1791

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الثالث

قضايا معاصرة

(4) الاشتراكية الماركسية ومقاصدها السيئة

مقدمة الرسالة

إن دين الإسلام هو دين العدل والكمال، ودين النظام في الأحكام، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان، ولا اعتداء في استباحة بعضهم أكل أموال بعض، بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

والله سبحانه قد فاوت بين خلقه في الغنى والفقر، كما فاوت بينهم في العقول والأجسام، لتتم بذلك سعادتهم، وتنتظم به أمور حياتهم وراحتهم، فيخدم الغني الفقير في جلب ما يحتاجه الناس من صغير وكبير، وجليل وحقير، من كل ما لا يستطيع الفقير الحصول عليه باستقلاله بنفسه أو بأمثاله، كما أن الفقير يخدم الغني فيما هو من اختصاص عمله، وما هو من أسباب وسائل كسبه ومعيشته، من كل ما لا يستطيع الغني مباشرته بنفسه، فتتم بذلك سعادة الجميع، وتنتظم به أمور حياتهم، إذ لو أغناهم كلهم لأفقرهم كلهم، ولكن اقتضت رحمة الله بهم أن خلقهم متفاوتين في الخلق والرزق.

وانظر إلى قوله سبحانه: ﴿وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢ [الزخرف: 32]، وقد قيل:
والناس للناس من بدو وحاضرةٍ
بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدَمُ
إن دين الإسلام بريء من الاشتراكية الشيوعية الماركسية، التي تحرّم تملك الفرد أو الأفراد، وتقضي بتعميم أخذ جميع أموال الناس، ومصادرة ثرواتهم بغير حق، وخاصة التجار الذين استباحوا سلب أموالهم ثم أجلسوهم على حصير الفاقة والفقر، يتقاضاهم الهم والغم، وأخذوا يتمتعون ويتنعمون بأكل أموالهم بغير حق. والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188].

والنبي ﷺ كان يقول في المجامع العظام: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[89]؛ لكون المال عديل الروح، ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[90]. كما أن الإسلام بريء من الرأسماليين الماديين الذين جعلوا التحليق بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم، ربهم وإلههم، فصرفوا إلى ذلك جلَّ عقولهم وجُلَّ أعمالهم وجُلَّ اهتمامهم، وتركوا لأجله فرائض ربهم من صلاتهم وزكاتهم، ونسوا أمر آخرتهم، وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 19]، ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

[89] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة. [90] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإنني رأيت مقالة خرجت من صاحبها بصورة سؤال سائل لرجل اشتراكي قائلا: إننا نود أن نسمع رأيك في عقيدتك السياسية، وفي الدين، وفي العروبة.

فأجاب قائلاً: أحب أن أعتقد أنني اشتراكي بطريق الذي يقول: العدل هو الشيء المتناسق. فأنا اشتراكي بهذا المعنى أُومن بالتناسق وأبحث عنه. والظلم الاجتماعي هو ضد التناسق. والاشتراكي يضمن أساسًا لمجتمع فاضل وإنسان سليم. فأنا أُومن بهذا، وأتمنى أن يتحقق في الوطن العربي.

فهذا هو نص عقيدة هذا الرجل الاشتراكي التي يتمنى تعميمها في الناس. وليس هذا ببدع من خاصة هذا الشخص، وإنما هي فكرة سائر الاشتراكيين الشيوعيين، الذين يحبون أن يشيع تعميمها بين الناس، وسائر البلدان.

وأقول: إن الله سبحانه قد نصَب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم، فمن أسرّ سريرة أظهر الله سريرته على فلتات لسانه، ونزوات أقلامه، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ

[محمد: 29-330].

فهذا القائل يستدل بالترهات، ويتعلق بقلب الحقائق في المعقول والمنقولات، يدعو إلى الاشتراكية ويحبذها للناس، ويحب التناسق، وأن يتساوى الناس في الغنى والفقر، لكون التناسق في اللغة التساوي، يقال: تناسقت أسنان فلان أي تساوت. قاله في الصحاح.

ويسمي الاشتراكية بالعدل، ويسمي التفاضل بين الناس في الغنى والفقر هو الظلم الاجتماعي، ويتمنى أن تسود الاشتراكية في الناس، وأن تتحقق في البلدان العربية.

فهذا غاية وبغية ما يتمناه أشباه هذا الإنسان، وقد حيل بين العير وبين النزوان، ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71].

وإن مقامنا في ديننا، ونصيحة أمتنا، وولاية أعمالنا، توجب علينا القيام بحماية الدين، ودحض حجج المبطلين، إذ لولا من يقيمه الله لذلك لفسد الدين ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١ [البقرة: 251]، ولن نهمل- إن شاء الله- حراسة ثغر ديننا، ورد الأباطيل على أهلها، ونحن على المرمى قعود وجثَّم.

ما هي الاشتراكية الماركسية؟

إن الدعوة للاشتراكية الماركسية مبنية على الغش والخداع، والتلبيس والتدليس والتضليل؛ لأن من طبيعة دعاتها والمتزعمين لفكرتها المبالغة في عملية الخداع والكذب، وقلب الحقائق على غير ما هي عليه، وجعل الباطل حقًّا، والحق باطلاً وإلا فإنها فكرة هدم للحضارة والعمران، والصنائع والأعمال، تهلك الحرث والنسل، وقد حاربتها الدول الراقية في الحضارة والصناعة والعمران، من اليهود والنصارى وغيرهم، قبل أن يحاربها المسلمون.

إن أكثر المقلّين من المال من أمثالهم يحبون ويتمنون في أنفسهم زوال نعمة الغنى عن المنعم بها عليهم؛ ليساووهم في الجلوس معهم على حصير الفقر والفاقة، كما قيل: شنشنة تُعرف من أخزم ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71]، غير أن المسلمين يمنعهم إيمانهم من تحقيق هذه الأمنية؛ لاعتقادهم حرمة مال الغير. ويقول الله تعالى: ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ [النساء: 54]، فهؤلاء الاشتراكيون يحرّمون الغنى على أهله الذي هو عرق جبينهم، ويبيحونه لأنفسهم.

فالعقلاء من المقلّين يبالغون في كتمان هذا التمني وعدم إظهاره احترامًا للحكومة التي تمنع أشد المنع الجهر به والدعوة إليه؛ لكونه ينافي عقيدة دينها، ويناقض سياسة نظامها ومجتمعها؛ لكون الاشتراكية تقوم بتقويض دعائم الأعمال والأموال والمعامل، وتطبع في قلوب الشباب الفتنة والخيانة وذهاب الأمانة. ومضرتها على الفقير أكبر منها على الغني، وبعض من يتمنى الاشتراكية لا يتحمل الكتمان، فيكشف ذيله عن مساوئ ليله، فيجهر بما يعن بفكره، وما يتمناه في نفسه، ولم يبال بمنع الحكومة ولا الجهر بما تكره. فهو يعرف تمام المعرفة أن الحكومة لا ترضى بالتظاهر بهذا الشيء ولا الدعوة إليه بتحسينه للناس؛ لكونه يثير مشاعر المسلمين ويطبع في شبابهم الفتنة، ويستدعي الأسوة السيئة.

فقد يقول الكاتب الثاني أكبر مما قاله الأول، فيتسع الخرق على الراقع، وكم كلمة أثارت فتنة وجلبت محنة، والمتصدي للدعوة إلى الاشتراكية الماركسية وبتحسينها للناس من كتّاب الصحف والمجلات المتحللين من عُقَل الدين والأدب مع المسلمين يترتب على ولاية عمله مفاسد دينية واجتماعية وأدبية تنافي عقائد الدين وسياسة الدولة، والمتسنم لهذه المناصب يجب أن يكون لديه عقل يعيش به في الناس، ويردع به جهل الجاهل.

إنه قد كان للناس في بداية ظهور هذه البدعة الإلحادية حالة غير حالتهم في نهايتها، فقد بدؤوا يتراجعون عنها بعدما عرفوا مضرتها وذاقوا مرارتها، ومن ذاق منها عرف، ولأن أكثر الهمج السذخ يظنونها تعميمًا للغنى، ثم بدا لهم فيما بعد أن غايتها وحقيقتها هو تعميم للفقر، بحيث تجعل الغني فقيرًا وتزيد الفقير فقرًا إلى فقره، حيث إنها قد كشرت عن أنيابها لجميع الناس، وبطريق الحس والمشاهدة نرى أن كل بلد دخلتها الاشتراكية فإنها تهوي بها إلى الدرك الأسفل من الفقر والفاقة والقلة والذلة، وعلى أثرها تنقطع موارد الثروة عن البلد، بحيث يعز كل شيء وترتفع أعباء المعيشة وتقل النقود بأيدي الناس، بحيث ينقطع عنهم الوارد والصادر، فهي أكبر جريمة تقاد إلى البلد، وخير الناس من وُعِظ بغيره. ولينظر العاقل إلى حالة مصر قبل ثلاثين سنة- أي قبل أن تدخلها الاشتراكية- ثم ينظر إلى حالتها الآن، ثم ينظر إلى سوريا قبل ثلاثين سنة، ثم ينظر إلى حالتها الآن، ثم ينظر إلى حالة العراق قبل ثلاثين سنة، ثم ينظر إلى حالتها الآن، يجد الفرق الواسع والبون الشاسع بين الأمس واليوم.

ونعود إلى مناقشة الرأي القائل بالتناسق بين الناس؛ أي التساوي الذي هو في زعمهم العدل. وقد وقع الأمر من الاشتراكية المشهود لها بالتجربة والمشاهدة على الضد من ذلك، وأنها جور وظلم، وأنها حقيقة في تساوي الناس في الفقر والفاقة، وحتى الحكومة المتزعمة لهذه الفكرة تصبح فقيرة ويصبح الأغنياء فقراء، بحيث لا يعوّل أحد على أحد، ولو فرضنا أنها تبتز أموال الناس وتختص بها نفسها وأعوانها، فإن هذا المال يكون سريع الزوال منزوع البركة مقرونًا به الشؤم والفشل؛ لكونه أُخِذَ بغير حق، وفي الغالب أنها تقاسمه وتختص بالأفضل منه زبانية الفكرة لخاصة أنفسهم، قبل أن يصل إلى مخازن الحكومة.

وهذه الاشتراكية قد كشرت عن أنيابها للناس، فعرفها العام والخاص، وأخذ العلماء وعقلاء الدول حتى من غير المسلمين يحذر بعضهم بعضًا من مقارفتها، ويتكلمون فيها وفي مضارها وسوء عاقبتها، عن طريق المشاهدة والتجربة، لا عن طريق الأخبار الكاذبة.

ولما ظهرت هذه الاشتراكية الماركسية في مصر قبل كل بلد فزع منها النصارى أشد الفزع خوفًا من سراية عدواها إلى بلدانهم؛ لعلمهم أنها تقوّض التجارات وتوقع في الأزمات، ويترتب عليها فساد المصانع والأعمال والعمال، لهذا نشروا في صحفهم أن هذه النِّحلة سيستجيب لها أكثر الغوغاء والهمج ولن يقوم في صدّها أعظم من شريعة القرآن الذي فيه ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ [النحل: 71]، لهذا يجب نشر تعليم ذلك في المدارس والصحف والإذاعات.

وهذه الاشتراكية الماركسية لا شرقية ولا غربية، بل هي شريعة إلحادية ليست من شريعة الدين، ولا من شريعة اليهود والنصارى، تنادي بالقضاء على الحكام والرؤساء والرأسماليين حتى تكون الاشتراكية هي دعامة المجتمع، ويصير الناس لهم كالعبيد المسخرين يعملون، والماركسية وأعوانها يأكلون؛ لأنهم بمقتضى نظام فكرتهم يحكمون بتأميم الأراضي ونتاجها من الحبوب والأشجار والنخيل.

ويحكمون بتأميم ملكية الإنتاج من الحيوان والمعامل والعقار والمصانع، ويحكمون بتأميم الإرث فلا يرث الابن أباه، بل هم الذين يرثون كل أحد، ويسلبون الملكية من كل أحد، لدرجة أنهم جاؤوا صاحب مصنع للسكر ليؤمموه وجميع أمواله، فأمروه بالتخلي والخروج من معمله، فطلب منهم أن يعيروه سيارة توصله إلى بيته فمنعوه وقالوا له: امشِ على رجليك.

إن هذه الاشتراكية تخدع الفقراء وتزرع في قلوبهم الآمال والأماني الكاذبة، حيث يوهمونهم بأنهم يساوونهم بالأغنياء، ويلوحون لهم بكلمات العطف واللطف ليكثروا بهم سوادهم، والغوغاء في كل زمان ومكان هم عون الظالم ويد الغاشم، فالفقراء يزرعون في نفوسهم الأماني والآمال، ويحصدون الخيبة والحرمان، فهم يمصون دماءهم، حتى إن الفقير لا يتحصل على كامل أجرة عمله وعرق جبينه إلا بأخذ شيء منها، ثم هم يقولون لهم على سبيل التخدير والتفتير: إن هذا زمان هدم، وسيأتي بعده زمان البناء. ثم يستمر هذا الهدم وهذا التعليل والتمليل حتى تقوم الساعة.

وفي النهاية ذهبت كل هذه الآمال والأموال التي سحبوها من أهلها، وتقاسمها زبانية الفكرة، وقضت بانقطاع سبل التجارة، وتعطلت المعامل والعمال، ووقف الناس حيارى، وصار ضرر هذه الفكرة على الفقراء أشد منه على الأغنياء، وأخذ زعماء هذه الفكرة وحكامها يمدون أيديهم لطلب العون والمساعدة من حكام المسلمين العرب، الذين يحترمون أموال الناس كما يحترمون دماءهم، لذهاب الحاصل الذي بأيديهم، وانقطاع المتصل. وقد قيل: قليل متصل، خير من كثير منقطع.

إن هذه الفكرة تخالف كل دين كما تخالف الأخلاق والأنظمة والقوانين، كما أنها تقضي بتقويض دعائم الأمانة التي عليها مدار معاملة الناس فيما بينهم؛ فالاشتراكي حينما يرى نعمة أنعم الله بها على أحد من خلقه يرى أنه أحق بها وأهلها، فهذا هو السبب الذي يهيج الغوغاء على استجلابها واستحبابها والدعوة إليها.

فاليهود والإنجليز وأمريكا وفرنسا والألمان واليابان لم يحاربوا الاشتراكية لدين يدينون به ربهم، وإنما حاربوها حفظًا وحماية لمصالحهم؛ لعلمهم أنها تقوّض التجارات والعمران والمصانع والمعامل والأمانات وسائر أمور الحياة، وتوقعهم في الأزمات والشدات.

لهذا أخذ الغارقون فيها من قديم زمانهم يتسللون منها لواذًا، ويتحررون من قيودها شيئًا بعد شيء؛ لتفشّي العطالة والبطالة في أعمالهم؛ لكون العامل للغير لا ينصح كنصحه في عمله لنفسه، وإذا أردت التحقق من ذلك فاسأل عن الكتلة الألمانية الشرقية الواقعة في حدود حبائل الشيوعية الاشتراكية، تجدها تصف نفسها بأنها في جحيم وعذاب أليم، وبضدها الكتلة الألمانية الغربية، تجدها تصف نفسها بأنها في نعيم، والعلة هي علة الابتلاء بالاشتراكية والسلامة منها.

سافر رجل من تجار قطر إلى أمريكا، وكان يحمل معه حقيبة بداخلها نقود كثيرة من الجنيهات الاسترلينية والدولارات، فحين نزل من الطائرة ركب مع صاحب تاكسي أمريكي، ثم نزل هذا التاجر لعزمه النزول في أحد الفنادق، ونسي الحقيبة بما فيها من النقود، وحين ذكرها صفق بإحدى يديه على الأخرى، وكان لا يعرف السيارة، ولا يعرف رقمها، ولا شيئًا من علاماتها، وبعد أن نظر الأمريكي في سيارته نظر إلى الحقيبة فيها، ثم وضعها عند أحد السفراء، ونشر الخبر عن فقدانها، فبُشّرَ بها صاحبها، ووجدها على حالتها لم ينقص منها شيء، فكان من الذين قال الله فيهم: ﴿ ۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ [آل‌عمران: 75].

إنه لو تسممت فكرة هذا الأمريكي بالاشتراكية لاعتقد أنه أحق بها، وأن سهم صاحبها بقية ما عنده من التجارة، ولها نظائر كثيرة، ولكنه يعتقد حرمة مال الغير، فتعفف، حتى وجدها صاحبها.

إن العرب المسلمين، في جميع الأعصار والأمصار لا يعرفون هذه الاشتراكية، وليست لهم بخلق ولا دين، حتى أتيح لها الرئيس جمال عبد الناصر، فأثار فتنتها، وحاول تعميمها في البلدان العربية، وأصدر قراره بالإلزام بالعمل بها في مصر، وذلك عام (1381هـ الموافق لعام 1961م)، وسماها الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، وهي تتمشى على طريقة الاشتراكية الماركسية، حذو النعل بالنعل، فعملت عملها بمصر في التدمير، وسوء التدبير، وأورثت فتنة في الأرض، وفسادًا كبيرًا.

ثم انتقلت إلى بعض البلدان العربية الأخرى، فكان أول ما ظهرت الاشتراكية في مصر قبل كل بلد. وقد بدؤوا الآن في التحرر عنها، وفي محاربتها بالتحذير منها؛ لكونها أهلكت منهم الحرث والنسل، وقضت بتخدير الهمم، وغل أيديهم عن العمل، فأين ما يقوله هؤلاء من أنها تضمن أساسًا لمجتمع فاضل وإنسان سليم وقد وقع الأمر منها بالضد من ذلك؟

صنع رجل مأدبة حافلة في لبنان، ودعا إليها الرؤساء والفضلاء، وعند جلوس القوم عليها، ورأوا فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، قال أحد العقلاء لذلك الرجل الذي صنعها، وكان يعشق فكرة الاشتراكية: إن صاحبك «جمالا» لن تجد عنده هذه النعمة والخير الكثير. فقال: نعم أنا أعرف ذلك، ولكني أكتفي بالشاهي مع التساوي.

فهذه فكرة الكثيرين من المقلّين، وكأنها نكتة كامنة من داء الحسد فيهم، يحسدون الأغنياء على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنون زوال نعمتهم، وإن لم يصيبوا منها شيئًا، لكن المقلّين من المسلمين يتغلبون على إرادتهم، ويعصمهم إيمانهم بالله- عز وجل- لاعتقادهم حرمة مال الغير، وأن مال المسلم على المسلم حرام؛ لكون الدين هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأقوى رادع عن مواقعة المحرمات.

فقول بعضهم: إن العدل هو الشيء المتناسق، والظلم الاجتماعي ضد التناسق، يشير بهذا إلى الاعتراض على الله في حكمه، حيث فضل بعض الناس على بعض في الرزق. ويُسمي هذا التفاضل ظلمًا، لا يثنيه وجل، ولا يلويه خجل، وقد قيل: نجوم الظاهر، تدل على خبث الباطن، وقبح الجفا ينافي الحفا، وسبق حكم الله حكم الاشتراكيين ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71].

والله سبحانه خلق الناس متفاوتين في الخلق والرزق؛ لتتم وتنتظم بذلك مصالحهم، فيخدم الغني الفقير، بحيث يجلب إليه كل ما يحتاجه من الحاجات، من كل صغير وكبير، لا يستطيع الفقير الإتيان بها، كما أن الفقير يخدم الغني فيما هو من اختصاص عمله، فتنتظم بذلك مصالح الجميع، ويعيشون متساعدين متكافلين.
والناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدَمُ
لأن الله سبحانه لو أغنى الخلق كلهم لأفقرهم كلهم، ولكن رحمته بهم قضت تفاوتهم في الغنى والفقر، يقول الله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ [النحل: 71]، وقال: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا ٢١ [الإسراء: 21]، وقال تعالى: ﴿أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢ [الزخرف: 32]، فدلت هذه الآيات على أن هذا التفاضل رحمة من الله لهم، وأنه لا يستقيم نظام حياتهم بدونه، ولهذا سمّاه الله رحمة.

وكان السلف يكرهون أن يقول الإنسان: اللهم أغنني عن خلقك. لكونه لا غناء للإنسان عن الخلق ما دام حيًّا، وإنما يقول: اللهم أغنني عن شرار خلقك.

فكما نفى سبحانه التساوي بين خلقه في أمر الدنيا، وجعل منهم الغني والفقير، فكذلك نفى التساوي في أمر الدين، وفي الجزاء على الأعمال، فجعل منهم المسلم والكافر، والتقي والفاسق، فهذا حكمه في خلقه ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50]، قال سبحانه: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ ١٨ [السجدة: 18]، وقال: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٥ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ٣٦ [القلم: 35-36]، وقال: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٢١ [الجاثية: 21]، فأخبر- سبحانه- أن مساواة الناس كأسنان المشط في الدنيا والدين منتف ومتعذر، وأنه من الحكم السيئ الذي ينزَّه الله عنه، إذ لا تتم سعادتهم وتنتظم حياتهم إلا بمقتضى التفاضل بينهم، وأنشد الناظم ابن عبد القوي في هذا المعنى فقال:
تبارك ذو الأحكام والحِكَم التي
تَحارُ عقولُ الخلق فيها فتهتدي
فمِنْ حكمه إبداؤنا وأمورنا
ذواتُ ارتباطٍ لا ذوات توحدِ
فكل امرئٍ لا يستقلُّ بنفسه
فسَنَّ لنا سبلَ التعاونِ فاهتدِ
يُعلّق أطماعَ الأنام بمكسبٍ
له يركبون الهولَ في كلِّ مقصدِ
يهون على هذا اقتحام بنفسه
وهذا بمال رغبة في التزيّدِ
ليأتي بأرزاق يعزّ حصولُها
على عاجزٍ عنها ضجيعٍ بمرقدِ
فسبحان من أبدى وأتقن صنعه
وجَلّ تعالى عن أباطيلِ ملحدِ
إن دين الإسلام مبني على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. وخطب النبي ﷺ في مجمع الناس يوم عرفة فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»[91]. وهذا غاية في تعظيم حرمة مال الغير، وأنه لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفس منه، وقد قال النبي ﷺ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[92].

وقد أنزل الله في كتابه المبين ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]، ولأجله حرّم الله الإسراف والتبذير في الأموال؛ لكون المال عديل الروح وقوام الحياة، كما شرع الله الحَجْر على السفهاء والمبذرين الذين لا يحسنون حفظ أموالهم ولا تثميرها، وقد قال سبحانه: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا [النساء: 5]؛ أي تقوم بها أبدانكم، وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم وشرفكم.

والسفه هو خفة الرأي ونقص في العقل، علامته كونه لا يحسن توفير ماله ولا تثميره، فيقع بتبذيره في الفقر الذي هو الداء الأكبر والموت الأحمر؛ لكونه يصير العزيز ذليلاً، وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[93]. وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ»[94]. وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[95]. لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغني عنه في حال من الأحوال. وإن الكريم على الإخوان ذو المال. فلو عبس الفقر في وجه الرجل، لعبس في وجهه أهله وأقاربه.
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجدهُ
وإننا متى سألنا عن أقوى مادة يعتمد عليها اليهود في قوتهم، ونظام حكومتهم، مع العلم بقلة عددهم، وعدم وجود منابع البترول عندهم، التي هي عماد ثروة الأمة في هذه الأزمنة، أجابوا: بأن عمدة قوتهم تتركز على المال؛ إذ أنهم أكثر الناس مالاً، وأكثرهم تجارة، فكانوا يساعدون حكومتهم بالمال على سبيل الاستمرار.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة فإن العقل والرأي لا يستجيز إضعاف قوتنا بالاشتراكية التي حقيقتها ذهاب الحول والقوة والثروة من الأمة، إذ هي بمثابة سحب الدم من الجسم، حتى نبقى ضعافًا نحافًا تجاه صولة عدونا وقوته، فنكون كالمعينين لهم على هدم مجدنا، وعدم قدرتنا على الصمود أمام قوة عدونا، إذ لا مجد في الدنيا لمن قل ماله.

* * *

[91] رواه مسلم عن جابر. [92] رواه البخاري ومسلم وأبو داود بلفظ آخر. [93] رواه الحاكم من حديث ابن مسعود. [94] متفق عليه من حديث عائشة. [95] متفق عليه من حديث عائشة.

خداع زعماء الاشتراكية الماركسية في تسمية نحلتهم بالإسلامية

إن الشريعة الإسلامية- أي الكتاب والسنة- هي عدل الله في أرضه، ورحمته لعباده، نصبها حكمًا قسطًا، تحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأقوال والأعمال والاعتقاد، فتقطع عن الناس النزاع، وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع. وإن هذه الاشتراكية العلمية الماركسية هي اشتراكية ماركس اليهودي[96].

وحين ابتدأ في ابتداعها استنفر لها العمال المقلّين من المال، وأوهمهم بأنه سيساويهم بالأغنياء، فاستجابوا لدعوته مسرعين، لطمعهم في مشاركة المكثرين. ومن العادة أن الغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

وعلى أثرها اشتد الفقر والبؤس بالناس، حتى صار بعضهم ينهب بعضًا، وفقدت الأمانة وذهبت التجارة، وانقطعت السبل وعدمت الحاجات الضرورية فضلا عن الكمالية، وغلت الأطعمة، وازداد بها الفقير فقرًا إلى فقره، فانسل دعاتها عنها حين علموا بأنه لا حياة ولا معيشة معها، وكادت أن تموت وتدفن في أجداثها كل هذه السنين الطويلة.

حتى تصدى لبعثها (جمال عبد الناصر) حاكم مصر في زمانه، فبعثها من أجداثها حتى رسخت في مصر، وصدر الأمر بتعميم تأميمها.

ثم انتشرت في بعض البلدان العربية، وهي تنادي بذهاب الثروة وقوة الأمة، وهي نفس الاشتراكية العلمية الماركسية بلا اختلال ولا خلاف، فهي شيوعية محضة، وإن هذه الاشتراكية مبنية على الخداع والتغرير والتضليل، في بداية دعوتها ونهايتها، يدلسون على العوام وضعفة العقول والأفهام بأنها اشتراكية إسلامية، وأن دين الإسلام اشتراكي، وأن عمر بن الخطاب اشتراكي، وأن أبا ذر اشتراكي، تخرصًا وأحاديث ملفقة ما أنزل الله بها من سلطان.

والأصل في ذلك كله هو تضليل عوام المسلمين وإطفاء ثائرة غضبهم، وليكثروا بهم سوادهم. والحق أن دين الإسلام بريء من هذه الاشتراكية الماركسية؛ لأن دين الإسلام يحترم أموال الأفراد والجماعات، كما يحترم دماءهم، ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[97].

أما زبانية هذه الفكرة، فإنهم يحرمون هذه الأموال على أهلها التي هي نتاج قوتهم وعرق جبيهم، ويبيحونها لأنفسهم، فلا تسأل عما كانوا يفعلون. فليس الإسلام بدين الاشتراكية الظالمة، إنما هو دين العدل والكمال، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، في حالة الشخص بانفراده ومع أهله وفي مجتمع قومه، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان؛ لأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان، الكفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان، فلا يقع بين الناس مشكلة من مشكلات العصر، كهذه الاشتراكية الماركسية، إلا وفي الشريعة الإسلامية بيان حلالها من حرامها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بنحلة باطلة، إلا وفي الشريعة الإسلامية بيان بطلانها، وطريق الهدى من الضلال فيها، فهو كفيل بسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم.

فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما استباح بعضهم أموال بعض، بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان. إن الناس لو تفقهوا في الإسلام، وعملوا به على التمام، لهداهم إلى التي هي أقوم، ولما وقعوا في فرق الاختلاف والانحلال، كفرقة الاشتراكية الماركسية، وفرقة الشيوعية والبعثية. وفرقة القومية العربية، وفرقة البهائية، والقاديانية، قد استبدلوا هذه الأسماء ومسمياتها بدل الإسلام والدين الذي سماهم الله به المسلمين المؤمنين عباد الله، ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85].

فنظام دين الإسلام، بمقتضى اسمه ومسماه وعقائده وقواعده، هو صراط الله المستقيم، فلا ينسب إليه شيء من هذه المذاهب والنحل المبتدعة والسبل المتفرقة، التي عناها القرآن بقوله: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣ [الأنعام: 153]، لأن هذه النحل التي انتحلوها واستحلوا سلوكها، قد أبعدت بهم عن سبيل الله والدين، وإن كانوا يتسمون به بألسنتهم مع مخالفتهم له بأعمالهم وعقائدهم.
وكلٌّ يَدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكَ
فالإسلام ليس محض ألعوبة وأماني كاذبة، بحيث يقول الشيوعي: إن الشيوعية إسلامية. والاشتراكي الماركسي يقول: إن الاشتراكية إسلامية. وكذا القومية العربية والبعثية، والقاديانية. وما سيبتدع من النحل، ويسمى باسمه. والله يقول: ﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ [النساء: 123]؛ لأن للإسلام صوىً ومنارًا كمنار الطريق، يعرف به صاحبه. فأحكامه وأركانه وفرائضه وفضائله معروفة مشهورة، ولن تتوفر لأي نظام أو أي نحلة غيره متى أحسن الناس فهمه وتطبيقه وإتباعه.

ومتى قصّر أهله في فهمه وعدم العمل به، فلن ينسب إليه هذا النقص والتقصير، إذ إن كثيرًا من الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه ويسعون في تقويض مبانيه، لم يبق معهم من الإسلام سوى محض التسمي به والانتساب إليه، بدون عمل به ولا انقياد لحكمه، فكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ [البقرة: 8-10].

فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغوا السلامة من غناءِ
إذا انصرفت شعوبُ الأرض عنه
فبَشِّرْ كلَّ شعبٍ بالشقاءِ

* * *

[96] كارل ماركس: ألماني الجنسية من أسرة يهودية، ولد سنة 1818 م في بلدة (تريف)، وكان كسولاً أنانيًّا يطلب المال من أبيه دون أن يعمل وسمّته أمه باسم (الطفيلي)، واشتهر بكذبه وعدم وفائه بعهوده، ووضع آراءه الاقتصادية في كتابه (رأس المال)، وأصدر مع صديقه (إنجلز) البيان الشيوعي المشهور الذي تضمن الأسس التي تقوم عليها الحركة الشيوعية. [97] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي.

حكمة محنة الابتلاء بالفقر والغنى

إن الله سبحانه يبتلي أقوامًا بالغنى لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ كما يبتلي أقوامًا بالفقر لينظر أيصبرون أم يضجرون ويفجرون؟ وليس كل من أنعم الله عليه بالغنى يكون لكرامته وعزته عند الله، ولا كل من ابتلاه بالفقر يكون لهوانه ومذلته عند الله، فحاش وكلا، فحكمته سبحانه أعلى وأجل، يقول الله سبحانه: ﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ؛ أي ضيق عليه رزقه ﴿فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦ كَلَّا [الفجر: 15-17]؛ أي كلمة ردع وزجر عن هذا القول وهذا الاعتقاد، فقد يعاقب الله أقوامًا بالغنى لبغضه لهم، كما يرحم أقوامًا بالفقر لمحبته لهم، كما قيل:
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عَظُمتْ
ويبتلي الله بعضَ القومِ بالنِّعمِ
وفي الحديث: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»[98].

إن النفوس مجبولة على محبة الغنى، والسعي في حصوله وتوسعه؛ لكونه لا غناء للمرء عن فضل ربه ورحمته، يقول الله: ﴿وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ ٨ [العاديات: 8]، والخير هو المال الكثير، فترى الشخص يتحمل المشاق المتعبة، ويخوض الأخطار الموحشة، في سبيل كسب المال وتوفيره للأهل والعيال، حتى إنه ليحرم نفسه من لذته وإنفاقه في سبيل حسنته من أجل توفيره لذريته، مع العلم أن مجرد الغنى ليس هو السعادة المنشودة في الحياة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال، بأن يأخذه من حله، وأن يؤدي واجب حقه، ولا يشغله ماله عن عبادة ربه، وما لم يكن كذلك، فإنه عذاب عليه في الدنيا، وعقاب عليه في الآخرة، والمكثرون هم المقلّون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وشماله. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٨٥ [التوبة:85].

والله سبحانه يحمي بعض عباده من الدنيا مع محبته لهم، كما يحمي أحدكم حبيبه عن الطعام والشراب مع شهوته له.

وفي بعض الآثار يقول الله: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي لِعِلْمِي بِهِمْ، إِنِّي بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ»[99].

ومن الدعاء المشهور: «اللَّهُمَّ مَا أَعْطَيْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ عَوْنًا لِي عَلَى مَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ»[100].

فمن واجب المؤمن أن يسعى في سعة رزقه، ويطلبه من أسبابه، والدخول عليه من بابه، ثم يرضى ويسلم ويقنع بما آتاه الله من قليل وكثير، ولا يمد عينيه إلى ما متع به غيره، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١ [طه: 131].

وقد أمر النبي ﷺ بما ينبغي أن يحفظ به الرجل نعمته على قلتها، فإن من قرّ عينًا بعيشه نفعه، فقال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»[101]، وقد قيل:
ما كل ما فوق البسيطة كافيًا
فإذا قنعتَ فكل شيء كافي
يقول الله تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَٰغِبُونَ ٥٩ [التوبة: 59].

إنها متى سكنت القناعة قلب الشخص، ولو كان فقيرًا، فإنه يجد بها لذة الدنيا وفرحها وسرورها، فيتمتع بحالة مرضية وأخلاق كريمة زكية، حتى يكون أسعد بالدنيا؛ باللذة والسرور فيها، من التاجر الجموع المنوع، الذي كلما ازداد جمعًا ازداد هلعًا ومنعًا؛ لكون الغنى ليس بكثرة المال، وإنما الغنى غنى النفس، كما قيل:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة
وفي غنى غير أني لست ذا مال
شُحّي بنفسـي أني لا أرى أحدًا
يموت هزلا ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
ومن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ فَائِتَةٍ بِخَيْرٍ»[102].

إن أكبر عامل ثار بالاشتراكيين على محاولة استحلال مال الغير بغير حق هو عدم صبرهم، وعدم قناعتهم بما آتاهم الله من فضله، فحاولوا النزو على مال الأغنياء، حرصًا منهم على زوال نعمتهم عنهم وحسدًا لهم، كي يستأثروا بها لأنفسهم خاصة ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ [النساء: 54].
ألا قل لمن كان لي حاسدًا
أتدري على من أسأت الأدبْ
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترض لي ما وهبْ

* * *

[98] رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث صهيب الرومي. [99] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأولياء من حديث أنس بن مالك. [100] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي. [101] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [102] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس.

عقيدة الاشتراكية الماركسية وسوء عواقبها على الدين والدولة

إن الاشتراكية الماركسية هي الشيوعية المادية حقيقة وعقيدة، تنكر وجود الرب ووجود الملائكة، وتكذب بالأنبياء وتكذب بالبعث بعد الموت وتكذب بالجنة والنار، وتقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وقد ذكروا ذلك في البيان الشيوعي الأول، حيث قالوا: إنه لا إله، والحياة مادة.

وتستعمل الشيوعية في سبيل تحقيق ذلك الثورة على الأخلاق والنظم. ثم استعمال الإبادة للجيل المنافي لهذه الفكرة، وخاصة الأمراء والزعماء والعلماء؛ ليستجدوا جيلاً لا يعرف معروفًا ولا يؤمن بدين، ويعتقدون بأن الدين أفيون الشعوب.

وإنما اشتدت كراهية الناس لها، وخاصة المسلمين، لكونها فكرة إلحادية تحاول أن تجتث أصل دين الإسلام، وتمحو معالمه. ثم ازدادوا نفرة عنها بعد أن عرفوا مساوئها السيئة، وكونها تجلب للناس الفقر والبلاء والخراب والدمار، مما رآه الناس وسمعوا به في البلدان الاشتراكية الماركسية نفسها، فاشتد بغضهم لها ونفرتهم عنها؛ لكون الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها.

إن البلدان العربية استعصت على استجابة دعاية الاشتراكية من أجل إيمانها بالله وتمسكها بدينها الذي هو دين الإسلام؛ لأنهم -وإن دخل عليهم شيء من المبادئ الهدامة الجديدة التي علقت بأخلاق بعضهم، من سراية العدوى من الأخلاق الأوربية- لكنهم ما زالوا ولم يزالوا متمسكين بالإيمان بالله وحده ومحبة دين الإسلام، وإن كان الكثير من بعض البلدان لا يقومون بأداء فرائضه على التمام، لكن سلطان الدين ثابت وراسخ في نفوسهم، وهو السبب الأعظم الذي به عزوا ونهضوا، وفتحوا وسادوا، وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، فهو الهداية المهداة لجميع الخلق، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدّ عنه، ومن أجل قوة سلطان الإيمان على نفوسهم، وأخذه بمجامع قلوبهم، اشتدت شكيمة العرب المسلمين دون انقيادها لدعوة الاشتراكية الماركسية، ودون انتشارها في بلدانهم، وحتى الذين ابتلوا بها في بدء ثورتها، أخذوا يقررون مصيرهم في التخلي عنها، والبراءة منها.

وحتى إن البادئين بتبني فكرة الاشتراكية في بعض البلدان العربية، كمصر، قد عرفوا تمام المعرفة أن دين الإسلام هو أقوى رادع، وأعظم وازع إلى محاربتها وعدم انتشارها؛ لأنه متى قوي سلطان الإيمان في القلب، فإنه يكون أقوى وأقدر على دفع ما يعرض له من البدع والنحل المزيفة والمذاهب الهدامة التي تُزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل.

لهذا أخذوا يحتالون على الناس بدخولها إلى بلاد المسلمين تحت ستار الدين؛ لكونهم يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، فجعلوا الدين جسرًا ومنفذًا يدخلون منه إلى قلوب العوام وضعفة العقول والأفهام، فنشروا في كتبهم وفي صحفهم أن دين الإسلام هو دين اشتراكي، وأن الاشتراكية لا تخالف الدين، بل إنها مستمدة من دين الإسلام، ثم أخذوا في خداع الناس، زاعمين أن اشتراكيتهم تؤمن بالله ورسله، وأنها لا علاقة لها بالدين، وما هي إلا مذهب اقتصادي في تمثيل الحياة فقط، فهم يحاربون الدين باسم الدين.

استباحوا هذا المكر والخداع في سبيل نصر مذهبهم، وحتى يصدق بنحلتهم الرجل العامي والهمج السذج الذين لم يعرفوا حقيقة الاشتراكية الماركسية، ولم يدرسوا مبادئها ولا عرفوا عواقبها السيئة ولا أصولها وما يدعون إليه، وكل من قويت معرفته بها وبمبادئها وما تؤول إليه، فإنه سيكون أشد عنها نفرة، وأشد لها بغضًا ممن لم يكن له غرض وهوى في أكل أموال الناس بالباطل.

والحاصل أن مبدأ الشيوعية من تسميتها بالشيوع؛ أي الاشتراك في الإبضاع في النساء وفي الأموال، فأظهروا الاشتراكية الماركسية في الأموال وبعد نجاحها يعودون إلى إظهار الاشتراكية في الإبضاع. فلا يختص أحد بامرأة دون الآخرين، وينقمون على الزواج الشرعي بأنه قيد لحرية الأشخاص، واستمتاعهم بتوسعهم فيها.

والمقصود أن الاشتراكية الماركسية والقائمين بها والداعين إليها كلها زيف وتضليل وكذب، وفضائحها وفظائعها مشهورة ومشاهدة، فهي أحدّ آلة في هدم المجتمع وتغييره، وهدم الدين واستباحة حرمات المسلمين من كل ما يتصل بأموالهم وأخلاقهم وأعراضهم.

فاعتقاد صحتها واستباحة ما يترتب عليها هو كفر بالله. فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزوّج مولاته من رجل شيوعي، يعتقد ويستبيح كل ما ذكرنا من عقيدة الشيوعيين، كما أنه لا يجوز لمسلم أن يتزوج بامرأة شيوعية تعتقد هذا الاعتقاد. وكما أن هذا الشيوعي لا يستحق أن يرث أباه المسلم؛ لكون الكفر يقطع الموالاة والنسب، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، كما حكى الله عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي [هود: 45]؛ أي وقد وعدتني أن تنجيني بأهلي، فقال: ﴿قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖ [هود: 46]. فبما أن للإسلام صوًى ومعالم كمعالم الطريق يعرف به صاحبه، فكذلك الكفر، فإن له معالم كمعالم الطريق يعرف به صاحبه. وبما أن الإيمان هو اعتقاد وقول وعمل، فكذلك الكفر هو اعتقاد وقول وعمل، والله تعالى يقول: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥

[التوبة:105].

* * *

التجارة وعموم نفعها وحاجة الدولة والمجتمع إليها

روى الترمذي في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» ورواه ابن ماجه عن ابن عمر بلفظ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ولما سئل النبي ﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» رواه الحاكم في مستدركه، والبزار من حديث رفاعة بن رافع. وقال البخاري في صحيحه: قال قتادة: كان القوم - يعني الصحابة- يَتَّجِرُون ولكنهم كانوا إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، حتى يؤدوه إلى الله، وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨ [النور: 38].

فحصلوا بتجارتهم الحسنيين، وفازوا بالسعادتين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. فكانت أعمالهم بارة، وأرزاق الله عليهم دارة، فوجود التجارة والتجار بالبلاد، هو رحمة من الله للعباد؛ لكونهم يجلبون إلى الناس ما يحتاجون إليه، والجالب إلينا كالمهدي إلينا، فيتصل الشخص بهم لحاجته فيشتريها بثمن معجل، أو مؤجل إلى ميسرة.

وقد نهى رسول الله ﷺ عن الاحتكار، ونهى عن تلقي السلع، ونهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، ونهى أن يبيع حاضر لباد. وقال: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»[103]. وكل هذه النصوص متعلقة بمصالح التجارة وحمايتها واحترامها.

ثم إنهم يسدون شيئًا من الفراغ الناشئ عن البطالة بإشغالهم فريقًا من الناس في عمل تجارتهم. أما عدم وجود التجار بالبلد، فإنه فقر للحكومة ونكبة على سائر الرعية.

وكان بعض الصحابة معدودين من التجار المكثرين، فمنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنه خازن من خزان الله في أرضه. ولما كانت غزوة العسرة- أي غزوة تبوك- سنة تسع، حث النبي ﷺ على النفقة في سبيل الله، وكانت زمن جهد ومجاعة، وانقطاع ظهر، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم النبي ﷺ أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم النبي ﷺ، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير ثالثة بأحلاسها وأقتابها. ثم جاء بصرّة دنانير كادت كفّه أن تعجز عنها، فوضعها بين يدي رسول الله ﷺ فجعل رسول الله يقلبها ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتَ وَمَا أَسْرَرْتُ»[104].

فبالله قل لي من أين أتى عثمان بهذا المال الطائل العظيم، وهو لم يتول إمارة ولا جباية ولا عمل حكومة، وإنما هو فضل من الله ونعمة، اكتسبه عن طريق التجارة المباحة في رحلتي الشتاء والصيف.

ومثله عبد الرحمن بن عوف، فقد قدمت له عير من الشام تقدر بسبعمائة بعير، تحمل من كل شيء، فتصدق بها كلها. وهي من فضل كسبه وتجارته. ولما قدم المدينة مهاجرًا، قال: دلوني على السوق، فدلوه على سوق بني قينقاع، فتحصل على ربح حسن في ذلك اليوم، فأتى به إلى النبيﷺ ليريه كيف ربح. فدعا له النبي ﷺ بالبركة في بيعه، حتى لو اشترى ترابًا ربح فيه.

ولهما نظائر من تجار الصحابة، مثل طلحة وزيد بن أرقم وغيرهما. ولما خط عمر بن الخطاب الكوفة بعث بأمره لسعد بن أبي وقاص فخط المسجد، ثم خط بجنبه السوق، فقال عمر: هذا المسجد لديننا، وهذا السوق لدنيانا. ومرّ عمر بن الخطاب برجل من الأنصار وهو يسوي أرضًا ليغرسها، فقال له: ما تصنع بهذه؟ فقال: أريد أن أغرسها لأقتنيها وأغتني بها، وأتصدق من ثمرها. قال: صدقت، صدقت، إن صاحبكم أحَيْحَة يقول:
ولن أزال على الزوراء أعمُرُها
إن الكريمَ على الإخوان ذو المالِ
ولقد رأينا الناس في قديم الزمان -مع ضعف حالهم وقلة مالهم- كانوا يتنافسون ويتساعدون على الأعمال الخيرية، من بناء المساجد والمدارس العلمية، وإعانة المرضى والمضطرين، وكفالة اليتامى، كل منهم على حسب قدرته، وعلى قدر رغبته في البذل ومقدرته؛ لكون الرجل كثيرًا بإخوانه، قويًّا بأعوانه، وعادم المال لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.

ويتحمل التجار القسم الأكبر من هذه المساعدة، خصوصًا في النوائب الكبار التي تنوب البلد، من جهاد وغيره، فهم يتحملون أكبر النفقة في هذا طوعًا وكرهًا، وذلك في زمان كانت الملوك فيه معدمين من الثروة في تلك الحال. ومع هذه الأعمال قد عمتهم القناعة والرضا بما آتاهم الله من فضله، فعاشوا في زمنهم عيشة راضية مرضية، بأخلاق كريمة زكية، قد قنعهم الله بما آتاهم، ومتعهم متاعًا حسنًا في دنياهم.

وقد ضعف الآن بين الناس هذا التكاتف والتعاون لضعف رغبتهم في الخير، والبذل في سبيله، مع كثرة مالهم، فكانوا يحيلون كل شيء إلى الحكومة، ويرتجونه منها.

ومن المعلوم أن الأخوة الإسلامية والمحبة الدينية تستدعي العطف والحنان، والصدقة والإحسان، ومساعدة منكوبي الزمان، فإن المسلمين أخوان، والمؤمن للمؤمن كالبنيان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2]، فإن المسلم كثير بإخوانه، قوي بأعوانه.

لكن هذا التعاون نجده موجودًا عند مسلمي الهند، فهم متمسكون بأقوى سبب منه لاعتمادهم في فعل الخير على أنفسهم، لا على حكومتهم، لهذا نراهم يقومون بإنشاء المنشآت الخيرية، من بناء المساجد والمدارس الدينية والجامعات العلمية، فيقومون ببنائها وتنظيمها بما تحتاجه من فرش وكراسي، وبناء غرف للطلاب الغرباء، ويتكفلون بالقيام بمعيشتهم، ثم إجراء رواتب الأساتذة والمتعلمين، ويحتسبون التعليم بدون راتب، وينشؤون المستشفيات للمسلمين، وللطلاب والطالبات. وإذا سألت عن موارد هذه الثروة التي تقوم بهذه المشروعات العظيمة قالوا: كلها من مساعدة التجار، كل منهم على حسبه، وعلى قدر رغبته في الخير، ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ [الطلاق: 7]. حتى إن أحد التجار قد تحمل تكاليف جامعة عظيمة؛ بناءها وتنظيمها وأجور الأساتذة والمتعلمين، وإعانتهم وإعاشتهم، كل ذلك من ماله الخاص، عمل دائم مستمر، لا يناله فيه سآمة ولا ملل. وحتى إن أحد البقالين من المسلمين يخرج كل يوم صدقة لله وفي سبيل الله، بقدر ملء كفيه من شعير أو قمح أو ذرة، حتى إذا جاءه من يتولى جمع التبرعات، وقال له: آتونا من مال الله الذي آتاكم، دفع له هذا المجموع، ويسأل الله القبول، وإنما ذكرت هؤلاء بحسن أعمالهم دعوة للناس إلى الأسوة الحسنة بهم.

أما البلدان العربية التي كشرت الاشتراكية في وجوه أهلها، ومضت بتأميم أموال تجارها، فقد كان لها دور كبير في المساعدة والتعاضد والنفقة في سبيل البر والخير، وبناء الجامعات والمعاهد الدينية، وتحفيظ القرآن، لما كانوا أحرارًا في تصرفهم وبيعهم وشرائهم.

أما بعد تحطيمهم، وحجر تجارتهم، فكان أحدهم ينام تحت لحافه من مرض هذا الحَجْر والتأميم، الذي هو حقيقة في تعميم الفقر، فإذا ذُكِرَ لأحدهم شيء من عمل الخير: أومأ بيده وقال: نفْسي.. نفسي، اذهبوا إلى غيري. وشح ببقية ماله؛ لأن عادم الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، وخير الناس من وُعظ بغيره.

فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم، ففيه دليل على فضل كسب المال من حله، ثم الإنفاق منه في سبيل حقه.

فالمسلمون المؤمنون يعتقدون بأن الله قد أوجب عليهم في أموالهم حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، وأن الفقراء وسائر من يستحقون الزكاة لهم حق مفروض في أموال أغنيائهم. ولن يجهد الفقراء أو يجوعوا إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الواجب لهم في أموال أغنيائهم.

وقد استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، وعدوهم مرتدين بمنعها، لما أنكروا وجوبها، وزعموا بأن فرضها يموت بموت رسول الله ﷺ.

و «إِنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ»، كما رواه الترمذي مرفوعًا، وذلك من إعانة المنكوبين، وإعاشة المضطرين، ومساعدة المجاهدين، والنفقة على الأقارب المحتاجين؛ لأن الأخوة الإسلامية تستدعي العطف والحنان، والصدقة والإحسان، ومساعدة منكوبي الزمان، فإن المسلمين إخوان، والمؤمن للمؤمن كالبنيان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2]، والمسلم كثير بإخوانه، قوي بأعوانه، وهذه الأعمال لا تنال إلا بالمال.

وقد ذهب أهل الدثور- أي الأغنياء- برفيع الدرجات في الجنات. ونعم المال الصالح للرجل الصالح، وما أنفق أحد في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة. وما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على صرف ما هو أكثر منها في سبيل الباطل، فبعض التجار لما منعوا زكاة أموالهم وبخلوا بما آتاهم الله من فضله، وقطعوا وشائج أرحامهم، وتركوا عبادة ربهم، سلط الله عليهم الجبابرة الظلمة من الاشتراكيين يسومونهم سوء العذاب، ويسلبونهم أموالهم باسم الاشتراكية المبتدعة، ثم يجلسونهم على حصير الفقر والفاقة يعلوهم الذل والصغار، حتى يتقاضاهم الفناء ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠ [الشورى: 30]. فالمال المباح هو بمثابة الترس للإسلام، يستجلب به العدد والعتاد، ويستدفع به صولة أهل البغي والعناد، فهو بمثابة المحور الذي تدور عليه رحى الحرب، ويستعان به في الطعن والضرب، فهو إحدى القوى التي أمر الله بإعدادها عند لقاء الأعداء.
لا تثمروا المال للأعداء إنهمو
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جُدعا
ثم ليعلم أن التجارة الممدوحة هي التجارة المحفوفة بالبر والتقوى، والصدق والوفاء، والموصوف أهلها بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لكون البر والخير هو همة المسلم التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب المال، وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء، كإبراهيم ويوسف وسليمان -عليهم السلام- وقد وصف الله صحابة نبيه بأن منهم ﴿وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ [المزمل: 20]، والذين يبتغون من فضل الله هم الذين يسعون في الكسب وتوسعة التجارة، وقد سمّاه الله فضلاً، كما قال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ [الجمعة: 10]؛ أي بيعوا واشتروا وابنوا واغرسوا وسافروا لطلب الكسب في البر والبحر.

فالمسلم التقي يشتغل بجوارحه في العمل في دنياه وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، والعمل للآخرة هو أكبر العون على حصول الدنيا وسعتها والبركة فيها، كما قيل في الحديث: «يَقُوْلُ اللهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ قَلْبَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[105]. وقد قيل:
المسلم الحق يصلي فرضهُ
ويأخذ الفأس ويسقي أرضهُ
يجمع بين الشغل والعبادهْ
ليكفل الله له السعادهْ
وقد أجمع العلماء على وجوب تعلم كل ما يحتاج إليه الناس بداعي الضرورة من الصنائع والغرس والزرع، وأنهم إن تركوا تعلم ذلك أثموا.

فكل ما يسمعه الناس في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال الناس السيئة في المال لا نفس المال، فقول النبي ﷺ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ»[106]، وإنما كانوا بهذه الصفة من أجل أن أكثر التجار لا يبالي من أين أخذ المال، أمن الحلال أم من الحرام، وأكثرهم يتعاملون بربا النسيئة الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، وقد أجمع العلماء على تحريمه، ولهذا استثنى الله من اتقى الله وبرّ وصدق في معاملته، وقليل ما هم، فالتجار الذين يتعاملون بالربا، وقد يتجرون في الخمر ولحم الخنزير، ثم يصرون على منع زكاتهم، فهؤلاء هم التجار الذين يبعثون يوم القيامة فجارًا؛ لكون الفجور هو التوسع في أعمال الشرور، وهو منطبق على وصفهم. كما أن الأبرار هم المتوسعون في أعمال الخير والبر والصلاح، قال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤ [الإنفطار: 13-14]، فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي الآخرة، والفجار في جحيم في الدنيا وفي الآخرة.

وعلى كل حال إن وجود التجارة والتجار في البلاد رحمة من الله للعباد، مهما كانت صبغتهم وصفتهم؛ لكون الناس يتصلون بهم في حاجاتهم، وكانت اليهود هم أكثر تجار المدينة زمن النبيﷺ وقد توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير.

* * *

[103] أخرجه مسلم من حديث جابر. [104] أخرجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة. [105] أخرجه عبد الرزاق في المصنف من حديث ليث بن أبي سليم مرسلاً. [106] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث رفاعة.

الاحتكار والتسعير

إن الناس قد يعرض لهم حالات من الحاجات والشدّات، وارتفاع أسعار الأطعمة والأشياء الضرورية، مما يوجب على الحكومة التدخل في مراعاة تلطيفها وتخفيفها بمقتضى العدل، بدون ضرر ولا ضرار.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز. انتهى.

وقد روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، والمحتكر الخاطئ هو الذي يشتري الطعام من السوق، ثم يحتكره لإرادة الغلاء.

أما من كان عنده طعام من نخله أو زرعه فاحتكره لإرادة الغلاء، فلا يعمه الوعيد. ومثله من اشتراه في حالة الكساد واليسار، أو اشتراه من التجار، فلا يشمله الوعيد؛ لكون الحديث ورد فيمن اشترى طعامًا مجلوبًا في السوق؛ لقوله ﷺ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»[107]، ولأن في خزن الطعام في حالة كساده، مصلحة عامة لجميع الناس، بحيث يجدونه عندما يحتاجون إليه، وهو أحسن من كونهم لا يجدونه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام المجلوب في السوق، فيحبسه عنهم، يريد غلاءه عليهم، وهو ظلم للخلق لما فيه من الإرهاق والتضييق عليهم بزيادة الثمن، ومثله من عنده طعام غير محتاج إليه، وفي الناس ضرورة وحاجة إليه.

فلولي الأمر أن يكره مثل هذا على بيع ما عنده بقيمة المثل عند الضرورة في حالة حاجة الناس إليه، وفي غير الضرورة لا يجوز إكراهه على بيع ما عنده ولا التسعير عليه في ماله، وعليه يُحمل ما رواه أنس، قال: غلا السعر على عهد رسول الله ﷺ فقالوا: لو سعرت لنا يا رسول الله. فقال: «إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» رواه أبو داود والترمذي وصححه.

فما يفعله الناس من تسعير السمك على الصيادين، وهو صيد لا ينالونه إلا بكلفة ومشقة، ويخوضون في حصوله الخطر وفنون الضرر. فإن هذا التسعير خطأ؛ لكونه مما يقتضي تنفيرهم عنه، ومن الواجب مساعدتهم لتوفيره.

* * *

[107] رواه ابن ماجه في سننه من حديث عمر.

تولي الحكومة لاستيراد الأشياء الضرورية

فإن قيل: هل يسوغ للحكومة أن تتولى استيراد الأشياء التي يحتاج إليها الناس بداعي الضرورة من الأطعمة وغيرها لقصد التخفيض على الناس في سعرها؟

فنقول: إن الحكومة عليها أعباء وتكاليف وأثقال من الأشغال العامة ومن شؤون تنظيم البلاد والأعمال، مما يوجب التفرّغ لها، وإلقاء تكاليف التجارة وأعمالها وأموالها إلى أهلها من التجار الذين حذقوا فيها وتمرنوا على مزاولتها، وأقاموا أنفسهم مقام الموظفين للحكومة في حسن تدبيرها وتثميرها، فمن واجب الحكومة أن تحيل التجارة بكمالها إلى التجار العارفين بسياستها وصيانتها، وللحكومة الرقابة عليهم في المخالفة، وبذلك تستريح الحكومة من أعباء تكاليف حملها ومسؤوليتها، وعلى الحكومة حماية التجارة وتعزيزها ومساندة أهلها، بمساعدتهم بالقروض المضمونة في جلب كل ما تحتاجه البلاد، وتوجيههم بداعي التنشيط إلى ذلك، ثم يستمر عملهم واستيرادهم لتجارتهم، فالأصل هو عدم جواز تدخل الحكومة في تولي التجارة أو التسعير؛ لأن الله هو المسعّر القابض الباسط، كما ثبت بذلك الحديث، ومثله قوله: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»[108].

أما تولي الحكومة للتجارة أو استيراد المعيشة وسائر ما يحتاجه الناس، ثم تتولى بيع هذه الأشياء بواسطة الوكلاء، ومن تحت الوكلاء وكلاء، فلا شك أن هذا نوع من التأميم الذميم، إذ ليس من شأن الحكومة مزاحمة التجار في تجارتهم، فالحكومة حكومة، والتجار تجار، ولأن في هذا العمل بهذه الصفة إضرارًا بليغًا بالتجار، إذ هو عبارة عن عزلهم عن عملهم، وانقطاع كسبهم الذي عليه مدار تجارتهم ومعيشة أهلهم وعيالهم، فيبقون كسالى حيارى، فيكثر بسببه همّهم وغمّهم، والتلاوم فيما بينهم، ثم يكثر كلامهم في الحكومة، وما عملت معهم.

ولو فرضنا أن للحكومة مقصدًا حسنًا في تولي المستوردات من الأطعمة وغيرها، وأن قصدها التسهيل في أسعارها، فإن هذا قصد حسن، وفي إمكان الحكومة تنظيمه مع التجار بما يسمونه دعم السلع من الحكومة بالنقود، حسبما تعمله بعض الحكومات مع رعاياها في الأطعمة الضرورية.

أما قصد الحكومة في بيع ما تستورده من الأطعمة بأقل مما يبيع به التجار، أو بأقل مما اشتري به في بلده، فهذا أيضًا ضار بالتجار، إذ فيه نوع تحد للتجار، بأن يبيعوا سلعهم بأقل من ثمنها عليهم، أو بأقل من ثمن المثل، وهذا فيه ضرر بليغ عليهم، إذ الحكومة لا يضرها الإسقاط من الثمن، بخلاف التاجر، فإنه يضره ذلك، أو تكسد سلعته عنده.

ثم إن الحكومة بتوليها لجلب هذه الأطعمة وغيرها، ثم توزيعها في المحلات المستأجرة، ونصب وكلاء ومن تحتهم وكلاء على بيعها وقبض ثمنها، تضيع هذا المال، وتتلاعب به أيدي الضياع، لكون مال الحكومة غير محترم عند الناس، ولا يتولى حفظه وليّ مصلح، فهو يُذهب جفاءَ هذا لكم، وهذا أُهديَ إليّ.

ثم إنه بطريق المشاهدة والحس نرى البلدان التي قبض حكامها زمام تجارتها، والمستوردات فيها، وقضت بالحجر والتضييق على التجارات والتجار، قد تقلص عنها ظل الرخاء والهناء، وابتليت بالمساغب والتعب والغلاء وعدم وجود أكثر الحاجات؛ لكون البلد المحجور على أهلها في التجارة لا يقصدها الناس ببيع سلعهم ولا للشراء منها، فتبقى في معزل عن الهناء والرخاء والراحة.

ومما يحقق ذلك أن عالمًا فاضلاً من أهل البلاد حدثني بأنه سافر إلى إحدى المدن الاشتراكية العريقة في الحضارة لحضور مؤتمر ينعقد بها، قال: فنزلنا في فندق، وعند الصباح طلبنا من مدير الفندق أن يأتينا ببيض، فاعتذر لعدم وجوده، وقال: إنه يباع بالبطاقة، فلا يوجد عندنا إلا في الأسبوع ثلاثة أيام، أو قال: أربعة أيام. فمتى كان هذا العدم والتقتير في البيض الذي يتلاعب الصبيان بأقفاصه عندنا، فما بالك بغير البيض من الحاجات الراقية، إذ هي أشد عَدَمًا، لكون الحجر والتضييق على التجارة والتجار مدعاة إلى الشؤم والفشل ومحق الرزق. فدعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.

نعم إنه يجب على الحكومة مراقبة التجار في الشيء الزائد على المعتاد، أو في احتكار الطعام وقت شدة حاجة الناس إليه، والحكم يدور مع علته، ويزول بزوالها. والمقصود أنه ينبغي تنشيط التجارة لتقوى، ولن يتم ذلك حتى ينفك عنها حصار الحجر، وحتى تكون حرّة في التوريد والتصدير؛ لأنها متى أخرجت شيئًا استوردت ما هو أكثر منه من الخارج، وبذلك تقوى وتنشط، وتزداد نموًا وربحًا، كما قيل:
أرى المال مثل الماء يخبُثُ راكدًا
ويُزْكيه الاستعمال والأخذُ والردُّ

* * *

[108] أخرجه مسلم من حديث جابر.

مقارنة بين عمل ملوك الدول العربية المنتجة للبترول وعمل زعماء الاشتراكيين

إنه قبل كل شيء يجب علينا أن نكون قوّامين لله، شهداء بالقسط فيما لنا وعلينا، ولنعمل حلقة للتفاضل بين حكام العرب المسلمين، وبين زعماء الاشتراكيين، حتى يتبين لنا بها الصادق في قوله وعمله من الكاذب المهين.

إن حكام المسلمين يعتقدون حرمة أموال الغير، وحرمة التعدي عليها بأخذها بغير حق.

أما الأموال التي أخرجها الله لهم من أرضهم من ينابيع البترول، وغيرها من خزائن الأرض، ومن الذهب والفضة، فإنهم يعتقدون أن هذا المال الذي أخرجه الله لهم هو فضل من الله ساقه إليهم، واستخلفهم عليه، لينظر كيف يعملون فيه. فهم يقولون فيه مقالة المؤمن الشاكر: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٤٠ [النمل: 40]. ولا يقولون مقالة الكافر الجاحد: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ [القصص: 78]؛ أي على حذق مني بكسبه حتى كثر ووفر.

فهم يعتقدون بأنهم مستخلفون فيه، والله ناظر كيف يعملون. وإذا نظرنا إلى عمل حكام المسلمين وتصرفهم فيما استخلفوا فيه رأيناهم قد عملوا مشيد العمران، وشواهق القصور والبنيان، التي قاموا بإنشائها من أصلها، وخصصوها للضعفة من الفقراء والمساكين على سبيل العطاء، أرضها وبنائها، وتسمى بالبيوت الشعبية، وقد بنيت على طراز واحد بالمسلح، ومساحة أرض البيت تسع بيوتًا؛ نظرًا لعائلة الشخص من بعده، وهي تماثل في مبناها ومعناها بيوت الرؤساء والتجار، مزودة بالماء والكهرباء وسائر وسائل الراحة والرفاهية، ثم تدفع مفاتيح البيت إلى هذا الفقير الذي لا يحلم بمثله، وربما دفعوا له نقودًا تقوم بكفاية بناء البيت على حسب رغبته في تنظيمه.

وهذه البيوت تعد بالآلاف في كل بلد. ولا يزالون مستمرين في عمل هذا التنظيم، ثم لا يزالون يقومون بعملهم في إعطاء المتخلفين عن السابقين بدون سآمة أو ملل.

أضف إلى ذلك إجراء الرواتب الشهرية على الضعفاء من الفقراء والمساكين والمقعدين وبعض الأغنياء، حتى عم الغنى سائر القرى من البلدان العربية، ولا زلنا نحب منهم الزيادة في رواتب المقلّين من أجل شدة المؤنة وغلاء المعيشة.

ولم يقتصروا على مساعدة الفقراء فحسب، بل ساعدوا الأغنياء على المشاريع النافعة، وبقروض الملايين إلى مدة طويلة المدى؛ لينعشوهم وينشطوا تجارتهم.

كما أنهم لم يقتصروا بفضلهم على رعاياهم فحسب، بل مدّوا يد العون والمساعدة إلى كل من يمت لهم بقرابة الإسلام من البلدان الغريبة البعيدة بالمساعدات الجزيلة، مع قيامهم بتأسيس المشاريع الخيرية من المساجد وغيرها، ينفقون فيها من فضل ما آتاهم الله من فضله، فهذا عمل حكام المسلمين.

فبالله قل لي ماذا عمل زعماء الاشتراكية الماركسية حين استولوا على أموال المؤمنين والمؤمنات، وأموال جميع الناس ومصانعهم، وأموال البنوك والشركات، وأموال الأغنياء والأوقاف، وأموال اليتامى والعجزة، وما إخالهم فعلوا شيئًا، بل هم كرماء بالكلام، يمصون دماء الأغنياء والفقراء، ثم يلوّحون لهم بكلمات العطف واللطف، فيقولون: هذا زمان الهدم، وسيأتي زمان البناء. ثم يستمر الهدم ويتزايد حتى يتقاضاهم الفناء.

فليقابل العاقل بين عمل حكام المسلمين، وبين عمل زعماء الاشتراكية حتى يتبين له الفرق بين المحقين والمبطلين، وبين المحسنين والمسيئين.
أولئك أقوامي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
ولسنا نقول بعصمة حكام المسلمين عن الخطأ والآثام، ولا أنهم عمّوا الناس بالغنى العام، فإنه لن يغني الناس سوى رب الناس، ورضا جميع الناس غاية لا تدرك، فنحن نشكر لهم فعل الجميل، من صغير وكبير، ولا نلومهم على التقصير؛ لأننا من المنصفين الذين يغتفرون قليل خطأ أصحابهم في جنب كثير من صوابهم.
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ
من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا وفّوا وإن عقدوا شدوا

* * *

شكر نعمة الغنى بالمال

إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، والله يجازي كل من شكره بالمزيد ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧ [إبراهيم: 7]، فبالشكر تزيد النعم وتدوم، وبتركه تسلب وتزول، فالشكر قيد النعم، والمعاصي من أسباب حلول النقم، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.

وليس الشكر مقصورًا على قول أحدكم: الشكر لله، فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان، ينطق به البر والفاجر، والجاحد والشاكر، والله يقول: ﴿وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ١٣ [سبأ: 13].

وإنما حقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها في مرضاة وليّها ومسديها، فمن أنعم الله عليه بنعمة الغنى بالمال، فعنوان شكره هو القيام بواجب حق الله فيه، من أداء زكاته ومن الصدقة منه والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فإن هذا هو حقيقة شكره المستلزم لنموه وبركته، مع النفقة منه على الأهل والعيال والتجمل منه بأنواع الزينة المباحة والمسكن لأن هذا من النفقة بالمعروف، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؛ لأن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة.

إن الناس مستخلفون في الدنيا على أموالهم، والله ناظر كيف يعملون، فمن أخذ هذا المال من حله، وأدى منه واجب حقه، فنعم المعونة هو، وكان له حسنات ورفع درجات في الجنات.

ومن أخذه من غير حله، ومنع منه واجب حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عذابًا عليه في الدنيا، وعقابًا له في الآخرة، يقول الله: ﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٥٥ [التوبة: 55].

إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الزكاة والصدقة والصلة وسائر الأفعال الخيرية، إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة، ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩ [سبأ:39]، فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف. وما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منه في سبيل الباطل.

فكسب المال من حله ثم الجود بأداء واجب حقه يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخرى للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فجميع ما أوجد الله في الدنيا من الذهب والفضة والمعادن الجامدة والسيالة والبترول والحيوانات والثمرات وسائر الفواكه والخيرات، كل هذه الأشياء خلقها الله كرامة ونعمة للإنسان ليتنعم بها في حياته، ويتمتع بها إلى ما هو خير منها لآخرته، يقول الله تعالى: ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧ [العنكبوت: 17]، وقال: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81].
ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاسَ بالرجلِ
فأمر الله عباده بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، أي من الحلال النافع حَسن العاقبة، ولا يطغوا فيه والطغيان هو مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان، وذلك بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، فيحملهم الغنى بالمال على الوقوع في الطغيان، وصدق الله العظيم ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨ [العلق: 6-8].

فكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يراد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال؛ لأن أفعال الناس تقع غالبًا على الأمر المكروه أو الحرام، من أكلهم الربا وشربهم الخمور وتوسعهم في أعمال الشرور والفجور، فالذم ينصرف إلى هذه الأعمال لا إلى نفس المال، وإذا قال الإنسان: لعن الله الدنيا. قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه. لأن الله جعل الدنيا منحة لأقوام، ومحنة على آخرين، وسعادة لأقوام، وشقاوة على آخرين، وقد سمى الله المال خيرًا لمن أراد به الخير.

فالمال هو من الزينة التي أخرجها الله لعباده كرامة لهم ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [الأعراف: 32]، فسمى الله المال زينة لأنه يزين صاحبه في العيان، ويجمله بين الأقران، ويحفظه عن السقوط في الذل والهوان، وهو ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغني عنه في حال من الأحوال، وإن الكريم على الإخوان ذو المال. مع العلم أنه لا غبطة بكثرة المال، وإنما الغبطة في استعمال المال فيما خلق له من صالح الأعمال، كما قيل:
فتىً لا يعدُّ المال ربًّا ولا يُرى
له جفوةٌ إن نال مالا ولا كِبرُ
إنه ما بخل أحد بالزكاة الواجبة، إلا عاجلته الحسرة والندامة قبل خروجه من الدنيا، فيندم حيث لا ينفعه الندم، ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24].

وهنا قصة هي لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره؛ عاد الحسن البصري رجلاً يدعى عبد الله بن الأهتم، وكان تاجرًا لكنه شديد البخل، فرآه يضطرب ويحوقل، قال: ما هذا الاضطراب معك، أمن وجع تشتكيه؟ فقال: لا والله، ولكنني أفكر في مئة ألف دينار في زاوية هذه الدار، لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحمًا، ولم أقم بواجب حق الله فيها، وقد عرفت أنني سأعذب بها، فقال له: ثكلتك أُمك، ولمن كنت تجمعها وتمنعها؟ قال: جمعتها لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. ثم إنه قدّر أن يموت من مرض، فشهد الحسن جنازته، فلما أتى المقبرة ألقى الموعظة على حسب عادته في نشر الحكمة والموعظة الحسنة، فقال: انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، وجفوة سلطانه، انظروا إليه، خرج من الدنيا مذؤمًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه. ثم التفت إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تُخدعنَّ كما خُدع صاحبك بالأمس، إن هذا المال أتاك حلالا، فلا يكونن عليك وبالا، وأتاك عفوًا صفوًا ممن كان جموعًا منوعًا، من باطل جمعه، وعن حق منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح لك فيه يمين، ولم يعرق لك جبين، واعلم أن يوم القيامة ذو حسرات، وأكبر الناس حسرة رجل رأى ماله في ميزان غيره، سعد به وارثه، وشقي به جامعه، فيا لها حسرة لا تزال، وعثرة لا تقال. انتهى.

وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات. وكل ما هو آت آت.

إن الناس عند استفادة الغنى على أقسام: منهم البخيل المقتِّر، ومنهم السفيه المبذر، ومنهم الوسط المقتصد، الغني الشاكر، وخير الأمور أوسطها. أما البخيل المقتر: فهو التاجر الجموع المنوع، الذي غمره الله بنعمته، وفضله بالغناء على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته، وعن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، قد التاط قلبه بحب الدنيا، فجعلها أكبر همه، وغاية قصده، وصرف إليها جل عقله، وجل عمله، وجل اهتمامه، وترك لأجلها فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، ولم يزل ذاك دأبه، حتى يخرج من الدنيا مذؤمًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، وربما كان يحدث نفسه في حال فقره أن لو أغناه الله لأنفق وتصدق وأدى زكاة ماله، فلما حقق الله آماله، وكثر ماله، فرّ ونفر، وبخل واستكبر، فهذا بالحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد أوقع نفسه في الفقر من مخافة الفقر، فكان جموعًا منوعًا هلوعًا جزوعًا، فلا ينبغي أن يُغبط بكثرة ماله، مع العلم بفساد أعماله، إذ هو أخو قارون في كثرة ماله، وفساد أعماله.
خُلقوا وما خُلقوا لمَكرمُةٍ
فكأنهم خُلقوا وما خُلقوا
رُزقوا وما رُزقوا سماحَ يدٍ
فكأنهم رُزقوا وما رُزقوا
فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم.

إن الله سبحانه قص علينا في كتابه الكريم خبر من أنعم عليه بالغنى فشكر، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، فقال سبحانه في حق الغني الشاكر: ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦ [النور: 38]؛ أي من سعة الدنيا وبركتها. قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: كان القوم -يعني كان أصحاب رسول الله ﷺ- يتجرون، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله، بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فحصلوا الحسنيين، وفازوا بالسعادتين، سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، فكانت أعمالهم بارّة، وأرزاق الله عليهم دارّة ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18].

أما من أنعم الله عليه بالغنى فطغى واستكبر، فقد قال الله في حقه: ﴿۞وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧ [التوبة: 75-77]. إن هؤلاء في حالة فقرهم على جانب من الصلاح والاستقامة، ويحافظون على الصلوات في الجمع والجماعة، وكانوا في حالة فقرهم يعاهدون ربهم أن لو أغناهم الله لأدوا زكاة أموالهم، وأنفقوا وتصدقوا، فلما حقق الله آمالهم، وكثر مالهم، فروا واستكبروا، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله، فتركوا الصلوات، ومنعوا الزكاة، فأنزل الله فيهم ما تسمعون ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16].

فالمال لا يكون سعادة في الحياة ولا حسنات بعد الوفاة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال، بأن يأخذه من حله، ويؤدي منه واجب حقه، فيكون نعم المال الصالح للرجل الصالح، والتاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

أما السفيه المبذر فهو الذي أصاب من هذا المال جانبًا كبيرًا، وعددًا كثيرًا، ولكنه أساء التصرف في استعماله، حيث حمله على الطفور والطغيان، وعلى مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان، ثم لم يزل تاركًا للصلاة، عاكفًا على اللذات، وشرب المسكرات، ينفق المال جزافًا في سبيل البذخ والشهوات، والتفنن في المأكولات، والتأنق في المركوبات، ولم يزل ذلك دأبه، حتى يصبح صفر اليدين، مطوق العنق بالدين، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأُحِلَّ بغناه دار البوار.

ومن المشاهد للاعتبار أن المسرفين المبذرين يصابون بالفقر قبل أن يموتوا؛ لأن إنفاقهم المال في سبيل الإسراف والتبذير، وعدم حسن التدبير، مؤذن بزواله، ثم الوقوع في ضده- أي الفقر- الذي استعاذ منه النبي ﷺ وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[109]، فما افتقر من اقتصد.

فدين الإسلام هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من سبيل حلها، ومنع الإسراف والتبذير فيها.

يقول الله: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا [النساء: 5]؛ أي تقوم بها أبدانكم، وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم وشرفكم. والسفه: خفة في الرأي، علامته كونه لا يحسن تثمير ماله ولا توفيره. وقال سبحانه: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧ [الإسراء: 26-27]، فجعْل المبذرين من إخوان الشياطين دليلٌ على مهانتهم ومذلتهم ومذمتهم؛ لأن الشياطين هم الذين يبطرون نعمة الله ولا يشكرونها ﴿وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا ٣٨ [النساء: 38].

فلا تكونوا مثل هذا السفيه المبذر، ولا مثل ذاك البخيل المقتِّر، ولكن مثل الوسط المقتصد، الغني الشاكر، الذي آتاه الله النعمة فعادت عليه بالسعادة والرحمة، ساسها بالرأي والتدبير، وصانها عن الإسراف والتبذير، وعاد بأداء زكاتها وبالصدقة منها على الفقير والمسكين، وعلى الرحم واليتيم، فزكت نعمته وزادت، وثبتت ودامت، فكان عمله بارًّا، ورزق الله عليه دارًّا: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18]، والله أعلم.

* * *

[109] رواه الحاكم عن ابن مسعود.

دين الإسلام ليس بدين رأسمالي ولا بدين اشتراكي

إن دين الإسلام هو دين كامل وشرع شامل، دين الحق الذي نظم حياة الخلق أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. صالح لكل زمان ومكان. وقد سماه الله رحمة للعالمين؛ لأن فيه محض سعادتهم في دنياهم وآخرتهم. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأن الله سمّاه هدى وشفاء، أي لعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغَوا السلامة من غناءِ
إذا انصـرفت شعوبُ الأرض عنه
فبَشـِّر كلَّ شعب بالشقاءِ
إن الله سبحانه قص علينا في كتابه خبر من أنعم عليه بالغنى فشكر قائلا: ﴿قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ [النمل: 40]، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، قائلا: هذا مالي أُوتيته على علم عندي، أي على معرفة وحذق بجمعه وكسبه حتى كثر ووفر.

وكما قص علينا خبر من طغى وتكبر، وصال في الناس وتجبر، فاستباح سلب أموال الأغنياء بلا حق، يقول الله عز وجل: ﴿۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧ [القصص: 76-77].

إن هذا القرآن بلاغ للناس ولينذروا به، ففيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا، وهذه القصة سيقت مساق العظة والعبرة، لينذر بها من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، سيقت في بيان سيرة قارون وفساد سريرته، وبيان كثرة ماله وفساد أعماله، وكيف حقت عليه كلمة العذاب ببغيه وطغيانه. فأخبر الله سبحانه أن قارون كان من قوم موسى، وقيل: إنه ابن عمه، وقيل: إنه ابن خالته، وكان فيما زعموا صالحًا في بداية عمره، ويسمى المنور لجمال وجهه، فلما كثر ماله نافق وطغى، وارتد وبغى، وصدق الله العظيم: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨ [العلق: 6-8].

جاءه نبي الله موسى عليه السلام برسالة من ربه، يدعوه إلى دينه بالحكمة وبالموعظة الحسنة، ففر ونفر وعمى واستكبر، وكان له جنود وأتباع، وصاحب المال مطاع، فحاول قارون الفتك بنبي الله موسى، وأظهر البغي عليه ليقطع دابره، حسدًا له على نعمة رسالة ربه.

والبغي مصرعه وخيم، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع فيه.
قضـى الله أن البغي يصـرعُ أهلَهُ
وأن على الباغي تدورُ الدوائرُ
يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا [يونس:23]؛ يعني أن بغي الباغي تعود سوء عاقبته عليه في الدنيا قبل الآخرة، بمعنى أنها تعاجله العقوبة، ويسلط عليه من ينتقم منه عقوبة له، حتى لو بغى جبل على جبل لدُّكَّ الباغي.

وفي الحديث «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»[110]، والبغي أحيانًا يكون بالأقوال، كأن يستطيل عليه بسبه وذمّه ليذله بين الناس، وأحيانًا يكون بالأفعال، كأن يستطيل عليه بضربه أو قتله أو أخذ ماله أو فساد زوجته عليه، ونحو ذلك من فنون الأذى والعدوان.

ومن أنواع البغي تسلط زعماء الاشتراكية الماركسية على سحب أموال الأغنياء منهم، ليجلسوهم على حصير الفاقة والفقر، بدل ما يتنعمون هم وأعوانهم بأموالهم، يحاولون بذلك محو الغنى عن المنعم به عليهم، ثم مساواة الناس في الفقر، الذي من لوازمه الخراب والدمار، ونقص الأرزاق والثمرات، وغلاء الأسعار، فهم الجناة على العباد والبلاد. فعملهم هو حقيقة في الفساد في الأرض، والله لا يحب المفسدين.

وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»[111]. ثم قال: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ [القصص: 76] فأخبر الله سبحانه عن قارون بأنه مع كفره وعصيانه، وبغيه وطغيانه، أن الله أرخى له العنان في فنون البغي والعدوان، وأعطاه من كنوز الأموال على اختلاف الأنواع والألوان ما يعجز العصبة الأقوياء عن حمل مفاتيحه، سواء قلنا: إن المفاتيح من حديد أو من خشب أو من جلود، وحسبنا تنويه القرآن بعظمتها، مما يدل على عظمة المخزون بها، وهو استدراج من الله له في سعة الرزق وبسطته؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.

وإذا رأيت الله سبحانه يسدي نعمه على الشخص، والشخص مُصرّ على معصية ربه، فاعلم أنما هو استدراج من الله له، يقول الله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٥ [الأنعام: 44-45].

ولما رأى الناصحون الصالحون من قوم موسى ما فعله قارون من الطفور والطغيان، ومجاوزة الحد في البغي والعدوان، أخذوا في وعظه ونصحه؛ لأن بقاء الأمم -في قديم الزمان وحديثه- ببقاء الصالحين الناصحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولأن إنكار المنكرات هو مما يقلل فشوها وانتشارها، يقول الله تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡ [هود: 116].

ولهذا قالوا في نصيحتهم وإرشادهم: ﴿لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ [القصص: 76]، فالفرح المذموم هو الذي يفضي بصاحبه إلى الأشر والبطر والفجور والغرور، وغالبًا ما ينشأ عن الزهو بالدنيا وزينتها. وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ، لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ»[112] وقال: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكلّ نعيمٍ لا محالة زائلُ».
ثم قالوا: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ [القصص: 77] يعني أن من وسّع الله عليه بالغناء بالمال، فإن من واجبه أن يتزود من دنياه لآخرته، يعني مال الإنسان ما قدم، وفي الحديث «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟»[113]، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للورثة، والدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة من خرج منها فقيرًا من الحسنات ورد الآخرة فقيرًا وساءت مصيرًا.

أما من وسع الله عليه بالغنى بالمال فجعله أكبر همّه، وصرف إليه جل عقله وجل عمله وجل اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، فهذا في الحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد خسر دنياه وآخرته، أتاه شيطانه فخوّفه روعة زمانه وقلة ماله، فغل يده ومنع ما عنده، ولا يزال ذلك دأبه حتى يخرج من الدنيا مذمومًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه ولا إثمًا سلم منه، فهو عبد درهمه وديناره. وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَتَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»[114]. وسيندم حيث لا ينفعه الندم، حين يقول: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩ [الحاقة: 28-29]، وحين يقول: ﴿يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ٢٦ [الفجر: 24]. وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: فلان قَدْ مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

ثم قالوا في تمام نصحهم وإرشادهم: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا، لما وعظوه ونصحوه بما ينفعه في أمر آخرته، عادوا فنصحوه بما ينفعه في أمر دنياه، فقالوا: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا، قيل: معناه تزود من دنياك لآخرتك. وقيل: لا تنسَ نصيبك أي من الكسب والسعي وسائر أسباب الغنى؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكسب، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الروح والجسد، يمدح القائلين ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ [البقرة: 201]، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

فالإسلام يأمر بكسب الأموال وحفظها، والتوسع في فنون التجارات من وجوه حلها، وفي الحديث «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[115]. ولما سئل النبيﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[116]، وروي: «طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ»[117]، والله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال.

وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء كإبراهيم ويوسف وسليمان -عليهم السلام- وبعض الأنبياء يتكسبون بالحرف والصنائع، والنبي ﷺ كان قبل النبوة يسافر بالمال إلى الشام. وكان أصحاب رسول الله يتجرون، يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أُمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله كفريضة الصلاة وفريضة الزكاة بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله. فليس من الدين أن يتخلى الإنسان عن المال وعن السعي والكسب للعيال، ويلزم زاوية من زوايا المسجد الحرام أو مسجد المدينة، يتبتل فيه للعبادة وينقطع عن البيع والشراء والأخذ والعطاء، كما يفعله الرهبان وبعض الدراويش، فقد جاء أناس من الصحابة إلى النبي ﷺ يستأذنونه في أن يبيعوا عقارهم وما لهم ويشتروا بثمنها سلاحًا وخيلاً يجاهدون عليها في سبيل الله، فنهاهم رسول الله عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[118]، وأراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله، فردَّ رسول الله صدقته؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يُستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال، وكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال لا المال نفسه؛ لأن الطاعة هي همّة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا، لكون المسلم يشتغل في الدنيا بجوارحه وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، فيحصّل الحسنيين ويفوز بالسعادتين، فتكون أعماله بارة وأرزاق الله عليه دارة، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18].

إن قارون قد مضى وانقضى وعوقب بما تسمعون، فما كان جوابه لهؤلاء الناصحين الصالحين إلا أن قال: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ؛ أي على حذق ومعرفة بجمع المال وكسبه حتى كثر ووفر، ولم يقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ، وجحود النعمة مؤذن بزوالها، يقول الله: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧ [إبراهيم: 7]، ولهذا ذمه الله بقوله: ﴿أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨ [القصص: 78].

إن كل ما ورد في ذم قارون، وعقابه على كثرة ماله وفساد أعماله، فإنه منطبق بالدلالة والمعنى على كل من اتصف بصفاته وعمل بمثل أعماله؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد:

إياك أعني واسمعي يا جارة

وخير الناس من وُعظ بغيره، فهذا الوصف ينطبق على كل تاجر وسّع الله عليه من صنوف نعمه وفضّله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته وعن الصدقة منه والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فمن كانت هذه صفته فإنه أخ قارون في كثرة ماله وفساد أعماله.

فبالله قل لي كيف: كان عاقبة أمره؟ أُجبك بأن الله سبحانه أمر الأرض أن تخسف به وبماله، قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢ [القصص: 81-82]، خسف الله الأرض بقارون وبماله، وما الخسف ببعيد عن أمثاله من التجار الذين جحدوا نعمة الله عليهم، ومنعوا زكاة أموالهم، ونسو ا أمر آخرتهم، تسمع بعشرات الملايين أو مئات الملايين أو ألوف الملايين عند أحدهم، ولكنك لا تسمع بمن يؤدي الزكاة منهم، ثم سرت عدوى منع الزكاة من بعضهم إلى بعض، فهؤلاء إن لم يُخسف منهم بالأبدان، فإنه قد يخسف منهم بنور الإيمان، ومن المعلوم أن الخسف بالإيمان أضر من الخسف بالأبدان، فيبقى سيئ الحال جموعًا منوعًا، يبغض الناس ويبغضونه، ولهذا ختم الله هذه الآيات بقوله: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣ [القصص: 83].

نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، و الله أعلم.

و ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[110] رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن أبي بكرة، قال الحاكم: صحيح وأقروه. [111] في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار. [112] متفق عليه من حديث أنس. [113] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [114] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [115] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [116] أخرجه الإمام أحمد من حديث رافع بن خديج. [117] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [118] أخرجه مسلم من حديث جابر.