الربا

السؤال: يتساهل بعض الناس في أكل الربا فما قولكم فيهم؟ [6/356]

الجواب [رقم: 235]:

إياكم والربا فإنه من الكبائر الموبقة المهلكة، وقد توعد الله من تعاطاه بانتزاع البركة، والذين يأكلون الربا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا.

والربا أنواع؛ أشده وأشره الذين يستدينون النقود من البنوك أو من التجار، ومتى حل الدين ولم يجدوا وفاءً زادوا في الثمن ومدوا في الأجل، وهذا هو عين ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آي القرآن، ولعن رسول الله آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون[سورة البقرة، الآية: 275].

***

مسائل في التأمين

التأمين على الأموال والممتلكات

السؤال:

9/6/1400هـ، 24/4/1980م.

فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، الموقر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

3– نرجو إفادتنا عن مدى جواز استعمال التأمين على الأموال والممتلكات بأنواعها، أي إذا أراد تاجر يستورد بضاعة يؤمن عليها لدى شركة تأمين بنسبة مثلاً 1 أو 2 في الألف من قيمة البضاعة، بحيث إنه لو صار عليها خطر من حريق أو غرق، فشركة التأمين تدفع للمؤمِّن كامل قيمة البضاعة، أو أيضًا على المستودعات أو سيارات الاستعمال أو مباني عمائر، ما مدى جواز ذلك من عدمه؟

مقدرين لفضيلتكم إفادتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عبدالعزيز ومحمد العبدالله الجميح الرياض

الجواب [رقم: 236]:

من عبدالله بن زيد آل محمود، إلى المحب الفاضل عبدالعزيز ومحمد العبدالله الجميح، حفظهما الله.

سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته...

إني أرجو أن تكونوا بصحة وعافية، أحوالنا بحمد الله تسركم من كافة الوجوه. أوزعنا الله وإياكم شكر نعمته وحسن عبادته.

أخي، أشرتم في الكتاب الموجّه إلينا إلى السؤال عن مسائل:

السؤال الثالث: جواز استعمال التأمين على الأموال والممتلكات بأنواعها: إذا أراد تاجر أن يستورد بضاعة، فيؤمن عليها لدى شركة التأمين بنسبة مثلاً: 1، أو 2 في الألف من قيمة البضاعة، بحيث لو صار عليها خطر من حريق أو غرق فشركة التأمين تدفع للمؤمن كامل قيمة البضاعة، وأيضًا على المستودعات أو لسيارات الاستعمال أو المباني. وتسألون عن جواز ذلك من عدمه.

فالجواب: إن لنا كتابًا في هذه القضية عنوانه «أحكام عقود التأمين ومكانها من شريعة الدين»، وفصلنا فيه القول في حلاله وحرامه، ما عسى أن لا تجده مفصلاً في غيره.

وحاصل القول؛ أن التأمين على جميع المستوردات وعلى السيارات وعلى سائر أنواع التجارات من مبان وغيرها، أنه جائز؛ لأن هذا من باب الضمان، كضمان السوق، وضمان الغنم عند الراعي، وضمان القافلة.

وقد ذكر الفقهاء في باب الضمان نوعًا من ذلك، وكونه يجوز أن يضمن السفينة بمن فيها، أو يضمن السيارة بمن فيها، فمتى تلف شيء منها من الحوادث لزمه دية الركاب، ذكر ذلك صاحب المغني[باب الضمان في المغني (4/399)]، وقد ذكرته في الرسالة في فصل إزالة الشبهات اللاحقة لعقود التأمين، سيما إذا صدر الأمر من الحكومة بتأمين السيارات؛ حرصًا على حفظ حياة الآدميين؛ حتى لا يفوت مقتول بدون دية، فإن هذا مما يجعل التأمين مباحًا، وما يترتب عليه من الكسب بعقد الشركة فيه فإنه مباح.

أما التأمين على الحياة وما يترتب عليها من الأعضاء وغيرها، فإنه غير جائز قطعًا.

أحببت تعريفكم بذلك للعلم به. والباري يحفظكم.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

التأمين على السيارة

الجواب [رقم: 237]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم محمد بن عبدالعزيز آل عجيان، حفظه الله... سلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد؛

أخي: لقد استلمت كتابك الكريم، أشرت فيه إلى وفاة الولد بسبب انقلاب سيارة، أحسن الله لك فيه العزاء، وجزاك على فقده جميل الجزاء، ونسأل الله أن يرحمه، وأن يسكنه فسيح جنته، وأن يجمعنا به في دار كرامته.

أشرت إلى السؤال عما يلزم بشأنه، وأن الولد رحمه الله مؤمن سيارته عند شركة التأمين، وقد توفي هو وخاله في هذا الانقلاب، وأن الشركة مستعدة بدفع عشرين ألفًا عن كل شخص، وقد امتنعت عن قبولها وقبضها خشية عدم حليتها فسألت عن ذلك.

فالجواب: اعلم يا أخي أن التأمين على السيارة والتزام الشركة لضمان ما يتلف فيها من نفوس وأموال جائز لا محظور فيه، فهذه الدية المعروضة عليك عن وفاته هي مباحة لورثته، والشركة تبذلها بطريق الرضا والاختيار، فأنت لا تتوقف في قبولها، والنبي ﷺ قال: «مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» [رواه البخاري (1473)، ومسلم (1045) من حديث عمر رضي الله عنه]، والحاصل أن العشرين ألفًا المعروضة عليك عن وفاته هي حلال لكم تنفقونها على أنفسكم وأيتامكم، ولنا مؤلف كتاب في هذا الموضوع سميناه «أحكام عقود التأمين ومكانها من شريعة الدين» بيّنا فيه للعلماء إباحة مثل هذا التعويض، وأنه جائز.

أحببت تعريفك بذلك للعلم، والباري يحفظكم.

(16/9/1394هـ، 2/10/1974م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

كتاب الشركة والضمان

هل يعود من خسر بضاعته على شركائه في الشحن في تحمل الخسارة؟

حضرة الفاضل سكرتير غرفة تجارة قطر - المحترم.

غرفة تجارة قطر - الدوحة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛

لقد استلمت كتابكم المؤرخ في 4/4/1384هـ، والمتضمن للسؤال عن أمر عرض على لجنة غرفة التجارة حاصله:

السؤال: إذا اشترك عدة أشخاص بشحن بضائع على لنش وجعل كل شخص علامته الخاصة به على بضاعته، ثم أبحر اللنش وهبت ريح عاصف عليه مما اضطر نوخذا اللنش إلى التخفيف من حمولته برمي البضائع في البحر، وبذلك استطاع اللنش الوصول إلى جهة سيره، ثم تبين أن المال المرمي يخص بعض التجار دون بعض، فهل الذين رميت بضائعهم يرجعون في الخسارة على الآخرين الذين سلمت بضائعهم أم لا؟ بحيث تكون خسارة المرمي بالورار[بالورار: (عامية)، أي: بالدور] بين الجميع.

الجواب [رقم: 238]:

إن هذه القضية لا يزال فيها الخلاف جاريًا بين العلماء من سائر المذاهب، فمذهب الإمام مالك أنه متى حصل اضطراب الأمواج وخشي الركاب من الغرق فألقوا بعض أموال التجار فإن السالمة أموالهم يشتركون في خسارة المال الملقى على حسب قيم الأموال، ولا يلحق السفينة ولا الركاب شيء من الضمان.

أما مذهب الشافعية والحنابلة فإن الذين سلمت أموالهم لا يشاركون في خسارة المال الملقى، أشبه ما لو غار عليهم عدو فأخذ بعض أموال التجار وترك بعضًا، فإن المأخوذة أموالهم لا يشاركون السالمة أموالهم في الخسارة، والبحر عدو، وهذا هو الذي نعمل به ونحكم بموجبه حسب ظاهر المذهب لقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الإسراء، الآية: 15]، خصوصًا في مثل هذا الزمان والمكان الذي ليس فيه رقيب على النوخذا فيما يحمل وفيما يفعل، فتراه يحمِّل الأموال الكثيرة بدون مراقبة ولا موازنة ولا احتساب لوقوع الأهوية والعواصف، ثم يحمل من الركاب فوق الشحن ما يستطيع الحصول عليه من الأنفس الكثيرة، حتى إن اللنش ليكاد يغرق وهو على الساحل، كل هذا من أجل شدة الطمع في زيادة النول، ولعلمه أنه غير مؤاخذ بما يفعل، واللنش لغيره كما أن الأموال لغيره، ثم إن الركاب يتسرعون غالبًا إلى إلقاء الأموال عند أدنى عرض من الأمواج لعلمهم أنهم غير مطالبين بغرامة ما قذفوه منها في سبيل نجاتهم بأنفسهم، مع العلم أن الحنابلة والشافعية يوجبون الضمان عليهم في كل ما قذفوه من الأموال في سبيل سلامتهم بأنفسهم، ويردون على الموالك الذين يبرِّئونهم من عهدة الضمان، ويبرئون اللنش أيضًا من عهدة الضمان، ويقولون: إنكم متى أبرأتم الركاب من عهدة الضمان لهذا المال الذي قذفوه بأيديهم في سبيل نجاتهم فلم تجعلوا عليهم شيئًا من الضمان، وكذلك أبرأتم اللنش من الضمان، وهي حقيقة مال وقد سلمت بتخفيف الأحمال، فبراءة صاحب المال السالم ماله من ضمان المشاركة في المال الملقى أولى وأحرى، فتحميله غرامة للمشاركة في المال المقذوف بدون أن يقع منه إتلاف له لا بالمباشرة ولا التسبب - أنه من الظلم له، أما سلامة ماله فإنها تنسب إلى الله لا إلى القذف نفسه.

فهذا حاصل ما نراه ونحكم به، فلا نحمل السالم ماله غرامة شيء من المال المقذوف، وأقرب من يتوجه عليهم الضمان للمال المقذوف هم النوخذا والركاب الذين باشروا الإلقاء بأيديهم في سبيل سلامتهم، لولا أن العرف جار بعدم مطالبتهم، فهذا حاصل ما لدي في خصوصه.. والباري يحفظكم.

استدراك...

معذرة عن التأخير في الجواب من أجل الشغل بالأمور القضائية كما لا يخفى عليكم..

(4/7/1384هـ، 9/11/1964م)
عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

كتاب الشفعة

الشفعة على الدولة

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - رئيس المحاكم الشرعية بقطر - الموقر، وفقه الله لحل المشاكل، وبلغنا وإياه أعلا المنازل آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأرجو الله أن تكونوا ومن لديكم بكمال الصحة والعافية. كما أن صحتنا بفضل الله على ما تحبون.

ثم يا صاحب الفضيلة؛ لدي قضية مشكلة عليّ، وفتشت في المراجع حسب استطاعتي ولم أعثر على نص يقنعني. والمسألة أدام الله وجودكم هي:

إن أناسًا مثلاً من آل فارس لهم أرض باعوها على زيد، ثم إن الحكومة انتزعتها من زيد للمصلحة العامة وقدرتها له بمبلغ من المال، وقبضه، وأخذت الأرض على ملك الدولة ما يقارب خمس عشرة سنة، وقد تصرفت فيها الحكومة بأن أخذت حاجتها منها، ووهبت بقيتها لعمرو. ثم تبين من آل فارس اثنان من ورثة آل فارس لهم في هذه الأرض جزء بسيط جدًّا.

فأخذا يطالبان بالشفعة على زيد، وزيد هذا قد انتزعتها الدولة من يده، وتصرفت فيها بأخذ حاجتها منها في المصالح، والبقية وهبتها لعمرو.

فما رأي فضيلتكم في هذه الشفعة هل تثبت على زيد في الأرض، وتنتزع من الحكومة؟ أم أن الدولة ليس عليها شفعة لأنها انتزعتها من زيد للمصلحة العامة، ووهبت بقيتها لعمرو؟

أرجو من فضيلتكم إفتائي بما ترونه في هذه القضية، وإحالتي على مرجع بحثها صحيفة وكتابًا.

جعلني الله وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، ومن الذين قال الرسول فيهم: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُل آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ» [رواه البخاري (73)، ومسلم (816) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه].

كما أرجو سرعة الجواب ولو كان عليكم في ذلك مشقة، فإنه أعظم للثواب.

وختامًا بلغوا سلامنا الأولاد والمشايخ وكل عزيز لديكم. كما من عندنا الزملاء يبلغونكم السلام، والله يحفظكم بلطفه ويكلؤكم برعايته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(15/2/1394هـ)
محبكم/ عبدالرحمٰن محمد بن فارس
القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض

الجواب [رقم: 239]:

أرفع لشيخنا العلامة الشيخ عبدالرحمٰن بن محمد بن فارس.

قاضي المحكمة الكبرى بالرياض.... حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

يا محب؛ لقد تشرفت بوصول كتابكم الكريم، وفهمت ما يتضمنه من كلامك القويم، الدال بكل معانيه على الحفاوة الودية والمحبة الدينية.

أشرت إلى المشكلة التي حاصلها هو (أن أناسًا من آل فارس لهم أرض باعوها مثلاً على زيد، ثم إن الحكومة أخذت هذه الأرض من زيد للمصلحة العامة بمبلغ من المال قبضه زيد حسب العادة، وبقيت هذه الأرض في ملك الدولة ما يقارب خمس عشرة سنة، وتصرفت الدولة فيها بأخذ حاجتها منها، ثم وهبت بقيتها لعمرو أو لشخص آخر، وبعد هذا التصرف تبين لاثنين من آل فارس أن لهما جزءًا يسيرًا جدًّا من هذه الأرض، فأخذا يطالبان بالشفعة على زيد في الأرض التي انتزعتها الحكومة من زيد بالثمن). هذا حاصل المشكلة المسؤول عنها، وهل لهما حق أو لا حق لهما؟

فاعلم يا محب أن الشفعة شرعية، وتسمى قهرية، ولها شروط تثبتها وموانع تبطلها، ويتبين لي بطريق اليقين من أقوال الفقهاء أن هذين الاثنين يطالبان زيدًا بالشفعة، وأنه لا حق لهما في الشفعة من وجوه عديدة؛ لكون الشفعة التي أعلنا بها على زيد لم تصادف محلاً للقبول ولا الصحة فكانت ساقطة؛ لأن زيدًا حصل منه التصرف التام في بيع هذه الأرض على الحكومة في حالة كونها ملكه، فباعها بيعًا صحيحًا لازمًا يترتب عليه صحة مقتضاه والعمل بموجبه من انتقال ملكها إلى الحكومة؛ لكون زيد غير ممنوع شرعًا من التصرف فيما اشتراه، ثم إن الحكومة بعد أخذها لحاجتها فيها وهبت بقيتها لعمرو أو لشخص آخر هبة تبرر لا حيلة فيها، لكون الحكومة لا تريد جزاء على مثل هذه الهبة، ولا تعملها حيلة، فصارت هبتها لهذه الأرض صحيحة لازمة لا شيء يبطلها، وباستقرار هذه الأرض في يد الموهوب له تنقطع الشفعة فيها من كافة الوجوه، فلا يستحق الاثنان الشفعة فيها، لا من المشتري الأول الذي هو زيد، ولا من الحكومة، ولا من عمرو الموهوبة له الأرض.

إذا ثبت هذا فإن شفعه الاثنين لم تصادف محلاً للصحة؛ لكون هذه الأرض انتقلت إلى عمرو بطريق الهبة، فسقطت فيها الشفعة.

أما لو باع شخص أرضًا على زيد، ثم باعها زيد على آخر، فبقيت في يد الآخر بحالها، فإنهما يأخذانها بالشفعة لأحد الثمنين، كما نص على ذلك الفقهاء، والقضية المسؤول عنها غير هذه، لم تبق الأرض عند المشتري - أي: زيد - بحالها، ولا عند من اشترى من زيد، وإنما صادفت الشفعة كونها موهوبة لعمرو، فانقطعت الشفعة في سهامها، ولا شفعة في ثمنها قطعًا، غير أنه يبقى للاثنين مستحقهما من الثمن الذي دفعته الحكومة بالغًا ما بلغ، فإذا كان مستحقهما من الأرض قدر سهم من مائة سهم، والتعويض الذي دفعته الحكومة مائة ألف فلهما ألف واحد، أو كان مستحقهما سهمين من مائة سهم، والتعويض مائة ألف، فلهما ألفان يدفعهما زيد إليهما، ويرجع زيد على البائعين في قيمة سهمهما من مبلغ الثمن الذي اشترى به، فمتى كانت قيمتها عليه مثلاً بعشرة آلاف، ولهما سهم من مائة سهم، فإنه يرجع على البائعين بمائة ريال ويجري الحساب على هذا المنوال.

وها هنا [أمر] نحب التنبيه إليه لغفلة أكثر القضاة عنه، وهو أن من شروط الشفعة أن يكون (شقصاً مشاعًا من عقار ينقسم قسمة إجبار، وما لا يمكن قسمته فيه ولا به)، واستدلوا له بمفهوم حديث: قضى رسول الله ﷺ بالشفعة فيما لم يقسم[رواه ابن ماجه (2497)، وابن حبان (5185) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فيما لا تجب قسمته، متى طلب الشريك. قاله في الإقناع وشرحه ص (2/378).

وعللوا بأن إثبات الشفعة في مثل هذا يضر بالبائع، لا أنه لا يمكنه أن يخلص نصيبه بقسمته، وقد يمتنع البيع لامتناع المشتري لأجله، فسقطت الشفعة فيه. قاله في شرح الإقناع.

فالقول بسقوط الشفعة في العقار الذي لا تمكن قسمته هو المذهب، فالسهم الحقير الذي لا يمكن قسمته لا شفعة فيه ولا شفعة به في ظاهر المذهب، وإنما تباع الأرض بجملتها، ويقسم ثمنها بين المستحقين لها، ويجبر الممتنع عن البيع على موافقة الشركاء في ذلك.

وبعض المشايخ حين يرى في كتب الفقه التمثيل بالحمام الصغير والبئر والعراص الضيقة والدكان الضيق الذي لا تمكن قسمته، فيظنون أن الحكم مقصور على هذا، ولا يتعدى إلى غيره.

وقد نص الفقهاء من الحنابلة وكافة فقهاء المذاهب الأربعة على أن الشقص من مثل هذه الأرض متى انتقل إلى شخص بغير عوض مالي؛ كهبة وصدقة ووصية وارث ونحوه، فإنه لا شفعة فيه في الحالة هذه؛ لأن الشفعة هي انتزاع حصة الشريك ممن انتقل إليه بعوض مالي، أما إذا انتقل إلى الشخص بغير عوض مالي، كالهبة في هذه الصورة، فلا شفعة فيه، لا على زيد، ولا على الحكومة، ولا على الموهوب له، وهذا هو الظاهر من المذهب، كما أنه مذهب الأئمة الأربعة. قال في الإقناع ص (377): (ولا شفعة فيما انتقل بغير عوض بحال كموهوب وموص وموروث ونحوه).

وحكى الموفق بأن هذا هو قول عامة أهل العلم من أئمة المذاهب الأربعة. قال في المغني (5/234): (والشرط الرابع: أن يكون الشقص منتقلاً بعوض، وأما المنتقل بغير عوض كالهبة بغير ثواب والصدقة والوصية والإرث، فلا شفعة فيه في قول عامة أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي). انتهى.

وعللوا إسقاطها بأن الشقص انتقل إلى الشخص بغير عوض، وفي الشفعة فيه إضرار كبير على الموهوب له؛ لكونه ينتزع منه، فيلحق ضرر بانتزاعه أكبر من ضرر الشفيع، «وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ»، فسقطت الشفعة من أجله، وهذا هو عين المسؤول عنه.

يبقى أن يقال: إن هذين الاثنين قد جهلا مستحقهما من هذه الأرض حال وقوع التبايع فيها إلى أن انتقلت من الحكومة إلى الموهوب له، فبعد علمهما بالمستحق أعلنا بالشفعة على زيد فيما باعه على الحكومة.

فجوابه: إن جهالة الاثنين بمستحقهما من هذه الأرض التي جرى فيها البيع من واحد إلى آخر لا يثبت لهما حقًّا في الشفعة فيها في ظاهر المذهب؛ «إذ ليست الجهالة بعذر يقتضي الاستحقاق»؛ لكون الشفعة إنما شرعت في حق من واثبها في حين البيع، وقالوا: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ». رواه ابن ماجه[سنن ابن ماجه (2500) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بسند ضعيف، وهو حديث منكر كما في السنن الكبرى للبيهقي (6/178)]، ولأن ثبوتها على التراخي بعذر الجهالة يضر بالمشتري، ومن شرطها المطالبة بها على الفور ساعة يعلم بالبيع، وهذا هو الظاهر من المذهب. قال في الإقناع ص (380): (وإن أخر الطلب بالشفعة مع إمكانه ولو جهلاً منه باستحقاقها سقطت شفعته؛ لكون الشفعة لا تستحق ولا تثبت إلا بعد الشراء المقترن بإعلانها). انتهى.

هذا على فرض بقائها في يد زيد وأنه لا شفعة لهم عليه فيها لما ذكرنا.

لهذا نراهم يشفعون بكل سهم حقير لا تمكن قسمته، وأظنه غلطًا على المذهب، والصحيح أن كل سهم حقير لا تمكن قسمته فإنه لا شفعة فيه ولا به. أحببت تعريفكم بذلك للعمل بموجبه.

فهذا جواب ما وقع السؤال عنه، فإن أشكل شيء مما شرحت، فراجعني فيه لتستفيد فيه تفهمًا، ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا[سورة طه، الآية: 114]، وأسأل الله لي ولك الهدى والسداد.

(29/2/1394هـ، 23/3/1974م) رئيس المحاكم الشرعية بقطر عبدالله بن زيد آل محمود

***

الشفعة في كل ما لم يقسم

السؤال:

إلى الأخوين الكريمين/ قاسم وعبدالله ابني درويش فخرو المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله.

استلمت كتابكم المؤرخ في 9/6/1392هـ، سألتم عن المشروح بضمنه، حاصله: أنكم اشتريتم بحكم الاشتراك مع بيت مصطفى ومنصور العريض نخلاً بالبحرين يتبعه أرض، لكل واحد منكم الثلث، وزعمتم بأن الأرض بيعت، وجرى توزيع ثمنها أثلاثًا على حسب الاشتراك، ثم إن منصورًا العريض توفي واشترى سهمه بيت مصطفى، وهو الثلث، بدون إشعار ولا علم منكم، فأعلنتم الشفعة منه، فزعم بيت مصطفى بأنه لا حق لكم فيه لا شرعًا ولا عرفًا، وسألتم عن حكم الشرع في ذلك... إلخ.

الجواب [رقم: 239م]:

فاعلم أن الجواب يتمشى على حسب السؤال، وأن الشفعة في مثل هذا الشقص المبيع تعتبر شرعية، لا يقدر أحد على إبطالها، وقد شرعها الله على لسان نبيه، فقد قضى رسول الله في الشفعة في كل ما لم يقسم، وروى مسلم في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ» [هو في صحيح البخاري (2495)من حديث جابر رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم اللفظ التالي]، وروى مسلم في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «الشُّفْعَةُ حَقٌّ فِي كُلِّ شِرْكٍ، فِي أَرْضٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ» [صحيح مسلم (1608) من حديث جابر رضي الله عنه] فهذه الشفعة شرعية، وتسمى قهرية، لكون الشافع يستحق أن يتملك بها الشقص المشفوع بدون رضا المشتري، فهذا الثلث الذي اشتراه بيت مصطفى تستحقون الشفعة فيه بقدر سهمهم من أصل الملك بحيث يكون مشتركًا بينكم وبين بيت مصطفى بالمشاطرة، ولا يمنع الشفعة كون المشتري مالكًا للثلث من أصل الملك، إذ الشفعة ثابتة لصاحب الثلث، سواء كان المشتري أو غيره، كما أنه لا يمنع الشفعة كون هذا الثلث بيع في جملة مخلفات المتوفى في سوق المزايدة، فإن الشفعة ثابتة بما بيع به من الثمن، فتشفع بقدر حقك من أصل الملك، وللمشتري قدر حقه، وهذا الحكم بهذه الصفة هو من الأمر المشهور عند فقهاء المذاهب الأربعة.

أحببت تعريفكم بذلك للعلم به، والباري يحفظكم.

(12/6/1392هـ، الموافق: 24/7/1972م)
عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

كتاب الوقف

حكم الوقف في الأضحية

السؤال:

صاحب السماحة رئيس محاكم قطر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود المحترم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

كتب لنا رئيس محكمة الأفلاج سابقًا الشيخ عبدالرحمٰن بن سحمان خطابًا ضمنه ذكر الملك الذي اشتراه سبالة لشايع بن إبراهيم بن حدوان، وطلب إخراج حجة استحكام عليه، واطلعنا على خطاب من حمد ابن الشيخ سعد بن عتيق موجهًا لرئيس محاكم الأفلاج سابقًا الشيخ ناصر الحبيب حول هذا الموضوع، ثم تلقينا خطابًا من حمد ابن الشيخ سعد بن عتيق في الوقت الحالي، وبرفقته خطاب من الشيخ صالح بن هليل حيث كان قاضيًا في الأفلاج، موجهًا لحمد المذكور، وظهر من خطاب ابن هليل أن سبالة شايع بن حدوان توزع على أقاربه، وظهر من خطاب الشيخ ابن سحمان وخطاب حمد بن سعد للشيخ الحبيب أن سبالة شايع المذكورة في ثلاث أضاحٍ، والذي تم به الواقع هو أن حمدًا - عن أمر الشيخ عبدالرحمٰن بن سحمان - اشترى ملكًا عقاريًّا في الغيل للسبالة المذكورة، والآن نحن بصدد إخراج حجة استحكام على السبالة المذكورة، وصار عندنا إشكال هل نثبتها لشايع يوزع نتاجها على أقاربه أو السبالة في أضاحي، وحيث الحال ما ذكر رأيت أن أكتب لسماحتكم هذا المحرر وبرفقته صورة من خطاب ابن هليل وصورة من خطاب ابن سحمان وصورة من خطاب حمد ابن الشيخ سعد بن عتيق، لأن السِّبالة محل الموضوع موجودة لديكم وأنتم أعرف بذلك لكي - بعد اطلاعكم - نتلقى منكم الإفادة بصفة واضحة يعتمد عليها نهائيًّا، بارك الله فيكم.... والسلام.

(29/6/1404هـ) أخوكم- حمود بن عبدالعزيز بن سبيل رئيس محاكم منطقة الأفلاج

الجواب [رقم: 240]:

إلى المحب الفاضل العالم الشيخ حمود بن عبدالعزيز بن سبيل، رئيس المحاكم الشرعية بالأفلاج، حفظه الله بالإسلام، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام..

وإني أرجو أن تكون بصحة وعافية... أحوالنا بحمد الله تسركم من كافة الوجوه، أوزعنا الله شكر نعمته وحسن عبادته.

وبعد:

فإني استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، الدال بكل معانيه على الحفاوة الودية والمحبة الدينية، التي أبديت تحبيرها ونحن نشم على البعد ريح عبيرها.

أشرت إلى وقف شايع بن إبراهيم بن حدوان، وهل هو في الأضاحي أو على الأقارب؟

وإني أحب أن أشرح لك بأن الأضحية عن الميت ليست بعمل مشروع، بل هي من محدثات الأمور، حيث لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أوصى أن يضحى عنه بعد موته، أو وقف وقفًا في أضحية، والقدوة بهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

وإنني أرى أن يصرف هذا النخل على أقارب شايع بن إبراهيم بن حدوان؛ لكون الأقارب أحق بالمعروف، ويوجد في هذا الزمن من ألف في وجوب الوصية للأقارب أخذًا من قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين ١٨٠[سورة البقرة، الآية: 180].

وهذا الاجتهاد له حظه من التوفيق، فالذي أراه أن يصرف ريع هذا الوقف على أقارب شايع بن إبراهيم بن حدوان، فمتى فعلتم ذلك فقد بلغ الهدي محله، ولكم الأجر إن شاء الله، ويصل إليك جملة من كتبنا ورسائلنا، وكنا قد أرسلنا إليكم مجموعة أكثر منها لكن يظهر أنها فقدت.

هذا ما لزم مع إبلاغ السلام الأبناء والمشايخ الكرام... والباري يحفظكم.

(16/7/1404هـ، 17/4/1984م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

توجيه من رئيس المحاكم الشرعية بشأن الأوقاف الخيرية والأهلية

[رقم: 241]:

بما أن الأوقاف في جهات البر والخيرات تنقل بحكم الفوات والوفيات من يد إلى يد فيستولي عليها مع طول الأمد من لا يحسن صرفها وتدبيرها، ومن لا يراعي تثميرها وتوفيرها، وقد تطول مدة الوضع لليد فيدعي تحريرها، فمن أجله أصدر فضيلة الحاكم الشيخ علي بن عبدالله آل الثاني حفظه الله إلى قاضيه المأذونية في تعيين لجنة عدلية تقوم برعاية سائر الأوقاف الخيرية وتصرفها في مصارفها الشرعية، بمراعاة أمور:

1– الأولى: إن هذه اللجنة يتعين أن تكون محسوبة ومنسوبة إلى المحكمة الشرعية، فالقاضي هو الناظر العام، فلا تفعل في الأوقاف أمرًا ذا بال من تعديل أو تبديل إلا بمراجعته والوقوف على حقيقة موافقته.

2– الثانية: إن الدائرة إنما تتولى الأوقاف المصروفة في جهات البر العام كالأوقاف على المساجد والمدارس والماء وعلى أفعال البر، فالموصوفة بهذه الصفات والمصروفة في هذه الجهات يعتبر دخولها تحت دائرتها فلها القبض عليها والمطالبة بحقوقها.

3– الثالثة: الأوقاف الأهلية كالأوقاف على الأولاد والذرية فمثل هذه يعتبر اختصاصها بأهلها، فليس للدائرة التدخل في شيء من شأنها إلى أن تنقطع القرابة بالكلية.

4– الرابعة: متى قال الواقف: هذا البيت أو الدكان وقف في أعمال البر ويضحى لي من ريعه كل سنة، فجوابه أن إخراج الأضحية يقدم على كل شيء فيشترى له منه أضحية تدفع إلى أقرب الناس إليه ليذبحها عنده وثوابها لصاحبها.

5– الخامسة: البيت أو البيوت الموقوفة على المسجد متى احتاج الإمام أو المؤذن إلى سكنى شيء منها فإنه يقدم على غيره.

6– السادسة: بيوت الحكومة المبنية للضعفة في ثلاثة مواضع، أحدها جنوبي الدوحة والثاني والثالث شرقي الدوحة بجهة السلطة، وعددها الآن تسعون بيتًا، فهذه يعتبر دخولها في عداد الأوقاف الخيرية، ولأنها إنما أسست للعجزة عن الأجرة من شيخ كبير وأرملة وسائر من لا يستطيع الكسب ولا التنقل. فكل غني أو قوي مكتسب يتعين عدم تمكينه من سكناها، بل يجب أن يخرج ويستبدل به من بنيت لأجله، فإن امتنع من الخروج ضرب عليه أجرة بقدر مسكنه يؤديها إلى الدائرة.

7– السابعة: إن وظيفة لجنة الأوقاف هو حفظ الوقف وعمارته وإيجاره، والمخاصمة في حقوقه، وتحصيل ريعه، والاجتهاد في تنميته وترقيته ووقايته، وصرفه في جهاته؛ من عمارة وإصلاح وتعديل وتبديل بشرطه، وإعطاء كل مستحق حقه، وتأسيس ما تستدعي الحاجة لفعله.

8– الثامنة: من بلغه هذا وعنده شيء من هذه الأوقاف أو عنده شيء من غلتها، فعليه مراجعة المحكمة الشرعية للنظر في وضعه.

***

حكم الوقف الذري

السؤال:

التاريخ: 1/4/1397هـ، الموافق: 20/3/1977م.

إلى الأخ علي فضل المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:

استلمت كتابك المؤرخ في 28 - ربيع الأول - أشرت فيه إلى الوقف الذي أوقفه فضل بن مهنا على أولاده وعلى بناته مدة حياتهم فقط، وإن الورثة الآن كثروا وصاروا عائلة كثيرة، وهذا الوقف قديم وتعرض للتلف، والورثة لم يصلحوه لوقوع الشقاق بينهم فيه.

الجواب [رقم: 241م]:

فاعلم يا أخي! إن هذا وقف ذرية حاصله تحبيسه على الورثة، وليس من الأوقاف الدينية الشرعية، ومثل هذه الأوقاف جرثومة شقاق تحدث بين الأرحام النزاع واستمرار الشقاق، وقد أفتيت في مثل هذا ببلدنا قطر بأنه يباع ويقسم ثمنه بين سائر الورثة للذكر سهمان وللأنثى سهم، لمحاولة قطع النزاع والشقاق بين الأرحام، إذ هو موقوف عليهم، وأمر الفتوى في هذا يجب أن تؤخذ من قضاة بلدكم.

هذا للعلم والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

الوقف الشرعي خارج عن ملك الواقف منذ وقفه

التاريخ: 26/4/1401هـ.

الجواب [رقم: 242]:

إلى فضيلة المحب الحفي والصديق الصفي الشيخ/ عبدالله بن محمد بن عبداللطيف آل الشيخ حفظه الله.

وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

أخي! لقد استلمت كتابك الكريم وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم. خصوصًا ما أشرت إليه عن خاصة أوقاف الشيخ قاسم الكائنة في الرياض، ومحاولة أحدهم لبيعها، وإنني أخرت جواب الكتاب لانتظار طلعتك علينا والتفاهم شفهيًا في ذلك، حيث وعدت في الكتاب أنك ستقدم إلينا في انسلاخ شهر صفر أو في بداية شهر ربيع الأول، فأبقينا التذاكر إلى حين اللقاء حتى فات علينا الوقت ولم ندر ماذا وقع في الوقف.

وإن هذا الوقف خيري متصل الابتداء والانتهاء، فلا ينقطع متى يوجد أحد من طلاب العلم الموقوف عليهم، وقد قلت لسمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني حين سألني فقلت: إنه لو قام الشيخ قاسم بن محمد من قبره وطالب فيه لما وجد إلى إرجاعه سبيلاً.

هذا وإن أكثر ورثة الشيخ قاسم من ذريته وبني بنيه ينكرون هذه المطالبة فيه ويتبرؤون منها، وما كنت أظن أن أحدًا مع شهرة وقفيته سيحاول بيعه أو شراءه، لكونه خارجًا عن ملك الواقف منذ وقفه كما هو حقيقة الوقف الشرعي اللازم، وقد أخرجه عن ملكه وملك ذريته في حياته فجعله تحت وصاية الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، ثم تحت يد ابنه محمد بن عبدالله، ثم تحت يدك من بعدهما بأمر الأمير الشيخ خليفة وإذنه.

وإنني لم أسمع عن هذا الوقف شيئًا بعد كتابك، وإني أرجو أن يكونوا قد انتهوا عن محاولة إرجاعه إلى ملكيتهم، وهو حرام عليهم، ليس بملكهم ولا ملك أبيهم، وإنما هو ملك لله، أشبه المساجد المبنية لله.

فهذا حاصل ما أخبرك عنه، وأكتفي بكافة المشايخ في الرياض، لكون الوقف تحت سلطانهم وحكمهم أشبه سائر الأوقاف الخيرية.

وأنت أكرم من يوصف له، والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

كتاب النذر

نذر الميراث على غير الوارث وحرمان الورثة

السؤال: ما قولكم علماء الإسلام وفقهاء شريعة سيد الأنام، في رجل مات عن أولاد بنت، وعن بنات أولاد، وقبل موته نذر جميع ما يملك على أولاد بنته، وحرم بنات أولاده، فهل هذا النذر صحيح أم لا؟ أفتونا أثابكم الله الجنة.

الجواب [رقم: 243]:

إن هذا النذر باطل من أصله، لكونه يقطع به فرائض من يستحق الإرث ويصير إلى غير وارثه، والنبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ» [رواه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجه (2126)، وأحمد (24075) من حديث عائشة رضي الله عنها]، وقال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها] فهذا النذر باطل، ويكون لبنات الأولاد الثلثان من التركة، والثلث الآخر للعصبة الذي هم أقرب الناس إليه بطريق النسب، وإن لم يكن له عاصب فإنه يرد بقية المال إلى بنات الأولاد، وأما أولاد البنات فإنهم من ذوي الأرحام فلا يرثون أبدًا، والتركة لا توزع إلا بطريق الإرث الشرعي، لا بطريق النذر المحرم.

ليكون معلومًا كي لا يخفى.

حرر في: 8/5/1401هـ
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

نذر المال بقصد حرمان الوارث

السؤال: ما حكم من نذر ماله لشخص معين بقصد حرمان الوارث من حقه كما يفعله أهل فارس من الجهلة بأمور الدين؟ [7/174]

الجواب [رقم: 244]:

ما يفعله أهل فارس، من كون أحدهم ينذر ماله لشخص معين، لقصد الفرار به من الوارث. فهذا نذر مبتدع غير مشروع، فلا يجوز الوفاء به؛ لأن فيه إبطالاً لفرائض الله. والله قد أعطى كل ذي حق حقه، والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها].

فهذا نذر معصية، وفي الحديث: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» [رواه أبو داود (3322)، وابن ماجه (2128) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد ضعيف، ورواه ابن ماجه (2127) من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وهو صحيح دون قوله: «وَلَمْ يُسَمِّهِ»].

***

النذر المشروع والنذر الممنوع

السؤال: ما حكم النذر المشروع والممنوع؟ [7/173]

الجواب [رقم: 245]:

أما حكم النذر المشروع والممنوع: فلنعلم أن النذر ليس بمستحب، لكونه يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه. وقد قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» [رواه البخاري (6692)، ومسلم (1639) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]. فمتى نذر نذرًا مباحًا لزمه ما التزمه.

وهو إما نذر طاعة أو نذر معصية. فنذر الطاعة هو أن يقول: لله علي نذر إن شفى الله مريضي، أو تزوج ولدي، أو رجع فلان من سفره، أن أصوم لله كذا، أو أتصدق بكذا، أو أصلي كذا وكذا. فهذا نذر طاعة يجب الوفاء به، وقد مدح الله الذين يوفون بالنذر.

وفي الحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ» [رواه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجه (2126)، وأحمد (24075) من حديث عائشة رضي الله عنها].

ومثله من نذر أن يذبح ذبيحة أو ذبيحتين فإنه يجب الوفاء به.

ومن عجز عن وفاء ما نذره من الصيام أو الحج وغيره، لكبر أو مرض ونحوه، أو عدم استطاعة، فإن عليه كفارة يمين، كما في الحديث: أن رجلاً يكنى أبا إسرائيل نذر أن يحج حافيًا، وأن لا يستظل، فأمره النبي ﷺ بأن يركب ويستظل، ويكفِّر عن يمينه[رواه البخاري (6704) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وليس فيه: ويكفر عن يمينه].

ومن مات وعليه نذر من صلاة أو صيام أو صدقة استحب لوليه أن يقضي نذره عنه، فقد جاءت امرأة إلى النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت. أفأحج عنها؟. قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ». رواه البخاري من حديث ابن عباس[صحيح البخاري (1852)].

وقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». متفق عليه من حديث عائشة[صحيح البخاري (1952)، وصحيح مسلم (1147)]. وفسره الإمام أحمد بصوم النذر، فإنه الذي يجب قضاؤه.

أما نذر المعصية فهو كمن نذر أن لا يكلم رحمه، أو لا يسلم عليه، ولا على جاره، أو لا يدخل بيته، أو لا يأكل طعامه، أو نذر أن لا يزوج ابنته إلا بشخص لا ترغب البنت نكاحه، فلا يجوز الوفاء به؛ لحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ» [رواه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجه (2126)، وأحمد (24075) من حديث عائشة رضي الله عنها].

***

كتاب الأيمان

حكم اليمين الصادقة

السؤال: هل اليمين مكروهة حتى لو كانت صادقة؟ [7/170]

الجواب [رقم: 246]:

نسمع من بعض الناس يقولون: الله يكره اليمين صادقة أو كاذبة. وهذا غير صحيح فإن الصادقة غير مكروهة ولا مذمومة، ولا يلام عليها من حلف بها. فإن اليمين شرعها الرب الحكيم لقطع النزاع والخصام، ولحفظ الدماء والأموال، كما شرع الله الصلاة والصيام. فالمؤمن يُخلص بها حقه من خصمه الجاحد لحقه، ويحق بها كلمة العذاب على الكاذب. وقد حلف عثمان بن عفان على مال له، وحلف ابن عمر، وحلف أشخاص من الصحابة على حقوق لهم مالية. ولما قيل لبعضهم، كيف تحلف على مال؟ قال: كيف لا أحلف على حقي والله سبحانه قد أمر نبيه في كتابه بأن يحلف على إثبات الحق؟ وقد حلف النبي ﷺ في بضعة وثمانين موضعًا.

فمتى كان للإنسان حق في نفسه، وقد جحده خصمه فتوجهت اليمين عليه فيه، فإنه يحلف ليتحصل على ماله بيمينه، وينقذ خصمه من ظلمه. كما حكم النبي ﷺ بالبينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وحكم باليمين مع الشاهد. اهـ.

***

اليمين المنعقدة التي يجب لها الكفارة

السؤال: ما هي اليمين المنعقدة التي يجب لها الكفارة؟ [7/171]

الجواب [رقم: 247]:

اليمين المنعقدة التي يجب لها الكفارة؛ فهي اليمين التي يؤكدها صاحبها على نفسه، بأن يحلف بأن لا يدخل دار فلان ثم يدخلها، أو يحلف بأن لا يأكل طعام فلان ثم يأكله، أو يحلف بأن لا يأكل من ذبيحة تذبح له ثم يأكلها. فهذه هي اليمين المنعقدة. فمتى حلف عليها ثم حنث فيها لزمته الكفارة.

على أن المؤمن لا ينبغي له أن تمنعه يمينه عن فعل البر والخير والصلة والأفعال الحسنة مع رحمه أو جاره، بأن يحلف أن لا يسلم على رحمه أو على جاره، أو لا يأكل من طعامه، أو لا يدخل داره، ونحو ذلك مما يمتنع من فعله بيمينه، فلا ينبغي للمسلم أن يصر على هذه اليمين، حتى إذا قيل له: لِم لم تسلم على قريبك أو جارك؟ قال: عليّ يمين أن لا أكلمه، ولا أسلم عليه. يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم [سورة البقرة، الآية: 224]. أي: لا تجعلوا أيمانكم بمثابة العرضة التي تردكم عن فعل البر والخير والصلة.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال لعبدالرحمٰن بن سمرة: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» [رواه البخاري (6722)، ومسلم (1652) عن عبدالرحمٰن بن سمرة رضي الله عنه].

وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري، قال: أتينا معشر الأشعريين إلى رسول الله ﷺ نسأله رواحل نتحمل عليها إلى الجهاد في سبيل الله، فصادفنا عنده خلقًا من الناس يسألونه الحملان، فقال: «وَاللهِ لَا حَمَلْتُكُمْ، وَاللهِ لَا حَمَلْتُكُمْ» ثم انصرفنا إلى بيوتنا، ولم نشعر إلا بمنادي رسول الله ﷺ يدعونا، فآتيناه، فقال: «إني قد أمرت لكم برواحل»، قلنا: يا رسول الله، لعلك نسيت أنك قد حلفت أن لا تحملنا. قال: «نَعَمْ، إِنِّي وَاللهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» [صحيح البخاري (6623)، وصحيح مسلم (1649)].

إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكل من كان بينه وبين رحمه أو جاره شيء من الهجران والتقاطع، أو حلف بأن لا يكلمه، أو لا يسلم عليه، أو لا يأكل من طعامه، فإنه يجب عليه أن يعفو ويصفح احتسابًا للثواب، وخوفًا من العقاب، وأن يسلم عليه، ويجيب دعوته، ويأكل طعامه، ويكفر عن يمينه، حتى يسلم له دينه.

ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [رواه الترمذي (2510)، وأحمد (1412)، وأبو يعلى (669)، والضياء في المختارة (889) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه].

***

كفارة اليمين

السؤال: ما هي كفارة اليمين؟ [7/169]

الجواب [رقم: 248]:

أما كفارة اليمين فكما أخبر الله عنها؛ بأنها إطعام عشرة مساكين من قوت البلد، لكل مسكين مُد من البر أو الأرز. وإن عشى عشرة مساكين من طعامه الذي يأكله، أجزأه ذلك، فإن الله سبحانه ذكر الإطعام ولم يشترط التمليك.

وقد أجاز الإمام أبو حنيفة إخراج القيمة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا كانت أنفع للفقراء[مجموع فتاوى ابن تيمية (25-82)]. وتقدر القيمة الكافية في الإطعام في هذا الزمان، بأربعة ريالات لكل مسكين، أو يكسو عشرة فقراء، رجالاً ونساءً الكسوة المعتادة، بأن يكسو المرأة ما يجزيها لصلاتها، أو عتق رقبة. فمن لم يجد ما يكفر به عن يمينه، فإنه يصوم ثلاثة أيام متتابعة. فهذه كفارة أيمانكم إذا حلفتم. اهـ. (هذه الفتوى قديمة ويتغير تقدير قيمة الوجبة بحسب الزمان والمكان).

***

حكم الحلف بغير الله

السؤال: ما حكم الحلف بغير الله، كالحلف برأس فلان، أو الحلف بالرسول، وما حكم الحلف بملة غير الإسلام كأن يقول: أنا يهودي إن فعلت كذا؟ [7/172]

الجواب [رقم: 249]:

من الأيمان المبتدعة، الحلف بغير الله، كأن يحلف برأسه، أو برأس ولده، وحتى الحلف بالرسول لا يجوز، لحديث: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» [رواه البخاري (2679)، ومسلم (1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].

وقال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ أَشْرَكَ» [رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) وحسنه، وأحمد (6072)، وابن حبان في صحيحه (4358)، والحاكم (7814) وقال: صحيح على شرطهما، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].

وقال: «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا» [رواه أبو داود (3253)، وأحمد (22980) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه].

لأن الحلف بالله داخل في عموم العبادة التي لا تنبغي إلا ﷲ، ففي الحديث: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» [رواه أبو داود (3248)، والنسائي (3769) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ومثله قول بعضهم: أنا يهودي إن فعلت كذا، أو أنا نصراني إن لم أفعل كذا، فهذه أيضًا من الأيمان المنكرة.

ففي البخاري أن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» [رواه البخاري (1363)، ومسلم (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه].

«وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» [رواه البخاري (6047)، ومسلم (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه].

وفي الحديث الآخر قال: «من قال أنا يهودي أو أنا نصراني إن فعلت كذا، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» [رواه أبو داود (3258)، وأحمد (23006)، والحاكم في المستدرك (7818) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ: «مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا»].

نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.

***

اليمين بالطلاق يمين مبتدعة

السؤال: بعض الناس لا يرضى باليمين بالله ويطلب الحلف بيمين الطلاق لاعتقاده أنه أقوى. [7/170]

الجواب [رقم: 250]:

اليمين المبتدعة، التي يجب اجتنابها فهي اليمين بالطلاق، الذي هو يمين الفُسّاق. تجد بعض الناس إذا حلف له خصمه بالله، قال له: ما أرضى حتى تحلف بالطلاق. واليمين بالله أعظم حرمة من اليمين بالطلاق؛ لأن اليمين بالطلاق معدودة من البدع.

وحيث إنه كثر الوقوع من الناس فيها، فإنه لا بد أن نتكلم عن الحكم فيه، فنقول:

من حلف بالطلاق على إنسان أن يدخل بيته، أو أن يأكل ذبيحته، فأصر المحلوف عليه على الامتناع، فلم يدخل البيت، ولم يأكل الذبيحة، فإنه لا ينعقد يمينه، وليس عليه كفارة لاعتبار أنه من لغو اليمين الذي لا كفارة فيه؛ لأن من شرط وجوب الكفارة كونه يحنث مختارًا، وهذا قد حنث مكرهًا، فلا كفارة عليه.

ولو حلف إنسان بالطلاق على فعل شيء أو منعه، بأن قال: عليّ الطلاق أني لا آكل من طعامك؛ فأكل منه، أو قال: عليّ الطلاق أن لا آكل من ذبيحة تذبح لي فأكل منها، أو قال: عليّ الطلاق أن أعطيك هذا الشيء، فلم يعطه، أو قال: عليّ الطلاق أن لا تخرج زوجتي من بيتي، فخرجت بإذنه، ونحو ذلك من الكلام. فمتى حلف على ذلك فحنث في يمينه، فنحن نفتي بأنها لا تطلق امرأته، وإنما عليه كفارة يمين، لإلحاقها بالأيمان المكفرة.

كما حكى ابن القيم إجماع الصحابة على ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن هذا الحالف لم يقصد طلاق زوجته، وإنما أراد تأكيد ما حلف عليه من منع زوجته لا غير، أو لا يأكل من ذبيحة تذبح له رفقًا بصاحبه. فهو إنما يريد إكرام صاحبه وعدم تكليفه، فمتى ذبح الذبيحة وأكل منها، فإن عليه كفارة اليمين لا غير، وأكله من هذه الذبيحة أفضل من إصراره على الامتناع؛ لما فيه من إدخال السرور على أخيه المسلم. ولا تَطْلقُ زوجته.اهـ.

***

حكم اليمين ببيت الحلال، ويمين المكرَه

السؤال: [من إمارة عجمان]

الرجل الذي عقد على المرأة ولم يدخل بها وقد دفع لوالدها جميع المتفق عليه بينهما، ثم حصل النزاع بينه وبين والد المرأة في تعيين ليلة الدخول، حيث طلب الأب الإمهال إلى أربعة أيام، وطلب الزوج تنجيز الدخول ليلة الموعد، وزعم والد المرأة أن الزوج قال: (والله وبيت الحلال لا بد من التعريس هذه الليلة)، ولديه شاهد واحد يشهد بذلك، وقد أنكر الزوج صيغة هذا اللفظ وأنه قال: (والله لو دعت الحاجة إلى الحلف ببيت الحلال لحلفت).

الجواب [رقم: 251]:

إن هذا الرجل يصدق في صفة الكلام الواقع منه لكونه أروى به، ولا يقبل خلاف ما يقول إلا بشهادة عدلين، أما الشاهد الواحد فلا يقبل في مثله لكون النكاح والطلاق والحلف به والأيمان لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين، وعلى فرض صحة وقوعه بهذه الصيغة على حسب دعوى والد المرأة، فيجب أن يسأل الزوج بماذا أردت من هذه الكلمة، فإن قال: إنما قصدت اليمين ولم أقصد الحلف بالطلاق فإنها تحمل على اليمين.

فأولها يمين بالله، والفقرة الثانية وهي قوله: وبيت الحلال يمين بغير الله، كالحلف بالأمانة وبالرأس وبحياة فلان، وبيت الحلال تتمشى على طريقة الأيمان المكفَّرة، لأن النبي ﷺ لما قال عن مارية: «هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ» أو قال: «والله لا وطئتها أبدًا» أنزل الله: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم ١قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ٢[سورة التحريم، الآيتان: 1- 2. وانظر: سنن النسائي (3959)] والحلف إنما يحمل على الحقيقة الظاهرة لا على المجاز الخفي، ويدان قائله ويصدق فيما نواه، ولا يحمل مثل هذا الكلام على كناية الطلاق الظاهرة ولا على الخفية، والحالف لم ينو ذلك.

على أن الزوج ووالد المرأة متى اتفقا على الدخول في ليلة معينة فحلف الزوج على دخوله بزوجته تلك الليلة فمنع والد المرأة دخوله عليها وزفافها له على سبيل الجبر والإكراه، فإن هذه اليمين لا تنعقد عند كثير من العلماء كما هو اختيار شيخ الإسلام وغيره، لأن الزوج صار بمثابة المكره على الحنث، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَإِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» [رواه ابن ماجه (2045) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]، وهذا من نوع المكره عليه؛ لأن الإكراه المعنوي كالإكراه الحسي، أشبه من أجبر على طلاق زوجته، فإنه لا يقع طلاقه بإجماع العلماء، لأنه لا عمل للمكره. ثم إن الحلف بالطلاق الذي يتكلم العلماء بموضوعه هو ما قصد به الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب، فحلف هذا الشخص حيث قال: (والله وبيت الحلال) إنما قصد به الحث على الدخول، وهذا اللفظ يحتمل أن يكون قصد به اليمين أو يمين الطلاق، لأن يمين الطلاق الذي يتكلم الفقهاء في شأنه هو مثل أن يقول: عليّ الطلاق أن أعرس بزوجتي هذه الليلة، وعلى احتمال أن يكون نوى بكلامه معنى ذلك فإنه يحمل على اليمين بالطلاق، وفيه الخلاف، والصحيح أنه داخل في جملة الأيمان المكفرة، ففيه كفارة اليمين كما هو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم، وأكثر المحدثين، وقد حكى العلامة ابن القيم إجماع الصحابة على ذلك، وجرى الحكم بموجبه في أكثر المحاكم الشرعية، لكون الطلاق الشرعي اللازم إنما يقع عن قصد من المطلق، وذلك بأن يقصد فراق زوجته، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: «إِنَّمَا الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتْقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» [ذكره البخاري (7/45 – الفتح) (كتاب الطلاق/ بَابُ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ وَالكُرْهِ) معلقًا عن ابن عباس رضي الله عنهما].

والحاصل بأن الذي حكم بجعله حلف طلاق وفيه كفارة اليمين نرى أن حكمه عدل وحق، وهو أشد ما يفتى به في مثله، فهو مصيب في حكمه لكون القرائن قد احتفت بعدم وقوع الطلاق، وبعدم إرادته له من وجوه متعددة تعرف مما يلي:

1– أن المتكلم ينفي أن يكون وقع منه هذا اللفظ بصفة ما يدعي به الأب، وإنما قال: (والله لو دعت الحاجة إلى الحلف ببيت الحلال لحلفت).

2– إنما شهد بذلك شاهد واحد ولا يقبل في مثله إلا شهادة عدلين.

3– أن الحنث في اليمين وقع بطريق الإكراه والجبر حيث امتنع الأب من تسليم المرأة إلى زوجها وقد عفي لهذه الأمة عما استكرهوا عليه.

4– أن هذا اللفظ محتمل لإرادة الحلف المجرد أو لإرادة الحلف بالطلاق، فمتى ادعى أنه لم يرد الحلف بالطلاق فإنه يصدق في ذلك؛ لأنه أدرى بنيته وقصده.

5– متى قصد اليمين بالطلاق فإن فيه كفارة اليمين ولا تطلق الزوجة كما حكي إجماع الصحابة على ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وأكثر المحدثين، وعليه العمل في أكثر المحاكم الشرعية، ونحن نفتي بذلك.

6– أن هذا اللفظ بصفته بعيدًا عن معنى كناية الطلاق الظاهرة والخفية، حيث لم ينو الزوج فراق زوجته، ولا يقول بوقوع الطلاق في مثله إلا من هو قليل الفقه والمعرفة بحقائق النصوص والقصود والعلوم النافعة.

7– أن حكم القاضي يقطع النزاع ويزيل الخلاف في وقته، وقد حكم فضيلة قاضي عجمان بكون هذا اللفظ يمين طلاق مكفرة وليس بالطلاق، ونحن نرى أن هذا الحكم حق وعدل يجب على حاكم البلاد تنفيذه والإلزام بموجبه.

جعلني الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(10/1/1388هـ، 9/4/1968م) رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

اليمين بالطلاق أو الحرام لمدة كذا

التاريخ: 30/4/1407هـ، الموافق: 31/12/1986م.

الجواب [رقم: 252]:

الحمد لله، حضر لديّ الرجل/ محمد مبخوت محمد - القطري الجنسية - وأنهى قائلاً: إنني طلقت وحرّمت زوجتي عليّ إلى مدة محدودة (أي قلت: عليّ الطلاق أو الحرام لمدة كذا) وقد ندمت الآن على ما وقع مني. وقلت له: إن هذا الكلام الواقع منك يدخل في مسمى اليمين بالله، وبما أنك ندمت على ذلك وحاولت الرجوع إلى أهلك، لهذا أفتيته بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين عشرة ريالات، وقد سلّم هذا المبلغ في ساحة المحكمة الشرعية الكبرى بواسطة وكيل في توزيعها على أهلها، وهو إسماعيل محمد.

لهذا يعتبر اليمين وكل قول قاله في ضمنها يعتبر ساقطًا. وإن المرأة/ فرحة زوجته مباحة له، وتبقى هي وابنتها في بيت الزوج كحالتهما السابقة.

وللمعلومية حرر كيلا يخفى.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

اليمين الغموس معناها وحكمها وهل لها كفارة؟

السؤال: ما هي اليمين الغموس؟ وما حكمها؟ وهل لها كفارة؟ [7/168]

الجواب [رقم: 253]:

أما اليمين التي يقتطع بها مال امرئ مسلم، أو يستحل بها دمه، فهي اليمين الغموس الفاجرة، سميت غموسًا، لكونها تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار، عياذًا بالله من ذلك.

وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» متفق عليه[في صحيح البخاري (2356)، وصحيح مسلم (138) أوله من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وآخره في صحيح مسلم (137)، وسنن النسائي (5419) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه].

واليمين الغموس التي يحلف بها على مال أخيه المسلم، هي من أكبر الكبائر عند الله، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» [صحيح البخاري (6675) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما]. فقرن اليمين الغموس بالإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله قتلها.

فالذي يحلف على مال أخيه المسلم عامدًا متعمدًا، يعتبر بأنه قد باع نصيبه من الآخرة، بهذا القدر الزهيد الذي حلف عليه. يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ٧٧[سورة آل عمران، الآية: 77] وأخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره.

والنبي ﷺ خطب الناس فقال: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضٍ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، مِنْ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ» [رواه البخاري (2449)، والترمذي (2419)، وأحمد (10573) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وقال «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيُقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ». متفق عليه من حديث أم سلمة[صحيح البخاري (2680)، وصحيح مسلم (1713)].

فهذه اليمين التي يحلف بها على مال أخيه المسلم، لا تنحل بالكفارة أبدًا، فلا كفارة لها، وإنما تنحل بالتوبة إلى الله، والإقلاع عن الذنب، ورد المظلمة التي حلف عليها إلى صاحبها، لا كفارة لها إلا ذلك.

***

كتاب الأشربة

الخمر المحرمة

السؤال: ما هي الخمر المحرمة؟ [7/199]

الجواب [رقم: 254]:

هي كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، وكل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فهذه هي القاعدة في معرفة الخمر المحرم؛ لأن الخمر يكون من التمر ومن العنب ومن الذرة والشعير، ويكون من مشروبات مستحدثة، فلا تنسوا هذه القاعدة وهو أن «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» [رواه أبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393) من حديث جابر رضي الله عنه]. وهو خمر من أي شيء كان. حتى لو فرضنا وجود عين (بئر) من شرب منها سكر، فإننا نحكم عليها بأنها خمر محرم. اهـ.

***

حكم إدخال الخمور إلى البلاد والاتجار فيها

السؤال: ما حكم إدخال الخمر إلى البلد والاتجار فيها؟ [7/201]

الجواب [رقم: 255]:

الذين يعرفون تحريم الخمر، وفنون الأضرار المتفرعة عنها، ثم يتسامحون في دخولها إلى بلدهم، والاتجار فيها، مع كونهم مسلمين، فهؤلاء ليس فيهم غيرة دينية، ولا حمية وطنية، وإنما يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فقد لعن رسول الله ﷺ الخمر: بائعها، ومشتريها[رواه أبو داود (3674) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]، وإن بلد الإنسان بمثابة أمه التي ولدته وغذته بلبانها، فالذي يجلب الخمر إلى بلده، أو يبيعها، أو يرضى ببيعها، هو بمثابة الذي يقود السوء على أمه، وإن إدخال الخمر المحرمة إلى البلد؛ أضر على أهلها من إدخال المطاعم المسمومة. فهل أنتم منتهون؟

***

حكم إباحة شرب الخمر للأجانب وأعضاء السلك الدبلوماسي

السؤال: بعض الدول العربية تبيح شرب الخمر للأجانب وأعضاء السلك الدبلوماسي، ما رأيك في ذلك؟

الجواب [رقم: 256]:

حرام.. وذنب يتحمله كل من يوافق على ذلك.. وللأسف فقد أصبح هؤلاء الأجانب موصلاً جيدًا لعدد من المسلمين يعلمونهم الحرام والخمر.. ومن هنا يجب أن يتنبه كل المسؤولين إلى خطورة ذلك، فإنهم متى قصروا بواجبهم وتكاسلوا عن حماية دينهم وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم.. ولم يأخذوا على أيدي سفهائهم في منعهم عما يضرهم.. فإنه بذلك يتحقق الفساد وتنشر الرذيلة.. وليتذكروا جميعًا قول الله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ١٦[سورة الإسراء، الآية: 16].

كتاب الأطعمة والذبائح والصيد

شروط التذكية الشرعية

السؤال:

فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - حفظه الله.

رئاسة المحاكم الشرعية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛

يحدث في كثير من الأحيان جدل كبير حول التذكية الشرعية أثناء ذبح الأبقار والأغنام والماعز في المقصب الآلي.

وعليه توجهنا لفضيلتكم للاستفسار حول الشروط الأساسية الواجب توافرها في التذكية الشرعية، والتفضل بإصدار الفتوى الشرعية بذلك.

وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

شركة الخليج للأدوات الكهربائية
المدير العام أحمد صالح العبيدلي
التاريخ: 21/6/1408هـ، الموافق: 9/2/1988م

الجواب [رقم: 257]:

من خصوص التذكية الشرعية أن يقول الذابح: باسم الله والله أكبر، ثم ينحر، فلا يطلب منه شيء زائد من ذلك سوى فصل اللحم عن الجلد، وهو خارج عن الوجوب.

ولا يبدأ السلخ حتى يتوقف حراك الذبيحة؛ لـ«أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ (سِكِّيْنَهُ) وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [رواه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه] كما ثبت ذلك في الحديث.

والنبي ﷺ قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ» [رواه البخاري (2488)، ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه]. وكل هذه تضر بالذبيحة.

والمطلوب الإسراع بالذبح بآلة حادة حتى يستريح الذبيح بسرعة، والذبح على أي جهة يجزئ، إذ ليس في السنة استقبال القبلة حال الذبح.

ومن السنة أن يقول عند الذبح: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ١٦٢لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين ١٦٣[سورة الأنعام، الآيتان: 162- 163].

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

تذكية الشاة المصابة بحادث وما تزال تتحرك

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

المسألة الثالثة: الشاة متى حدث بها حادث الموت فذكاها صاحبها وبها حياة مستقرة بحيث تومئ بذنبها أو برأسها.

الجواب [رقم: 258]:

فإن هذه تذكية شرعية، والشاة مباحة الأكل بنص القرآن والسنة؛ لقوله سبحانه: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ[سورة المائدة، الآية: 3].

***

إذا اختلط الحلال بالحرام وجب اجتنابه

السؤال:

حضرة صاحب الفضيلة، رئيس المحاكم الشرعية، القاضي عبدالله بن زيد آل محمود حفظه الله، رئاسة المحاكم الشرعية، الدوحة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رفعت مديرية الجمارك العامة في الدوحة إلينا ما مفاده بأنه يوجد لديها مائة وستون كرتونة، لحوم معلبة من الدانمارك، وبعد أن قامت دائرة الصحة بالكشف عليها اتضح أنه يوجد بها نسبة من لحوم الخنزير، لذلك نرفع لمقام فضيلتكم الموضوع للنظر، والأمر بما يلزم.

وتفضلوا بقبول وافر التحية والاحترام.

السكرتير الفخري أحمد ناصر عبيدان مرفق: علبتان من البضاعة المذكورة

الجواب [رقم:259]:

السيد/ السكرتير الفخري لغرفة تجارة قطر، المحترم، غرفة التجارة.

التاريخ: 20/5/1389هـ، الموافق: 3/8/1969م.

الدوحة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

فقد تلقيت كتابكم رقم/ 69 – 6280 بتاريخ 19/5/1389هـ، الذي أشرتم فيه إلى أنه يوجد لدى الجمارك العامة مائة وستون كرتونة (-160) لحوم معلبة ومستوردة من الدانمارك، ومن بعد كشف دائرة الصحة عليها اتضح لديها بأنه يوجد بها نسبة من لحوم الخنزير، فبناءً على ما ذكر نشعركم بالحكم الشرعي في مثله، وأنه متى اختلط الحرام بالحلال حرم استعماله، ووجب اجتنابه.

لهذا يجب منع بيع هذه الكراتين المذكورة لحرمتها شرعًا.

وتقبلوا وافر الاحترام.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

حكم الصيد بالبندقية

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

— الجواب عن السلاح القديم: وأن أهله عندما يكيلونه للصيد بوضع اللحمة على متناول الصيد وهم يسمون الله في وضعها وعند كيل البندق لها.

الجواب [رقم: 260]:

فمتى صاد الصيد في مثل هذا فإن الصيد حلال، لأنه مما ذكر اسم الله عليه، وقد اتفق العلماء من القدماء على إباحة أكل الصيد الذي يصاد بالفتيل والبندق وبالرايفل[الرايفل: بندقية تستخدم للصيد في القرن الماضي والاسم مأخوذ من اللغة الإنجليزية Rifle]، وإن قتلها مباح شرعًا، لكونها قد وضعت على اسم الله، وتارة على الصيد باسم الله.

***

كتاب الأضاحي

حكم الأضحية

السؤال: ما حكم الأضحية؟ [7/52]

الجواب [رقم: 261]:

الأضحية سنة في حق الحي، سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ونزل فيها قرآن يتلى ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ٢[سورة الكوثر، الآية: 2]، وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسمنون الأضاحي في بيوتهم حرصًا على هذه الفضيلة[أخرج البخاري في الصحيح معلقًا (7/130) عند أبي أمامة ابن سهل قال: «كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ». اهـ]، وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.

وعن زيد بن أرقم في حديث ضعيف قال: قلنا - أو قالوا -: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قالوا: وما لنا فيها؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» قالوا: فالصوف؟ قال: «وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ» [رواه ابن ماجه (3127)، وأحمد (19283)، والحاكم (3467) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه بإسناد ضعيف جدًّا].

***

فضل الأضحية وشروط قبولها عند الله عز وجل

السؤال: ما فضل الأضحية؟ ومتى تكون مقبولة عند الله عز وجل؟ [6/372]

الجواب [رقم: 262]:

حسبك في فضل الأضحية أن للمضحي بكل شعرة حسنة، حتى من الصوف، كما في حديث زيد بن أرقم قال: قلنا، أو قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قالوا: وما لنا فيها؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ». قالوا: فالصوف؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ» [سبق تخريجه في ص404].

ولا يترتب عليها هذه الفضائل إلا إذا وقعت موقعها من الصفة والصحة المأمور بها، على الوجه المطابق للحكمة في مشروعيتها، بأن قصد بها امتثال أمر الله، واتباع سنة رسوله ﷺ، وتجردت عن البدع الخاطئة، والتصرفات السيئة، فيكون ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها، وامتثالاً لطاعة الله فيها، وخروجًا من عهدة من قال بوجوبها، ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت، ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، أشبه العقيقة. فإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بالإجماع.

أما إذا وقعت على غير ما شرعه الله ورسوله ﷺ فإنها تكون شاة لحم قدمها لأهله.

***

شروط الأضحية وهل تجزئ الواحدة عن الرجل وأهل بيته؟

السؤال: ما شروط الذبيحة التي يضحى بها؟ وهل تجزئ الذبيحة عن الرجل وأهل بيته؟ [7/53]

الجواب [رقم: 263]:

تجزئ الذبيحة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، والجماعة إذا اجتمعوا في بيت كالعيال عشرة أو عشرين جاز أن يضحوا بذبيحة واحدة عنهم كلهم بمثابة أهل البيت.

وأفضل الأضاحي الكبش، أي: الخروف، سليم العيوب، سواء كان فحلاً أو خصيًا، وما تم له ستة أشهر من المعز. وتجزئ العنز والتيس.

والناقة والبعير عن سبع أضاحٍ، والبقرة والعجل عن سبع إذا تم لهما سنتان.

وتجب التسمية عند الذبح.

ووقت الذبح يوم العيد، وثلاثة أيام من بعده على القول الصحيح.اهـ.

***

الأضحية عن الميت

السؤال: ما حكم الأضحية عن الميت؟ [6/373]

الجواب [رقم: 264]:

أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد، لم نجد حديثًا صحيحًا، ولا دليلاً صريحًا من كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ، يأمر فيه بأضحية عن الميت، أو يشير إلى وصول ثوابها إليه، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أنه أوصى أن يضحى عنه بعد موته، أو أوقف وقفًا في أضحية، فليس لها ذكر عندهم، لا في أوقافهم، ولا وصاياهم، ولا تبرعاتهم لموتاهم. فلو كانت الأضحية عن الميت من السنة، أو أنه يصل إلى الميت ثوابها، لسبقونا إليها. فعدم فعلها يعد من الأمر المجمع عليه زمن الصحابة، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة.

كما أن الظاهر من مذهب الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة أنه لا أضحية للميت لعدم مشروعيتها. فهي شاة لحم، لكون الأضحية الشرعية: إنما شرعت في حق الحي تشريفًا لعيد الإسلام وإظهارًا للفرح به والسرور، أو الشكر على بلوغه.

والنبي ﷺ قد أرشد الأولاد بأن يتصدقوا عن والديهم الميتين، ولم يأمرهم بأن يضحوا عنهم، فمن ذلك ما روى البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة قال للنبي: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت. أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم، تصدق عن أمك» [رواه البخاري (2760)، ومسلم (1004) من حديث عائشة رضي الله عنها]. ولم يقل: ضح عن أمك.

وروى مسلم في صحيحه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: «نعم، تصدق عن أبيك» [رواه مسلم (1630) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ومثله ما روى أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، أن رجلاً من بني ساعدة جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن أبوي قد ماتا، فهل بقي عليّ من برهما شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا» [رواه أبو داود (5142)، وابن ماجه (3664)، وأحمد (16059)، وابن حبان (418) من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

فهذه وصايا رسول الله ﷺ بالأمر بالصلة والصدقة، وبالدعاء الذي يصل إليهما نفعهما. ولو كانت الأضحية عنهما بعد موتهما أنها من البر، أو أنه يصل إليهما ثوابها، لأرشده النبي ﷺ إلى فعلها.

ومثله صدقة عمر التي استشار النبي ﷺ فيها، فقال له: «حَبِّسْ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقَ بِثَمَرِهَا». فتصدق بها عمر على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متمول مالاً[رواه البخاري (2737)، ومسلم (1632) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].

ولو كانت الأضحية من عمل البر، أو أنه يصل إليه ثوابها بعد موته، لما ساغ لعمر أن ينساها لنفسه.

وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» [رواه مسلم (1631)، وأبو داود (2880)، والترمذي (1376)، والنسائي (3651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. ولم يقل: أو أضحية تذبح له بعد موته.

ولا تسمى الأضحية صدقة، لكنه لو ضحى بقصد الصدقة عن والديه أو أحدهما بذبيحة يدخلها على أهل بيت من الفقراء؛ فإنها نعم الصدقة، ويصل إليهما ثوابها، إذ هي من الصدقة المستحبة.

وحيث لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أمر أحدًا أن يضحي عن ميته، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى عن ميته، ولا أوصى أن يضحى عنه بعد موته، علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة، ولا مرغب فيها، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، إلا أن يذبحها ليتصدق بلحمها على الفقراء والمساكين فجائز.

لكن الصدقة بثمن الأضحية عن الميت أفضل من ذبح الأضحية عنه، لكون الصدقة خاصة في عشر ذي الحجة تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه العيد من الحاجة والنفقة والكسوة له ولعياله، فتقع هذه الصدقة من الفقير بالموقع الذي يحبها الله، من تفريج كربته، وقضاء حاجته، وإدخال السرور عليه وعلى أهل بيته.

***

الوصية بالأضحية عن الميت

السؤال:

صاحب السماحة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، يرعاكم الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

وبعد:

فإني ألتمس المشورة والفتوى من سماحتكم في أمر الأضاحي، فلي والد توفي لأكثر من عشرين سنة وأوصى بأن يكون ريع منزله في أضحيتين؛ إحداهما له والأخرى لوالديه، ونحن نعمل بهذه الوصية، على الاستمرار في تنفيذ ما كتب في وصيته. غير أنه يا سماحة الشيخ تنتابني شكوك في أن الأضحية شرعت للأموات، فهل ترون أنه يجوز لي أن أصرف في الأضاحي صدقة على الفقراء، ولا يكون في ذلك عصيان لوالدي، علمًا بأن المنزل ليس له ريع في هذه الآونة.

أنتظر سديد رأيكم لأعمل به. وجزاكم الله خيرًا، والسلام.

المخلص ابنكم محمد الأحمر الرشيد التاريخ: 18/10/1407هـ

الجواب [رقم: 265]:

إلى المحب الفاضل الأخ/ محمد الأحمر الرشيد - حفظه الله بالإسلام، وأسدى عليه سوابغ النعم والإحسان - وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام.

وبعد: فإني استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، الدال بكل معانيه على الحفاوة الودية والمحبة الدينية.

سألت عن وصية الوالد وكونه وصى بأن تضحي عنه وعن والديه كل سنة، وأنك نفذت هذه الوصية من سنين طويلة، في كل سنة تضحي عنه وعن والديه، وإنك مأجور إن شاء الله على حسن ظنك وفعلك، لكن الحق أحق أن يتبع، وإن الوصية بالأضحية عن الوالدين لا صحة لها، ولا يؤجر صاحبها على تنفيذها؛ لكونه لا أضحية لميت، والنبي ﷺ ضحى عنه وعن جميع أمته، ولا يؤجر الموصى إليه في تنفيذ هذه الوصية؛ لكونه لا أضحية لميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحي، والوصية بالأضحية عن الميت إنما وقعت خطأ من بعض علماء الحنابلة، حيث قالوا: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي، وقد تراجع كثير من علماء نجد عن تنفيذ مثل هذه الوصية؛ لكونه لا أضحية لميت، فصرف هذه الوصية إلى الفقراء والمضطرين أفضل لكونها بدأت خطأ من أحد الفقهاء، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ويأجرك الله على ما أسلفت وقدمت من الأضاحي، حيث لم تعرف طريق الحلال والحرام فيها لكونها شرعت في حق الحي ولم تشرع عن الميت، ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة، الآية: 275].

وإنني أتحفك برسالة من مؤلفاتنا للنظر فيها، وقد انتهى علماء نجد عن الأضحية عن الميت من بعد نشر هذه الرسالة، وإنك إن شاء الله من المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه... والباري يحفظكم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود التاريخ: 22/10/1407هـ، الموافق: 18/6/1987م

حكم الأخذ من الشعر والأظافر في العشر لمن أراد أن يضحي

السؤال: هل يجوز الأخذ من الشعر والأظافر في العشر لمن أراد أن يضحي؟ [6/371]

الجواب [رقم: 266]:

هنا حديث رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ أَخْذِ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» [صحيح مسلم (1977)].

وهذا الحديث قد اختلف العلماء فيه؛ فمنهم من حمل النهي على الكراهة كما هو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك، ورواية عن الإمام أحمد، والكراهة تزول بأدنى حاجة. وقال أبو حنيفة: لا يكره أخذ الشعر ولا الظفر، كما لا يكره ملامسة النساء والطيب والثياب.

وقال كثير من فقهاء الحنابلة: إن النهي للكراهة، ورجحه في الإنصاف، وقد أنكرت عائشة على أم سلمة هذا الحديث، وقالت: «إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج، وقد فتلت هدي قلائد النبي، فلم يمتنع عن شيء كان يفعله» [أخرجه البخاري (1696) ومسلم (3261)].

فمتى قلنا: إن النهي للكراهة - وهو الصحيح - فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة، وقد شاع واشتهر عند العامة، أن كل من أخذ من شعر رأسه، أو قلم أظافره، فإنه لا يجوز له أضحية، وهذا خطأ. ولم يقل به أحد من العلماء.

وعلى كلا القولين، فإنه لو أخذ الشخص شيئًا من شعر رأسه، أو لحيته أو أظافره في عشر ذي الحجة، ثم أراد أن يضحي فإنه يجوز له أن يضحي، وأضحيته صحيحة بإجماع أهل العلم، وكذلك المرأة لو نقضت شعر رأسها فتساقط منه شعر، فإن ذلك لا يمنعها من فعل الأضحية، بل تضحي وأضحيتها صحيحة. ويجوز لها استعمال الطيب والحناء والخضاب، وكل شيء في عشر ذي الحجة[قال في المغني (ص5 - 15 ج3) بعد سياقه للخلاف في المسألة قال: فإن حلق شعره، أو قلم أظفاره، فإنه يستغفر ولا فدية عليه بإجماع العلماء، سواء فعله عامدًا أو ناسيًا].

والأفضل الإمساك عن أخذ الشعر والظفر فإن فعل لم يمنع من فعل الأضحية.

***

بطلان اشتراط الإحرام للأضحية

السؤال: ما قولكم في قول العوام إن من أراد أن يضحي عليه أن يحرم؟ [6/372]

الجواب [رقم: 267]:

ما شاع على ألسنة العامة في هذه البلاد من قولهم إن من أراد أن يضحي فإنه ينبغي له أن يحرم فهذا قول باطل ولا صحة له، فلا إحرام إلا لمن أراد أن يحج أو يعتمر، وحتى صار الكثير من الناس يمتنعون عن الأضحية عند أخذهم لشيء من الشعر لظنهم أنها لا تصح أضحيتهم، فلو كان الكف عن أخذ الشعر والظفر واجبًا في حق كل من يضحي، لما خفي على عائشة أم المؤمنين، وهي في بيت رسول الله ﷺ، وهي أفقه وأعلم بالسنة من أم سلمة. ورسول الله ﷺ كان يضحي كل سنة عنه، وعن أهل بيته. فمثله لا يخفى لو كان صحيحًا.

وقد اعترضت عائشة على أم سلمة في هذا الحديث. وقالت: إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج. وهذا معقول المعنى؛ فإن الحاج إذا أحرم لا يجوز له أن يأخذ شيئًا من شعره ولا أظافره.

***

كتاب الطب

معنى حديث: «لَا عَدْوَى»

السؤال: ما معنى «لَا عَدْوَى» في حديث «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ»؟ [7/325]

الجواب [رقم: 268]:

فقد ثبت في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ» [صحيح البخاري (5707)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فنفى رسول الله ﷺ أن تفعل العدوى بنفسها دون قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

ولما قال النبي ﷺ: «لَا عَدْوَى». قال رجل: يا رسول الله، إن الإبل تكون في الفلاة كأنها الظباء، فيدخلها البعير الأجرب، فتجرب كلها؟ قال: «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟» [هي رواية للحديث السابق عند البخاري (5717)، ومسلم (2220)].

أشار بهذا إلى أن البعير الأول قد أصيب بالجرب بقضاء الله وقدره بدون عدوى، وكذلك الإبل أصيبت بالجرب بطريق العدوى بقضاء الله وقدره، فالرسول ﷺ لا ينفي العدوى مطلقًا، لكونها من الأشياء التي يشهد بها الواقع المحسوس كما في قول الأعرابي.

فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» [رواه البخاري (5771)، ومسلم (2221) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فنهى رسول الله ﷺ صاحب الإبل المصابة بالجرب، أو الهيام أن يوردها على الإبل الصحاح، وكذلك الغنم، ومثله الدجاج المصاب بمرض فيجلبه صاحبه ليغش به الناس، وفي الحديث «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» [رواه مسلم (101) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فأمر رسول الله باتقاء أسباب البلاء، والمباعدة عن الوباء والعدوى، مع التوكل على الله، وقال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» [رواه البخاري (5707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وجاء مجذوم مهاجرًا فمنعه رسول الله ﷺ من دخول البلد، وقال له: «ارْجِعْ، فَقَدْ بَايَعْنَاكَ» [رواه مسلم (2231)، والنسائي (4182)، وابن ماجه (3544) من حديث الشريد بن سويد الثقفي].

ومثله المصاب بداء الجدري وغيره؛ لأن الله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، وجعل لكل شيء سببًا؛ ولأن الوقاية خير من العلاج، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِذَا وَقَعَ الْوَبَاءُ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوْهَا» [رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) من حديث عبدالرحمٰن بن عوف رضي الله عنه].

***

ماذا يفعل إذا وقع الوباء في بلد؟

السؤال: إذا وقع الوباء في بلد فهل نَجتنب زيارته أم نتوكل على الله وندخله؟ [7/326]

الجواب [رقم: 269]:

لما سافر عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه عدد كثير من الصحابة، فلما قرب إلى البلد، تلقاه أبو عبيدة ابن الجراح خارج البلد، وأخبره أن الطاعون قد وقع في البلد، فنزل خارج البلد، ثم قال: يا ابن عباس، ادع لي المهاجرين. فدعوتهم له، فاستشارهم في دخول البلد أو الرجوع، فمنهم من قال: توكل على الله وادخل البلد. ومنهم من قال: ترجع ولا تدخل. فقال: قوموا عني. ثم قال: يا ابن عباس، ادع لي الأنصار. فدعوتهم له فاتفقت كلمتهم على أن أشاروا عليه بالرجوع، وأن لا يقدم بالصحابة على موضع الهلاك، وكان عبدالرحمٰن بن عوف متغيبًا، فجاء، وقال: إن عندي من هذا علمًا، ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِذَا وَقَعَ الْوَبَاءُ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوْهَا»، فحمد الله عمر على إصابة الحق[رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) من حديث عبدالرحمٰن بن عوف وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم].

وفي سنن أبي داود أن قومًا جاؤوا إلى النبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله، إن لنا بلدًا بعدن هي ريفنا، ومصيفنا، فإذا نزلناها نحفت أجسامنا، وقل عددنا، فقال رسول الله: «اتركوها ذميمة فإن من القَرَف[القَرَف: القرب من الوباء، والمعنى أن الدخول في أرض بها وباء من مداناة المرض] التلف» [رواه أبو داود (3923)، وأحمد (15742) من حديث فروة بن مُسَيْك بإسناد ضعيف، ورواه أبو داود (3924) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا، وَكَثِيرٌ فِيهَا أَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا، وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ذَرُوهَا ذَمِيمَةً»، وإسناده حسن].

فأخبر رسول الله ﷺ أن مقاربة الإنسان للأشياء الوبيئة، وسكناه في البلد الوبيئة، كثيرة الأسقام، إنه عين الهلاك والتلف، فترك سكنى مثل هذه القرية الوبيئة ليس من التطير في شيء، كما أن منع المصاب بمرض معدٍ من دخول البلد ليس من التطير، وإنما هو من أمر الحزم وفعل أولي العزم، وقد سنه رسول الله لأمته؛ لأنه من باب اتقاء أسباب البلاء، والمباعدة عن مواقع الوباء، ولما مرّ النبي ﷺ على حائط مائل أسرع السير، فقيل له في ذلك فقال: «أخشى موت الفجأة» [رواه أحمد (8666)، وأبو يعلى (6612)، والبيهقي في الشعب (1297) من حديث أبي هريرة بلفظ: «مَوْت الْفَوَات» وإسناده ضعيف جدًا].

ولما عزم عمر أن يرجع بالصحابة وأن لا يدخلهم الشام وهي وبيئة، فقال: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله[الحديث بتمامه رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما].

فالرسل وأتباعهم يفرّون من القدر إلى القدر، ويدافعون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، مع توكلهم على ربهم، فالمرض الذي يصاب به الشخص هو من قضاء الله وقدره، والدواء الذي يعالج به ليشفيه هو من قضاء الله وقدره، فهو يحارب المرض بهذا الدواء ليشفيه، كما قيل: نعالج آفاتًا بآفات.

ولما قيل للنبي ﷺ: أرأيت أدوية نتداوى بها، وعوذًا نتعوذ بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ» [رواه الترمذي (2065)، وابن ماجه (3437) من حديث أبي خزامة، وإسناده ضعيف].

فالقدر ليس بِغُلّ في العنق، ولا قيد في الرجل، بل هو عبارة عن سبق علم الله بالأشياء، فلا يجب الاتكال عليه، والنبي ﷺ قال: «تَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِلَّا الْمَوْت» [رواه أبو داود (3855)، والترمذي (2038)، ابن ماجه (3436)، وأحمد (18456) من حديث أسامة بن شريك بنحوه].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الإعراض عن استعمال الأدوية المباحة المجربة قدح في الشرع، واعتقاد عدم نفعها نقص في العقل، والمؤمن كامل الإيمان يستعمل الدواء وقت حاجته إليه، مع توكله على ربه.

وبالحقيقة فإن العدوى الضارة هي مقارفة ومقاربة أهل السفه والفساد المتصفين بفعل المنكرات، وشرب المسكرات، فكم من سفيه أردى حكيمًا حين آخاه. لهذا فقد يوجد رجل يعيش في الدنيا بأدب وشرف وحسن خلق، ثم يدب إليه داء العدوى الناشئة عن مجالسة ومؤانسة أهل الفساد، فيتخلى عن الفضائل، ويتحلى بالرذائل، وتظهر سيما السوء على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، ويبغض أهله وأقاربه وجيرانه؛ لأنه قد شذ عنهم بطباعه، وفساد أوضاعه، وقد يتعدى ضرر فساده إلى إخوانه وأولاده، فيكون عضوًا فاسدًا في المجتمع، ومن يهن يسهل عليه الهوان.

***

حكم الإعراض عن الدواء بدعوى التوكل

السؤال: ما حكم من يعرض عن استعمال الأدوية المجربة اتكالاً على قدر الله عز وجل؟ [6/276]

الجواب [رقم: 270]:

الإعراض عن استعمال الأدوية المجربة؛ لرفع البلاء، ودفع الوباء من أنواع العجز. وإن الله سبحانه خلق الناس، وخلق لهم جميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس والأدوية، وغير ذلك. فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية أو لرفع البلاء أو دفعه؛ هي في الحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه؛ رحمة منه بعباده، وإحسانًا منه لهم، بإيصال نفعها. وخص كل نوع منها بنوع من المرض يزاوله ويشفيه. وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه، واستعمالها في وقاية صحته، وحفظ بنيته.

وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه؛ لأنه من دينه وشرعه. ويقول: «تَدَاوَوْا يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ الْهَرَمُ» [رواه أبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436)، وأحمد (18456) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه].

وفي رواية أخرى: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً - أي: ما أصاب أحدًا بداء إلا قدر له دواء - عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ».

وقيل للنبي ﷺ: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقيها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: «لَا، بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ» [رواه ابن حبان (6100) من حديث كعب بن مالك، والطبراني في الكبير (3090)، والحاكم في المستدرك (87) من حديث حكيم بن حزام، ورواه الترمذي (2065)، وابن ماجه (3437) من حديث أبي خزامة]«إِنِ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» [رواه مسلم (2199) من حديث جابر رضي الله عنه].

فتضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وأن الله بحكمته ورحمته جعل لكل داء يحل بالناس دواء يبرئه، بحيث يرفعه ويدفعه. وأن هذا لا ينافي التوكل على الله.

كما أن الإنسان إذا اشتد عطشه دفع داء العطش بالماء، ودفع داء الجوع بالأكل، ودفع داء البرد بالثياب والملاحف والخفاف، فهذا مثله. والوقاية خير من العلاج. والدفع أيسر من الرفع. والشفاء قبل الإشفاء.

فاستعمال الأدوية المباحة والوقاية النافعة هي من تمام تحقيق التوحيد؛ لأن كل ما شرعه رسول الله ﷺ وأمر به فإنه من الدين الذي يجب اتباعه، والعمل به، كيف والرسول يقول: «يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ مَا أَنْزَلَ دَاءً إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» [سنن أبي داود (3857) وفي الترمذي (2038)، وابن ماجه (3436)، رواه الحميدي (845)، وأحمد (18455) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الدواء قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل.

وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

مثال ذلك كون الإنسان يصاب بالتخمة، فمن الحزم إزالتها بالأدوية المسهلة لإخراج الفضلات؛ لأن الإنسان في الدنيا كما قيل:

نحن في دار بليات
ندافع آفات بآفات

ولأن الدواء الكريه المر في حالة نفعه وحسن عاقبته يعتبر حلوًا، كما أن الأكل الحلو الضار، يعتبر مرًّا في مضرته وسوء عاقبته.

***

كتاب الزينة

حكم لبس الخاتم والسوار والسلسلة والساعة من الذهب أو الفضة

السؤال:

إلى حضرة المحب الفاضل الشيخ عبدالحفيظ إبراهيم اللاذقي حفظه الله تعالى بالإسلام وأسدى عليه سوابغ النعم والإحسان، أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد سرني وصول كتابك الشريف وفهمت ما تضمنه من سؤالك اللطيف.

هل يجوز للرجال أو النساء لبس الخاتم أو السوار أو السلسلة أو الساعة أو غيرها من الذهب أو من الفضة؟

الجواب [رقم: 271]:

فالجواب: أنه يجوز للنساء التحلي بالذهب والفضة مطلقًا لحاجتهن إلى التزين لأزواجهن؛ لحديث: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى[مسند أحمد (19503)، وسنن النسائي (5265)، وسنن الترمذي (1720)]، وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث علي رضي الله عنه قال: أخذ النبي ﷺ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبًا فجعله في شماله ثم قال: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ» [مسند أحمد (750)، وسنن أبي داود (4057)، وسنن النسائي (5144)، وسنن ابن ماجه (3595)، وصحيح ابن حبان (5434)].

وورد أحاديث في معنى ذلك تدل دلالة جلية على تحريم استعمال الذهب في الأواني وفي التحلي به في مثل لبس الخاتم أو السوار أو السلسلة أو الساعة أو غير ذلك من الاستعمالات.

فالمنع في قليل من الذهب وكثيره متحتم في حق الرجال، لما روى الإمام أحمد أن النبي ﷺ قال: «لا يحل من الذهب ولو كعين خربصيصة، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا لَعِبًا» [مسند أحمد (27564) من حديث أسماء بنت يزيد أوله، وشطره الثاني عند أحمد (19718) من حديث أبي قتادة أو أبي موسى رضي الله عنهما. وروي في تنقيح التحقيق للذهبي (39/1)]، والخربصيصة قيل: هي الهنة التي تترائى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة.

ولما رأى النبي ﷺ خاتم ذهب في يد رجل قال: «لا يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده» [رواه مسلم (2090) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

وقال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نَارٍ، فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ» [رواه أبو داود (4236)، وأحمد (8416) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ولهذا صار من المتفق عليه عند الفقهاء منع الرجال من استعمال الذهب، حتى الصغار، فيحرم على أوليائهم تمكينهم من استعماله.

وقد جوز بعض الفقهاء - كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم - استعمال الذهب في السلاح خاصة، كالبنادق والسيوف والخناجر، واستدلوا له بآثار، منها: أن سهل بن حنيف صاحب رسول الله ﷺ كان قبيعة سيفه[قبيعة السيف: طرف مقبضه] من ذهب، قيل: إن وزنها ثمانية مثاقيل. وفيه من الإرهاب وإظهار القوة للأعداء ما يجعله مباحًا فيه.

وجوزوا أيضًا جواز وضع السنّ من ذهب متى دعت الضرورة إليه، لأن عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب فأمره النبي ﷺ أن يتخذ له أنفًا من ذهب[رواه أبو داود (4232)، والترمذي (1770)، والنسائي (5161)، وأحمد (19006) من حديث عرفجة بن أسعد رضي الله عنه].

وما عدا هذا وذاك فالأصل فيه التحريم على الرجال، خاصة لورود النصوص في خصوصه.

وأما الفضة فيحرم على الرجال والنساء استعمالها في الأواني كالصحن والكأس والملعقة وسائر الاستعمالات في الأكل والشرب؛ لحديث حذيفة قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ» رواه البخاري ومسلم[رواه البخاري (5837)، ومسلم (2067)].

وورد نحوه من حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» [رواه البخاري (5634)، ومسلم (2065)].

أما استعمال الفضة للرجال في التختم أو السوار والساعة فجائز.

***

كتاب الحدود والديات

حد شرب الخمر

السؤال: ما حد شرب الخمر؟ [7/202]

الجواب [رقم: 272]:

شرع الله على لسان نبيه إقامة الحد بالجلد لشارب الخمر، كفارة عنها. وليكون بمثابة الزجر عن ارتكاب هذه الجريمة الأثيمة؛ لأن دين الإسلام قائم على محاربة الجرائم على اختلاف أنواعها، وعلى تقليلها، وتطهير المجتمع من الجهر بها. فشرع حد الخمر صيانة للعقول والأرواح والأجسام والمجتمع. وأنزل الله ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النور، الآية: 2] لأن من لا يُكرِم نفسه لا يُكرَم. ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ومن يهن الله فما له من مكرم، و«حَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» [رواه النسائي (4904، 4905)، وابن ماجه (2538)، وأحمد (8738) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

والنبي ﷺ جلد في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين[رواه مسلم (1707) من حديث علي رضي الله عنه].

وقال: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» [رواه النسائي (5661)، وأحمد (6197) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].

وقال: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ» [رواه أبو داود (3597)، وأحمد (5385) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].

والتأديب بالسجن ولو طال فإنه لن يقوم مقام الجلد في النكاية والردع، لكون الجلد تكفيرًا للجريمة، وزجرًا عن معاودة فعلها، وردعًا للناس عن أمثالها. والله يقول: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِين[سورة النور، الآية: 2].

***

حكم الدية بالنسبة للسائق الذي تسبب في قتل عدد من الأشخاص

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على النبي الكريم.

﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون[سورة النحل، الآية: 43].

السؤال الخامس: ما حكم كفارة السائق الذي انقلبت له سيارة الركاب بمن فيها فانجلت الحادثة عن وفاة عدة أشخاص أبرياء... فهل تكفي في مثل هذا كفارة واحدة أم تتعدد بتعدد القتلى؟ وعلى سبيل المثال: لا توجد عندنا محاكم شرعية إسلامية، فهل يكفي للدية ما تضمنه شركة التأمين لورثة القتيل وإن لم يبلغ ذلك قيمة دية القتل المحددة في الشريعة الإسلامية؟ وما حكم الزائد إن أعطت ما هو أكثر من القيمة المعينة؟ وما قيمة الدية بالذهب (ما معادلتها بالدنانير الذهبية)؟ وما معادلتها بالفرنك الفرنسي الجديد، أو بالأحرى كم غرامًا تساوي؟

السائل:

عبدالرحمٰن كوليبالي مدير مدرسة الرشاد ص. ب 388 كوروغو جمهورية ساحل العاج (غرب إفريقيا) التاريخ: 8/9/1404هـ، الموافق: 8/6/1984م.

والسلام.

الجواب [رقم: 273]:

(25/9/1404هـ، 24/6/1984م)

إلى فضيلة الشيخ عبدالرحمٰن كوليبالي - مدير مدرسة الرشاد - كوروغو.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد؛

فقد سألت عن مسائل:

السؤال الخامس: السائق الذي انقلبت معه السيارة ومات بسبب الانقلاب عدد من الأشخاص.

الجواب: أن هذا السائق ليس متعمدًا لانقلاب السيارة، وإنما وقعت لأسباب قضت بانقلابها، فتجب دية الأشخاص على عاقلة السائق إن كان له عاقلة، وقد قام التأمين مقام العاقلة في هذه الحالة، فيكون ما قدره التأمين من الدية، هو الكفاءة للدية، سواء كان زائدًا أو ناقصًا، وتكفي هذا كفارة واحدة[الشيخ يخالف في رأيه هذا جمهور العلماء الذين يرون تعدد الكفارات، ورأي الشيخ أرفق وهناك من سبقه للقول به]، والتي هي صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. أما قدر الدية فقد كان الأصل فيها مائة من الإبل، أو ألف مثقال من الذهب، أو اثني عشر ألف درهم من الفضة. فهذه مقادير الدية، وقد تقررت في كل بلد وعند كل حكومة بعدد مسمى من العملة المعتاد تبادلها بينهم، وصار الذهب والفضة من المعدوم بينهم، حيث احتفظت بهما الدولة في خزائنها.

***

ضمان الطبيب

صاحب الفضيلة المحترم الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.. الموقر رعاه الله وحفظه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أنكم تتمتعون بكامل الصحة والرفاهية.

فضلاً لا أمرًا، أرجو تنويرنا عن المسائل الآتية:

السؤال الخامس: لا يمكن لأي طبيب إزاء العقاقير الجديدة المستحدثة والتي منافعها ظاهرة، ولكن يمكن أن يكون لها ردة فعل - أقول: لا يمكن لأي طبيب مهما حرص أن يحكم على ردود فعل هذه العقاقير التي لا بد من استعمالها، فهل إذا حصل ردة فعل خطيرة نتجت عنه وفاة رغم اجتهاد الطبيب، يكون على الطبيب دية وصيام شهرين؟

وفقكم الله وحفظكم.

المخلص: حمد العبدالله

الجواب [رقم: 274]:

13/6/1403هـ.

إلى الفاضل الدكتور حمد العبدالله، حفظه الله.

وسلام عليكم ورحمة الله... وبعد، فإنني استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، خصوصًا ما أشرت إليه من السؤال عن المسائل التي أحدها:

السؤال الخامس: الطبيب الذي اجتهد وحرص ونتج عن علاجه وفاة المريض، فهل يكون على الطبيب دية وصيام شهرين؟

الجواب: ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يَكُنْ بِالطِّبِّ مَعْرُوفًا فَأَصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ» [رواه الدارقطني (3439) بلفظه، ومعناه عند أبي داود (4586)، والنسائي (4830)، وابن ماجه (3466)، جميعهم من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما]، فيضمن القتيل بالدية إلى أهله، وبصيام شهرين متتابعين، أشبه قتل الخطأ؛ لأن الجاهل بالطب يعرض الناس للأضرار والوقوع في الأخطار.

أما من كان طبيبًا حاذقًا ومعروفًا بالطب، فإنه لا يترتب عليه هذا الجزاء؛ لأن من مات في حدّ فالحد قتله، إلا أن يعرف الطبيب أن موت هذا المريض بسبب إهماله في علاجه فيترتب عليه حكم قتل الخطأ.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

دية المرأة

السؤال:

التاريخ: 14/1/1399هـ.

الحمد لله، سؤال عن حكم دية المرأة في الشرع، وهل هي كدية الرجل أو على النصف من ذلك؟

الجواب [رقم: 275]:

أن هذه المسألة قد أشيعت وانتشرت بين الناس بسبب أن بعض الصحف في الإمارات العربية نشرت القول بمساواة دية المرأة للرجل بدون تفريق، لهذا وجّه إلينا السؤال عنها رجاء طلب الجواب فيها، فأجبت بما نصه:

الحمد لله، إن لكل مقام مقالاً، وإن الحكم الشرعي يدور مع علته، فهو منوط بسببه، وقتل المرأة إما أن يكون عمدًا فله حكمه، أو أن يكون خطأ فله حكمه أيضًا، ففي كتاب عمرو بن حزم أن النبي ﷺ كتب إلى أهل اليمن: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ؛ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ؛ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ» [رواه النسائي (4853)، وابن حبان (6559)].

ثم ذكر تقدير أروش سائر الأعضاء كلها، وهذا الحديث تلقاه العلماء بالقبول، وجرى العمل به في شريعة الإسلام عند سائر أئمة المذاهب.

قال في المغني: ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم، قال ابن المنذر وابن عبدالبر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل[المغني لابن قدامة (8/402)].

وهذا القول والتقدير يتمشى على قتل الخطأ، وأن فيه ما ذكر من نصف دية الرجل، غير أنه يستثنى من ذلك مساواتها للرجل في أروش الشجاج والجروح إلى الثلث من دية الرجل، بحيث إن في قطع الإصبع منها عُشر الدية مثل دية إصبع الرجل، وفي الإصبعين خُمس الدية عشرون من الإبل كدية إصبعي الرجل، وفي ثلاثة ثلاثة أعشار الدية أي: (ثلاثون من الإبل) كدية أصابع الرجل، وفي أربعة أصابع منها ترجع إلى التنصيف أي إلى نصف دية أصابع الرجل (عشرون من الإبل).

والأصل في ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» أخرجه النسائي والدارقطني، وصححه ابن خزيمة[سنن النسائي (4805)، وسنن الدارقطني (3128)]، وهو نص يقدم على ما سواه.

وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر. قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون، قال: قلت: لما عظمت مصيبتها قلّ عقلها؟ قال: هكذا السنة يا ابن أخي، وهذا مقتضى سنة رسول الله ﷺ، رواه سعيد بن منصور[مصنف عبدالرزاق (17749 - 17750)، والسنن الكبرى للبيهقي (8/168)، (16311)]، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك.

وفيه أحاديث تثبت التنصيف في كل الشجاج والجروح كالنفس وإن كانت ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا، من ذلك ما روي عن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ» [رواه البيهقي في الكبرى (8/166)، (16305)]، وقد ضعفه البيهقي، وأخرج عن علي رضي الله عنه أنه قال: دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل[السنن الكبرى للبيهقي (8/167) (16309)]. وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضًا من وجه آخر عنه وعن عمر[مصنف ابن أبي شيبة (27496)، والسنن الصغرى للبيهقي (3066، 3067)].

وقال في بداية المجتهد: اتفقوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل في النفس، فقال جمهور فقهاء المدينة تساوي المرأة الرجل في عقلها من الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى النصف من دية الرجل، أعني دية أعضائها من أعضائه. انتهى[بداية المجتهد لابن رشد (4/208)].

وقد أجمع الصحابة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، فقد روي عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم ذلك، ولم ينكر عليهم أحد، ولأن المرأة ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل فكذلك في ديتها.

وهذه الأقوال كلها تتمشى على دية قتل الخطأ لا التعمد.

وقد وُجد من الفقهاء من يقول بوجوب التنصيف في جميع أروش الشجاج والنفس، وكما حكي أيضًا عن بعض العلماء كابن عُلية والأصمّ أنهما قالا: دية الحرة كدية الرجل الحر. لقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» [رواه المروزي في السنة (236)، والبيهقي في الكبرى (16191) من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه].

قال في المغني: وهذا قول شاذ مخالف لإجماع الصحابة، ومخالف لسنة النبي ﷺ حيث قال: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ» وهي أخص مما ذكروه[المغني لابن قدامة (8/402)].

ثم ليعلم أن لقتل العمد حكمًا يخالف هذا الحكم المقتضي للتنصيف، وذلك أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَمْدًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ؛ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ» [رواه النسائي (4853)، وابن حبان (6559)، والحاكم (1447)، والبيهقي (7255) من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه].

وقال: إن الرجل يقتل بالمرأة، يعني في حالة قتل العمد، بحيث إن الواجب الأصلي من تعمد قتل المرأة وهو قتل من قتلها بطريق القصاص، إلا أن يرضى أولياؤها، فمتى لم يرض أولياء المرأة القتيلة إلا بمثل دية الرجل، فإنه يحكم لها بدية الرجل كاملة، بدلاً عن القصاص، لكون هذا يتمشى على رضا القاتل ورضا ورثة الدم، أي: أولياء القتيلة.

وإنما خص الشارع الدية بالإبل لكونها الأصل في الديات في قول بعض الفقهاء، ولأن العرب وخاصة الأعراب هم أغنى الناس بالإبل، وكانت النقود في زمنهم قليلة الوجود، ولم يهمل الشارع ذكر النقود، بل ثبت في كتاب النبي ﷺ لعمرو بن حزم المشهور أنه قال فيه: «وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ مِثْقَالٍ» [رواه النسائي (4853)، وابن حبان (6559)، والحاكم (1447)، والبيهقي (7255) من حديث ابن حزم رضي الله عنه]، ومثله ما روي عن ابن عباس أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل النبي ﷺ ديته اثني عشر ألف درهم من الفضة. رواه أبو داود والترمذي[سنن أبي داود (4546)، وسنن الترمذي (1388)، وسنن النسائي (4803)، وسنن ابن ماجه (2629)].

فهذان أصلان في الدية على القول الصحيح الراجح. وبتقدير زنة المثقال من الذهب يكون مجموع دية النفس في قتل الخطأ كالآتي: بالنسبة إلى الليرة العثمانية هو (10/5902)، وبالنسبة إلى الليرة الإنجليزية هو (10/5312) أما تقديرها بالفضة البالغ بمجموعها اثني عشر ألف درهم فضة فهي بالريال الفرنسي ألف ومائتان وثلاثون ريالاً (1230) فرنسيًّا، وحيث إن الريال الفرنسي يساوي ريالين ونصفًا فضة سعودية، فيكون مجموع الدية من الفضة هو ثلاثة آلاف وخمسة وسبعين ريالاً (3075) فضة سعوديًّا.

فهذا ملخص التقدير لدية الذهب والفضة، وقد انتقل الناس عند عدم الذهب والفضة وقلة رواجها إلى تقديرها بالعُمل الورقية المتداولة بين الناس؛ لاختلاف أسعار الذهب والفضة هبوطًا وصعودًا في كل زمان وفي كل مكان.

وقد جرى الحكم في سائر المحاكم الشرعية بالعمل بتنصيف دية المرأة في قتل الخطأ، وقد كفانا القرآن كف هذه الفتنة فقال سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[سورة النساء، الآية: 11]، وقال: ﴿وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ[سورة النساء، الآية: 176] أي: لئلا تضلوا.

فالخروج عن حدود ما رسمه الله وسنة رسول الله ﷺ يعتبر من الضلال المبين.

فهذا حاصل ما وقع الجواب عنه في تفصيل دية المرأة على حسب ما ذكرنا. والله أعلم.

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر عبدالله بن زيد آل محمود

***

وفاة الموظف في غير الدوام الرسمي هل تلزم ديته؟

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.

رئيس المحاكم الشرعية بقطر المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد؛

نرجو من فضيلتكم التكرم بالإفتاء حول موضوع المرحوم/ تقي خان - باكستاني الجنسية، الذي كان يعمل لدى الديوان الأميري بوظيفة ميكانيكي ابتداء من 24/5/1386هـ، براتب شهري قدره 600 ريال، وقد نفذ به قضاء الله بالسكتة القلبية يوم الجمعة في غير الدوام الرسمي، وهو يقود إحدى سيارات صاحب السمو أمير البلاد المفدى متوجهًا بها إلى بيته.

نرجو من فضيلتكم الإفتاء في مثل هذه الحالة من الوفيات، وعما إذا كان يترتب على الديوان من دفع دية لورثة المذكور.

وتقبلوا فائق الاحترام

(12/7/1392هـ، 22/8/1972م) رئيس الديوان الأميري عبدالرحمٰن خالد الخاطر

الجواب [رقم: 276]:

المكرم السيد/ عبدالرحمٰن خالد الخاطر... رئيس الديوان الأميري... المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله،...

بالإشارة إلى خطابكم رقم 5/258 تاريخ: 12/7/92هـ، والخاص بموضوع المتوفى- تقي خان الباكستاني الجنسية، والذي يعمل بوظيفة ميكانيكي لدى ديوان حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى، والذي وقعت وفاته فجأة بالسكتة القلبية وطلبتم الإفتاء في شأنه.

نفيدكم أن هذا الشخص والحالة هذه بطريق الشرع لا يجب على أحد ديته، إلا أن تكون بطريق التفضل والإحسان، فهذا له شأن، أحببت تعريفكم بذلك للعلم.

وتقبلوا وافر الاحترام.

(13/7/1392هـ، 23/8/1972م) رئيس المحاكم الشرعية بقطر عبدالله بن زيد آل محمود

***

دية غير المسلم

السؤال:

صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.

رئيس المحاكم الشرعية.

الدوحة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد؛

نتشرف بأن نشير إلى الموضوع أعلاه والذي صدر فيه الحكم لصالح اثنين من المصابين... ونرجو الإفادة أنه لا خلاف في الشرع على تعدد الديات/ أو الأروش بالنسبة للشخص الواحد، ونحن نتقبل بطبيعة الحال ما جاء في الحكم بهذا الخصوص... إلا أننا نلتمس من عدالة المحكمة النظر في موضوع مساواة غير المسلم بالمسلم أو تميزه في بلاد المسلم في مقدار الدية، وخصوصًا إذا كان المصاب غير كتابي أيضًا كما هو في حالتنا المذكورة.

وطبقًا لمعلوماتنا حسب ما كانت محكمتكم الموقرة تحكم به في الماضي تكون دية اليهودي أو النصراني نصف دية المسلم، فما بالكم بما هو دون النصراني واليهودي في العقيدة.

لذلك نلتمس من عدالة فضيلتكم إفادتنا بما لديكم من نعمة العلم بأحكام الشريعة السمحاء في هذا الخصوص والتكرم بإعادة النظر في الحكم الصادر في القضية.. نسألكم العذر في الكتابة ونرجو من الله التوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(13/11/1985) شركة قطر للتأمين

الجواب [رقم: 277]:

السيد/ مدير شركة قطر للتأمين المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

ردًّا على كتابكم الذي سألتم فيه عن المساواة في الدية بين المسلم والنصراني واليهودي والوثني، وما الفرق بين دية الكتابي والوثني والمسلم؟

فإليك الجواب: اعلم يا أخي أن قدماء العلماء من الحنابلة والشافعية قد فاوتوا بين دية المسلم ودية الكتابي من اليهود والنصارى؛ فجعلوا دية الكتابي نصف دية المسلم... لكن لرجحان المساواة بين الجميع كما حكم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فنجعل دية الكتابي (يهوديًّا أو نصرانيًّا) مثل دية المسلم، لدخوله في البلد بالأمان من الحاكم، فاستحق المساواة مع المسلم في الدية، وهذا هو الذي نحكم به ونعتقد صحته وصوابه... لهذا يتساوى الوثني والكتابي مع المسلم في الدية والأروش على حد سواء.

أحببت تعريفكم بذلك للعلم به كي لا يخفى.

(4/3/1406هـ، 16/11/1985م) رئيس المحاكم الشرعية عبدالله بن زيد آل محمود

***

مقدار الدية وتحديدها بالنقد

السؤال: لماذا حددتم الدية بستة عشر ألفًا؟

الجواب [رقم: 278]:

الدية مقدرة بالإبل وبالبقر وبالغنم وبالذهب وبالفضة، وأصح تقدير لها هي مائة من الإبل، ولهذا جرى تقدير الشجاج (الجراح في الرأس) بالإبل، وكأنها الأصل في الدية كما هو اختيار كثير من الفقهاء، غير أن الإبل قد غلت عن أيامها السابقة، وقد قدرنا الدية بستة عشر ألفًا لكونها وسطًا بين التقديرات، ومجاراة للبلاد السعودية المجاورة حيث إن الدية عندهم ستة عشر ألفًا [هذا السؤال من أسئلة طلبة المعهد الديني في 1384هـ (1965م)].

***

هل يجوز تفاوت الديات بتفاوت المقامات؟!

السؤال: هل يجوز مضاعفة الدية إذا كان المقتول شخصية ممتازة في علمها وأثرها مثلاً؟

الجواب [رقم: 279]:

لا يجوز، لأن النفس الإنسانية واحدة، «وَالْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» [رواه أبو داود (4530)، والنسائي (4734) من حديث علي رضي الله عنه] كما في الحديث.

***

كتاب القضاء
أسئلة عن مجلة الفجر القطرية الصادرة في 19 رمضان 1396هـ (13/9/1976م)

القضاء الشرعي والقضاء المدني

السؤال: فضيلة الشيخ.. لدينا الآن قضاء شرعي، وآخر مدني، ما هو الفرق بين كل منهما؟ وإلى أي مدى يمكن التوحيد بينهما؟

الجواب [رقم: 280]:

قال الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية:

القضاء الشرعي هو الكافي الوافي الشافي.. مبني على الأمانة وعلى محاولة راحة الناس وقطع النزاع عنهم.. لكن الناس في هذا الزمان بمثابة ما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة، فإن لم يرض فأعطه جمرة.

إن المحاكم الشرعية - وخاصة في هذه البلاد - هي راحة ورحمة للعباد والبلاد.. مفتوحة أبوابها.. ويعاملون الناس بالإخلاص والنصح والأمانة والدين.. وما كان الدين في شيء إلاّ زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

والدين هو الذي نظم حياة الناس، وبقواعده يجب أن يحكم، وإلى أصوله يجب أن يحتكم.

***

حكم اتهام الشريعة بعدم مناسبتها لروح العصر

السؤال: علماء الاجتماع وضعوا أصولاً جديدة للعقاب.. وأصبحت العقوبات التي تنص عليها الشريعة غير ذات بال في نظرهم، بل إنهم يتهمونها بعدم مناسبتها لروح العصر؟

الجواب [رقم: 281]:

حاشا لله.. يكفي أنها من عند الله العليم بنفوس خلقه.. العالم بما يصلح أحوالهم.. ومهما ادعوا من العلم فهم جهلاء.. الأمن لا يستتب بالسجون.. ولا باستبدال حدود الله التي شرعها بعقوبات أخرى وضعها الناس تحت مسمى وهو «حماية المجتمع وصيانة أمنه».. الشريعة مبنية على محاربة الجرائم وعلى تقليلها.. لأن الشريعة الإسلامية قائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد.. فدعوى بعض الملحدين في الحكم بالقصاص، أو في الحكم بقطع يد السارق، أو جلد الزاني وشارب الخمر.. إنها عقول مريضة فاسدة لا تعرف الحق من الباطل.. فإن إقامة الحد بالقصاص من القاتل، وبقطع يد السارق لهو مما يضفي الأمان والاطمئنان على البلاد، ويردع كل من يفكر في تعكير صفو المجتمع وأمنه.. كما أن المضار الجزئية الفردية الناتجة عن مثل قتل القاتل أو قطع يد السارق تغتفر في جنب المصالح العمومية، وهذه قاعدة فقهية.. وقديمًا قالوا: (من مات في حق فالحق قتله). و(من أمن العقوبة أساء الأدب).

أما في ظل القوانين المدنية.. فمن يستطيع أن يدعي أن السجون قللت من انتشار الجرائم أو ردعت مجرمًا عن جريمته؟!

بل الأدهى من ذلك أن هذه القوانين المدنية كثيرًا ما تتيح للمجرم أن يفلت من جريمته بدعوى أن التفتيش باطل، أو أن القبض على المجرم تم دون إذن من السلطات المختصة، وهكذا حتى لو كان المجرم متلبسًا بجريمته!

***

تحكيم الشريعة يقضي على الخلافات بين العرب

السؤال: الخلافات العربية تفرض نفسها الآن على الساحة.. كيف السبيل للخروج من هذه المحنة؟

الجواب [رقم: 282]:

في رأيي أن لهذا السؤال علاقة بالسؤال السابق.. إن ما نراه الآن على الساحة العربية يؤلمنا أبلغ الألم.. وليس لدي رد أو تعليق إلا دعوتي للحكام العرب بأن يعودوا إلى شريعة الله.. وأن يحتكموا إليها في كل شؤونهم.. إنهم يقولون إنهم يحكمون بالشريعة وبما أنزل الله.. ولكن قلّ من يفعل ذلك منهم.. كلهم يتنادون بالشريعة ولكن بلا تنفيذ.. كل الدساتير تؤكد أن الشريعة الإسلامية هي مصدرها الأساسي ولكن ذلك لا يتعدى مجرد الشعار.. وليعلموا أن السبب الذي شتت شملهم وألقى العداوة بينهم وفل حدّهم، هو خروجهم عن شريعة دينهم وتحاكمهم إلى القوانين التي وضعها غيرهم من البشر.. إنهم لا يحكمون بشريعة الله.

كما أنني أدعوهم إلى التدبر والتفكر فيما جرى ويجري في لبنان.. وأن يتدبروا أيضًا قول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ[سورة الأنعام، الآية: 65]، وقوله سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون ١١٢[سورة النحل، الآية: 112] صدق الله العظيم.

***

حكم الاستشهاد بالصور الفوتوغرافية وأشرطة التسجيل في الإثبات

السؤال: عند محاولة الكشف عن جريمة، هل يقبل الاستشهاد «بصورة فوتوغرافية»؟ أو شريط مسجل؟

الجواب [رقم: 283]:

البينة هي كل ما يبين الحق، وتقبل الصورة إذا كان التزوير فيها غير ممكن، ولا يقبل الشريط المسجل ما دام يمكن تقليد الصوت.

***

الاعتماد على الكلب البوليسي في الإثبات

السؤال: هل يعتمد القاضي على بيان الكلب البوليسي في الكشف عن الحقيقة؟

الجواب [رقم: 284]:

لا يعتمد. وغير مقبول.

***

تراجع القاضي عن الحكم إذا تبين له وجه الصواب

السؤال: هل يتراجع القاضي في حكم إذا تبين له وجه الصواب؟

الجواب [رقم: 285]:

نعم يتراجع ما لم يكن قد نفذ الحكم فعلاً. وقد حدث بالفعل؛ لأن الحق رائد المؤمن، وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى: «ولا يمنعك قضاء قضيت به بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وعدت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل» [رواه الدارقطني (4471)، والبيهقي (20537)].

***

مدى مسؤولية المحكمة عن تنفيذ الأحكام

السؤال: المحكمة تصدر الأحكام فهل هي مسؤولة عن تنفيذها؟

الجواب [رقم: 286]:

المحكمة تصدر الأحكام وفق كتاب الله وسنة رسوله، ولكنها غير مسؤولة عن التنفيذ أو عدمه، وإنما تلاحظ ذلك بحسب استطاعتها.

***

من غرائب القضايا

السؤال: ما أغرب مشكلة أو قضية صادفتكم؟

الجواب [رقم: 287]:

الغرائب كثيرة، هاكم إحداها:

رجل ذو مال وفير وله عدد من الأبناء، خص أحدهم بمال فكان يمده به كلما احتاج إلى استيراد سلع من الخارج ليبيعها، وبقي الحال على ذلك مدة طويلة من الزمان والابن يتاجر بمال أبيه في البضائع وبيعها، وفي هذه الأثناء كانت هناك مراسلات بين الابن والأب، وكان الابن في كل مراسلة يطمئن أباه: إنه حريص على ماله أمين يبذل جهده لتنميته وتكثيره.

وفي أحد الأيام طلب الابن من أبيه في استدراج وإغراء أن يكتب له كل ماله ففعل الأب، وكتب كل ما يملك من مال وبيت لهذا الابن دون سائر إخوته، ولكن الابن بعد فترة وجيزة لم يقنع، وأخذ يحاول إخراج أبيه كذلك من ملكيته لأي شيء بموجب ما لديه من مستندات.

ولما عرضت القضية على المحكمة، وعندما قدم الوالد الرسائل التي كان يتلقاها من الابن وفيها من الاعتراف والإقرار ما يكفي للكشف عن الحقيقة، حكمنا بالمال للأب.

وأرى أن هذه حالة غريبة، من ولد خصه أبوه دون إخوته - مخالفًا الشرع - وأن يؤثره بما يملك، وكان الجزاء أن الابن لم يقدِّر ولم يبد إلا العقوق!

وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرًّا وكن منها على حذر

***

كتاب الحجر

السن القانوني للتصرف بالمال

السيد/ مدير البنك الشرقي المحدود المحترم.

البنك الشرقي المحدود، الدوحة..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد:

فقد تلقينا كتابكم المؤرخ في 21/6/1971 وأشرتم إلى طلب إعلامكم بالسن القانوني الذي يتمكن به الشخص من الاستيلاء على أمواله والتصرف فيها.

الجواب [رقم: 288]:

إن اليتيم ما دام في سن خمس عشرة سنة، فإنه محجور عليه في ماله لمصلحته، وبعد هذه السن ينظر في رشده وكمال عقله، فمتى ثبت أنه عاقل رشيد يحسن التصرف في ماله بحفظه وتنميته، دفع إليه ماله وزال الحجر عنه، أما إذا كان أبله، أي: ضعيف العقل، لا يحسن حفظ ماله فيحجر عليه، ولو كان ابن أربعين سنة، ونحن في دائرة عملنا في المحاكم الشرعية لا ندفع لأي أحد ماله إلا بعد اختبار حاله، بحيث يشهد عندنا شاهدان عدلان ممن يعرفانه تمام المعرفة، فيشهدان أنه عاقل رشيد، ونبني العمل على شهادتهما.

لهذا أحببت تعريفكم بذلك للعلم به كي لا يخفى.

(29/4/1391هـ، 23/6/1971م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

كتاب الدعاوى

لا تصح الدعوى إلا محررة معلومة للمدعى به

السؤال:

التاريخ: 19/11/1384هـ.

الحمد لله، ما قول العلماء الأعلام في رجل يدعى محمد بن حمد بن مقيم من سكنة حوطة بني تميم، وقد توفي في مقاطعة الظهران عن غير وارث بفرض أو تعصيب ما عدا ورثة من ذوي الأرحام، وهم ابنة أخ لأب وأبناء ابنة أخت لأم، وشهد أناس بأن هذا المتوفى هو من قبيلة بني لحيان، وقد أقامت هذه القبيلة الدعوى يطالبون بإرث هذا المتوفى اعتمادًا على هذه الشهادة بدون أن يعرف أحد منهم اتصاله بنسبه واجتماعه به في درجته، فهل يكون إرثه لذوي رحمه أو لهذه القبيلة التي تدعي نسبه؟ أفتونا مأجورين.

الجواب [رقم: 289]:

الحمد لله، لقد نص الفقهاء على أنها لا تصح الدعوى إلا محررة معلومة للمدعى به، فمن ادعى إرث شخص فلا بد أن يذكر سببه واتصاله بنسبه واجتماعه به في درجته؛ لأن هذا هو السبب الذي يصح أن يتوصل به إلى حصول مقصده من حيازة إرثه أو مستحقه من تركته، فلا يقبل من المدعي قوله: مات فلان ونحن ورثته، أو ونحن قبيلته، لأن هذه الدعوى تعتبر غير محررة فلا تستحق أن تسمع، وقد نص الفقهاء على أنه متى عرف نسب إنسان من قبيلة ولم يعرف من أي بطونها لم يرثوا ولم يعقلوا عنه.

قال في الإقناع وشرحه: وإن عرف نسب قاتل من قبيلة ولم يعرف من أي بطونها لم يعقلوا عنه؛ لأنهم لا يرثونه، انتهى.

ويدل لذلك حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» متفق عليه[صحيح البخاري (6732)، وصحيح مسلم (1615)]، ومعنى أولى يعني أقرب، كما يقال: فلان أولى للميت من فلان، فالعلم بالقرب يعد من شروط الإرث، قال في ألفية الفرائض:

وعلم قاض جهة التوارث
والقرب بين ميت ووارث

أي: أن من شروط الإرث العلم بالدرجة التي يجتمع مع الوارث فيها، كما يسمونه بالسبب، فلا يقبل القاضي الشهادة المطلقة بأن فلانًا هو الوارث لفلان بدون تفصيل وبدون علم منه بالتأصيل، كما لا تسمع الدعوى العارية عن التسلسل إلى درجة من يدعي بإرثه، ومن لم يتفقه في هذا أضاع على الناس حقوقهم وحكم لأناس بما يستحقه الآخرون، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

ثم إن بني لحيان قبيلة قديمة من قبائل هذيل لا تزال تسمى بهذا الاسم زمن النبي ﷺ، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن رسول الله قضى في جنين امرأة من بني لحيان، وهم الذين أرسل إليهم النبي ﷺ القراء من الصحابة ليعلموهم فقتلوهم، فقنت عليهم النبي شهرًا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية عصت الله ورسوله[قضية الجنين في صحيح البخاري (6740)، وصحيح مسلم (1681)، والقنوت على الذين قتلوا القراء في صحيح البخاري (4090)، وصحيح مسلم (677) من حديث أنس رضي الله عنه].

ولعل الموجودين في بعض قرى الأفلاج من بقاياهم، ومعلوم أن القبيلة إذا تقادم عهدها تشعبت عن أفخاذ عديدة، وقد يدخل فيها من ليس من أصلها، إما بطريق التحالف أو التناصر أو بالمصاهرة أو المجاورة، كما يوجد في كثير من قبائل العرب من ينتسب إلى قبيلة وينسبه الناس إلى غيرها، كما زعموا بأن المتوفى المذكور أوصى بأن أقرب الناس إليه هم قبيلة الشثور من أجل أنه تربى وسط بيوتهم فانتسب إليهم، وقد تبرأ الشثور منه ومن تركته من أجل أنهم قحطانيون وهو من بني لحيان هذيل حسبما زعموا.

والحاصل أن كل من ادعى إرث شخص كهذا أو غيره بدون أن يعرف قربه منه واجتماعه به في درجته فإنه لا حقيقة لحجته؛ لأن من شرط صحة سماع الدعوى كونها تنفك عما يكذبها، وقد قدمنا أقوال الفقهاء في أن من ادعى إرث شخص فلا بد أن يذكر سببه واتصاله بنسبه واجتماعه به في درجته، كما ذكرنا عبارة الإقناع وشرحه في أن من عرف نسبه من قبيلة ولم يعلم من أي بطونها فإنهم لا يعقلون عنه لأنهم لا يرثونه، ذكر ذلك في باب العاقلة وما تحمله، وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، «وَلَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» [أوله عند البخاري (4552)، ومسلم (1711)، وآخره عند البيهقي في الصغرى (3386) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]، والبينة اسم لما يبين الحق ويوضحه ويجعله في حيز التجلي.

إذا ثبت هذا؛ فإن المسؤول عنه متى لم يثبت اتصال أحد من المدعين بنسبه واجتماعه به في درجته فإن إرثه ينتقل إلى ذوي رحمه الذين يدلون إليه بقرابة قريبة معقولة، حيث لم يوجد من يحجبهم، لأن توريث ذوي الأرحام ثابت بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله: ﴿وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ[سورة الأنفال، الآية: 75]، وهو شامل لسائر القرابات ممن يرث بفرض أو تعصيب أو ذي رحم، وأما السنة ففي حديث المقدام بن معديكرب أن النبي ﷺ قال: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان[مسند أحمد (17175)، وسنن أبي داود (2899)، وسنن ابن ماجه (2634)، وصحيح ابن حبان (6035)، ومستدرك الحاكم (8002)]، وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح للعمل بموجبه[مسند أحمد (189)، وسنن الترمذي (2103)].

فينزل كل واحد منهم منزلة من أدلى به، فتنزل بنت الأخ للأب منزلة الأخ للأب، وينزل أولاد بنت الأخت للأم منزلة الأخت للأم، حتى كأنه توفي عن أخ لأب وأخت لأم، فيكونون والحالة هذه أحق بإرثه من تلك القبيلة التي تدعي فيه، وهي لا تعرف قربها منه ولا اتصالها بنسبه، فيكون وجودهم كعدمه.

وأما قصة الخزاعي؛ وهو أن رجلاً توفي من خزاعة فأعطى النبي ﷺ إرثه الكبر من خزاعة[رواه أبو داود (2904)، والنسائي في الكبرى (6361) من حديث بريدة رضي الله عنه] فمحمول على عدم من يدعي إرثه بنسب أو ذي رحم، لعدم ذكرهما في الحديث، فيكون إرثه لبيت المال، وقد أعطاه النبي ﷺ الكبر من خزاعة فلا يقاس عليه.

هذا حاصل جواب ما وقع السؤال عنه، حررته للعلم به، وللغائب حجته، وبه جرى التسجيل بموجبه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قاله رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

كتاب الأدب

واجب رب الأسرة تجاه زوجه وبناته لجهة تبرجهن

السؤال: ما الواجب على راعي الأسرة تجاه ما يلبسه زوجه وبناته وتبرجهن تقليدًا للأجانب؟ [7/283]

الجواب [رقم: 290]:

قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون ٦[سورة التحريم، الآية: 6] يقول بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ فأصغ لها سمعك، فإنها خير تؤمر به، أو شرٌّ تنهى عنه.

يأمر الله عباده بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار، فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نَحَل رجل أهله أفضل من أن ينحلهم أدبًا حسنًا يهذبهم به على الصلاح والصلاة والتقى، ويردعهم عن السفاه والفساد والردى. والرجل راع على أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وعلى أولادها وبناتها ومسؤولة عن رعيتها.

فمتى كان الرجل راعيًا على أهله، فمن واجبه أن يرعاهم بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وأن يجنبهم منكرات الأخلاق والرذائل، ويأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه، حتى يتربوا على محبة الصلاة؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه؛ ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح أمر دنياه وآخرته؛ وهذا يعد من الجهاد في سبيل الله.

وكذلك المرأة من واجبها أن تربي بناتها على الستر والصيانة، وعلى الأمر بالطهارة والصلاة والطاعة، وأن تجنبهن عوائد التكشف والخلاعة؛ وهذا كله يعد من واجب أمانة التربية.

إن الله سبحانه خلق الناس متفاوتين، فمنهم المسلم، ومنهم الكافر، ومنهم التقي، ومنهم الفاجر، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسق، فمتى تُرك الفاجر يتظاهر بفجوره وإلحاده، والفاسق يتظاهر بفسقه وفساده، بمرأى من الناس ومسمع، فإن هذا - والله - غاية الفساد للمجتمع؛ لأن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل. يقول الله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ١٦[سورة الإسراء، الآية: 16]، والمراد بالهلاك هنا، هلاك الأخلاق؛ لكون هلاك الأخلاق أضر من هلاك الأبدان؛ لأن بقاء الأمم ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا؛ أو لأن الناس متى تركوا المنكرات تظهر وتشتهر بدون مانع ولا رادع، فإنه مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير، وغايته أن يغرق الناس في الفساد بطريق العدوى، والتقليد الأعمى من بعضهم لبعض، فيزول بها الإحساس عن الناس.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بفنون الكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق؛ لأن إدمان رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ ولأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

لهذا يجب تمرين البنات الصغار فضلاً عن الكبار على اللباس السابغ الساتر، حتى تشب إحداهن على محبته. ومن شب على شيء شاب على حبه.

وقد أخبر النبي ﷺ بأنه «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» [رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (43)، وأحمد (17142) عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه]. وصدق الله ورسوله، فقد رأينا اختلافًا كثيرًا في الأخلاق، واختلافًا كثيرًا في العقائد والأعمال.

فمن هذا الاختلاف؛ أننا مكثنا أزمانًا طويلة ونحن نرى النساء في هذه البلدان يتمتعن بحالة مُرْضِية، وأخلاق كريمة زكية، رأيناهن حتى الصغار منهن يرفلن في حلل ساترة، وثياب واسعة سابغة، تغطي بها جميع جسمها، وتغطي بالخمار الساتر جميع رأسها ورقبتها، تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه من واجبات دينها، وأنه شرط لصحة صلاتها، وأن إسباغ الستر عليها هو عنوان شرفها وفضلها، وعلامة مجدها وظرفها، فلو رأين من تبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى الركبة وإلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس بغير خمار؛ لابتدرنها بالضرب فضلاً عن السب، ولحسبنها ساقطة شرف ومروءة، عديمة خلق ودين، ليست من نساء المسلمين؛ لأنها لبسة منكرة، وفاحشة مشتهرة، مجها العقل فضلاً عن الدين.

وفي هذا الزمان؛ لما كثر اختلاط النساء المسلمات بالنساء المتفرنجات، من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، طفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة القبيحة، لبسة العراء والعار، ولبسة الذل والصغار، ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، «وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» [عن ابن عمر وحذيفة وأنس مرفوعًا وعن الحسن مرسلاً وعن عمر موقوفًا]، وأخذت هذه اللبسة المزرية تسري في بيوت الأسر والعوائل، على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى، يتحلى بها الكبار، ويتربى عليها الصغار، وأرباب البيوت ساكتون واجمون لا يغيرون شيئًا من هذه الأزياء من كل ما تشتهيه النساء.

وساعدهم على هذا التكشف، كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة التي هي بمثابة الدروس للرؤوس، وتعمل في الأخلاق عمل الخمر للنفوس، وقد قيل: حسبك من شر سماعه. فما بالك برؤيته؟!

فيا معشر النساء المسلمات؛ إن الله سبحانه شرفكن بالإسلام، وفضلكن به على سائر الأنام، متى قمتن بالعمل به على التمام. وإن المرأة بأخلاقها واعتدالها، لا بزيها وجمالها، فالزمن لباس الشرف، لباس الحشمة والفضيلة، وهو اللباس السابغ الساتر، لباس الجلال والجمال، لباس الحياء والوقار، لباس التقيات الأطهار، ولا ينجرف بكن الهوى، والتقليد الأعمى، إلى مشابهة نساء الكفار، فحذار حذار أن تكن من نساء أهل النار اللاتي وصفهن رسول الله ﷺ بأنهن الكاسيات العاريات، والمائلات المميلات، لا يجدن عرف الجنة - يعني ريحها[رواه مسلم (2128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]- فللمسلمة دينها وسترها، وللكافرة خلاعتها وكفرها، ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ[سورة البقرة، الآية: 221].

إن في كتاب الله لأعظم مزدجر عن هذا المنكر بقول الله: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ[سورة الأحزاب، الآية: 59] ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[سورة النور، الآية: 31] فأمر الله نساء نبيه وبناته ونساء المؤمنين بالتبع، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملحفة الواسعة، تشبه الرداء، تغطي بها جميع جسمها حتى لا يبدو منه شيء.

ثم قال: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ والخمار من شرطه أن يستر ما تحته من الشعر والصدر والرقبة والقلائد، ويتأكد ذلك في الصلاة، بحيث يجب على المسلمة أن تستر جميع بدنها في الصلاة حتى ولو كانت في دار مظلمة أو بالليل، وتستعمل الخمار الثخين الذي يستر ما تحته من الشعر والرقبة، لقول النبي ﷺ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ - أي: امرأة بالغ - إِلَّا بِخِمَارٍ» [رواه أبو داود (641)، وابن ماجه (655)، وأحمد (25167) من حديث عائشة رضي الله عنها].

والخمار الشفاف الرقيق الذي لا يستر ما تحته من الشعر والرقبة، فإنها لا تصح الصلاة فيه، إلا أن تجعل فوقه ثوبًا أو رداء يستر ما تحته.

وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة الأحزاب، الآية: 33]، فهذا والله الخطاب اللطيف، والتهذيب الظريف، يأمر الله نساء نبيه، ونساء المؤمنين، بأن يقرن في بيوتهن؛ لأن أشرف حالات المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمهنتها، من خدمة بيتها وتربية عيالها، لا يكثر خروجها واطلاعها؛ لأن ثقل القدم من المرأة جلال، وكثرة الخروج والدخول مهانة؛ ويعرضها للتهمة والريبة، وقد وصف الله نساء أهل الجنة بما تتصف به العفائف الحرائر في الدنيا، فوصفهن بالبيض المكنون، وقاصرات الطرف، ومقصورات في الخيام، ثم قال: ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ التي نهى عنها القرآن، هو ما يفعله النساء في بعض البلدان، من إظهار مفاتن جسمها، بحيث تبدي يديها إلى العضد والآباط، ورجليها إلى الركبة أو إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس بغير خمار، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، ولم يكن معروفًا في نساء المسلمين، وإنما هو من زي نساء النصارى والعجم.

وفي هذا الزمان: أخذ نساء العرب يزدن في الخلاعة والتكشف على نساء النصارى، وعلى تبرج الجاهلية الأولى.

وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها، أوغلت في التبرج، وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، وقد ابتليت بهذا الشباب الطائش الذي يفتخر أحدهم بخلاعة زوجته، وبتبرجها بالأسواق بزيها المزري المخزي، وربما ذهب بها إلى أصدقائه من الأغيار الأجانب، ليمتعهم بالنظر إليها، ونظرها إليهم، ويربط علاقة الصداقة بينها وبينهم، فيوقعها في الفتنة والافتتان بها، وهذا يعتبر غاية في سقوط المروءة والشرف، وذهاب الحياء والغيرة.

من يهن يسهـل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام

إنه ما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع، ومن العصمة أن لا تقدر، وكم نظرة أثارت فتنة، وأورثت حسرة، وأشعلت في القلب محنة.

إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها
أكلت بلا عوض ولا أثمان

***

السلام تحية أهل الإسلام

السؤال: ما أهمية تحية السلام بين المسلمين، وما قولكم لمن يدخل على الناس ولا يسلم؟ [7/319]

الجواب [رقم: 291]:

ثبت في صحيح مسلم، أن النبي ﷺ قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» [صحيح مسلم (2162) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فهذه من حقوق المسلم على المسلم، وكلها تستدعي المودة والانسجام بين الإخوان.

يقول عبدالله بن سلام: لما قدم النبي ﷺ المدينة انجفل الناس عنه، فلما رأيت وجهه، علمت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ» [رواه الترمذي (2485) وقال: حديث صحيح، وابن ماجه (1331)، وأحمد (23784)].

وقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذْا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [رواه مسلم (54)، وأبو داود (5193)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وسأل رجل النبي ﷺ فقال: أي الإسلام خير؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» [رواه البخاري (12)، ومسلم (39) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما].

وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان، الإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار[صحيح البخاري (كتاب الإيمان/ باب إفشاء السلام من الإسلام) معلقًا، وأسنده الخلال في السنة (1615) من طريق الإمام أحمد].

وفي الأثر: «السَّلَامُ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، فَأَفْشُوهُ فيما بَيْنَكُمْ» [رواه الطبراني في الأوسط (3008)، وضعفه البيهقي في الشعب (11/200-8405)].

وفي معناه الدعاء بالسلامة على كل من سلمت عليه، كما يدعو لك بمثل ذلك.

وهو تحية أهل الإسلام من لدن خلق الله آدم إلى يوم القيامة، لما في البخاري ومسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفْرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - وَانْظُرْ مَا يُحَيُّونَكَ بِهِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَذَهَبَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ» [صحيح البخاري (3326)، وصحيح مسلم (2841) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

كما أن السلام تحية أهل الجنة، ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ١٠[سورة يونس، الآية: 10] وأخبر النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ» [رواه أبو عبيد في الإيمان (3)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (405)، والطبراني في مسند الشاميين (429)، وأبو نعيم في الحلية (5/217) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فأخبر أن من خصال الإسلام؛ هو أن تسلم على من لقيت من المسلمين. فإذا أتيت أهل مجلس فسلم عليهم، وإذا أردت أن تقوم فسلم عليهم، فليست الأولى بأحق من الثانية.

ثم قال: «وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ»؛ لأنه إذا بدأ أهل بيته بالسلام، دخلت في البيت البركة والرحمة وحفت أهله الملائكة، وقد قال النبي ﷺ لأنس: «يَا بُنَيَّ، إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» [رواه الترمذي (2698) وقال: حديث حسن غريب]؛ لأن الله وصف السلام بأنه تحية مباركة طيبة، فقال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً[سورة النور، الآية: 61]، لأن من سلم على أهله فقد سلم على نفسه، وقال: «ثلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيْلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ» [رواه أبو داود (2494)، والبخاري في الأدب المفرد (1094) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه].

وقد أهمل الناس العمل بهذه السنة، وحرموا أنفسهم دخول البركة في بيوتهم، وأكثرهم إذا دخل بيته بدأ بالسب واللعن لكل من يلقاه من أهله وأولاده، ومن لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه، ولعن المؤمن كقتله.

وكان السلام في عهد الإسلام بمعنى الأمان والاطمئنان، بمعنى أنك إذا سلمت على إنسان فرد عليك السلام، فقد دخل في عهد وأمان من أن تناله بسوء، وفي بعض الغزوات قصد بعض الصحابة صاحب غُنيمة ظنوه من المشركين، فلما أقبلوا عليه بدأهم بالسلام وقال: السلام عليكم، فلم يردوا عليه السلام، وقالوا: إنه لم يسلم علينا إلا ليحرز عنا غنمه، فأخذوا الغنم، واستاقوه معهم، وسبقهم القرآن بنزوله على رسول الله، وسبحان من وسع سمعه الأصوات، وسبحان المطلع على الأسرار والخفيات، علم الله ما وقع لصاحب هذه الغنيمة، فأنزل الله ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ - أي: تثبتوا - ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا - كما قلتم لصاحب هذه الغنيمة - ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - أي: لأجل طمعكم في أخذ الغنم - ﴿فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ - أي: كنتم كفارًا من قبل فمنّ الله عليكم بالإسلام وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام - ﴿فَتَبَيَّنُوا[سورة النساء، الآية: 94] أي: تثبتوا، وهذه الآية بمثابة التهذيب والتأديب للعباد في الأمر بالتثبت في جميع أمورهم، لئلا يغلطوا مع أحد، فيأخذوه بغير حق، نظيره قوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين ٦[سورة الحجرات، الآية: 6].

فالقرآن قد نظم حياة الناس أحسن نظام، وهذبهم في حسن التعامل مع الناس في الأفراد والجماعات، وأخبر أن لكل داء دواء، وأن السلام هو الذي يثبت دعائم الإخاء، ويزيل الإحن والبغضاء، فقال الرسول ﷺ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ». قالوا: وما الحالقة؟ قال: «حالِقَةُ الدِّينِ لَا حالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحابُّوا، أَوَلَا أنبئكم بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [رواه أحمد (1412)، والترمذي (2510)، والطيالسي (190)، وأبو يعلى (669)، والبيهقي في الكبرى (21065) عن الزبير رضي الله عنه].

***

الهجر بين المسلمين

السؤال: هل يجوز للمسلم هجر أخيه بالسنة أو أكثر، لا يسلمان على بعضهما ولا يتزاوران؟ [7/322]

الجواب [رقم: 292]:

حث القرآن على السعي بالإصلاح بين المتباغضين، والتقارب بين المتباعدين، خصوصًا إذا كانوا من ذوي الأرحام؛ لأن العداوة بينهم أشق، وإثم القطيعة بينهم أشد، وفي الحديث: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» [رواه البخاري (6077)، ومسلم (2560) عن أبي أيوب رضي الله عنه].

فأخبر بأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال على أثر لجاج أو جدال أو شيء من محقرات الدنيا، وأن خير الناس هو الهين اللين السهل الذي يبدأ من لقيه بالسلام، ويسلم على من هجره ليزيل الإحن والشحناء عن قلبه، ومن تواضع لله رفعه، وما جازيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وأشقى الناس وأقساهم قلبًا؛ رجل قيل له: اتق الله على رحمك، أو على أخيك المسلم. فقال: اكتف بنفسك.

«وهجر المسلم أَخَاهُ سَنَةً كَسَفْكِ دَمِهِ» [رواه أبو داود (4915)، وأحمد (17935) بإسناد صحيح عن أبي خراش السلمي أنه سمع النبي ﷺ يقول: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه»]، فلا يجوز لرجل أن يهجر أخاه المسلم من السلام، إلا أن يرتكب معصية فيهجره بسببها رجاء أن يتوب منها.

***

هجر المجاهر بالمعصية

السؤال: هل يجوز هجران من يجاهر بارتكاب المعصية رجاء هدايته؟

الجواب [رقم: 293]:

يجوز للمسلم أن يهجر من يرتكب المعصية رجاء أن يتوب منها. وفي هذا يقول الناظم:

وهجران من أبدى المعاصي سنّة
وقد قيل إن يردعه أوْجِب وأكِّدِ

لكن من هدي النبي ﷺ أنه لا يستعمل الهجر إلا في الحالات التي يرى أنه ينفع وينجع فيها، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد معه، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الصحابة[ينظر القصة في صحيح البخاري (4418)، وصحيح مسلم (7192)].

وكما هجر الرجل الذي بنى له عليّة تشرف على بيوت الناس، ولم يسلم عليه حتى هدمها.

أو كما هجر الرجل المتضمخ بخلوق الزعفران، ولم يسلم عليه حتى غسله عنه؛ لأن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، كالزعفران والحناء.

وكما هجر المتختم بالذهب فلم يرد عليه السلام، فقال لبعض من حضر من الصحابة: ما بال رسول الله ﷺ لم يرد عليّ السلام؟! فقالوا له: اذهب فاطرح عنك الذهب وأته، فسلم عليه، فإنه سيرد عليك السلام. فذهب، فنزع عنه الذهب، ثم جاء فسلم على النبي فرد عليه السلام، وقال: «إِنَّكَ جِئْتَنِي وَعَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ» [روى النسائي (5188)، وأحمد (11109) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه، وفيه: «إِنَّكَ جِئْتَنِي وَفِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ»].

فهذا هو الأمر الثابت عن رسول الله ﷺ في استعمال الهجر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الهجر بمثابة التعزير والتأديب، يستحب استعماله عند تحقق نفعه، أما إذا كان لا يزيد المهجور إلا عتوًّا ونفورًا، وإلا تمردًا وشرورًا، فإنه لا يستعمل والحالة هذه.

***

حكم رد السلام على اليهود والنصارى

السؤال: ما الحكم في رد السلام على من سلم علينا من اليهود أو النصارى؟

الجواب [رقم: 294]:

كان النبي ﷺ يرد السلام على كل من سلم عليه من اليهود والنصارى والمنافقين، ويقول: «لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ» [رواه مسلم (2167) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وفي رواية متفق عليها عن أنس: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» [صحيح البخاري (6258)، وصحيح مسلم (2163)].

ولما استأذن رجل على النبي ﷺ قيل - عيينة بن حصن الفزاري - وكان أحمق مطاعًا في قومه، قال النبي: «ائْذَنُوْا لَهُ، فَبِئْسَ أَخُو العَشِيْرَةِ هُوَ»، فلما دخل ضحك النبي ﷺ في وجهه وانبسط إليه، فلما خرج، قال له بعض نسائه: إنك قلت بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل رأيناك ضحكت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال: «هل تجديني فحاشًا! إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه» وفي رواية: «اتقاء شره» [رواه البخاري (6032)، ومسلم (2591) من حديث عائشة رضي الله عنها].

فهؤلاء من اليهود والنصارى والمنافقين، لم يستعمل الهجر معهم لعلمه أنه لا ينفع فيهم، ومثله سائر أهل الملل والنحل المبتدعة، كالشيعة ونحوهم، فإن الهجر لا ينفع معهم، ولا يثنيهم عن عقيدتهم، فيجوز أن تسلم عليهم، وأن ترد عليهم السلام.

***

حكم اتخاذ سؤال الناس مهنة

السؤال: ما حكم من يتخذ سؤال الناس مهنة لتكثير ماله؟ وما حكم من يرد السائل؟ [6/183]

الجواب [رقم: 295]:

من المعلوم أنه لا رذيلة أعظم من سؤال الناس؛ لأن السؤال يذهب بماء الوجه. وأخبر النبي ﷺ أن «المسألة كَدٌّ يكُدُّ بها الرجل وجهه إلا أن يسأل سلطانًا، أو في أمر لا بد له منه» [رواه أبو داود (1639)، والترمذي (681)، والنسائي (2600)، وأحمد (20106)، وابن حبان (3386)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه].

وأخبر أن الذي يسأل الناس تكثرًا يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مزعة لحم[انظر: صحيح البخاري (1474)، وصحيح مسلم (1040)].

وقال: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» [رواه البخاري (1471) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه].

وقد أقسم النبي ﷺ على ثلاث خصال فقال: «وَمَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ لِلنَّاسِ، إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» [أوله عند مسلم (2588)، وآخره عند أحمد (9421) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وبنحوه عند أحمد (1674) من حديث عبدالرحمٰن بن عوف رضي الله عنه].

وهذا أمر واقع ما له من دافع. ولهذا يقال: شر الكسب السؤال. ويقال: آخر الكسب السؤال.

فواجب المسلم أن يصون ماء وجهه عن سؤال الناس: «وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ» [رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].

و«مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» [رواه البخاري (1473)، ومسلم (1045) من حديث عمر رضي الله عنه].

فهؤلاء الذين يسألون الناس حيث اتخذوا مسألة الناس لهم مهنة ومكسبًا، وعندهم نقود مودعة عند التجار أو في البنوك، فهؤلاء يعتبرون مخطئين ضالين؛ لأن مسألة الناس حرام إلا في حالة الضرورة، لأن «مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» [رواه مسلم (1041) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

أما إذا كان مضطرًّا وليس عنده شيء «فإن للسائل حقًّا ولو جاء على فرس» [رواه أبو داود (1665)، وأحمد (1730) من حديث الحسين رضي الله عنه بإسناد ضعيف]، «وَلَوْ صَدَقَ السَّائِلُ، مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ».

وقد أوجب الله للسائل حقًّا في كتابه المبين فقال: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ[سورة البقرة، الآية: 177].

وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «لَيسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِن المِسْكِينَ مَنْ لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيْهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيهِ». بقية الحديث: «وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» [رواه البخاري (1479)، ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

الخلق الحسن

السؤال: ما هو الخلق الحسن المرغوب شرعًا؟ [6/262]

الجواب [رقم: 296]:

الخلق الحسن ينحصر في فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه، أو يقال: إنه ينحصر في فعل الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل.

وأكثر الناس حينما يسمع أحدهم بحسن الخلق يظنه مقصورًا، أو مقصودًا ببشاشة الوجه، وطيب الكلام، وهذا نوع من مكارم الأخلاق بلا شك، لكن الخلق الحسن هو أعم وأشمل من هذا كله. والله يقول لنبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم ٤[سورة القلم، الآية: 4]، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ قالت: كان خلقه القرآن[رواه مسلم (746)]. يتأدب بآدابه، ويأَتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ثم قرأت ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين ١٩٩[سورة الأعراف، الآية: 199] فأَمره ربه بأَن يعطي من حرمه، وأن يصل من قطعه، وأن يعفو عمن ظلمه.

ومن حسن خلقه أنه يصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر.

فمن حسن الخلق بر الوالدين، وصلة الأرحام، والتودد إليهم بوسائل الإكرام والاحترام، وأن يصاحبهم في الدنيا بالمعروف والإحسان، حتى يودع في قلوبهم محبته، والدعاء له، والثناء عليه.

وقد سئل النبي ﷺ عن أكرم الناس فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ لِلرَّبِّ، وَأَوْصَلِهِمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» [رواه ابن أبي شيبة في المصنف (25397)، وأحمد (27434)، والطبراني في الكبير (24/257/ 657)، والبيهقي في شعب الإيمان (7578)، وفي الزهد الكبير (877) من حديث درة بنت أبي لهب رضي الله عنها].

فصلة الأرحام كما أنها من محاسن الأخلاق، فإنها أيضًا من الأسباب التي يوسع الله بها في الأرزاق، ويبارك بها في الأعمار، كما في الصحيح: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُمِدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه]، فالواصل موصول، والقاطع مقطوع، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها.

ومن حسن الخلق الإحسان إلى الجيران بإيصال النفع إليهم، والعطف عليهم، وقضاء حوائجهم، ومعاشرتهم بطيب الوفاق، وكرم الأخلاق، ففي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» [رواه البخاري (6019) من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه].

ومن حسن الخلق إفشاء السلام، على الخاص والعام، بأن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف؛ لأن من محاسن الإسلام إفشاء السلام، وإطعام الطعام، فمن حقوق المسلم على المسلم: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» [رواه مسلم (2162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

و«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَلْتَقِيَانِ؛ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» [رواه البخاري (6077)، ومسلم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه].

ومن حسن الخلق أن تسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، وهذه سنة مشهورة، وقد أصبحت بين الناس مهجورة.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة كلهم ضامن على الله: رجل خرج مجاهدًا في سبيل الله، ورجل دخل المسجد للصلاة، ورجل دخل بيته بسلام» [رواه أبو داود (2494)، والبخاري في الأدب المفرد (1094)، وابن حبان (499)، والحاكم (2400) وقال: صحيح وأقره الذهبي، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه].

وقال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ» [رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (405)، والطبراني في مسند الشاميين (429)، والحاكم (53)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1688) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] إلى آخر ما ذكر.

وقد قال النبي ﷺ لأنس: «يَا أَنَسُ، إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِكَ تَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ، وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» [رواه الترمذي (2698) وقال: حديث حسن غريب، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن السلام على أهل البيت من الأسباب التي ينزل الله بها البركة على أهله. وهذا السلام يقضي بالمحبة والانسجام بين صاحب البيت وأهله، كما يقضي بسعة الرزق، ونزول البركة في البيت.

***

أذى الناس في طرقاتهم

السؤال: يلقي بعض الناس قمامته في الطريق أو يدخل في ملكه مساحة من الطريق ليست له. فما حكم ذلك؟ [6/270]

الجواب [رقم: 297]:

إن الطرق ليست بملك لشخص أو أشخاص، بحيث يتصرف فيها بما يؤذي الناس، فيلقي فيها القمام والأذى، ويستبقي فيها الطين والحصى، ويتصرف فيها كيف يشاء، على حسب رغبته وحاجته الشخصية بما يؤذي الناس ويضرهم. وربما انتقص من الطريق فأدخل في ملكه ما لا حق له فيه. وقد لعن رسول الله ﷺ من غير منار الأرض[رواه مسلم (1978) من حديث علي رضي الله عنه]، أي: مراسيمها.

ولو حدث شيء من الأضرار في الأنفس أو الأموال، بسبب ما يضعه هذا الشخص في الطريق، فإن ضمانها يتوجه عليه بالغة ما بلغت، لاعتبار أنه متعد بتصرفه في الطريق، أشبه الغاصب.

***

النظافة من خصال الإيمان

السؤال: بعض الناس يتساهلون بالنظافة في أنفسهم ومنازلهم ويعتبرونه من التواضع في أنفسهم. فما الحكم؟ [6/272]

الجواب [رقم: 298]:

كان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من الأوساخ عرف أثر الكراهة على وجهه، كما روى أبو داود عن جابر أن النبي رأى رجلاً وعليه ثياب وسخة فأعرض عنه، كالكاره له، فقال: «هلا يجد هذا من يغسل له ثوبه؟» [رواه أبو داود (4062)، وأحمد (14850) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما].

إن بعض الناس يتساهلون ويتسامحون بالنظافة في أنفسهم وفي منازلهم وطرقهم، اعتمادًا بزعمهم على التواضع في أنفسهم. وهذا لا يدخل في مسمى التواضع، فإن التواضع محله القلب، وألا يتكبر على الناس بفعل المخالفة المذمومة، ومن سحب الثوب أو العباءة بالأرض تكبرًا، وازدراء بالناس، فهذا هو المذموم شرعًا.

وقد قال رجل للنبي ﷺ: إني أحب أن يكون ثوبي حسنًا، ونعلي حسنًا، فهل هذا من الكبر؟ قال: «لَا، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» [رواه مسلم (91) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه].

ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: «من نقى ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه». وقد قيل:

حسن ثيابك ما استطعت فإنها
زين الرجال بها تعز وتكرم
ودع التخشن في الثياب تواضعًا
فالله يعلم ما تكنّ وتكتم

إن النظافة في المنازل وفي الطرق والأجسام، لها مكانة عالية من دين الإسلام. وحسبك أنها معدودة من خصال الإيمان، وأن إزالة الأذى عن الطريق صدقة، وأن من آذى المسلمين في طرقهم فقد استوجب لعنتهم. كل هذه نصوص صحيحة صريحة في المعنى، وهي على كل أحد بحسبه.

***

حكم إطالة الأظافر جدًّا

السؤال: ما حكم ما تفعله بعض النساء من إطالة أظافرها لدرجة كبيرة؟ [6/272]

الجواب [رقم: 299]:

ما تفعله بعض النساء من كون إحداهن توفر أظافرها ولا تقصها، حتى تكون مشوهة كأظافر السبع، فهذا مكروه. وما تحت الظفر الزائد فإنه يكون مجتمعًا للأوساخ الضارة، وعلى الأولياء ألا يرضوا بذلك، لكون المصلحة مشتركة، والناس متكافلون ومتكاتفون، وهي تدخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب[سورة المائدة، الآية: 2].

***

كتاب الصلة

صلة الرحم

السؤال: كيف تكون صلة الأرحام؟ [6/189]

الجواب [رقم: 300]:

صلة الأرحام تكون بإفشاء السلام، والتحفي والإكرام، وبالزيارة بالأقدام، وبإهداء التحف وأنواع الإكرام، كما في الحديث: «تَهَادَوْا تَحَابُّوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ، وَتُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» [رواه الترمذي (2130)، وأحمد (9250) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والبزار (7529) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه]، و«لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِىء، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلهَا» [رواه البخاري (5991) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما]، لكونه يعامل ربه بصلته، ولن يذهب العرف بين الله والناس.

***

من هم الأرحام الواجب صلتهم

السؤال: من هم الأرحام الذين أوجب الله صلتهم وحرم عقوقهم وقطيعتهم؟ [7/90]

الجواب [رقم: 301]:

الأرحام الذين أوجب الله صلتهم، وحرم عقوقهم وقطيعتهم هم آباؤكم وأمهاتكم، وإخوانكم وأخواتكم، وأعمامكم وعماتكم، وأخوالكم وخالاتكم، وأولاد العم والعمة، وأولاد الخالة والخال، و«تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ» [رواه الترمذي (1979)، وأحمد (8868)، والحاكم (7284) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وصلة الأرحام تكون بالسلام، وبالتحفي والإكرام، وبالزيارة بالأقدام، وبإرسال التحف والهدايا، وسائر وسائل الإكرام. ففي الحديث: «تَهَادَوْا تَحَابُّوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ، وَتُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» [سبق تخريجه في ص478].

وحاصل الكلام في صلة الأرحام؛ هو أن يوصل إلى أرحامه كل ما ينفعهم ويسرهم، لاعتقاده أنه بضعة منهم، وأنهم شركاؤه في سرائه وضرائه.

فآكد الحقوق بر الوالدين، فإن رضى الرب في رضى الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين، فبروا آباءكم، تبركم أبناؤكم. وعفوا تعف نساؤكم. وما من ذنب أحرى من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم.

***

نصيحة لقاطع الرحم

السؤال: يكثر بين الناس قطيعة الرحم حتى مع الوالدين. فهل من نصيحة؟ [6/355]

الجواب [رقم: 302]:

عليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، فإنهما من أسباب سعة الرزق، وبركة الأعمار، فمن أحب أن يبسط له في رزقه، ويمد له في عمره فليصل رحمه. فتواصلوا بالتحف والهدايا، وأنواع الإكرام، وبالعطف واللطف ولين الكلام، وبالزيارة بالأقدام للسلام، فإن الأرحام متى تزاوروا وتجالسوا تعاطفوا، ومتى تباعدوا تنافروا وتقاطعوا.

فمن وصل رحمه أوصل الله إليه الخيرات، وبسط له البركات في نفسه ونسله وأهله وماله، ومن قطع رحمه قطع الله عنه الخيرات، وحرمه أنواع البركات.

وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها.

وأفضل الصلة صلة الرحم الكاشح، أي: المضمر العداوة.

والرحم هم آباؤكم وأمهاتكم، وإخوانكم وأخواتكم، وأعمامكم وعماتكم، وأخوالكم وخالاتكم، وأولاد العم والعمة، وأولاد الخال والخالة، و«تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ» [رواه الترمذي (1979)، وأحمد (8868)، والحاكم (7284) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. فـ«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» [رواه البخاري (5984)، ومسلم (2556) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه] أي: رحم، وعليكم بأداء الأمانة فإنها عنوان الديانة، «فَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» [رواه أحمد (12383)، وابن أبي شيبة (30320) من حديث أنس رضي الله عنه].

***

كتاب الاعتصام

خطر البدع وموقف المسلم منها

حضرة صاحب الفضيلة الكريم الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إلـٰـه إلا هو، وأصلي وأسلم على رسوله محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

وحيث إنه في بلدتنا الشارقة لا زالت تظهر حوادث وبدع يتعبد بها ﷲ، وبمناسبة أن أهل هذه البلدة كانوا قبل هذا الوقت لا يستطيع أحد أن يتظاهر بشيء سوى ما كان على عهد رسول الله ﷺ أو كان على عهد صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

واليوم لا زالت الحوادث تظهر كل وقت ويظن العوام أن هذا يكون عبادة لله، يقرب العبد من ربه عز وجل، ولأنه يصدر عن الذين يدّعون العلم فالعوام تقلدهم في ذلك، ويستحسنون هذا الصنيع، فأرجو من سماحتكم الإجابة على ما قدمناه لكم من سؤال ولكم وافر الأجر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(9/3/1392هـ) المخلص خادم الشرع الشريف بالشارقة عمر بن خلفان بو خاطر

الجواب [رقم: 303]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى المحب في الله الشيخ عمر بن خلفان أبي خاطر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فإنني أحمد إليك الله الذي لا إلـٰـه إلا هو، وأسأله سبحانه أن يوفقنا وإياكم لامتثال أمره واجتناب نهيه، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

أخي... لقد استلمت رسالتك الكريمة القديمة وفهمت ما تضمنته من الكلمات القويمة، حيث شرحت فيها عن حسن استقامة بلد الشارقة في السنين السالفة، وأنهم سلفيّو الاعتقاد، يتمسكون بما كان عليه عمل الرسول ﷺ وأصحابه، ويتنسكون به، وينفرون ولا يألفون كل ما يخالفه من البدع الخارجة عن حدود الحق، فقد كنا نسمع بذلك عنهم، ونشهد به لهم، والناس شهداء الله في أرضه، وآخر من تصدى لمحاربة البدعة هو الشيخ علي المحمود، والشيخ سيف المدفع، والشيخ البكري، والشيخ الخرجي، وأشباههم.

أشرت أنه في هذا الزمان لا تزال تظهر البدع والحوادث شيئًا بعد شيء، وهذا معلوم، ونحن في زمان الصبر «الْقَابِضُ فِيْهِ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» [رواه الترمذي (2660) عن أنس رضي الله عنه، وأحمد (9073) عن أبي هريرة رضي الله عنه]، وما ذكرت فيه فإنه من فنون الفتن التي «تعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها وأحبها نكت في قلبه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها وأبغضها نكت في قلبه نكتة بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبين، قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما بقي الليل والنهار، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود مرباد كالكوز مجخيًّا[أي: مائلاً منكوسًا]، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، فذلك قلب المنافق» [رواه مسلم (144) من حديث حذيفة رضي الله عنه]، اللَّهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله متلبسًا علينا فنضل.

وقد أخبر النبي ﷺ: «أن هذه الفتن يرقق بعضها بعضًا تكون الآخرة شر من الأولى» [رواه ابن ماجه (3956)، وأحمد (6793) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وآخره عند أحمد (15997) من حديث أبي مويهبة رضي الله عنه]، يبتلي الله عباده بها ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [سورة الأنفال، الآية: 37].

ثم إن البدع هي بريد الكفر، كما أن عبادة الأوثان إنما دخلت على العرب من أجل الغلوّ في محبة الصالحين، ومن لوازم البدع أنها تتفجر أنواعها وغايتها، وأنها تنطبع محبتها في قلوب الهمج السذج؛ لأنها تجعل المنكر معروفًا، والبدعة سنة، ينشأ على هذا الصغير ويهرم عليه الكبير، حتى إذا غيّرت قيل: غيرت السنة، لأن من شب على شيء شاب على حبه.

ثم إنه يترتب على البدعة ما هو شر وخروج عن قانون العدل، من جمع الناس لها، والإنفاق على تشييدها وعمارتها من مال الأوقاف المجعولة في عمل البر والخير، وهذا حرام، وصرف للنفقة في غير مصارفها الشرعية.

وقد أوجب العدول عن دين الله علينا أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان، وهذا من الإثم ومن العدول عن الدين، والاستمرار على فعلها والتجمع لها يجعلها سنة راسخة في قلوب الأكثرين من العوام، لكون العامي مشتقًّا من العمى، وقد قيل: ويل للعوام من عثرات العالم.

وهي ليست من شرع الله ورسوله، ولا من هدي الصحابة، وقد قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله وأصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. ومن لوازم البدع أن رؤيتها تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، لكون البدع على اختلاف أنواعها متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الإنسان فلا يرى بقلبه أنها مخالفات ومنكرات، ولا يمر بفكره أنها معاص، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

والمعروف هو ما عرفت العقول السليمة حسنه، والمنكر هو ما أنكرته العقول السليمة.

من ذلك بدعة تعظيم مولد الرسول ﷺ، واستدعاء الناس للتجمع لها، وتعطيل الأعمال والدوائر من أجلها، وهذا العمل وهذا التشديد لذكر المولد إنما دخل على المسلمين من باب تقليد النصارى في حال ضعف الدين زمن الفاطميين، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح ويجعلونه عيدًا يظهرون فيه الفرح والسرور، ويعطلون فيه الأعمال، أرادوا أن يضاهوهم على بدعتهم بمقابلتهم بتعظيم مولد الرسول، فقابلوا بدعة ببدعة ومنكرًا بزور، وعلى من سنها وزر من عمل بها إلى يوم الحشر والنشور، فصدق على الناس قول النبي ﷺ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ» [رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟!»]، فهي من محدثات الأمور التي نهى عنها النبي في قوله: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» [رواه أبو داود (4607)، الترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17144) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه].

وهذه مما يعلم الله ورسوله والمؤمنون أنها ليست من سنة رسول الله ولا خلفائه وأصحابه، وإنما هي من محدثات الأمور التي حذر أمته عنها، وهذه البدع تنشأ صغيرة، وتحتف بمقصد حسن عند الناس في الظاهر، وهو باطل في الباطن، حيث يقصدون بها تعظيم الرسول وتشييد ذكره بإحياء مولده، وهذه هي حجة كل من انتحل عمل بدعة، كما حكى الله عن المنافقين أنهم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[سورة النساء، الآية: 62]، مثل قولهم: إن أردنا إلا محبة الرسول وإحياء ذكرى مولده، وحسن المقاصد لا يبيح المحظور، ومن المشاهد بالاعتبار أن هذه البدع تفضي إلى فنون من الشرور، وقد ذكر محمد رشيد رضا في تفسير المنار[تفسير المنار (1/396)، (2/61)] فنونًا من أنواع المنكرات استباحها الناس تدريجيًّا تبعًا لاستباحة احتفالات الموالد، فكانوا في مصر، وفي كثير من البلدان يضربون في الموالد المعازف، ويشربون الخمور، ويفعلون أشياء كثيرة من المنكرات، والزور والأخلاق السيئة.

ثم ذكر أمرًا آخر، هو أكبر من هذا وأنكر، وهو أنه شاع في اعتقادهم أنه من يحضر للموالد فإنه يحصل له من الربح كذا ومن الخير كذا، ويربح صحة جسمه وسلامة عياله، وإن لم يحضر المولد فإنه يصاب بأنواع من المصائب، إلى غير ذلك مما يقولونه ويعتقدونه في ترويج هذه البدعة، وما يترتب عليها من المآكل الشهية، وقد أنحى عليهم صاحب المنار بالملام، وتوجيه المذام في مواضع متعددة من المنار، وكذلك سائر العلماء من السلف، وقد ذكر صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون في مصر، ثم أخذت تنتشر وتشتهر بتشييد علماء السوء لها وتحسينهم إياها، وفيها من المآثم، وارتفاع الأصوات، وترك الصلاة، والقيام. والقعود، ما يلحقها بالسخرية والمجون، وقد قيل:

ثلاث تشقى بهن الدار
المولد والمأتم والزار

إن محبة الرسول الصحيحة الحقيقية تنحصر في طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، ثم الإكثار من الصلاة والسلام عليه في كل الحالات، وأكثر الأوقات، لاعتبار أن الصلاة عليه من أفضل الطاعات وأجلّ القربات، وأن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرًا، فهذا هو الأمر المشروع والمشهور في حق المسلم، وهذا هو القول المعقول المقبول في حقيقة محبة الرسول.

ويلتحق بذلك بدعة تعظيم النصف من شعبان، لاعتبار أنه تنسخ فيه الآجال، ويجتمع لها النساء والرجال، وهي من البدع التي لا أصل لها من الدين.

ومثله اجتماع الناس ليلة سبع وعشرين من رمضان واحتفالهم بهذه الليلة لدعوى أنها ليلة القدر، وهذا الاجتماع لأجل الاحتفال بهذه الليلة لا أصل له، من أجل أن ليلة القدر ليست معروفة بطريق اليقين، وهذا الاجتماع يوقع في قلوب الناس أنها ليلة سبع وعشرين، ثم إن المطلوب والمرغوب فيه هو إحياؤها بالصلاة والعبادة كسائر أيام رمضان، عملاً بقول النبي ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رواه البخاري (37)، ومسلم (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

لهذا يجب فهم معاني حديث رسول الله، وأنه إنما حث وحرض على إحيائها بالصلاة والعبادة، لا بالتجمعات التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ومثله ما يفعله بعض الناس من التجمعات برجب بدعوى أنه المعراج، وهذه أيضًا من البدع؛ لكونهم يفعلونها بطريق الدين ومحبتهم لرسول رب العالمين، على أنه لم يثبت بطريق صحيح اليوم الذي عرج برسول الله فيه ولا شهره، ولم يكن عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين اعتناء بالتجمع فيه، بل هو من محدثات الأمور التي حدثت بعد القرون المفضلة حينما ضعف أمر الدين، وقلّ المنكرون للمخالفات التي تفضي بالناس إلى المنكرات.

وما أحدث الناس بدعة إلا رفع مقابلتها من السنة، فتمسك بسنةٍ خير من إحداث بدعة، ومن طبيعة البدعة أنها تتفجر إلى فنون من الشرور، لهذا يجب على المسلم المحتسب إنكار ما يراه منها، ولا يجوز الإنفاق عليها من الأوقاف الخيرية؛ لأن من شرط صحة الوقف كونه على فعل قربة وطاعة لله، وهذا المولد ونحوه ليس بقربة ولا طاعة، بل هو بدعة صريحة في مخالفة سنة رسول الله، وسيرة خلفائه وأصحابه.

ونحن في جهتنا قد قمنا بمنع هذه البدع كلها منعًا باتًّا، فلا يظهر لها أثر ولا ذكر، ولا يعطل لشيء منها عمل ولا دائرة، مع أن بعض المعلمين الأجانب كانوا يتطلعون إلى إحداثها، فالمنع لها هو العمل الجاري عندنا وفي سائر بلدان المملكة العربية السعودية، وعهدي بأهل بلد الشارقة وما حولها من القرى مثل عجمان ورأس الخيمة أنهم لا يقلون في التمسك بالعقيدة السلفية عن المذكورين، نسأل الله سبحانه الهدى والسداد، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية بقطر

***

تاريخ الإسراء والمعراج وحكم الاحتفال به

السؤال: هل ثبت في الإسراء والمعراج تاريخ معين؟ وما حكم الاحتفال به؟ [6/31]

الجواب [رقم: 304]:

هذا الإسراء والمعراج حصلا في ابتداء نبوته، وليس عندنا دليل يثبت تعيين يومه أو شهره بطريق صحيح.

فالقول بأنه في شهر رجب، هو قول لا صحة له، ولا يستند إلى دليل، ولم يكن من عادة الصحابة ولا التابعين التجمع للإسراء والمعراج، وليس له عندهم أي عمل أو اهتمام، وإنما يؤمنون بما قص الله في القرآن من خبره.

وما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، وفي بعض البلدان، من التجمعات للإسراء، والمولد، وليلة النصف من شعبان، كله من البدع المحدثة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما سميت البدعة بدعة لكونها زيادة في الدين، ومن عادة البدعة التمدد والزيادة كل عام.

***

كتاب الدعوات

الإلحاح في الدعاء وعدم القنوط

السؤال: قد يدعو الإنسان ويلح في الدعاء ولا يستجاب له فيتوقف عن الدعاء. فما نصيحتكم؟ [6/178]

الجواب [رقم: 305]:

الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، والمسلم مخلوق للعبادة، فلا ينبغي له أن يستبطئ الإجابة ويقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فيكسل عند ذلك وييأس فيترك الدعاء؛ لأن هذا من باب القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، فإن الله سبحانه هو أعلم بمصالح عباده، فقد يدعو الإنسان بشيء من حظوظ الدنيا وسعة الرزق، وكثرة المال والعيال، ولو استجيب له، وعجلت له دعوته لكان فيه محض مضرته وهلاكه؛ لأن الله سبحانه يحمي عبده المؤمن من بعض الأشياء التي يتمناها ويشتهيها رحمة منه؛ لأنها لو حصلت له لأفسدت عليه دينه ودنياه، ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[سورة البقرة، الآية: 216]، ومن دعاء بعض السلف: اللَّهم ما أعطيتني مما أحب، فاجعله عونًا لي على ما تحب، اللَّهم ما زويت عني مما أحب، فاجعله فراغًا لي فيما تحب.

فالداعي لربه لن يخيب أبدًا: «إما أن يستجيب الله له دعوته، وإما أن يدخر ثوابها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» - كما ثبت بذلك الحديث - فقالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر من الدعاء. فقال: «فضل الله أكثر» [رواه أحمد (11133)، والبخاري في الأدب المفرد (710)، والطبراني في الدعاء (36)، والحاكم (1816)، والبيهقي في الدعوات الكبير (380)، جميعًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].

فواجب المسلم والمسلمة أن يكثر من الدعاء في كل الحالات، وفي سائر الأوقات، ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين ٥٥[سورة الأعراف، الآية: 55]، ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [سورة الفرقان، الآية: 77].

***

أسباب إجابة الدعاء

السؤال: ما أسباب إجابة الدعاء؟ [6/181]

الجواب [رقم: 306]:

الدعاء جُنَّة حصينة، ومِفتاح كل خير، وهو من لذائذ الدنيا، من ذاق منه عرف، ومن حرم انحرف، فمن فُتِح له باب الدعاء وحُبِّب إليه فقد فُتِح له باب الخير والرحمة والبركة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإنني إذا أُعطِيت الدعاء وفقت للإجابة[لم أقف عليه مسندًا وإنما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه إبراهيم في عدد من كتبهم].

وقد قال بعض السلف: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فيفتح لي من لذائذ مناجاته ما لا أحب معها أن يعجل قضاء حاجتي باستجابة دعوتي.

لا سيما الدعاء في السجود، فإن له سرًّا بديعًا، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ» [رواه مسلم (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: «فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»].

وقال: «أَمَّا الرُّكُوعُ: فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ: فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» [رواه مسلم (479) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

ففضل الدعاء وتأثير سببه هو أمر معلوم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

غير أن للدعاء بابًا يدخل إلى الله منه، وآدابًا ينبغي أن يتأدب بها الداعي، فإن من حرم الأدب حرم الإجابة.

من ذلك: أنه ينبغي للداعي أن يطيب مطعمه عن أكل الحرام؛ لأن العلائق عن الخير عوائق. وقد قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص: «يَا سَعْدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ» [رواه الطبراني في الأوسط (6495) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]؛ لكون الوسائل مطلوبًا تقديمها أمام المسائل؛ لأنها من العمل الصالح الذي يرفع الدعاء إلى الله.

وعن فضالة بن عبيد قال: سمع النبي ﷺ رجلاً يدعو ولم يحمد الله، ولم يصل على نبيه، فقال: «عَجِلَ هَذَا» ثم دعاه وقال له: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم[مسند أحمد (23937)، وسنن أبي داود (1481)، وسنن الترمذي (3477)، وسنن النسائي (1284)، وصحيح ابن حبان (1960)، ومستدرك الحاكم (840)].

ومنها: أن يمد يديه إلى الله في الدعاء؛ لما روى سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إن ربكم حيِيٌّ ستير يستحيي من عبده إذا مد إليه يديه أن يردهما صفرًا» أي: خائبتين. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم[سنن أبي داود (1488)، وسنن الترمذي (3556)، وسنن ابن ماجه (3865)، وصحيح ابن حبان (876)، ومستدرك الحاكم (1831)].

ومنها: أن يدعو بقلب حاضر وهو موقن بالإجابة، فإنه لا يستجاب الدعاء من قلب ساهٍ لاهٍ.

***

كتاب التفسير وعلوم القرآن

حديث صحفي[من مجلة الفجر القطرية في 19 رمضان 1396هـ (13/9/1976م)] تفسير القرآن على ضوء النظريات العلمية الحديثة

قلت لفضيلة الشيخ:

من أبرز المشاكل على ساحة الفكر الديني الآن.. قضية القرآن.. فريق يتشيع لتفسير القرآن على ضوء أحدث النظريات العلمية، حتى لو اضطروا إلى تأويل النص وتحميله فوق ما يتحمل.. وبعضهم يلح على ضرورة إبعاد القرآن عن ذلك كله، وعدم إقحامه في نظريات التاريخ والجغرافيا والطب والفلك... إلخ. ما رأي فضيلتكم؟

الجواب [رقم: 307]:

اعتدل الشيخ في جلسته... وصمت قليلاً ثم قال:

القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى عظة وعبرة، وهداية للخلق... يهديهم للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا، وينذر الذين لا يؤمنون بالعذاب الأليم.

القرآن هداية لأنه سفر السعادة، ودستور الهداية، وقانون الفضيلة، الواقي من الرذيلة، وهو أيضًا كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع مستقبلاً. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ٣٣[سورة الفرقان، الآية: 33].

غير أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه أنزل آيات محكمات، والآيات المحكمات لا نسخ فيها ولا تغيير، آيات محكمات هن أم الكتاب؛ وهي التي يعتمد عليها في التحليل والتحريم والأمر والنهي؛ وأخر متشابهات؛ فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون المتشابه ويجادلون به. وفي الحديث: «إذا رأيت الذين يتبعون المتشابه من القرآن فأولئك هم الذين قال الله بشأنهم، فاحذروهم» [رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665) عن عائشة رضي الله عنها بنحوه].

أجل؛ إن القرآن لم ينزل لإدلال الناس وهدايتهم إلى اختراع الصنائع، أو الإخبار بما يحدث من تطورات الأحوال والأعمال والفنون. لأن هذا ليس من شأنه.. وهذا كله موكول إلى حذقهم وتجاربهم ومدى علمهم، من يوم خلق الله آدم إلى يومنا.

يصمت الشيخ قليلاً ثم يقول:

ولكنك تسأل عما يعمد البعض إليه الآن من مطابقة بعض النظريات العلمية بما جاء في كتاب الله من آيات كريمة.

أقول: إن العلم الصحيح لا يرده القرآن.. ولا يختلف معه... المهم أن تكون النظرية العلمية التي يراد مطابقتها بما ورد في كتاب الله في حكم الحقيقة العلمية التي انتهى أوان بحثها أو مراجعتها أو تعديلها.. أي أنها أصبحت حقيقة علمية مستقرة لا اختلاف عليها.. هنا لن تجد تعارضًا بينها وبين آية في كتاب الله.. بل يبقى أن القرآن سبق جهود كل هؤلاء العلماء وأخبرنا بها قبلهم.. أي أن الله سبقهم بهذا الشيء.. مثلاً انتهوا الآن إلى أن الأرض والسماء كانت كلها كتلة واحدة، وهي ما يطلقون عليها (السديم).. كتلة من الدخان.. ثم فصلها الله.. أصبحت الأرض فلكًا واحدًا... والسماء والنجوم... إلخ. هذا ما انتهى إليه العلم، وهو نفسه ما سبق أن أخبرنا به القرآن.

قلت لفضيلة الشيخ:

ولكن الخوف أن يدفع ذلك بالبعض إلى الجنوح، تحت وطأة الرغبة العارمة في قياس كل ظواهر العلم.. والنظريات العلمية قد تتغير وقد تتناقض ببعض آيات كتاب الله.. وفي هذا ما فيه من الخطر والخطأ أيضًا؟

فأجاب:

نعم.. معك الحق.. الخوف من المغالاة والتطرف.. العلماء يخترعون صناعات عجيبة يطيرون بها عقول الناس.. وأنا أرى أنه لا يحق لنا أن نطبق القرآن على كل شيء.. القرآن إنما هو لإصلاح الدنيا والدين.. وسؤالك يذكرني بأحد التفسيرات التي أثارت من حولها الكثير من الجدل.. وهو تفسير الطنطاوي.. هكذا اسمه.. وقد قام بالتكلف والاجتهاد المبالغ فيه حتى يثبت أن كل الصنائع والمخترعات قد أخبرنا بها الله قبل أن يصل العلم إلى اختراعها.. وبالغ في مطابقة الآيات على المخترعات.. وفي النهاية سئل العالم الجليل الشيخ محمد رشيد رضا عن رأيه في ذلك، فقال قولته المشهورة: (في كل شيء إلا في التفسير).. نعم في كل شيء إلا في التفسير، وذلك حتى لا نفتح بابًا لا نعرف إلى أين يؤدي بنا.. وأنا أرى حسمًا لكل نقاش أن القرآن يحوي بالفعل الأخبار عن كل شيء وقع أو سيقع في هذا الكون.. وكل ما سيجدّ يدخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون [سورة النحل، الآية: 8].

***

معنى هجران القرآن

السؤال: ما معنى هجران القرآن في قوله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ٣٠[سورة الفرقان، الآية: 30]؟ [6/113]

الجواب [رقم: 308]:

هذا الهجران يُحمَل على هجر التلاوة، وهجران العمل به، نزلت حيث أصرت قريش على معصية الرسول، وعدم الإصغاء إلى القرآن الذي جاء به. وهو ينطبق على كل من هجر تلاوة القرآن، وهجر العمل به. ورب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه. يتلو قوله: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ[سورة البقرة، الآية: 238] وهو مضيع لها، ويتلو قوله: ﴿وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ[سورة البقرة، الآية: 277] وهو يأكلها، ويتلو قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ[سورة المائدة، الآية: 90] وهو يدمن شرب الخمر صباحًا ومساءً.

***

تفسير الجار ذي القربى والجار الجنب

السؤال: من هو الجار ذو القربى؟ ومن هو الجار الجنب؟ [6/190]

الجواب [رقم: 309]:

﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى أي: الجار ذي الرحم؛ فإن له حق الإسلام، وحق الجوار، وحق الرحم.

وأما: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ وهو الجار الغريب. فإن كان مسلمًا فإن له حق الجوار وحق الإسلام. وإن كان كافرًا فإن له حق الجوار بأن تحسن مجاورته. والنبي ﷺ قال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» [رواه البخاري (6015)، ومسلم (2624) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» [رواه البخاري (6019) من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وقيل: «خَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ، وَخَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ» [رواه البخاري في الأدب المفرد (115)، والترمذي (1944)، وأحمد (6566) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ» [رواه البخاري في الأدب المفرد (117)، والنسائي (5502)، وأبو يعلى (6536)، وابن حبان (1033)، والحاكم (1951) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وقد باع قوم عقارهم الغالي في نفوسهم من مضرة جيرانهم، وأنشد:

يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي
وما علموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملامة إنها
بجيرانها تغلو الديار وترخص

***

كيف يكون الأزواج والأولاد عدوًّا لنا

السؤال: كيف يكون الأزواج والأولاد عدوًّا لنا كما ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ؟ [6/209]

الجواب [رقم: 310]:

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[سورة التغابن، الآية: 14] و«من» للتبعيض، فالزوجة التي هي عدو لك هي التي تأمرك بعقوق والديك، وقطيعة أرحامك، والإساءة إلى جيرانك، فتطيعها في ذلك كله، فتكون بمثابة الصنم الذي تعبده في بيتك؛ لأن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، فقد عبده، ويوشك أن يتسلط عليه بما يقتضي إفساد دينه ودنياه.

وكذلك الولد الذي هو عدو لك، فإنه الولد التارك للصلاة، العاكف على شرب المسكرات، وارتكاب المنكرات، وعلى إثر هذا تسوء طباعه، وتفسد أوضاعه، ويتعدى ضرره في فساد أخلاقه إلى إخوانه وأخواته وأهل بيته.

***

تفسير الباقيات الصالحات

السؤال: ما هي الباقيات الصالحات؟ [6/211]

الجواب [رقم: 311]:

هي: المحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات، وأداء الزكاة، وبسط اليد بالصدقات، وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وذوي الحاجات، ثم التطوع بنوافل الصلاة، وسائر العبادات، فمن لازم هذه الأعمال، وسعى سعيه في كسب المال الحلال، فقد فاز بزينة الحياة، والسعادة بعد الوفاة.

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل

إن من الناس من يوسع الله عليه الغنى بالمال، لكنه لا يكتسب به زينة الحياة، ولا السعادة بعد الوفاة ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون ٥٥[سورة التوبة، الآية: 55].

خُلقوا وما خُلقوا لمكرمة
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رُزقوا وما رُزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا

***

تفسير قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ

السؤال: يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون ٦٠ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ٦١[سورة المؤمنون، الآيتان: 60 – 61]. فهل المقصود إتيانهم الكبائر؟ [7/338]

الجواب [رقم: 312]:

سألت عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين عن هذه الآية، فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يسرقون ويزنون؟ قال: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ» [رواه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وأحمد (25263)].

أولئك الذين ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ لأن المؤمن هو من جمع إحسانًا وإشفاقًا، والمنافق هو من جمع إساءة وأمنًا، ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون ٩٩[سورة الأعراف، الآية: 99].

فالمسارعة إلى وسائل المغفرة والرحمة، والفوز بالجنة، هي بمعنى المسابقة التي أمر الله بها بقوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون[سورة المائدة، الآية: 48].

***

تفسير الأمانة

السؤال: ما هي الأمانة في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون ٢٧[سورة الأنفال، الآية: 27] [7/65]

الجواب [رقم: 313]:

دلت هذه الآية على عظم الأمانة، وأن من خان أمانته، فقد خان ربه وخان نبيه، ولن يضر الخائن إلا نفسه. قال أنس رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «إِنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» [رواه أحمد (12383)، وأبو يعلى (2863)، وابن حبان (194) عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن].

وجاء رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله، أخبرني بأشد شيء في هذا الدين. فقال: «الْأَمَانَةُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ، إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ لَهُ» [رواه البزار (819) عن علي رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

والأمانة تارةً تكون بين الخلق فيما يتعاملونه بينهم من التبايع والودائع والكيل والوزن، وتارةً تكون بين العبد وبين ربه في الفرائض الواجبة المسماة بالتكاليف الشرعية. فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة. وهكذا سائر الأعمال، تجري على هذا المنوال.

فمن الناس المؤمن الأمين، الذي يؤدي واجب حق الله في ماله، ويبادر بأداء زكاته إلى مستحقها، طيبة بذلك نفسه، يعتقدها مغنمًا له عند ربه، وبركة في ماله، فيدفعها إلى مستحقها، ويقول: اللَّهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.

ومنهم الخائن المهين، الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ويأكل زكاته، ويحتسبها مغرمًا في ماله، ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ١٨٠[سورة آل عمران، الآية: 180].

فالآكل لزكاته هو خائن لأمانته، خائن لفقراء بلده، فاسق عن أمر ربه، وما إسلامه الذي يدعيه إلا إسلام مزيف مغشوش؛ لكون الزكاة بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان. كما في الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» [رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه]. لكونها تبرهن عن إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله.

كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق، فإن من صفة المنافقين، ما أخبر الله عنهم، ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ - أي: عن أداء زكاة أموالهم - ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون[سورة التوبة، الآية: 67].

فالوضوء أمانة؛ لأن مفتاح الصلاة الطهور. وفي الحديث: «اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» [رواه ابن ماجه (277)، وأحمد (22378)، والحاكم (447) عن ثوبان رضي الله عنه]. ومن حكمته أنه ينشط الأعضاء عند القيام للصلاة، ويحط الخطايا.

وكذلك الصلاة أمانة الرب، وعمود دين العبد، وأول ما يفقد الإنسان من دينه الأمانة، وآخر ما يفقد من دينه الصلاة.

ولهذا كان السلف يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه يحافظ على الصلاة في الجماعات علموا بأنه ذو دين، وإن حُدثوا بأنه لا يشهد الصلاة، علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير.

ثم إن الصلاة لا تكون صلاة، حتى تقع على صفة ما شرعه الله على لسان نبيه، كما في الحديث: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» [رواه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه]. فهذا ميزانها الفعلي، وأما ميزانها القولي؛ ففي البخاري: أن رجلاً دخل المسجد فصلى، فقال له رسول الله ﷺ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فعل ذلك ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني. فقال: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَاعِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا» [رواه البخاري (6251)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فهذه هي الصلاة المشروعة التي تصعد ولها نور، فتشفع لصاحبها عند ربها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني.

«وَأَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ»، أي لا يتم ركوعها ولا سجودها[رواه أحمد (22642) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه].

وكذلك الزكاة: أمانة الرب، أوجبها الله في مال الغني لأخيه المعوز الفقير، وسميت زكاة، لكونها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا[سورة التوبة، الآية: 103].

وكذلك تزكي المال؛ أي: تكثره وتنميه وتنزل البركة فيه، فما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده.

وكذلك الصيام فإنه سر بين العبد وبين ربه، فلو شاء لأبطله ولو بفساد نيته، لكن المؤمن لو ضرب على أن يستبيح الفطر، لما استباح الفطر أبدًا، لكون إيمانه وأمانته تمنعه عن إحباط عمله وإبطال صومه.

هذه الأركان، هي التي عناها القرآن بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ٧٢[سورة الأحزاب، الآية: 72] فإن الراجح عند العلماء، أن هذه الأمانة هي الواجبات، المسماة بالتكاليف الشرعية. فإنها أمانة الله وعهده، في عنق كل إنسان ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[سورة الفتح، الآية: 10].

ومن استؤمن على حفظ مال الحكومة أو وزارة من الوزارات أو الأوقاف، أو لأحد من الشركات، أو مال تاجر من التجار، فليعلم أن ما تحت يده مما تولاه أنه أمانة عنده، ومسؤول عنه ومحاسب عليه، فمن واجب إيمانه وأمانته أن يقوم بحفظ ما استؤمن عليه، وأن يذود أيدي العدوان والخونة عنه، حتى يؤديه كاملاً موفورًا، غير مبخوس ولا منقوص، فإن خالف، وخان، وأخذ يختلس ما استؤمن عليه، بطريق التلصص الخفي والخيانة الغيبية، فقد خان أمانته، وخان ربه ودينه، وما اختلسه فإنه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء، ويرجع إلى الوراء.

والنبي ﷺ قال: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [أخرجه مسلم (1833) من حديث عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه].

﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[سورة آل عمران، الآية: 161].

ومن المشاهد المحسوس، أن الخائن يَفتْضح بخيانته في الدنيا عند الناس، ويوم القيامة ينصب لكل خائن لواء عند استه، يقال: هذه غدرة فلان.

والمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب، فلا يكون المؤمن خائنًا، ولا كذابًا. «وَآيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» [رواه البخاري (33)، ومسلم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه، زاد مسلم: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ»].

ومن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَمِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» [رواه أبو داود (1547)، والنسائي (5468)، وابن ماجه (3354) وابن حبان (1029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن].

ولهذا قال العلماء في الحكمة في قطع يد السارق: إن اليد لما كانت أمينة كانت عند الله وعند خلقه ثمينة، فإذا خانت هانت، ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ[سورة الحج، الآية: 18. ودية اليد الواحدة تبلغ نصف من قيمة الدية الكاملة].

إن الشركات الأجنبية التي تشتغل في البلدان العربية الإسلامية، قد دخلوا مع الحكومات الإسلامية في عقد، وفي عهد وأمانة، واشتغلوا على هذا الحساب. فمن الواجب احترام دمائهم وأموالهم؛ لأنهم يسمون مُعاهدين. وحرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، فمن خفر معاهدًا فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. فلا يقل أحدكم: هؤلاء كفار. يستبيح بذلك أخذ أموالهم، فإن حرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم.

والتعليم أمانة، والتعليم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ونعوذ بالله من شر الوسواس الذي يوسوس بالشر في صدور الناس. فمن واجب المعلم أن يخلص في تعليمه، فيلقن التلاميذ تعظيم الرب، وتعظيم حدوده وفرائضه، وأن صلاح المرء بصلاح دينه، وأن المحافظة على فرائض الرب هي من أكبر العون على حصول المطلوب، من العلم المرغوب؛ لأن الله يقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[سورة البقرة، الآية: 282].

ثم إن الأستاذ قدوة تلاميذه، وثقتهم به يستدعي قبولهم لما يقوله ويفعله، فينشؤون غالبًا على طريقته وعقيدته، أشبه الأعضاء مع اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.

فإذا ترك الأستاذ الصلاة في الجماعة، تركها التلاميذ.

أو شرب الدخان والتبغ شربه التلاميذ.

أو أطلق لسانه باللعن والشتم، تعلموا منه ذلك؛ لأن هذا نوع تعليم منه لهم.

ومن المعلوم أن التعليم بالأفعال أبلغ منه بالأقوال، وكل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه.

وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى
روح العدالة في الشباب ضئيلا

وكل من دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء، أو ثمن لم يؤده إليه، فليعلم أنه دخل مع صاحبه في عهد وأمانة، فمن الواجب على صاحب العقد أن يبين ما به من العيوب، كما أن من واجب المشتري أن يقابل صاحبه بحقه غير مبخوس ولا منقوص. وبدون تعليل ولا تمليل. فإن «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» [رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] يحل عرضه وعقوبته» [رواه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه بلفظ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»].

جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن لنا جيرانًا لا يتركون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فهل إذا قدرنا على شيء من مالهم نأخذه؟ قال: «لَا، أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» [رواه أبو داود (3534)، وأحمد (15424)] فنهى رسول الله ﷺ عن مقابلة الخيانة بالخيانة؛ لأنها مهانة وعدم أمانة.

المجالس بالأمانات، إلا مجلس دم حرام، وفرج حرام. فإن جلس الرجل مع الآخر ثم التفت فهي أمانة، يجب المبالغة في كتمان السر بينهما.

ومن الخيانة أن يفشي الرجل إلى امرأته سرًّا، أو تفشي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه. ويسمى هذا الإفشاء بالمجاهرة.

الوظائف الحكومية على اختلاف أنواعها أمانات في أعناق المتقلدين لها، فمن واجب المتولي للوظيفة أن يقوم بأمانة ما تولاه، وما استؤمن عليه بإخلاص وصدق ونصح، وأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به من التسهيل والتيسير.

***

معنى الأمانة

السؤال: ما هي الأمانة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون؟ [7/252]

الجواب [رقم: 314]:

قال أنس: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» [رواه أحمد (12383)، والبزار(7196)، وأبو يعلى (2863)، وابن حبان (194) عن أنس رضي الله عنه، وإسناده قوي].

وجاء رجل من أهل العالية، وقال: يا رسول الله، أخبرني بأشد شيء في هذا الدين؟ فقال: «يَا أَخَا الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ» [رواه البزار (819) من حديث علي رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

والأمانة تارةً تكون بين العباد فيما يتعاملون فيه من التبايع، والودائع والكيل، والوزن، وأداء الحقوق إلى ربها. وكل الوظائف الحكومية هي من الأمانات لدى المتولين لها، بحيث يسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله، وعن حفظه لأمانته، والله لا يصلح كيد الخائنين.

فمن الواجب أن تحاط وتحفظ بالأمانة، وأن تذاد أيدي العدوان عن اختلاس شيء منها، فقد قال النبي ﷺ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...» [رواه مسلم (1833) من حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه بنحوه]، ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران، الآية: 161] ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[سورة النساء، الآية: 58].

وتارةً تكون الأمانة بين العبد وبين ربه، فالوضوء أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، وكذا سائر الحقوق والحدود، فمن حافظ على أداء أمانته، أثابه الله الجنة على حسن عمله، ومن بخس أو نقص، عوقب بما عمل.

***

معنى الاستقامة

السؤال: ما هي الاستقامة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون ٣٠ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون ٣١ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم ٣٢ [7/208].

الجواب [رقم: 315]:

أتدرون ما هي الاستقامة التي ندب الله عباده إليها، وأبدى وأعاد بالثناء على أهلها؟ هي: الثبات والاستقامة على الدين؛ من فعل الواجبات، واجتناب المحرمات، وهي المراد بقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ٢٧[سورة إبراهيم، الآية: 27]. فالثابت على الدين، وسلوك الصراط المستقيم؛ الذي سلكه رسول الله ﷺ وأصحابه، هو عين الاستقامة المنشودة.

فمن ثبت على الدين، واستقام عليه، ولم يزغ عن أمر ربه، ثبته عند سؤال الملكين له في القبر، ويلقنه حجته، ثم يثبته على سلوك الصراط المعروض على متن جهنم، وهو أحر من الجمر، وأحد من السيف الأبتر، وهذا الصراط المعروض على متن جهنم بمثابة الخشبة المعروضة على القليب، وعلى جوانبه كلاليب، وحسك كالشوك، وهي المعاصي، وكبائر الذنوب، تخدش الناس، وتخطف من أمرت بخطفه، وتلقيه في جهنم، فيكلف الناس بالمرور على هذا الصراط، وهو المراد بقوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ٧٢[سورة مريم، الآيتان: 71 – 72].

فالمراد بالورود المرور، فتجري بالناس أعمالهم، حتى إن أحدهم يمر كالبرق، وتقول له النار: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي. ويمر أحدهم كالريح، وكأجاود الخيل والركاب. ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، فمخدوش ناج، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

والنبي ﷺ واقف على طرف الصراط ينظر إلى الناس، ويقول: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ» [انظر: صحيح مسلم (195) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما] فمتى خلصوا من مرور الصراط، وردوا نهر الكوثر، فشربوا منه حتى لا يظمؤوا بعده أبدًا.

والمستقيم الثابت على الدين القويم، فإنه يثبت عند سلوك هذه المخاطر والمزالق، ويجري به عمله في أحسن سلوك منه، والنبي ﷺ يقول: «أنا ممسك بحجزكم عن النار، أقول: هلم عن النار، وأنتم تغلبونني، وتقاحمون فيها، كتقاحم الفراش والجنادب، وإنكم تردون عليّ معًا وأشتاتًا، فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريبة في إبله، وإنه يؤخذ بالناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعدًا وسحقًا لمن غيَّر بعدي» [رواه البزار (204) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه].

ثم إن الاستقامة أيضًا، الثبات على مصابرة الأعمال التي توكل إلى الشخص، ويعهد إليه فيها، من أعمال حكومية وغيرها. فالمستقيم على عمله، بحيث ينفذ ما عهد إليه فيه بدون بخس ولا نقص ولا خيانة، وبدون تعليل ولا تمليل، فهذا ممدوح عند الله وعند خلقه، وينشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن على حسن وفائه، واستقامته في أداء عمله، وكل شخص فمسؤول عما تولاه، كما قيل:

حيثما تستقم يقدر لك اللـ
ـه نجاحًا في غابر الأزمان

أما غير المستقيم، فهو الذي يتهرب عن عمله، ويتغيب عن دوام جلوسه، ويخون ويختلس ولا يفي بوعد ولا عهد، ليس له حظ من الاستقامة، ولا الصدق ولا الأمانة، فتنتشر عنه هذه الصفات الذميمة الناشئة عن سوء سيرته، وفساد سريرته.

عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال رسول الله ﷺ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» [رواه مسلم (38)، وأحمد (15416) عن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه].

فدله على أمر جامع نافع؛ أي استقم على العمل بإسلامك.

وليس من شرط الاستقامة كونه لا يذنب أبدًا، بل قد يذنب ثم يتوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، يقول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون ٢٠١[سورة الأعراف، الآية: 201] أي: يبصرون طريق المخرج من هذا الذنب، فيتوبون ويستغفرون.

إن الاستقامة شأنها عظيم، قد قرأ هذه الآية قوم ثم لم يستقيموا على العمل بها، فتركوا فرائض الطاعات، وانتهكوا الحدود والمحرمات، واستباحوا أكل الربا، وشرب المسكرات، وصرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم، وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم. ومع هذه المخالفات، يدعون بأنهم مسلمون، وهم لم يستقيموا على صحة ما يدعون، فإن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.

إن صراط الإسلام أي: طريق الإسلام - واحد، من استقام عليه نجا، ومن تخلف عنه غرق، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ١٥٣[سورة الأنعام، الآية: 153]. وهذه السبل التي حذر عنها هي بُنيّات الطريق التي تفضي بسالكها إلى الهلاك والتعويق.

وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» [رواه الترمذي (2641)، والطبراني في الكبير (13/30/62)، وابن بطة في الإبانة (264 – 265)، والحاكم (444) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

فهذه الفرقة الناجية هي التي وفقت للاستقامة، ففازت بالسلامة، بخلاف سائر الفرق الضالة، فإنها زاغت عن دينها، وتنكبت طريق نبيها، كما الكثيرون من المنتسبين للإسلام في خاصة الأمصار التي أفسد التفرنج تربيتها، وعقائد أهلها، فصاروا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

وصار هؤلاء أضر على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى، من أجل أن الناس يغترون بهم، وينخدعون لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم، فهم مرتدون، والمرتد شر من الكافر الأصلي، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه، يقول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم ٢٥[سورة محمد، الآية: 25]. ولهذا نزلت التعزية من السماء عن أمثالهم بقوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ١٧٦[سورة آل عمران، الآية: 176].

إن الاستقامة شأنها عظيم، ولما قيل للنبي ﷺ إنه قد أسرع إليك الشيب. قال: «شيبتني هود وأخواتها» قالوا: فما شيبك منها؟ قال: «شيبني قوله: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [سورة هود، الآية: 112]» [رواه الترمذي في الشمائل (42)، وأبو يعلى (880)، والطبراني في الكبير (22/123/318) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه دون آخره، فقد ذكره البيهقي في الشعب (2215) عن السري السقطي رؤيا منام؟!].

وعن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» [رواه ابن ماجه (277)، وأحمد (22378)، والدارمي (681) من حديث ثوبان رضي الله عنه].

إن بعض الناس يكون مسلمًا مستقيمًا في بداية عمره، ثم يصاب بالانحراف في آخر عمره بسبب ولد ملحد، أو جليس فاسق، يقذف إليه بالشبه المضلة، والتشكيكات التي تزيغه عن معتقده الصحيح، ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» [رواه الترمذي (2191)، وأحمد (11143) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]. كله من أجل عدم استقامته في حياته، والعمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

وقد أخبر النبي ﷺ بأنها تكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح منها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[رواه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وهذه الفتن إنما يراد بها الفتن في الدين، والفتنة أشد من القتل، ونعوذ بالله من مضلات الفتن، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.

وكان النبي ﷺ يستعيذ في أدبار الصلوات، من فتنة المحيا والممات[رواه البخاري (832)، ومسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها]، ويقول في دعائه على الجنازة: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ» [رواه أبو داود (3201)، وابن ماجه (1498)، وأحمد (8809) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

نسأل الله سبحانه، أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

***

أهمية تلاوة القرآن وتدبره

السؤال: ما أهمية تلاوة القرآن وتدبره للمسلم؟ [6/112]

الجواب [رقم: 316]:

القرآن الكريم هو حبل الله المتين، ودينه القويم، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يمل سماعه، فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الوقوع في الرذيلة، يقول الله تعالى: ﴿يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين ١٥[سورة المائدة، الآية: 15] فلو تدبر أحدكم كتاب الله وعمل بما فيه من الوصايا الفصيحة، والنصائح الصحيحة، لصار سعيدًا في نفسه، سعيدًا في أهله، سعيدًا في مجتمع قومه.

فتلاوة القرآن بالتدبر، وتوطين النفس للعمل به عبادة، وللقارئ بكل حرف عشر حسنات، مع ما يكتسبه من رفيع الدرجات في الجنات، فإنه يقال للقارئ: اقرأ وارق في درج الجنة.

***

حكم تحسين الصوت بالقرآن

السؤال: ما حكم تحسين الصوت بالقرآن؟ [6/114]

الجواب [رقم: 317]:

يُستحَب تحسين الصوت بالقرآن، لحديث: «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا» [رواه الدارمي (3544)، وابن الأعرابي في معجمه (1543)، ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل (ص 137 – المختصر)، والحاكم (2125) من حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه].

وقال: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» [رواه البخاري (7527) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، والتغني تحسين الصوت، لكون تحسين الصوت به مدعاة إلى الإصغاء والاتعاظ والاعتبار.

وقال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ - أي: ما استمع الله لشيء - كَإِذْنِهِ - أي: كاستماعه - لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، وَيَجْهَرُ بِهِ» [رواه البخاري (7544)، ومسلم (792) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

***

كتاب التوحيد

شروط التوبة الصادقة

السؤال: ما هي شروط التوبة؟ [7/343]

الجواب [رقم: 318]:

شروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على أن لا يعود، وإن كانت عن مظالم مالية فيردها إلى أربابها؛ لأنها من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئًا.

وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار على الذنوب، وعدم التوبة منها، كما في الحديث: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ، الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» [رواه البخاري في الأدب المفرد (380)، وأحمد (7041) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه]. و«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»، كما ثبت بذلك الحديث[رواه أبو داود (1514)، والترمذي (3559) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بالقوي].

لكن من تاب من الذنب واستغفر منه، وقلبه متعلق بمحبته، وعازم على معاودته، فإن هذه توبة المستهزئ بربه، فهي توبة الكذابين؛ ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [سورة النساء، الآية: 18].

***

الدليل العقلي على وجود الله

سماحة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود... رئيس المحاكم الشرعية بقطر سلمه الله. تحية صادقة، وبعد: فإني أرغب من سماحتكم التفضل بالإجابة على الأسئلة التالية، جزاكم الله خيرًا، وهي:

6– ما هو الدليل العقلي على وجود الله عز وجل:

وإني إذ آمل من الله ثم منكم أن تنال رسالتي كل اهتمامكم وحرصكم، أثابكم الله وسدد خطاكم، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(25/4/1408هـ) المقدم ابنكم- عبدالحميد بن عبدالعزيز

الجواب [رقم: 319]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم عبدالحميد بن عبدالعزيز.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخي: استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، سألت عن عدد من المسائل:

السادس: سألت عن الدليل العقلي على وجود الله عز وجل.

الجواب: إن الله يقول: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة إبراهيم، الآية: 10]، أي: مبدعها ومنشئها وخالقها على غير مثال سبق:

فواعجبًا كيف يعصى الإلـٰـه
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد

إن في خلق السماوات والأرض، وخلق الشمس والقمر، وخلق النجوم وخلق البحار، وإجراء الأنهار وخلق الجبال والأشجار، وخلق البشر والحيوان إنه آية على وجود الواحد القهار، القادر على الاختراع، إذ لا يمكن أن تضاف هذه المخلوقات إلى الصدفة ولا إلى الطبيعة، فإن الطبيعة من العدم، ولو سألت أي فيلسوف عن الطبيعة لم يجبك عنها بشيء؛ لعلمه أنها عدم، والعدم لا يخلق الوجود.

***

حكم التطير والتشاؤم من بعض الأوقات

السؤال: يتطير بعض الناس من الزواج أو السفر في صفر أو في يوم الأربعاء فما حكم ذلك؟ [7/329]

الجواب [رقم: 320]:

من الطيرة المذمومة تشاؤمهم بشهر صفر، فلا يتزوجون فيه ولا يسافرون، وهو شيء يجدونه في نفوسهم بدون أن يكون له أصل من الأمر الواقع، فإن شهر صفر هو كسائر الشهور، يحدث الله فيه الخير والشر، وينزل فيه الوحي، ويستجيب فيه الدعاء، فالتشاؤم به هو من الشرك المنهي عنه.

ومثله تشاؤمهم بيوم الأربعاء، ويقولون: إنه يوم نحس مستمر، وإنه اليوم الذي نزلت فيه الريح على عاد. فهم لا يسافرون فيه ولا يتزوجون، ويوم الأربعاء هو كسائر أيام الدنيا، لا شر فيه بذاته ولا خير.

ومثله تشاؤمهم بما بين العيدين، فلا يتزوجون فيه، وأصل هذا التشاؤم أنه وقع طاعون زمن الجاهلية، فمات به عدد من العرائس، فكانوا يتشاءمون به، ولما سمعت عائشة ذلك قالت: إن رسول الله ﷺ تزوجني في شوال، وبنى بي في شوال، فأيّكن أحظى عنده مني[رواه الترمذي (1093)، والنسائي (3377)، وابن ماجه (1990)، وأحمد (24272)، وأبو عوانة (4274) من حديث عائشة رضي الله عنها]. تريد بهذا قطع دابر الطيرة والتشاؤم بالأيام والشهور والأزمنة.

***

حكم تعليق التمائم والخرز لأجل العين

السؤال: ما حكم تعليق التمائم والحروز دفعًا للعين؟ [7/329]

الجواب [رقم: 321]:

إن تعليق التمائم، وتسمى التولة، وتسمى العزيمة، وتسمى العوذة، والحرز، ويسميها العوام بالجامعة، يعلقونها على الأولاد وعلى الأجساد، وعلى الدواب عن الجان، وعين الإنسان، وغالب من يعلقها ويتعلق بها هم الهمج السذج من العوام، وضعفة العقول والأديان، وينصرف قلبه عن ربه إليها، بحيث يعتقد أنها هي النافعة الضارة.

يذهبون إلى من يعرف بكتب الحرز والعزايم، فيطلبون منه حرزًا يتحرزون به، فيلف لهم قرطاسًا سوادًا في بياض، وينفث فيه من ريقه النجس، ثم يدفعه إليهم ويأمرهم بالتحفظ عليه كله، حرصًا منه على دريهمات يسحبها منهم، وهو يعلم من نفسه أنه خدعهم.

أراد إحراز قوت كيف أمكنه
فظل يكتب للنسوان أحرازًا

وما شَعَر هؤلاء الذين يعلقون الحروز على أجسادهم وعلى أولادهم أنهم قد استعجلوا وقوع البلاء والشر، وفنون الجنون والضر عليهم، ثم يصابون بدعوة رسول الله ﷺ عليهم حيث قال: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ» - أي: لا أتم الله له أمره - «وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ» [رواه أحمد (17404)، وابن وهب في الجامع (662)، وأبو يعلى (1759)، وابن حبان (6086)، والحاكم (7501) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه] أي: لا يجعله في دعة وسكون بل في قلق واضطراب.

ولما رأى النبي ﷺ على رجل تعليقة فقال «مَا هَذَا؟» قال: علقتها من الواهنة. فقال: «انْزِعْهَا فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا، وَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» [رواه أحمد (20000)، وابن ماجه (3531) عن عمران بن حصين رضي الله عنه].

ولهذا ورد: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة[رواه ابن أبي شيبة (23473) من قول سعيد بن جبير]؛ لكونه أعتقه من عبودية الشيطان إلى عبادة الرحمٰن.

وهذا التعليق للحروز، يوقع في الشرك، لقول النبي ﷺ: «من علق شيئًا فقد أشرك» [رواه أحمد (17422)، والحاكم (7513) من حديث عقبة بن عامر، ولفظ أحمد: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً»]. والنهي يشمل تعليق القرآن وغير القرآن.

ولما رأى ابن مسعود على زوجته خيطًا فقال: ما هذا؟ قالت: هذا خيط رقي لي فيه، إذا علقته سكنت عيني، وإذا حللته قذفت عيني. فقطعه ابن مسعود. ثم قال: إنكم يا آل مسعود لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من علق شيئًا فقد أشرك» إنما يكفيك أن تقولي: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ البَأسَ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» [رواه أبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، وأحمد (3615)].

***

حكم تعليق الرجال لآية الكرسي من ذهب

السؤال: ما حكم تعليق الرجال لآية الكرسي من ذهب؟ [7/330]

الجواب [رقم: 322]:

ابتدع الناس في هذا الزمان تعليق آية الكرسي عليهم في صدورهم، بحيث يذهّبونها - أي: يجعلون فيها ذهبًا وسلسلة من ذهب - ثم يعلقونها في رقابهم كتعليق المرأة للقلادة على حد سواء، وهو عمل محرم، من وجوه عديدة:

أحدها: التشبه بالنساء في لبس القلادة، وقد لعن رسول الله ﷺ المتشبهين من الرجال بالنساء[رواه البخاري (5885) من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما].

والأمر الثاني: وضع الذهب فيها، والذهب محرم على الرجال، قليله وكثيره، سواء كان في الساعة، أو في الأزرة، أو في الخاتم.

ولما رأى النبي ﷺ خاتمًا من ذهب طرحه بالأرض بشدة، ثم قال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ». فلما انصرف رسول الله ﷺ قيل لصاحب الخاتم: خذ خاتمك. فقال: والله لا أرفعه عن الأرض، وقد طرحه رسول الله فيها[رواه مسلم (2090) من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما]. من شدة استجابته للحق.

والأمر الثالث: الاستهانة بالقرآن، حيث يدخل بهذا التعليق في المراحيض، والمغتسلات، وسائر الأماكن القذرة، والله سبحانه قد أوجب تكريم القرآن واحترامه.

غير أن بعض العلماء قد أجاز - كشيخ الإسلام ابن تيمية - الذهب في السلاح، كما أجازوا تركيب السن - أي: الضرس - من ذهب، أو الأنف من ذهب، حتى لو أغنى عنه غيره، أما الفضة فموسع في إباحتها، قليلها وكثيرها.

فالمؤمنون بالله لا يعلقون على أجسادهم، ولا على أولادهم شيئًا من الحروز والعزايم والجامعات، وإنما يلجؤون إلى الأوراد والدعوات الشرعية فهي الحصن الحصين، والجانب المنيع، فيقولون: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» [رواه البخاري (3371) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]، ويقولون: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» [رواه مسلم (2709)، وأبو داود (3899) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، ويقولون: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ» [رواه أبو داود (3893)، والترمذي (3528) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه]، «عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» [رواه الترمذي (3523)، من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال: ليس إسناده بالقوي]، ويقولون: «تحصنت بالله الذي لا إلـٰـه إلا هو إلـٰـهي وإلـٰـه كل شيء، واعتصمت بربي ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله. أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، وأعوذ بأسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شر كل ذي شر لا نطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي على صراط مستقيم».

وقد أنزل الله المعوذتين، أي: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق ١ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ١ للاستعاذة بهما من شر كل ذي شر.

وكان النبي ﷺ ينفث بهما في كفيه، ثم يمسح بكفيه ما استطاع من جسده[رواه البخاري (5017) من حديث عائشة رضي الله عنها].

فهذه هي الحصن الحصين، فاحفظ الله يحفظك، واحفظه تجده تجاهك.

نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته.

معنى: الدعاء هو العبادة

السؤال: ما معنى: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» أو «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ»؟ وهل يرد الدعاء ما قدره الله على الإنسان؟ [7/312]

الجواب [رقم: 323]:

الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة. كما روى النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين ٦٠[سورة غافر، الآية: 60] [رواه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، والنسائي في الكبرى (11400)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (18352)، وابن حبان (890)]، أي: صاغرين حقيرين.

وفي رواية: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ» [رواه الترمذي (3371)، والطبراني في الدعاء (8)، وفي الأوسط (3196) من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد ضعيف]، ومخ الشيء خالصه، فليس شيء أكرم على الله من الدعاء[رواه أحمد (8748)، والبخاري في الأدب المفرد (712)، وابن حبان (870) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]؛ لأنه عماد الدين، ونور السماوات والأرض، وسلاح المؤمن[رواه أبو يعلى (439)، والحاكم (1812) من حديث علي رضي الله عنه]، وأنه لن يهلك مع الدعاء أحد[رواه ابن حبان (871)، والحاكم (1818)، والضياء في المختارة (1760) من حديث أنس رضي الله عنه]، كما ثبت بذلك الحديث، والله سبحانه يحب أن يسأل[رواه الترمذي (3571)، والطبراني في الدعاء (22) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه]، ويحب الملحين في الدعاء[رواه الطبراني في الدعاء (20)، والبيهقي في الشعب (1073) من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد ضعيف]، ومن لم يسأل الله يغضب عليه[رواه الترمذي (3373)، وأحمد (9701)، والبخاري في الأدب المفرد (658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

الله يغضب إن تركت سؤاله
وبُنَيُّ آدم حين يسأل يغضب

والله يقول: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ٧٧[سورة الفرقان، الآية: 77] سواء قلنا إن المراد به دعاء العبادة، أو دعاء المسألة؛ لأن دعاء المسألة هو دعاء عبادة، ودعاء العبادة، هو دعاء مسألة.

والدعاء بمثابة الأشجار المثمرة، والخزائن المدخرة، ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فهو يدفع البلاء قبل نزوله، ويرفعه بعد نزوله، لقول النبي ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيْدُ الْعُمُرَ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الصَّدَقَاتِ لَتَدْفَعُ مِيْتَةَ السُّوْءِ» [رواه أحمد (22431)، وابن حبان (872)، والحاكم (1814) من حديث ثوبان رضي الله عنه دون الجملة الأخيرة منه فهي عند الترمذي (664)، وابن حبان (3309) عن أنس رضي الله عنه].

فأخبر النبي ﷺ أن الدعاء يرد القدر والقضاء، فلا يقولن أحدكم: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي أو عليّ سيقع لا محالة، دعوت أو لم أدع. فإن من الأشياء ما لا تحصل إلا بالدعاء، والله يمحو ما يشاء ويثبت، وفي دعاء القنوت: «وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ» [رواه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (1745)، وابن ماجه (1178) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما]، فلو لم يكن الدعاء سببًا في صرف شر القدر والقضاء، لما أمر به النبي ﷺ وأرشد إليه أمته.

وفي مراسيل الحسن أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَاسْتَدْفِعُوْا أَمْوَاجَ البَلاَءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ» [رواه أبو داود في المراسيل (105) عن الحسن البصري مرسلاً، والطبراني في الكبير (10196)، والأوسط (1963)، والدعاء (48)، وأبو نعيم في الحلية (2/104) من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف جدًا، ورواه البيهقي في الشعب (3279) عن أبي أمامة، و(3280) عن سمرة بإسنادين ضعيفين أيضًا].

وفي حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال له: «احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» [رواه الترمذي (2516)، وأحمد (2763، 2803)].

إنه متى كان الإنسان له معاملة مع ربه بالدعاء في حالة رخائه وسرائه، ثم وقع في شدة من الشدات، أو في حاجة من الحاجات، فدعا الله عز وجل، قالت الملائكة: يا رب صوت معروف من عبد معروف، اللَّهم استجب دعاءه.

ولهذا كان من دعاء بعض السلف: «اللَّهم إنك أمرت بالدعاء، ووعدت بالإجابة، وقد سألتك كما أمرتني، فاستجب لي كما وعدتني».

إن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وتعتقد بأن دعاءك واقع بمسمع من الله، إنه ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين ٢١٩ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ٢٢٠[سورة الشعراء: 218 – 220].

وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات[رواه النسائي (3460)، وابن ماجه (188)، وأحمد (24195)، والقصة بتمامها عند الطبري في التفسير (23-226)، والحاكم في المستدرك (3791)، والبيهقي في الكبرى (15243) من حديث عائشة رضي الله عنها]، لقد أتت المُجادلة - أي: خولة بنت ثعلبة - إلى رسول الله ﷺ تشتكي زوجها - أي أوس بن الصامت - وتقول: (إنه أفنى شبابي، وأكل مالي، وكان لي منه عيال، فلما كبر سني، ظاهر مني، أشكو إلى الله حالي)، والله إني لفي كسر البيت، أسمع بعض كلامها، ويخفى علي بعضه، فما برحت من مكانها، حتى سمع الله شكواها، وأنزل ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير ١[سورة المجادلة، الآية: 1].

ونظير هذا ما حكى الله عن نبيه يونس عليه السلام؛ وذلك أنه لما غاضبه قومه، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، خرج من البلد مغاضبًا، فركب في سفينة، ثم إن السفينة أشرفت على الغرق، فقذفوا في البحر جميع ما تحمله، فلم ترتفع، فاتفقوا على أن يعملوا قرعة، فمن وقعت عليه القرعة من الركاب، ألقي في البحر، فوقع سهم الإلقاء على نبي الله يونس بن متى، فرموا به في البحر، لكون الأنبياء أشد الناس بلاء، قال الله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِين ١٤١[سورة الصافات، الآية: 141] أي: الملقين ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم ١٤٢[سورة الصافات، الآية: 142] أي: أن الله سبحانه قد لامه على شدة الغضب الذي خرج بسببه من البلد، وكان من واجبه أن يصبر على أذى قومه، فعند ذلك دعا ربه وهو في ظلمات ثلاث! ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. فكان من دعائه ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين ٨٧[سورة الأنبياء، الآية: 87] ثم ذكر سبحانه سبب هذه الاستجابة، وهذا الإنجاء، وأن سببه كثرة دعائه لربه في حالة رخائه فقال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِين ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون ١٤٤[سورة الصافات، الآيتان: 143 – 144]. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ، مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين[سورة الأنبياء، الآية: 87]» [رواه الترمذي (3505)، وأحمد (1462)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (1048) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه].

فمن أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء، وإذا دعا المسلم بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، حصل له إحدى ثلاث خصال، «إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخرها له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء مثلها »، قالوا: إذًا نكثر يا رسول الله؟ قال: «فضل الله أكثر» [رواه ابن أبي شيبة في المصنف (29170)، وأحمد (11133)، والبخاري في الأدب المفرد (710) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه].

ومن فتح له باب الدعاء وذاق حلاوته، فقد فتح له باب الخير والرحمة والإجابة، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء، فإني إذا أعْطيتُ الدعاء، وُفقت للإجابة.

إنه متى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، والإنسان مخلوق للعبادة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون ٥٦[سورة الذاريات، الآية: 56] فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسأم من الدعاء، ولا يعجز عنه، ففي الحديث: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» [رواه البخاري (6340)، ومسلم (2735) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فإن أفضل العبادة انتظار الفرج[رواه الترمذي (3571)، والطبراني في الدعاء (22) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد ضعيف]، فألظوا بيا ذا الجلال والإكرام[رواه الضياء في المختارة (2064) من حديث أنس رضي الله عنه]؛ أي الزموا وداوموا.

ثم إنه متى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإن صرف هذا الدعاء لغير الله شرك أكبر، ومن الذنوب التي لا تغفر، ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ[سورة المائدة، الآية: 5] وإنه ﴿مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار[سورة المائدة، الآية: 72] فكل من دعا مخلوقًا ميتًا من دون الله، وتضرع إليه في قضاء حاجته، وتفريج كرباته، سواء كان نبيًّا أو وليًّا أو عليًّا أو عبدالقادر، أو العيدروس، أو سائر المقبورين، فقد أشرك بالله، يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِين ١٠٦[سورة يونس، الآية: 106]. وأخبر سبحانه بأنه لا أضل ولا أظلم، ممن يدعو مخلوقًا مقبورًا مرهونًا بعمله، لا يستطيع زيادة في حسناته، ولا نقصًا من سيئاته، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون ٥ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين ٦[سورة الأحقاف، الآيتان: 5 – 6]. فأخلص دعاءك لربك، فإنه النافع الضار ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون[سورة الزمر، الآية: 38].

إن الدعاء هو خالص حق الله، ولا يرضى أن يشرك معه في حقه أحد من خلقه، ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨[سورة الجن، الآية: 18].

إن المشركين في هذه السنين هم أعظم شركًا من الأولين، لهذا تراهم يترددون رجالاً ونساءً إلى قبور من يسمونهم أولياء، ويزعمون أنهم يتصرفون في الكون، فهم يطلبون شفاعتهم بتفريج كربهم، واستجابة دعوتهم.

المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار

ونقول:

المستغيث بقبر عند كربته
كالمستغيث من الرمضاء بالنار

إنه متى ذكّرهم مذكّر، أو وعظهم واعظ بالآيات التي تحرم الشرك، وتحذر المشركين من العقاب الأليم، قالوا: هذه الآيات إنما نزلت في المشركين الأولين، وكيف تجعلوننا مثل المشركين ونحن مسلمون موحدون، نشهد أن لا إلـٰـه إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟!

ولم يشعروا بأن من شرط لا إلـٰـه إلا الله كونها تحجز قائلها عن الشرك بالله، وإلا فيعتبر قائلها بأنه كاذب في شهادته، وكافر بربه.

مع العلم بأنهم أغلظ شركًا وأشد كفرًا من المشركين الأولين، ولكنهم يريدون أن يجعلوا أنفسهم في منجاة من الشرك والعقاب عليه بمجرد الدعوى الكاذبة، فهم يجمعون بين الإساءة في العمل، والأمن من العقاب ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون ٩٩[سورة الأعراف، الآية: 99]. ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ[سورة يونس، الآية: 18]، أي: يجعلونهم وسطاء ليقربوهم إلى الله زلفى وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [سورة فاطر، الآية: 13]، والنافع الضار هو الله سبحانه وتعالى.

فانتبهوا من غفلتكم، وأخلصوا دعاءكم لربكم، واستقيموا على الجادة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

***

فتاوى عامة

حد اليتم

السؤال: من هو اليتيم؟ وهل ينطبق على من بلغ سن الرشد؟ [6/190]

الجواب [رقم: 324]:

اليتامى وهم: من مات أبوهم قبل أن يبلغوا سن الرشد، ولا يُتْمَ بعد البلوغ.

فحث سبحانه على الإحسان إلى اليتامى؛ لكون الحاجة والمسكنة تحيط بهم بعد موت أبيهم ومربيهم. و«خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ» [رواه البخاري في الأدب المفرد (137)، وابن ماجه (3679) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

و«مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَا يَمْسَحُهُ إِلَّا لِلَّهِ فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَةٌ» [رواه ابن المبارك في الزهد (655)، وأحمد (22153) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بإسناد ضعيف].

***

حكم شراء الدم لإسعاف المصابين في الحوادث

فضيلة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود المحترم.

رئيس المحاكم الشرعية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

لقد قمنا منذ حوالي سنتين بحملة نحث فيها الناس على التبرع بالدم محليًّا لإسعاف المصابين بالحوادث، ولكن من سوء الحظ فإننا لم نتمكن من الحصول على الكميات المطلوبة من المتبرعين، لذلك فإننا لا زلنا نشتري الدم من أمريكا، وهذا أمر نكرهه للأسباب التالية:

1– إن أغلب الذين يبيعون الدم في أوروبا وأمريكا مدمنون على الخمور والمخدرات ويبيعون دمهم للحصول على أموال لشراء مواد الإدمان، ونحن نكره أن ننقل دم هذا لمسلم ولكن الضرورة ترغمنا.

2– ظهرت في السنوات الأخيرة أمراض خطيرة في المجتمعات الغربية مثل مرض (الإيدز) القاتل الذي يمكن نقله عن طريق الدم، لذلك فالدم المستورد يعتبر خطرًا على حياة المواطنين.

3– الدم المستورد قد لا يصل في الموعد المطلوب، وقد نحتاج إلى كميات أكثر في حالات الكوارث.

ولقد قامت دولة الكويت بشراء الدم من المواطنين وأوقفت شراءه من الخارج، وهناك اتجاه مماثل في البحرين والإمارات العربية المتحدة، ونحن نود أن نقوم بشراء الدم محليًّا، ونود أن تتكرموا بإفتائنا في الأمر، أي: هل يجوز للمستشفى أن تشتري الدم من المواطنين لإسعاف إخوانهم أم لا؟

والجدير بالذكر أننا نقوم بفحص المتبرع بالدم للتأكد من أن أخذ الدم منه لا يضر بشيء.

وتفضلوا فضيلتكم بقبول فائق الاحترام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدكتور/ حجر أحمد حجر وكيل وزارة الصحة ومدير عام مستشفى حمد التاريخ: 11/4/1405هـ، الموافق: 2/1/1985م

الجواب [رقم: 325]:

الحمد لله: وبعد، فبخصوص السؤال عن شراء الدم من المواطنين لإسعاف إخوانهم والاستشفاء به من المرض الذي لا يقوم غير الدم مقامه.

الجواب: إننا لعلى دين كفيل بحل مشاكل العالم في هذا الزمان وفي كل مكان، وقد ذكر الله تحريم الدم في ثلاث آيات، وقال في ختام كل آية: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[سورة البقرة، الآية: 173] فأباح سبحانه حقن الدم عند الضرورة حيث لا يقوم غيره من الأدوية مقامه.

وقد اتفق أهل الطب الحديث على نفعه في الجروح وغيرها خاصة في الحوادث التي ينزف صاحبها الدم الكثير فيتداركون خطر ما خرج منه بإعطائه كميات من الدم المناسب له، وما دام الأمر صريحًا بإباحته عند الضرورة فإنه يجوز شراؤه ممن لديه القدرة على العطاء، وذلك للعلاج به، على حد ما قيل: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير.

مع العلم أيضًا أن التصدق به أفضل من بيعه.

ليكون معلومًا كي لا يخفى.

التاريخ: 25/4/1405هـ، الموافق: 16/1/1985م رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

تبرع المسلم بالدم لغير المسلم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على النبي الكريم.

﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون[سورة النحل، الآية: 43].

السؤال الثالث: لإنقاذ حياة بعض المرضى - طبعًا، الذين ما جاء أجلهم بعد، إذ ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون[سورة النحل، الآية: 61] - يستعمل الأطباء دم أحد المتبرعين بالدم من المسلمين في أشخاص غير مسلمين، قد يكونون عادة مصابين بفقر الدم وغيره... فما حكم هذا الدم الذي يُنقل من جسم المسلم إلى جسم الكافر، وما حكم عكس ذلك؟

السؤال السادس: ما حكم بناء الفنادق للمسلم في الدول التي تعتبر من أقلية إسلامية؟ حيث إن معظم الوافدين إلى هذه الفنادق في أمثال تلك المناطق، قد يكونون من الفاسقين والفاسقات والزانين والزانيات...، وما حكم من يشتغل من المسلمين - بصفة طباخ أو أجير أو غيرهما - في أمثال هذه الفنادق؟ أفيدونا بالجواب، ولكم من الله الثواب.

السائل: عبدالرحمٰن كوليبالي مدير مدرسة الرشاد ص. ب 388 كوروغو جمهورية ساحل العاج (غرب إفريقيا)

الجواب [رقم: 326]:

إلى فضيلة الشيخ عبدالرحمٰن كوليبالي - مدير مدرسة الرشاد - كوروغو. (25/9/1404هـ، 24/6/1984م).

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فقد سألت عن مسائل:

حكم الدم المنقول من جسد المسلم للكافر، والعكس

3– الدم الذي ينقل من جسم المسلم إلى جسم الكافر، أو من جسم الكافر إلى جسم المسلم.

فالجواب: أنه قد ثبت بطريق العلم نفع هذا الدم في نقله، وكونه يتدارك انهيار صحة المريض، والله سبحانه عند تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[سورة البقرة، الآية: 173]، فهذا الرجل من مسلم وكافر يعتبر بأنه غير باغ ولا عاد، فتجوز معالجته بنقل الدم؛ لكونه من الأمر الضروري الذي تنقلب فيه الميتة حلالاً في الأكل، والدم مباحًا في النقل؛ لأنه إذا ضاق الأمر اتسع[انظر: شرح القواعد الفقهية للزرقا 1/92، وجمهرة القواعد الفقهية 1/215]، والمشقة تجلب التيسير[انظر: شرح القواعد الفقهية للزرقا 1/88، وجمهرة القواعد الفقهية 1/211]، ولا فرق بين أن يكون المنقول إليه الدم مسلمًا من دم كافر، أو كافرًا من دم مسلم؛ لكون الدم في هاتين الحالتين صار حلالاً طاهرًا.

حكم بناء فنادق في البلاد غير الإسلامية والعمل فيها

السؤال: ما حكم بناء الفنادق في البلاد غير الإسلامية، وهل يجوز للعمال المسلمين العمل فيها؟

الجواب [رقم: 327]:

6– سألت عن بناء الفنادق في البلاد التي أكثر أهلها من غير المسلمين، وقد يسكنها الفاسقون والفاسقات، فإن هذا البناء هو من حكم التجارة التي يتعاطاها الناس، ويستفيدون من غلتها من مسلم وكافر، فلا لوم على من فعلها أو اتّجر بها.

أما العامل في هذه الفنادق بحيث يتكسب بأجرته لحاجته فهذا لا لوم عليه، فهو معذور، وكسبه حلال؛ لكونه يجوز استخدام الكافر للمسلم في وسائل الكسب والتجارة. فقد كان يوسف نبي الله عاملاً للعزيز على كفره، وقد عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه لرجل من اليهود كل دلو بتمرة، فأكل منه النبي ﷺ، ولم يعنفه على عمله[رواه الترمذي (2473)، وابن ماجه (2447)، وأحمد (687) من حديث علي رضي الله عنه].

وهذه الإباحة تشمل سائر العمال من المسلمين من طباخ وغسال وغير ذلك.

أما بيع الخمور أو تقديمها في الفنادق فهذا حرام، ويجب إزالته وعدم إقراره، فإن الحلال ما أحلّه الله ورسوله، والحرام ما حرّم الله ورسوله.

فهذا حاصل الإجابة عما سألت عنه، وأرجو أن أكون قد وفقت لحلها بالحكمة والموعظة الحسنة... والله خليفتي عليكم، والباري يحفظكم.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

حكم تناوب الزملاء خارج وقت الدوام

سماحة الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود... رئيس المحاكم الشرعية بقطر سلمه الله. تحية صادقة، وبعد: فإني أرغب من سماحتكم التفضل بالإجابة على الأسئلة التالية، جزاكم الله خيرًا، وهي:

8– ما حكم التناوب بين الزملاء كل أسبوع في خارج الدوام؟ وما حكم العمل خارج وقت الدوام مع عدم عمل يقتضيه؟

وإني إذ آمل من الله ثم منكم أن تنال رسالتي كل اهتمامكم وحرصكم، أثابكم الله وسدد خطاكم، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(25/4/1408هـ) المقدم ابنكم- عبدالحميد بن عبدالعزيز

الجواب [رقم: 328]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم عبدالحميد بن عبدالعزيز.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخي: استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، سألت عن عدد من المسائل:

ثامنًا: سألت عن تناوب الزملاء كل أسبوع في خارج الدوام.

فهذا لا شك في صحته، لكونه من أمور العادات أشبه الرياضة، وكذلك العمل خارج وقت الدوام فإنه موكول إلى رغبة العامل وقوته، فيجوز أن يؤجر نفسه في الساعات الخارجة عن وقت الدوام بلا خلاف بشرط ألا يؤثر على عمل الدوام.

فهذا ما لزم بيانه على سبيل الاختصار والاقتصار، والباري يحفظكم.

(12/5/1401هـ) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم رسم صور الأشخاص العاديين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد؛

كنا قد بدأنا مشروع مجلة للأطفال المسلمين باسم «أروى»، نرفق لكم نسخة منها، وجاء من نثق به وبدينه يعترض علينا من جهة رسوم الأشخاص، علما بأننا تحاشينا في عملنا رسم الأنبياء صلوات الله عليهم والصحابة رضوان الله عليهم، ومع هذا جئنا بخطابنا هذا نستفتيكم بشرعية ما أقدمنا عليه. راجين الرد السريع على رسالتنا، والله الموفق.

(جمادى الثاني 1404هـ) رضوان إبراهيم دعبول عمان - الأردن - ص. ب: 18398

الجواب [رقم: 329]:

الحمد لله، نرفع هذا الكتاب إلى مدير مجلة «أروى» للأطفال بعمان الأردن.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد، فقد فهمت سؤالك عن رسوم الأشخاص الذين ليسوا من الأنبياء ولا من الصحابة الكرام في مجلتكم. وإن الخطب في ذلك يسير، وإنه يجوز رسم الأشخاص العاديين بما ليس له ظل. وإنما هو محض حبر، وهذا فيه حديث صحيح «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» [رواه البخاري (5958)، ومسلم (2106) من حديث أبي طلحة رضي الله عنه].

فالذي نفتي به هو جواز وضع الصورة بالنقش، أي: الطبع، لكونه لا يصدق عليها اسم الصورة، وإنما يصدق على الصورة المجسمة ذات الظل... فهذا حاصل ما نفتي به، ونعتقد جوازه في هذا الموضع.

وقد دخل النبي ﷺ بيته فرأى صور خيل عليها أجنحة فقال: «خَيْلٌ، وَلَهَا أَجْنِحَةٌ!». فقالت عائشة: إنه كان لنبي الله سليمان خيل لها أجنحة[رواه أبو داود (4932)، والنسائي في الكبرى (8901)، وابن حبان (5864) من حديث عائشة رضي الله عنها] وهي ذات أرواح. مما يدل على جواز ذلك.

والباري يحفظكم... والسلام.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر

***

حكم القات

صاحب الفضيلة/ الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود حفظه الله...

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

تحية طيبة وبعد؛

إننا إذ نتشرف بإرسال خطابنا هذا إلى فضيلتكم آملين منكم الرد على استيضاحنا عن مادة القات، والتي تنتشر زراعتها في اليمن والصومال، ونحن نود أن نعرف هل تلك المادة محرمة من الناحية الشرعية أم لا؟ وذلك لكي نستطيع بناء على رأي فضيلتكم مخاطبة الشؤون القانونية لكي تدرج في قائمة المواد المخدرة.

هذا وتفضلوا فضيلتكم بقبول جزيل الشكر.

(19/5/1398هـ، 26/4/1978م) خميس مسعود الطبيشي مدير (الأنتربول) ومكافحة المخدرات

الجواب [رقم: 330]:

السيد/ مدير (الأنتربول) ومكافحة المخدرات المحترم.

قيادة الشرطة، الدوحة.

تحية طيبة وبعد؛

فقد طلبتم منا التعريف بـ(القات) وحقيقة إلحاقه بالمخدرات أو المباحات.

فالجواب: أن رسول الله ﷺ نهى عن كل مخدر ومفتر[رواه أبو داود (3686)، وأحمد (26634) من حديث أم سلمة رضي الله عنها ولفظه: «عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ»]. ومن صفة الرسول أنه يحل للناس الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث...

وهذا (القات) هو أشرّ من كل مخدر، بحيث يقضي على حياة الشخص بتخديره وتفتيره زمنًا طويلاً... فنحن نؤمن بأنه محرم استعماله اتقاء لضرره، ونحكم بموجبه.

ليكن عندكم معلومًا والسلام.

(19/5/1398هـ، 26/4/1978م) عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

حكم السكن في حجر ثمود

الجواب [رقم: 331]:

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الأخ الفاضل صالح بن هايل الفقير - حفظه الله -، السلام عليكم ورحمة الله.

وبعد؛

فإنني استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامك القويم، خصوصًا ما أشرت إليه من حجر ثمود، وهل يجوز السكن فيه مع كونه يوجد به قديم بيوت وبساتين؟

فاعلم يا أخي أن الحكم فيه واضح جلي، وأن الملك فيصل طلب من المشايخ حل مشاكل عدة مسائل، منها حجر ثمود، وهل يجوز السكنى فيه، ومنها حكم تأمين السيارات، ومنها إثبات هلال رمضان، ومنها جواز هدم المسجد والمقبرة عندما يتعرض لهما الطريق، وأرسلوا إلي ورقة السؤال يطلبون مني فيها الجواب، فكتبت في كل واحدة رسالة ممتعة، ومنها حجر ثمود، فلي فيه رسالة عنوانها «حجر ثمود ليس حجرًا محجورًا»، وسنبعثها لك في ضمن هذه الرسالة، وبينت فيها الحكم الشرعي من جواز السكنى فيه إلى يوم القيامة بلا كراهة، كسائر بلدان المعذبين التي يسكنها الناس، وأوردت في الرسالة من الأدلة الجلية والبراهين القطعية ما يزيل الإشكال عن السؤال، وأهمها هو أن النبي ﷺ وأصحابه نزلوا في الحجر عند بيوت ثمود في غزوة تبوك، وأقاموا فيه ما شاء الله أن يقيموا، وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه وقال: باب نزول النبي في الحجر[صحيح البخاري (6/7)].

وقلت: إن نزول النبي ﷺ بالحجر يومًا أو يومين مقتضٍ لإباحة النزول به إلى يوم القيامة، ولو كان النزول به مكروهًا أو حرامًا لما نزل به رسول الله؛ إذ ليس عندنا من الدلائل ما يمنع سكنه، وأما نهي النبي ﷺ عن شرب ماء الآبار وعن الطبخ منها فيترجح أنها كانت مهجورة، وأن ماءها يعود عليهم بالضرر، فلعله يعود إلى أمر يتعلق بصحتهم؛ إذ الوقاية خير من العلاج، وقد أمرهم النبي ﷺ أن يشربوا ويطبخوا من بئر الناقة، وهي بئر ثمود، التي قال الله فيها: ﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُوم[سورة الشعراء، الآية: 155]، ومن المعلوم من الطب الحديث عناية الأطباء بالماء، وأن منه الطيب ومنه الخبيث، فأرض الحجر خلقها الله للانتفاع بها لا لهجرها، فهي باقية على حالتها المقتضية لإباحة سكناها، فترابها طهور وماؤها مطهر، فهي داخلة في عموم قوله ﷺ: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» [رواه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر رضي الله عنه]، ومن ادعى خلاف ذلك فإنه مطالب بالدليل، ولا دليل عنده، وإنما هو محض التعصب على الهوى.

اللَّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، إن أجبناهم لم يفقهوا، وإن تركناهم تركناهم إلى غي طويل. والسلام.

(20/10/1399هـ، الموافق: 11/9/1979م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم العمل في البنوك الربوية وحكم ماله

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود الموقر رعاه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أرجو أنكم بخير ورفاهية.

سبق أن وجهت إلى فضيلتكم سؤالاً، وحتى الآن لم أتشرف منكم بالجواب عليه، مما جعلني أعتقد أن الرسالة لم تصلكم، فهأنذا أعيد على فضيلتكم، راجيًا سرعة الجواب المدروس من الناحيتين الدينية والدنيوية:

1– من المعروف أن البنوك تتعامل بأموالها بطرق كثيرة، منها ما هو ربوي، ومنها ما هو غير ربوي، إذن - أطال الله بقاءكم - ما حكم التوظف بالبنوك في هذا الزمن الذي عمت فيه البلوى، ولا تكاد شركة تخلو معاملاتها من الربا، وبالأخص:

أ - هل مرتب الموظف بالبنك حلال؟ وهل يجوز لنا أن نتعامل معه في مرتبه؟

ب - أن الموظف لا يقدر أن يختار نوع عمله في البنك، بل يلزمه أن يمشي على نظام البنك مهما كان، هل عليه حرج؟

- هل لا مانع من عيادة الأصدقاء من المسيحيين:

أ - عيد رأس سنتهم الجديدة؟

ب - عيد ميلاد المسيح؟

تكرموا بسرعة الجواب المدروس؛ لأن المسألتين الأوليين ملحتان بالنسبة لنا، ولفضيلتكم الشكر، إذ أخذنا الكثير من وقتكم الثمين، والسلام عليكم.

المخلص: حمد العبدالله (23/1/1404هـ)

الجواب [رقم: 332]:

الفاضل المكرم الدكتور حمد العبدالله - حفظه الله -.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

وبعد: فقد استلمت كتابك الكريم، وفهمت ما تضمنه من المسائل التي سألت عنها... وهي:

أ - من المعروف أن البنوك تتعامل بأموالها بطرق كثيرة، منها ما هو ربوي، ومنها ما هو غير ربوي، إذن ما حكم التوظف بالبنوك في هذا الزمن الذي عمت فيه البلوى، ولا تكاد شركة تخلو معاملاتها من الربا؟

وبالأخص:

1– هل مرتب الموظف بالبنك حلال؟ وهل يجوز لنا أن نتعامل معه في مرتبه؟

2– أن الموظف لا يقدر أن يختار نوع عمله في البنك، بل يلزمه أن يمشي على نظام البنك مهما كان، فهل عليه حرج؟

والجواب: أن من قواعد الفقه الإسلامي أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أكل طعام يهودي صنعه له، وثبت أنه توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير يقتات بها هو وأهله، مع العلم أن الله وصف اليهود بأنهم سماعون للكذب، أكالون للسحت، والسحت هو الحرام، من استحلالهم أكل الربا.

والمال المختلط كمال البنوك يحكم عليه بأنه حلال، وأن الرواتب المدفوعة منه حلال ليست بحرام، ولا إثم على من تكسب بهذه الطريقة؛ إذ هي الوظائف الحكومية، وكل الناس حتى القضاة لا يتقاضون رواتبهم التي يعيشون بها إلا عن طريق البنوك.

معايدة النصارى في أعيادهم

ج - هل لا مانع من معايدة الأصدقاء من المسيحيين؟

1– عيد رأس سنتهم الجديدة؟

2– عيد ميلاد المسيح؟

الجواب [رقم: 333]:

عن معايدة المخالفين للدين من النصارى أو غيرهم، فاعلم أنه ليس عندنا في الشرع منع بات عن مثل ذلك، بل ثبت ما يخالفه، فقد عاد النبي ﷺ يهوديًّا كان مريضًا، والعيادة نظيرة المعايدة، واستأذن رجل على النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيْرَةِ هُوَ»، ثم تطلق رسول الله في وجهه وابتسم إليه لما دخل عليه، فقالت عائشة في ذلك، فقال: «هل تجديني فحاشًا؟ إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه»، وفي رواية: «اتقاء شره» [رواه البخاري (6032، 6054)، ومسلم (2591) من حديث عائشة رضي الله عنها]. مما يدل على تسامحه مع المخالفين له في الدين، ورسول الله هو الأسوة الحسنة في ذلك.

فالفتوى والإجابة مقصورة على المعايدة دون المشاركة في الأعمال التي يستبيحونها في أعيادهم.

هذا وتقبلوا عظيم سلامنا... والباري يحفظكم.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

مشاركة غير المسلمين في أعيادهم وفرحهم

صاحب الفضيلة المحترم الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.. الموقر رعاه الله وحفظه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أنكم تتمتعون بكامل الصحة والرفاهية.

فضلاً لا أمرًا، أرجو تنويرنا عن المسائل الآتية:

2– غير المسلمين، هل لا مانع من زيارتهم بالمناسبات كعيد الميلاد، ورأس سنتهم الجديدة، وقدوم مولود... إلخ؟ وهل لا مانع من إرسال بطاقات لهم في هذه المناسبات وما أشبهها؟

4– إذا أساء الوالدان معاملة ولدهما إساءة مرهقة، فهل التذمر من هذه المعاملة يعتبر من العقوق؟ أم هو من حق الولد؟

وفقكم الله وحفظكم

المخلص: حمد العبدالله

الجواب [رقم: 334]:

13/6/1403هـ.

إلى الفاضل الدكتور حمد العبدالله، حفظه الله.

وسلام عليكم ورحمة الله... وبعد، فإنني استلمت كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من كلامكم القويم، خصوصًا ما أشرت إليه من السؤال عن المسائل التي أحدها:

السؤال: 2– زيارة غير المسلمين في مناسباتهم؛ كأعياد الميلاد ورأس السنة، وقدوم مولود... إلخ، وهل هناك مانع من إرسال بطاقات تهنئة لهم في هذه المناسبات وما أشبهها؟

الجواب: إنه لا مانع شرعًا من عيادة هؤلاء أو تهنئتهم على أفراحهم، وقد أجاب النبي ﷺ دعوة يهودي إلى طعام صنعه له، وثبتت عيادته ليهودي حيث قال له: «أَسْلِمْ». فتلكأ، فقال أبوه: أطع أبا القاسم. فعند ذلك قال: أشهد أن لا إلـٰـه إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فدخل في الإسلام. وصلى النبي ﷺ على جنازته[رواه البخاري (1356)، وأحمد (13736) من حديث أنس رضي الله عنه].

والذين يعيشون من الكفار بين المسلمين يعتبرون بأنهم ذميون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين والله يقول: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...[سورة الممتحنة، الآية: 8]. وفي الحديث: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» [رواه البخاري (6258)، ومسلم (2163) من حديث أنس رضي الله عنه]، لقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[سورة النساء، الآية: 86].

***

حكم التذمر من إساءة الوالدين

السؤال: 4– إذا أساء الوالدان معاملة ولدهما إساءة مرهقة، فهل التذمر من هذه المعاملة يعتبر من العقوق أم هو من حق الولد؟

الجواب [رقم: 335]:

إن هذا التذمر على الوالدين يلتحق بالعقوق؛ لأن من الواجب أن يقابل إساءتهما بالإحسان، وفي الحديث: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ ثُمَّ يُعْتِقَهُ» [رواه مسلم (1510) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

الأسئلة الموجهة من مجلة «المسلمون» بلندن إلى فضيلة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود والرد عليها

1– السؤال الأول الذي حاصله هو أن:

امرأة توفي عنها زوجها وتحصل على معاش شهري من الحكومة، فإذا تزوجت انقطع عنها، فما الحكم إذا تزوجت زواجًا إسلاميًّا سريًّا دون إشهار لهذا الزواج لتحصل على هذا المعاش... وهل يصح لها أن تحج وتتصدق ببعض هذا المال؟

الجواب [رقم: 336]:

أن هذه المرأة لا يحق لها أن تحتال في تناول هذا الراتب المقرر للأرملة الخلية عن الزوج، ثم تحتال سرًّا بالزواج السري وهو يخالف الزواج الشرعي، فما تناولته بعده فإنه حرام عليها حتى يصدر الإذن من الحكومة بإباحته لها بعد علمهم بزواجها؛ إذ بدون ذلك يعد من باب الخيانة، والله لا يصلح كيد الخائنين، ولا يجوز أن تحج بهذا المال أو تتصدق منه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ[سورة البقرة، الآية: 267].

السؤال الثاني: بعض الأئمة يعقدون لمسلم على زوجة ثانية مخالفين بذلك القانون الإنجليزي الذي يمنع ذلك، فما هو الحكم الشرعي لهذا الزواج؟ وما موقف الذرية المولودة فيه ديانة، وما حقها في الميراث، علمًا بأن القانون لا يعترف بهم؟

الجواب [رقم: 337]:

إن لكل مقام مقالاً، ولكل سؤال جواب، فحكم الله نافذ ليس له دافع في أي مكان وفي أي زمان، فالتزوج بالثانية مع مراعاة التزام العدل بين الزوجتين هو جائز شرعًا، ومن عادة المدن التي يحصل فيها الاختلاط بين المسلمين وغيرهم من الأمم المخالفين أن يحصل فيها التسامح غالبًا، وترك كل مذهب يتمشى على حسب دينه وعقيدته، فمتى تم النكاح بالثانية بشروطه المعتبرة فإنها زوجة ثانية بالكتاب والسنة، وما حصل بينهما من الأولاد فإنه منسوب إلى أبيه وأمه.

أما كون القانون الإنجليزي لا يعترف بهؤلاء الأبناء والبنات لأبويهم الشرعيين، فإن ذلك ليس بمبطل لإلحاقهما بنسب أبويهما، بل هو من باب الغلبة والقهر الذي يبتلى به بعض الناس، ولا كلام في الغلبة والقهر؛ إذ هما خارجان عن نظام الحق والعدل، والحق أن هذه الزوجة ترث من زوجها كما يرث الزوج منها، وكذلك بنوهما وبناتهما... فهو حكم قطعي شرعي لا مجال للجدل في مثله.

السؤال الثالث: اشترت جماعة كنيسة لتحويلها إلى مسجد، وقد قصّرت الأموال معهم فاقترضوا من البنك بالربا، ما حكم الصلاة في هذا المسجد؟ وهل عدالة القائمين عليه جرحت أم لا؟ وهل يصح لمن لم يشارك في الإثم أن يكون عضوًا في لجنة تضم بين أعضائها جماعة ممن اقترضوا من البنك بالربا؟

الجواب [رقم: 338]:

أنه يظهر أن هؤلاء الجماعة المشتركين في بناء مسجد مكان كنيسة أن قصدهم حسن من كونهم اقترضوا من البنك بطريقة الربا من أجل أنهم يجهلون تحريم الربا، حيث تربوا في بلاد لا يعرفون فيها عن أحكام تحريم الربا، وقد تم المسجد بتمكينهم له بهذا القرض الربوي، فالصلاة في هذا المسجد صحيحة، وعلى المذكورين مراعاة التوبة من سوء عملهم ثم أداء الحق إلى أهله، وبذلك يتم حسن عملهم بحسن نيتهم وجهلهم بمحظور دينهم، ولا نقول بجرح عدالتهم مع حسن قصدهم وعملهم؛ إذ كل الناس يخطئون، وخير المخطئين التوابون، فلا يمنع من مشاركة أمثال هؤلاء - مع مراعاة الشريك لأمر شركائه - بأمر بالخير واجتناب فعل الشر من ربا وغيره.

السؤال الخامس: استخدام الهرمونات المقوية، علمًا بأن بعضها مستخرج من حيوانات قد لا تكون حلالاً، وما حكم الأولاد الناتجين عن هذا الطريق؟ وهل يثبت نسبهم للأب؟

الجواب [رقم: 339]:

أن هذه الأدوية على اختلاف أنواعها تستحيل من خبيث إلى طيب أشبه مجاري الفضلات في لندن؛ فإنها قد استحالت بعد معالجتها.

***

استفتاء حول عملية تعقيم امرأة لمنعها من الحمل

السؤال:

حرم السيد أمير حسين علم الدين تبلغ من العمر حوالي سبعة وعشرين عامًا، مصابة بمرض الربو الشعبي (حساسية الجهاز التنفسي) مما يجعلها مريضة دومًا غير قادرة على التنفس في أكثر الأوقات، مشكلتها أن الله رزقها ثمانية من الأطفال، أكبرهم في حوالي العاشرة أو الحادية عشر من العمر، أي: أنها سريعة الحمل، لا تطيل فترة الرضاعة المعروفة، بل على استعداد للحمل حينما يكون الصغير ابن ثلاثة شهور، حالتها الصحية لا تتحمل أكثر من ذلك، رأى الطبيب المعالج أنه ينبغي أن تتوقف عن الحمل والولادة حتى تتمكن من تربية أطفالها الثمانية بارك الله لها فيهم وتتمكن من العناية بصحتها، زوجها يرفض عملية التعقيم الدائمة خوفًا من الوزر، وينسى أن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[سورة البقرة، الآية: 286]، والثمانية أطفال أكبرهم في حاجة إلى جهد جهيد من الأم والأب على السواء، ليس في المأكل والمشرب، فالناحية المادية ميسورة والرزق على الله، ولكن من الناحية التربوية، لضمان الوصول بهم إلى التعليم المناسب والمسؤولية الكاملة.

أرى أن عملية التعقيم هي خير علاج لهم، وبارك الله لهم في أولادهم ليكون كل منهم شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أما الخوف من الوزر، والسماح بزيادة الإنجاب فذلك فوق طاقة الأم الضعيفة، وهي المسؤولة عن خدمتهم ورعايتهم، والطرق المؤقتة لمنع الحمل مثل الحبوب والشريط لا تناسب هذه الأم؛ نظرًا لحالتها الصحية أولاً، وثانيًا لعدم ضمان هذه الحبوب واحتمال السهو والخطأ مما يؤدي إلى حمل تاسع، والأمر متروك لأولي الأمر من رجال الدين.

العيادة الشرقية للنساء الدكتورة ليلى

الجواب [رقم: 340]:

السلام على الدكتورة/ ليلى. بالعيادة الشرقية للنساء.

وبعد: فإنني أشرفت على البطاقة الصادرة من الدكتورة عن خصوص تشخيص مرض حرم المدعو/ أمير حسين علم الدين، وما يجب أن تعالج به ومنه، حيث إنها أم لثمانية رؤوس وإنها مصابة بمرض الربو الشعبي وضعف التنفس، وكون الطبيب قرر ذلك لتدارك الخطر عليها من التخلي عن الحمل بطريقة معروفة تمنع من نفوذ الحمل، غير أن زوجها يعارض في منع الحمل ويرى أنه لا يحسن فعله عن طريق الشرع.

الجواب: بما أن الضرورة تقدر بقدرها ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[سورة البقرة، الآية: 233]. فمتى قرر الطبيب أن استدامة عافيتها وبقاء حياتها في قطع الحمل عنها فهذا جائز شرعًا، وليس فيه ما يؤثم فاعله ولا الزوج، ومن مصالحه استدامة تمتعه بها وهي صحيحة الجسم، وعندهما من العيال ما يكفي، وأكثر الناس يعمل مع زوجته من التمتع بها ما يمنع نفوذ الحمل معه، وعند سؤالهم عن ذلك نجيبهم بأنه متى رضي الزوج والزوجة بذلك فلا مانع لإباحته، أما إذا كان الخطر محققًا ومخوفًا فإنه لا مانع للمرأة من فعله، سواء رضي الزوج أو لم يرض، لأن فيه إنقاذًا لنفسها، واستبقاء لصحتها.

أحببت تعريفكم بذلك؛ كي لا يخفى. والسلام عليكم.

(15/2/1400هـ) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

حكم إقامة حد الخمر بناءً على تحليل الدم

أرفع لسمو نائب الأمير الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني - حفظه الله - جواب سؤال:

حاصله: أنه توجد حوادث تصادم سيارات وحوادث تنجم عن السرعة الزائدة، ويتهم بعض السائقين بتعاطي شرب المسكرات التي ينجم عنها كثير من هذه الحوادث، لكنه بدون يقين عندنا في الظاهر، فهل يجوز تكليف هؤلاء السائقين بعرضهم على الأطباء لفحص دمائهم ليتبين لنا حقيقة المتعاطي للسكر وعدمه؟ وهل يكون قول الطبيب حجة في إقامة الحد على الشخص استنادًا إلى تصديق الطبيب في ذلك أم لا؟

الجواب [رقم: 341]:

إن الأحكام الشرعية والحدود المرعية كلها مبنية على الأفعال الظاهرة الجلية؛ لأن الله سبحانه قد تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات، فعرض هؤلاء السائقين على الأطباء لفحص دمائهم هو مما ينبغي ستره والتجاوز عن مثله، لكونه من التجسس المنهي عنه بالكتاب والسنة، والمعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وتقرير الطبيب بخصوصه من أنه يوجد به أثر سكر هو من الشبهات التي يجب درؤها؛ أي: دفعها وعدم رفعها، لقول النبي ﷺ: «ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» [لم نجده بهذا اللفظ، وعند الدارقطني (3098)، والبيهقي (17059 - 17060) من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «ادْرَؤُوا الحُدُودَ»، وإسناده ضعيف]، وفي حديث آخر أنه قال: «ادْرَؤُوا الْحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [رواه الترمذي (1424)، والحاكم (8163) من حديث عائشة رضي الله عنها]، وهي نصوص صحيحة تقتضي وجوب الستر، وعدم البحث عن الأمور الخفية التي لا يتوصل إلى معرفتها والوقوف على حقيقتها إلا بفحص الدم، ولما قيل لابن مسعود: إن فلانًا يوجد في لحيته أثر الخمر قال: إنا قد نهينا عن التجسس[أخرجه أبو داود (4892)].

فالشارع الحكيم يحب لأمته ستر مساوئهم وعدم إشاعة الفاحشة عنهم.

فهذا حاصل الجواب عن السؤال الوارد علينا من سموكم، أحببت عرضه عليكم للعلم به والعمل بموجبه، لا زلتم موفقين لنفع الأنام والإحسان العام، والباري يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(12/3/1388هـ، 8/6/1968م) رئيس المحاكم الشرعية

الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام

الجواب [رقم: 342]:

إلى الفاضل المكرم الدكتور/ محمد عزت نصر الله المحترم.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛

فقد استلمنا كتابكم الكريم وبرفقته الرسالة المتعلقة بذكر شأن الجنة التي أهبط منها آدم، وطلبت مني إبداء الرأي فيما يترجح لدي في محلها، وقد طرق العلماء موضع ذكرها بدون يقين على محلها، وقد استقصى ابن القيم في كتاب (الروح) الكلام عنها، كما أن صاحب تفسير المنار تكلم فيها أيضًا في المجلد الأول منه، كما أنك ذكرت أقوال العلماء فيها، وأقوى الأقوال أنها جنة في السماء لا يعلم موضعها إلا الله.

والقول الثاني: أنها جنة في الأرض، أي بساتين، واستشهدوا لذلك بالدلائل التي لا تنطبق على الجنة التي وعد الله أولياءه، من وجود إبليس فيها حيث تسلط على آدم فحسن له أكل الشجرة الممنوع منها، ومتى علمنا أن هذه جنة غرسها الله بدون عامل ولا معامل، وإنما هي بمحض القدرة، وجب علينا أن نكف عن الخوض بالجزم في موضعها.

وأضعف الأقوال من يقول إنها كوكب قديم أصبح فتاتًا بين المريخ والمشتري، وهو ما أشير إليه بأنه كوكب عدن، فعندي أن هذا قول ضعيف لا يستند إلى دليل، وحسبنا أن نؤمن بكل ما أخبر الله به من وجود هذه الجنة، وإدخال آدم وزوجته حواء هذه الجنة إلى نهاية المدة التي قضى الله بإخراجهم منها.

هذا والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(13/3/1393هـ، 16/4/1973م) رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
عبدالله بن زيد آل محمود

***

لقاء صحفي مع مجلة الفجر القطرية[نشر في مجلة الفجر القطرية في 19 رمضان 1396هـ (13/9/1976م)]

فضيلة الشيخ.. نلاحظ - بكل أسف - أن خطبة الجمعة هابطة المستوى في معظم المساجد ولا تفي بالغرض منها.. فأسلوبها عقيم.. ويغلب عليها الجهل.. فما هو الحل؟

الجواب [رقم: 343]:

الفطرة من قوت البلد.. والله يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[سورة التغابن، الآية: 16].. وكما تعلم فإن عدد العلماء النابهين لدينا قليل.. والمساجد كثيرة.. ونحاول قدر ما نستطيع أن نرفع مستوى الوعظ والإرشاد.. بل وهناك خطة موضوعة لذلك.. وقد تم إقامة معهد للأئمة والخطباء افتتح منذ فترة قصيرة.. ولكن مما يزيد المشكلة أن معظم الطلبة ينصرفون إلى علوم أخرى، ولا يقبلون على دراسة الدين والتفقه فيه.. وعلى العموم؛ فإنني أنوي بعون الله جمع خطبي وأحاديثي ومحاضراتي لطبعها وتوزيعها على الخطباء للاستفادة منها[أصدر الشيخ كتاب الحكم الجامعة والذي ضم أكثر خطبه].

سمعت أن لك موقفًا من تعليم المرأة؟

الجواب [رقم: 344]:

لا.. لا.. إن تعليم المرأة العلم النافع أمر لا غبار عليه.. والتعليم أمر مشترك بين الرجال والنساء.. فإن قلنا: إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح، وتعلم سائر العلوم والفنون كالرجال.. فهذا صحيح.. والعلم النافع مطلوب ومرغوب فيه في حق الرجال والنساء.. لكن من العلم ما يكون جهلاً. وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع[رواه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه].. ولا يستعيذ الرسول ﷺ إلا من الشر.

هذا هو موقفي من تعليم المرأة.. أنا أؤيد ذلك تمامًا لما فيه مصلحتها ومصلحة الأمة.. ولكن اعتراضي هو على سفر المرأة للتعلم.. هذا حرام وضد الشرع.. حرام أن تذهب الفتاة للدراسة والتعلم فتعيش في مجتمعات تفسد شرفها وأخلاقها.. فلا فائدة من اكتسابها للعلم إذا فقدت ذلك كله.. كما أن سفرها للخارج سيعرضها للاختلاط.. وهذا أمر محرم..

إذن ما العمل؟ خاصة أن فروع العلم أصبحت متعددة.. وأصبح لكل تخصص كلية أو جامعة لا بد من الانتقال إليها للدراسة فيها؟

الجواب [رقم: 345]:

لقد طبعت في ذلك رسالة أجبت فيها على عدد من الأسئلة المشابهة.. وإنني أرى أن تقوم الفتاة بتعلم ما هو متاح أمامها في بلدها ووسط أهلها.. كما أنني أرى أنه يمكنها تحصيل العلم النافع وحدها.. وذلك بمواجهة الكتب والفنون وسائر المؤلفات وبسؤال العلماء عن المشكلات؛ لأن هذا هو طريق حصول العلم للرجال والنساء.. فالراسخون في العلم، والمتوسعون فيه، إنما يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه بهذه الطريقة.. فلماذا تترك المرأة هذا؟ ثم تحرص ويحرص أهلها على السفر الذي حرمه الشارع بقوله: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» رواه البخاري ومسلم[صحيح البخاري (1088)، وصحيح مسلم (1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].. خصوصًا مثل السفر البعيد الذي تتعرض فيه إلى الأخطار والأضرار.. ثم إلى الافتتان بها، الناشئ عن الخلوة بها واختلاطها بالرجال في الملاهي! والمجتمعات وسائر الأحوال والأوقات، تقليدًا لما يسمونه تحرير المرأة عن رق أهلها وزوجها!

يمضي الشيخ في حديثه متحمسًا ويقول: أليس من الأوفق والأليق لهذه الفتاة ولأهلها، أن تتعلم مبادئ العلوم الشريفة عند أهلها، وفي مدارس بلدها وأهل ملتها، لتستعين بالبيئة والمجتمع على تحسين تربيتها، لتكون في بيت زوجها وأهلها صالحة مصلحة؟!

ثم يقول الشيخ نقلاً عن رسالته:

إن عذر دعاة الاختلاط هو الحرص على حصول العلم والتعلم لكل من الرجال والنساء، مع اختصار مصروف النفقة في سبيله، وهذا سهل ميسر وليس بعذر يبيح أكل الميتة للمضطر، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[سورة الطلاق، الآية: 4]، فالحكومة القائمة بالصرف على كافة المعارف ومنها الجامعات، لن تعجز عن النفقة في حالة انفصال كل جنس عن الآخر، وأما القول بدعوى الحرص منهم على حصول العلم كما يزعمون، فإن الاختلاط يعد من أسباب موانع العلم وتعويق حصوله، إذ هو ضار بالمتعلمين والمتعلمات؛ لكونه يغري الشباب والشابات ويصرفهم عن فهم العلم وتعلمه.. إن الاختلاط يعد من مساوئ الأخلاق وليس من خلق أهل الإسلام في شيء.

إذن، وماذا عن اشتغال المرأة؟

الجواب [رقم: 346]:

فيه ضرر على زوجها وعلى عيالها وعلى البلاد أيضًا.. وسوف يكون اشتغالها على حساب حق أولادها في التربية السليمة، وعلى حساب زوجها وراحته في منزله.. وينعكس ذلك كله على المجتمع بأسره.. ولي رسالة أخرى لم تطبع بعد تناولت فيها هذا الموضوع، وكان عنوانها (نهاية المرأة الغربية، بداية المرأة العربية).

ولكن أحيانًا يكون عمل المرأة ضرورة اقتصادية، مثل مساعدتها لزوجها في تحمل أعباء الحياة.. أو أن تشعر المرأة أن العمل هو حق لها وواجب عليها نحو مجتمعها، الذي يحتاج إلى علمها وخبرتها، سواء كانت مدرسة أو طبيبة أو غير ذلك؟

الجواب [رقم: 347]:

نعم أنا لا أعارض اشتغال المرأة.. ولكن يجب أن نوفر لها الجو الشرعي الإسلامي الذي تستطيع من خلاله القيام برسالتها دون تعريضها للمهالك.. لا بد من الحرص على أن يكون عمل المرأة في شيء محترم.. وأن تكون بعيدة عن الرجال.. وهذا شرط ضروري.. أما غير ذلك فلا نراه، ولا نقره، وما زلت أقول: إنه إذا كان الراتب يكفي الرجل وجب على المرأة أن تبقى في بيتها.. هذا أليق.. وألزم لمصلحة أولادها وزوجها ومجتمعها.. ولنتذكر دائمًا أن عمل المرأة في الدوائر والمعامل ضياع للبيت، وخراب للعيال.

كنت أعرف مقدمًا أن أكثر ما يثير الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود هو مجرد مناقشته في آرائه بالنسبة للتلفزيون أو أفلام السينما.. ولذلك آثرت أن أبقي كل أسئلتي حول هذا الموضوع إلى نهاية اللقاء، والآن جاء دورها.

فضيلة الشيخ.. لماذا أغلقت السينما في قطر؟ وما معنى ذلك خاصة وأن سهرات التلفزيون عامرة في كل ليلة بنفس الأفلام التي تقرر من أجلها إغلاق السينما طوال شهر رمضان؟

الجواب [رقم: 348]:

إن الأضرار الناجمة عن نشر التلفزيون هي أشد وأشر من أضرار السينما بكثير.. لكون السينما لا يتعدى ضررها إلا من يحضرها.. وفي الغالب لا يحضرها إلا الهمج والسذج!!.. الذين لا قيمة لهم في المجتمع!! أما التلفزيون فإنه يغزو الناس في عقر دورهم. فيوقع الفتنة في صغارهم وكبارهم بما يشاهدونه من أفلام الخلاعة التي هي بمثابة الدرس.. تخدر الرؤوس كتخدير خمر الكؤوس.. فهي أشد ضررًا من كل شيء.. ومن الواجب منع نشر سائر الأفلام الخليعة؛ احترامًا لحرمة رمضان ولحرمة جميع المسلمين، واتقاء نشر هذه الفواحش التي تسيء سمعة البلاد والعباد.

ألا ترى في ذلك مبالغة يا شيخ.. التلفزيون أصبح أداة تسلية وثقافة ومعرفة.. ويمكنني أن أشاهد فيه ما أريد.. أو أغلقه دون ما لا أريد؟

الجواب [رقم: 349]:

لا.. لا.. لا.. هذه حجة باطلة.

ألا يوجد تلفزيون في دارك؟

الجواب [رقم: 350]:

حاشا لله.. حاشا لله..

قد يكون في ذلك حرمانًا لأهلك من برامج ثقافية وعلمية مفيدة يحتاجون إليها في حياتهم؟

الجواب [رقم: 351]:

حاشا لله.. ليس في ذلك أي حرمان.. بل هو راحة لهم واطمئنان.. يقول لي بعض الناس إنه من الممكن أن تقتصر المشاهدة على ما ينفعهم فقط من خلال جهاز التلفزيون.. ولكنني أقول: ما دام الفساد يمكن أن يدخل من بينهم فلماذا لا نمنعها من الأساس.. ثم إن الإنسان لا يستطيع أن يكون مراقبًا على ما يشاهده أبناؤه في كل وقت.

وعلى كل حال فإنني أناشد جميع المسؤولين عن الإعلام الاقتصار على نشر ما ينفع الناس في أمر دينهم ودنياهم واجتناب نشر الأفلام الخليعة وكل ما يفسد أديان الناس وفطرتهم.. ويوقعهم في الافتتان بما يشاهدونه من الصور المتحركة الناطقة.

فضيلة الشيخ.. لو طلبوا منك تقديم حديث ديني من خلال التلفزيون.. هل ترفض؟

الجواب [رقم: 352]:

نعم..

لماذا؟

الجواب [رقم: 353]:

هذا هو رأيي..

ولكن هذا حديث في الدين يستفيد منه الناس؟!

الجواب [رقم: 354]:

هناك وسائل غير ذلك لإفادة الناس.

أثار فيلم (محمد رسول الله).. زوبعة هائلة.. رغم حرص مخرج الفيلم على عدم ظهور صورة النبي ﷺ... ما رأي فضيلتكم؟

الجواب [رقم: 355]:

إن الأفلام السينمائية من هذا النوع تفتح بابًا للفتنة على الناس.

أولاً: حرام التعرض لشخص الرسول.. وحرام التعرض لحركته وكلامه، وكذلك أحكامه مع الصحابة.. ولنا رسالة في هذا الموضوع لم تطبع بعد.

ومن ناحية أخرى: فقد رأى بعض رجال الدين أن قصة الفيلم نفسها بها بعض الأخطاء في تسلسل الحوادث.. كما وضع صورًا غير واقعية وغير صحيحة من الناحية التاريخية والدينية.. وهذا وحده يكفي لاتهام الفيلم.

أجل كان هذا هو رأي بعض رجال الدين.. بينما أكد البعض الآخر أنه فيلم يخدم الرسالة الإسلامية ويتيح لدول الغرب أن تتعرف على حقيقة الدعوة الإسلامية منذ بدايتها؟

الجواب [رقم: 356]:

قلت: إن هذا يفتح بابًا للفتنة لا داعي له.. اليوم فيلم عن الرسالة.. وغدًا فيلم عن الصحابة.. وبعده فيلم عن الرسول.. وهكذا.. ونفتح على أنفسنا بابًا يدخل منه من يريد.. ويختلط الحق بالباطل.. ويخضع ذلك كله للرغبة والهوى، وفي ذلك شر عظيم.

قال أحد الجالسين مخاطبًا الشيخ عبدالله: طال عمرك، قرأت اليوم في إحدى الصحف إنهم يستعدون الآن في فرنسا لإخراج فيلم عن الحياة الجنسية للمسيح.

وضحك الشيخ عبدالله.. ضحك من أعماقه.. ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.

وبعد؛ فمعذرة يا سيدي الجليل.. فهذا هو لقائي الأول معك.. وهو أيضًا - على ما أعلم - أول لقاء لك مع الصحافة.. وقد بقي لدي الكثير الذي كنت أود مناقشتك فيه وسماع رأيك بصدده.

وبقي لدي أن أرجوك أيضًا لأن تعدل عن رأيك في موضوع الصور التي ترفضها.. سوف ينشر الموضوع وليس به صورة واحدة لك.. وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي ينشر فيها حديث دون صورة صاحبه.

ورفض الشيخ بإصرار.

قلت: هل هو حرام؟

الجواب [رقم: 357]:

قال: لا أقول إنه حرام.. ولكنني لا أرغب!

وانتهى الحديث.

***

إحداث الكنائس والبيع في بلاد المسلمين وتجنيس غير المسلمين

السؤال: ما الحكم الشرعي بشأن إحداث الكنائس، والبيع، وأماكن الصلوات لأهل البدع، في بلاد المسلمين؟ وما حكم ما بُني منها؟ وما حكم تجنيس غير المسلمين؟

الجواب [رقم: 358]:

إن هذه المعابد على اختلاف أسمائها قد ذكرها الله في كتابه المبين، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا[سورة الحج، الآية: 40]، فالصوامع هي المعابد الصغار لأهل الكتاب، والبيع هي معابد اليهود، والصلوات هي الكنائس للنصارى.

ولما افتتح الصحابة بلدان فارس والروم ومصر والشام، أبقوا هذه المعابد على حالها، ولم يتعرضوا لها بسوء، ولم يمنعوا أهلها من دخولها.

وفي صلح رسول الله ﷺ مع نصارى نجران ما نصه:

فقد روى أبو عبيد - رحمه الله - أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران فكتب لهم كتابًا جاء فيه:

«...بسم الله الرحمٰن الرحيم...

هذا ما كتبه محمد النبي لأهل نجران وحاشيتها، لهم ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم، وأموالهم، وملتهم، وصلبانهم، وبيعهم - أي: كنائسهم - ورهبانهم، وأساقفتهم - أي: علمائهم - على أن لا يغير لهم أسقفًا ولا راهبًا من رهبانهم، وعلى ألا يُحشروا ولا يُعشروا، ومن ملك منهم حقًّا فالنصف بينهم، وعلى ألا يأكلوا الربا.. فمن أكل الربا منهم فذمتي منه بريئة، وعليهم الجهد فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معسوف عليهم...» [كتاب الأموال لأبي عبيد ص (244) رقم (503)].

وقد قيل: إن النبي ﷺ فرش لهم عباءته وأجلسهم عليها.

وقد عمل الخلفاء الراشدون مع المخالفين لهم في الدين بكل ما أوصى به رسول الله ﷺ في هذا الصلح الواقع بينه وبين أهل نجران، فأبقوهم على عقيدتهم وملتهم وصلبانهم وكنائسهم، فلم يكرهوا أحدًا على الخروج عن دينه.

وبسبب هذا التسهيل وعدم الإكراه في الدين، أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه فإنه آمن على نفسه وماله وعياله.

والفقهاء المتقدمون لم يهملوا حقوق أهل الذمة، فقد نصوا على وجوب الرفق بهم، ودفع من يتعرض لأذيتهم.

فقال الشهاب القرافي - وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام - في كتابه الشهير «الفروق»:

«إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا، أنهم في جوارنا وفي خفارتنا وفي ذمة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله، وذمة رسوله، وذمة دين الإسلام» [كتاب الفروق للقرافي (3/14)].

وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: «إن من كان في ذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة».

وقد شهد المؤرخون من سائر الأمم بأنه ما عرف فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا في الفتوح من المسلمين، بل ولا أرحم منهم، وذلك حين دخل الإيمان قلوبهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان وحده، والسياسة بالعدل والإصلاح، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم ولم يدينوا بدينهم ويتعلموا لغتهم، إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو الدين الحق الكفيل بسعادة البشر كلهم، الصالح لكل زمان ومكان، الذي نظم حياة الناس أحسن نظام.

أما الكلام في إحداث الكنائس في بلدان المسلمين، فقد أجمع الصحابة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منعها، حتى جعلها عمر شرطًا على أهل الذمة، بألا يحدثوا كنائس ولا بيعًا، وقد أجمع على ذلك أئمة المذاهب الأربعة فقالوا: بمنع إحداث الكنائس والبيع في بلدان المسلمين، كما روى مالك أن النبي ﷺ قال: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» [رواه مالك في الموطأ (2/892/18) عن ابن شهاب الزهري مرسلاً، ورواه أحمد (26352) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: «لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ»].

وروى كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: «لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي الْإِسْلَامِ» قاله ابن قدامة في المغني الجزء العاشر[المغني لابن قدامة (9/356)].

وقد غدا هذا المنع مشهورًا ومتواترًا، ولكن بعض الناس قد يمتعض من سماع مثل هذا، لظنه أن الكنائس إنما بناها أهلها للتحنث فيها والعبادة.

وهذا وإن كان صحيحًا في مبدئها، لكن أحوال الكنائس تطورت إلى أن صارت مأرزًا ومركزًا لدعاة النصارى إلى النصرانية، يتعرضون فيها إلى ذم الإسلام، والطعن في القرآن، وفي الرسول ﷺ بتحريف الكلم عن مواضعه، حتى صارت أكبر خطر وأعظم ضرر من كل شيء لكونها تؤدي إلى فتنة الناس عن دينهم ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ[سورة البقرة، الآية: 191].

وقد سمعنا عن بعض المحتسبين أنه بنى مسجدًا في بلد، ثم بنى كنيسة في بلد آخر، لظنه أنها للعبادة، ويجهل تحريم الشرع في منعها.

ونحن ننصح ونحذر أمراء وحكام المسلمين السماح بإحداث هذه الكنائس في بلادهم، التي تصد الناس عن الدين، وتوقعهم في الفتنة والضلال المبين.

فضررها على الدين وعلى عباد الله المؤمنين أعظم من ضرر مسجد الضرار الذي قال الله فيه: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ١٠٧ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا[سورة التوبة، الآيتان: 107 - 108]، فكل هذه الأوصاف المذكورة في تأسيس مسجد الضرار، منطبقة بالمقتضى والتضمن لتأسيس الكنائس على حد سواء.

فهي الحجاب الثخين دون الناس واعتناقهم للإسلام، وقد قلنا في رسالتنا: (دعوة النصارى وسائر الأمم إلى دين الإسلام) ما نصه: إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وبالقرآن النازل عليه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين في الكنائس عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله ﷺ، بقولهم بأنه رجل عاقل وأنه عبقري، وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه، أو ينزل به جبريل عليه، تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.

فهم يتلقون هذا الكذب من القسيسين والمبشرين في الكنائس، مما جعلهم يتأثرون به ويتربون في حالة صغرهم على اعتقاده، فهذا التأثير والتأثر قد أشربت به قلوبهم، حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

حتى كانوا بسبب هذا التأثير أشد عداء للإسلام والمسلمين، وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في هذا الزمان وفي كثير من البلدان، ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء النصارى، فإن من تعاليم المسيح عليه السلام الهدوء والعفو والصفح وعدم الانبعاث بالشر، لكنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيح أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين.

وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب، وأسوأ النتائج عليهم وعلى الناس كافة ﴿وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا[سورة المائدة، الآية: 41].

وبناءً على النصيحة الصادرة منا لأمراء وحكام العرب والمسلمين نقول بضرورة عدم السماح بتأسيس وإحداث كنائس جديدة.

أما القول بهدم ما استحدث منها في أرض العرب والمسلمين من جديد فقد نص الفقهاء على وجوب هدمها؛ لأنه متى كان الأصل وجوب المنع لها في الابتداء، فكذلك في الاستدامة، إذا لم يترتب على هدمها ما هو أكبر شرًّا منه، خشية إقدام النصارى على مساجد المسلمين المؤسسة في بلدانهم، فيعملون عملهم في هدمها معاملة بالمثل.

لهذا يجوز بقاؤها حذرًا من الوقوع فيما هو أكبر شرًّا منه وقد اشترط العلماء في إنكار المنكر بألا يترتب عليه ما هو أكبر منه. كما ترك الصحابة الكنائس في الشام وفي مصر وهم قادرون على إزالتها، حذرًا من تنكر الناس لهم، وما أشبه الليلة بالبارحة.

وبما أن بعض جهلة العوام ينحون بالملام على علماء الإسلام في منع استحداث الكنائس للنصارى في أرض العرب والمسلمين، فكذلك هم دائمًا ينحون بالملام على القتال في الإسلام، لزعمهم أن المسلمين وخاصة الصحابة هم البادئون بالاعتداء في فتوحهم بلا سبب يوجبه.

أما السؤال عن حكم تجنيس غير المسلمين وتمتعهم بجنسية البلاد كسائر المسلمين، فهذا مما يحرمه الولاء والبراء، لكون المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

وحسبك ما يتقوى به المتجنس بالجنسية الإسلامية العربية من صولته، ونفاذ كلمته، يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين ٥١[سورة المائدة، الآية: 51]. ولا شك أن السماح بتجنيس هؤلاء غاية في ولائهم ومحبتهم ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ[سورة المائدة، الآية: 52].

وإنني أشيد بالثناء على ما أقره مجلس الأمة الكويتي بأغلبية كبيرة بتعديل قانون الجنسية، والذي يحصر التجنيس بالمسلم، أو من اعتنق الإسلام وأشهر إسلامه، وفقًا للطرق والإجراءات المتبعة، وبعد مضي خمس سنوات على الأقل قبل منحه الجنسية.

ونحن مقتنعون بهذا القرار ومؤيدون له، لأنه أحد ضمانات وحدة الأمة، وعامل من عوامل استقرار البلاد.

جزى الله العاملين للإسلام خيرًا، وأخذ بيدهم إلى رفعة شأنه. اهـ.

***

أسئلة متنوعة من قبل طلاب المعهد الديني[أسئلة ضمن مقابلة لطلبة المعهد الديني بالدوحة نشرت في مجلة المعهد في رمضان 1384هـ (يناير 1965م)]

السؤال:كم عدد المساجد في قطر؟

الجواب [رقم: 359]:

حوالي 225 مسجدًا، منها 15 تقام فيها الجمعة بمدينة الدوحة وحدها.

السؤال: هل من وسيلة لرفع مستوى خطباء المساجد؟

الجواب [رقم: 360]:

الحقيقة أنه ليس هناك - في الوقت الحاضر - وسيلة؛ لأن الخطباء قليل في قطر، وغالبيتهم ليسوا قطريين، والأمل كبير في المستقبل، وفي خريجي المعهد الديني الذين نأمل فيهم أن يقوموا بحق هذه الأمانة الكبيرة.

«وتتنوع الأسئلة من هنا وهناك لتمس الموضوعات التي تتعلق بالمجتمع المحلي آنًا، وبالمجتمع الإسلامي آنًا آخر...».

السؤال: مصادر الأوقاف هل يمكن معرفتها؟

الجواب [رقم: 361]:

مصادر الأوقاف في قطر قليلة جدًا ومحدودة.

السؤال: هل يحق للفقير أن يشكو أخاه أو قريبه الغني عند المحكمة؟ وهل تتدخل المحكمة؟

الجواب [رقم: 362]:

يجوز له، وتتدخل المحكمة على الأقل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ. وقد عقد الفقهاء في كتب الفقه باب نفقة الأقارب وفصلوا أحكامها.

السؤال: وأخيرًا وبعد هذا اللقاء الكريم، وما أخذناه من وقت فضيلتكم لا يسعنا إلا أن نشكركم بقدر جهدكم وإخلاصكم ونطمع في أن تتكرموا علينا نحن الشباب بنصيحة.

وكانت نصيحة أبوية، مفعمة بالصدق، متسمة بالحكمة، متضوعة بالخبرة والحنكة، نجتزئ منها ما يلي:

الجواب [رقم: 363]:

وصيتي إليكم يا أبناء المعهد الديني!

أن تتمسكوا بالدين، فمن تمسك بدينه ساد، ومن ضيعه سقط.

إن من يحافظ على دينه خليق أن يحافظ على خلقه وأمانته ومبادئه، وهو جدير أن يقف في وجه كل جبار فيلزمه حده، ويتصدى لكل متكبر فيرده إلى رشده.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العزة في غيره يذلكم» [ينظر: مستدرك الحاكم (1/130)، ومصنف ابن أبي شيبة (13/41)].

وأن تكونوا دعاة لهذا الدين تبذلون في سبيل الذود عنه كل غال ورخيص، تدافعون عن حرماته.

لا تلهكم الدنيا، وفي الأثر قال تعالى مخاطبًا الدنيا: «من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه» [قال ابن عيينة: سمعت أبا حازم يقول: أوحى الله إلى الدنيا: «من خدمك فأتعبيه ومن خدمني فاخدميه». الزهد للبيهقي (1/16)، الزهد لابن أبي الدنيا وفي ذم الدنيا له أيضًا].

اقصدوا الله الكريم فإنه نعم المولى ونعم النصير.

وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

***

مجموعة أسئلة وقع بشأنها تنازع وخلاف

من المستفتي: قل شريف.

إلى السيد الشيخ العلامة عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية سلمه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

الاستفتاء: ما يقول علماء الملة البيضاء في أنه قد وقع التنازع ههنا بين الفريقين، الفريق الأول يقول:

1– إن تجصيص القبور والبناء عليها من القبة وغيرها.

2– والأكل والأجرة على قراءة القرآن لإيصال ثواب الأموات.

3– وأداء صلاة القضاء العمري في آخر جمعة من رمضان بجماعة.

4– وأربع ركعات بنية آخر الظهر يوم الجمعة على سبيل الاحتياط.

5– وتخصيص سورة الملك ليلة الجمعة، وتخصيص سورة الروم والعنكبوت ليلة الثالث والعشرين من رمضان.

كلها مسلك أهل السنة والجماعة والسلف الصالحين، ونحن على هذه الطريقة المستقيمة.

الفريق الثاني يقول:

إن هذه الأمور كلها من المحدثات، وقد قال النبي ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها]، وقال: عليه السلام «وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» [رواه أبو داود (4607)، وأحمد (17144) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه]، فهذه الأمور كلها من البدع المنكرات، وليس لها ثبوت من السلف الصالحين، بل هذا افتراء الفريق الأول على السلف الصالحين لأنهم قد ردّوا على هذه الأمور.

فأفتى أحد من رفقاء الفريق الأول بإشارتهم بأن العالم الذي يفتي بقول الفريق الثاني مخالف لدين النبي ﷺ؛ لإنكاره هذه الأمور، ووسائله باطلة ولا تعتبر أقواله.

ونحن في شكّ وارتياب، أيّ فريق منهما على حق وصراط مستقيم، مع أن الناس يرجحون الفريق الأول لأنهم أولاد الأكابر والشيوخ.

فللَّه أن تجيبوا لاستفتائنا وأجركم على الله تعالى.

المستفتي: قل شريف أوشت باكستاني.

الجواب [رقم: 364]:

أن نقول: إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ.

وهذا السؤال الأول عن تجصيص القبور والبناء عليها من القبة وغيرها.

فالجواب: ما رواه مسلم عن جابر قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» [صحيح مسلم (970)].

والنهي يقتضي التحريم في مثل هذا، لكون التجصيص مدعاة للتعظيم ثم إلى الغلو فيه، سيما إذا كان ذا جاه أو علم، ويدل له ما روى أبو الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، بأن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته[صحيح مسلم (969)].

وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

السؤال عن الأكل والأجرة لقراءة القرآن لإيصال ثوابها للأموات؟

فالجواب: اعلموا قبل كل شيء أن العمل الديني الذي يرجى ثوابه عند الله من صلاة وحج وقراءة قرآن أنه متى فعل بالأجرة فإنه لا أجر لصاحبه، فكيف يهدي من لا أجر له؟! لأن الله يقول: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب[سورة الشورى، الآية: 20]، في آيات كثيرات تدل على أن من عمل للدنيا فليس له في الآخرة من ثواب.

ثم إن إهداء الثواب للأموات قد اختلف العلماء فيه، فذهب بعض الحنابلة والشافعية إلى جوازه مستدلين عليه بمشروعية حج الرجل عن أبيه أو عن أمه، حيث أفتى النبي ﷺ بذلك في قصة الخثعمية التي قالت للنبي: إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ». رواه البخاري ومسلم[رواه البخاري (1513)، ومسلم (1334) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].

وللأبناء مع الآباء حالة لا تشبه غيرهم، لأن الابن كسب لأبيه، وتجعل أفراطه في ميزانه، وما عدا الأبناء فإن صريح القرآن ينيط كل إنسان بعمله، ومن بطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره.

فكل امرئ مجازًى بما عمل، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والله يقول: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون[سورة النحل، الآية: 32]، ويقول: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ٣٩[سورة النجم، الآية: 39]، ويقول: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ من الخير والحسنات ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[سورة البقرة، الآية: 286].

ولم نجد في القرآن ولا في السنة أن رجلاً دخل الجنة بعمل غيره.

أما مسألة أداء صلاة القضاء العمري جماعة في آخر جمعة من رمضان؟ فهذه لا أصل لها من السنة، بل هي بدعة داخلة في عموم قوله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها]، إلا أن تكون هذه الصلاة جزءًا من صلاة التراويح.

أما السؤال عن أداء أربع ركعات للظهر بعد صلاة الجمعة للاحتياط؟

فإن هذه بدعة منكرة؛ لكون هذا الرجل يدخل في صلاة الجمعة بنية فاسدة، أي: أن صلاته غير صحيحة وغير مجزئة، ثم يقوم فيصلي أربعًا، فيخسر صلاة الجمعة حيث لم يدخلها بنية خالصة لله، وكونها جمعة صحيحة يرجو ثوابها وأجرها عند الله، فينصرف عنها وقد خسر صلاة الجمعة لدخوله فيها بنية فاسدة، ويخسر صلاة الظهر حيث أوقعها في غير موقعها، فينصرف بخفي حنين، فهل أنتم منتهون؟!

أما قراءة سورة الملك ليلة الجمعة وتخصيص قراءة سورتي الروم والعنكبوت ليلة الثالث والعشرين من رمضان..

فهذا القراءة بهذه الصفة لم يثبت فعلها ولا الأمر بها عن النبي ﷺ. ويعدون الأحاديث الواردة فيها من قسيم الموضوعات، أي: المكذوبة على رسول الله ﷺ.

عبدالله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

***

أجوبة مسائل متفرقة

من عبدالله بن زيد آل محمود إلى الفاضل المكرم الشيخ محمد بن سعود الصبيحي حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد استلمت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمن من كلامكم القويم، خصوصًا ما تضمن عن السؤالات المبينة، وهذا محض الجواب عليها، أحببت تعريفكم بذلك للعلم به والباري يحفظكم:

— الأولاد الذين هم في بيت واحد ويريد أن يتزوج أحد الأولاد ابنة عمه بدون مهر؟

الجواب [رقم: 365]:

فالجواب: أن التسامح لأهل البيت في التزاوج فيما بينهم والتساهل في المهر ما لا يتسامح فيه للبعداء الذين نهى رسول الله ﷺ عن النكاح الشغار فيما بينهم، وذلك أن يتزوج أحدهم بمهر الثانية، فإن هذا محرم، لكونه يفضي إلى حرمان المرأة من مهرها الذي هو من حقوقها، فيتزوجها بلا مهر، فهذا هو المحرم لا غير. فالتسامح في التساهل في طلب المهر محبوب ومحمود فيتفقون على مهر قليل بصفة الرمز.

أما المرأة التي خطبها الرجل والتزم في خطبته طلاق زوجته الأولى، فإن هذا حرام لنهي المرأة عن طلب طلاق ضرّتها[أخرجه البخاري (2140)، ومسلم (3508)]، أما كونه ينعقد أو لا ينعقد، فإن للمرأة الثانية حقًّا في طلب طلاقها عندما يتبين لها حقيقة الأمر، لكون هذا من حقوقها.

— الجواب عن هذا المسجد الذي قصده الناس لصلاة الفرض أو النفل ثم سلّموا على النبي وعلى صاحبيه ومعهم النساء يتبعونهم في كلتا الحالتين.

الجواب [رقم: 366]:

فالصحيح أن سلام النساء اللاتي لم يقصدن به سفرًا مستقلاً أنه صحيح وواقع موقعه، أما نهي النبي ﷺ أو لعنه لزائرات القبور[من حديث ابن عباس، رواه أحمد في المسند (1-229)، وسنن أبي داود (4-95)، والترمذي (320) وقال: حديث حسن، وفي رواية أخرى بلفظ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» رواه الترمذي (1056)، وابن ماجه (1576) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»]، فهذا إنما يقصد به زيارة القبور المستقلة، وليست هذه الموصوفة بصلاة النساء مع الرجال ثم سلامهن على الرسول بعد الرجال، فإنهن لم يقصدن سفرًا للقبور التي نهى عنها الرسول ﷺ، وإنما وقع لهن هذا بطريق المتابعة لا زيارة القبور المستقلة، مع العلم أن القبور في حالة حياة الرسول وأصحابه كانت منفصلة عن المسجد، وإنما أدخل قبر النبي في المسجد الوليد بن عبدالملك.

أما صلاة في مسجد الرسول فيكفي صلاة واحدة في إحدى الفرائض، ولا يلزم أن يكون يومًا كاملاً كيلا يخفى.

***

الذنوب التي يكفرها الصوم والحج

السؤال: ما هي الذنوب التي يكفرها الصيام والحج؟ [7 /5 - 6]

الجواب [رقم: 367]:

كما أن «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رواه البخاري (38)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فكذلك «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» [رواه البخاري (1521)، ومسلم (1350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وهذا التكفير إنما يقع في صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما الكبائر مثل القتل، والربا، والزنا، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس، فهذه لا يكفرها الحج، ولا الصلاة ولا الصيام، وإنما تكفر بالتوبة ورد المظالم.

***

القضاة الذين يماطلون في القضايا

السؤال: ما رأيكم في بعض القضاة الذين يؤجلون القضايا كثيرًا ويرهقون الخصوم والشهود بالانتظار الطويل؟

الجواب [رقم: 368]:

القضاء أمانة، وهو منصب شريف؛ منصب الأنبياء والخلفاء الراشدين. والأصل فيه قوله تعالى: ﴿يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب ٢٦[سورة ص، الآية: 26].

وكان النبي ﷺ قاضيًا، وأبو بكر قاضيًا، وعمر قاضيًا، وعلي كذلك. والقضاء في مواطن الحق، هو مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذخر.

شُرع القضاء رحمة للناس وراحة لهم، لإزالة الشقاق بينهم، وقطع النزاع عنهم، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وردع الظالم، ونصر المظلوم.

لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي

فمن واجب القاضي أن يحتسب راحة الناس ورحمتهم في قطع النزاع عنهم، وأن يحتسب التبكير في الجلوس للناس، ويفتح باب المحكمة على مصراعيه، ثم يبدأ بالأول، فالأول، كما نص على ذلك فقهاء الإسلام في كتبهم. ففي الحديث: «مَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُوْنَ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ» [رواه أبو داود (2948)، والحاكم (7027) وصححه ووافقه الذهبي، كلاهما من حديث أبي مريم الأزدي رضي الله عنه].

ولما بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ له بابًا وحجابًا يمنعون دخول الناس عليه، أرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرق باب سعد قبل أن يكلم أحدًا من الناس.

فهؤلاء القضاة الذين يغلقون أبواب المحاكم عليهم، ويتركون الناس خلف الأبواب، يغشاهم الذل والصغار، والقاضي غير مكترث بهم، ولا مهتم بأمرهم، ويمضي أكثر وقته في الحديث في مصالح نفسه الخاصة. وشهر للحج، وشهر للعُمرة، وشهر للمصيف في الطائف أو لبنان مثلاً. ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام، لا يجدون من يقطع النزاع عنهم، وهو مستأجر لحل مشاكلهم.. فهؤلاء بالحقيقة مخالفون لنصوص مذهبهم، فإن الفقه الإسلامي يمنع غلق الأبواب، ونصب الحجاب دون القاضي ودون الناس.

فافتحوا الأبواب، وسهلوا الحجاب، وبكروا في الجلوس، حتى يسهل عليكم معالجة الخصام، وتنظيم الأحكام. فإن جلوس القاضي في محل عمله لفصل القضاء بين الناس، أفضل من تطوعه بحجه وعمرته، وأفضل من صيامه بمكة؛ لأن جلوسه في محل القضاء واجب عليه، ومطلوب منه شرعًا وعرفًا، أما التطوع بالحج والعمرة فإنها ليست بواجبة عليه، ولا مستحبة في حقه، وقد لا تصح منه.

فلا ينبغي أن يهمل هذا الواجب المحتم عليه، في محاولة التنفل الذي هو ممنوع منه شرعًا وعرفًا.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

***

واجب الحكام تجاه الإعلام الهابط

السؤال: ما الواجب على الحكومات والمسؤولين فيما يتعلق بالأفلام الخليعة التي تنشر في التليفزيون؟ [7/152]

الجواب [رقم: 369]:

الشريعة الإسلامية جاءت بجلب الخير وتكثيره، ودرء الشر وتقليله، لكون المنكر إذا ترك بحاله، ولم يقم أحد من الناس بمنعه ودفعه، فإنه يستشري في العباد والبلاد، فيعم الفساد حتى يعمي ويصم، وإن العلماء والأمراء والرؤساء، هم بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه من دخول الفساد والإلحاد، وما يعود بخراب البلاد، وفساد أخلاق النساء والأولاد.

ولا يتصف بالقيام بهذا العمل، وحماية الوطن؛ إلا الخيار النادر قولاً وعملاً، يقول الله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ[سورة آل عمران، الآية: 110].

فهذه الخيرية الجليلة، لا تدرك إلا بهذه الأعمال الجميلة التي من جملتها الأمر بالخير، والنهي عن الشر، فإذا لم يتصفوا بذلك، ولم يوجد منهم من يقوم بهذا الفرض، فإنهم يعدون من شر الخلق والخليقة؛ لأن «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» [رواه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. وإنما دخل النقص على بني إسرائيل بسببه.

فمتى قصر هؤلاء بواجبهم، ولم يقوموا بحماية دينهم ووطنهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم، والحوانيت تفتح لبيعها، وتركوا الأفلام الخليعة، والفواحش الشنيعة، تنتشر بينهم، بحيث تغزوهم في عقر دورهم بدون أن ينكروا منكرها، وبدون أن يتناصحوا في شأنها، ومنع ما يقبح منها، وصار جل أعمالهم هو التلاوم فيما بينهم، فإن هذا العمل والسكوت عليه، مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير. وهؤلاء الرؤساء يلامون على سكوتهم؛ إذ لا نجاة لهم ولا للناس إلا بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر.

ثم إن عرض الأفلام الخليعة التي فيها النساء العاريات، يسبحن في البحار، ويلاعبن الرجال، باللمس والتقبيل والاضطجاع جميعًا، وتشرب معه كأس الخمر، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق والأعمال والفواحش المكشوفة، وفنون الخلاعة التي يشاهدها الصغار والكبار، فإنها من الفواحش التي لا تبقي من الأخلاق ولا تذر.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وكل هذه تعتبر بمثابة التمرين على هذه الأعمال الشنيعة، بحيث يتعلمها النساء والأولاد للعمل بها. فهي بمثابة الدروس التي تنطبع محبتها في النفوس، وتؤثر فيهم كتأثير خمر الكؤوس، وباستمرار إدمان رؤيتهم لها، يزول منهم الحياء والغيرة والخلق الحسن، فلا يرونها منكرًا؛ لأن كثرة رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها، ولأن رؤية الفواحش والمنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهب استعظام قباحتها في القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى أنها منكرات، ولا يمر بفكره أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

فنشر هذه الأفلام الخليعة هي جرثومة الفساد، وخراب البلاد، وفساد العباد، وخاصة النساء والأولاد. وهي أشد وأشر من الزنا وشرب الخمر، لكون الزاني لا يضر بفعله إلا نفسه، وزناه يقع في حالة الخفية، والمعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها. أما إذا ظهرت ولم تغير، ضرت العامة بسكوتهم عنها، كما ثبت بذلك الحديث، أما هذه الأفلام الخليعة فإنها تشتمل على تعميم نشر الفواحش الشنيعة، والأعمال الفظيعة، بين الخاص والعام، والصغار والكبار، وهي من الفتن التي تعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، حتى تجعل القلوب منكوسة سودًا، لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا.

فإذا أردتم أن تعرفوا عظم مضارها، وتأثيرها في الأخلاق والعقيدة والدين، فانظروا إلى البلدان التي ضعف فيها الإسلام، واستباحوا الجهر بمنكرات الفواحش والعصيان، ثم انظروا إليهم كيف حالهم؟ وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وهذه من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ بأنه يرقق بعضها ببعض، كما في صحيح مسلم عن ابن عمرو قال: كنا مع النبي في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاة جماعة. قال: فاجتمعنا. فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا» [صحيح مسلم (1844)]. ومعنى يرقق بعضها بعضًا أن الآخرة شر من الأولى.

وقد يظن بعض الناس أن هذه الفتن التي أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان، والتي حذر منها أمته، بأنها الحروب المشتملة على الضرب بالبنادق والمدافع، والقنابل والسيوف والخناجر. وليس الأمر كذلك، بل هي أشد وأشر من هذا كله، وهي الفتن التي تفسد الأخلاق والعقائد والأديان، وتوقعهم في الافتتان؛ لأن الفتنة أشد من القتل، ولا أشد ولا أشر من الفتن التي تغزو الناس في عقر دورهم، وتفسد ذراريهم ونساءهم، كفتنة الأفلام الخليعة التي هي مشهد زور، ومدرسة فجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق، والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخالي شجيًّا، تساوره الهموم والغموم، ويبلى بالسهر وطول التفكير، وحرمان لذة النوم، فهي بمثابة شَرَك الكيد، وحبائل الصيد، للقلوب الضعيفة من النساء اللاتي هن ناقصات عقل ودين، وقد وصفهن رسول الله ﷺ في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من الغناء والألحان المطربة، وما يفعلونه من التعاشق والتعانق، كل هذا مما يضعف الإيمان، ويستدعي الميول إلى الفسوق والعصيان، فيغرق الناس جميعًا في حضيض الذل والهوان، فتنقطع من بينهم روابط الزوجية الشرعية، وتدنيهم من الإباحية المطلقة، فمتى كان القائمون ببث أفلامها الخليعة ممن لا حظ لهم في الأخلاق والدين، ويحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين، فإنها تصير فتنة في الأرض وفساد كبير، والدفع أيسر من الرفع، والوقاية أسهل من العلاج.

وإني أنصح المراقبين عليها بتقوى الله في عرض ما ينفع ويجمل ويزين من الأخلاق الفاضلة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض منكرات الأخلاق الساقطة والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.

كما أنني أنصح الحكومة بنصب رقابة عدلية، تمنع نشر الفواحش الموحشة، وتمنع نشر ما يقبح منظره، ويسوء مخبره، كرامة للدين والوطن، واستبقاء لحسن السمعة واتقاء الفتنة، وأن الحكومة إن لم تقم بمنع ما يتوجب منعه من الفواحش الموحشة والألحان الخليعة، فإن الناس سيغرقون جميعًا في فساد البلاد، وفساد أخلاق النساء والأولاد، ويصدق عليهم ما حذرهم منه نبيهم ﷺ حيث قال: «مثل القائم في حدود الله - أي: الذي يسعى في دفع المنكرات وإزالتها - والواقع فيها – أي: الذي يفعل المنكرات - كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» [رواه البخاري (2493)، والترمذي (2173) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما].

وهذا مثل مطابق للواقع، فإن الناس متى سكتوا عن نشر مثل هذه الأفلام الخليعة، وتركوها تسطع في دورهم، بين نسائهم وأولادهم، فإن الفساد يعمهم، ويصير ما يشاهدونه خلقًا لهم، يشب عليه صغيرهم، ويهرم عليه كبيرهم.

والرؤساء لا يعذرون أمام الله، ولا أمام الناس عن السكوت على مثل هذا، لكن بعض الناس يعلل نفسه بالأعذار الباردة ويقول: هذا آخر زمن، وهذا تيار جارف، ويفعل مثله في بلد كذا وكذا، وقد عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، فاتخذوا هذا الحديث بمثابة التخدير والتعسير، يحاولون أن يسقطوا به ما وجب عليهم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولعباده المؤمنين، ولأئمة المسلمين، كأن الرسول - بزعمهم - قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف والغربة للدين، بدون أن يسعى أحد بحوله وقوته، وبجده وجهاده لدفعه ورفعه.

وهذا خطأ واضح لفهم الحديث، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إنما قصد به التمسك بالدين، وعدم الاغترار بضعفه وغربته، وإعراض الناس عنه. فقد قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «هم قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير» [أوله عند مسلم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواية «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» عند أحمد (16690) من حديث عبدالرحمٰن بن سنة، والرواية الثانية عند الترمذي (2630) من حديث عمرو بن عوف، والرواية الثالثة عند أحمد (6650) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه].

فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار، ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم، من وسائل التعويق ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، فمعنى الحديث أنه يحث على التمسك بالدين عند ضعفه وغربته، والسعي في إصلاح ما أفسد الناس منه؛ لأن هذا الضعف وهذه الغربة وصف عارض يقع في مكان دون مكان، كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ وارتد العرب كلهم عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد بجواثى عبد القيس.

وعلى أثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره، وثبت في الصحيح أنه «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» [رواه مسلم (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه، والترمذي (2192)، وابن ماجه (6) من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه].

فالعاقل لا يستوحش غربة الإسلام لقلة المتمسكين، ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين[سورة يوسف، الآية: 103].

***

حكم الاختلاط في المعاهد والجامعات

السؤال: ما رأيكم باختلاط الطلاب والطالبات في الجامعات ومعاهد العلم؟ [7/297]

الجواب [رقم: 370]:

قلنا في (رسالة الخليج في منع الاختلاط):

إن هذا الاختلاط الذي ننصح بمنعه وعدم إقراره أنه يفضي بأهله إلى أشر غاية، وأسوأ حالة، فلا ينبغي أن نغتر بمن ساء فهمه، وزل قدمه في الغرق في إثمه، فإنه لا قدوة في الشر، فإن غشيان النساء لهذه الجامعات والأعمال والمعامل، هو من أقوى الوسائل لتعرف الفساق بهن وإغوائهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء، فلا ينبغي أن نغش أنفسنا، ونتعامى عما يترتب عليه من فساد الأخلاق والآداب.

تدخل البنت العذراء المصونة المحصنة هذا المجتمع المختلط، وهي في غاية من النزاهة والعفة والحياء، فتقعد مقعد المرأة البرزة، بحيث تكون في متناول كل ساقط وفاسق، فيوجه السفهاء والفسقة إليها أنظارهم وأفكارهم، ويسترسلون معها في حديث الهزل والغزل، ويعملون لها وسائل الإغراء والإغواء، لا سيما إذا كانت ذات حسب وجمال، فلا تلبث قليلاً حتى تلقي عن نفسها جلباب الحياء والحشمة، وتزول عنها العفة، وتنحل منها رابطة العصمة، ثم تميل إلى الفاحشة المحرمة؛ لأنها ناقصة عقل ودين ومشبهة عقولهن بالقوارير، والشباب قطعة من الجنون. ومن العصمة أن لا تقدر، والمعصوم من عصمه الله. ومتى كثر الإمساس قل الإحساس.

قالت عهدتك مجنونًا فقلت لها
إن الشباب جنون برؤه الكبر

والمسؤولون عن هذا أمام الله والناس هم الأمراء والزعماء الذين يجب عليهم منع اختلاط الجنسين، اتقاء الفتنة.

وقد قرر العلماء بأن المسموح الذي يتضمن المحظور يكون محظورًا. وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. فلأجله يجب النهي والانتهاء عن مثل هذا؛ لأنه يجر إلى فنون من المضار المتنوعة، متى اعتادها النساء أصبحن لا يرون بها بأسًا، وزال بها عنهن الأدب والحشمة، والعفة والدين.

إن أكبر أمر تخسره المسلمة الخفرة في هذا الاختلاط، هو خسرانها للحياء الذي هو بمثابة السياج لصيانتها وعصمتها. فالحياء يحسبه بعض الناس هينًا، وهو عند الله عظيم.

وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» [رواه البخاري (24)، ومسلم (36) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما].

وقال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» [رواه مسلم (37) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه].

لأن الحياء ينحصر في فعل ما يجملها ويزينها، واجتناب ما يدنسها ويشينها، والحياء مقرون به البهاء والجلال والجمال كما أن عدم الحياء من لوازمه ذهاب البهاء والجمال والجلال، ترى المرأة الملقية لجلباب الحياء في صورة قبيحة وقحة مسترجلة، لا تدري أهي رجل أو امرأة، وقد قيل:

فلا وأبيك ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء

إن الحياء كله خير وحسن، لكنه في النساء أحسن.

وإذا أردت أن تعرف خسارة فقد الحياء، فانظر إلى بعض البلدان التي هجر نساؤها الحياء، وتجافين عن التخلق به، ترى فيهن العجب؛ من فساد الأخلاق والآداب، ونكوس الطباع، وفساد الأوضاع، والإخلاد إلى سفاسف الشرور والفجور، فلا يبالي بما فعلت أو فعل بها شبه الحيوان، فلا تستحيي من الله، ولا من خلقه، ولا ترغب في أن يبقى لها شرف، أو ذكر جميل تذكر به في حياتها أو بعد وفاتها، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» [رواه البخاري (3484) عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه، وأوله: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا...»].

نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير أزواجهن أو محارمهن، ومن المعلوم أن المرأة في حالة هذا الاختلاط، ستظهر محاسنها ومفاتن جسمها، فتبدي يديها إلى قرب العضد، وبها أسورة الذهب، وساعة الذهب، وتبدي رجليها إلى نصف الساق، وتكشف عن رأسها، ورقبتها وقلائدها، وحلق الآذان، ولن تذهب إلى هذا المجتمع إلا بعد تكلفها بتجميل نفسها من الأصباغ والأدهان العطرية، لعلمها أن الشباب سينظرون إليها، فهل يشتبه على عاقل بعد هذا تحريم إبداء هذه الزينة مع الرجال الأجانب، إذ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل وتحريم التعاون عليه، وتحريم المساعدة لأهله، بل ولا في تحريم إقرارهم عليه، والسكوت عن الإنكار عليهم، ولا حاجة إلى تطويل الكلام في مفاسده، وما يؤول إليه، فإنها بدهية بطريق العقل والاختبار.

والمفتونون بالتقليد يعلمون من مضاره المتولدة عنه أكثر مما ذكرنا، لكنهم يستحبون العمى على الهدى ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً[سورة الأعراف، الآية: 146]، فهم يفضلون ترك هذه الآداب الإسلامية، والأخلاق العربية، ويهزؤون بمن يفعلها، وبمن يخالف رأيهم في ترك كل ما يسمونه تمدنًا وتجديدًا.

عُمْي القلوب عَرَوْا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدًا

إن الغيرة على المحارم تعد من شيم ذوي الفضائل والمكارم، فالغيور مهاب، ومن لا غيرة فيه مهان، والغيرة الواقعة في محلها، هي بمثابة السلاح لوقاية حياة الشخص، وحماية أهله، وكلما اشتد حفظ الإنسان لصيانة نفسه وأهله، قويت غيرته، واشتدت شكيمته، بحيث لا تمشي بواديه الأراجيل.

وكلما كثرت ملابسته للقبائح، وخاصة الزنا وتوابعه، فإنها تنطفئ من قلبه حرارة الغيرة، فلا يستنكر معها فعل القبيح، لا من نفسه ولا من أهله، بل ربما يلطف فعل الفاحشة ويزينها لغيره، كما يفعل الديوث الذي يقر السوء في أهله، ولهذا صارت الجنة عليه حرامًا، كما ثبت بذلك الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ» [رواه الطيالسي (677) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه]. والديوث هو الذي يقر أهله على عمل السوء؛ لأن من يهن في نفسه وأخلاقه، فإنه يسهل عليه الهوان.

فالفاسدة أخلاقهم وبيوتهم، يحبون أن تفسد أخلاق الناس وبيوتهم، لينطفئ بذلك عارهم، ويختفي ذلهم وصغارهم، فمثل هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم. والغيرة من الدين، ومن لا غيرة له لا دين له؛ لأن من لوازم عدم الغيرة الرضاء بانتهاك حدود الله ومحرماته.

إن الرجل العاقل، والمفكر الحازم، يجب عليه أن يراقب العواقب، وأن يقابل بين المصالح والمفاسد، فإن لهذه القضية ما بعدها؛ إذ المنكرات يقود بعضها إلى بعض، وحتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى، فعند نجاح القائلين بإباحة الاختلاط، فإنه يقودهم إلى المطالبة بإباحة الرقص، ثم المطالبة بإعطاء المرأة كمال حريتها تتصرف بنفسها كيف شاءت، ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان، كفعل المرأة الأوروبية، وكأن هذا هو هدفهم الأكبر، وبعمله يعملون.

أيها العقلاء: اعتبروا وفكروا واعلموا بأن المسلمين إنما نكبوا في مجتمعهم، وأخلاقهم بعدما نكبوا في نظام عائلتهم، وفساد تربيتهم لنسائهم وأبنائهم التربية الدينية الصحيحة، المبنية على التحلي بالفضائل، والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل.

وبسبب إهمالهم لحسن تربيتهم، وفساد تعليمهم، ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، وأخذوا يتناسون التعاليم الإسلامية والأخلاق العربية؛ لأنه إذا ساء التعليم، ساء العمل، وإذا ساء العمل، ساءت النتيجة ﴿وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم[سورة المائدة، الآية: 41].

فهذه نصيحتي لكم، قصدت بها نفعكم، ودفع ما يضركم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم، وأستغفر الله لي ولكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

***

حقيقة التقوى

السؤال: ما معنى وحقيقة تقوى الله؟ [7/339]

الجواب [رقم: 371]:

التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ[سورة النساء، الآية: 131]. وحقيقتها تنحصر في فعل المأمورات، واجتناب المحرمات، خوفًا من عقاب الله، ورجاء ثوابه. ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز: «ليس التقوى بقيام الليل، وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى هي أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، وإن زدت على ذلك فهو خير إلى خير».

فالمتقون يجعلون أعمالهم الصالحة بمثابة الوقاية دون عقاب الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «اتَّقُوا النَّارَ». ثم أعرض وأشاح، ثم قال: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» [رواه البخاري (6023)، ومسلم (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه].

وكان النبي ﷺ يخطب، فسأله رجل. فقال: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ لِلرَّبِّ، وَأَوْصَلِهِمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» [رواه ابن أبي شيبة في المصنف (25397)، وأحمد (27434)، والطبراني في الكبير (24/257/ 657)، والبيهقي في شعب الإيمان (7578)، وفي الزهد الكبير (877) من حديث درة بنت أبي لهب رضي الله عنها].

وقد قيل:

ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ٢ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ٣[سورة الطلاق، الآيتان: 2 – 3]. ﴿وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ٤[سورة الطلاق، الآية: 4].

ثم شرع سبحانه في أوصاف المتقين ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء أي: ينفقون، ويتصدقون في حالة اليسر والعسر، لرغبتهم في الثواب، وخوفهم من العقاب ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ١٠[سورة الإنسان، الآيات: 8 – 10].

إنهم لم يقولوا هذا الكلام حين أطعموا الطعام، ولكن الله علمه من قلوبهم، فنطق به على ألسنتهم، وأفضل الصدقة جهد المُقِلّ، وابدأ بمن تعول.

وروى البخاري عن أبي مسعود الأنصاري قال: حث النبي ﷺ على الصدقة، ولم يكن عندنا مال. قال: فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق[رواه البخاري (1415)، ومسلم (1018)]. وقد سبق درهم من فقير مئة ألف درهم من غني[الحديث أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (سبق درهم مائة ألف درهم) سنن النسائي (2527)].

وفي البخاري: قال رجل للنبي ﷺ: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَتَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» [رواه البخاري (1419)، ومسلم (1032) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ» [رواه أبو داود (2866)، وابن حبان (3334)].

***

كظم الغيظ والغضب

السؤال: ماذا يفعل المسلم للسيطرة على غضبه؟ [7/341]

الجواب [رقم: 372]:

قال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين.

وهذه من صفات المتقين الذين أعد الله لهم جنات النعيم أنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، والله عفو، يحب العفو، فهم يحتسبون إسقاط حقهم عفوًا منهم عنه، مع قدرتهم على الانتصار.

وفي كظم الغيظ فضل عظيم، وهو ينبئ عن رزانة العقل، والرغبة في الخير. ولهذا يقال: ليس الحلم في حال الرضاء، إنما الحلم في حين الغضب. ولا سيما للصائم، فإنه يستحب له متى غاضبه أحد أو شتمه أن يلجم نفسه بلجام التقوى، ويستمسك من الورع بالعروة الوثقى، وليقل: إني صائم، كبحًا لنفسه من التشفي والانتقام، وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان؛ لأن الصوم جنة يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام، ورديء الكلام.

ومن كان له الصوم جُنة في الدنيا، كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

وقد سأل رجل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: «لَا تَغْضَبْ»، فردد مرارًا، يقول: «لَا تَغْضَبْ» [رواه البخاري (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]؛ لأن الغضب يتفرع عنه كل شر.

وقد قال النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: «لَا، لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» [رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ولهذا يستحب للرجل إذا غضب أن يتوضأ، أو يغسل وجهه بالماء؛ لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء يطفئ النار. وهو مجرب لتسكين الغضب.

ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين؛ لأن الله سبحانه كتب الإحسان على كل شيء، على الناس فيما بينهم، وحتى الإحسان مع البهائم، ففي البخاري: «بينما كلب يلهث من العطش إذ نزعت له امرأة بغي موقها فسقته، فشكر الله لها ذلك، فغفر لها» [رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] قالوا: يا رسول الله، أفلنا في البهائم أجر؟ قال: «نَعَمْ، فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» [رواه البخاري (2466)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

والنفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها.

وقال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا» وفي رواية البخاري: «حَبَسَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ» [رواه البخاري (2365، 3318)، ومسلم (2242) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما].

***

الزهد في الدنيا وترك العمل

السؤال: هل يعني التفرغ للعبادة الزهد في الدنيا وترك العمل لها؟ [6/196]

وما معنى اللفظة الواردة في الحديث الصحيح (تفرغ لعبادتي)؟ [6/196]

الجواب [رقم: 373]:

ليس معنى التفرغ للعبادة أنه التخلي عن الدنيا، بترك البيع والشراء والأخذ والعطاء، والحرث والبناء، فإن هذا مذموم شرعًا؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكسب، وكد وكدح، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، يحب المؤمن القوي، والغني التقي، ويحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال، «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» [رواه البخاري (1295)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه].

وقد استأذن أناس من الصحابة النبي ﷺ في أن يبيعوا عقارهم وأموالهم، ويشتروا بها خيلاً وسلاحًا يجاهدون عليها في سبيل الله، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا» [رواه مسلم (1625) من حديث جابر رضي الله عنه]، واستأذنه بعضهم في أن يتصدق بماله كله فنهاهم عن ذلك[هو سعد رضي الله عنه كما في الحديث السابق عند البخاري (1295)، ومسلم (1628)].

واستأذنه عثمان بن مظعون في التبتل في العبادة، واعتزال الدنيا والنساء فنهاه عن ذلك[رواه أحمد (26308) من حديث عائشة رضي الله عنها].

وقال لعبدالله بن عمرو بن العاص: «ألم أُخْبَرْ بأنك تقوم الليل، وتصوم النهار؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقًّا، وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» [رواه البخاري (6134)، ومسلم (1159)، وآخره عند البخاري (1968) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه].

إذا ثبت هذا فإن معنى «تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي» أي: أَدِّ العبادة التي أوجب الله عليك، فلا ينبغي أن تشتغل عنها بأهل ولا مال، فمتى دخل وقت فريضة الصلاة وجب عليك أن تبادر بأدائها في وقتها في الجماعة، وأن تترك لأجلها البيع والشراء والأخذ والعطاء.

وإذا حضرت فريضة الزكاة، وجب عليك أن تبادر بأدائها إلى مستحقها تقول: اللَّهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.

فينبغي أن تكون الدنيا رخيصة في نفسك، عند حضور واجب حق الله عليك.

وما استجلبت نعم الله واستدفعت بمثل المحافظة على طاعته.

***

حكم التخلي عن الكسب ولزوم الزوايا للتعبد

السؤال: ما حكم من يتخلى عن السعي والكسب ويلزم زاوية من المسجد الحرام أو مسجد المدينة للتعبد؟ [6/258]

الجواب [رقم: 374]:

ليس من الدين أن يتخلى الإنسان عن المال، وعن السعي والكسب للعيال، ويلزم زاوية من زوايا المسجد الحرام، أو مسجد المدينة يتبتل فيه للعبادة، وينقطع عن البيع والشراء، والأخذ والعطاء، كما يفعله الرهبان وبعض الدراويش، فقد جاء أناس من الصحابة إلى النبي ﷺ يستأذنونه في أن يبيعوا عقارهم ومالهم، ويشتروا بثمنها سلاحًا وخيلاً يجاهدون عليها في سبيل الله، فنهاهم رسول الله عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا» [رواه مسلم (1625) من حديث جابر رضي الله عنه].

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[سورة البقرة، الآية: 201].

وأراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله فرد رسول الله ﷺ صدقته[تقدم تخريجه في ص598]؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان[هذا مأثور عن سفيان الثوري رحمه الله، قال: كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن. تهذيب الكمال (11/168)، سير أعلام النبلاء (7/241)]، ولا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال.

وكل ما تسمعونه في القرآن، أو في الحديث من ذم الدنيا، أو ذم المال؛ فإنما يقصد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال لا المال نفسه، لأن الطاعة هي همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا؛ لكون المسلم يشتغل في الدنيا بجوارحه، وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين، فتكون أعماله بارة، وأرزاق الله عليه دارة. ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب[سورة الزمر، الآية: 18].

***

الردة بعد وفاة النبي ﷺ وكيف تداركها الصحابة

السؤال: ما سبب ردة بعض قبائل العرب بعد وفاة الرسول ﷺ؟ وكيف تدارك الصحابة هذه الفتنة؟ [6/249]

الجواب [رقم: 375]:

لما مات رسول الله ﷺ ارتد أكثر العرب عن الإسلام، قائلين: إنه لو كان نبيًّا لم يمت. وعلى إثر هذه الردة منعوا زكاة أموالهم. يقول بعضهم: إننا لم نؤمر أن نؤدي الزكاة إلا إلى الرسول في حالة حياته، لأجل أن يستغفر لنا، وبعد موته فلا زكاة علينا.

فعمَّت الردة جميع العرب، من أقصاهم إلى أدناهم، إلى حالة أن الصحابة جعلوا لهم حرسًا على أفواه السكك خوفًا من تَوَثُّب الأعراب عليهم. فاشتد الأمر بالصحابة، حتى قال أنس بن مالك: «إنه لما مات رسول الله ﷺ كنا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة».

وإن الردة عمَّت جميع الناس؛ من عرب الحجاز ونجد واليمن والبحرين وعمان، حتى إنه لم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى أي: بلد الأحساء المعروفة - وفي ذلك يقول الشاعر:

والمسجد الثالث الشرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول والخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب

وقد حاصر المرتدون قبيلة عبد القيس في بلدهم من أجل تمسكهم بدينهم حتى أرسلوا لهم رسولاً إلى أبي بكر يستنجدونه، ويستمدون منه العون على عدوهم، وقد أنشدوا في كتابهم:

ألا أبلغ أبا بكر رسولا
وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكمُ إلى قوم كرامٍ
قعود في جؤاثا محـصَرينا
كأن دماءهم في كل فج
دماء البدن تغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمٰن إنا
وجدنا النـصر للمتوكلينا

فعند ذلك تجرد الصحابة لقتال المرتدين، ليردوهم إلى الدين. فأرسلهم أبو بكر فِرَقًا، وقد اتسعت الفتنة، وعظم الخطب، فكان مع مسيلمة الكذاب جنود كأمثال الجبال، وادعت سجَاح النبوة، فكان معها من الجنود مثل ذلك. وكان أكبر من تولى قتالهم هو سيف الله خالد بن الوليد، فبالغ في قتال مسيلمة الكذاب وجنوده، حتى قتل جمع كثير من أصحاب رسول الله ﷺ في هذه المعركة، ومن جملتهم سبعون رجلاً من القراء الذين يحفظون القرآن، فقتلوا في المعركة في مكان يسمى العيينة - بالقرب من الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية - ففزع الصحابة من قتل القراء، فخافوا أن يذهب القرآن، أو يذهب شيء منه، فأمر أبو بكر بجمعه بعد مشاورة بينه وبين عمر وبين الصحابة، فاتفق رأيهم على أن جمعه هو عين الصواب والمصلحة، فولوا رئاسة جمعه زيد بن ثابت رضي الله عنه.

ثم إن الصحابة رضي الله عنهم أنجزوا قتالهم مع المرتدين حتى ردوهم إلى الدين، وألزموهم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم ساروا إلى بلاد عبد القيس - بهجر وعمان - ومنهم قوم ساروا إلى اليمن لمناجزة الأسود العنسي - وهو نظير مسيلمة في الكفر والردة، وكثرة الجنود - فنصرهم الله عليهم، وعاد للدين جدته ونشاطه.

***