1802

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الرابع

المعاملات و رسائل أخرى

(5) حكمة التفاضل في الميراث بين الذكور والإناث

حكمة التفاضل في الميراث بين الذكور والإناث

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

أما بعد:

لقد نشرت المجلة الإسلامية بالمدينة المنورة وغيرها من المجلات العربية عن أحد الملاحدة الذين يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتسبون إلى أهله وهم لهم أعداء قوله:

إن إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر في الميراث إن ذلك ليس من المنطق، وإنه نقص يجب البدار إلى إزالته لأنه لا يناسب تطور المجتمع وإنه ينبغي للحكام أن يطوروا الأحكام حسب تطور المجتمع.

وأقول: إنها متى فسدت الفطر والعقول لم يبق لضلالها حد معقول.

ولولا أن بدعة القول بمساواة الأنثى للذكر قد شاعت وانتشرت وصارت موضع لجاج وجدل، وأخذ يتلقفها إنسان عن إنسان، وتتنقل من مكان إلى مكان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، فلولا ذلك لما تكلفنا الخوض في تطويل الكلام في موضوعها، إذ هي من القضايا الجلية التي لا مجال للجدل في مثلها، وقد فطر الله جميع المسلمين على الإيمان بها والقسم في تركاتهم على حكمها منذ أن بعث الله نبيه محمدًا ﷺ إلى يومنا هذا، ولا عبرة بمن فسق عن أمر ربه واتبع هواه، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 49-50]. لأن الله سبحانه قد فصل فيها الكلام بأحسن تبيان فقال تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡ‍َٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓ [النساء: 32]. فنهى الله الرجل أن يتمنى بأن يكون كحالة المرأة وكذا المرأة أن تكون كحالة الرجل، ويسأل الجميع ربهم من فضله.

إن العقائد الباطلة الإلحادية يجب أن تحارب بالعقائد الصحيحة الدينية، لأن لكل داء دواء، فدحر الباطل بالحق هو مما يقلل فشو الباطل وعدم انتشاره واشتهاره؛ لأن الباطل لا يقوى إلا في حال رقدة الحق عنه فإذا انتبه له مزقه. يقول الله تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞ [الأنبياء: 18].

وبما أن الإسلام اعتقاد وقول وعمل فكذلك الكفر هو اعتقاد وقول وعمل.

وقد أجمع العلماء على كفر من استباح المساواة في الميراث بين الذكور والإناث فيما ورد فيه التفاضل في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ؛ لأنه كفر بالكتاب وبما أرسل الله به رسله وخروج عن شريعة الله إلى حكم الطاغوت، والله سبحانه قد فرض الفرائض وفصل الأحكام وبيَّن للناس الحلال والحرام وليس بعد بيان الله من بيان[91].

﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٧ [النساء: 7].

فكفى الله المؤمنين في كتابه المبين تفصيل القسم في الإرث بين الفريقين فأعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس، ولا منقوص، ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

إن التشريع هو خالص حق الله ورسوله ليس لأحد التدخل فيه بمقتضى الاطراد العرفي ولا الاقتضاء العقلي؛ إذ العقل البشري لن يصلح جعله ميزانًا للحق والعدل.

﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71].

إن الإسلام قد ابتلي بأقوام ينتسبون إليه وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه ويقوضون مبانيه، يقلبون حقائقه في المعقول والمنقول فيجعلون الباطل حقًّا والحق باطلاً والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا والعلم جهلاً والجهل علمًا، يحاولون رفع المرأة عن مستواها الذي خلقت له ويساوونها بالرجل فيما فرض الله فيه التفاضل بينهما في الميراث تأسيًا بالنصارى الذين انطبعت فيهم أخلاقهم، فتبعوهم على طرائقهم وقلدوهم في عقائدهم، يلتقطون لفظهم كلما لفظوا ويتبعون ضلالهم أينما انبعثوا، ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ٥١ [النساء: 51].

إن وظيفة المؤمنين الاستماع والاتباع لا الاستحسان ولا الابتداع ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ [الأعراف: 3]. والشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، ومنها المواريث الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، كلها تنزيل الحكيم العليم شرعها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد وأنها من أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية، فلا مجال للرأي فيما أثبت الله فيه التفاضل بين الذكور والإناث، ﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ [آل عمران: 83]. ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

فالإلزام بالحكم بالمساواة هو حكم جائر بحيث يلزم المسلمين بأن يتوارثوا الأموال بغير حق وبغير ما أنزل الله، فيأكل بعضهم أموال بعض. فتغيير الفرائض التي فرضها الله في كتابه هو تغيير لدين الله يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ [الشورى: 21]. وقد أمر الله نبيه باتباع ما شرعه وعدم الالتفات إلى ما يخالفه وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

سميت الشريعة شريعة لكون الناس يشرعونها وينصرفون عنها راضين بها مأخوذة من شرعة الماء التي يردها الناس.

فقوله: إن إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر إن ذلك ليس من المنطق!! فهذا القول ينبض بالضغن ويفيض بالحقد والطعن على الدين وعلى كتاب الله المبين، وقد قال بعض العلماء: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكِبْرٍ في نفسه. ثم تلا قوله تعالى: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ [الأعراف: 146].

لهذا يجب أن نسأل عن هذا المنطق الذي عناه والذي حاول أن يبطل به حكم الله أهو المنطق اليوناني؟ والذي قال فيه بعض علماء الإسلام: إن من تمنطق فقد تزندق. وأنشدوا:
واعجبًا لمنطق اليونانِ
كم فيه من إفك ومن بهتانِ
مخبط لجيد الأذهانِ
ومفسد لفطرة الإنسانِ
مضطرب الأصول والمعاني
على شفا هار بناه الباني[92]
والمنطق الذي عنى هو منبثق عن الفلسفة التي غايتها ضلال وسفه.

فقوله: إن هذا التقسيم نقص يجب البدار إلى إزالته!! فوصف شريعة الإسلام بالنقص وهو الناقص لا محالة؛ لأنه يحاول ويتمنى تغيير الشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، ليدفع الناس إلى الفوضى والإباحية، بحيث يعيشون عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام، فهذا غاية ما يتمناه هذا الإنسان، وقد حيل بين العير وبين النزوان، ولأجله استدعى حكام الإسلام إلى تطوير الأحكام.

فمعنى التطوير التغيير بجعلهم الحرام حلالاً، والواجب ليس بواجب. نفس ما يفعله النصارى، فقد أجازوا لعلمائهم القسيسين بأن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون؛ لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، من ذلك الصيام كان مشروعًا في ملتهم قيل: صيام خمسين يومًا، فلما رأى القسيسون أن الصيام تطول مدته عليهم، وأنه يَحُول بينهم وبين شهواتهم أخذوا يسقطون منه عشرًا عشرًا حتى أسقطوه بجملته وجعلوا صومهم عن مجرد الفاكهة فقط، فهذا هو التطوير الذي يريده منا.

وإن أرادوا فتنة أبينا

وهذا صريح منه بالجهر بالكفر والعدوان للإسلام.

إن دين الإسلام قد ابتلي بأقوام لا خلاق لهم، ينتسبون إلى الإسلام ويتسمون بأنهم من أهله وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، قد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥ [النساء: 115]. وقد قيل:
الدين يشكو بليهْ
من فرقة فلسفيهْ
لا ترى الشرع إلا
سياسة مدنيهْ
ويؤثرون عليه
مناهج فلسفيهْ
إن الشريعة الإسلامية مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، ولولا هذه الشرائع لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق.

وقد قال رجل من الفلاسفة من عظماء النصارى اسمه هربرت: إن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين، وبناءَها على أساس العلم والعقل، وإن الأمة التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا يحد ضررها. انتهى.

فمتى وُجِدَ من يبارز الدين بالعداء ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته ويدعو إلى الإعراض عنه وعدم التقيد بحدوده وفرائضه ويسعى جهده في تغيير شرائعه وأحكامه، فأولئك هم بغاة الشر ونواة الفتنة والمحاربون لله ورسوله ودينه، ساقهم حادي الغواية وقادهم داعي العماية إلى اكتساح دين الإسلام ودين قومهم العرب الذي شرفوا به على سائر الأمم في مشارق الأرض ومغاربها. كأنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم بأن لا يروا للإسلام والمسلمين حقًّا إلا خذلوه ولا يروا للنصارى باطلاً إلا نصروه بزخرف القول وخداع الألفاظ.
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن دين الإسلام ليس مقصورًا على الصلاة والزكاة والصيام فحسب بل كل ما يحتوي عليه القرآن من التعليمات والفرائض والحدود والأحكام والأمر والنهي والحلال والحرام وقسمة المواريث على حسب ما يستحقه كل فرد بحسبه.

فكل هذه تعتبر من الدين القويم، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36].

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ ٨٣ [آل عمران: 83].

إن الإسلام رفع حالة المرأة من الرق والاضطهاد والظلم وحرمانها نصيبها من الميراث؛ لكون العرب في جاهليتهم كانوا لا يورثون النساء ولا الأولاد الصغار ويقولون: لا نورث إلا من يحمل السلاح معنا ويقاتل عدونا. فرفعها الإسلام إلى حالة العز والإكرام والاحترام، وأن لها كامل التصرف في مالها حين تبلغ رشيدة، وأنها أحق بمالها من ولدها ووالدها وزوجها والناس أجمعين، وأنه لا يحق لأبيها فمن دونه أن يجبرها على نكاح من لا ترغب في نكاحه سواء كانت بكرًا أو ثيبًا وسواء كان الخاطب قريبًا أو بعيدًا ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞ [البقرة: 228]. أي درجة السيادة المشار إليها بقوله: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ [النساء: 34]. وأن لها نصف ما يرثه أخوها حسب سنة الله وفريضته في القرآن.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال رسول الله ﷺ: «يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ». فنزلت آية المواريث ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: 11]. فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَلِأُمِّهِمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ».

قال العلماء: إن هذه أول تركة قسمت في الإسلام، وقد أوصى الله المؤمنين في كتابه المبين فيما يَرِثُونه ويُوَرِّثونه فقال: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١ [النساء: 11].

ثم قال: ﴿۞وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ ١٢ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤ [النساء: 12-14].

ثم قال سبحانه: ﴿يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ١٧٦ [النساء: 176]. وهذه الآية تسمى آية الكلالة فالمستفتى فيها هو الرسول ﷺ والمفتي هو الله سبحانه الذي لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته.

فهذا التفضيل هو حكم الله وفريضة الله ووصية الله وفتوى من الله وأنها من حدود الله التي نصبها لعباده؛ ولهذا ختمها الله تعالى بقوله: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤ [النساء: 13-14].

إن دلالة القرآن على تفصيل هذه الأحكام هي دلالة سمعية عقلية قطعية لا تعترضها الشبهات ولا تتناولها الاحتمالات ولا ينصرف القلب عنها بعد فهمها؛ لأن هذا هو العلم الذي يطمئن إليه القلب وتسكن عنده النفس وتستنير به البصيرة وتقوى به الحجة، من قال به صدق ومن خاصم به فلح ومن حكم به عدل ومن ابتغى غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.

وهذه الآيات كلها محكمات لا نسخ فيها خاصة فيما يتعلق بالتقسيم بين الورثة، وهي تعتبر من أسس التشريع الدائم العام الذي لا يتغير ولا يتبدل بتغير الزمان والمكان وقد عمل بها النبيﷺ والخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون وأئمة المذاهب الأربعة وجميع علماء المسلمين وعامتهم في سائر الأعصار والأمصار، وقد أكد الله هذا الحكم بتأكيدات لا يوجد مثلها في غير هذه المواريث لعلمه سبحانه بما سيقع فيها من الخلط والخبط والتحريف والتغيير، وهي بجملتها توجب العمل بها وعدم العدول عنها.

فذكر بأنها فريضة من الله مرتين، وذكر بأنها وصية من الله مرتين، وذكر بأنها فتوى من الله مرة، وذكر بأن هذا التقسيم وتفصيل الأسهم أنه من حدود الله التي يجب الوقوف على حدها، فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ثم أكد ذلك بقوله: ﴿يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْ [النساء: 176]. أي لئلا تضلوا، فالحكم بمساواة الذكر بالأنثى فيما فرض الله فيه هو من الضلال المبين.

ثم إن قوله: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: 11]. هو خطاب عام موجه إلى جميع المكلفين من الأمة وخاصة القضاة الذين يتولون قسمة التركات بين الورثة وتنفيذ الوصايا ونزع الديون. فلم يَكِلْ سبحانه تقسيم مال الشخص إلى تصرفه بنفسه رحمة منه بعباده حتى أوصى الله بما أوصى به من هذا التقسيم في تفصيل الأسهم فهي بمثابة الحدود المنصوبة للناس بحيث لا يجوز لأحد أن يتجاوزها.

والوصية هي العهد والميثاق من الله لعباده في تنفيذ ما وصاهم به، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه. وهذه الوصية من الله ليست كوصية بعضنا لبعض بحيث يجوز فيها التبديل والتغيير والمحو والإزالة بل هي وصية ثابتة لازمة ودائمة عامة لا يجوز تبديلها، ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. من اهتدى بها ووقف على حدودها فهو المهتدي ومن خالف واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا ولهذا قال: ﴿ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١ [النساء: 11]. فنزع سبحانه بهذه الآية ما يحوك في قلوب أكثر الناس من خوف أحدهم على عياله الصغار أو على بناته الضعاف من الفقر، كما نزع من قلب الشخص ما يجد في نفسه من محبة بعض أولاده وزوجته ومحاولته الجَنَفَ لهم بالزيادة على مستحقهم، فهذا خروج عن سنة الله؛ لأن الله تعالى سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ﴿فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓ [البقرة: 181].

فمن واجب المؤمن أن يقف على حدود فرائض الله وأن يكل أمر ورثته إلى الله ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا [النساء: 135].

وقد اقتضت حكمة الله أن المبرور بالجَنَفِ مضرور، وأن المحروم من حقه مرحوم أي تسبق له الرحمة من الله؛ ولهذا ختمها بقوله: ﴿فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِ [النساء: 11]. فدلت هذه الآيات دلالة واضحة جلية على أن من زاد على حكم الله أو نقص أو حكم بمساواة الأنثى بالذكر فيما فرض الله فيه التفاضل فقد ضل ضلالاً مبينًا وأنه ظلم المرأة بإعطائها فوق حقها كما ظلم سائر الورثة بنقصهم عن مستحقهم الذي فرضه الله تعالى لهم.

لقد ثبت في شريعة الإسلام مساواة النساء للرجال في العبادات، وفي المعاملات وفي الحدود. وكذلك فيما يتوارثون بطريق الرحم المجردة كالإخوة والأخوات من الأم وكذا ذوي الأرحام فإن هؤلاء يستوي ذكرهم وأنثاهم وهذه هي من الحدود والحقوق المفصلة في الشريعة الإسلامية.

ثم لنعلم أن الله سبحانه حكيم في شرعه وقدره فلا يشرع شيئًا من الفرائض والأحكام إلا لحكمة ورحمة سواء أدركوا سر الحكمة أو جهلوها، ولا يزال العلماء يتكلمون في حكمة الشيء الواحد إلى ثلاثة أقوال وأربعة فيمكن إدراك تلك الأقوال أو بعضها لسر الحكمة ويمكن عجزها عنها، إذ ليست العقول بقادرة على إدراك أسرار جميع الحكم والمصالح، فإن من الحكم ما يعجز البشر عن إدراك أسرارها لكنهم مع عجزهم يؤمنون بكل ما شرع الله إيمانًا جازمًا وأن الله سبحانه لم يخبر بما ينفيه العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115].

من ذلك شرعه في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين.

والحكمة فيه أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه وعياله وأنه أصل عمود النسب والمطالب بالنفقة على زوجه وعياله ما تناسلوا بل وعلى سائر من يرثه من أقاربه الفقراء.

بخلاف الأنثى فإنها ما دامت في بيت أهلها فإنهم ينفقون عليها ومتى تزوجت أنفق عليها زوجها. فالذكر هو العنصر الأكبر والعامل الأقدر في المجتمع، وهو المنوط به الدفاع والحماية والرعاية بحيث يسعى على امرأته وعياله بما يحتاجون إليه من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسيدة عشيرة ومربية للبنين والبنات لما جبلت عليه من العطف واللطف والصبر على مزاولة التربية فهي بمثابة الملكة المحشومة في بيتها تعمل عملها في إصلاح شؤون بيتها وتهدي وتتصدق بالمعروف وزوجها مع فخره وعلو قدره يقيم نفسه مقام الخادم لها في جلب ما تحتاجه، وقد حكم النبي ﷺ بين علي وفاطمة على أن فاطمة عليها الخدمة داخل البيت وعليٌّ عليه جلب ما تحتاجه خارج البيت، وهذا الحكم يرفع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع إذ هو حكم رسول الله ﷺ، وإذا جاء سيل الله بطل نهر معقل.

وهذا يعد من باب توزيع العمل ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞ [البقرة: 228].

إن الأحكام الدينية ومنها المواريث الشرعية هي تنزيل الحكيم العليم فلا مجال للرأي فيما أثبت الله فيها من التفضيل، إذ العبادة هي ما ثبتت بطريق شرعي من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. إذ من المعلوم أنه لا يسوغ لمسلم الخروج عن شريعة القرآن وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.

ولا يسوغ لعاقل مسلم أن يتبع كل نزعة تستحسن أو تستهجن من كل ما يخالف دين الحق من الكتاب والسنة وهذا معروف ولا يجهله أحد.

إن كل من عرف فضل الإسلام وشمول نفعه وعدله في حكمه وقسمه بين عباده فيما يورثونه ويرثونه، وأنه قد أعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص، وأنه عدل الله في أرضه ورحمته لعباده قد فرض الفرائض وسن الأحكام وبيَّن للناس الحلال والحرام وأمر ببر الوالدين وصلة الأرحام. وأنزل الله تعالى: ﴿ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ١٠ [الممتحنة: 10].

فلا يحل لشخص يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفر بماله عن وارثه بحيث يوصي بحرمانه، ولا أن يوصي بماله كله ولو في سبيل الصدقة والعتق، ولا أن يوصي بما يزيد على الثلث ولا أن يوصي لوارثه بشيء. ومن نظر إلى الأمم من غير المسلمين وخاصة النصارى وسأل عما يفعلون فيما يخلفونه عرف حينئذ أن منهم من يوصي بماله كله مع كثرته للكلاب تطعم به حتى ينفد ثم تنفذ وصيته حتى لو كان أبوه أو أمه أو أولاده في أشد الحاجة والفقر. وهل هذا إلا محض الجنون والخبال والضلال والغاية في إفساد المال وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام. والله تعالى يقول: ﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ [الأنفال: 75]. وهم وإن افتخروا على الناس بالنبوغ والتفوق في العلم والفنون والصنائع والمخترعات وسائر أمور الحياة من كل ما يشبه خوارق العادات. لكنهم يرجعون القهقرى إلى الأخلاق السيئة والعادات الرذيلة على نسبة عكسية من ارتقائهم في العلوم المادية، فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل وجرأة على اقتراف الجرائم حتى عدوا الزنا من مكملات حرية المرأة التي جوّز لها أن تتمتع بها، فلا يعدونه جريمة وكذلك اللواط بين الرجال فقد أباحوه قانونًا فليس بحرام عندهم مع العلم أن هذه كلها محرمة في شريعة المسيح.

فنقضوا بذلك ميثاق الزوجية الشرعية وعقوا الوالدين وقطعوا الأرحام ونبذوا هداية الأديان وصاروا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من دين وأدب وعرف وعقل حتى أخذ بعضهم يرجع إلى عيشة العراء والأحوال المزرية تقليدًا للبهائم السائبة ويقولون: ما الإنسان إلا أحد الحيوان. وفي النهاية أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم وتهديهم.

والحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. إن دين الإسلام هو دين البشرية كلها مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم يهوديهم ونصرانيهم ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. فهو الدين العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية. الصالح لكل زمان ومكان. قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان فلا يوجب شيئًا من الواجبات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة ولا يحرم شيئًا من المحرمات إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة. فهو الدين الحكم القسط الذي يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق.

وما كان هذا الدين ليتحمل أمانة البشرية كلها إلا وهو يحمل في تعاليمه وأحكامه وقواعده وعقائده ما يجعله كفيلاً وحقيقًا بهذه التسمية لينتهي بالناس إلى الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة ليكونوا مستقيمين آمنين على دينهم وأنفسهم وأهلهم وأعراضهم بحيث يسود الإخاء والمحبة بينهم فهو خير لهم مما يجمعون.

إن الدنيا بلا دين هي غاية البلاء والشقاء على أهلها وعلى الناس أجمعين.. فإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فانظر إلى الدول الكبرى وما أوتيت من العلم والمقدرة الجبارة على اختراع الصنائع الباهرة والفنون المتنوعة حتى استطاعوا أن يصعدوا بوسائل علمهم وأعمالهم إلى سطح القمر، وقد أزمعوا على الصعود إلى ما هو أعلى منه وأبعد حيث لم تقف همتهم ولا نهمتهم على حد.

فأوجدوا للناس من الفنون والمخترعات وسائر أمور الحياة ما يكاد يلحقها بخوارق العادات حتى غاصوا بوسائل علمهم في قعر البحار وحتى تخاطبوا بالكلام الفصيح من أقصى الأقطار، وهم دائمًا يستمرون في جلب المنافع والمضار، وقد بذلوا الآن غاية جهدهم ونشاطهم ومكرهم وكيدهم في اختراع فنون السلاح الفتاك الذي ينادي بشقائهم وشقاء الناس معهم ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ [الرعد: 31]. وقد صرفوا جل ما لهم في هذا السبيل وتبعهم ملوك العرب في جلب السلاح للاتقاء والتقوية به. فمن جنون سلاحهم ما تقضي القنبلة الواحدة منه بفناء الملايين من الآدميين من غير المحاربين من بين شيوخ ونساء وأطفال وبهائم فضلاً عن تدميرها لمناطق ومدن بأكملها وبما عليها، وصار علمهم وعملهم أشد جناية عليهم وعلى جميع الناس معهم ونعوذ بالله من علم لا ينفع.

وقد تحققوا وأيقنوا بمواقع الخطر عليهم أنفسهم وأنه يهددهم ليلاً ونهارًا. وأشدهم قوة وحضارة هي أشدهم خوفًا على أمنها وأمتها. لهذا أخذوا يعقدون الاجتماعات على إثر الاجتماعات لتبادل الآراء في القضاء على أشدها خطرًا كالقنبلة الذرية وما شاكلها استبقاء لحياتهم وحياة الناس معهم، فهم يتفقون على استحسان هذا لكنهم لا يثق بعضهم ببعض في الوفاء به وما كان عهدهم إلا أن تكون أمة هي أربى من أمة. وبذلك يعلم أن هذا العلم والاختراع الذي تفوقوا فيه والخالي عن الدين أنه حقيقة في الشقاء على الناس أجمعين.

فمن الواجب على الملوك والعلماء والعقلاء الذين يتألمون من انتشار المفاسد المادية التي تطاير شررها وتفاقم شرها أن يعنوا بدعوة جميع الشعوب إلى دين الإسلام الذي هو دينهم الحقيقي ودين جميع الناس معهم والذين لا تكمل حضارتهم بدون هدايته، فهو الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم لاشتماله على جميع ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الديني والدنيوي والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي، وقد كذب من ادعى عزل الدين عن الدولة لقول الله تعالى: ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩ [الأنعام: 89].

والمقصود أن إنكار حكم الله في تفضيل الذكور على الإناث في الميراث أنه ردة عن دين الإسلام، وقد عد العلماء من نواقض الإسلام من ادعى أن حكم المخلوق أعدل من حكم الله. فقد شرع الله الدين رحمة للعالمين بقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء:107].

ومتى عزلت الرحمة عن الأمة حل محلها العقوبة والشدة والنقمة كما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

وهذا الرجل لما ضل عن الحق في نفسه بث دعاية السوء في الناس ليضلهم معه فكان فيه حظ وافر ونصيب كبير من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨ ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٩ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ١٠ [الحج: 8-10].

ففي هذه الآيات دلالة مطابقة والتزام لحالة هذا الرجل وإلحاده ومن كان على طريقته ومثاله. فإن قوله ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ أي أن بعض الناس ﴿يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ أي علم نقلي يرشده إلى التحقيق ﴿وَلَا هُدٗى عقلي يهتدي به لسلوك أقوم طريق ﴿وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨ ينقل عنه ويستدل به بل هو مسلوب الرواية والدراية ومصروف عن الهداية ﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ أي قد ازور بجانبه عن الحق تكبرًا عليه وإعراضًا عنه. وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه. ثم تلا قوله تعالى ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ [الأعراف: 146].

وهذا معنى قوله: ﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فاللام لام العاقبة ويحتمل أن تكون للتعليل لأن ما قبلها سبب لحصول ما بعدها، يعني أن جحوده للحق وجداله بالباطل مؤد إلى غرض أراده، وذلك أنه لما ضل عن الحق في نفسه بث دعاية السوء في الناس ليضلهم معه فجمع بين الضلال والإضلال ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧ [البقرة: 257].

ولهذا قال في جزائه العاجل: ﴿لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ أي ذل وهو أن يخزى به في حياته ﴿وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٩ أي بعد وفاته ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ أي بما كتبته من بث الدعاية إلى فنون الضلالة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ [المجادلة: 5]. أي أُذِلوا وخُذِلوا. يقال: كَبَتَ الله العدو إذا خذله. وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ ٢٠ كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓ [المجادلة: 20-21]. ومعنى يحادون الله ورسوله أي أنهم في حد والله ورسوله في حد. نظيره قوله: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ [النساء: 115]. أي يكون في شق والرسول في شق.

وهذا الخزي وهذا الكبت وهذا الذل هو ضربة لازب في حق كل من تصدى للدعوة إلى الباطل ليضل الناس عن الحق.

واقتضت حكمة الله في خلقه أن كل من تصدى للدعوة إلى الضلال بالتأليف والنشر وتأسيس المقالات الباطلة فإنه يصاب بالخزي والذل والهوان في حياته ويحتقب الناس بغضه وعداوته ويخلد له الذكر الخامل والسمعة السيئة بعد وفاته، بحيث يغطي أولاده وأقاربه وجوههم عند ذكره وتبقى كتب الإسلام والسنة تنادي بخزيه، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ.
والخير أبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
يقول الله تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ [التوبة: 12]. فكل واحد منهم موجبه للقتل والقتال نكث الأيمان والطعن في الدين وهي أشد وأشر من الأولى، وإنما شرع الجهاد في سبيل الله لحماية الدين والأنفس؛ ولهذا سماهم الله أئمة الكفر من أجل أن الناس يأتمون بهم في ضلالهم. لأن الناس يأتم بعضهم ببعض في الخير والشر. وللخير أئمة يقتدي بهم الناس فيه. قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤ [السجدة: 24]. فهؤلاء هم القادة إلى الخير وهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. ومنه قوله: ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا ٧٤ [الفرقان: 74].

وللشر أئمة يقتدي بهم الناس فيه كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ ٤١ وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِينَ ٤٢ [القصص: 41-42].

وفي الصحيحين عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟. قال: «نَعَمْ». قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ». قلت: وما دخنه. قال: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هُدَايَ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ قَذَفُوهُ فِيهَا». قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» الحديث.

والله سبحانه قد فاوت بين خلقه فجعل منهم من هو أفضل من الملائكة وجعل منهم من هو شر من الشياطين، ونعوذ بالله من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس أي يوسوس بالشر في صدور الناس.
وللخير أهل يعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامعُ
وللشر أهل يعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابعُ
وليعتبر المعتبر بعلماء الضلال الذين بالغوا في الجدال بالباطل بالتأليف والنشر لصد الناس عن الحق مثل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وبشر المريسي والحلاج وابن عربي صاحب الفصوص وغيرهم ومن المتأخرين مثل صاحب الأغلال وطه حسين وأشباههما فلا يذكرون إلا بأسوأ الذكر، وبقيت كتبهم وكتب أهل الإسلام في الرد عليهم بمثابة المثالب عليهم تنادي بخزيهم وذلهم وضلالهم، وفي الغالب أنهم يندمون على سوء ما قدموه وما كتبوه أشد الندم في آخر حياتهم وخاصة عند الإشراف على مماتهم كما قيل من أن طه حسين تاب وندم في آخر حياته وقد قيل:
إذا كنت من فرط السفاه معطلاً
فيا جاهل اعلم أنني غير جاحد
أخاف من الله العقوبة آجلاً
وأعلم أن الأمر في يد واحد
فإني رأيت الملحدين تعودهم
ندامتهم عند الأكف اللواحد
وبضد هؤلاء مشاهير علماء الإسلام ومصابيح الظلام الذين جادلوا وجاهدوا في نصر الحق ونصح الخلق وحماية الدين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وابن كثير والحافظ ابن حجر والذهبي والشاطبي وابن جرير والبغوي ومن قبلهم البخاري ومسلم وسائر أئمة الحديث وكذا أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم حيث خلدهم التاريخ بالذكر الجميل والثناء الحسن الذي يُذكَرون به مدى الدهر، أجسامهم مفقودة وآثارهم وأذكارهم في القلوب موجودة.
ماتوا ولم تمت مكارمهم
حتى كأنهم بين الناس أحياء
فهؤلاء هم أئمة الهدى الذين قال الله فيهم: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣ [الأنبياء: 73]. فهم أنفع الناس للناس، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وكل عالم ومعلم متى نُشِرَ كتب أحدهم استُغفِر له وسُئِلَ الله له العفو والمغفرة، ثم إن هذا العلم الذي كتبوه ونشروه فإنه يجري ثوابه لهم ما انتفع به أحد من خلق الله إذ هو من الباقيات الصالحات؛ ولهذا قيل: مصنف الشخص ولده المخلد.

والمقصود أن دعوته الحكام إلى تطوير الأحكام أنها دعوة إلحاد خاطئة لا تستحق أن يصاغ لها؛ لأن أكثر ما يفسد الدين هو زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين.

وقالوا: صنفان من الناس إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس؛ العلماء والأمراء.

والناس متفاوتون في الأغراض والأعمال والغايات كما أنهم متفاوتون في العقائد والأعمال والنيات وكل امرئ بما كسب رهين.

والنبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ»[93].

ولما قرأ النبي ﷺ قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٨١ [الأعراف: 181]. قال رسول الله ﷺ: «هذه لكم وقد مضى للقوم بين أيديكم مثلها»، ثم قرأ: ﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٥٩ [الأعراف: 159].

إن مدار الشريعة على حماية الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول وآكدها حماية الدين الذي هو دين الحق ودين جميع الخلق.

﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]. ولا إسلام إلا بالعمل بشريعته وأحكامه وصلاته وزكاته وصيامه وأمور حلاله وحرامه.

فمتى وُجِد من يبارز الدين بالعداء ويجهر بالطعن فيه ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته، ويدعو الناس إلى الإعراض عنه وعدم التقيد به ويدعو إلى تغيير شرائعه وأحكامه ويرمي القلوب بالتشكيك فيه والتكذيب به وإنكار الوحي وبعثة الرسل وما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين الدالة على صدقهم كعصا موسى وما أثبته الله في كتابه من كرامات الأولياء الخارقة للعادة كقصة أهل الكهف وغيرها وينسبها إلى أساطير الأولين ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٥ قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦ [الفرقان: 5-6]. فالمنكرون لهذه أو المكذبون بها هم أئمة الكفر ونواة الشر وثوار الفتنة والمحاربون لله ورسوله ودينه وعباده المؤمنين.

ومتى خرجت أمثال هذه الكفريات من حاكم مطاع أو رئيس متبع فإن الابتلاء بها أشد والفتنة بها أشر؛ لكون العامة مقلدة في عقائدهم لرؤسائهم على حد ما قيل: «النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ» وقد حكى الله عن أهل النار أنهم قالوا: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧ [الأحزاب: 67].

وفي كتاب النبي ﷺ لهرقل عظيم الروم:

«مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِينَ»[94] يعني الأتباع.

إنه لمما يسرني ويسر كل مسلم غيور على الدين حينما نسمع بأن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون الاجتماع لها للتذاكر في شؤون أممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان منهم.

وهي أن الأمر الذي فل حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم بالعمل بهداية دينهم وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم.

وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته فهو الكفيل بإصلاح دينهم ودنياهم.

فهم يتناصحون بهذا ويتواصون به ولم يبق عليهم سوى التنفيذ وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.

وإن من ثمرة هذا الاجتماع كون أحد هؤلاء الأمراء متى شذ عن الدين وتبين منه بوادر السوء بالطعن فيه لصد الناس عنه فإنه يجب مناصحته بالجد رجاء رجوعه إلى دينه القويم وسلوك الصراط المستقيم، لأن هذا من واجبات الدين وهو محض نفع لهذا الملتوي من الحق، بحيث إن هذه النصيحة قد تقيم أوده وتصلح فاسده، ولأن الطعن في الدين أشد وأشر من الطعن في نحور عباد الله المؤمنين ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ. فإن أصر على تمرده وإلحاده وجب على أمراء المسلمين إنكارهم له وكراهيتهم لقوله وفعله، ثم ينزعوا أيديهم عن يده لاعتبار أنه ليس منهم ولا هم منه، ولأن الردة عن الإسلام تقطع النسب بين الرجل وأهله، إذ المرتد شر من الكافر الأصلي، فإن إنكارهم لذلك وإظهار الكراهية له هو مما يوجب رجوعه وعدم إصراره، فيعود نفع هذا الإنكار عليه نفسه وعلى كافة الناس معه، وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه ويدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية بدله لزعمهم أن أحكام شريعة الدين لا يتلاءم الحكم بها مع القرن العشرين. وكان لقولهم هذا في نفوس الرؤساء أشد الأثر مما يقتضي نفرتهم عن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية واستبدالهم بها القوانين الوضعية، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار. فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأن شرائع الإسلام تهذب أخلاقهم وتطهرهم عن كفرهم ونفاقهم، ثم تحثهم على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، ولولاها لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام واستباحوا الجهر بمنكرات الكفر والفسوق والعصيان كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال؟!

وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

يا معشر العرب إن الله قد أعزكم بالإسلام ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم الله.

إن لفساد الدين عوامل ساعدت على ضعفه ثم على ضعف أهله وكل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا في دخول الضعف منه على العباد، وقد اختلف المؤرخون في سبب دخول هذا الضعف وبدايته فقيل: سببه إهمال الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والاعتياض عن هذا كله بالركون إلى الدنيا والاطمئنان فيها.

ويستدلون لذلك بما روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَتِ الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا». قالوا: يا رسول الله أومن قلة نحن يومئذ؟. قال: «لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل ينزع الله مهابة عدوكم منكم ويسكنكم مهابتهم ويلقي الله في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن يا رسول الله قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».

وقيل: إن سبب الضعف هو الإخلال بعدة الحرب وقوته التي تعين على تنفيذ الحق والإلزام به وتحمي حوزته من توثب الأعداء عليه.

وقيل: سببه من أجل الفتن الواقعة بين أمراء المسلمين فتسرب الأعداء إلى بلادهم في حال اضطرابهم وتحاربهم، وقد يلتجئ بهم من يرى أنه مغلوب على أمره فيقودهم إلى بلاد المسلمين.

وقيل: إنه من أجل التخصيص بالولاية لمن ليس بكفء ونبذ المشاورة الشرعية التي أمر الله بها.

وقيل: إنه من أجل الأئمة المضلين أي الأمراء المستبدين الذين التووا عن طريق الحق القويم والصراط المستقيم وتنكبوا طريق رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه وألزموا الناس بمخالفة شريعة الدين فتبعهم الناس على ضلالهم وفساد اعتقادهم حتى صارت البدعة سنة والمنكر معروفًا، وهو نفس ما خافه النبي ﷺ على أمته حيث قال: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ». رواه البرقاني في صحيحه عن ثوبان.

ولعل هذه هي أعظمها ضررًا وأشدها خطرًا ومنه بدأ هذا النقص الواقع حتى اتسع الخرق على الراقع.

إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاط وصار فتنة للذين كفروا ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا [الممتحنة: 5]. وإذا صح وصلح صار آلة قوة ونشاط، كما شهدت جميع التآريخ العربية والغربية للإسلام لما كان صحيحًا بأنه لا طاقة لأحد من الدول بمصارعته ولا محيص لهم عن التزام طاعته، سواء قلنا بحمل الجمع على الجمع أو بحمل الأفراد على الأفراد حتى كانوا هم الصدر المقدم والسيد المرهوب عند جميع الأمم وأنجز لهم مصداق ما وعدهم الله بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]. وقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا [المؤمن: 51]. وقوله: ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ [محمد: 7]. ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق ورعايته ابتغاء مرضات الله ومثوبته.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
والحاصل أن ضعف المسلمين في هذه القرون الأخيرة لم يكن من الدين وإنما هو من أجل الجهل بالدين أو من أجل الإعراض عنه أو من أجل عدم إجراء أحكامه كما ينبغي. ولن يزول عنهم هذا الضعف إلا بمراجعة الدين نفسه وائتلاف أخلاقهم بأخلاقه وتقاذفهم في أغراضه وغاياته ولن ينهضوا إلا بذلك الدين نفسه الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

إن الدين متى صح صار من أقوى القواعد في إصلاح الدنيا واستقامتها وحصول السعادة فيها لأنه يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة وبين مصالح الروح والجسد، ويوصل من تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة، رأسه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلوات الخمس المفروضة، وإيتاء الزكاة الواجبة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام عند الاستطاعة. وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

فليس الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال فلا إسلام بدون عمل.

ثم إن هذا الضعف في المسلمين والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم بل تقع ثم تزول فهي وصف عارض كالأمراض الطبيعية وربما صحت الأبدان بالعلل. فقد تقع في مكان دون مكان وفي زمان دون زمان. وقد تقع ثم تزول ويعود الدين والمسلمون إلى قوة ونشاط وانتشار كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ حين ارتد العرب عنه ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد بجواثى عبد القيس المعروف بالإحساء وعلى أثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره كما قال أنس بن مالك: إنه لما توفي رسول الله ﷺ كنا كالغنم المطيرة فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة. وأما قول النبي ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»[95] وقد اتخذ بعض الناس هذا الحديث بمثابة التحذير للأمم والتخذيل للهمم بحيث يجعلونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ولأئمة المسلمين، حتى كأن الرسول بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف في المسلمين والغربة للدين وحتى لا يسعى أحد منهم بحوله وبجهده وجهاده لدفع هذا الضعف أو رفعه وهذا خطأ واضح لفهم الحديث.

فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما قصد به التمسك بالدين وعدم الاغترار بضعف العمل به في آخر الزمان فقد قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ».

فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار ليتأهبوا بالحزم وفعل أولي العزم عن وسائل التعويق ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، وقد ثبت في الصحيح أنه «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[96].

و «إن الله لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»[97] «وَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[98] وأن «مثل هذه الأمة مثل المطر كما يرجى الخير من أوله يرجى في آخره»[99] فكل هذه الآثار تدل على تقلب الأحوال وأن الدين لا يزال باقيًا دائمًا، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة قد ظن بالله ظن السوء، وهذه الآثار لا تنافي حديث «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» فإن معناه أن الإسلام يكون في بعض الأحيان غريبًا ذليلاً ثم يكون عزيزًا منتشرًا كما قدمنا.

ولا تزال المصارعة قائمة بين الحق والباطل والعاقبة للمتقين.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمنِ
فالعاقل لا يستوحش طرق الإسلام لقلة السالكين ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

[91] إن أول من أحدث بدعة القول بمساواة الذكور والإناث في الميراث هي تركيا حين اختارت القانون السويسري وأحلته محل الأحكام الشرعية وذلك بعد استيلاء كمال أتاتورك على الحكم. وقد كان يهوديًّا من الدونمة وكانت هذه الفكرة من تغيير الشرائع الدينية هي من أقوى أسباب انحطاط تركيا وتمزق ملكها ثم انتقلت هذه الفكرة بطريق العدوى والتقليد الأعمى إلى تونس ثم إلى الصومال وحصل على أثرها ما حصل من قتل علماء الصومال. ونص ما جاء في جريدة الأهرام في العدد الصادر بتاريخ 22 رمضان سنة 1344هـ: ليعلم القراء أن وزارة الحقانية في أنقرة انتهت من ترجمة قانون سويسرا المدني وعرضته على المجلس الوطني الكبير ليوافق عليه، فيحل في المحاكم التركية محل مجلة الأحكام الشرعية المأخوذة من الفقه الحنفي من ذلك مسألة نصيب المرأة من الإرث بالنسبة إلى الرجل. ففي مجلة الأحكام الشرعية جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل فجاء القانون الذي سنه الكماليون. انتهى. فعطل هذا الحكم الشرعي وجعل نصيب المرأة كنصيب الرجل تمامًا. [92] للعلامة ابن القيم رحمه الله من مفتاح دار السعادة. [93] رواه أحمد من حديث ابن مسعود. [94] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [95] رواه مسلم من حديث أبي هريرة ورواه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود وفيه: قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ». وأخرجه أبو بكر الآجري وعنده قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ». ورواه الترمذي بلفظ: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سَنَّتِي». [96] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية والمغيرة بن شعبة وأخرجه مسلم من حديث ثوبان وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله. [97] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة والحاكم في المستدرك. [98] رواه أبو حاتم من حديث الخولاني. [99] رواه الترمذي عن أنس قال. قال رسول الله ﷺ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ».

فساد اعتقاد حريَّة الرأي

حرية الرأي هي من محدثات الأمور في هذا العصر كحدوث الشيوعية والبهائية والقاديانية فهي من محدثات الأمور وشر الأمور محدثاتها، وكلها من الفتن التي يرقق بعضها بعضًا الآخرة شر من الأولى، وحقيقة الحرية في عرفهم استباحة الجهر بكل ما يعن بالفكر من آراء الكفر؛ لأنهم قد تحللوا عن التقيد بحدود الدين وحقوقه، وبنوا لهم من حرية الرأي ما يحاولون به حقن دمائهم وحرمة مالهم حتى ولو كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، ومن المعلوم بالاختيار أنه قد انتشرت حرية الرأي في الأمصار التي أفسد التفرنج تربية أهلها فكانوا يجهرون بالكفر بالله وإنكار وجود الخالق، وإنكار الوحي، وبعثة الرسل، أو يطعنون في نبوة محمد ﷺ. وفي القرآن النازل عليه، وينكرون البعث للجزاء والحساب ويكذبون بالجنة والنار، ثم يعتذرون عن كل ما يقولون بدعوى حرية الرأي كأنها تبرر لهم سوء مقاصدهم، ومع هذا الكفر المتظاهر فترى أحدهم يدعي الإسلام بمعنى الجنسية لا بمعنى التزام أحكامه الشرعية. وقد أخبر الله سبحانه بأنه لم يخلق الإنسان سدى أي مهملاً يتصرف كيف شاء. قال تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ [القيامة: 36]. أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى بل خلقه مقيدًا بحدود وحقوق وأمر ونهي.

وبما أن الإسلام اعتقاد وقول وعمل فكذلك الكفر هو قول واعتقاد وعمل فهؤلاء عند العلماء يعتبرون مرتدين عن دين الإسلام لعدم تقيدهم بالأحكام وأمور الحلال والحرام ويسمون بالإباحيين الذين ليس لهم خلق ولا دين ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهايم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.

إن جهل الناس بكنه حرية الرأي وحقيقة مضارها للأخلاق والأعمال والعقائد، لمما يقود العامة إلى الخروج عن الأخلاق الفاضلة وعن حدود الدين وآدابه ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأخلاق والأعمال والأحوال والتضارب في الآراء والأفكار، وعلى قدر انتشار هذه الفكرة يتضخم الجهل ويستفحل الكفر وتسود الفوضى في الجماعات والأفراد حتى تكون من أقوى عوامل الانحطاط وفساد العقائد والأعمال؛ لهذا كان من الواجب على علماء المسلمين وعلى القائمين بتحرير الجرائد وتعميم نشرها أن يبنوا للناس فساد هذه الفكرة وما ينجم عنها من المضار في الأخلاق والأعمال وأنهم يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة ويبثون بين الناس عوامل الفساد والسفاهة من كل ما يزيغهم عن معتقدهم الصحيح ويقودهم إلى الإلحاد والتعطيل أو إلى الفوضى اللادينية، والأخلاق البهيمية لكون أحدهم يفضل الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين. والعامة بما طبعوا عليه من الجهالة والسذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة قد يعتقدون صحة ما يقول هؤلاء خصوصًا عند سكوت العلماء عن مساوئها. فتتغير بذلك عقولهم وعقائدهم وينقادون إلى داعي التضليل والتمويه.

ومما يسبب انتشار حرية الرأي إطلاق السراح للكتاب وكتاب الجرائد المعروفين بترويج الباطل، فتراه يطعن في الأديان ويكذب بالرسول والقرآن كله بحجة حرية الرأي، ولو تصدى لأحدهم من يتحامل عليه بالطعن فيه وفي أخلاقه بذكر معايبه ومثالبه، والطعن في عرض أهله بحجة حرية الرأي - ولو كان صادقًا في طعنه - لأثارها عليه غضبًا وحربًا وهذا هو حقيقة ما عناه الشاعر بقوله:
يُقاد للسجن من سبَّ الزعيم ومن
سب الإله فإن الناس أحرارُ
لكون حرية الرأي يصغي إليها وينقاد لها من يظنها حقًّا وهي بالحقيقة باطل لكونها عرضة للتلاعب وللتحليل والتحريم والتحريف بمجرد الهوى ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون:71]. ثم إن هؤلاء الذين تبنوا هذه الفكرة وجعلوها لهم عقيدة وطريقة هم الذين سلطوا على استعباد الناس بالنار والحديد وسخروهم في مصالحهم كالعبيد فهم يسلبون الناس حريتهم باسم الحرية.

لهذا يجب مقاطعة الجرائد التي تقوم بنشر آرائهم لاعتبارها جرثومة فساد ومن أسباب خراب البلاد وضلال العباد.

إن جناية التحرير التي يتطلع إليها كل الناس الذكر والأنثى والكبير والصغير يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير إذ الجناية على الدين أشد من الجناية على الأنفس والفتنة في الدين أشد من القتل، وإن الحرية التي يلهج الإباحيون بتحبيرها هي منصرفة إلى التحلل عن الفرائض والفضائل وإباحة ارتكاب منكرات الأخلاق والرذائل جهارًا، ويعتقدون أن هذه من الكمالات الأوروبية، ويقول أحدهم: إن لكل هؤلاء الذين عودونا على التحرر شكر الإنسانية أجمع، فهم غالبًا لا يصلون ولا يصومون ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق قد رضوا بأن يعيشوا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. ولهذه الأسباب أصبح سوء الطباع وفساد الأوضاع ساريًا في أخلاقهم، فدخل عليهم بسببه من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق. وكم جر هذا الاعتقاد إلى سقوط الفرائض والفضائل والتخلق بمنكرات الأخلاق والرذائل، لأن الشرائع الدينية هي التي تهذب الأخلاق وتطيب الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق، وكل من هرب عن التقيد بعبودية الرحمن فإنه لا بد أن يسترقه الشيطان على حد ما قيل:
هربوا من الرق الذي خُلقوا له
فبُلوا برق الكفر والشيطانِ
إن من شرط صحة حرية الرأي أن لا يتجاوز بها حدود الحق والعدل، سواء كان فيما يتعامل به في نفسه مع أهله وماله وعياله، أو فيما يتعامل به مع سائر الناس، وإلا كان متعديًا ظالمًا؛ لأن الحرية الفكرية عند بعضهم هي أن تجهر بشتم عقيدة الأمم والاستخفاف بدينها أو كتابها المقدس فإن لم تفعل كنت جامدًا لا تفهم الحرية ولا تؤمن بها.

والحرية الشخصية عند بعضهم هي أن تفعل ما تشاء وترتكب من المنكرات ما تشتهي غير مبال بالناس.

إن العلماء والعقلاء يعرفون الفرق بين الحرية الصحيحة وبين الحرية التي هي الفوضوية في الأخلاق والآداب والرذائل.

فإن أحدًا لا يستطيع أن يكون حرًّا في كل شيء وأنه يسوغ له أن يتصرف كيف يشاء ويفعل ما يشاء ويخرج إلى الطريق عريانًا كما يريد بحجة الحرية الشخصية، وبذلك تسقط حرمة الحدود والتشريع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويصبح الناس كالحيوانات في سبيل أهوائهم وشهواتهم، فالنصارى الذين سنوا للناس حرية الرأي أصبحوا وهم يقاسون منها الأنكاد والأكدار والشرور والأضرار، حيث اعتنق سفهاؤهم هذه الفكرة فصالوا بها على خرق الأنظمة والقوانين والأشياء المحرمة في عرفهم بدعوى حرية الرأي.

إنه يجب أن نعرف الفرق بين الحرية الصحيحة وبين الفوضى، وأن الحرية الصحيحة هي التصرف في حدود حقك المباح لك بحيث لا تطغى على حق الآخرين، ولا تخرج عن سنة العدل والعرف، حتى فيما يخص الإنسان في نفسه وأهله وماله. والفوضى هي طغيانك على حق الآخرين أو التصرف بما يعد خارجًا عن سنن نظام العدل والآداب كأن يحرق ماله أو يقسمه بين الناس ولو بطريق الصدقة والتبذير.

وقد أراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله فمنعه النبي ﷺ من ذلك وأراد بعضهم أن يبيع عقاره ويشتري بثمنه خيلاً وسلاحًا يجاهد بها في سبيل الله فنهاهم عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[100]، وأعتق رجل عند موته ستة أعبد ولم يكن له مال غيرهم فأقرع النبي ﷺ بينهم فأعتق اثنين واسترق أربعة وقال فيه قولاً شديدًا[101].

وشرع الإسلام يضرب على يد السفيه الذي لا يحسن حفظ ماله ولا تثميره، ويحجر عليه في هذا التصرف لحظ نفسه. والنبي ﷺ قال: «مَنْ تَرَدَّى جَبَلاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا بِهَا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا». رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

لا يقال: إن هذا تصرف منه في نفسه والإنسان حر في تصرفه فإن الشرع يعتبر نفس هذا كنفوس الناس التي يجب حمايتها بالتحفظ على حياتها ويخشى أن يتأسى به غيره في فساد تصرفه، ولهذا شرع عدم الصلاة على جنازة من قتل نفسه ردعًا للناس عن سوء فعله.

فالحرية لا تكون صحيحة إلا في حالة حدود الحق والعدل فما خرج عن ذلك فهو جور وفوضى وحرية مجنونة والجنون فنون.

ولضمان الحرية الصحيحة وعقد نظامها واحترامها نزلت الشرائع والديانات وسنت القوانين والأنظمة وشرعت الحدود والتعزيرات لتقليل جرائم العدوان ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرماته ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ ومن لا يكرم نفسه لا يكرَم وقد ضرب رسول الله ﷺ مثلاً يبين فيه الحد الفاصل بين الحرية الصحيحة والفوضى الهمجية.

فقال: «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر- والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فكان بعضهم في أعلاها -أي في السطح- وبعضهم في أسفلها -أي في الخن- وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أخذ الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا خرقًا نأخذ منه الماء». قال: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا»[102].

فهؤلاء لما أرادوا أن يستعملوا حريتهم في سبيل ما يضرهم ويضر غيرهم شرع منعهم بالقوة إبقاء لهم وللسفينة ومن فيها ولكون المحسن شريك للمسيء في المأثم والمغرم.

إن الشريعة الإسلامية المبنية على جلب المصالح ودفع المضار تمنع المضار، تمنع القمار في الأندية وتعاقب المقامرين إذا اجتمعوا سرًّا كما تمنع شرب الخمر وبيعها، وكما تمنع بيوت البغاء السري ولو كانت الفاحشة تفعل بحيث لا يراها الناس، كما يجب منع العدوان على أي أحد من الناس في نفسه وماله، فكل من يجاهر بمخالفة أمر الله وارتكاب محارم الله فإن الشريعة تعاقبه في الدنيا بما يسمى الحد أو التعزير قبل عقاب الآخرة، والشريعة مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض. والنبي ﷺ قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فقال: يا رسول الله أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ»[103].

فالاعتداء على عقيدة المسلمين أو آداب دينهم باسم الحرية بأن يتعرض لذم الدين والطعن فيه بما يستدعي صد الناس عنه والفتنة فيه، فهذا لا شك أنه أشد من الاعتداء على الأنفس والأموال إذ الفتنة في الدين أشد من القتل، فليس من شأن الحرية أن تسعى بتسميم عقول الناس وإفساد فطرهم وأديانهم؛ لهذا أوجب الله على المؤمنين القائمين على الناس بالقسط أن يردوا كل من شذ في أخلاقه وتصرفاته بدعوى الحرية، أن يردوه إلى حظيرة الحق ويلزموه بالوقوف على حدود الشرع والعدل والأنظمة والقوانين إذ القيام بذلك أمانة في أعناق العلماء والأمراء والناصحين المصلحين. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩ [العنكبوت: 69].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 24 جمادى الأولى سنة 1396هـ.

* * *

[100] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [101] رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن الحصين. [102] أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير. [103] أخرجه البخاري من حديث أنس.