1815

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الخامس

أحكام الأضحية و رسائل أخرى

(2) مباحث التحقيق مع الصاحب الصَّدِيقِ

مقدمة الرسالة

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وجمله بالعقل وشرفه بالإيمان وفضله بالعلم على سائر الحيوان.

أما بعد:

فإن من واجب العالم المحتسب القيام ببيان ما وصل إليه علمه من معرفة الحق بدليله مشروحًا بتوضيحه والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه لكون العلم أمانة والكتمان خيانة، ومن المعلوم أن العلوم تزداد وضوحًا، والشخص يزداد نضوجًا بتوارد أفكار الباحثين وتعاقب تذاكر الفاحصين؛ لأن العلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، وملاقاة التجارب من الرجال تلقيح لألبابها، وعلى قدر رغبة الإنسان في العلم وطموح نظره في التوسع فيه بطريق البحث والتفتيش عن الحق في مظانه تقوى حجته وتتوثق صلته بالعلم والدين، لكون العلم الصحيح والدين الخالص الصريح شقيقين يتفقان ولا يفترقان، ورأسهما خشية الله وتقواه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ [البقرة: 282]، وإنه من بعد فراغي من تأليف الرسالة التي هي: الدلائل العقلية والنقلية، صار من عزمي ألّا ألتفت بالتجاوب الكتابي مع أي معترض عليها بالطعن فيها اكتفاء بكفاحها عن نفسها، وبعد نشر المنشور الصادر من الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، وكذا المنشور الثاني الصادر من الشيخ إسماعيل الأنصاري، واتفقت كلمة المنشورين على إشاعة الشناعة بصريح التضليل والتجهيل على الرسالة وصاحبها، ومن المعلوم أن من أوصلته خبرًا لن تستطيع أن توصله عذرًا، لهذا رأيت أن سكوتي عن الجواب قد يعطي بعض الناس شيئًا من الشك والارتياب في الكتاب، مما يقتضي عدم الثقة به والاطمئنان إليه، فلأجله بدا لي أن أبدي اعتذاري بكشف ظلام هذا الاتهام الناشئ عن غلط الأوهام وخطأ الأفهام، نصيحة لله وللخاص والعام، فحررت الجواب عن كلا المنشورين بما تقتضيه أمانة التبليغ، وقدمت قبل الشروع أربع رسائل وصلت إلينا من بعض العلماء، تتضمن التعريف عن كتابنا التي هي بمثابة الشهادة منهم، والناس شهداء الله في أرضه، والاعتماد هو معيار السنة والكتاب وما جرى عليه عمل الصحابة، وقد وضحت جميع ذلك في الرسالة ولكل رأيه فيما عليه وما له.

والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

رسالة من الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي بتقريظ رسالة الدلائل العقلية والنقلية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حضرة صاحب الفضيلة رئيس المحاكم الشرعية - حفظه الله وتولاه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فبيد الشكر والامتنان تسلمت رسالتكم المسماة: الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية. فألفيتها رسالة قيّمة نافعة، تضيء السبيل للقارئ بأنوار دلائلها الساطعة، وتبهج القرّاء برياض مباحثها الممتعة، وتروي غليلهم بأنهار مسائلها الجارية.

وما ذكرتم من أنه لم يرد عن الشارع أن يضحى عن الميت بانفراده، فإنه الصحيح الواقع، إذ لم يثبت عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحابه العظام، مما هو ظاهر مذهب مالك والشافعي والنعمان، وقد ذكرتم ذلك بأوضح بيان مقرونًا بالدليل والتعليل والبرهان.

وحقًّا، قد أعطيتم البحث حقه في هذا المرام، ولم يسبقكم إلى التأليف فيه فيما أعلم أحد من الأعلام. وقد تقصيتم فيه كل ما قيل، ورجحتم ما أيده الدليل ومن استبان له بالدليل الصحيح حكم من الأحكام، فعليه أن يتبعه وإن خالف علماء المذاهب الكرام، وكذلك فعلتم ونعم ما صنعتم، لأن الله أمرنا باتباع كتابه العظيم، وما صح من سنة نبيه الحكيم، ولم يأمرنا بتقليد ذوي العلوم والفهوم، وإن كانوا في الفضل والمكانة السامية كالنجوم.

والدين ما أمر الله به وشرع، وأتى به الرسول المتبع، والحق أحق أن يتبع، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا سيد المرسلين - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - وأثابكم الله وأحسن لي ولكم الختام، ونفع بهذه الرسالة الخاص والعام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم

أحمد بن حجر آل بو طامي آل بن علي

قاضي المحكمة الشرعية بقطر

* * *

رسالة الشيخ يوسف القرضاوي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

صاحب الفضيلة العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود - حفظه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فقد تلقيت بيد الامتنان والشكر كتابكم الأخير: الدلائل العقلية والنقلية، وأخذت في قراءته منذ تسلمته، ولم أستطع أن أنام حتى أكملته، فوجدته حافلاً بكثير من الفوائد الفقهية والتحقيقات العلمية، رادًّا الفروع إلى أصولها، وآتيًا للبيوت من أبوابها.

وأعظم ما أعجبني فيه هو المنهج السديد الذي سلكتموه - حفظكم الله- في مناقشة الأقوال ومعرفة الأحكام. وهو منهج لا يتعصب لرأي معين، ولا يتحيز لقول قائل، ولو كان هو شيخ الإسلام الحبيب إلى نفسك ونفوسنا رضي الله عنه وإنما يزن الأقوال والآراء بميزان الكتاب والسنة والقواعد الشرعية الكلية المتفق عليها.

وكم بلغ بي السرور مبلغه وأنت تناقش كبار الفقهاء، حين يأخذون حديثًا من الأحاديث بالقبول والتسليم، دون أن يعرضوه على ميزان النقد، أو على الأقل يعرفوا ما قاله أهل الصناعة من أئمة الحديث في هذا النص. ثم ينقل بعضهم عن بعض دون تمحيص.. إلخ.

وما أحوج علماء الإسلام إلى اتباع هذا المنهج، إذن لصُحِّحت مسائل كثيرة، وظهرت للناس محاسن الشريعة الغراء ورفع عن الأمة حرج كبير.

إن هذه الرسالة مع رسالة فضيلتكم السابقة يسر الإسلام نموذجان يحتذيان في التأليف العلمي المستقل، الذي لا يبحث إلا عن الحق، ولا يأخذ إلا بالدليل، ولا تثبطه شهرة الحكم وشيوعه عن مناقشته ورده إلى أصوله.

أخيرًا، أسأل الله تعالى أن يطيل في عمركم ويبارك في حياتكم، ويجعل منها منارًا لهداية الحائرين، وشهابًا لرجم المبطلين والملحدين، وأن ينفع بكم، ويغفر لكم.. آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص

يوسف القرضاوي

* * *

رسالة الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حضرة العلامة المفضال الأخ الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، أطال الله في عمره، لعلم ينشره وسديد رأي يبذله، اللهم آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أيها المحب الكريم والشهم الغيور، قد تأملت رسالتكم نحو الأضاحي وما تطرقتموه من مباحث علمية وآراء فقهية ونصوص شرعية حملكم عليها غيرتكم الدينية ونصائحكم وصراحتكم التي يشهد بها كل منصف، والحقيقة أن ذلك منحة من الله قد خصكم بها، وقد اجتمعت ببعض من العلماء في المملكة، ودار الحديث نحو ذلك، ولا يخفاكم أن البعض منا سامح الله الجميع بفضله، يستعجل بالتفنيد قبل تخمير الرأي وعرضه والبحث والمشورة، وعلى كل فلا بد من قادح ومادح، وتمحيص ذلك شرعة الله ارتضاها لعباده، وقد قمت بما يجب علي نحو ذلك، غير أنه لا يخفاكم حالة البعض من عدم إعطاء المباحث السعة للتوصل إلى ضالة المؤمن المنشودة، وفق الله الجميع للخير وعلى سبيل ما بيننا من روابط قديمة ومحبة صادقة، أود من فضيلتكم التلطف فيما قد يفسر عند بعض الناس من مس لأقوال المتقدمين من علماء المسلمين مهما أمكن، وأن المرء يدلي بما لديه وما وصل علمه إليه، سدد الله خطاكم وأجزل ثوابكم، تحياتي للأولاد ومن يحضر من المحبين لديك كذلك والسلام.

محبكم

أحمد عبد العزيز المبارك

رئيس المحكمة الشرعية في أبو ظبي

* * *

رسالة السيد عبد الله بن خميس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حضرة صاحب الفضيلة العلامة الجليل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، رئيس محاكم قطر الشرعية الموقر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وأرجو لفضيلتكم دوام التوفيق والسعادة..

ولقد تلقيت نسخة من كتابكم الجديد حول الأضاحي وما يصل ثوابه للميت بنص الشرع، وقرأته بكل شوق واغتباط، والواقع أن استنتاجاتكم واجتهاداتكم الإسلامية، ومآخذكم الموفقة لمما يتفق وروح الإسلام ومقاصده المرنة السمحة؛ إذ هي تهدف إلى تحكيم الكتاب والسنة والرجوع إلى معينهما الصافي دون الالتفات إلى التقليد والمحاكاة وتحكيم آراء الرجال، الأمر الذي يجعلنا نطمع في أن يكثر الله من أمثالكم، أهل العقول النيرة والأفكار الرحبة، الذين تنشرح بهم الصدور وتطمئن إليهم القلوب، ويجتذبون الناس بما أعطاهم الله من الحكمة والموعظة الحسنة والمنطق الهادف، والبحث عن الحق أين ما كان وحيث ما كان.

ولا أكتم شيخي الفاضل، أنني من المعجبين باجتهاداته الشرعية وبصراحته في الحق، ولا أزال ولن أزال أكرر إعجابي وأدعو من صميم قلبي أن يكون قدوة لرجال من هذا الطراز، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يركنون إلى التقليد الجامد الأعمى، بل يجاهرون بالحق ويجأرون به.

وأنا واثق - وإن حف اجتهاداتكم الإسلامية ما حف بها من تشنجات ومخالفات - إلا أن النية الحسنة وسلامة الطوية وعمق المأخذ وسلامة التفكير وتلمس مقاصد الإسلام الكريمة وأهدافه السمحة، كل ذلك سوف يكتب لهذه الاجتهادات الخلود والبقاء، رغم ما يثار حولها من غبار، طال الزمن أو قصر ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ [التوبة: 105].

هذا، وأرجو من الله أن يصاحبكم التوفيق في قولكم وعملكم، وأن يبقى قلمكم الصريح وفكركم الناضج أسوة وقدوة.. مع إبلاغ تحياتي للأنجال الكرام والإخوة الأعزاء، كما هي لكم ممن لدينا جميعًا من الأولاد والإخوان والله يحفظكم ويرعاكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص ابنكم

عبد الله بن خميس

* * *

اعتراض الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد على ما جاء في رسالة الدلائل العقلية والنقلية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإنني رأيت كلامًا نشرته جريدة الرياض في عددها المؤرخ في اليوم السابع من شهر ذي الحجة عام 1390هـ، من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، رئيس هيئة التمييز بالرياض حاصله: الإنحاء بالملام وتوجيه المذام على كتابنا: الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية، بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفا، وتنافي الإنصاف والحفا، قد جعل فيها الجد عبثًا والتبر خبثًا والصحيح ضعيفًا، وأخبر أن الأمر على عكس ما في الكتاب، وأن الأضحية عن الميت هي من الأمر المشروع بنص السنة والكتاب وبدون شك ولا ارتياب، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وصرح بأن عملي خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره إلى آخر ما ذكره.
وكم من مُليم لم يصب بملامة
ومُتَّبع بالذنب ليس له ذنب
وقد كنت أحسب لهذه النفرة الحساب، فطرقت لسدها كل باب وجمعت من النصوص الجلية والبراهين القطعية ما يزيح الشك عن الكتاب، ولن أهمل أو أنسى ما عسى أن يكون حجة عليّ في هذا الباب[56]، بل كتبت كل ما وجدت من حجج المانع والمقتضي والموجب والسالب ورجحت ما يقتضيه الترجيح، بدليل السنة والكتاب، وبينت من الدلائل في مقدمته ما يكون مؤذنًا بصحته، ولم ألقه ساذجًا من دليل الحكم وعلته، لأنني أخذت فيما قلت بالأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، وكونه لا حول ولا قوة لي إلا بها، غير أن صواب القول وصحته غير كافلة لصيانته عن الرد عليه أو الطعن فيه والحط من قدره، حتى ولا كتاب الله الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦ [فصلت: 42] فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في أحكامه والتكذيب بكلامه ﴿وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ قُل لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ٦٦ [الأنعام: 66]، فكيف بكلام من هو مثلي وأنا المقرّ على نفسي بالخطأ والتقصير، وأني لدى الحق أسير.

غير أن الناس بطريق الاختبار يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فتأخذ العيون والآذان من الكلام على قدر العقول والأذهان، فيتحدث كل إنسان بما فهمه، حسب ما وصل إليه علمه، وعادم العلم لايعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، فمن واجب الكاتب أن يبدي غوامض البحث ويكشف مشاكله، ويبين صحيحه وضعيفه مدعمًا بدليله وتعليله، حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم كما قيل:
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقر
إنه متى تصدى عالم أو كاتب أو شاعر لتأليف أي رسالة أو أي مقالة أو أي قصيدة، فبالغ في تنقيحها بالتدقيق وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، فحاول جاحد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها، فيلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام، أفيلام صاحبها إذا كشف عنها ظلم الاتهام وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام بطريق الحجة والبيان، إذ لا بد للمصدور من أن ينفث، والحجة تقرع بالحجة، ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق؛ لأن الحق مضمون له البقاء، وأما الزبد فيذهب جفاء، وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ الأجر والثواب، سواء أخطأ في النقد أو أصاب؛ لأنه وإن رد عليَّ أو رددت عليه فما هو إلا محض التلقيح للألباب ويبقى الود ما بقي العتاب، إذ ما من أحد من الناس إلا وهو راد ومردود عليه، ولنا الأسوة بالصحابة، حيث يرد بعضهم على بعض في مسائل الفروع ولم يجد أحد منهم في نفسه حرجًا أو افتخارًا بفلج؛ لأن قصد الجميع الحق، فهو غايتهم المقصودة، وضالتهم المنشودة، وإنا لنرجو في إثارة هذه المباحث بألَّا نعدم من نتائج جميلة وحكم جليلة، يثيرها البحث والنقاش؛ لأن العلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

* * *

[56] إلى حالة أن الذين تصدوا بالرد علينا رأيناهم يأخذون جملاً من فصول الرسالة يرسلونها ردًّا علينا، فيحسب من لا يفهم أنه نقض لما قلنا وما شعروا بأنها بضاعتنا ردت إلينا.

فصل في معرفة الشيخ ابن محمود بالشيخ عبد العزيز بن ناصر

إنه قبل شروعي في النقد سأنشر محاسن ما عرفته عن الشيخ عبد العزيز، بطريق الخبرة والتجربة والصحبة الطويلة.

إن أول معرفتي به عام 1358هـ، وقت دراستنا عند فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي الديار السعودية - رحمه الله- وفي أول عام 1359هـ صدر الأمر من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله- بإرسالنا إلى مكة المكرمة لنشر الوعظ والإرشاد والتعليم في الحرم وفي مساجد مكة، ولنكون وقت الطلب على أهبة الاستعداد، فسافرت وإياه إلى مكة ومعنا ستة أشخاص من زملائنا، فنزلنا في مسكن فسيح جميل ذي طوابق في الحلقة وأقمنا جميعًا سنة كاملة، في كلها نتمتع من فضيلة هذا الشيخ بدماثة الأخلاق وجميل الوفاق، لم نعتب عليه في خلق ولا دين، فمن أجله كنت أحمل له الود المكين ونعده من فقهاء الزمان ومن له شرف وشأن، ولم نزل كذلك إلى أن حان ميعاد الفراق وصدر الأمر الملكي بإشخاصنا قضاة في الآفاق، فأرسل كل واحد منا إلى بلد، وأرسلني في صحبة فضيلة حاكم قطر: الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني - رحمه الله- بتاريخ 15 ذي الحجة عام 1359هـ، فهذا مبدأ معرفتي بهذا الشيخ، إذ إنه زميلي في الطلب ورفيقي في السفر وصاحبي في المسكن، فنحن نعده من الفقهاء الأجلاء، غير أنه من القوم الذين يرون التقيد بالمذهب في الصغيرة والكبيرة، وألَّا يخرج عنه قيد شعيرة، فلأجله ضاق ذرعه بمخالفتي لرأيه وعدها عليَّ جريمة كبيرة، حتى نشر لأجلها هذا المنشور، كأنني أتيت ببدع من القول وزور، ولم يشعر بأن ما قلته يعد من صغار مسائل الفروع التي لا إنكار في مثلها عند أهل الأصول، مع أن القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت، هو المشهور من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف، وكذا الإمام أحمد، فإنه لم يوجد عنه نص في الجواز، فلا وجه لهذا الإكبار والإنكار الناشئ عن الجهل بالآثار والتسمي بالرد للافتخار، وهذه النفرة التي حدثت معه وأشباهه ستزول سريعة - إن شاء الله- بعدما تتخمر البحوث في الأفهام ويتكرر التذاكر في موضوعها بين ذوي العلوم والأفهام،، لأن العلم شفاء، وقد ضمن الله للحق البقاء وحسن العقبى، وأما الزبد فيذهب جفاء.
أبن وجه قول الحق في نفس سامع
ودعه فنور الحق يسـري ويشرق
سيؤنسه رفقًا فينسى نفاره
كما نسـي القيد الموثق مطلق
نسأل الله علمًا نافعًا وعملاً مبرورًا خالصًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

* * *

فصل في الرد على ادعاءات الشيخ عبد العزبز بن ناصر

قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في منشوره الشهير:

الحمد لله - لقد اطلعت على رسالة أملاها الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ذكر فيها: إن الأضحية عن الميت لا تجوز وأنها غير شرعية، وأن ما عليه الناس من علماء وعوام من الأضحية عن الميت والوصية في ذلك كله خطأ محض، حملهم عليه حسن الظن بمن أفتى بصحة ذلك، كشيخ الإسلام وغيره من علماء الدعوة، وقد جرى مني دراستها فلم أجد ما يصلح مستندًا لما ذهب إليه، بل بالعكس.. إلخ.

الجواب: إن الشيخ ذكر بأنه درس الرسالة، وأنه لم يجد ما يصلح مستندًا لما ذهب إليه صاحبها، وذلك كله من أجل أنه أمسكها ودرسها وهو كاره لها، وإذا اشتدت كراهية الشخص للشيء لم يكد يراه ولا يسمعه، لكون الهوى يعمي ويصم، فلو أنه حين أراد دراستها أخلص عمله لله وعزب عنه هواه، ثم تأمل فصول الرسالة وما تقتضيه من الدلالة لما وقع في شبك هذه الجهالة، ونحن لا نعتذر من قول الحق على شيخ الإسلام أو على غيره، إذ الحق فوق كل أحد، وشيخ الإسلام هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا، وقد قال ابن عباس: يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر. ومن المعلوم أن أبا بكر وعمر أفضل من كل أحد بعد رسول الله، وقد قال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا إسناد الحديث وصحته، فيتركونه ويذهبون إلى رأي سفيان وفلان وفلان، والله يقول: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قد خالف الأئمة الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة مشهورة لدى أهـل العلم والمعرفة، ولا يعد انفراده بها شذوذًا، لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به، وهذه الأقوال التي قلتها والبحوث التي نقلتها لم ألقها ساذجة من دليل الحكم وعلته، كما يفعل بعض الناس، وإنما وطدت ثبات ما قلت بالدلائل القطعية والبراهين الساطعة الجلية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله، ولو أنصف الشيخ لعرف ولكنه تجاهل فحرف، والمناظر المتعنت تعبان والصاحب المنصف مستريح، والحق يبدو كرهًا وله تكون العاقبة، والعاقبة للتقوى، ومن واجب المسلم المنصف أن يكون مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا هوى، وإني وإياه كما قيل:
غموض الحق حين تذب عنه
يقلل ناصر الخصم المحق
تضل عن الدقيق فهوم قوم
فتقضي للمجل على المدق
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن الأدلة في حكم الأضحية وفضائلها والأحاديث في وصول العمل المهدى إلى الأموات والقول في مشروعية الأضحية عن الأموات إنها أدلة واضحة على مشروعية الأضحية عن الميت كالحي وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، على عكس ما رآه وفهمه، وأما ما أتى به من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين في الموضوع، فهو عمل خاطئ، لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره، لهذا رأيت من المتعين التنبيه على ذلك بصورة مختصرة لوضوح أدلة هذه المسألة وصراحتها وبالله التوفيق.. إلخ.

فالجواب: أن فضيلة الشيخ لما نشر هذا الإعلان لإعلام الخاص والعام، ووعد بأنه سيورد من الأدلة الواضحة التي يثبت بها مشروعية الأضحية عن الميت كالحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، أنه لما أصدر هذا البيان أصغينا له الآذان، وأفرغنا له الأذهان، ننتظر ماذا يورده من الدليل والبرهان، فنتبعه على الرغم منا والإذعان، لأن واجب المسلم قبول الحق والانقياد له، لكنه وللأسف لم يأت بدليل واحد من الكتاب ولا من السنة ولا من قول أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من قول أحد من فقهاء الحنابلة المتقدمين، وإنما رمى بهذه الكلمة ثم انسحب عنها وبعد عن معناها، كما قيل: يداك أوكتا وفوك نفخ، وهذا دأبه في نقده، يرمي بمثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بمعيار الصحة والإنصاف، ثم يركب لتحقيقها التعاسيف في الصدور والورود ويستدل لها بما يعد بعيدًا عن المقصود، أشبه ديدن الحائر المبهوت، يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.

وأما قوله: بأنني حاولت رد كلام علماء المسلمين في الموضوع.

فالجواب: إن هذه شكاة قد ذهب عنا عارها، فالاحتجاج بمخالفة عمل الناس هي دعوى داحضة وحجة غير ناهضة، لأن عمل الناس للشيء لا يدل على صحته في الشرع، كما أن عدم علمهم بالشيء لا يدل على بطلانه في الشرع وكل شيء مرهون بدليله، لأن العبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أئمة المذاهب الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة مشهورة لدى أهل العلم والمعرفة، ولا يعد انفراده بها شذوذًا، ومثله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إمام الدعوة، فقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية وخالف الأئمة الأربعة، في بطلان الوقف على الذريّة وسماه: الوقف الجنف، ووقف الجور، واستدل على بطلانه بقوله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»[57]، وهذا يدخل في عموم الوصية للوارث، لأن فيه حجرًا لفرائض الله، إذ هو بمثابة الملك المختص، فهذا ملخص قوله، قد خالف به سائر العلماء قبله ولن يقدح في إمامته مخالفته لهم، ونحن نرى أنه أسعد بالصواب منهم لدخول هذا الوقف في عموم الوصية للوارث، ولأن الوقف بهذه الصفة يعتبر جرثومة خصام وتقاطع أرحام، ويحدث الإحن والشحناء بين الإخوان، فمن أحب أن يخلف لعياله مشكلة يتقاطعون عليها الأرحام، ويستمر بينهم فيها النزاع والخصام، فليخلف لهم وقفًا عليهم، ونهاية الأمر أنه يتغلب عليه أقواهم وأجلدهم ويطرد الباقين.

قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن ما أفتى به المذكور خطأ من وجوه عديدة، أحدها: أن الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، وعن أنس، أن النبي ﷺ ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر. متفق عليه. وعن ابن عمر قال: كان النبي ﷺ ينحر بالمصلى رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَأَظْلافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ يَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا أَنْفُسًا» رواه الترمذي وابن ماجه. «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»» رواه أحمد وابن ماجه، ثم قال: واختلف العلماء في حكم الأضحية، فقال بعضهم: إنها واجبة على الموسر. وبه قال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية، وقال به بعض المالكية واستدلوا على ذلك بالآية السابقة، وبما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»، وقال بعض العلماء: إنها مستحبة غير واجبة، وبه قال الجمهور. قال: ومن أقوى ما يحتج به لعدم الوجوب ما ورد من أنه ﷺ ضحى عنه وعن أمته في أحاديث صحيحة وحسنة، فأسقط بذلك الوجوب، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على فضل الأضحية، وأنها قربة إلى الله من أعظم القرب في ذلك اليوم، وصرح ابن القيم بتأكيد سنيتها، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، لأنه ﷺ وخلفاءه واظبوا عليها وعدلوا عن الصدقة بثمنها، وهم لا يواظبون إلا على الأفضل، وعن ابن عمر، قال: أقام النبي بالمدينة عشر سنين يضحي، وعن ابن عمر أنه سأله رجل عن الأضحية: أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله والمسلمون، فأعادها عليه، قال: أتعقل، ضحى رسول الله والمسلمون.. إلخ، انتهى كلامه.

فالجواب: إن هذه الآية التي استدل بها والأحاديث التي أسندها وأقوال العلماء التي سردها كلها خارجة عن موضوع البحث ومثار النزاع، فقد وعد في مقدمة رده أنه سيورد الأدلة التي تثبت مشروعية الأضحية عن الميت، وكون ذبحها عنه أفضل من الصدقة بثمنها، فأورد الآية والأحاديث التي أريد بها أضحية الحي، إذ هي الأضحية المشهورة المشروعة بنص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، ولو تفكر في الآية وما تقتضيه من الدلالة لعرف أنها حجة عليه لا له، فإن الله يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2] فوردت الآية مورد الخصوص ومعناها العموم، لكون الرسول هو المبلغ عن الله وحيه يأمر الله عباده بأن يصلوا صلاة العيد لربهم ثم ينحروا أضاحيهم لربهم بعد فراغهم من صلاتهم، فالمخاطبون بالأمر بالصلاة هم المخاطبون بنحر الأضحية ولا علاقة للآية بذكر الأموات البتة، ويدل له ما روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ»، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: إن عندي عناقًا جذعة فقال: «اذْبَحْهَا وَلا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»»، فدل الحديث على نحو ما دلت عليه الآية، من تنظيم ذبح الأضحية، وأن كل أضحية تذبح على خلاف ما سنه رسول الله، فإنها شاة لحم قدمها لأهله، وليست من الأضحية في شيء، وإنما سن رسول الله الأضحية في حق الحي شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وإظهارًا لشرفه وتعظيمه على سائر الأعياد، ومثله استدلاله بما رواه الأمام أحمد أن النبي ﷺ خطب يوم العيد فقال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»، حيث حث الموسرين على الأضحية، إذ هي أفضل في حقهم من الصدقة وأفضل ما ينفقه الإنسان في يوم العيد، فقال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» ولم يقل: من كان له سعة ولم يضح لميته فلا يقربن مصلانا، حتى يكون له فيه حجة، وقد استدل به من قال بوجوب الأضحية على الغني المقتدر.

وكذا يقال في سائر الأحاديث التي استدل بها، كحديث: «لِلْمُضَحِّي بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ» وحديث: «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ»[58]، فإن المضحي والمهرق للدم هو الحي الذي عمل عمله في شراء الأضحية، ثم التقرب إلى الله بذبحها في يوم العيد قائلاً: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ [الأنعام: 162-163]، حتى إن جهلة العوام متى سمعوا من لسان الخطيب أو الواعظ مثل هذه الأحاديث التي ترغب في الأضحية نشطوا إلى شرائها حرصًا على حصول الأجر المترتب عليها، ومن المعلوم عدم المناسبة بين هذه الأحاديث التي استدل بها وبين ما يريد أن يستدل له مما يقوي به حجته على القول بمشروعية الأضحية عن الميت، وأنها أفضل من الصدقة بثمنها حسبما وعد به في نقده، ولا يخفى عدم المناسبة على مثله، لكن يترجح عندي أنه يتكلم بدون تفكير، أو أنه لمّا أعوزته الحيلة عن وجود دليل صريح ينهض لصحة ما يدعي به لجأ إلى الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث التي هي بعيدة عن المعنى المقصود كياسة منه لقصد الترويج بها على العوام وعلى ضعفة الأفهام، ليوهم الناس أنني أنكر مشروعية الأضحية الثابتة بالكتاب والسنة، حتى يقيم نفسه مقام الغيور المكافح والمنتصر الفاتح على حد ما قيل: إن لم تغلب فاخلب. وإلا فإننا ذكرنا في الرسالة في فضل الأضحية والترغيب فيها أكثر مما ذكر، وكل عالم أو كاتب فاهم متى قابل بين مقدمته في رده وبين مواضع استشهاداته، عرف بطريق البديهة بأنه قد أغرق في النزاع وبَعُد عن مثار البحث، ولو كان عن جهل لعذرناه، ولكنه عن علم فعذلناه، وقد اقتضت حكمة الله، بأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس فيه شانَه الله، وكيف لا يستحيي الناس ولهم عقول وعيون وآذان، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

ثم إن بعض الفقهاء يتكلفون صرف الأحاديث إلى غير المعنى المراد منها، ليطبقوها على قواعد مذهبهم ويحاولوا الانتصار بها على خصمهم، فيجعلوا النصوص تابعة لأقوال علمائهم، والحق أن أقوال العلماء هي التابعة لقول الله ورسوله؛ لأن تطرق الخطأ إلى آراء العلماء يكثر بخلاف تطرّقها إلى الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة؛ ولأن الأدلة الشرعية حجة الله على عباده، بخلاف رأي العالم، فإنه يخطئ ويصيب، وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله علماء مذهبه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه وفضله. ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن ما أتى به صاحب الرسالة من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين فهو عمل خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره.. إلخ.

فالجواب: إن هذا الإنكار الصادر منه علينا هو قول غير مبرور والذي نشر لأجله هذا المنشور، كأنني أتيت ببدع من القول وزور، ومن واجب من يتصدى للرد أن يكون عالما بما يأمر به، عالمًا بتحريم ما ينهى عنه، وأن يكون لديه مؤهلات علمية واستعدادات في التبحر في البحوث الفقهية من كل ما يصيب به الهدف ويؤهله للوصول إلى الغاية بدون تعسف في التأويل ولا بُعد عن سواء السبيل.

من ذلك الإنكار الصادر من فضيلة الشيخ علينا في القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت، ونحن على ثقة من اليقين بصحة ما قلنا، وأن الأضحية إنما شرعت في حق الحي لا الميت، فذكر في إنكاره أننا أتينا بهذا القول من قبل أنفسنا، وأننا نحاول به رد كلام علماء المسلمين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن هؤلاء المنكرين لهذا القول قد قصروا علومهم وأفهامهم على التفقه في قواعد مذهبهم، ولم يتوسعوا عنه إلى النظر في غيره من كتب الخلاف والمذاهب، فصاروا يستغربون كل قول يخالف رأيهم ومذهبهم، كأنهم يرون أن العلم الصحيح هو فيما حفظوه من مختصر المقنع أو الإقناع أو المنتهى وغيرها من كتب المذهب، فمثلهم كمثل من يخط شبه حلقة الخمس ثم يضع إصبعه وسطه ويقول: العلم ههنا، وما خرج عنه فجهل. ومن طبيعة الإنسان أنه إذا جهل شيئًا أسرع بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، والحق لا ينحصر في مذهب الحنابلة فقط، ولو كان كذلك لحكمنا ببطلان ما سواه من المذاهب، فلو أن هؤلاء توسعوا قليلاً إلى النظر في شتى البحوث الفقهية وكتب الخلاف وكتب أئمة المذاهب لازدادوا علمًا إلى علمهم ولعرفوا حينئذ أنهم قد حفظوا شيئًا من العلم وضاعت عنهم أشياء، وبذلك يتسع صدر أحدهم لما سيعرض عليه من المسائل الخلافية التي لم تكن معروفة في مذهبه، وإن كانت مشهورة في مذهب غيره، ويعرف القول الراجح بالدليل فيها، لأنه كلما اتسعت معارف الشخص وعلومه اتسع رحبه لما يعرض له وظهر له من العلم ما لم يكن يحتسبه، وما أحسن ما قال الإمام الشافعي في هذا المعنى:
كلما أدبني الدهـ
ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي
من ذلك القول الذي نحن بصدده وهي الأضحية عن الميت، حيث قلنا: إنه لم يثبت بطريق صحيح ولا صريح ما يدل على مشروعيته، فإن هذا القول لم يخرج منّا ابتداعًا ولا ابتداءً، بدون سبق عمل من العلماء بموجبه حتى نتهم بالشذوذ به، فقد بيّنت في الرسالة بأن القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت هو المشهور من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف، كما ذكرت ذلك موضحًا في الرسالة معزوًّا إلى أصحاب المذاهب المذكورة وإلى كتبهم، كما ذكرها أصحابهم في كتبهم والقول إذا اشتهر ولم ينكر فهو المذهب، وهذه المذاهب الثلاثة ينتحل العمل بها مئات الألوف من علماء المسلمين ما بين فقهاء ومحدثين ومفسرين من لدن القرن الثاني الذي فيه الأئمة إلى زماننا هذا، كلهم يرون في مذاهبهم عدم مشروعية الأضحية عن الميت، فالقول بذلك يعد من الأمر المشهور عند علماء الأئمة الثلاثة، وإن كان القول به مهجورًا عند المتأخرين من فقهاء الحنابلة، فمن أجل الجهل به ظن الشيخ عبد العزيز، بأني أتيت بما يخالف علماء المسلمين كما تراه مصرحًا به من قوله لا يثنيه عنه وجل ولا يلويه خجل.

كما أنني ذكرت في الرسالة بأنه لم يثبت عن الإمام أحمد القول بمشروعية الأضحية عن الميت، وكذلك سائر فقهاء الحنابلة المتقدمين من لدن القرن الثاني الذي فيـه أئمة المذهب إلى القرن الثامن، فلا تذكر في شيء من كتبهم لا في الضحايا ولا الوصايا ولا الأوقاف، كما أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه فعلها، أو أوصى بها، أو وقف وقفًا عليها، وكما أنها لا توجد حتى الآن في البلدان التي خرج العلماء منها، مثل: الشام ومصر والعراق وفارس واليمن فلا تذكر في تبرعاتهم ولا وصاياهم ولا أوقافهم، باعتراف علمائهم، أفيكون جميع هؤلاء العلماء، بإضافة الصحابة إليهم على خطأ، وأن صاحب الإقناع و المنتهى ومن أخذ بقولهما هم المصيبون؟! وكيف تُجعل شرعية وهي لم تثبت من قول الرسول ولا فعله ولا إقراره، ولم يفعلها أحد من الصحابة؟! فعدم العمل بها يعد من الإجماع السابق زمن الصحابة والتابعين، واستصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع حجة.

وقد كنت أحسب لهذا الاستغراب الحساب فعملت من الدلائل القطعية والبراهين الجلية من كل ما يؤذن بصحته وصراحته ولم ألقه ساذجًا خاليًا من دليل الحكم وعلته ولا حيلة لي في إفهام من لا يريد أن يفهم، ويُعذر من فعلها أو أوصى بها أو وقف وقفًا عليها من مشايخ الدعوة وغيرهم، بأنهم لمّا سمعوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في قوله: إنه يضحى للميت كما يحج عنه ويتصدق عنه، وكذا القول المنسوب عنه، من أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وتأكد ذلك في نفوسهم بقول صاحب المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. فلما سمعوا بهذه الأقوال ظنوا أنها من أفضل الأعمال، وبنوا على ظنهم جواز التبرر بها والوصية بها والوقف على الأضحية، كما قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهو من مشايخ الدعوة قال: إن الفقهاء لما سمعوا حديث علي أن النبي أوصاه أن يضحي عنه ظنوه صحيحًا، وبنوا على ظنهم بجواز الوقف على الأضحية، والوصية بها، قال: والتضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه وبعض الفقهاء لمّا سمعه أخذ بظاهره وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها. فالعاملون بها هم مجتهدون مأجورون، ولو تبين لهم الحق على خلاف ما فعلوا لأخذوا به وآثروه على قول كل أحد، وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ذكر فيها فنونًا من الأعذار عن عدم عمل بعض الأئمة ببعض السنن الصحيحة، وعن مخالفتهم لبعض السنن الصحيحة، وقال: إن الأمر المجزوم به في حقهم هو عدم تعمدهم لمخالفة السنة الصحيحة قطعًا ويعذرون بكون هذه السنة الصحيحة لم تبلغ أحدهم أو أنها بلغته بطريق لا يثبت عنده لضعف سنده، أو أن هذه السنة كانت عنده ثم نسيها، أو أنه ظن عدم شمولها للمعنى المراد، أو أنها بلغته عن طريق ضعيف لطعن المحققين في رواة سنده، وظنه صحيحًا، وعمل بموجبه إلى غير ذلك من الأعذار المقتضية لرفع الملام عن العلماء الأعلام، ولأجله تنوعت المذاهب في مسائل الفروع واتفقوا جميعًا على أن من استبانت له سنة رسول الله، لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.
تَخالف الناس فيما قد رأوا ورووا
وكلهم يدعون الفوز بالظفر
فخذ بقول يكون النص ينصـره
إما عن الله أو عن سيد البشـر
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

الوجه الثاني: إن الأضحية عن الميت كالصدقة عنه وكالحج، وهذا جائز شرعًا. وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة يصله ثوابها كسائر القرب؟ وأي فرق بين وصول ثواب الصدقة والحج وبين وصول ثواب الأضحية؟ وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية، واقتضت وصول بقية الأعمال؟، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟! إلا أن يقول قائل: إن الأضحية ليست بقربة. وما أظن أحدًا يتجرأ على ذلك، لأنها مكابرة.

فالجواب أن نقول: إن الشارع الحكيم ورسول رب العالمين هو الذي فرّق، بين الصدقة والأضحية، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والدين ما شرعه الله في كتابه وعن لسان نبيه، وقد أمر النبي ﷺ الأولاد بأن يتصدقوا عن آبائهم الميتين، وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم، ولم يأمر أحدًا بأن يضحي عن والديه الميتين، ونحن متبعون لا مشرعون، لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، ولهذا قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. والأضحية عن الميت بانفراده لم يفعلها رسول الله ﷺ ولم يفعلها أحد من أصحابه، بخلاف الصدقة فقد ثبتت.

أمر النبي ﷺ الأولاد أن يتصدقوا عن آبائهم وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم وقضاء ونذر، وأن يصلوا أقارب آبائهم وأصدقائهم، وكما أمر عمر، بأن يتصدق بوقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أفضل ما يفعله الحي لميته، وكلها أصول تؤيد قول من قال: إن الأضحية عن الميت غير مشروعة؛ لأن عدم نص النبي عليها وعدم فعل الصحابة لها، لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم، يدل على عدم ثبات مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة أو أنه يصل إلى ميتهم نفعها لكانوا أحق بالسبق إليها، فعدم فعلهم لها يعد من الإجماع السابق واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة، لأنها من التعبدات التي يجب لها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة.

وبالجملة، فإن هذه النصوص وما في معناها هي أوضح من نار على علم، تلجم المخالف بلجام التقوى وتقوده إلى الإيمان بها بالعروة الوثقى. والعجب من عالم تقي تعرض عليه هذه النصوص وما في معناها ويؤمن بصحتها، ثم يقول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه بدون أن يأتي بدليل صحيح يثبت به مشروعية الأضحية عن الميت، فضلاً عن القول بتفضيلها على الصدقة، والأضحية عن الميت لم تكن معروفة عن السلف ولا يمكن نقلها عن أحد منهم، مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم إليها النبي بتصريح ولا إيماء، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة، ولو كان ثوابها يصل إليهم بعد موتهم لأرشدهم إليها.

وأما قوله: وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة. فهذا غير صحيح، فإن الأضحية إذا أطلقت لا تسمى صدقة، كما أن الصدقة لا تسمى أضحية ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه، أما رأيت العلماء من الفقهاء والمحدثين إذا ذكروا في كتبهم باب الأضحية، فإنهم لم يذكروا معها الصدقة، وإذا ذكروا باب الصدقة، فإنهم لم يذكروا معها الأضحية، وقد نص الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها في حق الحي؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها واتباعًا لطاعة الله ورسوله فيها ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، وهذه المفاضلة تقتضي المغايرة، وأن الأضحية غير الصدقة، كما أنك إذا قلت الحديث أفضل من الفقه، فإن الحديث غير الفقه، نعم إنه لو ذبح ذبيحة في عيد الأضحى أو في أيام التشريق أو في غيرها من الأيام وتصدق بها عن والديه الميتين، فإن ذلك جائز ومشروع، لاعتبار أنها صدقة وليست بأضحية، أشبه ما لو اشترى لحمًا من الجزار فتصدق به عن والديه، فإن هذا مشروع، وقد أوضحنا القول بصحته في الرسالة.

ثم إن حكم الأضحية يفارق الصدقة في أمور عديدة، منها أن الأضحية لو أكلها كلها إلا قدر أوقية تصدق بها جاز وأجزأت أضحية، والصدقة هي الأوقية التي خرجت من يده إلى يد مستحقها، ومنها أن الأضحية لا يجوز ذبحها إلا في الوقت المحدد لها وهو يوم العيد وأيام التشريق، وأما الصدقة فتجوز كل وقت، ثم إن الأضحية لا يجوز فعلها إلا مع المسلم، وأما الصدقة فتجوز على الكافر، ولما تحرّج الصحابة عن الصدقة على أقاربهم من المشركين، وقالوا: لا نتصدق على من ليس من أهل ديننا، أنزل الله تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272]، فأمروا أن يتصدقوا على أقاربهم من المشركين.

ونحن بكلامنا هذا نريد التفريق بين المشروع وغير المشروع، إذ كل مشروع ملتحق بالعبادات وما ليس بمشروع فإنه ملتحق بالمبتدعات أو العادات، وهذه صدقة الفطر، تجب على كل فرد من الأحياء إذا كان عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته ولا تفعل عن الأموات لعدم ما يدل على مشروعيتها وهي صدقة من الصدقات، فلو ادعى أحد مشروعيتها عن الأموات بحجة أنها صدقة من الصدقات لحكمنا ببطلان قوله، والنبي ﷺ قال: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِىَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِىَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ»[59]، أي وليست من الفطرة في شيء لخروجها عن حدود الشرع في الوقت، ومثله قول النبي ﷺ فيما رواه البخاري عن البراء، أن النبي قال يوم العيد: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ»، ففرّق رسول الله بين الأضحية الشرعية التي ذبحها صاحبها على وفق ما سنه رسول الله، فوقعت موقعها في الصحة والإجزاء، وبين الذبيحة التي ذبحها صاحبها قبل الصلاة، لكونها وقعت على خلاف ما سنه رسول الله في الأضحية.

وهذا ينطبق على الأضحية عن الميت، فإنها ليست من سنته ولا فعل خلفائه وأصحابه فكانت شاة لحم، وأنها شاة لحم مباحة الأكل وليست من الأضحية في شيء، سواء أكلها صاحبها أو تصدق بها، ومثله حديث: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»[60] والفرع هو أول ما تنتج الإبل مما كانوا يذبحونه، وقيل: كان الرجل إذا تمت إبله مائة نحر بكرًا وهو الفرع، والعتيرة ذبيحة يذبحونها في العشر الأول من رجب، كانوا يفعلونها في الجاهلية وفعلها المسلمون في أول الإسلام، على حساب أنها مشروعة، ثم نسخ ذلك بقوله: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»، فنفى التقرّب بهما على سبيل التبرر.

وأما قوله بقياس الأضحية عن الميت على الحج عنه، فإنه قياس مع الفارق، فإن الحج الذي أفتى النبي بقضائه عن الميت هو الحج الواجب بالشرع أو النذر المشبه بالدين اللازم، قال: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» والأمر به وقع مع خاصة الأولاد، وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه حالة غيرهم، إذ الولد كسب لأبيه؛ لأنه السبب في إيجاده فلحقته حسناته، فلا يقاس الحج الواجب بالشرع أو بالنذر على الأضحية التي ليست بواجبة على الأحياء ولا مشروعة في حق الأموات، فليست مماثلة للحج في كل الحالات حتى يقال بمنع التفريق بينهما.

وأما قوله: وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية واقتضت وصول بقية الأعمال، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟! إلخ.

فالجواب: أننا متبعون لا مشرعون، وللأضحية حكم غير حكم الصلاة والصيام والحج؛ لأنها إتلاف حيوان محترم، فإن أتلف بحق فسبيل من هلك ومن قتل في حق، فالحق قتله، ولسنا ممن يجازف بالقول في جواز إهداء سائر الأعمال إلى الموتى من كل عامل حتى يحتج علينا بموجبه، إلا فيما خصه الدليل من قضاء الولد لواجبات أبيه من حج وصوم ونفل وصدقة وما عدا ذلك، فإنه لا يقدس الإنسان سوى عمله، ومن بطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، ﴿يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الأنفطار: 19]، وقد قلنا في الرسالة: إن قضاء الحج الواجب يجوز فعله من الأجنبي في ظاهر مذهب الإمام أحمد والشافعي؛ لأنه مشبه بدين الآدمي، فهو من باب الإبراء عن الحق الواجب وليست كذلك التضحية.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إني لا أظن أن أحدًا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى وهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع، قال: ذكر معناه ابن القيم ولم يقل بهذا إلا أهل البدع، ولهذا ذُكِرت هذه المسألة في كتب العقائد، لبيان الاعتقاد الصحيح والتنفير مما عليه أهل البدع.

فالجواب: إن أفضل الكلام ما جلى الحقائق وهدى لأقوم الطرائق، وفضيلة الشيخ قد اعتاد إلقاء مثل هذه الجملة على سبيل الخرص والجزاف، غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف، لأنه قد صرف جل عقله وعمله وفهمه على التفقه في مذهبه، ولم يتوسع عنه إلى النظر في غيره، فظن أن إهداء الأعمال إلى الموتى من الأضحية وغيرها أنه من الأمر المجمع عليه عند علماء الإسلام. وأن من قال بخلاف ذلك، فإنه مبتدع، كما تراه مصرّحًا به في قوله، ولو حقق فيما قال النظر بإمعان وتفكر، لعلم أنها مسألة خلافية ليست إجماعية، وحتى فقهاء الحنابلة في كتبهم المشهورة يذكرون خلاف العلماء فيها، قال في المغني: إن الظاهر من مذهب الشافعية، أن ما عدا الدعاء والاستغفار والصدقة والحج الواجب، لا يصل إلى الميت ثوابه لعدم ما يدل على مشروعيته، وحكاه ابن كثير في التفسير مؤيدًا له، أفيرى فضيلة الشيخ أن الشافعي ومن اتبعه في قولهم بهذا يعدون مبتدعة، وحتى شارح الإقناع حكى عن الأكثرين بأنه لا يصل إلى الميت ثواب القراءة، وأن ذلك لفاعله لقول الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286].

ومثله يقال في الأضحية عن الميت، فإن الظاهر من مذهب الشافعية والمالكية والحنفية، أنه لا أضحية عن الميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد لورود النهي عن ذلك، وأن من مات وعليه صلوات، فإنها تسقط بموته، ولم يقولوا بوجوب قضاء الصلاة عنه، وكذلك الصيام، إذا توفي وعليه شيء من رمضان أطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة، وحمل الإمام أحمد حديث عائشة: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[61]، أن هذا محمول على صوم النذر، فهو الذي يقضى عن الميت دون صوم الفرض، ورجح ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله- في الإعلام وفي تهذيب السنن.

وأما نسبة القول بهذا إلى العلامة ابن القيم، حيث قال: إن من ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى، فإنـه محجوج بالكتاب والسنـة والإجماع وقـواعد الشرع. فإن العلامة ابن القيم - رحمه الله- قد ذكر في كتاب الروح الخلاف الواسع في هذه المسألة، فأسهب فيها وأطنب وعلا وصوب، فذكر أقوال من أجاز ذلك مطلقًا، وأقوال من قيده بما تسبب إليه الميت في حياته، وأقوال من فرّق بين العبادات التي تدخلها النيابة، كالصدقة والحج، وبين ما لا تدخله النيابة، كإهداء ثواب القراءة والصلاة، وذكر حجج كل فريق، وكان عمدة ما تكلم فيه هو إهداء ثواب القراءة، وتكلم على إهداء سائر الأعمال بالتبع، ورجح إهداء ثواب القراءة حسب رأيه.

ثم قال: هل تنتفع أرواح الأموات بشيء من سعي الأحياء أم لا؟ وذكر في الجواب، أنها تنتفع بأمرين مجمع عليهما من أهل السنة، أحدهما: ما تسبب إليه في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، قال: والصدقة والحج على نزاع. انتهى. وذكر شارح الطحاوية مثل هذا الكلام، وقد رجّحا جواز إهداء ثواب القراءة باجتهادهما، ومن المعلوم أن روايتهما مقدمة على رأيهما في ذلك، إذ الرأي يخطئ ويصيب، وقال العلامة ابن القيم أيضًا، في المجلد الثالث من الإعلام: إن للعلماء قولين في وصول ثواب القراءة إلى الميت، أحدهما: إن القراءة لا تصل إلى الميت، والثاني: إنها تصل ووصولها فرع عن وصول الثواب للقارئ، ثم ينتقل منه إلى الميت، فإذا كانت القراءة من القارئ لأجل الجعل ولم يقصد به التقرّب إلى الله لم يحصل له الثواب، فكيف ينتقل منه إلى الميت وهو فرعه، ولأن الانتفاع بسماع القرآن مشروط بالحـياة، فلما مات انقطع عمله كله. انتهى. وبه يعلم أن الاختلاف في هذه المسألة واقع مشهور، ولم تكن مما اتفق عليه الجمهور، وحسبك شهادة ابن القيم وشارح الطحاوية عن أهل السنة، من أنهم لا يرون انتفاع الأموات بشيء من عمل الأحياء، إلا ما تسبب إليه في حياته، ومنه صدقة أولاده عنه وقضاؤهم لواجباته من حجه وصيامه، لأنه السبب في إيجاد أولاده فلحقه حسناتهم، لأنهم من كسبه لحديث: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[62]، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. والدعاء والاستغفار ليس من باب إهداء ثواب الأعمال وإن أدخله بعض الفقهاء في ذلك، ولكنه من باب العبادة التي خلق الله الخلق لها وأمرهم بها، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.

والمراد بأهل السنة الذين نسب إليهم هذا الاعتقاد هم الصحابة والتابعون، وإنما سمّوا بأهل السنة لكونهم تمسكوا بسنة رسول الله وأصحابه في أقوالهم وأعمالهم واعتقادهم، وساروا على السنة وهي الطريقة العملية التي جرى عليها عمل النبي وأصحابه، وقد حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قال: إنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنه أفضل. ذكر ذلك ابن مفلح في شرح المحرر من آخر كتاب الجنائز، ونقل ابن اللحام عن شيخ الإسلام نحو هذا الكلام، فقال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوّعًا أو صاموا تطوّعًا أو حجوا تطوّعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك لموتاهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف. انتهى. فهذا هو الأمر الثابت عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- ولا يمكن أن يقول بهذا ويدعو الناس إلى العمل به، ثم يخالفهم إلى خلافه، فما نسب إليه من القول بجواز الأضحية عن الموتى وإهداء ثواب الأعمال إلى الموتى يعتبر غير صحيح والحالة هذه، أو أنه قول قاله ثم ترجح عنده خلافه.

وذكر ابن كثير في التفسير على قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 38-39]، قال: ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى؛ لأنها ليست من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليها رسول الله أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرف فيها بأنواع الأقيسة والآراء. قال: وأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، فهذه الثلاثة بالحقيقة هي من سعيه وكده، كما في الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِه».

وكل ما ذكر من المنع، من إهداء ثواب القراءة، فإنه ينطبق على المنع من إهداء ثواب الأضحية من باب الأولى، لأن ظاهر مذهب الشافعي أن ما عدا الحج الواجب والصدقة والاستغفار، فإنه لا يصل إلى الميت ثوابه، لعدم ما يدل على مشروعيته، وذكر العز بن عبد السلام في فتاويه (24/2) قال: من فعل طاعة لله ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه، إذ ليس للإنسان إلا ما سعى، فإن شرع في الطاعة ناويًا أن يقع عن الميت لم يقع عن الميت، إلا فيما استثناه الشرع، كالصدقة والصوم والحج.

وقال في نيل الأوطار: أما غير الولد، فإن الظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثواب ما فعله إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها، فاتفقت كلمة علماء أهل السنة وهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا ابن القيم، وشارح الطحاوية، فيما نقلوه عن أهل السنة، وكذا العلامة ابن كثير والعز بن عبد السلام والشوكاني، كلهم ذكروا أن إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى ليس من عمل أهل السنة، فليقابل العاقل بين أقوالهم وبين قول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد: إني لا أظن أحدًا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى، وأنه لا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى إلا أهل البدع. ليرى الفرق الواسع بين قوله هذا وبين أقوال علماء السنة؛ لأن من عادته إلقاء مثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بمعيار العدل والإنصاف ولا معرفة الوفاق والخلاف، وقد قيل: إن من شرط صحة الدعوى كونها تنفك عما يكذبها. وقد قام الدليل والبرهان على خلاف ما يدعيه من الإجماع.

غير أن بعض علماء السنة لما سمعوا بالأحاديث الواردة في الدعاء للموتى، وكذلك الأحاديث الواردة في الإذن للأولاد بأن يقضوا واجبات آبائهم من الحج الواجب بالشرع أو النذر وكذا الصوم الواجب بالنذر كحديث المرأة التي قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»»[63]، وكذا المرأة التي قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْ أمك، قالت: وإنها نذرت صوم شهر فماتت أفأصوم عنها؟ قال: «نعم صومي عنها»[64]، وسألته امرأة فقالت: «يا رسول الله، أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ. حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَا»[65]. وحديث سعد بن عبادة، حيث قال له: «تصدق عن أمك»[66]، وكذا حديث عمرو بن العاص، حين سأل عن نذر كان على أبيه؟ قال: «إنه لَوْ كَانَ أَبُوكَ مسلمًا فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ»[67]، وحديث عائشة: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[68]، وكلها أحاديث صحيحة.

وهي حجة من استدل بها على إهداء ثواب الأعمال إلى الأموات، وخفي عليهم أن هذه الأحاديث وردت في أعمال خاصة ورخص للأولاد، أفتاهم النبي فيها بأن يقوموا بها عن والديهم؛ لأن هذا مما ينتفع به المرء من عمل غيره، بحيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان سببًا في إيجاد ولده فلحقته حسناته من دعاء ولده وقضائهم لواجب حجه وصومه وتصدقهم عنه. وهذا معنى ما نقله ابن القيم - رحمه الله- عن أهل السنة، أنهم قالوا: إن أرواح الأموات لا تنتفع بشيء من سعي الأحياء إلا في أمرين مجمع عليهما، أحدهما: ما تسبب إليه في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. وهذا كله داخل في عموم قوله: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»، رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم في نص القرآن في قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ [الطور: 21] وفي الحديث الصحيح: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[69] لكن مدار الجزاء بالثواب والعقاب وبالجنة والنار على عمل الإنسان بنفسه لنفسه جمعًا بين الأخبار، كقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ [غافر: 17].

فمن قال بانتفاع الميت بكل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح، ولا القياس الصحيح، ويعذر من قال بذلك، بأنهم لما سمعوا بهذه الأحاديث، ظنوا أن الأمر شامل لجواز إهداء ثواب سائر الأعمال إلى الموتى من كل عامل، وبناء على هذا الفهم توسعوا في القول في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى حتى قالوا بجواز إهداء الصلوات المفروضة، كصلاة الظهر والعصر، كما ذكره صاحب الإقناع وغيره، قال القاضي: إذا صلى فرضًا وأهدى ثوابه صحت الهدية في ظاهر المذهب. قال في المبدع: وفيه بُعد. أفترى أن نقبل هذا القول فنهدي فرائض صلاتنا لموتانا؟! كلا والله، بل نحتسبها لنا عند ربنا، والقائلون بذلك هم مجتهدون مأجورون، ولا يكون المنتصر لمقالتهم بمنزلتهم في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر والبحث عن الدليل ليأخذ به ويدعو إلى العمل بموجبه، والأصل في قواعد الشريعة أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، كما هو الظاهر من مذهب الأئمة الأربعة، وأن من مات وعليه فرائض صلوات عجز عن فعلها في حياته أو تعمد تركها في صحته فإنها لا تقضى عنه، ومن مات وعليه صوم أطعم وليّه عن كل يوم مسكينًا في ظاهر مذاهب الأئمة الأربعة ولم يقولوا بقضاء صومه ما عدا الإمام أحمد، فإنه خص جواز قضاء الولي لصوم النذر فقط، وقد قلنا في الرسالة (ص105): إنه يجوز للأولاد قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصوم وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو النذر، لورود الأخبار الصحيحة بجواز ذلك وهو اختيار ابن حزم وخلاف ما عليه الأئمة الأربعة.

وأما قوله: إنه لم يقل بإنكار وصول ثواب الأعمال إلى الموتى إلا بعض أهل البدع، ولهذا ذُكرت هذه المسألة في كتب العقائد لبيان الاعتقاد الصحيح وتنفير ما عليه أهل البدع.

فالجواب أن نقول: مهلا يا أنجشة لا تكسر القوارير وانظر فيما تقول فإن فيه الخلاف الكثير، ونحن لم نجد هذه المسألة بهذه الصفة في شيء من كتب عقائد أهل السنة لا في الواسطية ولا الطحاوية، ولا عقيدة ابن قدامة ولا في غيرها، ونحن نطلب من فضيلة الشيخ، بأن يحيلنا على العقيدة التي ذكرت فيها هذه الجملة، أي: وأن إهداء ثواب سائر الأعمال إلى الموتى حق، أو أن من أنكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى فإنه مبتدع، ليتضح بذلك صحة ما يدعيه، ويحيل عهدته على قائليه، كما قيل:
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف أهل السنة في هذه المسألة، فقال: اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين؛ أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع، قال: واختلف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها والمشهور من مذهب الشافعي ومالك، عدم وصولها.

وحكي في شرح الإقناع عن الأكثرين، أنهم قالوا: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة، وأن ذلك لفاعله، لقول الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، فالخلاف بين علماء السنة في هذه المسألة واضح مشهور، ولم تكن مما اتفق عليه الجمهور، وعدم علم الشيخ به لا ينفي وقوعه؛ لأن عدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه، لكن يترجح أن فضيلة الشيخ قد غلط في فهم حقيقة ما قاله العلماء في هذا الابتداع وأسبابه، فأتى إلى البحث من الخلف ولم يدخل إليه من بابه، وذلك أن أناسًا من المتفلسفة والصوفية والمبتدعة تكلموا في الدعاء وقالوا: إنه لا ينتفع به الميت ولا يجدي شيئًا على الحي، فلا ينتفع به الداعي ولا المدعو له، لأن الذي تدعو به إن كان قد قدر بطريق المشيئة الإلهية، فإنه سيحصل وإن لم تدع، وإن لم يقدر فإنه لن يحصل دعوت أو لم تدع. وبثوا من هذه الفكرة ما يقتضي صرف الناس عن هذه العبادة، فإن الدعاء عبادة من العبادات التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بها، كما روى النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وله من حديث أنس أن «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وله من حديث أبي هريرة «لَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الدُّعَاءِ ومن لم يسأل الله يغضب عليه».

ولم يشرع الله الدعاء ويأمر بالإكثار منه إلا لتحقق منفعته للحي والميت، وهذا القول وهذا الاعتقاد في عدم منفعة الدعاء هو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، لكونه يقتضي إبطال الأسباب التي علقها الله على الدعاء، لهذا رد عليهم علماء أهل السنة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقد قال: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع بدعاء غيره فقد خرق الإجماع وكذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، والقائلون بهذا هم من جنس القائلين: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل. فأجابهم النبي ﷺ بقوله: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[70]، والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان هذا قد قدر لي بمشيئة الله، فإنه سيحصل بدون دعاء، وإن لم يقدر لي لم يحصل بالدعاء، فجوابه أن يقال: إنه مقدر بالسبب، أي الدعاء وليس مقدرًا بدون السبب، كما أن الله سبحانه قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال، وقدر حصول الولد بالوطء والزرع بالسقي إلى غير ذلك من الأسباب.

وكذا العلامة ابن القيم - رحمه الله- فقد عقد فصلاً لهذه المسألة في كتابه الجواب الكافي قال: ليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أكرم على الله منه ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، ولمّا كان الصحابة أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وكان عمر يقول: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكني أحمل همّ الدعاء، فإنني إذا أعطيت الدعاء وفقت للإجابة. اهـ. أضف إلى ذلك أن الدعاء من القدر والقدر يرد القدر، فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل، كما روي عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِى الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، فالأنبياء وخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، ويفرون من القدر إلى القدر، مع قوة توكلهم على ربهم وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أجل رواج هذه الفكرة صار بعض أهل السنة يذكرون انتفاع الأموات بدعاء الأحياء في عقائدهم؛ لأن من لم يعتقد ذلك فأقل ما يقال إنه مبتدع، إن لم يكن كافرًا، قال الطحاوي: وفي دعاء الأحياء منفعة للأموات والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات. اهـ.

لكن ينبغي أن نعلم بأن انتفاع الأموات بدعاء الأحياء شيء وإهداء ثواب الأعمال إلى الموتى شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فإن الداعي إنما يدعو ربه ولم يهد ثواب دعائه لأحد، والدعاء عبادة مستقلة بين العبد وربه، لا ينتقل ثوابها من الداعي إلى المدعو له، سواء استجيب له أو لم يستجب له، وإذا استجيب له لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجر دعائه بكماله ومثله الصلاة على الجنازة، بما فيها من الدعاء للميت، فقد ورد في الصحيح: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»[71]، فالمصلي عليها يحتسب ثواب صلاته ودعاءه لنفسه ويدعو لميته ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين بالمغفرة والرحمة، فليس الدعاء من باب إهداء ثواب الأعمال وإن أدخله بعض الفقهاء فيه توسعًا؛ لأن إهداء ثواب الأعمال هو أن يعمل الإنسان عملاً من صلاة وصيام وحج وصدقة وتلاوة قرآن وذكر، ثم يهدي ثواب ما عمله أو نصفه أو ثلثه لميته، فيقول: اللهم اجعل ثواب ما عملت لفلان ابن فلان، أو يقول: اللهم إن كنت أثبتني على هذا العمل فاجعله لفلان ابن فلان، فيخرج العامل من ثواب عمله المهدى، كأنه لم يعمله ويحصل الأجر والثواب لمن لم يعمل وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُ ٨ [الزلزلة: 7-8]، ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا [آل‌عمران: 30]، ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَ [غافر: 17]، ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 70]، ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٥ [آل‌عمران: 25]، ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]، ﴿يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١١١ [النحل: 111] ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدۡعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٨ هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٩ [الجاثية: 28-29] ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا [الكهف: 49] ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17] وقال: ﴿ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ [النمل: 90]، وفي الآية الأخرى: ﴿هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ [يونس: 52]، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286]، ﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 38-41]، إلى غير ذلك من الآيات المحكمـات الدالة على أن كل إنسان سيجزى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر: ﴿يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الأنفطار: 19]، وفي الصحيح: «تُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا»[72]. «يَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ»[73]، وفي الحديث الثاني: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»[74]، والله يقول عند عرض صحائف الأعمال: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[75]، فهذه الأدلة الشرعية هي حجة الله على جميع عباده، بخلاف رأي العالم، فإنه يخطئ ويصيب، ولأن تطرق الخطأ إلى بعض آراء العلماء يكثر، بخلاف تطرقها إلى مثل هذه الأدلة الشرعية.
وإذا البينات لم تغن شيئًا
فالتماس الهدى بهن عناء
ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن أصحابنا - رحمهم الله- قالوا في كتبهم المختصرة والمطوّلة: وأي قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، ومثلوا بالصلاة والصيام والصدقة والحج والأضحية.

فالجواب: إننا بسطنا القول في الرسالة عن هذه القاعدة وبيّنا بأنها من كلام بعض الأصحاب وليست من نصوص السنة والكتاب، فهي قاعدة وضعية اصطلاحية وليست شرعية، ومن المعلوم أن أقاويل الرجال يستدل لها ولا يستدل بها، وأول من نسب إليه هذه القاعدة هو الموفق بن قدامة - رحمه الله- ذكرها في كتاب المغني، بناء على توجيه القول منه بجواز إهداء ثواب القراءة إلى الميت، فأخذها الأصحاب عنه فاشتهرت من بينهم وانتشرت في كتبهم، وتوسعوا فيها حتى قالوا بجواز إهداء صلاة الفرض، كما ذكره صاحب الإقناع، وكذا قوله بجواز الأضحية عن الميت الذي هو موضع النزاع، وقد قلنا في الرسالة بأنه ليس كل ما يكتبه العالم يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، وهذه المسألة تعبدية يجب لها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة، والأضحية عن الميت ليس فيها نص ثابت عن رسول الله، لا من فعله ولا من قوله ولا إقراره، ولم يكن معروفًا عن الصحابة ولا السلف ولا يمكن نقله عن أحد منهم مع شدة حرصهم على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار وأرشد الأولاد إلى الصدقة والحج والصيام، ولو كان ثواب الأضحية يصل إلى موتاهم لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه؛ لأنهم أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه كما قاله ابن مسعود في وصفهم.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن النصوص تتظاهر على وصول ثواب الأعمال إلى الميت، إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبته ماله في حياته، وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول الحج المركب بين المالية والبدنية.

فالجواب: أما قوله بقياس العبادات التي هي من عند الله وأمرها إلى الله، على هبة المال الذي يملكه صاحبه في الدنيا ويتصرّف فيه كيف يشاء، من بيع وعطاء، فإنه قياس مع الفارق حتى ولو قال به من قال؛ فإن الآيات المثبتة للجزاء على الحسنات والسيئات تبطل دعوى ملكية الإنسان لثواب عباداته؛ لأنه عبد لله وأعماله مملوكة لله، وليس من شأنه أن يتصرف في أعماله بهبتها لمن لا يعملها، لكون الجزاء على الأعمال ليس مملوكا للعامل، وإنما هو فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده والناس منهم المقبول عمله ومنهم المردود، ومن نوقش الحساب يهلك؛ لأن الله سبحانه إذا بسط عدله على عبده وحاسبه على حسناته وسيئاته، لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبده، لم يبق له سيئة، والنبي ﷺ قال: «ما منكم أحد يدخل الجنة بِعَمَلِهِ»،قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِىَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَته»[76]، ولو جاز هبة الأعمال قياسًا على هبة المال لجاز بيعها، إذ الهبة نوع من البيع، فالفرق بين هبة المال وبين هبة الأعمال كالفرق بين الدنيا والآخرة وكالفرق بين العبادات والعادات، وبهذا يتبين بطلان قوله: إن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لم يمنع منه. لأنه ليس للعامل حق ثابت على الله، كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب
كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
وأما قوله: إنه نبّه بوصول الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، فهذا كله بناء منه على ما وهى أصله ولم يصح سنده؛ فإن الأمر بالصدقة وبالصوم وبالحج وقع من النبي ﷺ بسؤال من الأولاد عن واجبات آبائهم، فأذن لهم بأن يقضوا دين الله عنهم، كما يقضون ديون الناس، وأن يتصدقوا عنهم، فهي ليست كإهداء ثواب الأضحية التي ليست بمفروضة على الأحياء ولا مشروعة عن الأموات ولا دليل على وصول ثواب الصوم مطلقًا من كل من يصوم عن الميت، حتى يقاس عليه غيره، وفي كتب الفقهاء من الحنابلة المختصرة والمطوّلة أن من مات وعليه صوم، فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولم يقولوا: يصام عنه، وهذا هو الظاهر من مذاهب الأئمة الأربعة، مستدلين عليه بما روى النسائي بسند صحيح عن ابن عباس، قال: لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد، وروي هذا القول عن ابن عمر وعائشة؛ لأن هذا هو الأصل من قواعد الشريعة إلا ما استثني بالنص من صيام الأولاد أو حجهم أو صدقتهم عن والديهم، لا سيما إذا كان ذلك حقًّا ثابتًا بأصل الشرع أو بالنذر، كما كانت الحال في الوقائع التي أفتى النبي فيها أولئك الأولاد. ولا يقاس عمل غير الولد على الولد، لمخالفته النص القطعي فهو قياس مع الفارق، فمتى كان الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة يمنعون قضاء الصوم الواجب على الميت بالشرع فكيف يقال بمشروعية صوم النفل عنه، فالقائل بهذا يعد من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه، إذ لو كان الإذن بالصيام عامة لكثر عمل الصحابة به حينئذ، بحيث يروى مستفيضًا أو متواترًا عنهم، لأنه من رغائب الأعمال التي يحرص الناس على مثلها، والله أعلم. وأما الأضحية عن الميت، فإنها أبعد من هذا كله عن مقاصد الشرع في مشروعية الأضحية فإنها إنما شرعت في حق الحي إشهارًا لشرف عيد الإسلام، وشكرًا لله على بلوغه والتوسعة على الأهل فيه، ولتكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهم من القرابين، أشبه صلاة العيد، قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، فالمخاطبون بالأمر بصلاة العيد هم المخاطبون بالأمر بالأضحية والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

ثبت أن النبي ﷺ ذبح كبشًا وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ»[77]، فأهدى ثواب الكبش لنفسه وآله الحي منهم والميت.

فالجواب: إن هذا الحديث صحيح ثابت قد ورد من طرق متعددة، ورواه عدد من الصحابة، فنحن نؤمن به وندعو إلى العمل بموجبه، وقد استدل به الصحابة وكثير من العلماء على جواز اشتراك أهل البيت في ذبيحة واحدة، ولو كانوا مائة أو أكثر، وقد عمل به الصحابة، كما قال عطاء: قلت لأبي أيوب: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله؟ قال: كان الرجل منا يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويتصدقون. والمراد بأهل بيته هم الأحياء الموجودون معه والمخاطبون بقول النبي ﷺ فيما رواه مسلم عن أم سلمة، قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أو يضحى عنه، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْر فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا»، والكلام يحمل على المتبادر إلى الأذهان وإلى ما سبق إليه فهم الإنسان، فالصحابة لا يعني أحدهم بأضحية عنه وعن أهل بيته من مات له، لأن الفعل لا يمت للأموات بصلة، لا بطريق المنطوق ولا المفهوم، كما أن أحدنا إذا ضحى عن نفسه وأهله لا يعني بذلك من مات له، ثم إن إجزاء الأضحية عن كافة أهل البيت ولو كثر عددهم هي من محاسن الشريعة، فإن الله بعث نبيّه بشرع كامل وإحسان تام عام، ووصفه بأنه ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [التوبة: 128] فمن رأفته ورحمته أن شرع لأمته جواز اشتراك أهل البيت ولو كانوا مائة أو أكثر في أضحية واحدة ولم يجعلها واجبة على كل فرد كوجوب الفطرة؛ لأن هذا يقتضي التوسع في إتلاف الحيوان المحترم، ويجحف بسيد أهل البيت ومن تلزمه مؤنتهم، ولكون الحيوانات من الإبل والبقر والغنم، قد تعز وترتفع أثمانها، كما يوجد في بعض الأزمان وفي بعض البلدان، فيشق ذاك على الناس، فاقتضت الشريعة التخفيف على الناس، وذلك باكتفاء الأضحية الواحدة عن كافة أهل البيت، بخلاف الفطرة، فإنها تجب على كل فرد بعينه، ويجب على الشخص فطرة سائر من يمونهم من زوجاته وأولاده، لأنها قدر يسير، أي صاع من الطعام لا يجحف بأحد في كل زمان ومكان، وتسقط عن المعسر الذي لا يجد ما يزيد على مؤنته ومؤنة عياله يوم العيد وليلته، كما أنها لا تشرع عن الأموات، وهذا كله من محاسن الشريعة وأسرار حكمها، ثم إن هذه الأضحية وقعت بطريق الأصالة عن النبي ﷺ وإنما أشرك أهله معه في ثوابها والاشتراك في الثواب موسع فيه ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، كأن يضحي لأبيه الميت أو لابنه أو أن يوصي بأضحية تذبح له بعد موته ويوقف وقفًا في أضحية ونحو ذلك، وأنه لم يثبت من فعل النبي ولا من فعل أصحابه، ومثله الاستدلال بأضحية النبي ﷺ عن أمته، حيث استظهر منه بعض الناس جواز الأضحية عن الأموات، لكون أمته منهم الأحياء منهم والأموات، وهذا الاحتجاج يعد بعيدًا عن المعنى المراد ولا يمكن حمل اللفظ والفعل عليه إلا بتكلف صرفه عن المعنى المراد.

وقد أجمع العلماء على أن أضحيته عن أمته تشمل جميع الأحياء والأموات، ومن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وتشمل جميع المعدومين ممن سيوجد من أمته إلى يوم القيامة، وهذه الأوصاف لا تنطبق على أضحية غيره فلا يجوز لشخص أن يضحي عن إنسان حي ليس من أهل بيته بغير إذنه ولا يضحي عن الحمل في البطن ولا عن المعدوم ممن سيوجد له، كما نص على ذلك سائر الفقهاء من المذاهب الأربعة، وقد استظهر العلماء من أضحيته لأمته سقوط الوجوب عن سائر الأمة، وهذه المميزات تثبت كونها من خصائصه، كما نص على ذلك بعض أهل الحديث، ولا يقاس عليها أضحية غيره، ومن قال إنها للتشريع يلزمه أن يقول باستحباب الأضحية عن جميع أمة محمد، كما فعل رسول الله، إذ هذا أقرب للأسوة به ولم نسمع عن أحد من الصحابة أو التابعين ولا عن أحد من علماء المسلمين القول به، ومع عدمه يسقط الاستدلال بموجبه ولا يجوز لأحد أن يتكلف صرف هذا الحديث عن غير المعنى المراد منه لتستقيم بذلك حجته.

لهذا يجب على المؤمن أن يحاسب نفسه هل يرى أنه أعلم من الصحابة بمراد رسول الله من أضحيته لأمته، أو أنه أحرص على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، حيث لم يثبت عن أحد منهم أنه ضحى لميته، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، أفيقال: إنها سنة فجهلوها، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها. كل هذا من لوازم قول المحتج به، ولا يمكن نسبته إليهم، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، وهذه الأضحية قد وقعت عن الرسول بطريق الأصالة، وإنما أشرك أمته معه في ثوابها والاشتراك في الثواب موسع فيه، كما دلت النصوص على إجزاء الشاة عن الرجل وأهل بيته وخدمه، ولو كانوا مائة أو أكثر، ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، وأنه لم يثبت عن رسول الله فعله ولا عن أحد من الصحابة، وقد قلنا في الرسالة: إن الله سبحانه قد أثبت لنبيه الولاية على أمته، فقال: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ [الأحزاب: 6]، وفي الحديث: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»[78]، وهذه الولاية هي أحق وأخص من ولاية الرجل على عياله وأهل بيته، بل وعلى نفسه، فمن ولايته أضحيته لأمته لكل من شهد لله بالتوحيد وشهد لنبيه بالرسالة، كما أنه سيشفع لكل من لم يشرك بالله من أمته، فلا يقاس عليها أضحية غيره والحالة هذه، وقد عقدت فصلاً في الرسالة، تضمن أقضية رسول الله ﷺ في أفضل ما يفعله الحي لميته ولنفسه بعد موته فليراجع، فإن فيه الكفاية والمقنع، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 18/4/1391هـ.

[57] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي أمامة. [58] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [59] أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس. [60] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [61] متفق عليه من حديث عائشة. [62] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [63] متفق عليه من حديث ابن عباس. [64] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس. [65] متفق عليه من حديث ابن عباس. [66] ذكره البيهقي تعليقًا في معرفة السنن والآثار من قول الشافعي. [67] أخرجه أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [68] متفق عليه من حديث عائشة. [69] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [70] متفق عليه من حديث عمران بن الحصين. [71] أخرجه مسلم من حديث ثوبان. [72] متفق عليه من حديث عائشة. [73] متفق عليه من حديث عدي بن حاتم. [74] أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. [75] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [76] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [77] أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع. [78] أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد من حديث جابر.

إعادة الحديث في البحث الجاري مع الشيخ إسماعيل الأنصاري فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وأستعين بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد:

فقد نشرت جريدة الدعوة بالرياض، في عددها المؤرخ 4 ذي الحجة عام 1390هـ، منشورًا صادرًا من الشيخ إسماعيل الأنصاري في خصوص المدارك على كتابنا الدلائل العقلية والنقلية.

قال الشيخ إسماعيل الأنصاري - عفا الله عنه-:

وهذا أوان الشروع في المقصود (ص31/32)، حيث يقول المؤلف: إن الأضحية عن الميت لم يقع لها ذكر في كتب الفقهاء المتقدمين من الحنابلة، لا في المغني على سعته ولا في الكافي ولا المقنع ولا المحرر ولا في الشرح الكبير ولا الخرقي ولا في المذهب الأحمد ولا الإنصاف ولا النظم ولا المنتقى في أحاديث الأحكام للمجد ولا الإلمام في أحاديث الأحكام ولا في إعلام الموقعين ولا في زاد المعاد.. إلخ. قال: فتركهم لذكرها ينبئ عن عدم عملهم بها في زمنهم أو على عدم مشروعيتها عندهم. وادعى المؤلف أن هذا النفي نتيجة التتبع والاستقراء.

وجوابه: إن الإمام أبا داود والذي بحث هذه المسألة في كتابه السنن، كان قبل الذين ذكرهم المؤلف، وهو كما أنه من أئمة الحديث يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، ومسائله التي رواها عنه أشهر من نار على علم، ونص سنن أبي داود: باب الأضحية عن الميت، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش قال: رأيت عليًّا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه، فلا أزال أضحي عنه أبدًا. رواه أبو داود، وقد قال في سننه: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أ ذكر فيه شيئًا فهو صالح وبعضها أصح من بعض، نقل ذلك عنه غير واحد منهم ابن الصلاح في مقدمته. اهـ.

فالجواب: إن الشيخ إسماعيل - عفا الله عنه- يتجهم ويتجاهل ما كان ظاهرًا جليًّا، يوهم الناس أنه قد وجد ما ينقض قولي به، حيث أورد ما ذكره أبو داود في سننه، حيث قال: باب الأضحية عن الميت، ثم ساق حديث حنش الصنعاني عن علي، أن رسول الله أمره أن يضحي عنه، كأنه لم يقع له ذكر في كتابي، وتجاهل بأنني قد سبقته إلى سياق هذا الحديث بجملته وترجمته حيث ذكرت في الرسالة، بأن أسبق من رأيناه طرق موضوع الأضحية عن الميت هو أبو داود في سننه، ثم ذكرت حديث حنش عن علي بتمامه ولم أستحل كتمانه، ثم ذكرت أيضًا رواية الترمذي له، حيث قال: إن الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أي إلا من رواية حنش ثم أعقبه بما يدل على ضعفه. فقال: قال عبد الله بن المبارك: أرى أن يتصدق عن الميت بثمن الأضحية ولا يضحي عنه، فإن ضحى له فلا يأكل منها شيئًا. والحاصل أن الشيخ إسماعيل لم يأت بحرف واحد ينقض به ما قلت، وإنما غايته أنه متعنت يورد ما لا حجة له فيه ليروج به على الأذهان وعلى ضعفة الأفهام، ومناظر المتعنت تعبان، ومناظر المنصف مستريح.

وأما قوله: إن الإمام أبا داود يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد، وإن مسائله التي رواها عن الإمام أحمد أشهر من نار على علم.

فالجواب: إن أبا داود، وإن كان من أصحاب الإمام أحمد، فإنه معدود من المحدثين؛ لأنه أحد الستة الذين يكثر روايتهم للحديث وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، ومسائله التي سأل عنها الإمام أحمد لا تخرجه عن عداد المحدثين، إذ كل محدث يكون معه من الفقه بحسبه، لكون الفقه مستنبطًا من الكتاب والسنة، كما في البخاري عن معاوية أن النبي ﷺ قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، يقال: فقه (بكسر القاف) إذا فهم، وفقه (بضم القاف) بوزن ظرف، إذا كان الفقه خلقًا وسجية له وانطبعت فيه أوصافه وهو المراد بقولي: أنها لم تكن معروفة عند فقهاء الحنابلة المتقدمين، ولم يأت هذا الناقد بما يناقض ما قلت، ولو وجد شيئًا لذكره، فنحن على ما قلنا حتى يقوم دليل. على أن أبا داود في مسائله التي رواها عن الإمام أحمد هو السائل لا المسؤول، ومثل السؤال عن هذه المسائل من كل ما يتعلق بالأحكام وأمور الحلال والحرام يجوز أن يقع من المحدث ومن الفقيه ومن العامي، يقول الله تعالى: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ [النحل: 43-44]، وأما قوله: إن أبا داود قال في سننه: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح.

فالجواب: إن العلماء من المحققين قد طرقوا موضوع ما سكت عنه أبو داود، وقرروا بأنه لا يلزم أن يكون كل ما سكت عنه صالحًا للاستناد والاعتماد، بل قد يكون صحيحًا ويكون حسنًا ويكون ضعيفًا، على حسب ما يقتضيه من التصحيح والتضعيف، قال الحافظ ابن حجر صاحب فتح الباري: إن قول أبي داود: وما فيه وهن شديد بيّنته. يفهم منه أن ما يكون فيه وهن غير شديد لم يبيّنه، ومن هنا يظهر لك طريق كل من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء ويسكت عليها، كابن لهيعة وصالح مولى التؤمة وموسى بن وردان، فلا ينبغي للناقد أن يتابعه في الاحتجاج بأحاديثهم بمجرد سكوته، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه، لاسيما إذا كان مخالفًا لرواية من هو أوثق منه، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج أحاديث من هو أضعف من هؤلاء بكثير، كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني، وكذا ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين الضعفاء، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم على أحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود عنها؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي، وتارة يكون ذهولاً منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته، كأبي الحديد ويحيى بن العلاء، وتارة يكون لاختلاف الرواة عنه وهو الأكثر، ثم قال: والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس، هذا إن حملنا قوله: وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. على أن مراده صالح للحجية وهو الظاهر، وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاح للحجية والاستشهاد والمتابعة، فلا يلزم أن يحتج بالضعيف». اهـ. من المنهل العذب المورود على سنن أبي داود ج1 ص7.

ثم قال الشيخ إسماعيل:

إنه يتبين أن حديث علي في نظر أولئك الأجلة الحفاظ: أبي داود والترمذي والحاكم والذهبي، ليس كما هو في نظر الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، فعسى ألَّا ينالهم شيء من مهاجمته لأهل العلم في هذه الرسالة.

فالجواب: إن هذا الناقد في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته يوهم الناس أن أبا داود والترمذي والذهبي، قد حكموا بصحة هذا الحديث والعمل به، استدلالاً بأن أبا داود ترجم له في سننه وساق الحديث بجملته، ومثله الترمذي في جامعه، وهذا الاحتجاج غير صحيح وليس من اصطلاح المحدثين، فإن أبا داود يترجم دائمًا للأحاديث التي ليست بصحيحة عنده وليست على مذهبه، وإنما يترجم لها حسبما بلغه منها وبعده يتعقبها أهل النقد بالتمحيص والتصحيح، فيقولون: رواه أبو داود بسند صحيح ورواه أبو داود بسند حسن ورواه أبو داود بسند ضعيف، فلا يدل كل حديث ساقه في سننه وترجم له أنه قد ارتضاه صحة وعملاً ومذهبًا، من ذلك قوله: باب الوضوء بالنبيذ، ثم قال: حدثنا هناد وسليمان بن داود المعتكي قالا: «حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِى فَزَارَةَ عَنْ أَبِى زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ «مَا فِى إِدَاوَتِكَ». قَالَ نَبِيذٌ. قَالَ «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ»» زاد الترمذي: «فدعا به فتوضأ منه». فهذا الحديث ضعيف جدًّا عند أهل الحديث؛ لأن راويه أبا زيد مجهول، وابن مسعود ينكر أن يكون مع رسول الله ليلة الجن أحد، وأبو داود لا يرى العمل به وترجم له وساقه بسنده في سننه، وقد تقدم كلام الحافظ ابن حجر، حيث قال: إن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء ويسكت عنها، فلا ينبغي للناقد أن يتابعه على الاحتجاج بها، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به؟ أو هو غريب فيتوقف فيه؟.

وفي هذا البيان الرد على من جعل سكوت أبي داود حكمًا قطعيًّا على صحة ما سكت عنه، ومن واجب المخلص في قول الحق ونصيحة الخلق ألَّا يحكم على الحديث بالصحة وهو يعلم أنه ضعيف، ولا بالضعيف وهو يعلم أنه صحيح، تدليسًا وتلبيسًا على أفهام الناس. وأما الترمذي، فقد روى هذا الحديث وقال: غريب لا نعرفه إلا من رواية شريك، فحكم عليه بالغرابة لكونه لم يروه عن علي أحد غير حنش بن المعتمر الصنعاني، وأكد غرابته بقوله: لا نعرفه إلا من حديث شريك. والغريب هو ما يرويه واحد وهو ضد المعروف المشهور، لهذا يغلب على الغريب الضعف في أكثر أحواله، كما قال في ألفية الحديث للسيوطي: والغالب الضعف على الغريب. يقال: حديث غريب؛ لانفراد راويه عن غيره. قال في شرح بلوغ الوطر من مصطلح أهل الأثر (ص13): واعلم أن وصف الحديث بالمشهور والعزيز والغريب لا ينافي الصحة ولا الضعف، بل قد يكون كل من الثلاثة صحيحًا، وقد يكون ضعيفًا، ولكن الضعف في الغريب أكثر، ومن ثم كره جمع من الأئمة تتبع الأحاديث الغريبة، فقد قال مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير وغالبها عن الضعفاء. اهـ. ومتى كان الحديث غريبًا وراويه مجروحًا فهو متروك لا يحتج به عند المحدثين، وهذا الحديث غريب في سنده وغريب في متنه وراويه حنش الصنعاني مجروح لا يحتج بحديثه عند المحدثين كما سيأتي الكلام عليه في محله، وقد قال أبو بكر بن العربي بعد تخريجه لحديث علي في شرحه على الترمذي، قال: وبالجملة فهذا حديث مجهول. وقال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: إني لم أجد في التضحية عن الميت منفردًا حديثًا صحيحًا، وأما حديث علي هذا فضعيف كما عرفت. وأما نسبة تصحيح هذا الحديث إلى الذهبي، فإنه من جملة ما نسبه إلى أبي داود والترمذي ونحن نطالبه إن كان صادقًا بأن يحيلنا على الكتاب الذي حكم فيه الذهبي بصحة هذا الحديث حتى يبرأ من عهدة نسبته إليه، كما قيل:
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
قال الشيخ إسماعيل:

إن الحاكم في المستدرك، قد جمع بين الاحتجاج بالحديث وبين تصحيحه، قال في ج4- ص229: وقد رويت أخبار في الأضحية عن الأموات، فمنها ما حدثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أنبأنا بشر بن موسى الأسدي، وعبد العزيز بن علي البغوي، قالا: حدثنا محمد بن سعد الأصبهاني، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش، قال: «ضحى علي بكبشين كبش عن النبي وكبش عن نفسه، وقال: أمرني رسول الله أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه أبدًاك».رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

فالجواب: إن العلماء المحققين من أهل الحديث يعرفون حالة الحاكم وتسامحه في سلوكه في مستدركه، وأنه يصحح كثيرًا من الأحاديث الساقطة والموضوعة ويكثر من ذلك حتى كثر الكلام فيه بسببها وحتى حمله بعض الناس على التشيع، وأحسن ما قيل في الاعتذار عنه أنه أصيب بغفلة في آخر عمره، فكان يعتمد في تصحيحه على رواية غير الثقة، فتصحيحه لحديث حنش عن علي هو من قبيل تصحيحه لحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها». قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ». قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فاستدرك على البخاري ومسلم عدم تخريجهما لهذا الحديث الذي أجمع حفّاظ السنة وأئمة الحديث على أنه موضوع أي مكذوب على رسول الله، وكذلك حديث حنش عن علي، فقد تكلم أئمة الحديث على حنش وأنه ينفرد عن علي بما لا يشبه حديث الثقات فصاروا لا يحتجون بحديثه كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله، وهو عراقي ومعلوم غلو أهل العراق في علي.

واعلم أن أئمة أهل الحديث وجهابذة النقاد قد تصدوا لتمحيص الأحاديث وتصحيحها، وبيان حالة رواتها وما يتصفون به من الجرح والتعديل، نصيحة منهم للدين وحماية له عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتدليس الكذابين، فيذكرون الراوي بصفته ويقولون: فلان كذاب، وفلان مدلس، وفلان سيئ الحفظ، وفلان يكثر من ذكر الأحاديث الموضوعة أو يتساهل في تصحيحها. إلى غير ذلك مما تقتضيه صفة الراوي للتنبيه على حالته وعدم الاغترار بروايته، ولا يعدونه من الطعن المذموم ولا الغيبة المحرّمة، بل هو النصيحة الواجبة، فإن الدين النصيحة لله ولكتابه ولدينه وعباده المؤمنين، ويستدلون على ذلك بقول النبي ﷺ: «ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ»[79]، وبقوله: «أَظُنّ فُلَانًا وَفُلَانًا لا يَعْرِفَانِ مِنْ دِيننَا شَيْئًا»[80]، وبقوله في صاحب الشجة: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ»[81] إلى غير ذلك، ونقل صاحب الآداب الشرعية عن شرح مسلم على قوله ﷺ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» قال: الستر المندوب إليه هنا هو الستر على ذوي الهيئات ومن لا يعرف بالأذى والفساد وانتهاك الحرمات، فينبغي الستر عليهم لحديث: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إلَّا الْحُدُودَ»[82]، قال: فأما من عرف بالأذى والفساد وانتهاك الحرمات، فلا ينبغي التستر عليهم، بل ينبغي رفع أمرهم، ومثله جرح الرواة والشهود والأمناء على الأوقاف واليتامى وغيرهم، فلا ينبغي الستر عليهم، بل ينبغي رفع أمرهم لاتقاء ضررهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة.اهـ. وبهذا يتضح بطلان ما يتوهمه هذا الناقد، حيث جعل من يتكلم في الرواة وأقوال العلماء بما يقتضيه من التصحيح والتضعيف أنه مهاجمة للعلماء، وذلك حينما قلت: إن حديث حنش عن علي في أضحيته للنبي ﷺ ضعيف جدًّا لا يحتج به، وأنه من قبيل ما يتناقله الفقهاء من الأحاديث الضعيفة، لظنهم أنه صحيح؛ لأن غالب الفقهاء لا يعرفون الأحاديث الصحيحة من الضعيفة معرفة صحيحة، فينشأ أحدهم على قول لا يعرف غيره ولم يقف على طعن أهل الحديث في ضعفه، فيظنه صحيحًا ويبني على ظنه جواز العمل به والحكم بموجبه، فهذا حاصل ما نقمني عليه، حيث أفحش في التعبير عني بدعوى أنني أهاجم العلماء، فكل ما ذكرت فإنه من الأمر الواقع الذي لا أعتذر عنه، من ذلك قولهم: ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث. فإن هذه الفقرة بهذه الصفة تجدها في كل كتاب من كتب الحنابلة ينقلها بعضهم عن بعض مستدلين على ذلك بحديث: «لا يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ ولا الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» رواه أبو داود والنسائي، على أن الأمر الصحيح الثابت هو ما رواه مسلم عن ابن عباس: «أَنَّ رَسُول اللَّه كَانَ يَغْتَسِل بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ». ولأصحاب السنن: «اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة، فجاء النبي ليغتسل منها، فقالت له: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ»، أفيكون التنبيه على مثل هذا القول الضعيف الذي يتناقله الفقهاء من كتاب إلى آخر أنه من التهجم على العلماء؟! بل هو من باب النصيحة لله ولعباد الله، ومن الشهادة بالحق التي أوجبها الله على عباده بقوله:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ [النساء: 135] وإنما يتوجه الملام على من يحاول رفع الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى درجة الصحة في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، كحديث حنش عن علي، أن النبي وصاه أن يضحي عنه، وقد تكلم علماء الحديث في حنش وأنه يروي أحاديث عن علي لا تشبه أحاديث الثقات، كما سبق الكلام عليه، ويدل على ضعفه كون الصحابة لم يثبت عن أحد العمل به، أفيكون حنش الصنعاني أعرف منهم بحديث رسول الله، وكذا قولهم: لا تقصر الصلاة في أقل من ستة عشر فرسخًا. مستدلين عليه بحديث: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ»[83]، وكذا قولهم في اشتراط انعقاد الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها، مستدلين عليه بحديث: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً»[84]، فهذه الأحاديث وما بمعناها تجدها دائرة بين الفقهاء، تذكر في كل كتاب من الفقه، على أن الراجح خلافها وما من أحد من العلماء إلا ويتكلم في مثل هذه الأحاديث أو الأقوال المرجوحة عند مناسبة الكلام فيها.

قال الخطابي في معالم السنن (ج1- ص7)، قال: إن العلماء على طبقتين: أهل حديث، وأهل فقه. قال: فأما طبقة أهل الفقه، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم، إذا وافق مذهبهم الذي ينتحلونه أو وافق رأيهم الذي يعتقدون به، وقد اصطلحوا على قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم بغير ثبت فيه أو يقين، فكان ذلك ضلة في الرأي وغبنًا فيه. انتهى. يؤكده أن الفقيه في اصطلاحهم لا يطلب منه الدليل. وأما القول مني: بأن حديث حنش ضعيف، فإنني لم أقل ذلك بمجرد الرأي من نفسي، وإنما قلته بما ظهر لي من أقوال أئمة الحديث الذين هم بمثابة الصاغة للرواة، يميزون بين الصحيح والسقيم وهذه نصوصهم معزوة إلى كتبهم:

1- قال البخاري إمام المحدثين في التاريخ الكبير (ص99) القسم الأول من الجزء الثاني (م ج 3)، قال: حنش بن المعتمر الصنعاني وقال بعضهم: حنش بن ربيعة، سمع عليًّا وروى عنه سماك والحكم بن عتيبة والكوفيون يتكلمون في حديثه.

2- وقال ابن حبان البستي في كتاب المجروحين له (ص267) قال: حنش بن المعتمر، والذي يقال له: حنش بن ربيعة الكناني والمعتمر كان جده، يروي عن علي بن أبي طالب وروى عنه الحكم وسماك: كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج به.

3- وقال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (ج4 - ص95) قال: حنش تكلم فيه غير واحد.

4- وقال الحافظ ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل (ج ا): من القسم الثاني (ص291) قال: حنش بن المعتمر الكناني، ويقال حنش بن ربيعة، روى عن علي رضي الله عنه وروى عنه أبو إسحاق الهمذاني والحكم بن عتيبة وسماك، سمعت أبي يقول: أنبأنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال علي بن المديني: حنش بن ربيعة الذي روى عنه الحكم لا نعرفه. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: حنش بن المعتمر هو عندي صالح، قلت: أيحتج بحديثه؟ قال: ليس أراهم يحتجون بحديثه.

5- وقال في التلخيص الحبير (ص226): قال في علوم الحديث: تفرّد بحديث حنش عن علي أهل الكوفة وفي إسناده حنش بن ربيعة وهو مختلف فيه.

6- وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في عارضة الأحوذي شرح الترمذي (ج6 - ص209) بعد تخريجه لحديث حنش عن علي، قال: وبالجملة فهذا حديث مجهول.

7- وقال في تحفة الأحوذي على الترمذي: إنه لم يثبت عن النبي ﷺ في الأضحية عن الميت منفردًا حديث صحيح وأما حديث علي فضعيف كما علمت.

فهذه شهادات أئمة الحديث الذين يتلقى عنهم الذهبي ومن في طبقته علم الحديث وأخبار المحدثين المجروحين منهم والمعدلين، وقد اتفقت كلمتهم على عدم الاحتجاج بحديث حنش، والقاعدة عند المحدثين أن بينة الجرح مقدمة على بيّنة التعديل، لأن معها مزيد علم قد يخفى على المعدلين وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من رواية شريك، والغريب إذا كان راويه مجروحًا فهو متروك لاجتماع أسباب الضعف فيه وهي غرابته وجرح راويه.

ومما يؤكد ضعف هذا الحديث وعدم صحته هو أن عليًّا رضي الله عنه مكث في المدينة بعد موت النبي ﷺ لكونه لم ينتقل إلى العراق إلا عام ست وثلاثين، وفي كل هذه السنين الطويلة لم يسمع أحد من أهل المدينة ولا من أهل بيت علي، كالحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وابن عباس، أن رسول الله أوصى عليًّا بذلك، وكذلك لم يسمعه أحد من الخلفاء ولا من الصحابة، ولو كان هذا الخبر صحيحًا وأن عليًّا رضي الله عنه لا يزال يضحي عن رسول الله كل سنة، إذًا لاشتهر خبره بين الصحابة، كما اشتهرت سائر السنن من الواجبات والمستحبات، وإذًا لشاركوه في هذه الفضيلة والعمل بهذه الوصية على العسر واليسر ولم يختص بها علي دونهم، إذ الرسول أعز عليهم من أنفسهم ومن والديهم وأولادهم، ومن المحال كون هذه الوصية صحيحة، ثم تخفى على سائر الصحابة ولا يعلم بها إلا حنش الصنعاني الكوفي، بل إن المحفوظ عن أهل بيت رسول الله، ومنهم علي والحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وابن عباس، أنهم كانوا يكتفون بأضحية رسول الله عنهم عن أضحيتهم لأنفسهم، كما أخبر بذلك أبو رافع وهو خادم رسول الله وأعرف الناس بعمل أهل بيته، فقد قال: أمرني رسول الله أن أشتري له كبشين أقرنين أملحين، فذبح أحدهما وقال: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وعن أمة محمد من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالثاني فيذبحه ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»، قال أبو رافع «فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ يُضَحِّى قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْغُرْمَ» [85]. وكان ابن عباس يعطي خادمه يوم العيد دراهم يشتري له بها لحمًا، ويقول له: من سألك فقل: هذه أضحية ابن عباس. ثم إن عليًّا رضي الله عنه يكذب بهذا الخبر، فقد تحدث أناس من شيعة العراق بأن رسول الله قد خص عليًّا باختصاصات ووصايا دون الناس، وأن عنده قرآنًا غير الذي بأيدي الناس. قال أبو جحيفة، قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألَّا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري، وقد وقع هذا السؤال من كثير من الصحابة، يسألون عليًّا، هل خصه رسول الله ﷺ بشيء من الوصايا دون الناس؟ فأنكر أن يكون رسول الله قد خصه بشيء دون الناس، ذكر ذلك شيخ الإسلام في المنهاج.

ثم يقال للشيخ إسماعيل:

متى كنت تجزم بصحة حديث حنش عن علي، أن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه وأنه لا يزال يضحي عن رسول الله أبدًا، فكيف ساغ لك في هذا المقام أن تنسى رسول الله، فلم تذكر في منشورك مشروعية الأضحية عنه -عليه الصلاة والسلام- وهو الأصل في نص الوصية وغيره الفرع، وكيف تجاوزت جنابه ونسيت فضيلته وأهملت ذكر وصيته وأخذت تدعو إلى مشروعية الأضحية عن أموات أمته بدون دليل يؤيده، مستدلًّا على ذلك بمفهوم حديث علي، مع إهمالك للعمل بمنطوقه، فكنت كمن يفضل القياس على النص ويهمل العين ويتبع الأثر، وحاسب نفسك كيف أعرض الصحابة والتابعون وسائر علماء المسلمين ومشايخ الدعوة وغيرهم عن العمل بهذه الوصية، حيث لم نسمع عن أحد منهم أنه ضحى لرسول الله، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، ولو كان هذا الحديث صحيحًا عندهم لبدؤوا بأضحية النبي قبل أضحيتهم لأنفسهم؛ لأنه أولى بكل مؤمن من نفسه وأهله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[86]، لأنها متى صحت هذه الوصية منه لعلي، اعتبرت وصية منه لجميع الناس؛ لأن الاعتبار بعموم لفظها لا بخصوص سببها، أفتقول: إنها سنّة فجهلها الصحابة والعلماء، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها. كل هذا يعد من غير الممكن، بل إن الأمر الصريح هو أن الحديث غير صحيح، ولا عمل عليه عندهم.

ثم قال الشيخ إسماعيل:

أطال مؤلف الرسالة -يعني الشيخ عبد الله بن زيد- في معاتبة شيخ الإسلام في تجويز الأضحية عن الميت واختياره لها على الصدقة بما يطول الكلام بسرده، وإنما نجيب عنه بما يلي: أما الأضحية عن الميت، قد سبق شيخ الإسلام إلى القول به أبو داود والترمذي وبعض مشايخه والحاكم وأبو الحسن العبادي وطائفة من أئمة الشافعية والقاضي أبو بكر بن العربي المالكي، فلم لا يعتبر ذلك على الأقل حاجزًا بينه وبين سبه شيخ الإسلام ابن تيمية، فيما سطره في رسالته من دعوى مخالفته النصوص. انتهى.

فالجواب: إن في هذا الكلام من التلبيس والكتمان والتدليس على الأذهان ما لا يخفى على ذوي العلم والعرفان، أما إلصاقه بنا نسبة السب منّا لشيخ الإسلام، فجوابنا: أن نقول ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، وإنني أعجب أشد العجب من تصريحه بهذا الإعلان، وللناس عيون وآذان وكتابنا منتشر في البلدان وبيد كل إنسان، فهو ينطق عنا بأوضح البيان، ولن يوجد فيه شيء من هذا البهتان ومن ادعى ما لا حقيقة له فضحته شواهد الامتحان.
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو فعله السوء أو من قلة الأدب
والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام واحترامًا له، ونفضل اختياراته في كثير من المسائل التي خالف فيها أئمة المذاهب، لرجحانها عندنا بالدليل، لكننا لا نعتقد فيه العصمة، فنحن نعترف ولا نعتذر من قول الحق والتصريح بالصدق، ودونك نص ما قلت في شيخ الإسلام الذي نعتقده دينًا ومذهبًا، بدون جفاء ولا تعصب، وقد سمّاه هذا الناقد مهاجمة وسبًّا ولم يخش في نشره عارًا ولا عيبًا.

قلت ما نصه: إن القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه هو مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- كما ذكره ابن اللحام في الاختيارات، وأشار إليه ابن مفلح في الفروع قائلا: واختار شيخنا تفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة، ولم أر من سبق شيخ الإسلام إلى القول بهذا من سائر علماء المذاهب، ولسنا نسقط رأيه في هذه القضية بنظريات اجتهادية من عندنا، وإنما نسقطه بما ظهر لنا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت لوقوع الفتوى فيها من رسول الله في عدة قضايا وبالأخص الأولاد، لكنه لا يستطيع أن يحكي الإجماع على وصول ثواب الأضحية إلى الميت، إذ الأضحية عن الميت مختلف فيها، وليس الأمر المتفق عليه كالمختلف فيه، فنحن إذ نرد كلامه في هذه المسألة، فإنما نرد كلامه بكلامه، فهو الذي عوّدنا معارضة كل قول يخالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع قطع النظر عن قائله، إذ الحق فوق قول كل أحد، وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه وفقهاؤه أو ما قاله الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه وفضله.

وقلت أيضًا: إن لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- الأجر الجزيل والثناء الجميل من الله ومن الناس حتى فيما أخطأ فيه ولا يكون المنتصر لمقالته بمنزلته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر حتى يتبين له الحق فيأخذ به، وقد أعرض العلماء عن بعض اختياراته لما تبين لهم أن الراجح خلافها وهو بنفسه لا يرضى أن يقلده أحد فيما أخطأ فيه، ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم. فهذا حاصل ما قلت في شيخ الإسلام، ولم أقل والحمد لله إلا خيرًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً، فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة. وهذا الناقد مع شدة حثه وبحثه، لم يجد عن أحد من العلماء ممن سبق شيخ الإسلام أنه قال بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه، لا من فقهاء الحنابلة ولا من غيرهم، ولو وجد شيئًا من ذلك لذكره، فنحن على ما قلنا حتى يقوم دليل، كما أنه لم يجد دليلاً واحدًا عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة، يثبت مشروعية الأضحية عن الميت بانفراده، لأن هذا هو موضع البحث ومثار النزاع، ﴿قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [النمل: 64].

وأما قوله: إن أبا داود والترمذي قد سبقا شيخ الإسلام إلى القول: بمشروعية الأضحية عن الميت يوهم الناس بهذا القول أن أبا داود والترمذي يقولان بصحة هذا الحديث، كما صرح به في آخر البحث، وقد سبق الكلام منا على الحديث وكلام أهل العلم فيه، وأنه ضعيف لا يحتج به، وبينا تخريج أبي داود والترمذي له، وأن ذلك لا يدل على الحكم منهما بصحته ولا العمل بموجبه، وكل قول مرهون بدليله وبيان صحيحه من عليله ولا يجوز إن أخلص في قوله ونصح في عمله أن يحكم على الحديث بالصحة، وهو يعلم أنه ضعيف ولا بالضعف وهو يعلم أنه صحيح؛ لأن هذا يعد من التلبيس للحق والغش للخلق، ولأن الدين النصيحة لله ولكتابه ورسوله وعباده المؤمنين. قال الشيخ إسماعيل:

وأما أبو بكر بن العربي، فقد قال في شرح الترمذي (ج6 - ص290) قال: اختلف أهل العلم: هل يضحى عن الميت؟ مع اتفاقهم أنه يتصدق عنه والضحية ضرب من الصدقة؛ لأنها عبادة مالية وليست كالصلاة والصيام، وقال عبد الله بن المبارك: أحب إليَّ أن يتصدق عنه بثمن الأضحية ولا يضحي فإن ضحى فلا يأكل منها شيئًا. قال ابن العربي: الصدقة والأضحية سواء في الأجر عن الميت. انتهى.

فالجواب: إن أبا بكر بن العربي لمّا طرق موضوع هذا الحديث قال: وبالجملة، فهذا حديث مجهول، فابتلع الشيخ إسماعيل هذه الجملة في بطنه حيث استباح كتمانها وعدم بيانها، وهي متصلة بالكلام الذي ذكره كاتصال السبابة بالوسطى، وكان من واجب أمانة البحث أن يأتي بها ثم يتعقبها بما يشاء من التصحيح أو التضعيف، حسبما تقتضيه أمانة التأليف، فإن العلم أمانة والكتمان خيانة، والله لا يصلح كيد الخائنين، ومتى ثبتت جهالة هذا الحديث سقط الاحتجاج به ولم يبق سوى رأي أبي بكر بن العربي والرأي يخطئ ويصيب وهو رجل ونحن رجال.

ثم إن قوله: إن الأضحية عن الميت ضرب من الصدقة ليس على إطلاقه لوقوع الفروق بين الصدقة والأضحية، فإن الصدقة لا تسمى أضحية، كما أن الأضحية لا تسمى صدقة، ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه، أما رأيت العلماء من المحدثين والفقهاء، إذا ذكروا باب الأضحية، فإنهم لم يذكروا معها الصدقة، وإذا ذكروا الصدقة فإنهم لم يذكروا معها الأضحية، ثم إن الأضحية لو أكلها كلها جازت وأجزأت، أما الصدقة فإنها لا تكون صدقة حتى تخرج من يد المتصدق إلى يد المستحق، ثم إن الأضحية لا يجوز فعلها إلا في الوقت المحدد لها وهو يوم العيد وأيام التشريق، أما الصدقة فتجوز كل وقت، ولما ذبح أبو بردة بن نيار - خال البراء بن عازب- أضحيته قبل صلاة العيد أمره النبي أن يذبح بدلها وقال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ يَوْمَنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا،وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَإِنَّمَا هيشاة لَحْم قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ» رواه البخاري، ففرّق النبي ﷺ في هذا الحديث بين الأضحية الشرعية وهي الموافقة لسنة رسول الله في الحد والحقيقة، وبين الذبيحة التي ذبحها صاحبها باسم الأضحية وهي مخالفة لسنة رسول الله وشرعه، وأنها تعتبر شاة لحم، سواء أكلها صاحبها أو تصدق بها، وليست من الأضحية في شيء، ولو كانت كل أضحية صدقة لما كلّف النبي ﷺ أبا بردة بإبدال أضحيته، إذ الصدقة تجوز كل وقت.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
ومثله صدقة الفطر، فإنها واجبة على كل فرد من الأحياء ولا تشرع في حق الأموات، وهي صدقة من الصدقات، فلو قال أحد بمشروعيتها عن الأموات لحكم العلماء ببطلان قوله، ونحن بكلامنا هذا نريد التفريق بين المشروع وغير المشروع، إذ كل مشروع ملتحق بالعبادات وما ليس بمشروع فإنه ملتحق بالعادات والمبتدعات، لكن لو ذبح شاة أو بقرة أو ناقة في يوم عيد النحر أو في غيره من الأيام، بقصد أن يتصدق بها عن والديه، فإن هذا جائز وعمل مشروع، لإجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة وبالخصوص من الولد لوالديه، كما لو اشترى لحمًا من الجزار فتصدق به عن والديه، فإن هذا جائز ومشروع، ثم إن أبا بكر بن العربي والعبادي ونحوهما القائلين: إن الضحية عن الميت ضرب من الصدقة عنه يعنون بذلك أن المضحي لميته يلزمه أن يتصدق بتلك الأضحية، لأنها لا تسمى صدقة حتى تخرج من يد المضحي إلى يد الفقير، لكونهم يرونها حقًّا للفقراء والمساكين، ولهذا قالوا: لا يجوز للمضحي أن يأكل منها، كما ذكره الترمذي في صحيحه عن عبد الله بن المبارك، وكذا قال صاحب غنية الألمعي: إنه إن خص الأضحية للأموات دون شركة الأحياء، فهي حق للمساكين، فبنوا القول بجواز الأضحية للميت على ذلك وجعلوها بمثابة الصدقة عنه، ولو علموا أن الذين يضحون للأموات أنهم يأكلون لحمها ومخها ولا يتصدقون إلا بالقدر اليسير منها لما قالوا بجواز ذلك.

وقد قلنا في الرسالة: إن الأضحية لخاصة الحي أفضل من التصدق بثمنها باتفاق الأئمة الأربعة على ذلك؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها وامتثالاً لطاعة الله ورسوله فيها، أما الأضحية عن الميت منفردًا بها، فإنه لم يثبت مشروعيتها، لا من الكتاب ولا من السنة. ولا عمل بها الصحابة، فكانت الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها.

فإن قيل: إن في الأضحية عن الميت تقربًا إلى الله، بإراقة دمها وصدقة بلحمها. قلنا: نحن لا نتكلم في اللحم المركوم بعد ذبحه، والذي لو لم يتصدق به أو يهدى منه لأنتن حتى يقذف به في بطون الكلاب، أو في محل غير مستطاب وليس التصدق بواجب، فلو أكلها كلها إلا قدر أوقية تصدق بها جاز، على أن الذين يضحون لموتاهم إنما يقصدون إهداء ثواب دمها، ثم يأكلون مخها ولحمها، وإن تصدقوا بشيء فبالنزر الحقير منها، فكيف تسمى صدقة وهم قد أكلوها في بطونهم، وهذا هو السبب الذي قال بعض الفقهاء: إنه متى ذبحها لميت لم يجز له أن يأكل منها، لاعتبار أنها حق للفقراء والمساكين.

يبقى الكلام مع ولاة الأوقاف والوصايا، والذي يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين أو الستين من الضحايا، يريد أن يجزرها في مقام واحد، كلها أضاحي عن الأموات، وعند الثاني والثالث مثل ذلك، وكذا المتبرعون لأمواتهم بحيث يموت الرجل العظيم من عالم أو حاكم أو تاجر، فينتدب كل واحد من أسرته بذبح أضحية له، بحيث يضحى له في يوم واحد بعشرين أو ثلاثين، لوازم هذا التصرف إتلاف المال وإزهاق أرواح الحيوان الذي يجب ألّا يسفك دمه إلا بحق، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإن كان هذا الذبح في مثل هذه الأغنام يقع بطريق شرعي فسبيل من هلك ومن قتل في حق، فالحق قتله، وإن كان ذبحها يقع بطريق غير شرعي، وأنه لم يثبت مثله عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة لا في تبرعاتهم ولا في أوقافهم ولا وصاياهم، وجب العدول عنها إلى الصدقة بثمنها المنصوص على فضلها ووصول نفعها، ولكونها أنفع للحي والميت، وأقرب إلى طاعة الله ورسوله.

والصرف في مثل هذا يعد من الإصلاح بالعدل الذي رفع الله الإثم عن فاعله، ويكفي من قول ابن العربي الذي جعله الناقد عمدة له في الاحتجاج به قوله: إن العلماء قد اختلفوا في الضحية عن الميت، مع اتفاقهم على أنه يتصدق عنه. فإن هذا الاتفاق الواقع من العلماء هو حقيقة ما ندعو إليه من تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية عنه، وقد سمينا كتابنا بالدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية، كما فصلنا القول في فضلها في الرسالة.

والحاصل أن قول ابن العربي ومثله قول العبادي: إن الأضحية عن الميت نوع من الصدقة، محمول على القول المشهور من أن المضحي لميته يلزمه أن يتصدق بأضحيته، ولا يجوز له الأكل منها، لكونها حقًّا للفقراء والمساكين، كما ذكره الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المبارك، وكما ذكره صاحب غنية الألمعي وغيره وهو الظاهر من مذهب الشافعية والأحناف، فبناء على ذلك قالوا: إن الأضحية نوع من الصدقة، لظنهم أن صاحبها يتصدق بها كلها ولا يأكل منها شيئًا، ولو علموا أن صاحبها يذبحها ثم يأكلها في بطنه، لتبدل رأيهم في القول فيها.

ثم إن قولهما بذلك هو رأي منهما لا رواية، ويقابل هذا الرأي منهما بقول الإمام مالك عالم المدينة، حيث قال: لا يعجبني أن يضحي عن أبويه الميتين، ويقابل بقول عبد الله بن المبارك، فيما رواه الترمذي عنه: أرى أن يتصدق عن الميت بثمن الأضحية ولا يضحى عنه، ويقابل أيضًا بقول صاحب مواهب الجليل في مختصر خليل، حيث قال: وكره فعل الأضحية عن ميت كالعتيرة، ويقابل أيضًا بقول صاحب الشرح الكبير للدردير، حيث قال: وإنما كره أن يضحى عن الميت، لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أحد من السلف، ويقابل أيضًا بقول ابن حجر الهيتمي، في تحفة المحتاج شرح المنهاج، حيث قال: ولا تقع أضحية عن ميت إن لم يوص بها، ويفرّق بينها وبين الصدقة، أن الأضحية تشبه الفداء عن النفس فتوقفت على الإذن ولا إذن لميت، بخلاف الصدقة، ويقابل أيضًا بقول الرافعي والبغوي: ولا تصح الأضحية عن الميت إن لم يوصِ بها، حكاه عنهما النووي في شرح المهذب، وهما شيخا مذهب الشافعية، كما أن الموفق والمجد هما شيخا مذهب الحنابلة، وقال صاحب العدة، من فقهاء الشافعية بمثل ما قاله البغوي والرافعي، ويقابل أيضًا بقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهو من علماء الدعوة: إن الأضحية عن الميت ليست معروفة عن السلف، ويقابل أيضًا بأن الظاهر من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف أنها لا تشرع الأضحية عن الأموات، كما ذكرنا مذاهبهم في الرسالة.

فهذه أقوال من ذكرنا من الفقهاء، سقناها للاعتضاد لا للاعتماد، وإلا فإن العمدة فيما قلنا ونقلنا يعود على عدم ثبات مشروعيتها عن النبي ﷺ أو عن أحد من الصحابة، حيث لم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه ضحى لأحد من أمواته، كما أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته على سبيل الانفراد، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، وهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وقد قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا الصحابة فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً، وعند هذا يجب وضع ميزان التعادل بين هذه الأقوال والأعمال وبين ما نسبه الناقد إلى ابن العربي والعبادي، ليعرف بها الراجح من المرجوح، كما قيل:
لم تعرف الوزن كفي بل غدت أذني
وزّانة ولبعض قول ميزان
ثم قال الشيخ إسماعيل:

وأما اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على التصدق عنه، فلنا أن نقول على سبيل الإجمال بما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين، حيث قال: لا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي يعلى. فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتى بها في الإسلام ويحكم بها الحكام، فالاختيارات لشيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها، هذا كلام ابن القيم وهو الإنصاف خلاف ما يوهمه صنيع مؤلف الرسالة من عدم إقامة الوزن لاختيارات شيخ الإسلام وقبول كلام الصنعاني والشوكاني، ممن يعتبرون ابن تيمية قدوة لهم.

فالجواب: أن نقول إن الشيخ إسماعيل قد أكثر في منشوره من الهذر والهذيان والتدليس والكتمان ونسبة السب لشيخ الإسلام ودعوى عدم إقامة الوزن منا لاختياراته في الأحكام، كل هذا قد استباحه في سبيل التلبيس على العوام وعلى ضعفة الأفهام، يوهم الناس أنه من المنتصرين لشيخ الإسلام وقد قيل: أحب الحديث أصدقه، وخير القول ما يصدقه العيان، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.
وإن أصدق بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أسفه الناس رأيًا وأسخفهم عقلاً لرجل يكابر في إنكار اليقينيات، ويجادل في جحود الحقائق الجليات، والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام، ومن المعظمين لاختياراته في الأحكام وليس من الأمر الحرام مخالفتنا لشيخ الإسلام في مثل هذه المسألة الفرعية التي لا إنكار في الخلاف في مثلها، إذ لم يقل أحد من العلماء بوجوب العمل باختياراته كلها بدون نظر ولا عرض على كتاب الله ولا سنة نبيه. واختياراته هي كما وصفها العلامة ابن القيم من أنها وجه في المذهب صالحة لأن يحكم بها الحكام، فنحن نثني عليها لإصابتها الحق والتسهيل على الخلق ونفضلها على اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب لرجحانها عندنا بالدليل، والوجه هو قول الأصحاب والرواية قول الإمام وهو من أفضل الأصحاب وأعلمهم، وقد جمع بين الرواية والدراية، وقد قال ابن القيم هذا الكلام في سبيل نصرته لشيخ الإسلام، حينما أفتى بجعل الطلاق بالثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة، وأن الحلف بالطلاق الثلاث متى حنث فيه يمين مكفرة وليس بطلاق، فعند هذا القول أنحى عليه علماء زمانه بالملام وتوجيه المذام، وأكثروا فيه الكلام وشكوه إلى الحكام وكفره من كفره منهم بحجة أنه خرق الإجماع العام وأباح للناس الفرج الحرام وهذه هي آخر المحن التي ابتلي بها، فعند ذلك قال العلامة ابن القيم: إن من له اطلاعًا وخبرة بأقوال العلماء يعلم أنه لم يزل في الإسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم لزوم الطلاق، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قضى بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالف له من الصحابة وكذلك التابعون ومن بعدهم ولم يزل من علماء الأئمة والفقهاء والمصنفين من يفتي بعدم لزوم الطلاق إذا حنث الحالف، قال: ولا يختلف عالمان متحليّان بالإنصاف أن الاختيارات لشيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب.. إلخ.

فهذا الكلام قاله على سبيل الاعتذار والانتصار منه لشيخ الإسلام، لمّا اشتد عليه بسببها الخصام وقد أحسن فيما قال، فإن شيخ الإسلام في ذلك على بيّنة من أمره من كتاب ربه وسنة نبيه، ولكن حسده قومه على ما آتاه الله من فضله، وبالخصوص حين رأوه مخالفًا لرأيهم وما عليه علماء مذهبهم، ومع هذا كله فما زالت فتواه تزداد نورًا وتتجدد ظهورًا، وعاد أمر معاديه بورًا ورأيهم ثبورًا، وهكذا الحق مع الباطل، فإن الله سبحانه قد ضمن للحق البقاء وحسن العقبى وأما الزبد فيذهب هباء، و صارت فتواه بجعل الثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة والحلف بالطلاق يمين مكفرة يحكم بها الآن الحكام في أكثر المحاكم الشرعية من سائر البلدان الإسلامية، والمقصود أن الفقهاء المحققين قد خالفوا المذهب نفسه في كثير من المسائل، لما ترجح لهم بمقتضى الدليل خلافه، فما بالك لمخالفتهم لما هو وجه في المذهب إذا تبين لهم رجحان مخالفته والله أعلم.

ثم قال الشيخ إسماعيل:

لقد وجدنا للمؤلف ما نصه: لقد أعرض العلماء عن العمل ببعض اختيارات شيخ الإسلام، لما تبين لهم أن الراجح خلافها. وفي هذه العبارة ما لا يخفى، فإن اختيارات شيخ الإسلام ليس فيها ما يصح القول بأنه قد رفضه جميع العلماء، ثم نطالب المؤلف بأن يذكر لنا عالما واحدًا رد على شيخ الإسلام في اختياراته، هذا كما شنع عليه المؤلف في رسالته.

فالجواب أن نقول: ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ الَّذِى لَا يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا سَمِعَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِياً فَقَالَ يَا رَاعِىَ اجْزُرْ لِى شَاةً مِنْ غَنَمِكَ. قَالَ اذْهَب فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ»، وهذا الناقد يتظاهر بصورة الدفع والدفاع عن العلماء الأعلام وعن شيخ الإسلام لمحاولة تعظيمه عند العوام أو عند ضعفة الأفهام، وليت دفاعه يقع بصريح الصدق في البيان، ولكنه بمجرد التدليس والكتمان والتلبيس على الأذهان، وإنكار الحقائق التي يصدقها الحس والوجدان، ومن ادعى ما لا حقيقة له فضحته شواهد الامتحان، وهذا الإمام الذهبي هو من أخلص الناس في محبة شيخ الإسلام ومن المناصرين له في السر والإعلان، وقد اعترف بأنه يخالف شيخ الإسلام في بعض الأحيان، دونك نص لفظه: قال الذهبي - رحمه الله- ما ملخصه: كان يقضى من شيخ الإسلام بالعجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل لها ورجح فما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الديانة ورد أقوال المخالفين، فكان لا يشق غباره فيها ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد، بل أكثر، وكان قوّالا بالحق لا يأخذه في الله لومة لائم، قال: ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه فقد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده، تعتريه حدة ولكن يقهرها بالحلم ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه إلى ربه وأنا لا اعتقد فيه العصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان مع سعة علمه وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تذرع بسببها عداوة في النفوس وإلا فلو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع، فإن كبار العلماء خاضعون لعلومه معترفون بندور خطئه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع لا يؤتى من سوء فهم، فإن له الذكاء المفرط ولا من قلة علم، فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسألة بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه وأجران على إصابته.اهـ. الدرر الكامنة: ج1- ص150/151.

فهذا الإمام الذهبي المعدود من أصفى الناس محبة له، وأشدهم احترامًا وحماية له، وقد أشار في كلامه بأنه يخالف شيخ الإسلام في بعض المسائل، ولن يقدح ذلك في صحة ولايته وصدق محبته.

وقد صفى التاريخ الصادق خلاصة محنة شيخ الإسلام مع خصومه فسجل التاريخ تسميته بشيخ الإسلام وبتقي الدين، أنطق الله ألسنة الناس بذلك بدون أن يتسمى به بنفسه وأثبت التاريخ بأنهم إنما نقموا عليه من أجل أنه خالف رأيهم وما عليه علماء مذهبهم وما كانوا يعتقدونه في أنفسهم، فحسدوه على ما أتاه الله من فضله من سائر العلوم والفنون التي بهرت العقول، كما قال ابن الوردي:
سعى في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
إن بعض الناس لا يتحمل الصبر على مخالفة رأيه ومذهبه ولو في مسألة فرعية لا إنكار في الخلاف في مثلها أو في مسألة نحوية وشبهها، فتراه يغضب ويضطرب عند مخالفته ويتحامل على من خالفه ولو بدون بيّنة من أمره، فيفند رأيه ويصغر أمره ويحاول الحط من قدره، ليثبت في نفوس الناس عدم الاعتداد بقوله، كما روي عن أبي حيان صاحب التفسير المسمى بالبحر المحيط، أنه كان يحب شيخ الإسلام ويجالسه ويأخذ العلم عنه وقد امتدحه بأبيات منها:
لمّا أتانا تقي الدين لاح لنا
داع إلى الله فرد ما له وزر
حبر تسـربل منه دهره حبرا
بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصـر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصَت مضـر
فأظهر الحق إذ آثاره اندرست
وأخمد الشـر إذ طارت له شرر
ثم إن أبا حيان بعد هذا الكلام، ناظر شيخ الإسلام في مسألة نحوية، فقال شيخ الإسلام الصواب فيها كذا، فقال أبو حيان: إن في كتاب سيبويه كذا، فقال شيخ الإسلام: إن سيبويه ليس بنبي النحو وقد غلط في ثمانين موضعًا لا تفهمها أنت. فغضب أبو حيان وفارق شيخ الإسلام، وأخذ يتحامل عليه في تفسيره من أجل مخالفته لرأيه في هذه الكلمة، ثم إن أكثر المعادين له رجعوا عن رأيهم في لومه واعترفوا بفضله وسعة علمه، منهم: السبكي، فقد كتب إليه الذهبي يعاتبه على كلام تحامل به على شيخ الإسلام. فأجابه السبكي قائلاً: أما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه في ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزم انتهى من الدرر الكامنة.

والمقصود، أن قول الشيخ إسماعيل: إننا نطلب من المؤلف بأن يذكر لنا عالما واحدًا رد على شيخ الإسلام، إلى آخر ما قال، فإن هذا الكلام ينبئ عن نقص علم وقصور فهم أو تجاهل منه بالأمر الواقع، فإن مخالفة بعض العلماء لبعض اختياراته هو من الأمر الواقع بالعيان، والمشاهد بالحس والوجدان في زماننا هذا وفي سالف الأزمان، إذ لم ينقل عن أحد من العلماء أنه قال بوجوب العمل بكل اختيارات شيخ الإسلام؛ لأن الناس في اختياراته على أقسام، منهم من يعرض عنها ويسير مع قافلة فقهاء مذهبه ولا يعرج على غيره، يلقط لفظ الفقهاء كلما لفظوا، ويتبع ظلهم أينما انبعثوا، وهؤلاء هم المقلدون، والمقلد المحض ليس معدودًا من أهل العلم، ومنهم من يأخذ ببعض اختياراته ويعرض عن بعض، على حسب ما يترجح في نفسه بمقتضى الدليل والبرهان، يبحث عن الحق في أي مذهب يجده، فإذا وجده اعتنقه؛ لاعتبار أن الحق ضالته المنشودة وغايته المقصودة، فهؤلاء هم المستضيؤون بنور العلم والتحقيق، واللاجئون من الدين إلى ركن وثيق.

وبالجملة فإن اختيارات شيخ الإسلام هي رحمة عامة ونعمة واسعة تتمشى على طريقة الشريعة السمحة السهلة التي ليست بحرج ولا أغلال، يؤيد كل قول بدليله مع بيان صحيحه من عليله، فمن أراد الله به الخير حبب إليه شيخ الإسلام وابن القيم والنظر في كتبهما، وإنما قلت: بأن العلماء قد أعرضوا عن بعض اختيارات شيخ الإسلام، لما تبين لهم أن الراجح خلافها، إنما أريد بذلك الأمر الواقع بالعيان وفي بعض البلدان والذي لا يختلف فيه اثنان. فمن ذلك الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، فبعض العلماء يجعله عن طلقة واحدة، عملاً بالسنة والقرآن، وتمشيًا مع اختيارات شيخ الإسلام، وبعض العلماء يجعله طلاقًا بائنًا، يفرّق به بين المرء وزوجه، كما هو المعمول به الآن في بعض البلدان. ومنها: إن الحلف بالطلاق بالثلاث إذا حنث يجعله بعض العلماء يمينًا مكفرة وليس بطلاق، عملاً باختيارات شيخ الإسلام، وبعض العلماء يجعله طلاقًا إن كان بلفظ الواحدة فواحدة أو بلفظ الثلاث فثلاث، خلافًا لاختيارات شيخ الإسلام، ومنها: إن شيخ الإسلام يرى عدم وقوع الطلاق في الحيض لحرمته، مستدلًّا على ذلك بقوله: ﴿إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]، وبحديث ابن عمر في الصحيحين، وخالفه أكثر العلماء وقالوا بصحة وقوع الطلاق ولزومه مع الحرمة، ومنها: إن المختلعة من زوجها ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة واحدة، أي اختيارات شيخ الإسلام، وخالفه كثير من الفقهاء، فأوجبوا عليها عدة الطلاق، أي ثلاث حيض ممن تحيض، ومنها: إن المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، كالقارن على السواء أي اختيارات شيخ الإسلام، وخالفه بعض الفقهاء فقالوا: يجب عليه طواف للعمرة وسعي للعمرة وطواف للحج وسعي للحج. ومنها: إن شيخ الإسلام يرى جواز طواف فرض الحج للحائض والنفساء متى خافت فوات الحج بذهاب الرفقة ولا يمكنها التخلف عنهم فتستثفر بثوب ثم تطوف، ويتم بذلك حجها، وخالفه بعض الفقهاء في ذلك وقالوا: لا تطوف بالبيت حتى تطهر ولو فات عليها الحج. ومنها: إن شيخ الإسلام يرى جواز صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح ولا يضر عنده اختلاف النية بين الإمام والمأموم، وقد خالفه بعض الفقهاء فأوجبوا اتحاد النية بين الإمام والمأموم، فهم يمنعون من صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح، إلى غير ذلك من المسائل التي خالف فيها الفقهاء وهي تحقق ما قلنا من إعراض بعض العلماء عن بعض اختياراته، مع قطع النظر عن ترجيح أحد القولين، وهل كانوا مصيبين في خلافه أو هو المصيب، لكون هذا ليس من شأننا في هذا المقام. أما نحن فإننا نفضل العمل باختياراته في كثير من هذه المسائل، فنجعل الطلاق بالثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة، والحلف بالطلاق نجعله يمينًا مكفرة، وأن المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، لقول النبي ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[87]، نفتي بهذا ونحكم بصحته في دائرة عملنا لرجحانه عندنا بالدليل وإن كان غيرنا يرى أن الصحة في خلافه، وكل ما قلنا فإنه يحقق بطلان قول الشيخ إسماعيل، لكونه يتكلم غالبًا على سبيل الخرص والتخمين، بدون تحقق ولا يقين، كقوله: إنه ليس في اختيارات شيخ الإسلام ما يصح القول بأنه قد رفضه جميع العلماء.

وههنا ينبغي أن نختم الكلام بسؤال الشيخ إسماعيل ونقول: متى كنت تعتقد صحة حديث علي رضي الله عنه وأن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه، وأن الأضحية هي من القرابين التي يهدى ثوابها لرسول الله ﷺ بناء على صحة هذا الحديث، وأنه ليس في اختيارات شيخ الإسلام ما يصح القول: بأنه قد رفضه جميع العلماء؟ فما رأيك في قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- بأن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة. كما نقله ابن اللحام عنه في اختياراته، فعند ذلك يقف الشيخ إسماعيل بمفترق الطرق، لأنه يلزمه أحد أمرين: إما أن يقول إن الحديث صحيح، وفي هذا رد لكلام شيخ الإسلام والإعراض عما قاله، وإما أن يقول: إن الحديث غير صحيح وإن كلام شيخ الإسلام حق وإن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة، حيث لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه أهدى لرسول الله ثواب صلاته أو صيامه أو حجه أو ضحى عنه، وهذه هي خاتمة الأجوبة عن المدارك التي أدلى بها على رسالتنا، وكل عالم وعاقل فاهم، يدرك من مداركه بأنه يتكلم بغير علم وبدون فهم، وكأن غاية جهده ونهاية قصده هو التفوّه بمجرد هذا الرد، ليثبت به قدمه في محل عمله، وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده، والمقابلة بضده، والله عند لسان كل قائل وقلبه، نسأل الله سبحانه علمًا نافعًا مبرورًا، وعملاً خالصًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 12 ربيع الأول عام 1391هـ.

* * *

[79] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [80] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [81] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [82] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [83] أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس. [84] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر. [85] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أبي رافع. [86]متفق عليه من حديث أنس. [87] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس.

فائدة منقولة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

قال: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه؛ أحدها: إن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير، ثانيها: إن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها، وهو انتفاع بعمل الغير، ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير، رابعها: إن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك انتفاع بعمل الغير، خامسها: إن الله يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط، وذلك بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم، سادسها: إن أولاد المسلمين يدخلون الجنة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بعمل الغير، سابعها: قوله في قصة الغلامين اليتيمين: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]، فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما، ثامنها: إن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنّة والإجماع، وهو من عمل الغير، تاسعها: إن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة، وهو من عمل الغير، عاشرها: إن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير، الحادي عشر: المدين الذي امتنع النبي ﷺ من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة وانتفع بصلاة النبي، الثاني عشر: إن النبي ﷺ قال لمن صلى وحده: «أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ»[88]، فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير، الثالث عشر: إن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير، الرابع عشر: إن من عليه تبعات ومظالم إذا حُلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير، الخامس عشر: إن الجار الصالح ينفع في الحياة والممات، كما جاء في الأثر، السادس عشر: إن جليس أهل الذكر يرحم بهم وإن لم يكن منهم، السابع عشر: الصلاة على الميت والدعاء له، وفي ذلك انتفاع الميت بصلاة الحي عليه، وهو انتفاع بعمل الغير، الثامن عشر: إن الله قال لنبيه: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡ [الأنفال: 33] وقال: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251]، فقد رفع الله العذاب عن الناس بوجود النبي بينهم، وبدفع بعضهم عن بعض، التاسع عشر: إن صدقة الفطر تجب على الصغير ممن يمونه الشخص، العشرون: إن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لا يعمله ما لا يحصى. انتهى. من تفسير أبي السعود ومن تفسير صديق، والقاسمي على قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39].

* * *

[88] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري.

شرح الكلمات

إن شيخ الإسلام بكلامه هذا، قصد به الرد على أناس من المتفلسفة والصوفية، حيث زعموا أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، وأنه لا ينتفع بالدعاء ولا غيره، وبنوا من ذلك عقيدة تقتضي صرف الناس عن عبودية الدعاء، قائلين: إن الدعاء لا يجدي شيئًا فلا ينتفع به الداعي ولا المدعو له؛ لأن الذي تدعو به إن كان قد قدر لك بطريق القضاء والقدر، فإنه سيحصل، دعوت أو لم تدع، وإن لم يقدر لك بمشيئة الله وقدره، فإنه لن يحصل، دعوت أو لم تدع، فرد عليهم علماء أهل السنة في ذلك، منهم شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وغيرهم.

لكن لنعلم أن هذا الانتفاع الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو غير إهداء ثواب الأعمال، كما يعرف من كلامه؛ لأن إهداء ثواب الأعمال شيء وانتفاع الأموات بعمل الأحياء شيء آخر، ولا تلازم بينهما، من ذلك قوله في المادة الأولى: إن الإنسان ينتفع بدعاء غيره.. إلخ. وهذا حق ولم يأمر الله بالإكثار من الدعاء إلا لتحقق منفعته للحي والميت، غير أن الدعاء عبادة بين العبد وبين ربه، التي خلق الله الخلق لأجلها، بل هو مخ العبادة، وقال ربكم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60].

فسماه الله عبادة، وأخبر عن حالة الذين يستكبرون عن هذه العبادة أنهم سيدخلون جنهم داخرين صاغرين حقيرين ذليلين، وفي الآية الأخرى: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡ [الفرقان: 77] سواء حملناه على دعاء العبادة أو دعاء المسألة، فهو على كلا الحالين عبادة بين العبد وبين ربه، ولم يكن الداعي ليهدي ثواب دعائه إلى أحد، وإنما يدخر ثواب دعائه عند ربه، سواء استجيب له أو لم يستجب له، وإذا استجيب له لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجره، فانتفاع الميت بالدعاء هو بمثابة انتفاع الحي به عند استجابته، فليس فيه شيء من إهداء ثوابه، أما إهداء ثواب العمل، فهو أن يصلي مثلاً أو يصوم أو يحج أو يقرأ القرآن أو يدعو ربه ثم يهدي ثواب عمله إلى ميته، وهذا لم يكن معروفًا عن الصحابة والسلف الصالح، ولم يعنه شيخ الإسلام بكلامه هذا، وإنما أدخل الفقهاء الدعاء فيما يهدى إلى الميت، توسعًا، وإلا فإنه عبادة مستقلة بين العبد وربه، ولهذا ذكر ابن مفلح في المحرر عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قال: لم يكن من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك، ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف، فإنها أفضل وأكمل. انتهى.

المادة الثانية: قوله: إن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. وهذا ليس من إهداء ثواب الأعمال في شيء، ولكنه رحمة ومحبة من النبي ﷺ لأمته، حيث يشفع لهم عند الله، ليريحهم من موقف الحساب ويعجل أهل الجنة إلى الفوز بدخول الجنة.

ويؤكده المادة الثالثة، وهي: شفاعته لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع حصل لهم بشفاعة النبي ﷺ وليس بإهداء ثواب عمله.

والمادة الرابعة: كون الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض؛ لأن الله خلقهم للعبادة ومنها الدعاء والاستغفار لأنفسهم ولمن في الأرض، فهم يدعون ربهم ولا يهدون ثواب دعائهم، كما ذكرنا في دعاء المؤمنين.

المادة الخامسة: قوله: إن الله يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط، وذلك بمحض رحمة الله، وهذا انتفاع حصل لهم بفضل الله ورحمته وليس من إهداء ثواب الأعمال في شيء البتة.

المادة السادسة: إن أولاد المسلمين، يدخلون الجنة بعمل آبائهم، والآباء لم يهدوا ثواب أعمالهم لأبنائهم، على أنهم لم يعملوا شرًّا قط وحتى أولاد المشركين، قد ثبت في صحيح البخاري عن سمرة، أنهم «مع أولاد المسلمين». وقيل: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»[89].

المادة السابعة: قوله في قصة الغلامين ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]، فحفظ الله كنزهما لصلاح أبيهما؛ لأن الله شكور يحفظ الرجل الصالح في إيمانه وأعماله وفي أهله وعياله، كما في الحديث: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ»[90]، وقد روي: «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله»[91]، وكان سعيد بن المسيب يقول لابنه: إني أزيد في صلاتي رجاء أن أحفظ فيك، ثم يتلو: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]،

وأنشد بعضهم:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله
ويعديهم داء الفساد إذا فسد
ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه
ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
والحاصل أن هذا الأب الصالح لم يهد ثواب عمله وصلاحه لابنه، وإنما انتفع الابن ببركة صلاح أبيه ودعائه.

الثامنة: قوله: إن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهذا يؤيد ما ذكرنا، من كون شيخ الإسلام حكى الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت، كما حكاه النووي والقرطبي وابن كثير وابن العربي؛ لأن الكتاب والسنة يحثان على الصدقة وعلى التوسع فيها وقد جعلت كفارة للأيمان والظهار والوطء في رمضان، ولترك واجبات الحج أو فعل شيء من محظوراته، كل هذه شرعت للتوسع في الصدقة، لكونها من النفع المتعدي وتصادف من الفقراء موضع حاجة وشدة فاقة، وكذا عتق الرقبة من الرق.

التاسعة: قوله: إن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وهو من عمل الغير، وهذا صحيح؛ لأن الحج المفروض بالشرع أو بالنذر ملتحق بالديون الثابتة في الذمة ومتى قام أحد ولو أجنبيًّا بأداء هذا الواجب سقط عنه بصريح الحكم في الدنيا، لكن صرح ابن القيم في تهذيب السنن وفي الإعلام، أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان للعذر، وبدون العذر لا يجوز الإطعام ولا الصيام، فأما المفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانًا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات. انتهى.

والظاهر من مذهب مالك وأبي حنيفة أن الحج الواجب يسقط بموت الشخص إلا أن يوصي به.

العاشرة والحادية عشرة: قوله: إن الحج المنذور والصوم المنذور يسقط بعمل غيره، وإن المدين الذي امتنع النبي من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، فانتفع بصلاة النبي عليه، لأن هذه كلها من الديون الواجبة على الشخص في الدنيا قبلت قضاء الولي وغير الولي لها، وامتناع النبي عن الصلاة على المدين كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك فكان يصلي على كل مسلم من غير أن يسأل عن دينه ويقول من مات وعليه دين فعلي قضاؤه، فانتفاع الميت ببراءة ذمته من هذا الواجب هو أمر معلوم وليس من باب إهداء ثوابه، بل أجره لصاحبه، أشبه صدقته على الحي أو إبراءه من حقه كما في الحديث: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»[92].

الثانية عشرة: قول النبي ﷺ لمن صلى وحده: «أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ»[93] فحصل له فضل الجماعة بفعل الغير، وهذا أيضًا من الدليل على أنه لم يرد بالانتفاع مجرد إهداء ثواب الأعمال، وإنما أراد مجرد الانتفاع بعمل الغير من الحي أو الميت.

الثالثة عشرة: قوله: إن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه. وهذه البراءة تقدم الكلام عليها، وكونه يبرأ منها بطريق الحكم في الدنيا لكنه متى ماطله بحقه ومنعه من استيفائه طيلة الزمن وهو قادر على الأداء، فإن هذا المطل ظلم منه ويقع الحساب عند الله بينه وبين خصمه الذي منعه من أداء حقه والانتفاع به في الدنيا، أشبه من تعمد قتل مسلم بغير حق فاصطلح مع أوليائه بدفع الدية إليهم، فإن حق القتيل باق يطالب به خصمه عند الله ولا يزيله مجرد الحكم به في الدنيا من دعوى براءة القاتل من دم القتيل وبه يجاب عن الرابعة عشرة من قوله: إن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها أسقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. فإن البراءة الصادرة من صاحب الحق بطريق الرضى يبرأ بها الشخص، سواء كان حيًّا أو ميتًا، لكن متى أبرأ شخصًا من الأحياء من حقه، فإنه لا يقال إنه أهدى له ثواب عمله أو أجره، وكذلك الميت.

الخامسة عشرة: قوله: إن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات. وهذا صحيح، وقد قيل: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق، وقد علَّم النبي ﷺ قبر عثمان بن مظعون بحجر كبير وقال: «أدفن إليه من مات من أهلي»[94]، ولهذا استحب أهل السنة عزل قبور أهل الذمة عن قبور المسلمين.

السادسة عشرة: قوله: إن جليس أهل الذكر يرحم بهم وإن لم يكن منهم. وهذا الانتفاع صحيح وليس بإهداء ثواب الأعمال في شيء، وإنما حصل بفضل الله ورحمته بتنزل الملائكة والسكينة على أهل الذكر، وأن الله يذكرهم فيمن عنده فهم القوم لا يشقى بهم جليس وربما رحم معهم من ليس منهم، فهو انتفاع للأحياء من بعضهم لبعض وليس بإهداء ثواب الأعمال في شيء.

السابعة عشرة: قوله: الصلاة على الميت وانتفاعه بصلاة الحي عليه والدعاء له في الصلاة هو انتفاع بعمل الغير. فهذا العمل وهذا الانتفاع لا شك في مشروعيته وليس من باب إهداء ثواب الأعمال في شيء؛ لأن الصلاة على الميت هي من جنس مشروعية سائر الصلوات المشروعة، فيصلي المسلم على الميت، يحتسب ثواب صلاته لنفسه و يدعو لميته ولسائر الأحياء والأموات بالمغفرة والرحمة، فدعاء المسلم للميت مثل دعائه للحي على السواء؛ لأن الدعاء عبادة لله - عز وجل- بين العبد وبين ربه، وإذا استجيب دعاؤه لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له، وللداعي أجره وثوابه.

الثامنة عشرة: قوله: إن الله سبحانه قال لنبيه: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡ [الأنفال: 33]، وقال: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251] فقد رفع الله العذاب عن الناس بوجود النبي بينهم وببعضهم عن بعض، وهو انتفاع بعمل الغير، وهذا مما يدل على أنه لم يرد بهذا الانتفاع مجرد إهداء ثواب الأعمال، لكونه ليس من ذلك، وإنما هو انتفاع مجرد عن إهداء ثواب الأعمال وأن الله قد دفع العذاب عن الناس بوجود رسول الله بينهم، كما أنه يدفع العذاب ببعضهم عن بعض، كما روي: «إن الله ليدفع بالرجل الصالح عن مائة من أهل بيته من جيرانه البلاء»[95]، ثم إن دفع الناس عن بعض هو من الأمر الواقع المحسوس في الدنيا، يقول الله: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗا [الحج: 40].

التاسعة عشرة: قوله: إن صدقة الفطر تجب على الصغير ممن يمونه الشخص. يريد بهذا أن صدقة الفطر زكاة تزكي الشخص وتنميه وتنزل البركة فيه وهي ليس من عمله بنفسه، بل من عمل الغير، وقد انتفع بعمل الغير ويؤيده قوله في تمام العشرين: إن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون، للمعنى الذي ذكرنا في زكاة الفطر. قال: ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لا يعمله ما لا يكاد يحصى. انتهى. وأن هذا الانتفاع يحصل بين الناس وأن بعضهم ينفع بعضًا في دنياه وآخرته، كما أن بعضهم يضر بعضًا في دنياه وآخرته، وأن هذا الانتفاع وهذا الضرر هو خارج عن إهداء ثواب الأعمال كما يظنه بعض من غلط فيه من المفسرين وغيرهم؛ لأن الظاهر من شيخ الإسلام أنه لا يرى إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى، كما نقل ذلك ابن مفلح في شرح المحرر من آخر كتابه: ذكر الشيخ تقي الدين بأنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنها أفضل وأكمل. اهـ.

ونقل ابن اللحام في الاختيارات منه مثل هذا الكلام، فقال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صاموا تطوعًا أوصلوا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل. ولعل هذا هو المحقق من رأيه؛ لأنه لا يمكن أن يدعو الناس إلى العمل به ثم يخالفهم إلى القول بخلافه، وقد قيل: إن ابن مفلح وابن اللحام هما أعرف الناس باختيارات شيخ الإسلام والله أعلم.

* * *

[89] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [90] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [91] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي. [92] أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت. [93] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. [94] أخرجه أبو داود مرسلا من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب. [95] أخرجه ابن عساكر في معجمه من حديث ابن عمر.