1819

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الخامس

أحكام الأضحية و رسائل أخرى

(6) تحقيق المقال في جواز تحويل المقام لضرورة توسعة المطاف بالبيت الحرام

[وقفة مع كتاب نقض المباني في فتوى اليماني لسليمان بن عبد الرحمن بن حمدان و الرد عليه في ستة عشر فصلا]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإنني وقفت على كتاب صغير عنوانه: نقض المباني في فتوى اليماني معزوًّا إلى مؤلفه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان.

حاصله الرد على صاحب رسالة المقام الذي هو عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. وبعد الحصول على الرسالة والنظر فيما تقتضيه من الدلالة، وجدتها رسالة وجيزة سماها مقام إبراهيم وهل يجوز تأخيره عن موضعه عند الحاجة لتوسيع المطاف، وساق فيها ما عسى أن يقال من حجج المانع والمقتضي بعبارات تتقلب مع الحق وبلسان يتحلى بالصدق حسبما ظهر لي من قوله، ولا أزكيه عند ربه، يعزو كل أثر إلى راويه مع بيان علله ومنافيه حسبما تقتضيه أمانة الرواية وثقة الدراية، وقد رجح جواز تحويله عن محله إلى محل قريب منه رفقًا بالناس، وكما سبق نظير هذا العمل من فعل عمر بطريق القياس وإجماع الصحابة الأكياس، وحاصل ما أورده مما عزاه وأسنده من الآثار الضعيفة والجيدة، وما نزع إليه بموجب اجتهاده وأيده فإنه من الأمر الجلي الواضح إن لم يكن للصواب فيه ملمح ففيه للاجتهاد مسرح.

ثم إن سليمان بن حمدان حمل عليه حملة الصائل السكران فأنحى عليه بالملام وتوجيه المذام، حتى كاد أن يخرجه عن دائرة الإسلام بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفا وتنافي الإنصاف والحفا، قد جعل فيها الجد عبثًا والتبر خبثًا والصحيح سقيمًا والضعيف المعلول مستقيمًا، وفيه الشيء الكثير من الهذر والهذيان والزور والبهتان والتدليس والكتمان ما يستبعد وقوعه من مثل هذا الإنسان.

كل هذا قد استباح عرضه في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، وقد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره وهي أن يأخذ من أقوال بعض المؤرخين غير المشهورين بالعلم والفقه والحديث، بل ولا بالثقة كالأزرقي وابن فهد وابن سراقة العامري وابن فضل الله المعري وابن جبير ومن الدر المنثور للسيوطي وأمثاله، فيأخذ من أقوال هؤلاء ما يوافق مذاقه ويجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها.

فساءني والله سوء ما أورده وفساد ما تورطه، إذ قد يغتر به من نظر فيه من جهلة العوام أو بعض من لم يتحقق في رسالة المقام من علماء الإسلام فيظنون أنه قد رسم لهم الصواب بتحقيقه وكشف لهم الباطل بتشديقه، ومن يغترب يحسب عدوًّا صديقه.

وبما أن النصح من واجبات الإسلام، ونصر الحق واجب باليد واللسان، والمسلم للمسلم كالبنيان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2]. فلأجله أحببت أن أشير في هذا الحجم الصغير إلى ما اشتمل عليه النقض من المجازفة في التعبير، والخطأ الواضح في التفسير، سامحه الله عما اقترفه من التحريف والتبديل، ومن الإفراط والتقصير إذ ليس كل ناقد بصير سوى الله الذي لا معقب لحكمه نعم المولى ونعم النصير.

* * *

الفصل الأول

رب صاحب عزيمة قوية وطريقة قويمة ينهض بجده وجهده إلى خدمة أمته ومنفعة أهل ملته بتقديم تأليف لطيف كرسالة المقام المحتفة بالآثار الصحيحة والحكم الصريحة التي يقبلها الذوق السليم، وتوافق أصول الدين القويم، فما يخطو بعض خطوات حتى يتصدى له السعاة المماحلون فينصبون في طريقه العواثير ويخدون له الأخاديد ويأتون إليه من كل فج عميق ليقطعوا عليه الطريق ويلجئوه إلى الحرج والضيق، فتضعف عزيمته وتنحل شكيمته ويكسل عن المضي في سبيل عمله والنصح لأمته ويؤثر الميل إلى الراحة والخمول.

أما النقد بالحق وبلسان الصدق فإنه من واجبات الدين ومن النصيحة لله ولعباده المؤمنين، ولا نزال بخير متى يوجد فينا من يقوِّم اعوجاجنا ويصلح ما فسد من منهاجنا، فإن الإنسان مهما بلغ من الإتقان ومن سعة العلم والعرفان فإنه عرضة للخطأ والنسيان، فلا يكاد يخلو عمل من خلل ولا كلام من زلل، شهدت بذلك كتب المؤلفين وتاريخ المتقدمين والمتأخرين، يخطئ أقوام فيصلح خطأهم آخرون بحسن قصد وسداد نقد فيستنير الحق ويتجلى وجه الصواب والصدق.

غير أن المخلص الناصح والبصير الناقد يجب عليه أن يتثبت في الرد والنقد، وأن يقدر ضرورة الحال والمحل، فلكل مقام مقال، والعلة تدور مع معلولها وجودًا وعدمًا، وتختلف الفتوى باختلاف الزمان والمكان فيما لا يتعلق بأصول العقيدة والأركان، وقد جاءت هذه الشريعة السمحة بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، والحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً، ما جعل الله عليكم في الدين من حرج، ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] لأن الدين عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، شرع لإسعاد البشرية في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية، ولو فكر العلماء بإمعان ونظر لوجدوا فيه الفرج والمخرج من كل ما وقعوا فيه من الشدة والحرج، ومن صفة رسول الله ﷺ أنه ﴿...عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ١٢٩ [التوبة: 128-129].

* * *

الفصل الثاني

إن أول كلمة بدأ صاحب النقض بردها وسار في سائر صفحات كتابه يرددها للتنديد بها هي قول صاحب رسالة المقام: هذه رسالة في شأن مقام إبراهيم وما الذي ينبغي أن يعمل به عند توسعة المطاف، حاولت فيها تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق.

فأجاب سليمان قائلاً: إنا إذا أمعنا النظر في كلامه وجدناه يدل على أمرين:

الأول: إنه يتضمن جواز التصرف في مقام إبراهيم وأن بحثه ينحصر فيما ينبغي أن يعمل به.

الأمر الثاني: إنه يحاول تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق، وهذا يدل على أنه لم يجد من الأدلة ما يصح الاستناد عليه؛ لأن المحاولة إنما تكون فيما فيه مشقة وصعوبة ولا يتأتى إلا بالاحتيال، هذا معنى كلامه ومقتضاه في اللغة، قال صاحب النهاية: والمحاولة طلب الشيء بحيلة. وكلا الأمرين اللذين ذكرهما غير جائز شرعًا. انتهى.

فالجواب أن نقول: إن هذه الكلمة التي بدأ صاحب النقض بإنكارها وحمل صاحب الرسالة على سوء الظن من أجلها هي من لطيف الخطاب الجاري على ألسنة الكتاب من العلماء والفقهاء والحكماء وعلماء اللغة وفصحاء البلاغة وسائر الفرسان في هذا الميدان، بحيث ينطق بها أحدهم عندما يحاول إنشاء تأليف أو مقالة أو رسالة ذات أهمية بدون أن يسبق صاحب النقض أحد منهم إلى إنكارها ولو أنصف لعرف، ولكنه تجاهل فحرف وقد قيل: ويل للشعر من رواة السوء.

فدعواه أن المحاولة هي طلب الشيء بحيلة وأن هذا هو معناها في اللغة حسبما ذكره صاحب النهاية، فهذا كله من الكذب على اللغة وعلى صاحب النهاية حيث نسب إليه تفسير المحاولة على هذا المعنى السيئ دون غيره، حتى كأنه لا معنى لها سواه، وهذا يعد من خيانة البحث وعدم الوفاء بأدائه كاملاً.

لأنه بكشفه على النهاية وإشرافه على تفسير المحاولة قد عرف سعة القول في معناها، فنبأ ببعضه وأعرض عن بعض، وقد كان من واجب الأمانة في نقل الرواية أن ينقل ما قاله فيها صاحب النهاية، أو يشير إلى أن هذا من بعض معانيها دون أن يوهم الناس في نقله بأن هذا هو المعنى المراد منها دون غيره، وصاحب النهاية نفسه قد استعمل هذه الكلمة في مادة المحاولة فقال: في تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، أن المراد من هذه الكلمة إظهار الفقر إلى الله بطلب المعونة على ما يحاول من الأمور وهو حقيقة العبودية. انتهى.

فقد عرفت كيف نطق بها وهو إمام في اللغة ومعدود من علماء البلاغة، وعلى صحة حملها على الحيلة فليست كل حيلة تكون محرمة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالحيلة التي يتوصل بها إلى تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فهي الحيلة المحرمة، وفيه الحديث: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»[160] لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، أما الحيلة التي يتوصل بها صاحبها إلى أمر حسن من رضى الله وطاعته ونشر ما ينفع الناس من القول الحسن، والمبالغة بتلقينه وتفهيمه لا سيما إذا كان من الأمر الخفي الذي ينكر العامة جواز فعله ولم يتمرنوا على مثله، فإنها من الحيلة المباحة. ولم يزل العرب حتى الشعراء يفتخرون بالحيلة التي توصلهم إلى المكارم وتخلصهم من المكاره، ومنه قول بعضهم:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

وقال الأقرع القشيري:
تخادعنا وتوعدنا رويدًا
كدأب الذئب يأدو للغزال
فلا تفعل فإن أخاك جلـد
على العزاء فيها ذو احتيال
وقال الأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المجـ
ـد غزير الندي عظيم المحال
قال في القاموس: الاحتيال والتحول والتحيل الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف، قال: وحاول محاولة أي رام. وقال في مختار الصحاح: حاول: أي أراد.

فقول صاحب الرسالة حاولت تنقيح الأدلة، أي أردت وقصدت لا يحتمل المعنى المراد غيره، فحملها على الحيلة المحرمة هو من تحريف الكلم عن موضعه، والكلام يحمل على المتبادر إلى الأذهان وعلى ما يسبق إليه فهم كل إنسان حتى في كلام الله عز وجل. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً[161]. فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة، والعجب أنه قد شنع على صاحب الرسالة بنقد هذه الكلمة الرائجة في الاستعمال وغفل عن تسمية كتابه نقض البنيان، فإنه بهذه التسمية قد طبعه بطابع البطلان؛ لأن النقض ضد الإحكام والإبرام، وقد ورد مطردًا فيما هو من قبيل الذم في السنة والقرآن كنقض العهود ونقض الإيمان وإحباط صالح الأعمال: قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ [الرعد: 25] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا [النحل: 91]، ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا [النحل: 92]،

ومنه حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «وما نقض قوم عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شديدًا»[162].

فهي تسمية تدل بمعناها على اعتلال مسماها وعدم اعتداله.

[160] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث أبي هريرة. [161] أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب. [162] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.

الفصل الثالث

قال في النقض: إن مقام إبراهيم مشعر إسلامي ومنسك من مناسك الحج قد وضعه النبي ﷺ في موضعه هذا وهو موضعه في عهد إبراهيم عليه السلام، وقد أمرنا الله عز وجل بأن نتخذ منه مصلى، وفسر لنا رسول الله ﷺ مقتضى هذا الأمر بتلاوته للآية الكريمة وصلاته خلفه بعد طوافه في حجة الوداع، وما أمر الله به رسوله من شرعه الذي أوحاه إليه أمر توقيفي لا اجتهاد فيه لأحد، ولا يسوغ لأحد من الناس أن يفتي بنقله من موضعه الذي هو فيه ولا التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف، ولا يجوز الاحتيال على ذلك بأي حيلة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ١٨ [الجاثية: 18].

فالجواب: إن في غضون هذا الكلام من التمويه والإيهام وقلب حقائق الأحكام وإغراء سذج العوام ما لا يخفى على الخاص والعام. أما المقام النازل في شأنه القرآن فقد وقع الخلاف بين السلف والخلف في تعيينه على أقوال، وإن منهم من قال: إنه الحج كله. ومنهم من قال: إن مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار. ومنهم من قال: إنه المسجد الحرام. ومنهم من قال: إنه الحجر المعروف الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام لبناء البيت الحرام. ورجح ابن جرير هذا الأخير وقال: إنه أولى الأقوال بالصواب. ثم إنه على فرض قصر الكلام على هذا الحجر المعروف في المسجد الحرام فإن قوله إنه مشعر إسلامي ومنسك من مناسك الحج ليس بصحيح في المعنى المراد، وكأن الرجل لا يعرف التفريق بين مشاعر الحج وغيرها، فإن مشاعر الحج هي كل ما كان من أعماله كالإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة والرمي والحلق والنحر وغير ذلك، ذكره في النهاية.

وكذلك المنسك فإنه المتعبد، ويقع على المصدر وعلى الزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، ذكره في النهاية أيضًا، وهذا الحجر المسمى بالمقام لم يتعلق بذاته شيء من الشرائع والأحكام، فلم يؤمر الناس في حجهم بمسحه ولا بتقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، وقد ضرب عليه بصندوق من حديد لإبعاد الناس عن مسحه وتقبيله، بخلاف الحجر الأسود فقد ورد الشرع بتقبيله، وكذلك الركن اليماني ورد الشرع بمسحه وكذلك الحجر - بكسر الحاء - ورد الشرع بالأمر بالصلاة فيه لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «من لم يقدر على الصلاة في البيت فليصل في الحجر فإنه من البيت».

أما هذا الحجر المسمى بالمقام فلم يثبت عن النبي ﷺ فيه إلا أنه طاف في حجة الوداع ثم جاء إلى المقام وقرأ قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة - وكان إذ ذاك ملصقًا بالكعبة- فصلى ركعتين، وهذه الصلاة تسمى سنة الطواف تستحب في حق كل من طاف بالبيت في حج وغيره، وقد أجمع العلماء على أنه ليس لهذه الصلاة مكان محدود. ويقول الفقهاء في بعض كتبهم: وحيثما ركعهما من المسجد فثم مقام إبراهيم، وقد صلاها عمر بذي طوى وصلتهما أم سلمة خارج الحرم، والنبي ﷺ صلى هاتين الركعتين في مقامه اللائق به كما ذكرنا، وانتشر أصحابه وسائر من حج معه من أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام كل واحد منهم يصلي ركعتي الطواف منفردًا، ويحتمل أن يكون بعضهم أبعد عن مقام رسول الله ﷺ بمائة ذراع وأكثر وأقل كما قال جابر بن عبد الله في صفتهم: نظرت إلى مد بصري من بين راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن شماله مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله فما عمل به من شيء عملنا به. فهؤلاء على كثرتهم رجالهم ونسائهم قد انتشروا في المسجد الحرام كل واحد منهم يصلي ركعتي الطواف، ورسول الله ﷺ ينظر إليهم بعين الرضا عنهم ويصدق عليهم أنهم قد اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى؛ لأن النبي ﷺ لم يعين لهذه الصلاة مكانًا محدودًا، ولم يأمر أحدًا بالتقدم إلى مكانه ولا القيام مقامه، ولم يقع منهم الزحام على مواقع أقدام رسول الله في المقام لفقههم الراسخ وعلمهم الواسع أن المسجد الحرام كله مقام إبراهيم.

وهذه معجزة من معجزات النبوة، إذ لو أمرهم بالتقدم إلى مكانه أو جعل مكانًا معينًا لهذه الصلاة، لوقع الناس في الشدة والمشقة التي تنافيها شريعته السمحة.

فإقرار النبي ﷺ للصحابة يصلون سنة الطواف متفرقين في أنحاء المسجد الحرام هو التشريع الشرعي الذي قال الله فيه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

وعن قتادة في قوله تعالى ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى، والمقصود أن المشروع المأمور به هو صلاة سنة الطواف لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم، لما روى جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: «يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنَ لَيْلِ أو نَهَارِ»[163]. فلو قدر أن السيل ذهب بهذا الحجر فلم يعثر له على عين أو خبر فإنه لن يتغير بذلك شيء من مشاعر الحج ولا مناسكه ولبقي العمل بسنة الطواف جاريًا مستمرًّا إلى يوم القيامة؛ لأن المحافظة على فعل هذه الصلاة آكد من المحافظة على محل ما تفعل فيه، وقد صلاها أصحاب النبي ﷺ عند المقام حال كونه لاصقًا بالكعبة زمن النبي وزمن أبي بكر، ثم صلوها عند المقام بعد تحويل عمر له إلى موضعه الآن، ولم يقع في نفس أحد منهم حرج في صحة هذه الصلاة لعلمهم أنها وقعت موقعها في الصحة والامتثال لكونها تفعل في الحرم وفي خارجه، وهي من الشرائع المستحبة الثابتة بالكتاب والسنة فلو أنكر أحد مشروعيتها لحكمنا بكفره؛ لأنها مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فإدخال المقام في مشاعر الحج المحتمة ومناسكه اللازمة غير صحيح وغير صواب؛ لأنه لا يتعلق بذات هذا الحجر شيء من العبادات، فلا يجوز في الشرع مسحه ولا تقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، فاعتقاد ما ليس بمشعر ولا منسك أنه مشعر ومنسك يعد من تغيير الكلم عن مواضعه، ومن تبديل الشريعة بغيرها، كما لو اعتقد ما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل على حسب اعتقاده، ولكن الله سبحانه جعل استدامة بقاء المقام في المسجد الحرام بمثابة الآية والبرهان على صحة بناء إبراهيم الخليل عليه السلام لهذا البيت الحرام الذي هو أول بيت أسس في الأرض لعبادة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗا [آل‌عمران: 96-97] فجعل وجود المقام بمثابة الآية والشاهد على ذلك، وفي البخاري عن أبي ذر قال: سئل رسول الله ﷺ عن أول بيت وضع للناس. قال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»». الحديث، وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام.[164]

* * *

[163] أخرجه أبو داود من حديث جبير بن مطعم. [164] سنن النسائي (٣٤/٢) بإسناد صحيح قاله ابن حجر في فتح الباري (٨٠٤/٦) وقيل إن سليمان جدد البناء ولم يكن أول من بناه.

الفصل الرابع

وأما قوله: إن النبي ﷺ قد وضع المقام في موضعه هذا وهو موضعه في عهد إبراهيم عليه السلام.

فالجواب: أما وضع النبي ﷺ للمقام في موضعه الآن فلم يثبت ذلك لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، بل ولم يثبت القول به عن أحد من أصحابه، والصحيح الثابت أنه من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان زمن النبي ﷺ ملصقًا بالكعبة، وصلى النبي ﷺ عنده في عمرة القضاء وفي الفتح وفي حجة الوداع، وتوفي رسول الله وهو على حالته ملصقًا بالكعبة، ثم كان الأمر كذلك زمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، فلما اتسعت فتوح الإسلام وكثر الوافدون إلى حج بيت الله الحرام من جميع البلدان، ورأى عمر أن المصلين عند المقام يعرقلون سير الطائفين بالبيت الحرام، كما أن الطائفين يؤذون المصلين بوطئهم بالأقدام، فمن أجل شدة الزحام اقتضى رأيه أن ينقل المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن، ووافقه على هذا الرأي جميع الصحابة الكرام، حتى لم ينكر ذلك عليه منهم إنسان فجعله على حد المطاف بقدر ما يسع الناس في ذلك الزمان، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: كان عمر يرى أن إبقاء المقام في لصق الكعبة يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى ولم تنكر الصحابة فعله ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا. انتهى.

وهذا التصرف الحاصل من عمر في نقله المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن يعد من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته؛ لأن هذا التصرف يرجع إلى راحة الطائفين بالبيت الحرام وحفظ حياتهم من ضرورة الزحام والسقوط تحت الأقدام، ثم التمكن من الإتيان بركن الحج على التمام بخشوع وخضوع واطمئنان، فهو من الأمور الجزئية التي تتمشى على حسب الحاجة والمصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة أشبه توسيع المسجد الحرام عندما تدعو الحاجة إلى توسعته، وكان زمن النبي ﷺ شبه الصحراء ليس له جدران ولا سقوف ولا أبواب، فجرى التصرف من عمر بعد النبي ﷺ بتوسعته وجعل له جدرانًا تحيط به، ونقل المقام من لصق الكعبة ووضعه موضعه، وكما جرى له التصرف أيضًا في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده فدعت الضرورة والمصلحة إلى هدمه لتوسعته، فهو أول من وسع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد عد العلماء هذا التصرف من العمل المبرور والسعي المشكور، فالقائل بتحريم نقل المقام عن محله ولزوم بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ يلزمه أن يقول بوجوب استدامة بقاء المسجد الحرام على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ، وأن يقول بتحريم التصرف بتوسعته وتغييره عن حالته سواء كان ذلك من عمر أو غيره، ويلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله ﷺ بيده إذ هذا كله من لوازم قوله.

ومن المعلوم أن المسجد الحرام والمسجد النبوي هما أعظم حرمة من حجر المقام، وقد جاءت هذه الشريعة السمحة بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والحرج منفي عن الدين، فمتى تبين لعلماء الإسلام والعارفين بالنصوص والأحكام أن في نقل المقام عن محله إلى محل قريب منه مصلحة راجحة ودرء مفسدة واضحة فثم شرع الله ودينه، إذ ليس بين أيدينا ما يحرمه والحكم يدور مع علته، وقد سبق العمل من الصحابة بمثله، فهؤلاء الذين أفتوا بنقل المقام عن محله إلى محل قريب منه عندما تدعو الحاجة إليه، نرى أنهم أبعد الناس عن الملام وأولى بالثناء العام؛ لأنهم لم يتجانفوا في فتواهم لإثم ولا تغيير شرع ولا حكم بل هم أقرب إلى الصواب والعدل من القائل بالتحريم بدون نص ولا قياس ولا قول صاحب ولا دليل: ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [الأحقاف: 4].

وقد اتفق أهل السنة على أن الله بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان ليس بحرج ولا أغلال دون الكمال يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد، فإذا كان الفعل فيه صلاح وادعى مدع فيه بالفساد رجحوا الراجح منهما، وألحقوه به؛ لأن الدين مبني على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، والله سبحانه لا يضيع أجرمن أحسن عملاً.

* * *

الفصل الخامس

وأما قوله: إن هذا هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وينسب القول بذلك إلى ابن أبي مليكة وإلى مالك بن أنس فهو كاذب على ابن أبي مليكة في عزوه إليه فلم يقع من ابن أبي مليكة ذكر لإبراهيم في خبره حتى فيما رواه عنه بنفسه، وهذا نص لفظه المصرح به في نقضه: روى الأزرقي: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس. انتهى. وقد أخذ ذلك النووي فساقه بلفظه، فقد عرفت كيف حرف الكلم عن موضعه فقلب الجاهلية باسم إبراهيم ونسب القول بصحة ذلك إلى ابن أبي مليكة، ومعلوم أن زمن إبراهيم زمن نبوة ليس بزمن جاهلية، وأن أكثر الأنبياء من ذريته كلما مضى نبي خلفه نبي بعده كما قال تعالى: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ ٨٣ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٤ وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٥ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨٦ [الأنعام: 83-86].

فهؤلاء كلهم من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام وخبر ابن أبي مليكة هذا ليس لإبراهيم فيه ذكر ولا يمت له بصلة، وإنما أكثر من ذكره والقول بصحته لقصد الترويج به، وهكذا الأمر في كل مسألة يتبع صاحبها فيها الهوى أولا، ثم يطلب لها المخرج من كلام ينسبه إلى العلماء أو من أدلة ينسبها إلى الشرع وهي غير صريحة في المعنى، ومَنْ هذا شأنه جدير بأن يزيغ فهمه ويزل قدمه، وواجب المؤمن أن يكون عند الحق بلا خلق، وعند الخلق بلا هوى.

أما الجاهلية فإنها إنما نشأت زمن الفترة فيما بعد عيسى عليه السلام، وهي زمن عمرو بن لحي الذي سيَّب السوائب وغيّر دين إبراهيم، وقد زالت هذه الجاهلية ببعثة محمد ﷺ، أما المقام فقد كان في زمان الجاهلية في لصق الكعبة حتى باعتراف صاحب النقض نفسه كما روى الأزرقي في أخبار مكة عن نوفل بن معاوية الديلي قال: رأيت المقام في عهد المطلب ملصقًا بالبيت مثل المهاة. وكذلك ما رواه الإمام مالك بن أنس في المدونة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر وقبل ذلك وكانوا قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. انتهى.

فهذا قول مالك وفيه ارتباك وهو من الشيء الذي لا نجزم بصحته حيث لم يروه عن رسول الله ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه وعلى فرض صحته فإنه حجة عليه لا له؛ لأن فيه إبطالاً لما يدعيه في نقضه، فقد نفى أشد النفي تحويل النبي ﷺ للمقام زمن الفتح، كما ينفي وقوعه من أبي بكر ويثبت تحويل عمر له إلى موضعه الآن ابتداء من غير سبق، كما أن خبر ابن أبي مليكة أيضًا ينفي بقاء المقام في لصق الكعبة يومًا من الدهر، حتى ولا في زمن الجاهلية كما ينفي تحويل النبي ﷺ للمقام كما ينفي تحويله أيضًا من عمر لدعواه باستمرار بقاء المقام في موضعه الآن زمن الجاهلية وزمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر وعمر بدون استثناء ما عدا ذهاب السيل به ثم رد عمر له إلى موضعه، وهذا لا شك أنه معلوم البطلان وبطلانه لا يحتاج إلى مزيد بيان حتى عند صاحب النقض، وهذه النقول التاريخية يأتي الناس فيها بالغث والسمين والصحيح والسقيم، ويختلف نقل الناس للحوادث التاريخية من قريب فما بالك من بعيد كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كلما
جمع الرواة وخط كل بنان
وإنني لأعجب أشد العجب من كثرة احتجاجه بخبر ابن أبي مليكة، وهو لا يؤمن بموجبه ولا يمت إلى صحة ما يدعيه بصلة، أما خبر الإمام مالك ففيه أن الجاهلية قدمت المقام إلى لصق الكعبة خيفة السيل عليه وأن عمر أخرجه إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. انتهى.

ومعلوم أن بين مالك وبين إبراهيم الخليل عدد ألوف من السنين تحتاج إلى ألوف من الرواة. وهذه الأمور التاريخية كأخبار الحوادث والأمم الماضية لا يزال يتحدث بها الناس فيما بينهم على سبيل الفكاهة والتسلية بدون تدقيق ولا تحقيق ولا تكذيب ولا تصديق، لعلمهم أن هذه الأخبار لا تتعلق بالعقائد والأحكام ولا أمور الحلال والحرام، وقد روى عثمان بن سليمان - عند الفاكهي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يخالف قول مالك ولفظه: فلما بلغ - أي إبراهيم- الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت. وقوله أقرب إلى الصحة والصراحة من قول مالك لاحتمال أن يكون سمعه من النبي ﷺ، ومع هذا فإننا لا نحكم بصحة ما قاله ابن عباس وبطلان ما قاله مالك ولا بضد ذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أخبار الأمم الماضية كبني إسرائيل وغيرهم: إن هذه الأمور طريقة العلم بها هي النقل، فما كان منها نقلاً صحيحًا عن النبي ﷺ قبل، فإن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه، وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فإننا لا نصدقه ولا نكذبه، ومتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل عن الصحابة نقلاً صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لاحتمال أن يكون سمعه الصحابي من رسول الله ﷺ أو من بعض من سمعه منه ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين. انتهى.

فقد عرفت أنه لم يجزم بصحة ما رواه الصحابي عن أهل الكتاب، وإنما قال: النفس إليه أسكن، فما بالك بهذا الخبر الذي ألقاه مالك بدون سند إلى أحد ثم ألصق صاحب النقض القول بصحته إلى ابن أبي مليكة كذبًا عليه بدون أن يجده معزوًّا إليه ثم بالغ في نصره وتأييده ورفعه وتشييده وبنى أصول كتابه عليه فتراه يذهب عنه ثم يعود إليه، وهب أن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد فراغه من بناء البيت الحرام وضع هذا الحجر في موضعه الآن، أفيكون وضعه له من الشرع اللازم والحكم الدائم الذي لا يجوز تغييره ولا تحويله؟ ولا النظر في أمر خالفه أشبه قواعد البيت الذي بوأه الله له وأمره أن يبنيه في محله، إن هذا من الشيء الذي لا نقول بصحته لعدم ما يدل عليه: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡ‍َٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤ [البقرة: 134].

الفصل السادس

وأما قوله: إنه لا يسوغ لأحد من الناس أن يفتي بنقل المقام عن موضعه ولا التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف.

فالجواب: إن هذا الخطاب يعد من رموز الجهالة والحمق، فكأنه بهذا الكلام أقام نفسه مقام المشرع العام وحاكمًا على جميع العلماء والحكام، وإلا فكيف يحرم على جميع علماء الإسلام على سبيل الجزم والإلزام الاجتهاد في الفتوى في شأن تحويل المقام؟! يريد بذلك غلق باب الاجتهاد في النوازل وعدم استنباط الحق بالبراهين والدلائل، حتى يتم له مقصوده في نصر رأيه وإعلاء كلمته، ثم إنه يتناقض من حيث لا يشعر، فتراه ينحي بالملام وتوجيه المذام على صاحب رسالة المقام ويقول: إن هذه القضية لو وقعت زمن عمر بن الخطاب لجمع لها المهاجرين والأنصار واستشارهم فيها. ثم هو يضرب بمقالته هذه عرض الجدار ويقدم على تحريم الإفتاء بالتحويل بدون مشورة ولا مستشار، وأكبر من هذا وأنكر، دعواه أن تحويل المقام عن موضعه إلى محل قريب منه إلحاد في الدين وتغيير لشعائره:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
إنه لو كان معتدلاً في رأيه، منصفًا في قوله لساق ما لديه مما أدى إليه فهمه ووصل إليه علمه ثم ترك الباب للاجتهاد مفتوحًا والمجال مفسوحًا، إذ قد يحفظ الإنسان شيئًا وتضيع عنه أشياء، فقد أصابت امرأة وأخطأ عمر:
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
والحاصل أن هذا التشدد والتشدق إنما نشأ من حرج الصدر وضيق العطن عن سعة العلم بأحكام هذه الشريعة السمحة وما اشتملت عليه من جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا التصرف بنقل المقام عن محله إلى محل قريب منه لتوسعة المطاف للناس ليتمكنوا من أداء هذا الركن، أي الطواف بالبيت بتمام وبخشوع وخضوع واطمئنان؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - يعد من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا ينافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته.

وهذا التصرف إنما تظهر مصلحته وعموم منفعته من بعد تمهيده في محله عند طرف المطاف بعد توسعته أشبه توسيع المسجد الحرام وأشبه توسيع المسجد النبوي على السواء، بل إن المسجد الحرام والمسجد النبوي هما أفضل من حجر المقام، فالقائل بتحريم تحويل المقام يلزمه أن يقول بتحريم توسعة المسجد الحرام وبتحريم التصرف في المسجد النبوي؛ لأن هذا من لوازم قوله.

فدعواه بأن هذا التصرف إلحاد في الدين وتغيير لشعائره كله من الكذب على الله وعلى دينه وعباده المؤمنين، فمن لوازم هذا القول أن عمر بن الخطاب في تحويله المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن - ملحد في الدين مغير لشعائره، وأن الصحابة الذين أجمعوا على استحسان فعله أنهم مثله؟! ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5] فهو كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. فقد ألحق بالدين ما لم يأذن به الله حيث جعل حجر المقام من مشاعر الحج المحتمة وشرائع الإسلام اللازمة والله سبحانه لم يتعبد الناس بشيء من شأن هذا الحجر، وإنما تعبدهم بالصلاة حوله وحول الشيء ما حاط به من جوانبه ولو غير ملاصق له أو قريب منه، وهذا الرجل يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط العشواء، أحيانًا يسمي حجر المقام بمشاعر الحج المحتمة ومناسكه الهامة، وأحيانًا يسميه بالشرع اللازم والحكم التوقيفي، لكونه لا يعرف التفريق بين مشاعر الحج وغيرها ولا بين الشرائع وغير الشرائع، فإن مشاعر الحج اللازمة هي أعماله، مثل الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة فهذه لا تتغير عن مشروعيتها بتغير الزمان والمكان فلا يجوز تحويلها ولا تبديلها ولا النظر في أمر خالفها بحال، فتغييرها هو أن يقول بإسقاط الإحرام أو إسقاط الطواف أو السعي بين الصفا والمروة أو بعدم الوقوف بعرفة ومزدلفة أو أن يوقع الحج في غير أشهره ونحو ذلك، أما تغيير الشرائع فهو أن يقول بإسقاط الصلاة أو الزكاة أو الصيام، أو أن يجعل صلاة الظهر ركعتين أو أن يستبيح الإفتاء بالفطر في رمضان من غير عذر، أو أن يبدل رمضان بغيره من الأشهر، فهذا هو التغيير الحقيقي لشرائع الإسلام ومشاعر الحج، ولم يحم أحد حول القول به نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء.

* * *

الفصل السابع

قال في النقض ص183 في صفة حج النبي ﷺ: قال جابر: طاف رسول الله ﷺ ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فجعل المقام بينه وبين القبلة وصلى ركعتين. قال: وهذا تشريع منه لأمته وبيان لما أنزل إليه من ربه وتعيين منه للمصلى الذي أمره الله باتخاذه من مقام إبراهيم، وهذا توقيف ليس لأحد تغييره، وهذا التعيين يقتضي أن المصلى لا ينتقل عن المكان بنقل المقام عن مكانه، فلو أزيل حجر المقام عن مكانه فحكم المصلى الذي عينه باق ولا يقوم غيره من المواضع مقامه، وقد ذهب غير واحد من السلف إلى أن المقام المأمور باتخاذه مصلى هو المصلى الذي خلف المقام ورجح هذا القول أبو جعفر محمد بن جرير.

فالجواب أن نقول:
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
إن صاحب النقض قد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره، وذلك بأن يأخذ من الأقوال الضعيفة والموضوعة ما يوافق مذاقه ويجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة غير قابلة للمناقشة، ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها ولو بالكذب والاحتيال والتأويل والاحتمال.

من ذلك قوله: إن تحويل المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن هو من فعل رسول الله ﷺ وإن استدامة بقائه في موضعه الحالي هو من الشرع اللازم والحكم التوقيفي، وإن مقام رسول الله ﷺ في نفس المقام هو المأمور بأن يتخذ منه مصلى دون غيره، وإن هذا التعيين يقتضي أن المصلى لا ينتقل عنه إلى غيره بنقل المقام عن مكانه، ولا يقوم غيره من المواضع مقامه، ثم يدعي صحة هذا القول ورجحانه بنسبته بصريح الكذب إلى ابن جرير وغيره وهو بريء منه.
تراه مُعدًّا للخلاف كأنه
بِرَدٍّ على أهل الصواب موكل
فالعاقل البصير والعالم النحرير يجب أن يكون مستقل الرأي والتفكير وألَّا ينخدع بما يدعي صحته من هذا القبيل لقصد التهويل والتضليل، فإن غالب ما يدعي صحته لا صحة له أصلاً لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف فضلاً عن نفي الخلاف فيه فقد أجمع العلماء على أنه ليس لسنة الطواف مكان محدود، فمن ذا الذي قال من العلماء أن مكان سنة الطواف هي موضع أقدام رسول الله من المقام دون غيره؟! وأنه لو صلى في غير هذا المكان لم تصح صلاته؟! ثم ينسب ترجيح القول بهذا إلى إمام المفسرين محمد بن جرير وهو بريء منه، بل ولم يسبق صاحب النقض أحد إلى القول به فيما علمنا لا ابن جرير ولا غيره، وإنني أهيب بعلماء المسلمين إلى مراجعة تفسير ابن جرير وهل يجدون فيه صحة ما يدعيه؟!

نعم، إن ابن جرير حينما ساق في التفسير أقوال علماء السلف في تعيين المقام النازل في شأنه القرآن وأن منهم من قال: إنه الحج كله، ومنهم من قال: إنه عرفة ومزدلفة ورمي الجمار، ومنهم من قال: إنه الحرم، ومنهم من قال: إن الحجر المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام.

قال: وأولى الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون: إن مقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام. قال: ولا شك أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله جل ذكره: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125]، فقال بعضهم: هو المدعى. وقال آخرون: تصلون عنده. أي: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده عبادة منكم لي وتكرمة مني لإبراهيم. انتهى.

فقد عرفت كيف أعرض عن تصويب ابن جرير في المقام وأنه المعروف بهذا الاسم في المسجد الحرام ثم أخذ قوله: إن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى، ولا شك أن تصحيحه للمقام شيء وحكايته عن عرف الناس شيء آخر ولا تلازم بينهما، وإلا فمن المعلوم أن هذه التسمية جارية في عرف الناس حتى الآن فتراه يقول: صليت في مقام إبراهيم، ورأيته يصلي في مقام إبراهيم. يعنون بذلك الحوض المحوط؛ لأن ما جاور الشيء أعطي حكمه واقتبس من اسمه، أشبه البيت فإنه يراد به نفس المسجد وفيه الكعبة ويطلق ويراد به حدود الحرم كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ [الحج: 33] يعني: حدود الحرم، إذ من المعلوم أن البدن لا تنحر في الكعبة ولا في المسجد. وصاحب النقض أخذ حكاية ابن جرير عن عرف الناس وترك تصحيحه للمقام، وأنه المعروف بهذا الاسم في المسجد الحرام لقصد التدليس والإيهام والتلبيس على الأذهان، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١ [آل‌عمران: 71] فلبس الحق بالباطل هو تغطيته به بحيث يظهر للناس أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وهذا اللبس مستلزم للكتمان فإنه من لبس الحق بالباطل فلا بد أن يكتم من الحق ما يناقض ذلك الباطل لعلمه أنه إذا اتضح الحق افتضح الباطل وإن لم يكتمه لم يتم مقصوده، ثم إن من لوازم هذا القول أن صلاة أصحاب النبي ﷺ حين انتشروا في المسجد الحرام يصلي كل منهم سنة الطواف وبعضهم أبعد عن موقف رسول الله ﷺ بمائة ذراع أو أكثر، أن صلاتهم هذه تذهب عليهم سدى لفسادها، حيث لم تقع منهم في الموقع المأمور به فهم عاصون بفعلها لم يمتثلوا أمر الله فيها، حيث لم يقفوا موقف رسول الله من المقام، هذا معنى صريح لفظه ومقتضاه:
إذا غلب الشقاء على سفيه
تنطع في مخالفة الفقيه
ولا شك أن هذا واضح البطلان بإجماع علماء الإسلام، فقد انعقد الإجماع على أنه ليس لهذه الصلاة مكان محدود، إلا أن الناس يحبون الاقتراب من المقام لسنة الطواف لما يجدوا في نفوسهم من محبة رسول الله ﷺ والحرص على الاقتداء بآثاره، والله سبحانه أمر بأن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، أي عنده، وعند الشيء ما أحاط به من جوانبه نظيره قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِ [البقرة: 198] إذ ليس المراد بالذكر عند المشعر الحرام أنه نفس الجبل أو موقف رسول الله منه، بل المراد ما هو أوسع من ذلك وأفسح، فلو ذكر الله تلك الليلة في أقصى بقعة من صحراء مزدلفة لصدق عليه أنه امتثل أمر الله في الذكر عند المشعر الحرام، وكذلك إذا صلى في أقصى بقعة من المسجد الحرام صدق عليه أنه قد اتخذ من مقام إبراهيم مصلى، لكون الصلاة لله رب العالمين وليست لمقام إبراهيم، وهذا هو التشريع الشرعي المنطبق على قول الرسول وفعل الرسول وإقراره، وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، ولكن هذا الرجل يتهمه الناس بالشذوذ في آرائه والطفور في أفكاره، وقد صارت هذه التهمة يقينية ظهرت على فلتات لسانه وصفحات كتابه ﴿وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٥ [يونس: 25].

* * *

الفصل الثامن

قال في النقض ص45 و46: صادف تحويل النبي ﷺ للمقام يوم الفتح وكلٌّ مشغول بنفسه والناس ما بين قاتل ومقتول، ولم يكن للمقام إذ ذاك كبير أهمية؛ لأنه لم ينزل فيه بعد قرآن ولم يشرع اتخاذه مصلى ولم يشتهر أمره شهرة تلفت أنظار الناس إليه. قال: ومبادرته ﷺ إلى ذلك في تلك الحالة مع اشتغاله بأمر الفتح وتدبير أمر الناس وقتل من أمر بقتله مما يدل على العناية وعظيم الاهتمام بأمر المقام، وأن هذا الشيء قد أمر به؛ لأنه ﷺ لا يفعل شيئًا من التشريع إلا بأمر الله. انتهى.

فالجواب أن نقول: إن صاحب النقض قد بالغ في نسبة النقل للمقام إلى النبي ﷺ بأقوال كلها متناقضة وحجج ساقطة عارية عن الدليل غارقة في التحريف والتبديل، لا تقيم له حجة ولا توضح له محجة، ولكن ديدن الحائر المبهوت أن يتمسك بما هو أوهى من سلك العنكبوت، أشبه من يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب، ولن يخر فريسة لتعاليمه السخيفة سوي همجي رعريع قليل العلم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة، وكأنه بهذا التهور وفساد التصور يوهمنا أن النبي ﷺ دخل مكة عام الفتح على حين غفلة من أهلها، فعمد حال وصوله في هيئة السرار والخفا إلى المقام فنقله من لصق الكعبة إلى موضعه الآن بدون أن يعلم بذلك أحد من أصحابه، وإنما استباح القول بهذا من أجل أنه أوحش أمامه الطريق وعدم الصاحب والرفيق ممن يتبلغ به إلى محل التحقيق، لعلمه أن هذا العمل وهذا التصرف لم يثبت عن رسول الله ﷺ لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولم يثبت القول به عن أحد من أصحابه، ولم يذكر في شيء من كتب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا في شيء من السير المعتبرة كسيرة ابن إسحاق وابن هشام وابن سعد، ولا في تاريخ ابن جرير ولا ابن الأثير ولا في زاد المعاد لابن القيم ولا في شيء من الكتب المعتبرة ما عدا أن ابن كثير نسب القول به في البداية والنهاية إلى موسى بن عقبة ورده في التفسير وقال: إنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. انتهى.

ومن المعلوم بالنقل وبديهة العقل أنه لو وقع هذا التصرف وهذا التحويل من رسول الله ﷺ لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة والشك لكون المقام في المسجد الحرام، وهو من الشيء الذي يهتم بأمره ولا يستهان بذكره، فعدم نقلهم لتحويله هو من الدليل الواضح على عدم وقوعه، كيف وقد أحاط برسول الله ﷺ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، ومن سوى أهل مكة وكلهم محدقون برسول الله ﷺ يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده، قد شخصوا أبصارهم وصرفوا جل عقولهم واهتمامهم لحفظ ما يقوله ويفعله، أفيخفى على أمثال هؤلاء تحويله للمقام لو وقع منه؟! حتى لم ينسب القول به عن واحد منهم؟! إن هذا يعد من المحال ومن القول الباطل الشاذ، وهذا القول يشبه من يقول: إن الرسول أوصى بالخلافة لعلي بدون أن يعلم بذلك أحد من أصحابه، فهذا وأمثاله مما يعلم بطلانه بالنص، وفي مسودة آل تيمية ذكر القاضي أن الخبر يُرد من جهة المخبر بخمسة أمور:

الأول: أن يخالف موجبات العقول.

الثاني: أن يخالف الكتاب والسنة المتواترة.

الثالث: أن يخالف الإجماع.

الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمهم به.

الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة بنقله.

وهذا التحويل لو وقع من النبي ﷺ لوجب على كافة الصحابة علمهم به؛ لأنه من الشيء الذي يهتم بذكره وتتوفر الهمم والدواعي على نقله، ولم تكن في العادة ولا في الشرع ترك مثله حتى لو انفرد بالقول به واحد منهم لشككنا في صحته، ولو كان صحيحًا عن موسى بن عقبة لم تقم به حجة لكونه شاذًّا خلاف ما رواه الثقات الأثبات وخلاف ما يجب على الكافة علمهم به، فدعواه بأن النبي ﷺ بادر بنقله والناس مشتغلون عنه بالقتل والقتال، فهذا وأمثاله من أبطل الباطل وأمحل المحال، فإن أصحاب رسول الله لم يشتغلوا عن متابعته ولا مراقبته بأهل ولا مال ولا قتل ولا قتال، وأمر الفتح هو من الشيء المشهور الذي أشرقت شمس معرفته على جميع الناس حتى عرفه منهم العام والخاص، فكل عالم ومتعلم ومجالس، حتى الغلمان في المدارس يعرفون بأنه لم يقع بين رسول الله ﷺ وبين قريش قتل ولا قتال، وإنما دخلها في حالة أمن واطمئنان وفرح وابتهاج ودخول الناس في الدين أفواجًا أفواجًا.

وملخصها أن رسول الله ﷺ خرج من المدينة لعشر مضين من رمضان عام ثمانية من الهجرة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وسائر من أسلم من قبائل العرب، فسار رسول الله ﷺ في الجيش حتى إذا انتهى إلى ذي طوى وعرف من هناك أن قريشًا قد أعطت له بالطاعة، وأنها لن تقاومه انحنى لله شاكرًا أن فتح الله عليه مهبط وحيه ومقر بيته ليدخله وجميع المسلمين آمنين مطمئنين، وقد استعمل رسول الله ﷺ سائر وسائل الحزم ففرق الجيش إلى أربع فرق وأمرها جميعًا بألّا تقاتل ولا تسفك دمًا إلا إذا أكرهت عليه إكراهًا واضطرت إليه اضطرارًا، فلم يلق أحد من الفرق الأربع مقاومة ما عدا جيش خالد بن الوليد فقد كمن له في أسفل مكة أشد قريش عداوة لرسول الله ﷺ، وهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل، فلما دخلت فرقة خالد إلى مكان يسمى الخندمة أمطروهم بنبالهم فناوشهم المسلمون شيئًا من القتال، ثم ولّوا مدبرين فقتل من المسلمين رجلان وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزموا، وفي الحديث قصة، وذلك أن رجلاً يدعى حماس بن قيس كان يحد حرابه قبل قدوم النبي ﷺ فقالت له امرأته: ما تصنع بهذا السلاح؟ فقال: لمحمد وأصحابه، وإني أرجو أن أخدمك بعضهم.فقالت: والله إني ما أرى أن يقوم لمحمد وأصحابه شيء. ثم أخذ ينشد:
إن يقبلوا اليوم فمالي عله
هذا سلاح كامل وألَّه
وذو غرارين سريع السِّله
ثم إنه شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة فلما غشيهم خالد ومن معه انهزم حماس حتى دخل بيته مذعورًا وقال لامرأته: أغلقي علي الباب. فقالت: أين ما كنت تقول؟! فأنشد:
إنك لو شهدت يوم الخندمهْ
إذ فر صفوان وفر عكرمهْ
واستقبلتنا بالسيوف المسلمهْ
يقطعن كل ساعد وجمجمهْ
لهم نَهِيتٌ خلفنا وهمهمهْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمهْ
ثم إنها اجتمعت الفرق الأربع برسول الله ﷺ وهو بالحجون وبسط رداء الأمن على جميع الناس ما عدا ستة أشخاص، ثم إن رسول الله ﷺ نهض متوجهًا إلى البيت والمهاجرون والأنصار من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فطاف بالبيت سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن، ثم دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها ثم أغلق باب الكعبة عليه ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة وقد امتلأ المسجد بالناس صفوفًا ينظرون ماذا يصنع رسول الله ﷺ، قال ابن سعد: ثم خرج من الكعبة وجاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين ثم قال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»[164]. فهذا ملخص القصة وقد استقصى جميع الصحابة والتابعين والعلماء المعتبرين سائر تصرفات رسول الله ﷺ في الفتح، فحفظوا دخوله مكة بغير إحرام وعليه عمامة سوداء، وأنه طاف على بعير ليسمعوا كلامه ويروا مكانه ولا تناله أيديهم، وحفظوا دخوله الكعبة ومعه بلال وأسامة وعثمان، وحفظوا أذان بلال فوق الكعبة وتواجد قريش عليه حين سمعوه، وحفظوا أخذه لمفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ووقوع المحاورة بينه وبين زوجته حيث امتنعت عن دفع المفاتيح خشية ألّا يردها عليهم، وحفظوا طلب علي رضي الله عنه من النبي ﷺ في أن يجمع له بين السقاية والحجابة فامتنع عليه ورد المفاتيح إلى عثمان وقال: «الْيَوْمُ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ»[165]. وحفظوا تكسيره للأصنام حتى الحمامة من العيدان، وحفظوا إتيانه بيت أم هانئ وصلاته عندها وذلك ضحى، وشكواها أخاها حيث أراد قتل رجلين من أحمائها قد أجارتهما وقول النبي ﷺ لها: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»[166]. وحفظوا إتيان أبي بكر بأبيه أبي قحافة ورأسه كالثغامة بياضًا، وقول النبي ﷺ: «غَيِّرُوهُ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَاد»[167]. إلى غير ذلك من تصرفاته، ولم يقع في شيء من الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا السير المعتبرة كسيرة ابن إسحاق و ابن هشام و الواقدي وغيرها أن رسول الله نقل المقام عام الفتح مع العلم أنه في المسجد الحرام، ولو وقع منه في تلك الحال لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة والإشكال لكونه من الشيء الذي لا يستهان بذكره، فعدم نقلهم له يدل على عدم تحويله لكون الأمور العدمية لا يتحدث بها الناس وإنما يتحدثون بالأمور الوجودية.

[164] سيرة ابن هشام 2/412. [165] ورد هذا الحديث في المعجم الكبير للطبراني من حديث سراقة وفي مصنف عبد الرزاق من حديث ابن أبي مليكة «لا ينتزعه منكم إلا ظالم». [166] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أم هانئ. [167] أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث جابر.

الفصل التاسع

وأما استدلاله بأنه من قول موسى بن عقبة ص 40 قال: وموسى بن عقبة من رجال الصحيح، وقد أدرك بعض الصحابة وهو ثقة فقيه وإمام في المغازي ومغازيه من أصح المغازي. قال الشافعي: ليس في المغازي أصح من مغازي موسى بن عقبة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مغازي موسى بن عقبة من أصح المغازي. انتهى.

فالجواب: إن هذا القول هو أصل مستنده وغاية معتمده، وقد بالغ في رفعه وتشييده ونصره وتأييده بالحق وبالباطل، أما موسى بن عقبة فإنه ثقة عدل ومن رجال الصحيح لكن ثقته وعدالته لا يحكم بها على صحة كل ما رواه، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصدر منهم أقوال تنكر عليهم ولا يتابعون عليها فما بالك بمن بعدهم؟ لأن الله سبحانه لم يخلق أحدًا معصومًا من الخطأ غير الرسول فيما يبلغه عن ربه، فهذا ابن عباس حبر الأمة وحافظ علوم السنة قد أخرج له البخاري ومسلم أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو محرم فعده الصحابة وهمًا منه رضي الله عنه وقالوا: الصحيح أنه لم يتزوجها إلا وهو حلال. كما ثبت ذلك عن ميمونة نفسها، وعن أبي رافع، فنسبة القول بهذا إلى ابن عباس صحيح ثابت ومطابقته للواقع غير صحيح ولا ثابت، وكذلك خبر موسى بن عقبة الذي خالف به علماء السير كابن إسحاق وابن سعد والواقدي وغيرهم، فعدالة الراوي شيء وصحة ما يروي شيء آخر، ولا تلازم بينهما، قال السيوطي في ألفية الحديث:
وما اقتضي تصحيح متن في الأصح
فتوى به كعكسه وضح
ولا بقاه حيثما الدواعي
تبطله والوفق للإجماع
ولا افتراق العلماء الكمل
ما بين محتج به وذي تأول
وهذا الخبر يعلم ضعفه من وجوه:

الأول: أنه روي عن موسى بن عقبة، والروايات الصحيحة الصريحة عن عائشة وعروة وعن مالك ومجاهد وعطاء وسفيان بن عيينة وابن سعد ترد هذا القول.

والثاني: أن مدار هذا الخبر على نقل ابن كثير في البداية وقد ضعفه في التفسير وقرر أن النقل إنما وقع من عمر.

الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل بالسماع إلى أحد من الصحابة فضلاً عن رسول الله ﷺ.

والرابع: أن هذا التحويل بتقدير وقوعه في المسجد الحرام عام الفتح فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ويجب على الكافة علمهم به، ومعلوم أنه لم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله ﷺ القول به.

الخامس: أنه لو وقع من فعله ﷺ لتقدمه شيء من القول في سبيل تمهيده وتوطين الناس له مما يجب أن يحفظ عنه ويعلم به كل الصحابة أو أكثرهم، وبالخصوص أهل مكة، ذلك بأنه ليس كل ما كان قطعيًّا عند شخص يجب أن يكون قطعيًّا عند غيره، وليس كل ما ادعت طائفة أنه صحيح عندها يجب أن يكون صحيحًا في نفس الأمر والواقع، فهذه الوجوه من تدبرها وكان عارفًا بالأدلة القطعية يجزم قطعًا بأن النبي ﷺ لم يقع منه تحويل للمقام، إذا ثبت هذا فإن ثناء الشافعي وشيخ الإسلام على مغازي موسى بن عقبة باق على أصله، وهم إنما يعنون بذلك الأكثر من أقواله لا كل قول يقوله، إذ ليس مراد من أثنى عليه بالصحة أن كل قول يقوله يكون صحيحًا وما خالفه فيه غيره يكون باطلاً؛ لأن "أصح" من أفعل التفضيل الدالة على المشاركة والزيادة، فقد يكون في أقوال المفضول ما هو أصح من الفاضل كما في الحديث: «خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[168] فإن هذا وأمثاله يعد من تفضيل الجملة، وهي لا تقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، إذ من المعلوم أنه قد وجد في قرن النبي ﷺ بل وفي بلده النفاق والمنافقون قال تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ [التوبة: 101]. فهذا النفاق قد وجد في خير القرون ولا ينتقض به قاعدة تفضيل قرنه على سائر القرون.

* * *

[168] أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين بلفظ: «خيركم قرني...».

الفصل العاشر

قال في النقض ص 45: إن المقام زمن إبراهيم عليه السلام لم يتعلق به شيء من الأحكام ولم ينزل في شأنه قرآن، ولم يؤمر الناس بالصلاة حوله إلا بعد حجة الوداع وبعد نزول قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] وهذه الآية إنما نزلت في حجة الوداع.

فالجواب: متى كان الأمر بهذه الصفة وأن المقام زمن إبراهيم عليه السلام لم يتعلق به شيء من الأحكام، فما الفائدة في ترديد هذا الكلام وتركيزه في الأذهان وإلحاقه بالشرائع والأحكام؟! ليثبت بذلك تحريم تحويل المقام عن محله الآن، ليوهم بذلك ضعفاء العقول والأفهام بأن هذا هو محله زمن إبراهيم عليه السلام، وأن استدامة بقائه في محله هو من الشرع القديم اللازم والحكم التوقيفي الدائم، وأن الرسول بادر برده إلى محله، وجعل هذا القول أصلاً في استدلاله وغاية في اعتماده واستناده حتى إنه ذكره في أكثر من عشرين وجهًا من كتابه لقصد التمويه والتهويل به، على أن قوله: إن الناس لم يؤمروا بالصلاة حوله إلا بعد حجة الوداع وبعد نزول قوله تعالى:. ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. فإن هذا كله يعد من الكذب على الله وعلى رسوله، وكأنه لا علم له بمواقع التنزيل، أو أنه يعلم ولكنه يتجاهل، فإن سورة البقرة هي أول ما نزل بالمدينة بإجماع علماء التفسير على ذلك ما عدا آية واحدة وهي قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]. فقيل:إنها نزلت في حجة الوداع، وقيل: إنها نزلت قبل موت النبي ﷺ بثلاثين يومًا، وقيل: باثني عشر يومًا. والله أعلم. وفي البخاري عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عند النبي ﷺ. ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء المعتبرين أن أحدًا منهم قال بقوله، وأن الناس لم يؤمروا باتخاذ المقام مصلى إلا في حجة الوداع.

وإنما أخرج هذا القول من كيس نفسه في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، كيف وقد ثبت من فعل النبي ﷺ أنه صلى ركعتي الطواف عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة في عمرة القضاء وفي الفتح بطرق صحيحة ثابتة؟!.

ففي البخاري قال: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ أُتِىَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ دَخَلَ الْكَعْبَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِىُّ قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالاً قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَسَأَلْتُ بِلَالاً فَقُلْتُ أَصَلَّى النَّبِىُّ فِى الْكَعْبَةِ قَالَ نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ».

وفي البخاري: «عن ابن عباس: أن النبي دخل البيت فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِى قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ « هَذِهِ الْقِبْلَةُ»».

وفي النسائي: «عن عطاء عن أسامة بن زيد أن النبي دخل البيت ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين وقال: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»».

وفي الطبقات الكبرى: «عن محمد بن سعد في قصة الفتح قال: ثم طاف النبي بالبيت ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين».

فهذه الأحاديث كلها تدل بطريق الصراحة على أن النبي ﷺ صلى سنة الطواف عند المقام حال كونه لاصقًا بالكعبة في عمرة القضاء وفي الفتح بل وفي حجة الوداع كما في صحيح مسلم من حديث جابر في صفة حج النبي ﷺ وفيه: أن النبي ﷺ طاف بالبيت سبعًا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة فصلى ركعتين. وهو يدل بمفهومه على أن المقام كان إذ ذاك في لصق الكعبة؛ لأن التقدم إنما يوصف به التقدم إلى القبلة، فلو كان في محله الآن لقال: ثم تأخر فصلى ركعتين. كما في حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ رأى تأخرًا في أصحابه، فقال: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِى وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ»[169]، فمعناه التقدم إلى القبلة، وصاحب النقض يعترف بصلاة النبي ﷺ عند المقام في عمرة القضاء وفي الفتح، ولكنه -ويا للأسف- يصف هذه الصلاة بأنها من فعل الجاهلية وأنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم، ليقطع بذلك سلسلة الإسناد ويفصم عروة وثيقة الاستناد حتى يتسنى له عدم الاعتداد بفعل النبي ﷺ وبفعل أصحابه، ودونك نصُّ لفظه نزاهة لعرضنا وإزاحة لعذره:

قال في النقض ص 63: وأما ما روي من صلاة النبي ﷺ خلف المقام تحت البيت في عمرة القضاء فذلك في زمن الجاهلية حينما كان ملصقًا بالبيت قبل تحويله، وعمرة القضاء في ذي القعدة عام سبعة من الهجرة. انتهى.

فقد عرفت تسميته زمن النبوة التي هي بعد عشرين عامًا من البعثة بزمن الجاهلية، ثم وصف صلاة رسول الله ﷺ وصلاة أصحابه عند المقام بأنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم وقبل أن يؤمروا بها، وهذا كله من الكذب على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، ومعلوم أن الكذب على الله وعلى رسوله ليس كالكذب على الناس، وإنني لأعجب جدًّا من جرأة هذا الرجل على فساد هذا التعبير، فحالة تبلغ بهذا الشخص إلى حد يسمي فيها زمن النبوة بزمن الجاهلية، ويصف صلاة رسول الله ﷺ عند المقام بأنها غير شرعية، إنها لحالة سيئة، وإلا فإن الجاهلية اسم لما قبل البعثة حينما يقال حروب الجاهلية، وأشعار الجاهلية، ونكاح الجاهلية، وهذا الشيء لن يخفى على مثله، ولكنه يتجاهل والتجاهل بالشيء أقبح من الجهل به؛ لأن الجهل منسوب إلى عدم العلم وإلى عدم اتباعه، فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلاً بسيطًا، فإن عرفه وعمل بخلافه فهو جاه ل جهلاً مركبًا، وفيه الحكاية المشهورة:
قال حمار الحكيم تُوما
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط
وصاحبي جاهل مركب
أما صلاة النبي ﷺ وصلاة أصحابه عند المقام في عمرة القضاء وفي الفتح، فإنها كحكمها في حجة الوداع، كما أن أصحاب النبي ﷺ صلوا عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة، ثم صلوا عنده بعد تحويل عمر له إلى محله، ولم يجدوا في أنفسهم حرجًا من صلاتهم عنده بعد تحويله، لعلمهم أن الصلاة لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم.

وأما دعواه بأن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] وأنها لم تنزل إلا في حجة الوداع فإننا لم نر من قال بذلك من علماء الحديث والسير والتفاسير، فهذه أصول التفاسير الموجودة بأيدي الناس كتفسير ابن جرير و ابن كثير و البغوي و القرطبي و الزمخشري و تفسير المنار وغيرها لم تذكر نزول هذه الآية في حجة الوداع، بل قد اتفقوا على أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة.

قال في الفتح: اتفق العلماء على أن سورة البقرة مدنية وأنها أول سورة نزلت بالمدينة وفي البخاري عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عند النبي ﷺ. ولما حصل الانكماش من الناس في وقعة حنين وهي عام ثمانية من الهجرة، أمر رسول الله ﷺ العباس في أن يصرخ بالناس: يا أهل سورة البقرة، فعطفوا عليه حتى إن الرجل لا يستطيع أن يصرف بعيره فينزل عنه ويدعه. نعم، إن الرجل وجد في لباب النقول عن السيوطي على قوله: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى قال: وروى البخاري وغيره عن عمر قالوَافَقْتُ رَبِّى فِى ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى، وقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِىِّ فِى الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» كذلك له طرق كثيرة منها ما أخرجه أبو حاتم وابن مردويه عن جابر: «لما طاف النبي قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى﴾». وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر من مقام إبراهيم، فقال: «يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا؟ قال: «بلى». قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم نلبث يسيرًا حتى نزلت: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. قال: وظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع». انتهى.

فقد عرفت اضطراب الرواة في هذا الحديث وأن الصحيح هو ما رواه البخاري، ثم إن السيوطي لم يجزم بالقول بنزول هذه الآية في حجة الوداع، ولم يعزه إلى أحد من العلماء وإنما قال: إن ظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع وهو خطأ فهم منه عفى الله عنه، إذ من المحتمل أن يكون عرض هذا الرأي من عمر على النبي ﷺ وقع منه في مكة قبل أن يهاجر أو في المدينة عند ذكر الحج والعمرة، لكون سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة بإجماع علماء التفسير على ذلك، أشبه النظائر التي عرضها ونزل القرآن بموافقته فيها، وهي الأمر بالحجاب وهي مدنية وآية التخيير مدنية أيضًا، فليس في موافقته في الصلاة والمقام ما يدل على أنه عام حجة الوداع، وتلاوة النبي ﷺ للآية بعد فراغه من الطواف يدل على سبق نزولها، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله.

ولكن هذا الرجل يتهمه الناس بالشذوذ في آرائه والطفور في أفكاره، يتكلم في القرآن وفي الحديث وفي العلماء بغير عقل وبغير عدل، فهو لفرط جهله وهواه يقلب الحقائق في المعقول والمنقول فيأتي إلى الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة التي تدل على المعنى المراد منها، لكنها لا توافق هواه فيصرفها عن حقيقتها ويقول: إنها غير صحيحة، أو أنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم، أو قبل أن يؤمروا بها أو أن النبي صلاها زمن الجاهلية. فيخالف الحقائق مخالفة غير خافية على أحد. ولا يقول بمثل قوله إلا من هو أحمق الناس وأجرؤهم على الكذب وأقلهم حياءً ودينًا، ولا يروج إلا على أجهل الناس وأقلهم معرفة وعلمًا.

* * *

[169] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.

الفصل الحادي عشر

قال في النقض ص 39: قال في الدر المنثور: أخرج ابن أبي داود عن مجاهد قال: كان المقام إلى لزق البيت فقال عمر: يا رسول الله، لو نحيته عن البيت ليصلي إليه الناس ففعل ذلك رسول الله وأنزل الله آية: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. قال علي بن المديني: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ من كل ضرب. انتهى.

فالجواب: إن صاحب النقض لما أعوزه الحصول على الدلائل المقتضية للصحة والتحقيق أخذ في هذا السلوك لقصد التمويه والتضليل على حد ما قيل: إذا لم تغلب فاخلب.

وهذا الدر المنثور الذي نقل هذا الأثر منه هو من مؤلفات السيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى في سنة "911هـ" فسر فيه القرآن بالمأثور، أي بالآثار المسندة عن رسول الله ﷺ وعن السلف، ومن أجل أنه يضيق عليه المقام من تطبيق الآثار على القرآن صار يستشهد بكل ما يجد من أثر ضعيف وجيد، وابن أبي داود الذي رواه عن مجاهد هو مجهول لكونه يتسمى بهذا الاسم ما يقدر بعشرة أشخاص كل واحد منهم يسمى ابن أبي داود، فأهل الحديث يعرفون كل واحد بنسبه وجده وبلده، والكلام هنا في عدم نسبة هذا القول إلى مجاهد لا في مرسلاته، فلا يصح الاستدلال بمثل هذا المرسل ما دام راويه مجهولاً وشرطه مفقودًا وهو صحة السند إلى مجاهد ووجود المعارض الذي هو أقوى منه، وهو ما ثبت عنه بخلافه بطريق صحيح وهو ما رواه عبد الرزاق بن همام في مصنفه عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن هو عمر بن الخطاب. فهذا القول هو الثابت عن مجاهد، ورواته كلهم ثقات من رجال البخاري، فلا مداناة بين السندين فضلاً عن المساواة.

ومجاهد هو القائل: إن المقام النازل في شأنه القرآن هو الحج كله.

* * *

الفصل الثاني عشر

وأما قوله: إن الله أمر أن يتخذ منه مصلى، وفسر لنا رسول الله ﷺ مقتضى هذا الأمر بتلاوته للآية وصلاته خلفه وما أمر الله رسوله من شرعه الذي أوحاه إليه أمر توقيفي لا اجتهاد فيه لأحد.

فالجواب: أما تلاوة النبي ﷺ للآية وصلاته خلف المقام سنة الطواف فصحيح ثابت لا مجال للشك فيه، وإنما النزاع في صحة ما يدعيه من أن موقف رسول الله ﷺ من المقام لصلاة سنة الطواف أنه هو المأمور بأن يتخذه مصلى دون غيره، وأنه لو نقل المقام إلى محل قريب منه فإن الصلاة عنده فاسدة غير صحيحة لوقوعها في غير موقعها المأمور به في الآية، فإن هذا وأمثاله مما لا شك في بطلانه لانعقاد الإجماع على خلافه، أما تلاوة النبي للآية فليست بدالة على سبيل القطع أن المقام النازل فيه القرآن هو هذا الحجر دون غيره، فقد حصل الخلاف بين السلف والخلف في تعيينه، فمنهم من قال: إنه الحج كله. قاله ابن عباس، ومنهم من قال: إنه المسعى وعرفة ومزدلفة ورمي الجمار. قاله مجاهد وعطاء، ومنهم من قال: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم الخليل عليه السلام لبناء البيت الحرام. كما اختلفوا في الصلاة أيضًا فمنهم من قال: إنها الدعاء لكون الخطاب للمؤمنين زمن إبراهيم عليه السلام وصلاتهم ليست كصلاتنا. ومنهم من قال: إنها الصلاة المعروفة ذات الركوع والسجود وهي سنة الطواف، وقد ثبت مشروعيتها من قول النبي ﷺ وفعله وإقراره، وقد روى الخمسة عن جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».

فهذه الصلاة لا تتغير عن مشروعيتها بتحويل المقام عن محله ولا ببقائه على حاله، وقد صلاها الصحابة عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر ثم صلوها بعد تحويل عمر له إلى محله الآن، ولم يقع في نفس أحد منهم حرج من هذا التحويل لعلمهم أن الصلاة عنده لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم، ولأن المقام لا يتعلق به شيء من مشاعرالحج ولا مناسكه، فلم يشرع مسحه ولا تقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، وإنما شرعت الصلاة عنده عبادة لرب العالمين وتكرمة لإبراهيم لتخليد ذكره الجميل، وقد جعل الله استدامة بقائه في المسجد الحرام بمثابة الدليل والبرهان على صحة بناء إبراهيم عليه السلام لهذا البيت الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، فتحويله من محله إلى محل قريب منه حيث دعت الضرورة والحاجة والمصلحة إليه لا يتغير به شيء من حرمته، ولا تنحط به كرامته، أشبه تحويل عمر له في زمانه وإجماع الصحابة على استحسانه، وهذا التصرف يعد من المصالح المرسلة والتصرفات الجزئية الحسنة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله، والتي تتمشى على حسب الحاجة والمصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وحاصله يرجع إلى راحة الأنام ووقايتهم من السقوط تحت الأقدام فيما بين الركن والمقام، فهو إن لم يكن للصواب فيه ملمح ففيه للاجتهاد مسرح، أشبه التصرف في المسجد الحرام بتوسعته وتغيير بنيانه عن حالته زمن النبي ﷺ وهو أعظم حرمة من حجر المقام، ولأن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة في غيره.

فأول من تصرف فيه بتوسعته عمربن الخطاب ثم زاده عثمان بن عفان ثم زاده ابن الزبير ثم زاده الوليد بن عبد الملك ثم زاده بنو العباس، وكل هذه التصرفات وقعت في القرون المفضلة ولم ينكرها أحد من العلماء، بل جعلوا للزائد حكم المزيد في الفضيلة، ثم حصلت التوسعة في هذه الأزمنة من الحكومة السعودية في المسجد الحرام وفي المسعى وفي المواقف، كإزالة الجبل الراكب على جمرة العقبة ليتسع المرمى للناس، فحصل للحجاج بذلك راحة وسعة، وحمدوا عاقبة هذه التوسعة وعدوها من العمل المبرور والسعي المشكور، ثم جرى منهم التوسعة في المطاف للناس وذلك بإزالة سائر البنايات المحيطة بالمطاف، كالبناء المجعول فوق زمزم والمنبر وبقي المقام كالقائم وسط صحن المطاف، ولولاه لاتسع المطاف للناس من جميع الجهات، ومتى بقي على حاله وفي محله فإنها ستكثر بسببه الإصابات ولا يتمكن أحد عنده من فعل الصلاة من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام، فلأجله وقع تبادل الآراء بين العلماء في موضوعه، وأدخلت قضيته في الجامعة الإسلامية للحاجة إلى الإفتاء في خصوصه، والحاجة هي أم التدقيقات والتوسع في التحقيقات كما أنها أم الاختراعات لأمور الحياة، فصدر من مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم الإفتاء بجواز تحويله إلى محل قريب منه لمصلحة توسعة المطاف للناس، وكما سبق نظير هذا العمل من فعل عمر بطريق القياس وإجماع الصحابة الأكياس ووافقه على هذا الرأي أكثر العلماء العارفين بالعلل والأحكام.

ونحن نرى أن هؤلاء الذين أفتوا بذلك لم يتجانفوا في فتواهم لإثم ولا لتغيير شرع ولا حكم، فهم أقرب إلى الصواب والعدل من القائل بالتحريم بدون نص ولا قياس ولا دليل؛ لأن من قواعد الشرع المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والضرورة تبيح المحظور، وما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة وكون الحرج منفيًّا عن الدين جملة وتفصيلاً: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78] ولكن الإنسان طائش بطبعه إذا جهل شيئًا أسرع بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، وإلا فإن هذا التحويل يجري مجرى التصرف في المسجد الحرام بتوسعته، وكذا المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده، فالقائل بتحريم تحويل المقام ووجوب بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ يلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد الحرام وتحريم التصرف في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله ﷺ بيده، إذ هما أعظم حرمة منه، ومن المعلوم أن بقاء المقام على حاله مع توسعة المطاف من جميع جهاته أنها تتضاعف الإصابات منه بحيث إن الطائفين لكثرتهم يظلل بعضهم دون بعض فيسقطون عليه بدون أن يروه وربما دفع بعضهم بعضًا بالعنف والشدة إليه، وهو حجر وقد ضرب عليه بصندوق حديد، وبهذا السبب يتزايد خطره، وربما تكثر وفياته وضرره، وزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل رجل مسلم، ولما طاف النبي ﷺ بالبيت قال: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَإن حُرمة المسلم عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِن حُرمتك، مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَلا يظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا»[170].

وإنما حول عمر بن الخطاب المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن حينما اتسعت فتوح البلدان وكثر الوافدون إلى حج بيت الله الحرام فرفعه إلى حد يرى أنه كافٍ لمطاف الناس في ذلك الزمان.

قال في الفتح: كان عمر يرى أن إبقاء المقام في لصق الكعبة يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى، ولم تنكر الصحابة فعله ولا من جاء من بعدهم فصار إجماعًا. انتهى.

والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجدت العلة وجد المعلول، وقد عظم الجمع في هذا الزمان أشد منه بكثير من زمن عمر بن الخطاب وأخذ يتزايد عامًا بعد عام من أجل سهولة المواصلات وقصر المسافة بالآلات البرية والبحرية والهوائية، وقد قلت عقبات التعويق، وقطع دابر قطاع الطريق، واستتب الأمن على النفس والمال في أنحاء الحرم وخارجه وسائر السبل المفضية إليه، حتى إن الناس فيه آمن منهم في دورهم وديارهم، فمن أجله هبَّ الناس من كل فج إلى أداء فريضة الحج والتزود منه مرة بعد أخرى فعظم الجمع واشتد الزحام عند رمي الجمار، وفيما بين الركن والمقام حتى تسبب في وفاة بعض الأعيان، وما من شيء من شؤون العبادات يقع الناس لأجله في الشدة والحرج إلا وبجانبه باب من التيسير والفرج: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83]؛ لأن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78] والحرج هو الضيق والمشقة فيما يمكن فيه إدراك غرض الشارع، والعمل بالمشروع بدون مشقة، فأشد ما يقع الناس فيه من المشقة في شؤون مناسك الحج هو في مقامين أحدهما عند رمي الجمار، والثاني في الطواف خاصة فيما بين الركن والمقام. فالمشقة الحاصلة على الناس عند رمي الجمار إنما حصلت بإلزام الناس برمي الجمار فيما بين الزوال إلى الغروب، فهذا التحديد هو الذي أوقعهم في الحرج والمشقة، على أنه لم يثبت عن رسول الله ﷺ ما يقتضي صحة هذا التحديد لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، والتحديد بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، فإزالة هذه الشدة وتخفيف هذه المشقة يحصل بالإفتاء بتوسعة الوقت للرمي، وكونه يجوز للإنسان أن يرمي في أية ساعة شاء من ليل أو نهار كما ورد الأمر بذلك للرعاة، وقاس عليه الفقهاء السقاة ومن خاف على نفسه وأهله وماله فيجوز لهم أن يرموا في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، قاله في الكافي و الإنصاف، وما من أحد من الناس إلا وهو يخاف على نفسه وأهله ورفيقه عند رمي الجمار أشد من خوفه على خمسين دينارًا، التي أبيح له في أن يرمي جماره من أجل الخوف عليها في أية ساعة شاء من ليل أو نهار، وصار الناس كلهم من أجل ضرورة الزحام والسقوط تحت الأقدام بمثابة المعذورين الذين أبيح لهم أن يرموا في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، على أن التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه فالحكم على الجمع الكثير في خاصة هذا الوقت القصير قد صار من تكليف ما لا يستطاع، والله لا يكلف نفسًا إلا وُسْعَهَا مع العلم أنه عمل يفعل بعد التحلل من الحج كله فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد، والقول بسعة الوقت للرمي هو مما يؤهل الناس أن يرموا جمارهم بسهولة وسعة، ويختار أحدهم من الوقت أوسعه، ويعلم عن طريق اليقين أن رميه للجمار قد وقع موقعه.

الأمر الثاني: الشدة الحاصلة على الناس في المطاف خاصة فيما بين الركن والمقام، فهذه الشدة والمشقة يحصل إزالتها والتخفيف منها بتحويل المقام عن محله إلى محل قريب منه؛ لأن هذا من المصالح المرسلة والتصرفات الجزئية الحسنة لكون الطواف هو ركن الحج الأعظم فهو واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبتوسيع المطاف يتأهل الإنسان لأداء هذا الركن بتمام وخشوع وخضوع واطمئنان بدلاً من أن يدفع بالكره إلى الوراء أو يسقط من شدة الزحام تحت الأقدام، وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن الشرائع اللازمة كالصلاة في أوقاتها وكالزكاة المفروضة وكالصيام وكمناسك الحج المحتمة مثل الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة فهذه كلها تلتزم حالة واحدة فلا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، أما ما عدا ذلك فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كان عمر في خلافته يجمع أولي الأمر من كبار الصحابة فيشاورهم في كل ما لا نص فيه ولا سنة متبعة فيعمل بمقتضى رأيهم، وكان من سنته وحسن سيرته أن يأمر عماله بأن يوافوه في الحج في كل سنة للسياسة والمشاورة فيما يلزم بشأنهم.

* * *

[170] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عبد الله بن عمر.

الفصل الثالث عشر

في تحقيق المقال في نقل عمر للمقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن ابتداء من غير سبق.

ثبت بالأقوال الصحيحة والآثار الصريحة أن المقام كان لصق الكعبة زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وكذلك زمن الجاهلية بطريق اليقين، وكذا في زمن إبراهيم على ما قاله ابن عباس، فلما اتسعت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية وكثر الداخلون في الإسلام والقاصدون لحج بيت الله الحرام وصار المصلون عند المقام يعرقلون سير الطائفين بالبيت الحرام، كما أن الطائفين يؤذون المصلين بوطئهم بالأقدام فاقتضى رأي عمر أن يرفعه إلى حد المطاف، حيث رأى هذا الحد كافيًا للناس، فرفعه إلى مكانه الآن ووافقه على ذلك جميع الصحابة الكرام، حتى لم يختلف عليه منهم إنسان، واشتهر هذا النقل عند الناس وتحدث به العام والخاص، وحسبك ما ذكره في نقضه حيث قال ص 469: اشتهر تحويل عمر للمقام من تحت البيت عند الناس وتحدث به العام والخاص، ونقله الحاضر للغائب، فمن هنا حصل اشتباه أحد التحويلين بالآخر. انتهى.

فجوابه: إنه لا إشكال ولا اشتباه فإن هذا التحويل الذي اشتهر عند الناس وتحدث به العام والخاص هو الأول الذي لم يقع تحويل قبله، أفيصح في الأذهان أن يشتهر تحويل عمر للمقام ويخفى على الناس تحويل النبي ﷺ له لو وقع منه، ورسول الله ﷺ أجل قدرًا وأشهر ذكرًا من عمر وغيره؟! حتى إنه لم ينقل القول به عن أحد من الصحابة، ولو وقع من النبي ﷺ لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة أو الشك، وإذا جاء سيل الله بطل نهر معقل، فعدم نقل حفاظ السنة له يدل بطريق الوضوح على عدم وقوعه منه، والصحيح أن كلا التحويلين وقع من عمر فلا إشكال ولا اشتباه، ولنذكر من الأدلة ما يؤكد ذلك.

فقد روى البيهقي في سننه بسند صحيح «عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن المقام كان زمان النبي وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر رضي الله عنه».

وقد اعترض صاحب النقض هذا الحديث بحجة أنه من كلام عروة، وقد صحح ابن كثير هذا الحديث وقواه ابن حجر وحسبك بهما معدلين، فكان عروة يحدث به عن عائشة مسندًا إليها وأحيانًا يحدث به بدون أن يسنده إليها ولا منافاة بينهما، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر في بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام. وروى ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن المقام كان زمن رسول الله ﷺ وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فحديث عروة به على نحو هذا الوجه هو مما يدل على شهرته، فهو أقوى وأرجح من قول موسى بن عقبة لكون عروة من أوعية العلم ومن حفاظ السنة.

الوجه الثاني: ما روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قال: أول من نقل المقام عمر بن الخطاب.

الوجه الثالث: ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب. فهذا سند قوي، كلهم من رجال البخاري، وهو أصح ما ورد في هذا الباب عن مجاهد.

الوجه الرابع: ما روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سفيان بن عيينة، وكان إمام المكيين في زمانه قال: كان المقام في صقع البيت في عهد رسول الله ﷺ فحوله عمر بعد النبي ﷺ وبعد قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا.

الوجه الخامس: ما روى مالك في المدونة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر وقبل ذلك.

الوجه السادس: ما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: اعتمر عمر ثلاث مرات، عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت. وتقدم قوله في قصة الفتح: إن النبي ﷺ طاف بالبيت على راحلته ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين.

الوجه السابع: ما روى الأزرقي عن محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن صفوان قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابدي، وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع، بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. قال: فحوله ثم صلى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال عبد الله بن السائب: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي، قال فلما قضى صلاته قال عمر أحسنت، فكنت أول من صلى خلف المقام حين حول إلى موضعه.

وفي هذا الخبر دليل على صحة تحويل عمر للمقام ابتداء من غير سبق، لوجوه منها قوله: أمر عمر بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو به اليوم، فلو كان مسبوقًا بتحويل من النبي ﷺ لما نسي ذكره في هذه القضية، ولقال أمر برده إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ، أو على الأقل لقال أمر برده إلى مكانه إذ يبعد أن ينسى ذكر رسول الله ﷺ في هذا التحويل لو وقع منه، فعدم ذكر رسول الله ﷺ في هذه القضية يدل على عدم تحويله له، وأن هذا التحويل الواقع من عمر لم يسبق إليه أحد قبله، ومنها قوله: فحوله، ولو كان هذا التحويل مجرد رده إلى المكان الذي ذهب به السيل منه لقيده به حيث لا يتم الكلام بدون ذكره ومنها قوله: فكنت أول من صلى خلف المقام حين حوله إلى موضعه هذا، فهذه الصلاة تدل على أنها أول صلاة وقعت من إمام عند المقام بعد ما حول إلى ذلك المكان؛ لأن هذا هو حقيقة ما يتبادر إلى الأذهان وما يسبق إليه فهم كل إنسان ولو كان القصد من هذه الصلاة أنها بعد رده إلى المكان الذي ذهب به السيل منه لقيده به، حيث لا يتم الكلام بدونه ولا يفيد فائدة يحسن السكوت عليها إلا بذكره.

الوجه الثامن: ما روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: في حوادث سنة ثماني عشرة وزعم الواقدي أن عمر رضي الله عنه حول المقام في هذه السنة في ذي الحجة إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت قبل ذلك.

الوجه التاسع: قال ابن كثير في التفسير: كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ومكانه معروف اليوم، جانب الباب مما يلي الحجر، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو انه انتهى عند البناء فتركه هناك، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده، ولهذا لم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

الوجه العاشر: قال ابن حجر في الفتح: كان المقام من عهد إبراهيم عليه السلام لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا، وكأنه رأى أن إبقاءه لزق البيت يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين فرفعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى. انتهى. فهذا ابن حجر الذي هو قريع أقرانه وحافظ السنة في زمانه، وقد عد له مائة وخمسون مؤلفًا في الحديث والفقه واللغة وتراجم الصحابة والتابعين ورواة الحديث والتاريخ والسير، وأعجبها فتح الباري الذي بلغ فيه من التحقيق والإتقان ما لا يخطر بالأذهان حتى صار مثالاً رائعًا لدى العلماء في سائر الأزمان والأوطان ينسب كل قول إلى راويه مع بيان علله ومنافيه وما عسى أن يقال فيه، ورجح كون عمر بن الخطاب هو الذي حول المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن، ومع هذا يقول صاحب النقض إنه قاله تقليدًا لابن كثير ومعلوم أن المقلد لا يعد من أهل العلم:
كم سيد متفضل قد ذمه
من لا يساوي طعنة في نعله
إن صاحب النقض قد سار على سنة سيئة من أمره، وهي أن يرمي كل قول يخالف رأيه بالتضعيف والتصحيف كما يقول في خبر مالك حيث قال: بلغني أن عمر لما حج واعتمر نقل المقام إلى موضعه الآن. فتراه يقول: إن مالكًا لم يبلغه تحويل رسول الله ﷺ له وصدق، لأنه لو وقع التحويل من رسول الله ﷺ لبلغه، ومع عدم تحويله لم يبلغه لكون الناس إنما يتحدثون بالأمور الوجودية، أما الأمور العدمية فلا يتحدث بها الناس إلا على سبيل إبطالها والتكذيب بها، ويقول في خبر عائشة الذي رواه البيهقي بسند صحيح عنها قالت: إن المقام كان على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر ملصقًا بالبيت إلى أن نقله عمر بن الخطاب. فتراه يقول: إنما روي هذا الخبر عن عروة، فهو الذي حدث به. ولا شك أن عروة من أوعية العلم ومن حفاظ السنة، وقد حدث به عن عائشة مسندًا إليها، وأحيانًا يحدث به بدون أن يسنده إليها ولا تنافي بينهما لكون المحدث له حالات أحيانًا يستقصي الحديث بسنده، وأحيانًا يقتصر فيذكر معناه وموجبه، والمثبت عند أهل الأصول مقدم على المنافي، وحديثه به بدون أن ينكر عليه فيه أحد يدل على شهرته وصحة ما يدل عليه، مع العلم أن العهد منه قريب بزمن عمر، كيف وقد اعتضد بقول مجاهد وعطاء وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس ومحمد بن سعد والواقدي وابن كثير وابن حجر وابن الجوزي وغيرهم؟ فكل هؤلاء الثقات الأثبات قد اتفقوا على تحويل عمر للمقام من لصق الكعبة بلا سبب يوجبه سوى توسعة المطاف للناس.

فمن أراد أن يدفع هذه الأخبار الصحيحة الصريحة بشبه مزيفة وأباطيل محرفة وتشكيكات وذبذبة، فقد سلك سبيل السفسطة وجنف إلى الجور وجانب العدل.

وهذا الكاتب قد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره، وهي أن يأخذ من أقوال المؤرخين غير المعتبرين وغير المعروفين بالعلم والحديث كالأزرقي وابن فهد وابن سراق العامري وابن فضل الله العمري وابن جبير ومن الدر المنثور للسيوطي، فيأخذ من أقوال هؤلاء ما يوافق غرضه وهواه ويزيد عليها من نفسه ثم يجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة، ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها ولو بالتأويل والاحتمال والكذب والاحتيال.

وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن المتصدين للتأليف في السير والتاريخ والتفسير والحديث وتراجم الصحابة والرواة كابن إسحاق وابن سعد والواقدي وابن جرير وابن حجر ونحوهم، إنهم بسبب مزاولتهم في سبيل التأليف للبحث والتفتيش والفحص والتمحيص ووقوفهم على الأقوال المختلفة والكتب المؤلفة إنهم يظهر لهم من حقائق العلوم والمعرفة والحكم الخفية ما لا يخطر ببال أحدهم قبل البحث والمراجعة، وما قد يخفى على غيرهم ممن ليس له عناية بالتأليف، كما أننا قبل هذا البحث لم نكن نعرف حقيقة المقام وما جرى له من تطورات الانتقال من مكان إلى مكان لولا الحاجة التي أوجبت علينا المراجعة في خصوصه، والحاجة هي أم التدقيقات والغوص في التحقيقات، كما أنها أم الاختراعات لأمور الحياة، والعلم ذو شجون يثيره البحث والتفتيش ويزيده المناظرة والتأليف ويدل بعضه على بعض ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وإنما لقب ابن حجر بالحافظ من أجل طول باعه وسعة اطلاعه في شتى العلوم والفنون أفيكون مثله مقلدًا لابن كثير في قول قيل قبله بدون علم ولا بصيرة من أمره؟! هذا بهتان عظيم ﴿يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثۡلِهِۦٓ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧ [النور: 17].

* * *

الفصل الرابع عشر

قال في النقض ص 25: قال أبو الوليد الأزرقي: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه، عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى وكان يقال لهذا الباب: باب السيل. قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه وربما نحته إلى وجه الكعبة حتى جاء سيل في خلافة عمر يقال له سيل أم نهشل فاحتمل المقام عن موضعه فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب فأقبل فزعًا، فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غفل موضعه وعفاه السيل فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم من هذا المقام. فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه فأخذت قدره من موضعه إلى الركن ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بمقاط وهو عندي في البيت. فقال له عمر: فاجلس عندي. فأرسل إليها فأتي بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا وسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم. فلما استثبت ذلك عنهم أمر به فأعلم ببناء رُبضه تحت المقام ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم ثم ساق هذه الحكاية بلفظها عن عمر بن فهد الهاشمي المكي في كتابه إتحاف الورى بأخبار أم القرى في حوادث سنة سبع عشرة. انتهى.

فالجواب أن نقول: إن صاحب النقض قد بالغ في نشر هذا الخبر وتشييده ونصره وتأييده حتى أشبع أسماع الناس من ترديده، وحتى ملأ صحائف كتابه من تمديده حيث إنه قد ذكره فيما يزيد على خمسين وجهًا من كتابه، وحتى ألحقه بالعلم اليقيني القطعي الذي لا مجال للشك فيه من أجل موافقته لهواه.
أهم بترك النقد ثم يردني
إلى القول إرجاف الجهول المفند
إن هذه الحكاية وإن حذلقها ناقلها فإن فيها ألفاظًا يبعد وقوعها من عمر أو نسبتها إليه، ولم يذكر هذه الحكاية بلفظها المؤرخون المعتبرون والمدققون في أخبار الحوادث كابن إسحاق وابن جرير وابن كثير وابن الأثير وابن سعد وغيرهم، من ذلك قوله: فكتب إلى عمر فأقبل فزعًا فدخل بعمرة في شهر رمضان... إلخ.

فإن هذا هو من تصرفات الأزرقي لقصد الإحماض والتحلية كما هي العادة الغالبة عليه في تحبيره وحسن تعبيره، وإن من البيان لسحرًا، وإلا فإن عمر هو أرجح عقلاً وأثبت جأشًا من أن ينزعج لهذا الخبر الذي يكفي أن يقول فيه: ردوا هذا الحجر إلى مكانه، فإنما دواء الشق أن يحاص. إنه لم يسمع بجيش عرمرم قد حاصر الكعبة يريد هدمها والقضاء على أهلها حتى ينزعج لخبره ويستعد بالسفر إلى مدافعته.

وأعجب من ذلك دعواه بأنهم حين وجدوه ربطوه بأستار الكعبة، ولعل هذا الربط وقع منهم خشية أن يفر على حين غفلة منهم، حيث شبه هذا الحجر بالدابة النفور عن أهلها ثم قوله في مناشدة عمر: أنشد الله رجلاً عنده علم بهذا المقام. حتى كأنه لا علم لعمر بحال هذا المقام ولا محله، ثم ذكر الخيوط وقياسات المطلب بها وهذا هو المحور الذي تدورعليه هذه الحكاية ليثبت بذلك أن النبي ﷺ هو الذي وضع المقام موضعه الآن وأن عمر رده إلى موضعه حين ذهب السيل به، على أنه ليس في الحكاية على فرض صحتها ما يثبت ذلك لا بصريح الخطاب ولا بمضمونه فإن عمر لم يقل في مناشدته: دلوني على مكان موضع رسول الله له. ولم يقل المطلب أيضًا: إن هذا هو مكانه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ فعدم ذكر رسول الله في القضية مع شدة المناسبة إليه يدل على عدم وقوع التحويل منه، وهل عمر سأل عن المكان الذي وضعه فيه أولاً ليرده فيه ثانيًا، فقد ثبت حمل السيل للمقام من قول سفيان بن عيينة وابن أبي مليكة ولا يزال السيل يدخل المسجد الحرام على الدوام حتى أصيبت الكعبة بالأضرار منه مرارًا عديدة حتى كان هو السبب في بناء قريش لها قبل البعثة، وفي بناء ابن الزبير لها، ولا يبعد أن يكون هذا التصرف الحاصل من عمر في المسجد الحرام بتوسعته وبناء الحيطان له وعمل الردم لسد السيل عنه أنه ناجم عن أثر ذلك السيل، أي سيل أم نهشل أو غيره.

ونحن لا ننازع في ذهاب السيل به ورد عمر له إلى محله بعد ذهاب السيل به، وهذا من الأمر الجدير بألّا يشتهر أمره، ولا ينتشر ذكره، لكون السيل على الدوام لا يزال ينقل المقام من مكان إلى مكان كما ذكر في الحكاية نفسها، لكونه موضوعًا في السابق على سطح الأرض بدون تأسيس ولا تثبيت، فلأجله لم يذكره المؤرخون المعتبرون، أما تحويل عمر له من لصق الكعبة ابتداء من غير سبق وبدون سبب سوى توسعة المطاف للناس، فهو الذي ذكره علماء السلف والمؤرخون وسائر المفسرين للقرآن، ولا يبعد أن يكون ذلك سنة عشر حينما وسع عمر المسجد الحرام.

وقد طرق المؤرخون أخبار سنة سبع عشرة كالواقدي وابن سعد وابن جرير وابن الأثير وابن كثير وفيها أن عمر بن الخطاب اعتمر في رجب سنة سبع عشرة ووسع المسجد الحرام وأقام بمكة عشرين يومًا من أجل الإصلاح والتعديل وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا بيوتهم ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها، وأمر بتجديد أنصاب الحرم، أمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعد بن يربوع. ذكره ابن الأثير، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد قال: استعمل عمر على الحج بالناس أول سنة استخلف وهي سنة ثلاث عشرة عبد الرحمن بن عوف فحج بالناس تلك السنة ثم لم يزل عمر بن الخطاب يحج بالناس كل سني خلافته كلها فحج بهم عشر سنين وحج بأزواج النبي ﷺ في آخر حجة حجها وهي سنة ثلاث وعشرين، واعتمر في خلافته ثلاث مرات عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين وهو أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت. انتهى.

فهؤلاء المؤرخون لم يذكروا سيل أم نهشل، ولا فزع عمر ولا مناشدته الناس، ولا اعتماره من أجل هذا الخبر في رمضان، وقد انفرد الأزرقي برواية هذه الحكاية على نحو هذه الصفة، والأزرقي كما ذكر صاحب رسالة المقام بأنه لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل، فهو على قاعدة أئمة الحديث مجهول الحال، وقد انفرد بهذه الحكاية قال: ويريبني من الأزرقي حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها، ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين، ويريبني أيضًا تحمسه لهذا القول، فقد روى في المجلد الثاني عن ابن أبي عمر بسند واه إلى أبي سعيد الخدري أنه سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام وفيه في ذكر النبي ﷺ فصلى إلى الميزاب ثم قدم مكة فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة.

وقد روى الفاكهي هذا الخبر وفيها أن النبي ﷺ قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ فأسقط الأزرقي قوله: وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ. وجعل موضعها: ما كان بمكة. انتهى.

الفصل الخامس عشر

قال في النقض ص 101: إنه لو كان المقام زمن النبي ﷺ تحت البيت ونزلت الآية وهو هناك وصلى خلفه في حجة الوداع وتوفي وهو تحت البيت لما ساغ لأحد بعده نقله عن موضعه الذي أقره فيه؛ لأن إقراره له تشريع وتوقيف لا اجتهاد لأحد فيه بعده كائنًا من كان.

فالجواب: إن الكلام يتفرع في هذا المقام عن أمرين:

أحدهما: هل يجب علينا ترك ما تركه رسول الله ﷺ؟

الأمر الثاني: هل يجب علينا فعل ما فعله رسول الله ﷺ.

أما الأول: فقد نص أهل الأصول على أنه لا يجب علينا ترك ما تركه رسول الله ﷺ خاصة فيما يتعلق بأمور الحياة، أما ما شأنه التعبدات وما يقصد به صاحبه القربى والمثوبة، فهذه هي التي يجب علينا تركها لترك رسول الله لها، ولعدم سبق مشروعيتها وتسمى بالبدعة، لكونه ابتدع فعلها على غير مثال سبق من الشارع في مشروعيتها؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، وعليه يدل حديث عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ»[171]، ولهذا قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.

أما ما يتعلق بمصالح الناس في أمور الحياة كبناء المساجد والقناطر والمدارس والمستشفيات وسائر ما يقصد منه الإصلاح الدائم والنفع العام ومنه توسيع المسجد الحرام وتوسيع المسجد النبوي، وكذا توسيع المطاف وتحويل المقام من أجله لقصد راحة الأنام ووقايتهم عن السقوط تحت الأقدام من شدة الزحام، وليتمكن الناس من أداء هذا الركن بتمام وخشوع وخضوع واطمئنان، فهذا وأمثاله مما يجوز لنا فعله وليس لنا أن نتركه لترك رسول الله له، فقد يترك رسول الله الشيء وهو يحب أن يفعله لسبب يقتضي تركه له، كما ترك تبشير الناس بأن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة خشية أن يتكلوا، وكما ترك الخروج لصلاة التراويح في الجماعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا، وكما ترك التصرف في الكعبة على حسب ما يحب من أجل أن قريشًا حديثة عهد بكفر.

وقد ترجم البخاري عليه فقال: باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا فيما هو أشد منه، وقد ترك رسول الله ﷺ المسجد الحرام وهو شبه الصحراء ليس له جدران تحيط به ولا أبواب ولا سقوف، وهو أضيق منه الآن بكثير، وبقي على حالته كذلك زمن أبي بكر، فلما استخلف عمر واتسعت فتوح البلدان اقتضى رأيه توسيع المسجد الحرام، فهو أول من وسع فيه وجعل له جدرانًا تحيط به، وكذلك المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده فجرى التصرف من عمر بتوسعته كما في البخاري من حديث نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله ﷺ مبنيًّا باللبن، وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة. ولم ينكر هذه التصرفات أحد من الصحابة لعلمهم الواسع وفقههم الراسخ أنها من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه، فالقائل بتحريم نقل المقام عن محله ووجوب استدامة بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ، حتى ولو أضر بالناس يلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد الحرام بتوسعته وتحريم التصرف في المسجد النبوي بتوسعته؛ لأن هذا كله من لوازم قوله، وهذا يعد من التعنت والتزمت الذي يبرأ الدين من القول به والحكم بموجبه، ومثله القرآن الكريم، فقد توفي رسول الله وهو متفرق في اللخاف والعظام وصدور الرجال فتصدى الصحابة بعد قتل القراء باليمامة لجمعه في مصحف واحد حتى حصل من عارض هذا الرأي وقال: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقالوا: نعم، إنه لم يفعله ولم يأمر به، ولكنه لا يخالف شرعه، فهو حسن نافع. فاتفق رأيهم على ذلك وزال من بينهم الخلاف.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ يعرضون رأيهم على رأي رسول الله ﷺ في الشيء الذي يعلمون أنه لم يقله عن وحي من ربه، كما عرض الحباب بن المنذر رأيه على النبي ﷺ في المنزل يوم بدر، وذلك أن النبي ﷺ لما خرج يوم بدر نزل على أدنى ماء من مياه بدر مما يلي المدينة فجاء الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته أمنزل أنزلكه الله ليس لنا فيه رأي ولا أمر أم هو الحرب والخدعة؟ فقال: «بل الحرب والخدعة». فقال: يا رسول الله، سر بالناس حتى نأتي أقصى ماء من مياه بدر فننزل عليه ونغور ما سواه، فيكون عندنا الماء وعندهم الظمأ. ففعل رسول الله وحمد عاقبة رأيه[172].

وكان رسول الله ﷺ يستشير أصحابه فيما يتعلق بأمور الحياة كالحرب والسلم والإصلاح والتعديل كما استشارهم في أسرى بدر أيقتلهم أم يضع عليهم الفداء؟ وكما استشارهم في وقعة أحد أيخرج إليهم أم يقاتلهم في المدينة؟ وكان رأيه أن يقاتلهم في المدينة، فلما كثرت عليه الأصوات من المتحمسين للخروج ممن لم يشهد بدرًا ترك رأيه لرأيهم فدخل ولبس لأمته ثم خرج وعلى وجهه أثر الكراهية للخروج، ومن ذلك رفع عمر حد القطع في السرقة زمن المجاعة وهو حد من حدود الله ثابت بالكتاب والسنة، وتوفي رسول الله ﷺ وهو على حالته، ومن ذلك منعه لبيع أمهات الأولاد وكن يبعن على عهد رسول الله ﷺ كما في حديث جابر قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي ﷺ حي لا يرى بذلك بأسًا، وكان سبب منعه لبيعهن على ما رواه ابن المنذر عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة فقال: يا بريدة انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فهل كان فيما جاء به محمد القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية، ثم قرأ: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ [محمد: 22] ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم؟! وقد أوسع الله لكم. قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق أنها لا تباع أم حر، وذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

وكان لعمر من السياسات الحكيمة والتصرفات الواسعة ما هي مناسبة لسيرته المرضية، فدعوى صاحب النقض أنه لا اجتهاد لأحد في نقل المقام عن حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ لا لعمر ولا غيره لزعمه بأن استدامة بقائه في محله تشريع وتوقيف، فكل هذا يعد من التشديد البعيد عن مقاصد الدين، فقد ألحق بالشرع ما ليس منه ولا هو في معنى المنصوص عليه، فاعتقاد ما ليس بشرع أنه شرع يعد من تغيير الكلم عن مواضعه ومن تبديل الشريعة بغيرها، كما لو اعتقد ما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل على حسب اعتقاده.

فإن كان محقًّا فيما يدعي من أن استدامة بقائه في محله الآن هو من الشرع اللازم والحكم التوقيفي الدائم الذي لا يجوز تغييره ولا تحويله فليأتنا بآية أو حديث تثبت صحة ذلك، وكأنه بهذا الكلام قد جعله بمثابة الكعبة البيت الحرام الذي بوأ الله مكانه لخليله إبراهيم عليه السلام وقال تعالى: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡ‍ٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ٢٦ [الحج: 26] فهذا هو الشرع اللازم الذي لا يجوز تحويله إلى غيره، أما المقام فليأتنا بآية أو حديث تثبت أن الله بوأ للمقام هذا المكان بحيث لا يجوز تحويله عنه وإلا فليعلم أنه كاذب، وأنه قد ألحق بالشرع ما ليس منه لقصد تشويش الأفهام وإغراء سذج العوام، فهو يسمي هذا الإصلاح باسم العبث بدون أن يثنيه وجل ولا يلويه خجل، وهذا نص لفظه نزاهة لعرضنا وإزاحة لعذره، قال في النقض ص23: التوصل إلى العبث بمشعر من المشاعر المقدسة ومنسك من مناسك الحج ليحوله عن موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ وهو موضعه في عهد إبراهيم الخليل يعتبر حدثًا في الدين وتغييرًا لشعائره. انتهى.

فهذه الكلمة تشبه في الحقيقة والمعنى كلمة الخوارج حينما رفعوا المصاحف على أطراف الرماح وقالوا: لا حكم إلا لله. ولم تزل بهم شدتهم في طريق الآخرة والعمل لها بزعمهم حتى أفضت بهم شدتهم إلى أن خرجوا على أمة محمد بأسيافهم يستحلون دماءهم وأموالهم، وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده والمقابلة بضده، بخلاف قول الحق فإن ليله كنهاره ولا يقاومه إلا هالك:
بليت يا قوم والبلوى منوعة
بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة مع جلب لـمصلحة
عياذًا بالله من إلحاد في الدين
وقد اتفق أهل السنة على أن الله بعث محمدًا بصلاح العباد في المعاش والمعاد، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، فمتى كان العمل للإصلاح وادعى فيه مدع بالفساد رجحوا الراجح منهما وألحقوه به؛ لأن الله بعثه بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فشرعه شامل صالح لكل زمان ومكان ليس بحرج ولا أغلال دون الكمال. فدعواه بأن حجر المقام منسك من مناسك الحج، وأن رسول الله ﷺ وضعه موضعه الآن، وأن هذا هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وأن الإفتاء بتحويله عن محله يعتبر حدثًا في الدين وتغييرًا لشعائره، فكل هذا يعد من الكذب على الله وعلى نبيه وعلى خليله إبراهيم وعلى دينه وعباده المؤمنين، فإن كل ما يدعي فيه الصحة لا صحة له أصلاً، بل إن عمر هو الذي وضعه موضعه الآن وذلك بموافقة الصحابة له عليه للمصلحة الراجحة، وإن موضعه كان في لزق الكعبة من عهد إبراهيم على ما قاله ابن عباس، وكل من تدبر كلام صاحب النقض وجده لا يخرج عن قسمين: إما كذب في النقل، وإما تكذيب بالحق، فهو لفرط جهله وهواه يقلب الحقائق في المعقول والمنقول فيأتي إلى الأمور التي هي حق وعدل وخير وصلاح فيصرفها عن حقيقتها ويقول هي شر وفساد وعبث وإلحاد، فيخالف الحق مخالفة غير خافية على أحد لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس برأيه، ولن يخر فريسة لتعاليمه سوى همجي رعريع قليل الفهم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة.

* * *

[171] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [172] أخرجه أبو داود في المراسيل بمعناه من حديث الحباب بن المنذر.

الفصل السادس عشر

وأما فعل رسول الله ﷺ للشيء فإنه لا يدل بظاهره على وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى، قاله في المسودة، فلا بد من الوقوف على معرفة فعله وعلى أي وجه وقع منه من واجب أو ندب أو إباحة، فإذا كانت القرائن الدالة على الوجوب كان واجبًا أو على الاستحباب كان مستحبًّا أو على الإباحة كان مباحًا، فصلاته في مكان لا تدل على استحباب الصلاة في ذلك المكان دون غيره بدون دليل يقتضي الاختصاص، ولما سمعت عائشة أناسًا يقولون: إن النزول بالأبطح بعد الفراغ من الحج سنة، قالت لهم: إن رسول الله ﷺ لم ينزل في الأبطح إلا أنه كان منزلاً أسمح لخروجه[173]، ولما رأى ابن عمر أناسًا يضطجعون بعد صلاة سنة الفجر ويزعمون أنها سنة أخذ يحصبهم بالحصباء ويقول: إن النبي ﷺ فعلها من أجل تعبه في قيام الليل لا لتكون سنة[174]. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قلت لابن عباس: زعم قومك أن رسول الله ﷺ طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، فقلت: ما صدقوا وكذبوا؟ فقال: صدقوا طاف بين الصفا والمروة على بعير وكذبوا ليست بسنَّة، كان الناس لا يدفعون عنه ولا يضربون عنه فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم. رواه مسلم.

ففرق ابن عباس بين ما يفعل للسنة وما يفعل للحاجة العارضة، ولهذا نهى أكثر السلف عن اتباع مواقع آثار الأنبياء لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض، أو لئلا يؤول بهم هذا التتبع إلى عبادة آثارهم، ومن أجل ذلك أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع النبي ﷺ تحتها حينما رأى الناس يذهبون فيصلون عندها فخشي عليهم الفتنة فقطعها، وروى الشاطبي في الاعتصام عن الطحاوي وابن وضاح عن المعرور بن سويد قال: وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى بنا صلاة الغداة فقرأ فيها: (الم تر كيف) و(لإيلاف قريش)، ثم رأى أناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قال: يأتون مسجدًا ههنا صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ فليصل وإلا فلا يتعمدها: وهذا كله فيما يقصد به القربة والتماس المثوبة من أفعال رسول الله ﷺ.

وأما ما لم يظهر فيه معنى القربة فإنه يستبان منه رفع الحرج عن الأمة، فالأفعال منه موقوفة على دلائلها فمتى قام دليل الوجوب صار واجبًا، أو الاستحباب صار مستحبًّا، أو الإباحة صار مباحًا.

فاللازم إنما هو الأمر والله سبحانه إنما توعد على خلاف الأمر فقال تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] وفي الحديث: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[175] فعلق التكليف على الأمر والنهي.

والحاصل أن ما كان من أفعاله تنفيذًا لأمر فهو الواجب، لكون اللازم هو الأمر لا الفعل، ومثله الاتباع المأمور به في قوله: ﴿وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ [الأعراف: 158] فإنه لا يراد به محاكاة الفعل للفعل في الحال والمحل، وإنما يراد به طاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع.

وهذا حاصل ما حققناه في رسالة يسر الإسلام في أحكام الحج إلى بيت الله الحرام حيث قلنا فيها بجواز الرمي قبل الزوال لكونه لم يثبت عن النبي ﷺ ما يدل على النهي عنه ولا على تحديد الوقت الذي يرمى فيه لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وإنما ثبت من فعل النبي ﷺ حيث رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس فهذا الفعل مع السكوت عنه لا يقتضي وجوب التحديد به، وغايته إنما يحمل على الأفضلية لا على الفرضية، فهو أفضل ما يرمى فيه عند تيسره، والحكمة في تأخير الرمي من النبي ﷺ إلى ما بعد الزوال أن حجه صادف حرًّا شديدًا حتى إن بلالاً يظلل عليه عند رمي الجمار فأراد أن يخرج للرمي ولصلاة الظهر، مخرجًا واحدًا كما ثبت في سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس، أن النبي ﷺ رمى الجمرة ثم انصرف إلى مسجد الخيف فصلى بالناس الظهر فدل على أن الشارع رمى في الوقت المناسب له في ذلك الزمان، وهو لا يقتضي بمجرده وجوب ابتداء التحديد بالزوال فضلاً عن انتهائه بالغروب.

وقد ثبت من فعل النبي ﷺ أنه رمى ثم نحر ثم حلق ثم ركب ناقته ضحى يوم النحر فطاف طواف الإفاضة الذي هو طواف الفرض وركن الحج الأعظم وسكت عن بيان وقته، ومع هذا قد جعله العلماء موسعًا يفعله متى شاء كما جعلوا النحر والحلق موسعًا أيضًا يفعله متى شاء في أية ساعة من أيام منى، فلا أدري ما الذي خصص الرمي بالتحديد من بين نظائره.

فالقائل بوجوب تحديد الرمي بالزوال استنادًا إلى فعل النبي ﷺ واستدلالاً بقوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[176] يلزمه أن يقول بوجوب تحديد طواف الإفاضة بيوم النحر كما وجد من قال به، على أن الإفاضة ركن الحج الذي يجب أن يحتاط له، أما رمي الجمار في اليومين الأخيرين فإنه واجب يفعل غالبًا بعد التحلل الثاني من عمل الحج، فناسب التسهيل في عدم التشديد في التحديد.

ويدل لذلك ما روى البخاري أن النبي ﷺ وقف يوم النحر على راحلته فجعلوا يسألونه فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج»، حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت. فقال: «افعل ولا حرج». رواه البخاري من حديث ابن عباس ومعلوم أن الليل يدخل في مسمى المساء.

فنفي النبي ﷺ الحرج عن كل ما يفعله الحاج من تقديم أو تأخير بدون استثناء شيء من ذلك، فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ في مقامه هذا ولحذرهم منه كما حذرهم عن الوقوف ببطن عرنة، وعن الصلاة في أوقات معينة وأماكن مبينة، إذ لا يجوز في الشرع تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ومع عدمه فلا يجوز لنا أن نسميه نهيًا بدون أن ينهى عنه رسول الله ﷺ وما كان ربك نسيًّا، فترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه قال في جواب سؤالهم: ارموا في أية ساعة شئتم ولا حرج.

ومما يدل على ذلك حديث عاصم بن عدي، أن النبي ﷺ رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد وبعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر، رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان.

ووجه الدلالة منه أنه أمرهم في أن يرموا جمارهم يوم النفر بدون تحديد ولا تقييد، ويوم النفر هو ظرف لما بين طلوع الشمس إلى الغروب، أو لما بين طلوع الفجر إلى الغروب ويدخل الليل تبعًا، لا يقال: إن هؤلاء رعاة وقد رخص لهم في ذلك لحاجة الناس لرعاية الإبل، والرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح.

فنقول: نعم، إنه رخص لهم في البيتوتة عن منى وفي جمع الجمار ليومين، لكنهم عند إيابهم من رعايتهم وحصولهم في منى يوم النفر قد زال عنهم العذر وصار حالهم حال الصحابة المقيمين في منى في كل ما يفعل في يوم النفر من رمي وغيره، فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي لغيرهم لصار وقت نهي في حقهم لمساواتهم لهم.

ولكنه ثبت عنه أنه أمرهم في أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار كما روى البزار بإسناد حسن، والحاكم والبيهقي، أن النبي أرخص للرعاة أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار، ولو كان الليل غير قابل للرمي كما لا يقبل الصوم لما أمرهم أن يرموا فيه.

وقد ألحق الفقهاء من الحنابلة بالرعاة والسقاة كل من له عذر من مرض أو خوف على نفسه أو أهله أو رفيقه بأن يستبيحوا سائر ما يستبيحه الرعاة والسقاة من جمع الجمار ورميها في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار.

قال في الكافي: ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى وترك رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو الثالث إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد، والرمي بالليل، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة، وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم.

وقال في الإنصاف: وليس على أهل سقاية الحاج والرعاة مبيت بمنى، ويجوز لهم الرمي ليلاً ونهارًا، وقيل: أهل الأعذار من غير الرعاة كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه ونحوه، حكمهم كحكم الرعاة، جزم به المصنف والشارح. وقال في الفصول: وكذا خوف ماله وموت مريض قال: وهذا والذي قبله هو الصواب. انتهى.

فهذه الأقوال المبيحة لأهل الأعذار في أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، كلها مبنية على القول بوجوب تحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب على حسب ضعفه وكونه لا أصل له، ولا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وأشق من عذر الرعاة والسقاة، بحيث إن كل إنسان صار يخاف على نفسه وأهله ورفيقه في ذلك المكان من سقوطه تحت الأقدام، وصاروا بعلة العذر داخلين فيمن يباح لهم أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، وقد نص الفقهاء على أنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة فرماها في اليوم الثالث أجزأ مع الكراهة؛ لأن أيام منى كالوقت الواحد والكراهة تزول بأدنى حاجة.

فإذا كان الأمر بهذه الصفة، وأن أيام منى كلها كالوقت الواحد فلا شك أن رمي كل يوم قبل الزوال أقرب إلى الإصابة والعدل من جمع الجمار ثم رميها كلها في اليوم الثالث، إذ ليس عندنا ما يدل على النهي عن الرمي قبل الزوال لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، والتحديد بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد.

والاحتجاج برمي النبي ﷺ بعد الزوال إنما يحمل على الأفضلية لا على الفرضية، فهو أفضل ما يرمى فيه عند تيسره وسهولته.

أما الحكم بإلزام الجمع الكثير بالرمي في خاصة هذا الوقت القصير فقد صار من تكليف ما لا يستطاع، والقول به قد أوقع الناس في الضرر، ووسع دائرة الخطر، حتى صاروا يتحدثون بوفيات الزحام في كل عام، وحتى صار الناس يرمون جمارهم بعيدة عن الأحواض لهول ما يشاهدونه من خطر الزحام.

ومن قواعد الشرع المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والحرج منفي عن الدين، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم، وجاهدوا حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، والحرج هو الشدة والمشقة فيما يدرك غرض الشارع منه بدون مشقة.

وما من شيء من شؤون العبادات يقع الناس فيه في الشدة والمشقة والحرج إلا وبجانبه باب مفتوح من التيسير والفرج، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.

والمقصود أن القول بوجوب الرمي فيما بين الزوال إلى الغروب هو من تحديدات الفقهاء، تلقاها بعضهم عن بعض حتى استقر وجوبها في أذهان أكثر العلماء والعوام، وحتى صار الناس يتحدثون بفساد حج من رمى قبل الزوال.

وهب أنهم وجدوا ابتداء وقت الرمي بالزوال استنادًا إلى فعل النبي ﷺ، فمن أين يجدون انتهائه بالغروب، وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن الفقهاء دائمًا يقيدون السنة بقيود توهن الانقياد. وأكثرهم بسجن اللفظ محبوسون خوف معرة السجان والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا في قالب ويرده في ثانٍ.

وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية الأئمة الأربعة فيما يقرب من خمس عشرة مسألة، واتفق العلماء قاطبة على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، واتفقوا أيضًا على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.

ومن المعلوم أن الفقهاء دائمًا يذكرون تحديدات وتقييدات يجزم العلم الصحيح بنفيها ويقوى في القياس فسادها كتحديد السفر المبيح للقصر بيومين وكتحديد الإقامة الموجبة للإتمام بما يزيد على أربعة أيام، وكتحديد صحة الجمعة بأربعين من أهل وجوبها ونحو ذلك، فتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب من هذا القبيل.
وليس كل خلاف جاء معتبرًا
إلا خلاف له حظ من النظر
والصحيح أن الرمي هو من جملة الذكر المطلق في أيام منى أشبه الحلق والنحر على السواء، قال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖ [البقرة: 203] وهذا الذكر المأمور به يشمل الذكر عند الرمي والذكر عند الحلق والذكر عند النحر، وقد روى الترمذي عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «إنما شرع الرمي لإقامة ذكر الله عز وجل»، ولهذا كان النبي ﷺ يطيل الدعاء عند الجمرتين، حتى قال ابن عمر: إنه وقف للدعاء بقدر سورة البقرة. والمانعون من الرمي قبل الزوال إنما يحتجون بقول النبي ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وأنه رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى. وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس، وهذا الاحتجاج بمجرده لا يبلغ ذروة المطلب ولا سنام المقصد، لكون الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب إلا إذا اقترن به دليل الأمر، ولو كان كل شيء فعله ﷺ في حجته يكون واجبًا على أمته لكانت التلبية من الأمر الواجب ولكان المبيت بمزدلفة والوقوف بها إلى الإسفار في حق الأصحاء الأقوياء من الأمر الواجب إذ هو فعل النبي ﷺ وأصحابه، ولكان ابتداء رمي جمرة العقبة بما بعد طلوع الشمس من يوم النحر في حق الأصحاء الأقوياء من الأمر الواجب لدلالة فعله وقوله على ذلك، ولكان تحديد طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد من الأمر الواجب؛ لأن هذه الأعمال كلها فعلها النبي ﷺ في حجته وسكت عن بيان فعلها، يوضحه أن رمي الجمار في اليومين الأخيرين يقع بعد التحلل الثاني من أعمال الحج، بحيث إن الإنسان إذا رمى وحلق وطاف طواف الإفاضة فقد حل من الحج. فلو مات لحكمنا بتمام حجه، فناسب عدم التشديد في التحديد لعدم ما يدل عليه، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليس بمعصوم ولم يكن من كلام الرسول، ففي عدم التحديد حكمة ظاهرة ومعجزة باهرة دق على أكثر الناس إحاطة العلم بمصالحها ومحاسنها وخفي عليهم سعة مداركها ومسالكها، فلو حدد الرمي على الناس بما بين الزوال إلى الغروب لوقعوا في الحرج والشدة والمشقة التي تنافيها شريعته السمحة؛ لأن الله سبحانه قد بعث نبيه بدين كامل وشرع شامل ليس بحرج ولا أغلال، صالح لكل زمان ومكان وأنهم متى استقاموا عليه ما سقموا منه أبدًا، أما قول النبي ﷺ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، فإنه من القول المجمل الذي يدخل تحته الواجب والمستحب، وقد أجمع العلماء من جميع المذاهب على أنه لا يجب العمل بكل ما فعله النبي ﷺ في حجته حتى يقوم دليل الوجوب على ذلك.

وأما الاحتجاج بإجماع الناس على رمي الجمار بعد الزوال فإنه بناءً منهم على محبة التأسي بفعل رسول الله ﷺ وكان الوقت في الزمان الماضي مناسبًا لهم فيختار أحدهم للرمي من الوقت أفضله، وجرى العمل مستمرًّا على هذه الحالة حيث لا شدة ولا مشقة، حتى ظن أكثر الناس أنه من الأمر الواجب الذي لا محيص عنه، وهو من جنس إجماعهم على النطق بنية الإحرام وليست بواجبة، وعلى التلبية وليست بواجبة، وعلى صلاة ركعتي الطواف وليست بواجبة، على أنه لم ينعقد الإجماع على ذلك، فذهب عطاء وطاووس إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال، وقال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال. وقال في الواضح: يجوز الرمي بعد طلوع الشمس. وقال في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: يجوز رمي الجمار من طلوع الشمس، ورخص الحنفية في الرمي يوم النفر قبل الزوال مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمي متعجل قبل الزوال.

فهؤلاء العلماء الأجلاء قد استباحوا الإفتاء بجواز الرمي في حال الرخاء والسعة، فما بالك لو وقفوا على حالة الناس وما جرى عليهم عند رمي جمارهم من الشدة والمشقة، حتى إن أحدهم ليرمي جماره بعيدة عن الأحواض من شدة ما يشاهده من هول الزحام، ولعل ما يستقبل من الزمان يكون أعظم جمعًا وأشد خطرًا، وقد نص الفقهاء على أن من شرط صحة الرمي العلم بحصول الحصى في المرمى، فالقول بسعة الوقت للرمي هو الذي يؤهل الناس للعمل بواجبه بسهولة وسعة ويعلم أحدهم أن رميه قد وقع موقعه في الصحة والاجزاء والامتثال.

وإنما تظهر حكمة الرمي عند القيام بما شرع لأجله وهو التكبير والذكر وإطالة الوقوف للدعاء بقبول عمله وسعيه؛ لأنه ختام أعمال الحج، ولا يتأتى ذلك إلا بالقول بسعة الوقت للرمي، ويقال لمن أنكر الرمي قبل الزوال استدلالاً بفعل النبي ﷺ واستنادًا إلى قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، أنتم تسلمون بجواز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل في حق كل أحد حتى الأصحاء الأقوياء تمشيًا مع ظاهر المذهب وهو خلاف فعل النبي ﷺ القائل: «خذوا عني مناسككم» وخلاف فعل أصحابه، لأن النبي ﷺ إنما أفاض من مزدلفة بعدما صلى الفجر وبعد ما أسفر جدًّا، وتسلمون أيضًا بصحة رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل في حق كل أحد حتى الأصحاء الأقوياء وهو خلاف فعل النبي ﷺ القائل: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، بل خلاف سنته القولية.

كل هذا قياسًا من الفقهاء على الرخصة الحاصلة للضعفة والأطفال، إن من يقول: إن من علل هذه المخالفات وسقوط هذه الواجبات الضرورة، وقياسًا على الضعفة يلزمه أن يقول بسقوط التوقيت للرمي في اليومين الأخيرين - لو صح سنده- لضرورة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام، الذي صار أكثر الناس يمتنعون عن المباشرة برمي جمارهم من أجله، وصاروا يوكلون من يرونه قويًّا جلدًا على المزاولة والمدافعة لعجز أكثر الناس عن الوصول إلى أحواض الجمار، وهذا من الحقائق التي يعبر عنها بالمشاهدة والحس، على أنه ليس بين أيدينا ما يدل على التحديد بما بين الزوال إلى الغروب، بل الصحيح الذي لا شك فيه أنه يجوز للحاج أن يرمي جماره في أية ساعة شاء من ليل أو نهار من أيام منى قياسًا على أهل الأعذار والضرورات، إذ العذر واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وإنما رجعت إلى بيانه خروجًا من عهدة كتمانه، ولداعي الحاجة والضرورة إلى العمل به والنصح بموجبه، والله عند لسان كل قائل وقلبه، والحلال ما أحله الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والحرام ما حرمه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوه على عافيته: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ [البقرة: 195] ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا [النساء: 29]

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

وفيما يلي النص الكامل لرسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

* * *

رسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هل يجوز تأخيره عن موضعه عند الحاجة لتوسيع المطاف تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني

أمين مكتبة الحرم المكي

تقريظ

1- فضيلة الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ

المفتي الأكبر بالديار النجدية ورئيس القضاة

2- فضيلة الشيخ / محمد حامد الفقي

المحرم سنة 1378 هجرية

[173] متفق عليه من حديث عائشة. [174] أخرجه عبد الرزاق في المصنف ضمن حديث عائشة. [175] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [176] أخرجه مسلم من حديث جابر.

[مقدمة الشيخ محمد حامد الفقي]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.

وصلى الله وبارك على صفوته من خلقه، وخيرته من عباده، خاتم رسله محمد، الذي أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا وهاديًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. أرسله على فترة من الرسل، وأنزل عليه نورًا وفرقانًا وكتابًا مبينًا، وأمره ببيانه ليهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم.

وبعد..

فإن من عظيم رحمة الله، وسابغ نعمته: أن هيأ للبلاد المقدسة من أسباب الأمن والرخاء، ما زاد في عمرانها زيادة لم تكن لتخطر على البال، إذ أخرج لها من بركات الأرض ما أغدق به الخير في السهول والجبال، فتطلعت إليها الأنظار، وشدت إليها من أطراف الأرض دانيها وقاصيها الرحال، وأهرع إليها طالبو الدنيا والآخرة، وتعلقت بها عظائم الآمال، فكان ذلك من أشد ما يدعو إلى تيسير أسباب الراحة لساكنيها، ولقاصدي أداء المناسك، وإقامة مشاعر الحج والعمرة عند البيت الحرام.

فتوجهت همة:

حضرة صاحب الجلالة الملك سعود

أدام الله توفيقه، وأطال في صالح الأعمال عمره وهمة رجال حكومته الإسلامية، وعلى رأسهم حضرة صاحب السمو الملكي الأمير الجليل فيصل بن عبد العزيز، ولي العهد المعظم، ورئيس مجلس الوزراء إلى توسعة الحرمين الشريفين توسعة تتناسب والعصر الحاضر في فخامة البنيان، وإشادة الأركان، وتوسعة كل ما حول المشاعر والمناسك. وتمت بحمد الله توسعة مسجد رسول الله ﷺ. وبدئ في توسعة المسجد الحرام. والله الموفق على إتمامها.

وقد اقتضت توسعة المطاف حول الكعبة، نقل مقام إبراهيم؛ وهو الحجر الذي كان يقوم عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع البناء، والذي جعله الله تعالى من الآيات البينات، على أن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، وأنها لا تزال باقية مكانها على قواعد إبراهيم، على مدى الدهور والأيام، وهي - بذلك- أحق وأولى بالحج لله عندها، وبالطواف بها[177] من بيت المقدس.

فكان من اللازم تأخير المقام عن موضعه، حتى لا يؤذي الطائفين، ولا يعوقهم عن سيرهم في طوافهم.

فظن بعض الناس أن في ذلك مخالفة، وتغييرًا للمشاعر.

فكتب أخونا المحقق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني هذه الرسالة القيمة، لبيان أن الحق والهدى هو في نقل المقام وتأخيره عن موضعه، اقتداءًا بفعل عمر بن الخطاب الذي أقره عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.

وقد اطلع فضيلة الشيخ الجليل، علامة عصره، مفتي المملكة العربية السعودية، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ على هذه الرسالة، وأشرف عليها، وقرظها، ووصفها بأنها رسالة قيمة.

فتفضل جلالة الملك سعود المعظم - أطال الله عمره - بالأمر بطبعها وتوزيعها ابتغاء مرضاة الله، لحسم الخلاف ولوضع الحق موضعه، ولتعميم النفع بها.

فالله سبحانه المسؤول أن يجزي جلالة الملك سعود المعظم، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير فيصل، خير الجزاء، ويثيبهم أفضل المثوبة، ويديم توفيقهم لكل ما فيه خير العرب وعز المسلمين، وجمع كلمتهم، وتوحيد قوتهم، ونصرهم على جميع أعدائهم.

وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله محمد فخر العرب، وعلى آله أجمعين.

القاهرة في العشرين من شهر المحرم

سنة 1378هـ وكتبه فقير عفو الله ورحمته

محمد حامد الفقي الموافق للسادس من شهر أغسطس

سنة 1958م

* * *

[177] إذ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ [آل‌عمران: 96-97] يرد الله تعالى على اليهود الذين زعموا - باطلاً- أن بيت المقدس أولى بالحج من الكعبة. فيقول الله لهم: إن الكعبة أولى وأحق؛ لأنها قائمة في مكانها على قواعد إبراهيم التي خطط موضعها له جبريل؛ بدليل وجود هذا الحجر المنفصل عن البناء، لم يذهب بعيدًا، ولا يزال قائمًا بجوار الكعبة، فأولى ثم أولى، ذلك البناء القائم للكعبة. بخلاف بيت المقدس؛ فإنه قد هدم وخرب ما حوله مرارًا، وخربت أورشليم، ببغي اليهود وكفرهم وإفسادهم في الأرض، إذ سلط الله عليهم قومًا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار مرارًا باعتراف اليهود. وبما ذكر الله في سورة بني إسرائيل، وفي كل مرة كان يعاد بناؤه على غير قواعد إبراهيم. وهذا المقام - أي الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه حين البناء غير المقام الذي قال الله فيه: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗىۖ [البقرة: 125] فهذا هو المكان الذي كان يقوم فيه إبراهيم للصلاة مواجهًا لباب الكعبة إلى اليمين، بعد أن يفرغ من طوافه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

تقريظ حضرة صاحب الفضيلة والسماحة فقيه العصر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأكبر بالديار النجدية، ورئيس القضاة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد، فقد قُرئت عليّ هذه الرسالة التي ألفها الأستاذ عبد الرحمن المعلمي اليماني، بشأن مقام إبراهيم وتنحيته عن مكانه الحالي، فيما إذا أُريد توسيع المطاف. فوجدتها رسالة بديعة.

وقد أتى فيها بعين الصواب في هذه المسألة.

وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه، وجعل عمل الجميع خالصًا لوجهه الكريم.

أملاه الفقير إلى عفو الله: محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.

* * *

[المقدمة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأتقن كل شيء خلقًا وأمرًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فهذه رسالة في شأن مقام إبراهيم وما الذي ينبغي أن يعمل به، عند توسعة المطاف، حاولت فيها تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق، معتمدًا على ما أرجوه من توفيق الله - تبارك اسمه - لي، وإن قلّ علمي وكَلَّ فهمي.

فما كان فيها من صواب فمن فضل الله علي وعلى الناس وما كان فيها من خطأ فمني. وأسأل الله التوفيق والمغفرة.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ١٢٥ [البقرة: 125].

وقال سبحانه: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡ‍ٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ٢٦ [الحج: 26].

جاء عن جماعة من السلف تفسير التطهير في الآيتين بالتطهير من الشرك والأوثان.

وهذا من باب ذكر الأهم الذي يقتضيه السبب فإن إخلال المشركين بتطهير البيت كان بشركهم، ونصبهم الأوثان عنده.

ولا ريب أن التطهير من ذلك هو الأهم، لكن التطهير المأمور به أعم.

أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: من الأوثان والريب، وقول الزور والرجس. ذكره ابن كثير وغيره.

وقال البغوي: قال ابن جبير وعطاء: طهراه من الأوثان والريب وقول الزور.

وأخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال: من الآفات والريب.

أقام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت على الطهارة بأوفى معانيها. فالأمر بتطهيره أمر بالمحافظة على طهارته، وأن يمنع ويزال عنه كل ما يخالفها.

وقوله: ﴿لِلطَّآئِفِينَ يدل على أنه - مع أن التطهر مأمور به لحرمة البيت - مأمور به لأجل هذه الفرق -الطائفين والعاكفين والقائمين والركع والسجود- لتؤدى هذه العبادات على الوجه المطلوب.

وهذا يبين أن التطهير، المأمور به لا يخص الكعبة، بل يعم ما حواليها، حيث تؤدى هذه العبادات، وأن في معنى التطهير إزالة كل ما يمنع من أداء هذه العبادات، أو يعسِّرها، أو يخل بها، كأن يكون في موقع الطواف ما يعوق عنه، من حجارة أو شوك أو حفر.

فثبت الأمر بأن يُهيَّأ ما حول البيت تهيئة تمكن الطائفين والعاكفين والمصلين من أداء هذه العبادات بدون خلل ولا حرج.

لم يحدد الشارع ما أمر بتهيئته حول البيت بمقدار مسمى، لكن لما أمر بالتهيئة لهذه الفِرَق على الإطلاق علم أن المأمور به تهيئة ما يكفيها ويتسع لهذه العبادات مع اليسر.

فلما كان المسلمون قليلاً في عهد النبي ﷺ كان يكفيهم المسجد القديم.

نعم، كثر الحجاج في حجة الوداع، لكن لم يكن منتظرًا أن يكثروا تلك الكثرة، أو ما يقرب منها في السنوات التي تليها. وكانت بيوت قريش ملاصقة للمسجد، لا يمكن توسعته إلا بهدمها، وهدمها ينفرهم وعهدهم بالشرك قريب.

فلما كثروا في زمن عمر رضي الله عنه، وزال المانع، هدم الدور، وزاد في المسجد، وهكذا زاد من بعده من الخلفاء بحسب كثرة المسلمين في أزمنتهم.

وادَّخر الله تعالى الزيادة العظمى لصاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز ابن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أيده الله، وأوزعه شكر نعمته، وزاده من فضله.

قدم الله تعالى في الآيتين الطائفين على العاكفين والمصلين، والتقديم في الذكر يشعر بالتقديم في الحكم «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِه»[178] وبدأ في الوضوء بالوجه.

فيؤخذ من هذا أن التهيئة للطائفين أهم من التهيئة للعاكفين والمصلين.

فعلى هذا يقدم الطائفون عند التعارض، ولا يكون تعارض عند إقامة الصلاة المفروضة جماعة مع الإمام؛ لأن عليهم جميعًا الدخول فيها، وإنما يمكن التعارض بين الطائفين وبين العاكفين والمصلين تطوعًا.

وإذ كان المسجد - بحمد الله - واسعًا وسيزداد سعة، فإنما يقع التعارض في المطاف، كما إذا كثر الطائفون، وكان في المطاف عاكفون ومصلون تطوعًا، وضاق المطاف عن أن يسعهم جميعًا بدون حرج ولا خلل.

فإن قدم بقرب البيت العاكفون والمصلون، وقيل للطائفين: طوفوا من ورائهم، كان هذا تأخيرًا لمن قدمه الله، ولزم فيه الحرج على الطائفين، لطول المسافة عليهم، مع أن الطواف يكون فرضًا في الحج والعمرة، وإذا خرج العاكفون والمصلون عن المطاف، وأدوا عبادتهم في موضع آخر من المسجد، زال الحرج والخلل البتة.

منذ بعث الله تعالى نبينا محمدًا ﷺ، لم يزل عدد المسلمين يزداد عامًا فعامًا، وبذلك يزداد الحجاج والعمار. ومع ذلك فقد توفرت في هذا العصر أسباب زاد لأجلها عدد الحجاج والعمار زيادة عظيمة.

منها: حدوث وسائط النقل الأمينة السريعة المريحة.

ومنها: الأمن والرخاء اللذان لا عهد لهذه البلاد بهما ولذلك زاد عدد السكان والمقيمين زيادة لا عهد بها.

ومنها: الأعمال العظيمة التي قامت وتقوم بها الحكومة السعودية لمصلحة الحجاج، بما فيها تعبيد الطرق، وتوفير وسائط النقل، والعمارات المريحة، كمدينة الحجاج بجدة، والمظلات بمنى ومزدلفة وعرفة، وتوفير المياه، وكل ما يحتاج إليه الحجاج في كل مكان، وإقامة المستشفيات العديدة، والمحجر الصحي، الذي قضت به الحكومة السعودية على ما كانت بعض الدول تتعلل به لمنع رعاياها عن الحج أو تصعيبه عليهم، والعمارة العظمى للمسجد النبوي، والتوسعة الكبرى الجارية الآن للمسجد الحرام وغير ذلك مما زاد في رغبة المسلمين من جميع البلاد في الحج.

فزاد عدد الحجاج في السنين الماضية، وينتظر استمرار الزيادة عامًا فعامًا، لذلك أصبح المسجد - على سعته - يضيق بالمصلين في كثير من أيام الجمع في غير موسم الحج، فما الظن به فيه؟.

فوفق الله تعالى جلالة الملك سعود بن عبد العزيز -أطال الله عمره في صالح الأعمال- لتوسعته، والعمل فيه جار.

وأشد ما يقع الزحام في الموسم في المطاف، وتنشأ عن ذلك مضار تلحق الأقوياء فضلاً عن الضعفاء والنساء، ويقع الخلل في هذه العبادة الشريفة، وهي الطواف، لزوال ما يطلب فيه من الخشوع والخضوع والتذلل، وصدق التوجه إلى الله عز وجل، إذ يهتم كل من وقع في الزحام بنفسه.

وقد يكون مع الرجل القوي -أو الرجلين- ضعيف أو امرأة، أو أكثر فيحاول القوي أن يدفع الزحام عن نفسه وعمن معه، فيدفع من بجنبه وأمامه ليشق له ولمن معه طريقًا على أي حال، فيؤذي بعضهم بعضًا، وربما وقع النزاع والخصام والضرب والشتم، ويقع زحام الرجال للنساء. وقد قال ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»[179].

وقد رأينا من الناس من يسيء بغيره الظن، وربما أدى ذلك إلى الإيذاء بالدفع والشتم، وربما بالضرب.

ومن المعلوم أن صحة الطواف لا تتوقف على أدائه في المطاف، وإنما شرطه أن يكون في المسجد، لكن جرى العمل على أن يكون في المطاف، ولو مع الزحام، لأسباب:

منها: أن خارج المطاف غير مهيأ للطواف فيه بغير حرج.

ومنها: أن غير الطائفين يقفون ويجلسون ويسلكون وراء المطاف وعند زمزم فيشق على الطائفين تخلل تلك الجموع.

ومنها: أن من أهل العلم من يشترط لصحة الطواف في المسجد ألّا يحول بين الطائف والكعبة بناء ونحوه. وممن ذكر ذلك صاحب الفروع (ج2 ص390).

وإزالة هذه العوائق إنما تتم بتوسعة المطاف.

فلم يكن بد من توسعة المطاف، والعمل بذلك جار ولله الحمد.

إن أضيق موضع في المطاف هو ما بين المقام والبيت ويزداد ضيقه بالناس شدة، لقربه من الحجر الأسود والملتزم، حيث يقف جماعة كثيرة للاستلام والالتزام والدعاء.

وإذا كانت توسعة المطاف مشروعة، فتوسعة ذلك الموضع مشروعة، وما لا يتم المشروع إلا به - ولا مانع منه- فهو مشروع.

يرى بعض أهل العلم أن هذا منطبق على تأخير المقام، وأن التوسعة المطلوبة لا تتم إلا به.

فأما ما يقوله بعضهم من إمكان طريقة أخرى لتوسعة المطاف في تلك الجهة أيضًا مع بقاء المقام في موضعه وذلك بأن يحدد موضع يكفي المصلين خلفه، ويوسع المطاف من وراء ذلك توسعة يكون مجموع عرضها وعرض ما بين «المقام» والبيت مساويًا لعرض المطاف بتوسعته في بقية الجهات فإذا كثر الطائفون سلك بعضهم أمام المقام كالعادة، وسلك بعضهم في التوسعة التي خلفه، وخلف موضع المصلين فيه.

فبهذه الطريقة خلل من أوجه.

الأول: أنها مخالفة لعمل من عمله حجة.

فإن موضع المقام في الأصل بلصق الكعبة، وسيأتي إثباته، فلما كثر الناس في عهد عمر رضي الله عنه، وصار بقاء المقام بجنب الكعبة - ويصلى من خلفه- مظنة تضييق المطاف على الطائفين أخره ليبقى ما أمامه للطائفين متسعًا لهم. ويخلو ما وراءه للمصلين. وأقره سائر الصحابة رضي الله عنهم. فكان إجماعًا. وهو حجة.

وقيل: إن النبي ﷺ هو الذي أخر المقام للعلة نفسها.

وأيًّا ما كان فهو حجة، وكان ممكنًا حينئذ أن يبقى المقام بجنب الكعبة، ويحجر لمن يصلي خلفه موضع يطوف الطائفون من ورائه، ويوسع لهم المطاف من خلف.

وهذا نظير الطريقة الأخرى التي يشير بها بعضهم الآن، وأبعد منها عن الخلل، وقد أعرض عنها من عمله حجة واختار تأخير المقام عن موضعه الأصلي.

وإذا كانت الحال الآن كالحال حينئذ، فالذي ينبغي هو الاقتداء بالحجة، وتأخير المقام.

وإذا ساغ لهذه العلة تأخيره عن موضعه الأصلي فلأن يسوغ لأجلها تأخيره عن موضعه الثاني أولى.

الثاني: أن تلك الطريقة لا تفي بالمقصود؛ لأن حاصلها أن يكون للمطاف في ذلك الموضع فرع يُسلك وراء المقام وموضع المصلين فيه.

وهذا مظنة أن يحرص أكثر الطائفين على أن يسلكوا أمام المقام كالعادة، واختصارًا للمسافة. ويحرص على ذلك المطوفون، وخلف المطوف جماعة لا يجدون بدًّا من متابعته، فيبقي الزحام قريبًا مما كان.

الثالث: أنه إن أحيط موضع المصلين خلف المقام بحاجز شق الدخول إليه والخروج منه. وإن لم يحجز كان مظنة أن يسلكه بعض الطائفين اختصارًا للمسافة فيقع الخلل في العبادتين.

وإنما كان يمنعهم من ذلك فيما مضى - مع بعد المسافة- توهمهم أن الطواف لا يصح إلا في المطاف.

وسيزول هذا الوهم عند توسعة المطاف من خلفه.

وبقيت أوجه أخرى، كتقديم حق المصلين على حق بعض الطائفين وتطويل المسافة عليهم، واحتمال أن يضيق الموضع الذي يخصص للمصلين خلف المقام؛ لأنهم يكثرون في بعض الأوقات، ويحرص كثير منهم على المكث هناك للدعاء وغير ذلك.

وبالجملة فلا ريب أنه إذا تحققت العلة، ولم يكن هناك مانع من تأخير المقام فتأخيره هو الطريقة المثلى.

* * *

هل هناك مانع...؟

يبدي بعض الفضلاء معارضات، يرى أنها تشتمل على موانع، وسأذكرها مع ما لها وما عليها، وأسأل الله التوفيق.

يقول بعض الناس: ذكر جماعة من المفسرين ما يدل على أن المقام ليس هو الحَجَر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن. وتأخير البقعة غير ممكن، فإذا نقل الحجر عنها، فإما أن يفوت العمل بالآية، وإما أن يبقى الحكم للبقعة؛ لأنها موضع الصلاة.

وأقول: إن النظر في هذا يقتضي بسط ما يتعلق بالمقام، وسأشرح ذلك في فصول.

* * *

[178] أخرجه الإمام مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم من حديث جابر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [179] متفق عليه من حديث صفية بنت حيي.

الفصل الأول: ما هو المقام؟

عامة ما ورد فيه ذكر المقام من الأحاديث والآثار وكلام السلف والأئمة - ويأتي كثير منها- يبين أن مقام إبراهيم الذي في المسجد هو الحجر المعروف، غير أن بعض من روي عنه هذا رُوي عنه تفسير المقام في الآية بأنه الحج كله، أو المشاعر.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يبين عدم الخلاف وأن من قال الحج كله أو المشاعر إنما أراد أن الآية، كما تنص على شرع الصلاة إلى هذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم لعبادة ربه عز وجل - كما يأتي- فهي تدل على شرع العبادة في كل موضع قام فيه إبراهيم للعبادة، على ما بينه الشرع، وذلك هو الحج والمشاعر. ولهذا جاء عنهم في تفسير كلمة ﴿مُصَلّٗىۖ قولان:

الأول: قبلة يصلون خلفه، أو يصلون عنده.

الثاني: مدعى.

فالأول بالنسبة إلى الحجر، والثاني -كما أفاده ابن جرير- بالنسبة إلى المشاعر؛ لأن الدعاء مشروع عندها كلها، بل يجمع العبادات المختلفة المشروعة فيها، إذ المطلوب بتلك العبادات هو ما يطلب بالدعاء من رضوان الله ومغفرته، وخير الدنيا والآخرة، فالدعاءُ عبادة، والعبادة دعاء.

فأما ما ذكر في المعارضة من بعض المفسرين، فأولهم - على ما أعلم- الزمخشري، وتبعه بعض من بعده.

والزمخشري - على حسن معرفته بالعربية- قليل الحظ من السنة. ورأى أنه لا يكون الحجر مصلى على الحقيقة، إلا إذا كانت الصلاة عليه وذلك غير مشروع، ولا ممكن. لأنه يصغر عن ذلك.

ولو وُفق الزمخشري للصواب لجعل هذا قرينة على أن المراد بكلمة ﴿مُصَلّٗىۖ قبلة، كما قاله السلف، أي: يصلى إليه، كما بينه النبي ﷺ وعمل به أصحابه فمن بعدهم.

ومن العلاقات المعتبرة في المجاز: المجاورة، وهي ثابتة هنا، فإن الصلاة إذا وقعت إلى الحجر فهي بجواره.

ووجه آخر: وهو أن تكون كلمة مُصَلّٗىۖ اسم مفعول والأصل: مصلى إليه، حذف حرف الجر فاتصل الضمير واستتر كما يقول ابن جني في مزمل من قول امرئ القيس:
كأن أبانًا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
أن الأصل مزمل به فحذف حرف الجر فاتصل الضمير واستتر. والنكتة على الوجهين هي: - والله أعلم- التنبيه على أن المزية للحجر لقيام إبراهيم عليه للعبادة. والمشروع لهذه الأمة التأسي به.

والقيام على الحجر لمثل عبادة إبراهيم لا يمكن إلا نادرًا، فعوض عنه بما يمكن دائمًا، وهو القيام للصلاة، وهو يصغر عن الصلاة عليه، ودفنه - ليتسع مع بعض ما حوله للصلاة- يؤدي إلى اندثاره.

ولماذا التكلف؟

وإنما المقصود: أن يكون للقيام في الصلاة تعلق به فشرعت الصلاة إليه.

وعبارة الزمخشري مقام ابراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه.

ويبطل هذا القول - مع ما تقدم- أن المذكور في الآية مقام واحد، لا مقامان، وأن وضع الرِّجل على الحجر بدون قيام حقيقي لا يكفي لأن يطلق عليه كلمة مقام على الحقيقة، وأن الذي كان من إبراهيم علي الحجر، فسمي لأجله مقام إبراهيم قيام حقيقي، لا وضْع رِجل فقط، وأن الموضع الذي قام فيه على الحجر ليس هو موضعه الآن. وأن المقام كان أولاً بلصق الكعبة، وكان الحكم معه، ثم حول إلى موضعه الآن فتحول الحكم معه.

وسيأتي إثبات هذا كله في فصول إن شاء الله تعالى.

* * *

الفصل الثاني: لماذا سمي الحجر مقام إبراهيم؟

أعلى ما جاء في هذا: ما أخرجه البخاري وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في خبر مجيء إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام وأمه إلى مكة وما جرى بعد ذلك - وفيه ذكر بناء البيت حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه وهو يبني.

وفي رواية أخرى: حتى إذا ارتفع وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على المقام.

وعند ابن جرير، بسند صحيح يلاقي سند البخاري الثاني: فلما ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة قام على حجر، فهو المقام.

وفي فتح الباري: أن الفاكهي أخرج نحو هذه القصة من حديث عثمان، وفيه: فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه، ويرفعه له إسماعيل، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه - يعني الحجر الأسود- موضعه، وأخذ المقام فقال: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم.

قال في الفتح: روى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم.

وفي أول الخبر عند البخاري عن كثير بن كثير، قال: إني وعثمان بن أبي سليمان جلوس مع سعيد بن جبير فقال: ما هكذا حدثني ابن عباس، ولكنه قال.

وفي فتح الباري ج6 - ص283 بيان ما نفاه سعيد بن جبير. ذكر ذلك عن روايتي الفاكهي والأزرقي وغيرهما.

وفيه: أنهم سألوا سعيد بن جبير عن أشياء، قال: قال رجل: أحق ما سمعنا في المقام - مقام إبراهيم- أن إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته ألّا ينزل بمكة حتى يرجع. فقربت إليه امرأة إسماعيل المقام. فوضع رجله عليه حتى لا ينزل؟ فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا.

والخبر - وفيه قريب من هذا- عند الأزرقي (ج2 - ص24) وفي آخره: فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر، فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت، يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم عليه السلام، وقيامه عليه.

وقصة مجيء إبراهيم ولقائه امرأة إسماعيل قد ذكرها ابن عباس، وليس فيها ما يحكي من وضع رجله على الحجر، وكان مجيئه ذلك قبل بناء البيت.

فهب أنه ثبت وضعه رجله على الحجر وهو على دابته فليس هذا بقيام على الحجر، ولا هو في عبادة، فلا يناسب مزية للحجر، وإنما القيام الحقيقي على الحجر الذي يناسب مزية له هو ما وقع بعد ذلك من قيامه عليه لبناء الكعبة ثم للأذان بالحج.

فهذا هو الثابت في وجه تسمية الحجر مقام إبراهيم.

* * *

الفصل الثالث: أين وضع إبراهيم المقام أخيرًا؟

تقدم في الفصل السابق من حديث عثمان رضي الله عنه: فجعله لاصقًا بالبيت.

وقد ظهر أن منشأ مزيته - وهي أثر قدمي إبراهيم- هو قيامه عليه لبناء البيت.

فالظاهر أن يكون إبراهيم أبقاه إلى جانب البيت في ذلك الموضع الظاهر - وهو عن يمنة الباب- لتشاهد الآية ويُعرف تعلقه بالبيت.

وجاء عن بعض الصحابة - وهو نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه- أنه رآه في عهد عبد المطلب ملصقًا بالبيت وسنده ضعيف.

ويأتي أنه كان في عهد النبي ﷺ ملصقًا بالبيت.

ويأتي بيان أن ذلك في الموضع المسامت له الآن.

وإقرار النبي ﷺ له هناك، يصلي هو وأصحابه خلفه بدون بيان أن له موضعًا آخر يدل على أن ذلك هو موضعه الأصلي.

ولم أجد ما يخالف هذا من السنة والآثار الثابتة عن الصحابة ولا ما هو صريح في خلافه من أقوال التابعين.

إلا أن المحب الطبري قال في القرى ص309: قال مالك في المدونة: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل، فكان ذلك في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر رضي الله عنه، فلما ولي عمر رضي الله عنه رده بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قيس بها حتى أخروه، وعمر هو الذي نصب معالم الحرم بعد أن بحث عن ذلك.

هذا آخر كلامه في المدونة فيما نقله صاحب التهذيب مختصر المدونة.

ولم أجد أصل ذلك الكلام في مظنته من المدونة المطبوعة.

ثم قال المحب: وقال الفقيه سند بن عنان المالكي في كتابه المترجم بالطراز - وهو شرح للمدونة - وروى أشهب عن مالك قال: سمعت من يقول من أهل العلم: إن إبراهيم عليه السلام أقام هذا المقام، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ، وأبي بكر رضي الله عنه وقبل ذلك، وإنما أُلصق إليه لمكان السيل مخافة أن يذهب به، فلما ولي عمر رضي الله عنه أخرج خيوطًا كانت في خزانة الكعبة، وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهلية، إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر، وأخره إلى موضعه إلى اليوم. قال مالك: والذي حمل عمر.

إن بين سند بن عنان وبين أشهب نحو ثلاثمائة سنة فإن صح عن مالك فهذا الذي أخبره بالحكاية لم يذكر مستنده، ولا أحسبه استند إلا إلى حكاية مجملة وقعت له عن تحويل عمر رضي الله عنه للمقام وما جرى بعد ذلك، فقال ما قال.

وسيأتي - إن شاء الله- تحقيق تلك القضية بما يتضح به أن ليس فيها دلالة على ما ذكر.

وعلى كل حال فهذه الحكاية المنقطعة لا تصلح لمقاومة ما تقدم من الأدلة. والله المستعان.

فالذي تعطيه الأدلة أن إبراهيم عليه السلام وضع المقام عند جدار الكعبة في الموضع المسامت له الآن.

* * *

الفصل الرابع: أين كان موضعه في عهد النبي ﷺ؟

في هذا ثلاثة أقوال:

الأول: أنه كان في موضعه الذي هو به الآن، والأدلة الصحيحة الواضحة ترد هذا القول، كما يأتي في القول الثالث.

ولكني أذكر ما جاء في هذا، مع النظر فيه ليعرف.

أخرج الأزرقي عن ابن أبي مليكة قال: موضع المقام، هذا الذي هو به اليوم، هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي ﷺ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر رضي الله عنه. فجُعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر. فرده بمحضر من الناس.

سند الأزرقي رجاله ثقات، وابن أبي مليكة من ثقات التابعين، لكن الأزرقي نفسه لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل، ولم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم، بل قال الفاسي في ترجمته من العقد الثمين: لم أر من ترجمه.

فهو - على قاعدة أئمة الحديث- مجهول الحال، وقد تفرد بهذه الحكاية والله أعلم.

وقال الأزرقي أيضًا: حدثني جدي حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن أبيه عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام... ربما دفعت المقام من موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقال له: سيل أم نهشل، فاحتمل المقام من موضعه فذهب به حتى وجد بأسفل مكة. فأتي به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر رضي الله عنه فزعًا. فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُمي موضعه وعفاه السيل. فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام. فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك. فقد كنت أخشى عليه هذا فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت، فقال له عمر: فاجلس عندي وأرسل إليها، فأتي بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا. فسأل الناس وشاورهم، فقالوا: نعم هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر رضي الله عنه، وحق عنده: أمر به، فأعلم ببناء ربضه تحت المقام، ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم.

جد الأزرقي، وداود، وابن جريج، وكثير بن كثير: ثقات، لكن له عدة علل:

الأولى: حال الأزرقي كما مر.

الثانية: أن ابن جريج - على إمامته- مشهور بالتدليس ولم يصرح هنا بالسماع من كثير بن كثير.

الثالثة: أنه قد صح عن ابن جريج قوله: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا.. فذكر ما سيأتي في القول الثالث، على وجه يشعر باعتماده له.

الرابعة: أن كثير بن المطلب مجهول الحال. ولا يخرجه عن ذلك ذكر ابن حبان له في الثقات على قاعدته التي لا يوافقه عليها الجمهور.

وقد روى ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا فذكر ابن عيينة أنه سأل كثير بن كثير عنه؟ فقال ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي.

وروى غير ابن عيينة عن ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا قريبًا من الأول، ولعله هو. راجع المسند ج6 - ص399 فإن كان حديثًا واحدًا فليس لكثير بن المطلب في الكتب الستة والمسند شيء.

نعم، أخرج ابن حبان في صحيحه الحديث الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن كثير بن كثير. وفيه ما يقتضي أنه حديث آخر، لكن الوليد شامي، ورواية أهل الشام عن زهير أنكرها الأئمة؛ لأن زهيرًا حدثهم من حفظه، فغلط وخلط.

الخامسة: أنه لما جرى ذكر المطلب في القصة ذكر بما ظاهره أن المخبر غيره فقال له المطلب بن أبي وداعة السهمي... فقال له عمر...

وهذا يريب في قوله في السند: عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن أبيه عن جده ويشعر بأن الحكاية منقطعة.

وقال الأزرقي: حدثني ابن أبي عمر، قال: حدثنا ابن عيينة، عن حبيب بن أبي الأشرس قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر رضي الله عنه الردم بأعلى مكة فاحتمل المقام من مكانه فلم يدر أين موضعه. فلما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين، قد كنت قدرته وذرعته بمقاط. وتخوفت عليه هذا؛ من الحجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه. فقال: ائت به. فجاء به ووضعه في موضعه هذا. وعمل عمر الردم عند ذلك.

قال سفيان: فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه: إن المقام كان عند سقع البيت. فأما موضعه الذي هو موضعه فوضعه الآن. وأما ما يقوله الناس: إنه كان هنالك موضعه، فلا.

قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن أبي الأشرس هذا لا أميز أحدهما عن صاحبه.

الأزرقي قد تقدم حاله.

لكن قال الفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص206: وروى الفاكهي عن عمرو ابن دينار وسفيان بن عيينة مثل ما حكاه عنهما الأزرقي بالمعنى.

أقول: ليته ساق خبر الفاكهي؛ فإن الفاكهي، وإن كان كالأزرقي في أنه لم يوثقه أحد من المتقدمين ولا ذكره، فقد أثنى عليه الفاسي في ترجمته من العقد الثمين ونزهه عن أن يكون مجروحًا. وفضل كتابه على كتاب الأزرقي تفضيلاً بالغًا، ومع هذا فالأخبار التي يتفقان في الجملة على روايتها نجد الفاسي، ومن قبله المحب الطبري يعنيان غالبًا بنقل رواية الأزرقي، ويسكتان عن رواية الفاكهي، أو يشيران إليها إشارة فقط.

وأحسب الحامل لهما على ذلك حسن سياق الأزرقي وقد قيل لشعبة رحمه الله: ما لك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سفيان، وقد كان حسن الحديث؟! قال: من حسنها فررت.

ويريبني من الأزرقي حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها، ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين.

ويريبني أيضًا منه تحمسه لهذا القول، فقد روي في ج2 - ص23 عن ابن أبي عمر بسند واه إلى أبي سعيد الخدري، أنه سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام. فقال: كانت الحجارة... وذكر الخبر وفيه في ذكر النبي ﷺ، فصلى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثم قدم مكة، فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة.

وقد روى الفاكهي هذا الخبر كما ذكره الفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص206 ولم يسق الفاسي سنده ولا متنه بتمامه، إنما ذكر قطعة منه هي بلفظها في رواية الأزرقي.

ثم قال: وفيه: إن النبي ﷺ قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام، وهو ملصق بالبيت، حتى توفي رسول الله ﷺ.

أسقط الأزرقي في روايته قوله: وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ، وجعل موضعها: ما كان بمكة.

وقال في ج2 - ص27: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن صفوان. قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابدي - وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع - بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. قال: فحوله. ثم صلى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال عبد الله بن السائب: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي، قال: فلما قضى صلاته قال عمر: أحسنت. فكنت أول من صلى خلف المقام حين حُول إلى موضعه. عبد الله بن السائب القائل.

ولم ترق الأزرقي كلمة حُول، فعقبه بقوله: حدثني جدي، قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن السائب - وكان يصلي بأهل مكة- فقال: أنا أول من صلى خلف المقام حين رد في موضعه هذا...

هذا وأما بقية السند بعد الأزرقي: فشيخه ابن أبي عمر سيأتي، وسفيان بن عيينة إمام، وحبيب بن أبي الأشرس ضعيف. راجع ترجمته في الميزان و لسانه. وعمرو بن دينار ثقة جليل. لكن لا يُدرى ما قال. نعم، يستفاد إجمالاً أنه قد ذكر ما تعلق بالتقدير.

فأما ما ذكر في هذه الرواية من رأي ابن عيينة فقد ثبت ما يناقضه برواية ابن أبي حاتم الرازي - وهو إمام- عن أبيه - وهو من كبار الأئمة المثبتين- عن ابن أبي عمر شيخ الأزرقي، عن ابن عيينة نفسه، وسيأتي.

وأبو حاتم هو القائل في ابن أبي عمر هذا؛ شيخه وشيخ للأزرقي: كان شيخًا صالحًا، وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا حدث به عن ابن عيينة وكان صدوقًا.

أقول: ابن أبي عمر ثقة فيما يرويه عنه أبو حاتم ومسلم ونحوهما من المثبتين؛ لأنهم يحتاطون وينظرون في أصوله، وإنما تخشى غفلته فيما يرويه عنه من دونهم، ولاسيما أمثال الأزرقي.

القول الثاني:

قال بعضهم: كان المقام لاصقًا بالكعبة في عهد النبي ﷺ، حتى أخّره هو ﷺ إلى موضعه الآن.

ذكر ابن كثير: أن ابن مردويه روى بسنده إلى شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام؛ فأنزل الله ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله ﷺ إلى هذا.

أشار ابن كثير إلى ضعفه.

وقال ابن حجر في الفتح ج 8 - ص29 أخرج ابن مردويه بسند ضعيف فذكره.

أقول: شريك من النبلاء إلا أنه يخطئ كثيرًا ويدلس، وإبراهيم بن مهاجر صدوق كثير الخطأ يحدث بما لا يحفظ فيغلط.

وقد صح عن مجاهد أن عمر هو الذي حول المقام كما سيأتي.

وفي شفاء الغرام ج1 - ص206 ذكر موسى بن عقبة في مغازيه... قال موسى بن عقبة: وكان - زعموا- أن المقام لاصق بالكعبة، فأخره رسول الله ﷺ في مكانه هذا.

موسى بن عقبة ثقة أدرك بعض الصحابة، لكن ذكروا أنه تتبع المغازي بعد كبر سنه، فربما يسمع ممن هو دونه، وقد قال: زعموا.

القول الثالث:

قال آخرون: كان المقام في عهد النبي ﷺ وبعده لاصقًا بالكعبة حتى حوله عمر رضي الله عنه.

قال ابن كثير: قال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقال ابن حجر في الفتح ج 8 - ص129: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت، إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا.

ونقل الفاسي عن كتاب الأوائل لأبي عروبة - أراه الحراني حافظ ثقة- عن سلمة - أراه ابن شبيب ثقة - عن عبد الرزاق- فذكر السندين اللذين ذكرهما ابن كثير وقال في متن الأول: إن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام، فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبل الكعبة.

وقال في الثاني عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه.

قال الفاسي: انتهى باختصار قصة رد عمر للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطلب بن أبي وداعة السهمي في موضعه الذي حرره المطلب. فلا أدري أخبر آخر هذا عن مجاهد، أم هو ذاك الخبر اختصره عبد الرزاق في مصنفه وحدث به سلمة من حفظه، أم ماذا؟

وعلى كل حال فالذي نقله ابن كثير وابن حجر عن مصنف عبد الرزاق ثابت. فيتعين حمل هذه الرواية على ما لا يخالفه.

وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: من له علم بموضع المقام حيث كان؟ فقال أبو وداعة بن هبيرة السهمي: عندي يا أمير المؤمنين، قدرته إلى الباب، وقدرته إلى ركن الحجر، وقدرته إلى الركن الأسود، وقدرته إلى زمزم. فقال عمر: هاته. فأخذه عمر فرده إلى موضعه اليوم للمقدار الذي جاء به أبو وداعة.

لا أدري ما سنده.

وبقية الروايات في هذا تذكر المطلب بن أبي وداعة لا أبا وداعة نفسه.

وقال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: أخبرنا ابن أبي عمر العدني، قال: قال سفيان -يعني ابن عيينة- وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله ﷺ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي ﷺ، وبعد نزول قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.

وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله.

قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا؟

وقال ابن حجر في الفتح ج8 - ص129: أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة قال: كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله ﷺ فحوله عمر فجاء سيل فذهب به، فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا؟

هذا بغاية من الصحة عن سفيان بن عيينة، كما تقدم أواخر الكلام على القول الأول.

تمحيص هذه الأقوال:

قد ينتصر للأول بأن عمر رضي الله عنه، لم يكن ليخالف النبي ﷺ.

وما معنى تقدير المطلب وتحري عمر؟

فالظاهر أن المقام لم يزل بموضعه اليوم، فقدره المطلب منه فذهب به السيل وطمس موضعه فجعل بجنب الكعبة حتى يقدم عمر. فقدم وتحرى وردّه حيث كان.

وكأن هذه القضية بلغت بعض الناس مجملة - أنه كان بجنب الكعبة وأن عمر نقله إلى موضعه اليوم- فتوهموا أنه كان بجنب الكعبة منذ قديم، فراحوا يخبرون بذلك.

وينتصر للثاني بأن أولئك الأئمة لم يكونوا ليتوهموا بدون أصل، فلعل النبي ﷺ حول المقام أخيرًا، ولم يبلغهم ذلك. وثبت عندهم أنه قد كان في عهد النبي ﷺ بجنب الكعبة فاستصحبوا ذلك، والباقي كما مر.

وينتصر للثالث بأنه قد يقع من عمر رضي الله عنه ما هو في الصورة مخالفة، وهو في الحقيقة موافقة، بالنظر إلى مقاصد الشرع، واختلاف الأحوال. وقد يخفى علينا وجه ذلك، ولكنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لا يجمعون إلا على حق.

وتقدير المطلب، وتحري عمر - إن صح - فقد يخفى علينا سببه. وإذا كان محتملاً، فليس لنا أن نجعل جهلنا به حجة على توهيم أولئك الأئمة، وهم هم. ومنهم: عطاء وقدمه وفضل علمه بالمناسك، ومجاهد وقدمه وفضل علمه بالتفسير، ومالك، وابن عيينة وهما هما.

ولم تكن قضية المطلب لتخفى على أئمة مكة - عطاء، ومجاهد، وابن عيينة- بل قد ذكرها الأخيران فيما روي عنهما، والمخالف لهؤلاء ليس مثلهم، ولا قريبًا منهم فهو أحق بالوهم.

أقول: قد أغنانا الله - وله الحمد- عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمن لا يمكن أن يظن به التوهم.

أخرج البيهقي من طريق أبي ثابت - وهو محمد بن عبيد الله المدني ثقة من شيوخ البخاري في صحيحه - عن الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن المقام كان زمان رسول الله ﷺ، وزمان أبي بكر رضي الله عنه، ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر رضي الله عنه.

ذكره ابن كثير في تفسيره بسند البيهقي، ورجاله ثقات.

وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح.

وذكره ابن حجر في الفتح. وقال: بسند قوي.

وذكر الفاسي في شفاء الغرام، أن الفاكهي روى عن يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ قال عبد العزيز: أراه عن عائشة، أن المقام كان في زمن النبي ﷺ إلى سقع البيت.

يعقوب بن حميد متكلم فيه، ووثقه بعضهم والاعتماد على حديث أبي ثابت.

وقال البخاري في صحيحه في أبواب القبلة: باب قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن رجل طاف بالبيت للعمرة ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي ﷺ فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة. الحديث.

ثم حديث ابن عمر وحديث ابن عباس رضي الله عنهم في دخول النبي ﷺ الكعبة.

وفي الأول: ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين.

وفي الثاني: فلما خرج ركع ركعتين في قُبل الكعبة وقال: «هذه القبلة».

والقدوم الذي ذكره ابن عمر في حديثه الأول: كان في عمرة؛ لأن ابن عمر أجاب به السائل عن العمرة، وأراها عمرة القضاء.

وفي المسند ج4 - ص355 من حديث ابن أبي أوفى: اعتمر النبي ﷺ فطاف بالبيت وطفنا معه، وصلى خلف المقام وصلينا معه.

وسنده بغاية الصحة.

وقد أخرجه البخاري مختصرًا في باب عمرة القضاء من المغازي.

وذكر ابن حجر هناك من صرح فيه بقوله: في عمرة القضاء، وسياقه واضح في ذلك.

ولفظ: وجه الكعبة ورد في عدة أخبار تقدمت.

وفي القرى ص315 عن ابن عمر: البيت كله قبلة، قبلته وجهه. نسبه إلى سعيد بن منصور.

والمراد في تلك الأخبار - كما يقضي به سياقها- تارة جدارها المقابل لموضع المقام الآن، وتارة ما بجانب هذا الجدار من المطاف.

والأخبار التي أطلقته على هذا تبين أنه ليس منه موضع المقام الآن، بل هو الموضع الذي كان فيه المقام قبل أن يحوله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الآن.

ولفظ: قُبل الكعبة. في حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو أيضًا ذاك الموضع.

وابن عباس إنما سمع هذا الحديث من أسامة، رضي الله عنه، كما بينه ابن حجر في الفتح، وراويه عن ابن عباس عطاء، يرويه عطاء تارة عن ابن عباس عن أسامة، وتارة عن أسامة نفسه.

وقد تقدم قول عطاء: إن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبل الكعبة.

بل ثبت في حديث عطاء عن أسامة - عند النسائي بسند رجاله ثقات-... ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين وقال: «هذه القبلة».

ويؤيد ذلك ما في السيرة عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله ﷺ لما نزل مكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها.

محمد بن جعفر وعبيد الله من رجال الصحيح، وابن إسحاق حسن الحديث.

فهذا الخبر يدل على أن صلاته ﷺ، بعد خروجه كانت ركعتي الطواف، ومن سنته ﷺ أن يصليهما خلف المقام.

فأما صلاته في الكعبة - على القول بها- فهي تحيتها.

ثبت بما تقدم أن صلاته ﷺ عقب خروجه من الكعبة كانت خلف المقام، وأن المقام حينئذ كان عند جدار الكعبة.

لما دخل النبي ﷺ الكعبة كان ابن عمر غائبًا فبلغه ذلك، فأقبل يركب أعناق الرجال المسند ج6 - ص13 فجاء وقد خرج النبي ﷺ، وبلال في الكعبة لما يخرج، فكان هم ابن عمر أن يزاحم ليسأل بلالاً: ماذا صنع النبي ﷺ في الكعبة؟

وفي تلك الأثناء صلى النبي - صلوات الله وسلامه عليه- خارج الكعبة.

فكأن ابن عمر اشتغل بالمزاحمة والمسائلة، فلم يحقق أإلى المقام صلى النبي ﷺ، أم عن يساره أم عن يمينه؟ فاقتصر على قوله: في وجه الكعبة.

فأما ما في أكثر روايات حديث أسامة رضي الله عنه: في قبل الكعبة. فيظهر أن ذلك مراعاة لقوله عقب ذلك وقال: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ».

خشي أن يتوهم أن الإشارة إلى المقام، مع قول الله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فعدل إلى قوله: في قبل الكعبة. ليعلم أن الإشارة إليها، أو إلى ذلك الموضع منها، كما يأتي.

في صحيح مسلم عن جابر- في حجة الوداع، بعد ذكر الطواف-: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم... فجعل المقام بينه وبين القبلة.

هكذا في عدة نسخ من الصحيح وكتب أخرى، وذكره الطبري في القرى ص310 بلفظ: ثم تقدم. وكذا نقله الفاسي عنه.

وزعم الطبري: أنه يشعر بأن المقام لم يكن حينئذ ملصقًا بالكعبة ولم يصنع شيئًا.

أما كلمة تقدم - إن صحت- فدلالتها على الملاصقة أقرب؛ لأنه كان في الطواف، فأنهاه عند الركن، فإذا واصل مشيه بعد ذلك إلى يمنة الباب، فهذا تقدم، ولو كان المقام حينئذ في موضعه الآن لكان المشي إليه مشيًا عن الكعبة، فكان حقه أن يقال: تأخر.

وأما قوله: فجعل المقام بينه وبين الكعبة. فلا يخفى أن المصلى إذا كان بلصق الكعبة، إما أن يكون عن يمينه أو يساره، أو خلفه. فإذا كان خلفه فقد جعله بينه وبين الكعبة.

فقد ثبت بما تقدم - لا سيما حديث عائشة رضي الله عنها- صحة القول الثالث الذي عليه أئمة مكة؛ عطاء ومجاهد، وابن عيينة، مع أن الإنصاف يقضي بأن قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجة في مثل هذا المطلب والله أعلم.

* * *

الفصل الخامس: لماذا حول عمر رضي الله عنه المقام؟

قد تقدم أول الرسالة ما تقدم.

علم عمر رضي الله عنه أن أئمة المسلمين مأمورون بتهيئة ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلين، ليتمكنوا من أداء عبادتهم على الوجه المطلوب بدون خلل ولا حرج.

وعلم أن هذه التهيئة تختلف باختلاف عدد هؤلاء.

وعلم أنهم قد كثروا في عهده، وينتظر أن يزدادوا كثرة، فلم تبق التهيئة التي كانت كافية قبل ذلك كافية في عهده.

ورأى أن عليه أن يجعلها كافية، فإن كان ذلك لا يتم إلا بتغيير يتم به المقصود الشرعي، ولا يفوت به مقصود شرعي آخر، فقد علم أن الشريعة تقتضي مثل هذا التغيير فليس ذلك بمخالفة للنبي ﷺ، بل هو عين الموافقة وشواهد هذا كثيرة، وأمثلته من عمل عمر رضي الله عنه وغيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم معروفة، فهذه حجة بينة لعمر رضي الله عنه.

هذه الحجة لا تبيح له من التغيير إلا ما لا بد منه.

وللمقام حقوق:

الأول: القرب من الكعبة.

الثاني: البقاء في المسجد الذي حولها[180].

الثالث: البقاء على سمت الموضع الذي هو عليه.

فقد تقدم في حديث ابن عباس وأسامة رضي الله عنهم قول النبي ﷺ - بعد صلاته إلى المقام-: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ».

قال ابن حجر في الفتح: الإشارة إلى الكعبة... أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي هذا موقف الإمام...

وفي المسند ج5 - ص209 حديث أسامة: ثم خرج فأقبل على القبلة، وهو على الباب، فقال: «هذه القبلة هذه القبلة». مرتين أو ثلاثًا.

فقد يجمع بين الروايتين بأنه قال هذه الكلمة: «هذه القبلة» عند خروجه، ثم قالها عقب صلاته.

فتكون الأولى إشارة إلى الكعبة، والثانية: إشارة إلى موقف الإمام.

وهذا الثاني محمول على الندب كما في الفتح، وهو ظاهر.

وجرى العمل على اختيار وقوف الإمام على ذاك السمت؛ إما خلف المقام، وإما أمامه.

وبعد كثرة الناس وتضايق ما خلف المقام بقي العمل على اختيار وقوف الإمام قدام المقام.

وفي المسند ج7 - ص14 في ذكر موضع صلاة النبي ﷺ في الكعبة: وجعل المقام خلف ظهره.

وذكر المحب الطبري في القرى ص312 وما بعدها والفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص219 أخبارًا وآثارًا تتعلق بذاك الموضع.

منها: من سنن سعيد بن منصور عن ابن عباس أنه قال وهو قاعد قبالة البيت والمقام: البيت كله قبلة، وهذه قبلته.

وقد تقدم في الفصلين الثاني والثالث ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام انتهى إلى ذلك الموضع في قيامه على المقام لبناء البيت. وقام عليه وهو فيه للأذان بالحج.

فالبيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام قبلة، والجانب الذي كان القيام فيه - وهو ما بين الحِجر والحَجر- خاص في ذلك.

والموضع الذي كان القيام عنده أخص.

وشرعت الصلاة إلى المقام؛ لأن عليه كان القيام.

فارتباطه بذاك الموضع من جدار الكعبة واضح، وتعلق الصلاة بأن تكون إلى القبلة أبلغ، وأهم من تعلقها بأن تكون قرب القبلة.

التغيير الذي لا بد منه يقتصر على التخفيف، من الحق الأول للمقام، وهو القرب من الكعبة، ولعله أخف حقوقه، وبذلك عمل عمر؛ أخر المقام بقدر الحاجة محافظًا على الحقين الأخيرين؛ بقاء المقام في المسجد على السمت الخاص.

تقدم في قول ابن عيينة الثابت عنه: فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي ﷺ، وبعد قولة تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125].

لماذا زاد ابن عيينة وبعد قوله تعالى... مع أن ذلك معلوم قطعًا مما قبله؟

لا يبعد أن يكون ابن عيينة أومأ إلى سبب تأخير عمر للمقام؛ لأن الآية أمرت بالصلاة خلفه، وبقاؤه بجانب الكعبة - والناس بين مصل خلفه وطائف- يلزمه عند كثرة الناس أن يقع الخلل والحرج في العبادتين كما مر.

وأخرج الفاكهي - بسند ضعيف- عن سعيد بن جبير: كان المقام في وجه الكعبة... فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطؤوه بأقدامهم، فأخره إلى موضعه الذي هو به اليوم، حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة. نقله الفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص207 بسنده.

وقال الفاسي: ذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري في كتابه دلائل القبلة... وهناك - بجنب الكعبة- كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلى النبي ﷺ عنده حين فرغ من طوافه ركعتين... ثم نقله ﷺ إلى الموضع الذي هو فيه الآن؛ لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف حين كثر الناس. وليدور الصف حول الكعبة ويروا الإمام من كل وجه.

وذكر ابن فضل العمري في مسالك الأبصار ج1 - ص103 مثل هذا الكلام.

والمقصود منه ذكر العلة، وإنما كثر الناس في عهد عمر.

وقوله: وليدور الصف... مبني على ما كان عليه العمل من وقوف الإمام خلف المقام.

وقال ابن حجر في الفتح ج8 - ص119 في الكلام على قول البخاري في تفسير سورة البقرة باب ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى بعد تثبيت تحويل عمر رضي الله عنه للمقام: ولم تنكر الصحابة فعل عمر، ولا من بعدهم، فصار إجماعًا، وكأن عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى.

[وأول من عمل عليه المقصورة الآن][181].

قوله: فصار إجماعًا. قد عرفت مستنده.

وكل من المستند والإجماع يدل على أنه إذا وجد مثل ذلك المقتضي اقتضى فعل مثل ما فعل عمر رضي الله عنه.

وقوله: وتهيأ له ذلك... لعل الإشارة إلى عدم الإنكار، أي أنه قد يكون في الصحابة ومن بعدهم من يخفى عليه المقتضي. ولكن منعه من الإنكار علمه بأن عمر رضي الله عنه - مع مكانته في العلم والدين- هو الذي أشار باتخاذ المقام مصلى، فله فضل علم بالمقام وحكمه فهذا قريب.

فأما ما يتوهم أن مشورة عمر تعطيه دون غيره حقًّا بأن يغير بدون حجة، أو بحجة غير تامة فهذا باطل قطعًا.

وحجة عمر رضي الله عنه بحمد الله تعالى تامة عامة.

* * *

[180] ما يزيد على المسجد القديم فله حكمه، كما يصح فيه الطواف وغير ذلك. [181] هذه العبارة التي بين المعقوفين وقعت في نسخة الفتح المطبوعة متصلة بما قبلها كأنها تتمة له. وإنما هي ابتداء كلام لا أشك أن ابن حجر ترك بعدها بياضًا. لأنه لم يعرف من أول من عمل المقصورة. وإنما عملت بعد عمر بنحو ستمائة سنة. راجع شفاء الغرام وغيره.

الفصل السادس: متى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟

ولماذا قدره المطلب، واحتاج عمر إلى تقديره؟

لم أقف على ما يعلم به تاريخ التحويل.

غير أنه قد يظن بأنه حوله عند زيادته في المسجد الحرام؛ لأن السبب واحد وهو كثرة الناس؛ ولأن تأخير المقام يستدعي توسعة المسجد خلفه.

وقد زعم الواقدي - كما حكاه ابن جرير في تاريخه - أن الزيادة كانت سنة سبع عشرة، وأن عمر رضي الله عنه اعتمر في رجب، ومكث بمكة عشرين يومًا لأجل الزيادة وغيرها، وحال الواقدي معروفة.

وفي خبر الأزرقي المتقدم في الفصل الرابع: أنه لما ذهب السيل بالمقام أرسلوا إلى عمر فجاء مسرعًا وقدم بعمرة في رمضان.

ورأيت بعضهم ذكر أن ذلك كان سنة سبع عشرة والعلم عند الله تعالى.

ومر في خبر الأزرقي: كانت السيول تدخل المسجد الحرام ربما رفعت المقام من موضعه، وربما نَحَّتْه إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فعلى فرض صحة هذا يلزم أن يكون التحويل قبل مدة أقلها ثلاث سنين أو نحوها.

وقد تقدم النظر في حال هذا الخبر.

وأما ما تقدم عن مجاهد: كان المقام إلى جنب البيت وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه. ثم ذكر قصة عمر والمطلب - ولم يسق الفاسي لفظها كما تقدم - فالجميع بين هذا وبين ما صح عن مجاهد، ونقله ابن كثير وابن حجر عن مصنف عبد الرزاق، وبقية الأدلة وطرق القصة: أن المقام كان إلى جنب البيت، فأخره عمر فخافوا عليه من السيول، فقدره المطلب.

وهذا هو المفهوم من رواية أبي حاتم عن ابن أبي عمر عن ابن عيينة.

والذي يظهر أن المقام لما كان بجنب الكعبة أولاً كان بمأمن من السيل، إما لأنه كان قد نشب في الأرض، إذ لم تكن مبلطة، وإما لغير ذلك. فلما حوله عمر رضي الله عنه رأى المطلب أنه أصبح عرضة للسيل.

قد تقدم في الفصل السابق بيان ارتباطه بالسمت الخاص الذي كان عليه وهو عند الكعبة، وأبقي عليه عند تحويله.

وتقدم بيان مزية ذاك السمت وسببه وهو يقتضي أن يكون قدر ذاك السمت موقف رجل واحد، وهو مقدار طول المقام.

فكأن المقام مع مزيته علامة محددة لذاك السمت. علم المطلب هذا، أو رأى احتياط عمر رضي الله عنه عند تحويله المقام للمحافظة على السمت. ورأى أن المقام لما كان عند البيت كان السمت معلومًا على التحديد بالمقام نفسه.

وكذلك لما حول المقام على السمت بقي السمت معلومًا على التحديد بالمقام نفسه، لكن إذا جرف السيل المقام وعفى موضعه ولم يكن هناك تقدير محفوظ، أشكل تحديد السمت، وكثرت رؤية الناس للمقام في الموضعين لا تضمن معرفة التحديد يقينًا.

واعتبر ذلك إن شئت في منزلك، اعمد إلى صندوق مثلاً باق منذ مدة في موضع واحد إلى جنب جدار مع خلو ما عن يمينه ويساره، قد شاهده عيالك مراتٍ لا تحصى فقدر في غيبتهم موضعه بخيط مثلاً. ثم حوله إلى موضع آخر غير مسامت للأول، واكنس موضعه ثم ادعهم واطلب منهم تحديد موضعه الأول، وانظر النتيجة.

من الجائز أن يكون قد اتفق لبعضهم الانتباه لعلامة خاصة تبقي في الأرض أو الجدار، لكن هذا احتمال فقط.

لهذا - والله أعلم- قدر المطلب موضع المقام.

ولهذا سأل عمر رضي الله عنه الناس وأخذ بتقدير المطلب.

هذا ما ظهر لي في توجيه ما اتفقت عليه روايات قصة المطلب على وجه يوافق حديث عائشة رضي الله عنها وقول أئمة مكة، مع بعد أن يكون النبي ﷺ هو الذي حوله ولم ينقل ذلك، ولا عرفه أئمة مكة.

على أنه لو ترجح أن النبي ﷺ هو الذي حوله لكانت الحجة لاختيار تأخيره الآن بحالها، بل أقوى.

فأما القول بأن موضعه الآن هو موضعه الأصلي: فهو من الضعف بحيث لا يحتاج إلى فرض صحته وما يتبع ذلك، والله أعلم.

المعارضة الثانية:

قد يقال: ثبت عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال لها: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ –لما بَنَوْا الْكَعْبَةَ- اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» قالت: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قال: « لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ»». لفظ البخاري.

وفي رواية له: «وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافَ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ...».

وتأخير المقام عن موضعه مما تنكره قلوب الناس فينبغي اجتنابه.

والجواب من أوجه:

الأول: أن بقاء الكعبة على بناء قريش لم يترتب عليه - فيما يتعلق بالعبادات- خلل ولا حرج، ولذلك لم يأمر رسول الله ﷺ كبار أصحابه ببنائها حين يبعد العهد بالجاهلية، وإنما أخبر عائشة رضي الله عنها لأنها رغبت في دخول الكعبة، فأرشدها إلى أن تصلي في الحِجر، وبين لها أن بعضه -أو كله- من الكعبة، قصرت قريش دونه.

ولا أرى عائشة رضي الله عنها كانت ترى إعادة بنائها على القواعد أمرًا ذا بال فإنه لم ينقل: أنها أرسلت إلى عمر أو عثمان رضي الله عنهم تخبرهم بما سمعت.

وفي صحيح مسلم عنها، أنه ﷺ قال لها: «فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوها بَعْدِي فَهَلُمِّي لأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ» أي من الحِجر.

وصرح بعض أهل العلم بأن إعادة بنائها على القواعد كان هو الأولى فقط.

وترجم البخاري في كتاب العلم لهذا الحديث: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه.

وإبقاء المقام في موضعه - بعد كثرة الناس هذه الكثرة التي عرفناها وينتظر ازديادها- يترتب عليه الخلل والحرج كما تقدم.

الوجه الثاني: أن الإنكار الذي خشيه رسول الله ﷺ مفسدة عظيمة، إذ هو إنكار قلوب بعض من دخل في الإسلام، ولما يؤمن قلبه.

وإنكار هؤلاء هو - والله أعلم- ارتيابهم في صدق قوله إذا قال ﷺ لهم: «إن البناء الموجود يومئذ ليس على قواعد إبراهيم».

يقولون: لا نعرف قواعد إبراهيم إلا ما عليه البناء الآن ولم يكن أسلافنا ليغيروا بناء إبراهيم، فيؤدي ذلك إلى تمكن الكفر في قلوبهم.

ولهذا - والله أعلم- لم يعلن النبي ﷺ القول، إنما أخبر به أم المؤمنين.

وإلى هذا - والله أعلم- تشير ترجمة البخاري في كتاب العلم كما مر آنفًا.

فأما تفسير بعض الشراح إنكار قلوبهم بأن ينسبوه إلى الفخر دونهم، فلا يخفى ضعفه، وأي مفسدة في هذا؟ وقد كان ميسورًا أن يشركهم في البناء، أو يكله إليهم ويدع الفخر لهم.

والحامل لهذا القائل على ما قاله: ظنه أن المراد بقومها الذين قصروا هم الذين بنوه البناء الأخير الذي حضره النبي ﷺ، وكان قبل البعثة بخمس سنين، فيما قيل، فرأى ذاك القائل أنه لا مجال للارتياب في صدق القول؛ لأن العهد قريب وأكثرهم شاهدوا ذلك.

والظاهر أن التقصير كان قديمًا، وقد ورد أن قريشًا بنت الكعبة في عهد قصي، فلعل التقصير وقع حينئذ وإنما بنوها أخيرًا على ما كانت عليه من عهد قصي، وجهل التقصير لطول المدة.

والمقصود أن الإنكار الذي خشيه رسول الله ﷺ مفسدة عظيمة لا يقاربها إنكار بعض الناس تأخير المقام، والعالم تُعْرَض عليه الحجة فيزول إنكاره والجاهل تبع له.

وقد جرت العادة بأن الناس يستنكرون خلاف ما ألفوه ولكنه إذا عُمل به وظهرت مصلحته انقلب الإنكار رضًا وشكرًا.

الوجه الثالث: أن المقام نفسه أخر في صدر الإسلام عن موضعه الأصلي بجنب الكعبة للعلة الداعية إلى تأخيره الآن نفسها. وكان من المحتمل قبل تأخيره أن تنكره قلوب بعض الناس، فلم يلتفت إلى ذلك.

المعارضة الثالثة:

قد يقال: استقر المقام في هذا الموضع قرابة أربعة عشر قرنًا، ولا شك أن الحجاج كثروا في بعض السنين، وازدحموا في المطاف، ولم يخطر ببال أحد تأخير المقام وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمر فيه، إن لم يكن على وجه الوجوب فعلى وجه الاستحباب؛ لأن تأخيره لو كان جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، مع وجود الكثرة والزحام في كثير من الأعوام.

أقول: قد تقدم بيان العلة التي اقتضت تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام من موضعه الأصلي، وهي أن الطائفين والمصلين خلف المقام كثروا في عهدهم، وكان ينتظر أن يستمر ذلك ويزدادوا في مستقبلهم إلى ما شاء الله ورأوا أن بقاء المقام بجنب البيت يؤدي مع تلك الكثرة إلى دخول الخلل والحرج على الفريقين والعبادتين، ويستمر ذلك إلى ما شاء الله، وذلك مخالف للتهيئة المأمور بها.

وأرى هذه العلة متحققة الآن على وجه لم يتحقق منذ تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام إلى هذا العهد الأغر.

ويمكن استثبات هذا بسؤال الخبراء بالتاريخ.

فإذا ثبت هذا، فإعراض من بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرة ثانية محمول على أنه لعدم تحقق العلة.

وكما أن إعراض النبي ﷺ عن تأخير المقام لما تبين أنه لعدم تحقق العلة في عهده: لم يمنع الصحابة من تأخيره عند تحقق العلة من بعده، فهكذا هذا. ولا يختلف الحال بقصر المدة وطولها.

على أنه لو فرض أن هذه العلة تحققت بتمامها فيما بين عصر الصحابة وعصرنا، ففي أي عصر؟

وهل استكملت - بالسكوت حينئذ- شرائع الإجماع؟

وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في تحفته أن الحاكم النيسابوري - وهو من أكابر القرن الرابع ولد سنة 321- قال عند ذكر الحديث في النهي عن الكتابة على القبور: ليس العمل عليه، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. فرده ابن حجر وقال: ويرد بمنع هذه الكلية، وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر السبلة، كما هو مشاهد، لا سيما بالحرمين ومصر، وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي. قال: قلت: هو إجماع فعلي وهو حجة كما صرحوا به. قلت: ممنوع، بل هو أكثري فقط، إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحل حجيته -كما هو ظاهر- إنما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطل ذلك منذ أزمنة.

ويقول ابن حجر الهيتمي: هذا في الكتابة والبناء على القبور، وذلك شائع ذائع، لا يخفى على عالم، وكذلك النهي عنه.

فأما تحقق العلة حول الكعبة: فإن فرض وقوعه فيما مضى فلم يعلم به من علماء ذاك العصر إلا القليل. ومن الممتنع أن يقوم إجماع صحيح يمنع من العمل بما يأمر به القرآن، أو مما أجمع على مثله أصحاب رسول الله ﷺ.

* * *

تلخيص وتوضيح

يتلخص مما تقدم أن الآيتين اللتين صدرتُ بهما الرسالة وغيرهما من الأدلة تأمر بتهيئة ما حول البيت للطائفين - مبدوءًا بهم- وللعاكفين والمصلين، وأن المقصود من التهيئة لهذه الفرق تمكينها من أداء تلك العبادات على وجهها بدون خلل ولا حرج.

إن هذه التهيئة تختلف باختلاف قلة تلك الفرق وكثرتها.

ففي يوم الفتح كان المهم إزالة الشرك وآثاره، وفي حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان الناس قليلاً يكفيهم المسجد القديم ولا يؤدي بقاء المقام في موضعه الأصلي بلصق الكعبة وصلاة من يصلي خلفه، إلى تضييق على الطائفين ولا خلل في العبادتين.

وفي حجة النبي ﷺ كثر الحاجون لأجل الحج معه ﷺ، ولم يكن ينتظر أن تستمر تلك الكثرة في السنين التي تلي ذلك، وكان تأخير المقام حينئذ يستدعي توسعة المسجد ليتسع ما خلف المقام للعاكفين والمصلين، وكانت بيوت قريش ملاصقة للمسجد، وتوسعته تقتضي هدم بيوتهم، وعهدهم بالشرك قريب، وتنفيرهم حينئذ يخشى منه مفسدة عظمى لدنو وفاة النبي ﷺ، فلذلك لم يوسع النبي ﷺ المسجد، وخيم هو وأصحابه بالأبطح وكان يصلي هناك.

فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه، كثر الناس كثرة يتوقع استمرارها في السنين المقبلة، وتمكن الإسلام من صدور الناس، ولم يبق خشية من نفرة من عساه أن ينفر ممن يهدم بيته، فهدم عمر ما احتاج إلى هدمه من بيوتهم ووسع المسجد بقدر الحاجة حينئذ، وأخر المقام وزاد من بعده في توسعة المسجد ليخلو المسجد القديم للطائفين.

ثم لا نعلم كثرة الحجاج والعمار بعد ذلك بقدر ما كثروا في هذه السنين، والنظر ينفي ذلك، كما تقدم في أول الرسالة.

وكانوا إذا كثروا في سنة لم ينتظر أن تستمر مثل تلك الكثرة فيما يليها من السنين.

وكان المقام في القرون الأولى بارزًا، لم يكن عليه بناء، ولا بالقرب منه بناء.

فكان من السهل على الطائفين عند الكثرة أن يطوفوا من ورائه، ويكف غيرهم في ذاك الوقت عن الصلاة خلفه، إذ كان يغلب على الناس معرفة أن إيذاء الطائف والمصلي خلف المقام لغيره حرام، وأن المندوب والمستحب إذا لزم من فعله مكروه ذهب أجره، فكيف إذا لزم منه الحرام؟ وأن من ترك المندوب اجتنابًا للمكروه أو الحرام ثبت له أجر ذلك المندوب أو أعظم منه.

وما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما من المزاحمة على استلام الحجر الأسود، إنما معناه: أنه كان يحتمل إيذاء الناس له، إن آذاه أحد منهم ولا يؤذيهم هو، بل كان ينتظر حتى يجد فرجة فيتقدم إليها فيزاحمه الناس من خلفه، فيصبر حتى يجد فرجة أخرى فيتقدم، وهكذا كان جمهور الصحابة وأفاضل التابعين يتجنبون المزاحمة.

إن الحجاج والعمار قد كثروا في عصرنا كثرة لا عهد بها، وينتظر استمرارها وازديادها عامًا فعامًا، وأصبح المطاف يضيق بالطائفين في موسم الحج ضيقًا شديدًا، يؤدي إلى الحرج والخلل، كما أشرت إليه أول الرسالة ولا تتم التهيئة المأمور بها إلا بتأخير المقام، كما تقدم بيانه أيضًا.

فصارت الحال أشد مما كانت عليه حين أخر عمر رضي الله عنه المقام.

إن الحكم المتعلق بالمقام - وهو اتخاذه مصلى، أي يصلى إليه - لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة، وقام عليه فيه للأذان بالحج، ونزلت الآية ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125]، وهو فيه، وصلى إليه النبي ﷺ مرارًا، تلا في بعضها الآية، وهو فيه.

فلما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تأخيره، وانتقال الحكم - وهو الصلاة إليه- ثبت قطعًا أن الحكم يتعلق به، لا بالموضع، إلا أنه يراعى ما راعوه من بقائه على السمت الخاص في المسجد، قريبًا من الكعبة القرب الذي لا يؤدي إلى ضيق ما أمامه على الطائفين.

إننا نقطع بأن تأخير الصحابة للمقام كان عملاً بكتاب الله تعالى الآمر بالتهيئة للطائفين أولاً، وللعاكفين والمصلين بعدهم، واتباعًا لسنة رسول الله ﷺ حق الاتباع بالنظر إلى المقصود الشرعي الحقيقي، وأنه لا يخدش في ذلك أن فيه مخالفة صورية.

فكذلك إذا تحقق مثل ذاك المقتضى فالعمل بمثل عمل الصحابة - مع رعاية ما راعوه - هو عمل بكتاب الله عز وجل واتباع لسنة نبيه ﷺ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإجماع المسلمين الإجماع المتيقن ولا يخدش في ذلك أن فيه مخالفة صورية، وكما يقول أهل العلم: إن الحكم يدور مع علته.

وبعد... ففي علماء المسلمين - بحمد الله عز وجل- من هم أعلم مني وأعرف، ولا أكاد أكون - بالنسبة إليهم- طالب علم، ولاسيما سماحة المفتي الأكبر إمام العصر في العلم والتحقيق والمعرفة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مد الله تعالى في حياته، وهو المرجع الأخير في هذا الأمر وأمثاله.

وإنما كتبت ما كتبت ليعرض على سماحته، فما رآه فهو الأولى بالحق، والحقيق بالقبول.

وكما قلت في أول هذه الرسالة: ما كان فيه من صواب فمن فضل الله علي وعلى الناس، وما كان فيها من خطأ فمني، وأسأل الله التوفيق والمغفرة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين، وإمام المهتدين محمد وعلى آله أجمعين.

* * *