1807

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الرابع

المعاملات و رسائل أخرى

(10) فصل الخطاب في ذبائح أهل الكتاب

مقدمة الرسالة

إن في هذه الرسالة من دقائق الفقه وحقائقه ما عسى ألا تجده موضحًا في غيرها، لكنها تحتاج إلى علم واسع، ودراسة عميقة، وتحرر عن تقييدات فقهاء المذاهب، وها هي معروضة عليك، وموضوعة بين يديك، وليس المخبر كالمعاين، ولن يقدح في صحتها وصلاحيتها مخالفتها لما عليه أئمة المذاهب والفقهاء، فإن هؤلاء الأئمة أنفسهم ينهون أشد النهي عن تقليدهم، ويأمرون بأخذ الدلائل من أصل منبعها الصافي، أي: الكتاب والسنة اللذين جعلهما الله بمثابة الحكم العدل، يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان الخلاف إلى مواقع الإجماع. وكل اعتراض لا يبنى على هذين الأصلين فإنه يعتبر بطريق الشرع أنه ممنوع غير مسموع؛ لأن من استبان له الحق، لم يكن له أن يدعه لقول أحد من الخلق كما قيل:
أبنْ ليَ قول الحق في وجه سامع
ودعه فنور الحق يسري ويشرقُ
سيؤنسه رفقًا فينسى نفاره
كما نسي القيد الموثق مطلق

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» الحديث.

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الناس في حياتهم تعرض لهم أنواع من المشاكل والمشتبهات لا يدري أكثر الناس عنها أهي من الحرام أو من الحلال، ومن الواجب على العامة عند وقوع هذه المشاكل والمشتبهات أن يسألوا عنها من يثقون بعلمه وتقواه، ليكشف لهم مشكلها، إذ العامي لا يجب عليه أن يتقيد بمذهبه، وإنما يجب عليه أن يسأل من يثق به؛ لقول الله سبحانه: ﴿... فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ [النحل: 43-44]. والعامي لا مذهب له، ومن قلّد فيها عالمًا قام سالمًا.

وقد دل الحديث عل أن أكثر الناس لا يعرفون حقيقة الحكم الشرعي في كثير من المتشابهات، ولم يقل كل الناس، بل يوجد أناس وهم قلّة وهم الراسخون في العلم والمعرفة، فيعرفون حكم الشرع في هذه المتشابهات بحيث يوجهون إليها أنظارهم وأفكارهم، ويستنبطون الحكم فيها من كتاب ربهم وسنة نبيهم، فيلحقون النظير بنظيره، فيزيلون عنها ما غشيها من الشك والإشكال ويجعلونها جلية للعيان.

لكنه متى تصدى للخوض في هذه المشكلة أحد العوام، بدون معرفة ولا حكمة، وبدون بصيرة من كتاب ربه وسنة نبيّه، فإنما يفسد أكثر مما يصلح، ويكون خوضه في موضوعها من المضار والمفاسد الكبار، بحيث يحرّم على الناس ما أحل الله لهم، فيلحق الحلال بالحرام، ويجعل الناس يشكون في مأكلهم؛ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ [النحل: 116].

ثم إن العلماء أنفسهم تتفاوت أنظارهم في بعض هذه المتشابهات، فمنهم من يُلحقها بالحرام بشبهة دليل يدعيه، ومنهم من يُلحقها بالحلال، لكون العلماء يتفاوتون في الأفهام، وفي الغوص على فقه المعاني والأحكام، أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فالمجتهد المصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أعوذ بك من معضلة ليس لها أبو الحسن [130]. يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

فمن هذه المشتبهات ما وقع السؤال عنه في هذا الزمان وما كثر فيه الخوض بين الناس من كثرة القيل والقال، وذلك في ذبائح أهل الكتاب، وتنوّع كيفية ذبحهم الحيوان والدجاج، وهل هو حلال أم حرام؟ ونحن على دين كفيل بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، فلا تقع مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83]. لكون دين الإسلام هو دين البشرية كلها، مسلمهم وكافرهم ويهودهم ونصرانيهم، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. ويقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. فشريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم كلها، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان.

والله سبحانه قد فصّل في كتابه ما حرم على الناس فقال: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وتفصيل المحرمات يعرف من قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3]. وإنما خصّ المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، مع العلم أنها من أقسام الميتة، إذا لم تُذك وبها حياة مستقرة، لكون بعض العرب في الجاهلية يأكلونها وهي ميتة، ويقولون: كيف نأكل ما قتلناه ولا نأكل ما قتل الله؟! فحرم سبحانه أكل هذه الأنواع بعد موتها إلا ما ذكي منها أي وبه حياة مستقرة. فقوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ هو خطاب لجميع البشر على حسب عُرفهم وعاداتهم في تذكيتهم لذبائحهم، إذ ليس عندنا ما يدل على قصر التذكية وحصرها في قطع الحلقوم والمريء، حسبما شرطه الفقهاءُ، إلا أنها جرت العادة بذلك في الإسلام وزمن الجاهلية، لكون هذه الكيفية أسرع وأسهل لإزهاق روح الحيوان، لكون الحلقوم والمريء هما مجرى النفس والطعام والشراب، ولأن هذه الكيفية هي أبقى وأسلم للجلد الذي له قيمة في زمانهم، حتى كانوا يسلخون جلود الميتة وينتفعون بها، ودباغها طهورها. أما ذكاة المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فيكفي في تذكيتها وإباحة أكلها أن يذكيها وبها رمق من الحياة، فروى ابن جرير عن الحسن أنه قال: إذا طرَفت بعينها، أو ضربت بذنبها أو رجلها فقد حلَّ أكلها.

فذبح أهل الكتاب على أي صفة يفعلونه، وكذا ذبائحهم كلها تندرج في عموم قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ، وقوله: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وكل ذبيحة أو ذبائح من حيوان أو دجاج تجلب إلى الناس وهي مجهولة، لا يعلم من ذبحها، ولا كيفية ذبحها، فإنها تندرج في عموم الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة: أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا»، فكأنه بهذا يرى أن التسمية على الذبح واجبة على المسلمين لا غيرهم.

لقد رأينا بعض كتّاب المقالات يسخرون من بعض العلماء، حينما يسألون عن هذه المشكلة، فيجيبون بصريح هذه الآية، وهي قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ، وبحديث: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا»، ﴿فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ [التوبة: 79]. وأن هذا هو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وما خرج عن موضوع هذا الجواب فإنه تكلف وكثرة كلام بدون جدوى ولا فائدة. وما يشعرني أن إطلاق القرآن لإباحة ذبائح أهل الكتاب بدون قيد ولا شرط أنه رحمة من الله لعباده، لعموم الابتلاء بكثرة اختلاط المسلمين بهم وشدة حاجتهم إلى ذبائحهم في كل زمان ومكان، فأباح أكل ذبائحهم مع علمه بما كانوا يفعلونه من صفة الذبح، وما سكت القرآن عن تحريمه فهو الحلال، لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[131]. فذبائح الكفار هي مما سكت القرآن عن تحريمها رحمة للناس غير نسيان فكانت حلالاً.

إن هذه المشكلة تليدة الأصل، وليست وليدة هذا العصر، ولقد طرق موضوع الكلام فيها كثير من العلماء قبلنا، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة، فمنهم المتشدد، ومنهم المعتدل المتسامح، وأسمح المذاهب في هذه المسألة هو مذهب المالكية، فقد ذكروا في المدونة أنه سئل مالك عما ذبحوه للكنيسة أو غيرها، فقال: أكره ذلك ولا أحرم. وقال: إن الله أباح لنا ذبائحهم وقد علم ما يفعلونه.

وقال القاضي ابن العربي المالكي في كتابه أحكام القرآن على قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. قال: وسئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل يجوز أن نأكل معه منها؟ فقلت: نعم. كلوا منها، فإنها طعام أحبارهم ورهبانهم وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله سبحانه أباح لنا طعامهم مطلقًا، وليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم.

وكل من تأمل الأدلة بإخلاص نيّة، وصلاح طويّة، يتبين له أن أظهر الأقوال وأعدلها هو قول الذين يبيحون أكل طعامهم المباح أكله عندنا، بخلاف لحم الخنزير، وإن عدُّوه من طعامهم، فإنه محرم عليهم في شريعة التوراة، فلا تأكله اليهود، وإنما تأكله النصارى، بناء على فتوى أحد القسيسين، وهو بالحقيقة محرم عليهم، وليس من طعامهم.

* * *

[130] أخرجه ابن سعد في طبقاته عن سعيد بن المسيب. [131] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

هل تغيير اليهود والنصَارى لأديانهم مقتضٍ لتغيير الحكم في إباحة ذبائحهم؟

لقد رأينا في بعض المقالات عن بعض الكتّاب يقول: هل بقي الآن أحد على كتابه من اليهود والنصارى؟ فإن وجد، فهل يحل للمسلم أن يأكل ذبيحته كيفما ذبحها؟ إذ إنه من المعروف أن طرق الذبح قد تنوّعت، وأصبح بعضها لا يوافق الطريقة الشرعية للذبح؛ من إراقة الدم، وقطع الودجين، وتوجيه الذبيحة إلى القبلة، وغير ذلك من القواعد الشرعية المنصوص عليها.

وأقول: إن بعض الناس يعترض على هذه الإباحة المطلقة، بحجة أنهم غيّروا وبدلوا دينهم، وهذا القول إنما نشأ عن الجهل، وعدم العلم بالأحكام الشرعية، فإن الله سبحانه أحل ذبائح أهل الكتاب على الحال التي كانوا عليها من التنزيل ومما فعلوه من التغيير والتبديل، حيث يكذبون بالقرآن وبالرسول، وهم شعوب شتى كما في الحديث: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»[132]، فأطلق سبحانه إباحة طعامهم، أي ذبائحهم، مع علمه بأنهم مغيّرون لدينهم وشريعتهم، وهذا التغيير والتبديل واقع منهم زمن الرسول، وزمن نزول القرآن، فلا معنى للاحتجاج به. وكون الرجل كتابيًّا يعرف من عقيدته بنفسه لا من أصل نسبه. وهذه المشكلة قد وقعت للصحابة رضي الله عنهم في نصارى بني تغلب بالشام، ومعلوم أنهم من العرب وقد تنصروا، وقد أجمع الصحابة على إلحاقهم بالنصارى في إباحة أكل ذبائحهم، وحل نكاح نسائهم، ما عدا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال في معارضته: إنه ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر[133]. فقالوا: حسبنا أنهم صاروا نصارى، فالتحق بهم جميع أعمال النصارى وعاداتهم. فقوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. يدل بمقتضاه وفحواه على الإباحة المطلقة الأصلية، أي فيجوز الأكل من لحومهم ودجاجهم كيفما ذكّوها، وعلى أي صفة كانت، بلا قيد ولا شرط، ويستثنى من ذلك ما حرمه الشرع على المسلمين كالخنزير.

ولما كانت التذكية المعتادة في الغالب لصغار الحيوانات المقدور عليها هي الذبح الذي من شرطه قطع الحلقوم والمريء والودجين، كثر التعبير به، فجعله الفقهاءُ هو الأصل، وظنوه مقصودًا بالذات لمعنى فيه، فعلل بعضهم مشروعية الذبح أنه يخرج الدم من البدن، لكن الشرع الإسلامي أباح أكل بعض الحيوان بدون التذكية المعتادة، فمن ذلك البعير النادّ، أي الشارد، أو التيس الشارد، فيرميه صاحبه بسهم أو رصاصة، بحيث تقع في أي موضع من جسده، فيموت، فيأكله صاحبه، كما ثبت بذلك الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فندّ بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا»، وما استدل به جمهور السلف على جواز أكل ما رمي بالسهم أو الرصاص، فجرح في أي موضع من جسده، ومنها صيد المعراض متى خرق بحده، فقتل، فيأكله صاحبه، ومثله صيد الصقر والشاهين، متى صاد حبارى وغيرها، فقتلها، فوجدها صاحبه ميتة فيأكلها بدون تذكية لها، ومثله صيد الكلب. وقد أنزل الله فيه: ﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. وهذه نزلت في الكلب المعلَّم يرسله صاحبه إلى الصيد، فيصيد ظبيًا أو أرنبًا فيقتلها، ويأتي صاحبه إلى هذا الصيد فيجده ميتًا، فيأكله بدون التذكية المعتادة، أفلا نجعل ما ذبحه أهل الكتاب بمثابة ما ذبحته الصقور والكلاب، بحيث نأكله ولا نسأل عن التذكية، إذ الكل مباح من الله، وقد أجاز النبي ﷺ القتل بالحجر الحاد، كما أجاز أكل صيد المعراض إذا خزق بطرفه، وقال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»[134].

وكل من تأمل نصوص الشريعة وقصودها، يتبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ لا يحرّم على الناس إلا ما فيه ضرر عليهم أو على الحيوان، كما حرّم تعذيب الحيوان بالوقذ، أو بإحراقه، أو قطع شيء منه وهو حي، وقال: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ»[135]، وقال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[136].

فمتى كان الذبح بطريقة الكهرباء أسهل على الحيوان، فإن الشرع لا يحرمه متى أنهر الدم، ولكل وقت حالة تناسبه، فإذا تيسر الذبح بسكين حاد لم يعدل عنها إلى غيرها إلا في حالة كون السكين لا تغني في الشيء الكثير، وإذا تيسر في الذبح انهار الدم، فإنه يكون أسهل للحيوان، وأقل إيلامًا له.

ولأهل الكتاب عادات في صفة ذبحهم لا يلزم أن توافق عادات المسلمين في ذبحهم؛ لأن الله سبحانه أباح ذبائحهم بدون قيد ولا شرط، وقد علم ما هم يفعلون.

* * *

[132] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة. [133] أخرجه الشافعي في الأم عن عبيدة السلماني. [134] متفق عليه من حديث رافع بن خديج. [135] أخرجه ابن ماجه من حديث تميم الداري. [136] رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس.

فتوى صاحب المنار في ذبائح أهل الكتاب[137]

قال: إن المسألة ليست من المسائل التعبّدية، وإنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره؛ إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من عبادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه. ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا، وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين دخلوا في دينهم، لا سيما النصرانية، وأراد الله تعالى أن نجاملهم، ولا نعاملهم معاملة المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد، كما أباح لنا التزوّج منهم، مع علمه بما هم عليه من نزعات الشرك التي صرّح فيها بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨ [يونس: 18]. على أنه حرّم علينا التزوّج بالمشركات بالنص الصريح، ولم يحرّم علينا طعام المشركين بالنص الصريح، بل حرّم ما أهل به لغير الله، فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام قطعي في المشركين، وهو لم يمنع من التزوّج بالكتابية.

ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة صرّح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته، فإن ذبيحته تؤكل، مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة، فإن ذبيحته لا تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري، وما نقلناه في المنار عنه وعن غيره كاف في هذا الباب. وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه- سبحانه- من مجاملتهم ومحاسنتهم.

فهذه هي الحكمة في حل طعامهم، لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو يطبخون بكيفية مخصوصة، ولو كان يجوز لنا أن نقيّد نصوص الكتاب المطلقة بمثل هذا التقييد، لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر، فنقيّد بما كان عليه أهل العصر الأوّل في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم على ذلك. وهذا حرج عظيم، وتحكم لم يقل به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم المطلق يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وجه للبحث عن عدد الذين أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد، ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صُلي فيه عند التشريع، والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.

ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء، فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم تكن في حل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك. وقد سمّوا الذبيحة موقوذة، وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال قولاً مخالفًا للشرع؛ لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل، ولا يميزون بين الحق والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه. وهذه هي لذة الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ولذلك لم يورد الذين كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيد بالكتاب والسنة، وفقه الشريعة وأسرارها، والمأثور عن سلفها، لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم، واشتغالهم بالسفاسف، وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم، ساع في إقالتهم من عترتهم، وإنجائهم من هلكتهم، حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم، حيث خذ بما صفا، ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له والله الموفق. انتهى كلامه.

وأقول: إن بعض الناس قد أجلبوا وأرجفوا على الناس بتشنيع ذبح أهل الكتاب للحيوان والدجاج، وتحريم أكل ذبائحهم، فكانوا يصفون ذبحهم بأوصاف متنوعة، كلها لا تعتمد على شيء من اليقين والصحة، وإنما هي من قبيل: قالوا أو زعموا، وفي الحديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[138].

فيصفون الحيوان بالصعق، أي بضربهم له حتى يموت. ويصفون الدجاج بإلقائه في الماء المحرق حتى يموت، وقد يبالغ في التنفير من له غرض خاص فيه كبعض التجار، يحاولون تأسيس مصنع لذبح الدجاج وبيعه، فتراه يحذر الناس من أكل اللحم الحرام، ليصرف الناس إلى الإقبال على عمله. وكم داع للخير وهو يدعو إلى نفسه.

وإن هذه المؤسسات لذبح الحيوان والدجاج في البلدان الأوروبية قد تحصّلوا وتوصّلوا إلى آلات كهربائية، تريحهم وتريح الحيوان والدجاج معهم بحيث يحصدون بها ألف دجاجة في طرفة بصر. وزعموا أن أصغر مصنع عندهم ينتج في الساعة الواحدة ألفي دجاجة مذبوحة ومنظفة ومغلفة، ولو أرادوا الذبح بالأيدي لما استطاعوا في الساعة الواحدة تنظيم عشر دجاجات؛ لأنهم بزعمهم يعيشون الآن في زمان السرعة. ولقد سافر أحد الأشخاص من المملكة العربية السعودية لقصد مشاهدته لعملية ذبحهم للحيوان والدجاج، فمنعوه من الاتصال بعملهم، لزعمهم أن السفارات من سائر الدول الإسلامية هي التي تتولى الكشف والإشراف على العمل، ومعاينة الذبح، وليس لأحد غيرهم غرض ولا مصلحة في التدخل في معاينة الذبح وكيفيته، وكانوا يحملون من السفارات شهادات بصحة ذبحهم، ويكتبون على كل مغلف دجاجة: (ذبح على الطريقة الإسلامية).

وعلى كل حال فإنه متى أباح الله لنا ذبائح أهل الكتاب بدون قيد ولا شرط، فإنه يباح لنا أن نأكلها بأي طريقة ذبحوها، فلا ينبغي أن نتكلف الكشف والتفتيش عن كيفيته، حتى لو فرض أن تذكيته وقعت على الأمر المكروه، أو الحرام، فإننا غير آثمين بأكله، لدخوله في الخطأ الداخل تحت العفو ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا [البقرة: 286]. قال الله تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ»[139].

وذكر ابن جرير عن أبي الدرداء وابن زيد: أنهما سُئلا عما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم، فأفتيا بأكله. قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن شيئًا. وسئل أبو الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها: (جرجس) فأهدوا لنا منه، أفنأكله؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا، إنما هم أهل كتاب، وطعامهم حل لنا، فأمر بأكله. وروى ابن جرير وغيره عن ابن عباس مثله. ولما أهدت المرأة اليهودية النبي ﷺ تلك الشاة التي دست فيها السم فأكلها النبي وأصحابه ولم يسأل عن كيفية ذبحها.

وحدثني أحد الأمراء الفضلاء، قال: شهدت جزر البقر في سويسرا ومعي جماعة من أصحابي، قال: فكانوا يأتون بالثيران، فوصفها بالعظمة في جسامتها، فيوقفون الثور الذي قدم للذبح، فيأتي الرجل بمقرعة من حديد فيضربه على قمة رأسه فيسقط مغشيًّا عليه فيعاجله الرجل بذبحه مع نحره كذبحنا له على حد سواء.. وهذه الضربة لا يقصدون بها قتله، وإنما يقصدون بها سكونه عن قوة الحركة والنفار مع بقاء حياته.

وصار المرجفون يصفون هذا الفعل بالصعق وبالوقذ، كما يصفون الدجاج بأنهم يلقونه في الماء المحرق وهو حيّ، وكل هذه الأقوال لا تتركز على دليل ولا على صحة من اليقين، كيف وصاحب المقالة الذي بالغ في التنفير عن الدجاج، فوصف عملهم في معملهم، وأنهم قد وضعوا لهم بركة تتلقى سوائل الدجاج، مما يدل على أن هناك دمًا يسيل من الدجاج بعد ذبحه. وكما أن التاريخ القديم يثبت عملية الأطباء القدامى متى أرادوا أن يعملوا عملية جراحية قاسية، أو قص عظم، أو بتر عضو، وأحبوا أن يغيب شعور الجريح عن التألم، أخذوا يضربونه بمقارع الحديد على رأسه حتى يغيب شعوره عنهم، ثم يعملون عملهم في التجريح والتقطيع، وهي نفس ما يفعلونه في ضربهم رأس الثور حتى يسقط مغشيًّا عليه كالميت.

وعن عدي بن حاتم أن النبي ﷺ قال: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْته قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ بِهِ غَيْرَ أَثَرَ سَهْمِك فَكُلْ إنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ». متفق عليه.

وروى البخاري عن عدي قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد المعراض، فقال: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإن أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلاَ تَأْكُلْ».

ففي هذه الأحاديث دليل على سماحة رسول الله ﷺ في التوسع في إباحة ما قتله الكلب، وما قتله الصقر من كل ما لا يقدر على تذكيته، لقوله سبحانه: ﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. أفلا نجعل ما قتله الإنسان بحدِّ المعراض وما قتلته الصقور والكلاب بمثابة ما قتله أهل الكتاب، فنأكله ولا نسأل عنه لاعتبار الكل حلالاً من الله؛ لأنه لا يكون تحريم لشيء إلا بخبر صريح يدل عليه، من كتاب الله، وسنة رسوله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. فليس بعد تفصيل الله تأويل. وقد روى البزار والحاكم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعًا، قال: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا»، ثم تلا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤ [مريم: 64]. وقد اشتهر هذا الحديث عن سلمان أيضًا.. ويدل له ما روى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[140]، فكل ما سكت القرآن والسنة عن بيان تحريمه فهو حلال من الله لعباده.

* * *

[137] فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا- المجلد الأول- ص 353. [138] رواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن مسعود، ورواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة. [139] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [140] أخرجه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني.

اللحوم والدجاج المستورد من البلدان الشيوعية

لقد قلنا: إنه متى جلب لنا شيء من اللحوم والدجاج من إحدى البلدان المجهولة، فإنه يجوز لنا أن نسمي الله، ثم نأكلها ولا نسأل عنها، اعتمادًا على أصل الإباحة، ولدخولها في عموم حديث: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا» رواه البخاري.

وجاء عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص إلى حوض فيه ماء وعنده صاحبه، فقال عمرو: يا صاحب الحوض، هل ترد على مائك الكلاب والسباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، نحن نرد على الكلاب والسباع وترد علينا.[141] فأبقى عمر الماء على حالة الطهور كحالته السابقة.

وإن الشيوعيين من أهل الصين غالبهم كفار بوذيون، وقد اختلط بهم كثير من شتى الأمم، ففيهم يهود ونصارى، ومجوس وصابئون ومشركون، وفيهم من المسلمين عدد كثير حتى قيل: إن المسلمين فيهم يبلغون خمسين مليونًا، وقيل: خمسة وستين مليونًا[142]، والله أعلم.

وقد فتح المسلمون بلدان فارس والروم، وهي مختلطة من شتى الأمم، فكانوا يأكلون لحومهم ولا يسألون عن كيفية ذبحها، ولا عمن ذبحها، ولم ينصبوا مراقبين على القصّابين. فهؤلاء الشيوعيون لا يطلق عليهم لقب المشركين، لكون القرآن عندما يذكر أهل الأديان يذكر المشركين صنفًا غير صنف سائر الكفار، كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ [الحج: 17].

فعطف الذين أشركوا على سائر الأمم والعطف يقتضي المغايرة.

ثم إن لقب الشيوعية هي اسم لنحلة الاشتراكية العلمية، أي التي لا دين لها، افترضها عليهم زعماؤهم قهرًا وقسرًا، وأكثرهم لها كارهون. فهي تشمل جميع من بالصين من مسلم وكافر. فلا يتعلق بها شيء من تحريم الذبائح أو حلها، وإنما يتعلق الكلام في التحريم بما انتحلوه من الكفر بالله.

* * *

[141] أخرجه مالك من حديث عمر بن الخطاب. [142] نشرت مجلة المجتمع في عددها 425 بتاريخ 25 محرم 1399هـ. أن عدد المسلمين بالصين 65 مليون مسلم يحافظون على إسلامهم وشخصيتهم.

حكم ذبائح الكفار والمشركين

إن هذه المسألة مبنية على تحريم ما ذبحه الكافر والمشرك لأكله، أو الإكرام به، وهل يحل للمسلم أكله أو لا؟

فعند العلماء وأئمة المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز أكل ما ذكاه الكافر أو المشرك، حتى ولو سمّى الله على تذكيته، لاعتبار أن تسميته حابطة تبعًا لإحباط عمله، فيكون كمن لم يسمّ الله عليه. فعدم إباحة ما ذكاه المشرك هو أمر قد راج بين الصحابة.

ومعلوم أن قول الصحابي من شرط قبوله كونه لا يخالف نصًّا صحيحًا، والله سبحانه قد أوجب الرد عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله، لا إلى قول أحد غيرهما، وحصر المحرّمات في القرآن، وخاصة في آية المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، وفيها تحريم الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أُهل به لغير الله، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحريم ما ذبح على النصب، ولم يذكر تحريم ما ذبحه الكافر والمشرك، وما كان ربك نسيًّا.

وعلى كل حال فإنني مع الصحابة، ومن أتباع الصحابة في تحريم ما حرّموه من ذبيحة المشرك الوثني. كما اشتهر ذلك عنهم. فمتى علمت ذلك تبين لك أن لفظ الشرك والمشركين لا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا محمد ﷺ ولا بالقرآن النازل عليه، ولم يدخلوا في دينه؛ لأن الشرك المطلق في القرآن ينصرف إلى المشركين الوثنيين؛ كمشركي العرب من أهل الحجاز ونجد وأمثالهم.

وحيث لم يثبت تحريم ذبائح الكفار لا في الكتاب ولا في السنة؛ فإننا نقتصر على تحريم ذبائح المشركين الوثنيين تمشيًا مع الصحابة، ولا نعديه إلى غيرهم من تحريم ذبائح سائر الكافرين؛ لعدم ما يدل على ذلك.

وما يقال في بلدان الصين من وقوع الاختلاط فيه بين سائر الأمم والأديان، فكذا يقال مثله في بلدان الروس والألمان واليابان وأمثالهم، فلم نجد لتحريم ذبائحهم نصًّا يجب المصير إليه، لا في القرآن ولا في السنة.

وإنني بمقتضى التتبع للدلائل من الكتاب والسنة لم أجد لتحريم ما ذبحه الكافر أصلاً يعتمد عليه، وإن المحرّمات في القرآن هي ما نص الله عليها بقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بِ‍َٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ ١١٨ وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ.. إلى قوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام:118-121].

وهذه المحرّمات التي أشار إليها بقوله: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. يعني بذلك قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3]. وهي من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها، ولم يذكر فيها تحريم ما ذبحه الكافر.

فقوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ يعود إلى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فكلها متى أدركها صاحبها وبها حياة مستقرة وذبحها فإنها حلال، فإن فاتت عليه، وماتت قبل أن يدركها، فهي حرام، كتحريم الميتة حتف أنفها، فلا تبيحها التذكية. وهذه الآية توافق آية سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام:145]. وهي نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى دليل. فالدم الحرام هو الدم المسفوح، بخلاف ما يوجد في خلال اللحم، فإنه حلال. ومثلها آية النحل، وهي قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ [النحل: 114-115].

فهذه محرّمات القرآن.

وقد حرّمت السنة كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرّمت أكل لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس. وفي أكلها الخلاف المشهور بين الصحابة ومن بعدهم.

وقد اتفق الفقهاء على مشروعية ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة، ولكن اختلفوا: هل هي واجبة، وشرط لحل الذبيحة، أو هي مستحبة، أي ليست بشرط لحل الذبيحة؟ فقول الجمهور ومنهم الإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد: أن التسمية شرط في حل أكلها؛ واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121].

فإن تركت التسمية عمدًا لم تحل، وكانت كالميتة، وإن تركت سهوًا فإنها مباحة الأكل.

وذهب الإمام الشافعي وأصحابه إلى أن التسمية مستحبة، وليست بواجبة، وإن تركها عامدًا أو ساهيًا أكلت. وليس في أكلها حرج. وهي رواية عن الإمام أحمد ومالك. واحتجوا بقوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145].

فهذه هي المحرمات، ولم يدخل فيها متروك التسمية. وقالوا: إن الله أحل لنا طعام أهل الكتاب، والمعروف عنهم أنهم لا يسمّون على ذبحهم. وقالوا: إن معنى ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ، أي لا تأكلوا مما ذُبح لغير الله، فهذه توجيهات الإمام الشافعي، ومن قال بقوله. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121]. يعني الميتة.

فمتى تأملنا نصوص القرآن والسنة؛ نجدها متوافقة على تحريم ما أُهل به لغير الله، وعلى ما لم يذكر اسم الله عليه. وفي التسمية الخلاف المشهور كما ذكرنا، وكذا تحريم الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير.

أما تحريم ذبح الكافر متى ذبح للبيع، أو ذبح لإرادة الأكل، فإننا لم نجد لتحريمها أصلاً في القرآن والسنة، سوى ما شاع على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم من قولهم بتحريم ذبيحة المشرك الوثني، واستنبط بعض العلماء تحريمها من قوله: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. قالوا: فتخصيص إباحة ذبائح أهل الكتاب مما يدل على تحريم ذبائح غيرهم من سائر الكفار. وليس هذا بدليل يجب الأخذ به، فلا معنى للاحتجاج بمفهومه.

فلو كان كذلك لقلنا في قوله: ﴿وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡ [المائدة: 5]. أي أن ذبائحنا وطعامنا حل لأهل الكتاب، وحرام على غيرهم، ولم يقل بذلك أحد فيما نعلمه.

وإننا متى بحثنا في القرآن فإننا نجد فيه صريح الجواب وفصل الخطاب في إباحة ذبائح سائر الكفار من كل ما ذبحوه للأكل أو البيع. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. وقال: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21].

وقال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗا [الأنعام: 142]. فالحمولة ما يحمل عليه ويتبلغ به من بلد إلى بلد، والفرش هو ما يفرش ويؤكل.

وهذا الخطاب المتضمن لإباحة أكل لحوم الأنعام وشرب لبنها هو عام لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ولم يقل أحد من العلماء والفقهاء والمفسرين: إن هذه إباحة مختصة بالمسلمين دون الكافرين؛ لأن هذه من أمور الدنيا المشتركة بين المسلمين والكفار والمتقين والفجّار، كما قال سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ [الإسراء: 70]. فلم يبح سبحانه لجميع بني آدم التنعم بالطيبات في الدنيا من أكل اللحم وشرب اللبن وأكل سائر الفواكه والخيرات إلا وهو ملتزم الإباحة لما يترتب عليه من الذبح للحيوان، لا فرق في ذلك بين المسلمين والكفار.

ولا ينبغي أن ننخدع بنقل فقهاء المذاهب بقولهم بتحريم ما ذبحه الكفار مع قولهم بإباحة أكل لحم الحيوان في حق كل مسلم وكافر. وإنما استفاض القول بهذا بسبب تقليد الفقهاء وأئمة المذاهب من بعضهم لبعض وهم ينهون عن تقليدهم؛ لأنه قد خفي عليهم ما عسى أن يظهر لغيرهم.

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله مخالفة الفقهاء السنن الصحيحة الصريحة فيما يزيد على ثمانين مسألة، كما خالف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أئمة المذاهب الأربعة في سبع عشرة مسألة مشهورة ولم ينكر عليه في ذلك أحد.

والكلام هنا هو في ذبح الكافر للحيوان لإرادة الأكل أو البيع وأنه جائز وحلال بلا شك..

* * *

فصْـل

ويظهر أن القول بتحريم ذبائح المشركين اشتهر بين الصحابة؛ لمبالغتهم في تحريم الشرك، والتنفير عن الذبح لغير الله، فكانوا لا يقربون الأكل من ذبائح المشركين؛ لكونها مظنة لذلك. ويحتمل أنهم قالوا ذلك في سبيل دعوتهم إلى دين الإسلام، حيث إنهم اشتد بغضهم للشرك والمشركين، وهم بنو العم والعشيرة، فأرادوا هجرهم بعدم إجابة دعوتهم، وتحريم ذبائحهم، فيحدث لهم بذلك شيء من الانكسار والذل، مما يرجى أن يحدو بهم إلى الالتجاء باعتناق الإسلام واعتقاده، ولأن من سياسة دين الإسلام التشديد في معاملة مشركي العرب، حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام. وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم إلى دين الإسلام، وبيان سماحته معهم. وإلا فإن الله سبحانه قال: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121]. سواء فسرناه بمتروك التسمية، أو الميتة، أو بما ذبح لغير الله من الأصنام والقبور، ثم قال: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ [الأنعام: 119].

وإن سبب إباحة الذبيحة بالتذكية؛ هو البعد عن مشابهة المشركين في أكلهم الميتة من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، حيث كانوا يستبيحون أكل هذه الأنواع بعد موتها، ويقولون: كيف نأكل ما قتلنا ولا نأكل ما قتل الله؟

وإن سبب وجوب التسمية على الذبح والصيد هو إبعاد المسلمين عن مشابهة المشركين، أو مشاركتهم في الذبح لغير الله، وإهلالهم بالذبح لأصنامهم والمقبورين منهم. وكانوا يرفعون أصواتهم بالإهلال بها لأصنامهم، فأحب القرآن أن يطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك الذي هو شائع ومنتشر بينهم. وقد اعتادوا النطق عند الذبح بذكر أصنامهم، كاللات والعزى ومناة وهبل، وأصنام متعددة ومتنوعة، فهم غارقون في محبتها، وتقديم القرابين لها. ولما قدم وفد خولان على النبي ﷺ فقال لهم: «ما فعل عم أنس؟». وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه عم أنس. فقالوا: أبدلنا الله به ما جئت به. وقد بقيت منا بقايا من شيوخ كبار وعجائز متمسكين به، وإننا منه في شر وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» فقالوا: لقد رأيتنا أسنتنا - أي أجدبنا - سنة حتى كنا نأكل الرّمّة، فجمعنا ما قدرنا عليه من المال حتى اشترينا مائة ثور، فنحرناها كلها قربانًا لعم أنس، وتركنا السباع ترتادها، وتتردد عليها، ونحن والله أحوج إليها من السباع[143]. فجاءنا الغيثُ من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يواري الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس.... فرجعوا إلى قومهم، فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عم أنس.

ولهذا أكثر الله سبحانه من تحريم ما أُهل به لغير الله، وقد بقي في الناس بقايا من أثر الجاهلية الأولى، وعادات الشرك والمشركين، وذلك في ذبحهم حين يستجدون سكنى بيت، فيذبحون على عتبته ذبيحة أو ذبائح للجن لا يسمّون الله عليها، فهي مما أُهل به لغير الله، حرام أكلها. ومثله: ما ذبح للزار في سبيل رضائه؟ فهي مما أُهل به لغير الله. ومن الشرك بالله: الذبح لغير الله. وقد لعن رسول الله ﷺ من ذبح لغير الله.

وحاصل الأمر: أن بلدان الشيوعية، كسائر بلدان الكفار الذين لا يدينون بدين الإسلام. وحيث لم نجد لذبحهم وذبائحهم التي تذبح للأكل أو البيع نصًّا صريحًا يحرمها، كما حرّم سبحانه نكاح المشركين والمشركات في قوله: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]. وفي قوله: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ [البقرة: 221]. وتحريم نكاح المشركات لا يستلزم تحريم ذبائحهم، ولكل شيء حكمه.

وقد فتح الصحابة بلدان الروم وفارس، وهي تغص من شتى الأمم الكافرة، فكانوا يأكلون ذبائحهم، وجبنهم، ويدهنون بدهنهم، ولم يثبت عنهم نصب مراقبين على الجزّارين ليميزوا بين ذبيحة أهل الكتاب وذبيحة غيرهم، لكون الأصل في الذبائح المجهولة الإباحة.

ثم إنني بعد كتابتي لما ذكر رأيت في تفسير المنار التصريح بهذه المسألة قائلا[144]:

أخذ الجمهور من مفهوم قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. أن طعام الوثنيين- أي ذبائحهم- لا يحل للمسلمين، أخذًا منهم بمفهوم اللقب، كما يحتج بعض الشافعية به، والجمهور لا يحتجون به. والقرآن لم يحرّم طعام الوثنيين، ولا طعام مشركي العرب مطلقًا، كما حرّم نكاح نسائهم، بل حرّم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم.

وإن الصابئين والمجوس لا يطلق عليهم لقب المشركين؛ لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين والذين أشركوا صنفًا، واليهود والنصارى والصابئين والمجوس أصنافًا أخرى، يعطف أحدها على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة.

إذا علمت هذا: تبين لك أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين يتناول جميع الذين كفروا بنبينا وبالقرآن النازل عليه، ولم يدخلوا في دينه؛ وأن للاجتهاد مجالاً في جعل لفظ المشركين في القرآن خاصًّا بوثنيي العرب، فلا يكون استحلال ذبائحهم كفرًا، ولا خروجًا عن دين الإسلام. قال: ولسنا نقول بهذا بنظريات اجتهادية من عند أنفسنا، وإنما نقوله بما غفلوا عنه من كتاب الله، لظنهم أن أئمتهم من الفقهاء قد أحاطوا بكل شيء علمًا، وخفي عليهم أن كثيرًا من العلماء من أمثالهم قد خالفوهم في كثير من المسائل، ومن فوقهم من الصحابة والتابعين، والأصل هو الإباحة في الأشياء، حتى يرد الأمر بالنهي عنها، فيجب رد الأمر إلى الكتاب العزيز، وإلى السنة المطهرة. انتهى كلامه.

فقوله: إن بعض العلماء قد خالفوا أئمة المذاهب في كثير من المسائل، يشير بهذا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنه قد خالف الأئمة الأربعة في سبع عشرة مسألة معروفة مشتهرة، ولو طالت به الحياة لاستظهر في خلافهم ما هو أكثر منها. ومثله العلامة ابن القيم رحمه الله فقد ذكر في كتابه إعلام الموقعين أن الفقهاء قد ردوا كثيرًا من السنن الصحيحة الصريحة لمخالفتها لمذهبهم، وما عليه فقهاؤهم، وقد قيل: كم ترك أول لآخر، وسبحان من لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.

ثم إن هذه المسألة تعطي العالم العاقل شيئًا من التأني والتريث عن المبالغة بالجزم في تحريم ما لم يحط بعلمه، وتنهى عن الغلو والإفراط في التحريم بدون دليل.

وأكثر الذين يبالغون في التشنيع والتشديد في التحريم لمثل هذا الدجاج، هم يرونه من باب الورع عن أكل اللحم الحرام، وفي الغالب لن يستطيعوا التنزّه عن أكله، وإن تعففوا عنه في خاصة أنفسهم، فلن يستطيعوا التنزّه عنه في عامة أهلهم وعيالهم، ومن يأكل هذا اللحم وهو يعتقد إباحة حله، خير ممن يأكله وهو يعتقد تحريمه.

وقد وقعت مناظرة بيني وبين أحد العلماء المشهورين بالفقه في لحم هذا الدجاج، وكان هذا العالم يميل إلى كراهته، ويرجح القول بتحريمه، بناء على ما بلغه في صفة تذكيته، وبعد أن أوردت عليه ما عسى أن يحضرني من الدلائل المقتضية لإباحته، رأيته كأنه اقتنع بها، فقال قبل أن يقوم من المجلس: إني أقول بالتحريم، وإن الثلاجة في بيتي مملوءة من الدجاج المستورد من الخارج. وهكذا أكثر أحوال المتشددين.

إن الحاجات هي أُم الاختراعات، وإن غرق الناس في هذه اللحوم قد أكثر من سؤالهم عنها: أهي حلال أم من الحرام؟ لهذا وجب علينا بيان حكمها بما ظهر لنا من دلائل السنة والكتاب لإزالة ما غشيها من الشك والارتياب. والله الموفق للصواب.

* * *

[143] ذكره العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) في فصل وفود العرب. [144] تفسير المنار- المجلد السادس- ص 185.

الأدهان والجبن المستورد مِن بُلدان أهل الكتاب وغيرهم

إنه قد شاع بين الناس القول بتحريم الأدهان النباتية وغيرها، بحجة أنه يوجد فيها شيء من دهن الخنزير، كما أشاعوا أيضًا عن الجبن المجلوب من بلدانهم، وأن فيه شيئًا من جبن الخنزير، فهذه الأدهان وهذا الجبن محكوم بطهارتها وإباحة أكلها كسائر الأدهان الطبيعية، ومتى علم فيهما شيء من دهن الخنزير أو جبنه عن طريق اليقين فإنه يجب اجتنابها، ولا ينبغي أن يعتمد في التحليل والتحريم قول العامة، إذ إن أكثر أقوالهم لا يعتمد على شيء من اليقين، لكن تعرف نجاستها بالكتابة المرقومة عليها، فمتى كتب عليها أن بها جزءًا من دهن الخنزير أو جبنه، وجب اجتنابها.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في صفحة 153 من المجلد الثاني من الفتاوى القديمة.. قال ما نصه:

إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة، وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو الأئمة، فإن هذا من فعل أهل الجهل والأهواء.

قال: وإذا تنازع اثنان في لحوم أهل الكتاب، أحدهما يقول بالإباحة والآخر يقول بالتحريم، فإن القول هو قول من يدعي الإباحة، إذ هي الأصل.

ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم، فمن أنكر ذلك قد خالف إجماع المسلمين.

قال: وهذه الوجوه تثبت بيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، وأن مثل هذه المسألة ونحوها من مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فإنه خلاف إجماع المسلمين.

فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، فليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر قول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سمّوا عليها غير الله. وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا، ونحو ذلك من المسائل الاجتهادية. وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين. فمن صار إلى قول منهم مقلّدًا لقائله، لم يكن له أن ينكر على من خالفه، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول بغير حجة، بل إن من كان مقلدًا لمذهبه لزمه حل ربقة التقليد عن عنقه، فلا يرجح ولا يزيف ولا يصوّب.

ومن كان عنده شيء من العلم والبيان فليقل به، ويجب أن يستمع ما يتبين أنه الحق، ويرد ما تبين أنه الباطل.. والله سبحانه قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، فمن لم يعرف إلا قول عالم واحد، وحجته دون قول العلماء وحجتهم، فإنه من العوام المقلّدين، لا من العلماء المجتهدين الذين يرجحون.. والله الموفق.. انتهى.

وعلى كل حال، فإن هذه المسألة ليست من أصول دين الإسلام، ولا من عقائده وقواعده، وإنما هي مسألة فرعية يقع الخلاف دائمًا بين العلماء فيما هو أكبر منها، لا سيما على قول من يقول: إن الذبح من العادات..

والله يعلم أنني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرّص في الأحكام، ولا الاستهانة بأمور الحلال والحرام، وإنما بنيت ما قلت على صريح الدلائل من الكتاب والسنة، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله. وقد يظهر لقارئه ما عسى أن يخفى على قائله: ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ [يوسف: 76].

فأيما عالم تبين له من الحق خلاف ما قلت بمقتضى الدلائل الواضحة من الكتاب والسنة، فإن من واجبه أن يبينه للناس ولا يكتمه، فإن الحق فوق قول كل أحد، والحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع، وسبحان من لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير.

وفي الختام، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرّمه الله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ولا تغلوا في دينكم ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ [النحل: 116].

والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

الرَّد على المعترضين

الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمد رسول الله.

أما بعد:

فقد وصل إليّ رسالة من باريس، يسأل صاحبها عن مسائل مما يتعلق برسالتنا فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب.

قائلا: إنني تلقيت رسالتك فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، فرأيت فيها في صفحة 25 قولك: (وقد فتح الصحابة بلدان الروم وفارس وهي تغص بشتى الأمم الكافرة، فكانوا يأكلون ذبائحهم) فسألتك عن مصدر هذه المعلومات.

فأجبته قائلا: اعلم أخي أن من جهل شيئًا بادر بإنكاره وتكذيبه، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، وأن الأمانة في النقل توجب على الناقل أن ينص الحديث إلى أهله كما قيل:
ونُص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
وأنا أحيلك في ذلك إلى نقل الثقة الثبت العالم بالمعقول والمنقول وبالتاريخ والسير، أعني شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله فقد قال في المجلد الثاني من الفتاوى الكبرى في مسألة ذبائح أهل الكتاب ص 153، قال: إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو أئمة المذاهب، فإن هذا من فعل أهل الأهواء والجهل. ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم. فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين. انتهى.

إنك لو أعطيت الرسالة حقها من التأمل والتدبر، لوجدت فيها صريح ما ذكرنا. وقد كانت بلدان النصارى في قديم الزمان وحديثه مختلطة بشتى الأمم الكافرة.

وأما قولك: وهل يوجد في ذلك الزمان دكاكين تباع فيها اللحوم؟ فالجواب: أن هذا سؤال واقع في غير موقعه الصحيح، إذ من المعلوم أن أحوال الناس متجانسة، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإن الدكاكين موجودة زمن الصحابة وقبلهم، ولا يزال لها ذكر في الكتب والعلوم الشرعية، وتسمى الحوانيت، ولم يزل من قديم الزمان البيع فيها، كما قالوا: إن عمر بن الخطاب حرق الحوانيت التي يباع فيها الخمر.

وليس من شأن علم الفقه والأصول أن يذكر ما تشتمل عليه الحوانيت من صغير وكبير، وجليل وحقير، حتى يذكر بيعها اللحم. إذ لا يتعلق بذكره حكم، فإن اللحم الحلال بيعه حلال. وكان ابن عباس يعطي خادمه دراهم يوم عيد الأضحى يشتري بها له لحمًا ويقول له: إن سألك أحد عن هذا اللحم قل: هذه أُضحية ابن عباس. ذكرها ابن قدامة صاحب المغني في كتاب الأضاحي.

ثم قلت: وهل القاضي ابن العربي رسول الله حتى يقبل كل ما أدى إليه اجتهاده، إذ المجتهد يخطئ ويصيب.

وأقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن العربي وغيرهما من سائر الأئمة ليسوا بأرباب ولا أنبياء، ولكنهم مجتهدون، يؤخذ من قولهم ويترك، ومع هذا فإنهم أعرف مني ومنك بالمعقول والمنقول، وأقرب إلى فهم النصوص والأصول، لكن العلماء المؤلفين عندما يخوضون في بحور العلوم الواسعة، ويتعرضون فيها للمشاكل الغامضة التي من شأنها أن يخفى التحقيق فيها على بعض العلماء المشاهير فضلا عن العامة، فهم يسوقون أقوالهم مساق الاستئناس والتقوية حذرًا من دعوى الشذوذ بها، فهم يحتجون بها على سبيل الاعتضاد لا الاعتماد، عملا بقوله سبحانه: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44]. ولقول النبي ﷺ في صاحب الشجة: «هَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»[145] وكان بعض الصحابة قد تصدوا للإفتاء والنبي ﷺ حي.

وأنا أزيدك بحثًا مما عسى أن يزيدك علمًا، وذلك أن النبي ﷺ والذين أسلموا معه بمكة، وهم كبراء المهاجرين وعلماؤهم، مكثوا بمكة عشر سنين وهم يأكلون من اللحوم مما يأكله ويذكيه أهل مكة على كفرهم، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه نهى الصحابة عن أكل لحومهم، بل ثبت عنه في حديث الهجرة أنه لما أتى أُم معبد في خيمتها، وهي على دين قومها: الشرك، فكان أول ما بدأها به أن قال: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ لَحْمٍ أَوْ لَبَنٍ؟». فقالت: والله لو كان عندنا شيء من ذلك لم نحوجكم إلى القرى[146]. وكان القوم مسنتين (مجدبين) ذكره ابن هشام، وابن كثير. إنه لم يسألها عن اللحم إلا ليأكله، مع علمه ببقاء جاهليتها.

ولقد رأيت في فتاوى بعض علماء هذا العصر، لما طرق موضوع الكلام على تحريم ذبائح الشيوعيين، علل ذلك بأن الله سبحانه أباح ذبائح الأنعام للمؤمنين وأهل الكتاب يتنعمون بها في حياتهم، بخلاف الكافر الذي ينكر وجود الرب، ويجحد رسالاته، فإن الله سبحانه لم يعطه الحق في أن يذبح ويأكل من هذه الحيوانات والدجاج المخلوقة، إذ ليس له الحق في أن يزهق روح حيوان، وليس عنده إذْنٌ من الله في إباحة أكله فلا يحل ذبحه وذبيحته. ومن هنا نعلم أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا هذا الدجاج واللحوم التي تجلب من عند الشيوعيين، فقد ذبحها قوم ينكرون وجود الله عز وجل. انتهى.

وأقول: إن هذا العالم- عفا الله عنه- قد حصر جواز الذبح للحيوان والطيور والانتفاع بأكله لخواص المسلمين وأهل الكتاب، بخلاف الكفار. فإنهم بزعمه لا يجوز لهم أن يذبحوا، ولا أن يأكلوا، ولو لخاصة أنفسهم أو بني جنسهم، وهذا خطأ فهم يغفر الله له. ومن كان هذا غاية اعتقاده، وكونه علة التحريم لما ذبحه الكافر، فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر، فإن الحيوانات والطيور وذبحها والتمتع بأكلها هي من أُمور الدنيا التي يشترك فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر؛ فإن الله سبحانه خلق البهائم كرامة ونعمة لجميع الناس، مسلمهم وكافرهم، كسائر الثمرات والخيرات، يقول الله تعالى: ﴿كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠ [الإسراء: 20]. وقال: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [الأعراف: 32]. للمؤمنين فلا يشاركهم فيها غيرهم. ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21]. والخطاب لجميع الناس، فصرح القرآن بإباحة أكل هذا الحيوان لجميع الناس على حد سواء. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. والخطاب لجميع الناس مسلمهم وكافرهم.

والله سبحانه لم يبح أكل لحوم الأنعام لجميع الناس مسلمهم وكافرهم إلا وهو مستلزم لإباحة ذبحه لكل مسلم وكافر، لكونه من التمتع بأمور الدنيا كالألبان والثمرات وسائر أنواع الخيرات. وكذا السمك، صيده وأكله، إذ صيده بمثابة تذكيته المباحة في حق كل مسلم وكافر، فلا معنى لاختصاص المؤمنين بها دون غيرهم، ولا عبرة بغفلة العلماء والأئمة عن مثل هذه المسألة، إذ كلهم مجمعون على أن من استبان له الحق، فإنه يجب عليه اتباعه، وإن خالف جميع الناس، إذ لا يترك حق لانفراد قائله، كما أنه لا يقبل باطل لكثرة ناقله. وكما قال سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ [الإسراء: 70].

واللحم وإباحته هو من أطيب الطيبات، كاللبن والثمرات، وسائر الخيرات المخلوقة بطريق الاشتراك بالتنعم بها بين المسلمين والكفار. وفي دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فقال الله: ﴿وَمَن كَفَرَ [البقرة: 126]. أي فإنني أرزقه من الثمرات وأنواع الطيبات، فلا نجد دليلاً قاطعًا من الكتاب والسنة يحرّم ذبح الكافر للحيوان والدجاج، ولا يحرم أكل ما ذبحه الكفار، سوى أقوال لا تقوم عليها الحجة، كقول هذا المفتي ونحوه من أقوال الفقهاء المتقدمين التي يتناقلونها بينهم بدون دليل.

والحق فوق قول كل أحد، ولا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، خصوصًا عند من يرى أن الذبح من العادات لا من العبادات، إلا إذا قصد به العبادة، كذبح الأضحية، والنسك، والعقيقة، والمنذورة لله. وإن قصد به الشرك، كالذبح للقبر أو الولي، أو الجن، أو الزار، فإنه حرام ذبحه وأكله، لكونه مما أُهل به لغير الله. وقد نهى الله عباده عن أن يقولوا في الشيء: هذا حرام بدون يقين من التحريم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116]. وقال: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119].

وهذه المحرمات التي فصّلها القرآن هي المذكورة في قوله سبحانه: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ [النحل: 114-115].

فبدأها بقوله: ﴿إِنَّمَا وهي أداة حصر، كأنه لا حرام غيرها، كما حصر بقوله: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145].

ثم عاد إلى بيان تحريم ذلك في سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها. قال: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3].

فهذا التحريم في هذه الآية هو نفس التحريم في الآيات قبلها، إلا أن فيها تقسيم أنواع الميتة، وأن منها ما يموت حتف أنفه، ومنها ما يموت بسبب الخنق بالحبل وغيره. ومنها ما يموت بمثقل، ويسمى بالوقيذ وهو المقتول بالمعراض والدبوس وغير ذلك، فإن قتل بحده فخرق حل أكله. ومنها المتردية من جبل أو سطح عال، ومنها ما أكلته السباع، فكل هذه متى ماتت فقد فاتت على صاحبها وحرّم أكلها، فإن أدركها صاحبها وبها حياة مستقرة، كأن تومئ بطرفها أو ذنبها، فذكاها، حلّ أكلها.

وإنما حرمت هذه الأنواع من أجل أن فيها تعذيب الحيوان عند إرادة ذبحه للأكل، وفي الحديث «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس.

لقد كان النبي الكريم، والرسول الرؤوف الرحيم، يراعي الإحسان إلى الحيوان برحمته في راحته عند ذبحه، بسرعة إزهاق روحه، حتى يموت فيستريح، فقال: «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، وإن القصد هو إخراج روحه حتى لا يحس بالسلخ والطبخ. وإن الناس في هذا الزمان، وخاصة في بلدان النصارى، قد أحدثوا للذبح عملية مريحة، يرون أنها أرفق وأسهل للحيوان عند ذبحه، وخاصة الدجاج، فهم يصفّون ألفًا، أو عشرة آلاف دجاجة على سلك كهربائي، فيسلطون عليه تيار الكهرباء، فتموت كلها في لمحة البصر. وهذه عملية غاية في الراحة عند الذبح، وهو عمل مقصود للتذكية عندهم. لكن المسلمين ينكرون هذا الذبح بهذه الصفة، حيث لا يرون عليه أثر الدم، فهم يلحقونه بالميتة. ولأن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» متفق عليه[147].

فالقتل بالظفر وبالسن هو تعذيب للحيوان، مضاد لراحته ورحمته عند ذبحه، ويظهر من الحديث أن ذكر الدم جرى مجرى العادة عند الناس وكونها لا يمكن أن تؤكل ويحل لحمها إلا بالتذكية المعتادة، التي من لوازمها خروج الدم وقطع الحلقوم والمريء بآلة حادة. وقد أجاز النبيﷺ ذبح المرأة لشاة بحجر ولم يسأل عن كيفية ذبحها. على أن خروج الدم ليس هو المبيح لأكلها، فلو طعنها بفخذها أو في بطنها، فظهر دمها، فماتت، لم يحل أكلها إذا كانت مقدورًا عليها؛ لأن هذه الصفة تعذيب للحيوان بغير حق. ويستثنى غير المقدور عليها كالبعير الناد، والتيس الشارد، والمتردية في البئر، فإنه إذا طعنها في أي موضع من جسدها أُبيح أكلها.

وقد ثبت بالكتاب وبالسنة جواز أكل نوع من الحيوان بدون تذكية، وبدون خروج الدم، وهو ما صاده الصقر، أو صاده الكلب المعلم، وذكر اسم الله عليه، فإنه يباح أكله، وإن لم يجرح، لقوله سبحانه: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتَّهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَهُ»[148]. وقد بسطت الكلام وذكرت أقوال العلماء في متروك التسمية في رسالة فصل الخطاب. فليراجع، حيث فسرها بعض العلماء بالميتة، وفسرها بعضهم بالمذبوح للأصنام والقبور.

وقلت أيضًا في الرسالة: أفلا نجعل ما ذبحه أهل الكتاب بمثابة ما قتلته الصقور والكلاب، بحيث نسمي الله عليه ونأكله، ولا نسأل عنه، حتى ولو لم نجد عليه أثر الدم، لكون القتل بالكهرباء هو تذكية مقصودة لراحة الحيوان والدجاج، بإزهاق روحه بسهولة، فيقول بعض الفقهاء: إن الدم متى بقي في الجسم ولم يخرج منه فإنه ينجس اللحم، فهذا ليس بصحيح، فإن الدم متى بقي في الجسم فإن حكمه حكم اللحم طهارة ونجاسة، والله سبحانه إنما حرّم على الناس الدم المسفوح، وقد ذكرنا إباحة ما صاده الصقر والكلب وإن لم يجرحا.

والحاصل: أن الذبح بالكهرباء جائز، ويترتب عليه صحة مقتضاها من إباحة أكلها. وقد أهدت اليهودية إلى النبي ﷺ الشاة المشوية، فأكلها وأصحابه، ولم يسأل عن كيفية تذكيتها.

وقد جاءت السنة بتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وأكل الحمر الإنسية، وفي الجميع الخلاف المشهور عند الأئمة.

كيف يستدلون بحديث قوم حديثي عهد بجاهلية وهم مسلمون وليسوا بكفار على جواز ذبائح غير المسلمين؟

فالجواب: أن هذا الحديث مشهور، وله دخل في أُصول الأحكام، وأمور الحلال والحرام. رواه البخاري ومسلم عن عائشة أُم المؤمنين: أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا».

وهذا دليل قاطع على أن جميع الأشياء المجهولة يرجع فيها إلى أصل الإباحة حتى يثبت دليل التحريم.

ولما جاء عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص إلى صاحب حوض فيه ماء فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض، هل يرد على حوضك الكلاب والسباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا. وكذا يقال في المياه المتحجرة في الطرق وكونها محكومًا عليها بالطهارة. وكذلك اللحوم والدجاج والأدهان والألبان، وسائر ما يجلب من الخارج، فكل هذه محكوم بطهارتها وإباحة أكلها، فهي داخلة في عموم قوله: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا».

ولم يكلفنا الله ولا رسوله البحث والتفتيش عما خفي علينا. وحيث يقول بعض الناس: إن في بعض الأدهان دهن خنزير، وإنهم يقتلون الحيوان بالصعق، بأن يضربه على رأسه حتى يموت، وإنهم يقتلون الدجاج بإلقائه في الماء المحرق وهو حي حتى يموت، فكل هذا من الدجل الذي يتلقفه بعضهم عن بعض، على سبيل: قالوا وزعموا.. وفي الحديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[149].

والصحيح أنهم إنما يضربون الحيوان - وخاصة الثيران- على رأسها بالدبوس، لغيبوبة إحساسه عن قوة الحركة والاضطراب، ثم يذكونه بالسكين وهو حي سوي، وكذلك الدجاج إنما يلقون به في الماء الحار بعد قتله بالكهرباء، وهو أمر جائز بدون ملام، إذ ليس بجرح ميت إيلام. أما الذين يحتجون بتحريم ما ذبحه الكفار فليس عندهم سوى مفهوم قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وهذا مفهوم لقب، ولا يحتج به عند الجمهور، ولو كان حجة لقلنا في قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡ [المائدة: 5]: إن ذبائح المسلمين حلال على أهل الكتاب وحرام على غيرهم، ولم يقل بذلك أحد، فبطل الاحتجاج به.

أما لو علمنا بطريق اليقين أنهم يلقونه في الماء الحار وهو حي حتى يموت، فإن هذا تعذيب له بغير حق، والله قد كتب الإحسان على كل شيء، فهو عمل حرام، حتى عند النصارى، فإنهم أشد رفقًا بالحيوانات، ولديهم جمعيات للرفق بالحيوان، ويوقعون الجزاءات والعقوبات على من يقع منه التعدي على الحيوان. ومع هذا كله فإننا لا نتكلف البحث عما خفي علينا. فلو تصدى شخص للسؤال عن كل ما يقدم إليه من اللحم، أو عما يشتريه، فإنه يعجز لا محالة عن الوقوف على اليقين فيه، يسأل عن ذابحه أهو كتابي أو مشرك؟ ثم يسأل: هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ ثم يسأل: هل قطع منه الحلقوم والمريء المشروط لصحة تذكيته عند الفقهاء أم لا؟

فلو فعل ذلك لعده الناس مجنونًا، لكونه غاية في التكلف، والنبي ﷺ قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قالها ثلاثًا[150]. ويكفي عن هذا كله في إباحة أكله أن يقول: باسم الله. ثم يأكل، فإن التسمية تقتضي تطهيره وإباحة أكله. وقد أهدت اليهودية للنبي ﷺ شاة مصلية، فأكل منها وأصحابه، ولم يسأل عن كيفية ذبحها ولا عن ذابحها، وقد قدمنا فيما سبق: أن الذبح هو من العادات وأمور الحياة التي يشترك فيها البر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا ما استثنى الله من كتابه ورسوله في سنته من المحرمات. وقد قال مفتي المنار: إن مسألة الذبح والذبائح ليست من المسائل التعبدية، وإنه لا شيء من فروعها يتعلق بروح الدين وجوهره إلا تحريم الذبح لغير الله، لأن هذا من عادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم الله علينا أن نشاركهم فيها، كما حرم علينا التزوج بالمشركات بالنص الصريح في قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّ [البقرة: 221]. وقال: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]. ولم يحرم علينا ذبائح المشركين بالنص الصريح، بل حرم علينا ما أُهل به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام، انتهى.

ثم إن السائل أورد علينا خبرًا زعمه حديثًا، وهو قوله في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ألا تأكلوا ذبائحهم، ولا تنكحوا نساءهم، وزعم أنه رأى ذلك في فتوح البلدان للبلاذري، وفي تاريخ ابن جرير.

فأجبته بأن هذا النص المقتضي للتحليل والتحريم لا ينبغي أن يؤخذ من التاريخ، إذ إن التواريخ على اختلافها مبنية على القصص والأخبار، فيدخل التساهل في النقل، ويدخل فيها الكذب والزيادة والنقص كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كلَّ ما
جمع الرواة وخط كل بنان
وقد حقق علماء الحديث عدم صحة هذا، وكونه لم يثبت فيه إلا قوله: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ». يعني في أخذ الجزية منهم، وهو حديث منقطع. قال ابن حجر العسقلاني في قوله: غير ألا تأكلوا ذبائحهم ولا تنكحوا نساءهم. قال: فهذه مدرجة وليست من أصل الحديث... والصحابة إنما حصل الكلام بينهم في ضرب الجزية على المجوس، حيث قال بعضهم: إنهم وثنيون يعبدون النار، فلا يجوز أخذ الجزية منهم، فشهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر.

وأما تحريم ذبائحهم فلم يثبت تحريمها بنص صحيح، غير أن الصحابة لمّا هداهم الله إلى الإسلام صاروا يبغضون المشركين وذبائحهم، ويظنونها مما ذبح لغير الله، ويمتنعون عن أكل طعامهم، ويتلون قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ [التوبة: 28].

ولما قدم أبو سفيان المدينة لمحاولة تجديد صلح الحديبية، فنزل على ابنته أُم حبيبة زوج النبيﷺ فجلس على حصير فطوته من تحته، فقال لها: أرغبت بي عن هذا الحصير؟ أم رغبت به عني؟ قالت: بل رغبت به عنك، إنه فراش رسول الله ﷺ وأنت مشرك نجس.[151] حسبت بدن المشرك وثيابه نجسة، والله سبحانه إنما عنى نجس الاعتقاد.

ولو كان كل ما ذبحه الكفار لإرادة الأكل أو البيع حرامًا كتحريم الميتة ولحم الخنزير، لما سكت القرآن والسنة عن بيان ذلك، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه مع العلم بكثرة اختلاط المسلمين بسائر أمم الكافرين من وثنيين وشيوعيين ومجوس وصابئين في كل زمان ومكان، من قديم الزمان وحديثه. وما يشعرني أن سكوت القرآن والسنة عن تحريم ما ذبحه الكفار على اختلاف مللهم، أنه رحمة من الله لعباده، لعموم البلوى بكثرة اختلاط المسلمين بهم، وشدة حاجتهم إلى ذبحهم وذبائحهم؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدارقطني بإسناد حسن.

فكل ما سكت القرآن والسنة عن تحريمه فإنه حلال قطعًا. والله يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وحيث لم نجد تفصيل التحريم لما ذبحه الكفار في الكتاب ولا في السنة علمنا حينئذ أنه مباح قطعًا، فإن الحلال هو ما أحل الله ورسوله، والحرام ما حرّم الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، أي حلال، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ولا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، ولا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.. والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

[145] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [146] انظر السيرة لابن هشام. [147] متفق عليه من حديث رافع بن خديج. [148] انظر نحوه (مسلم) كتاب الصيد والذبائح عن عدي بن حاتم وعن أبي ثعلبة الخشني. [149] رواه البخاري في (الأدب المفرد) عن ابن مسعود، ورواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة. [150] رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. [151] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.

استدراك

ثم إنني بعد فراغي من كتابة هذه الرسالة رأيت كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية يحقّق فيه صحة ما قلنا في إباحة ذبائح الكفار والمشركين، فأحببت تعليقه بهذه الحاشية إتمامًا للفائدة.

فقال في ج 21 من مجموعة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ص 576:

فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجِّسون ذبائح قومهم، وكذلك النبي ﷺ لم يُنقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذُبح للأصنام، أمّا ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يجتنبه. ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل الذين أسلموا ما لا قِبل لهم به، فإن عامة أهل البلد مشركون، وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا إلا من طعامهم وخبزهم وفي أوانيهم، لقِلَّتهم وضعفهم وفقرهم. ثم الأصل عدم التحريم حينئذٍ، فمن ادعاه احتاج إلى دليل. انتهى.

جمادى الأولى 1400 هـ.