1789

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الثالث

قضايا معاصرة

(2) الملحق بكتاب الجهاد المشروع في الإسلام

[المقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، وبعد:

فإن الاختلاف بين العلماء في فروع المسائل هو أمر واقع ما له من دافع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. وكان أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون لهم بإحسان يقع دائمًا بينهم النزاع في الأحكام وأمور الحلال والحرام.

لكنهم وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه فإن الصحبة والمحبة ثابتة بينهم لا يزيلها الخلاف، ولا ينقصها غلب أحدهم بالحجة، فيردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول.

فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع في العالمين درجته وينتشر بين الناس فضله، وبعضهم يخطئ إصابة الحق بعد اجتهاده في طلبه فيحظى بأجر واحد من ربه ويغفر الله له خطأه، تحقيقًا لقوله سبحانه: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت.

وإن هذه المقدمة قد عملتها لتكون بمثابة الترجمة الواسعة للجهاد المشروع في الإسلام، فهي بمثابة التمحيص والتصحيح لهذه المسألة التي طال فيها الجدال بين العلماء مع العلماء، وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب، فكل إنسان يعبر عنها بما يعتقده في نفسه مما عسى أن يتلقاه من فقهاء مذهبه، لهذا أحببت أن أبين سبب الجهاد وموجبه، وكيف كانت سيرة النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيه، ومن يستحق القتال ومن لا يستحقه، وكون الرسول يسالم من يسالمه، وإثبات الأمر اليقين في ذلك وإزاحة الشك والإشكال والكذب عنه، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غيره وعسى أن ينقطع به النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع.

هذا وإن الانتفاع بكتاب كهذا يحتاج إلى تفقه في سائر فصوله مع التخلي عن التعصب للشيوخ والمذاهب وأقوال الفقهاء القديمة الخالية من الدليل والبرهان، ولا أقول بعصمته فقد يخفى على قائله ما عسى أن يظهر لقارئه، وفوق كل ذي علم عليم.

وإن أغرب ما سمعته في هذا الزمان مما يتعلق بالجهاد المشروع في الإسلام هو قول الشيخ صالح اللحيدان في كتابه الجهاد في الإسلام بين الدفاع والطلب. قال: إن الرسول وأصحابه لم يدافعوا عن أنفسهم في وقعة بدر، بل كانوا مبتدئين بالقتال طالبين للعدو، وقال: إن حروب الرسول وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف وكذلك الغزوات الأخرى حيث كان الرسول هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال. انتهى.

وأقول: إن هذه الغلطة الكبيرة إنما نشأت عن نقص علم وقصور فهم أراد بها تعزيز رأيه فيما يعتقده من أن الرسول وأصحابه يقاتلون جميع الناس حتى يسلموا، وليس السبب عدوان من يقاتلهم؛ لأنه يعتمد في نقله على ما يعتقده في نفسه بدون رجوع منه إلى صحيح المنقول وبدون فقه منه في سبب غزوات الرسول، ويظهر منه أنه بطيء العهد بتعاهد القرآن الذي فيه تفصيل هذه القضية على الجلية بأحسن تبيان، فإن به تحقيق بداية المشركين بالعدوان، إذ إن هذا الأمر اليقينُ الذي يرتفع عن مجال الشك والإشكال لثبوته بمقتضى الدليل والبرهان والسنة والقرآن، وكلما بعد الإنسان عن تدبر القرآن ضعفت حجته، فمن قال: إن الرسول هو البادئ بالقتال بدون سبب يوجبه من المشركين. فقد أعظم الفرية عليه، وقال بما لم يحط بعلمه، ويخشى من تعدي غلطه إلى بعض من يسمعه من جهلة العوام وضعفة العقول والأفهام؛ فيظنونه حقًّا وهو في الحقيقة باطل.

وسنورد من الدلائل النقلية والبراهين الجلية ما يزيل اللبس عن هذه القضية حتى تكون جلية للعيان وحتى لا يختلف فيها اثنان، وليس من شأن الباحث أن يُفهم من لا يريد أن يفهم.

فمن دلائل القرآن قوله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39-40]، فأثبت سبحانه في هذه الآية بداية المشركين بالاعتداء بالقتال على الذين أسلموا من أصحاب النبي ﷺ وأنهم يسومونهم سوء العذاب ليردوهم عن دينهم كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ [البقرة: 217] وهذا القتال يشمل الضرب والتجريح.

فقد كان الصحابة يأتون إلى رسول الله منهم المضروب ومنهم المجروح، وقد توفيت سمية أم عمار تحت التعذيب لصدها عن دينها، كما توفي زوجها ياسر. وكان رسول الله يمر عليهما وهما ُيعذبان و يقول: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»[42]، وكانوا يحملون الحجارة ويضعونها على بطن بلال وظهره ويقولون: قل واللات والعزى. ويقول: أحد أحد.

ولهذا قال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْ، فأثبت ظلم المشركين في تعذيبهم للمؤمنين بفنون التعذيب والأذى ولا ذنب لهم إلا أنهم يقولون: ربنا الله ونبينا محمد. ﴿وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ فقد أخرجوا الصحابة حتى أخرجوهم من بلدهم، والإخراج من البلد نظير القتل في كتاب الله، فقد خرج فوق الثمانين من الصحابة ما بين رجال ونساء إلى الحبشة يمشون على أرجلهم حتى أتوا ساحل البحر، هذا كله فرارًا بدينهم من الفتنة وبأبدانهم من التعذيب وبعضهم خرج مهاجرًا إلى المدينة.

والنبي ﷺ خرج مهاجرًا خائفًا متخفيًا يقول: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»[43] وكانوا يصادرون أموال كل من هاجر إذا لم تكن له قبيلة تحمي ماله كما صادروا أموال صهيب الرومي وأنزل الله فيه: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ [البقرة: 207]، ولهذا قال الصحابة: ربح البيع صهيب.

ومنها قوله سبحانه: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ [الحشر: 8].

فأثبت سبحانه أن المشركين أخرجوا المستضعفين من بلادهم وأموالهم في سبيل هجرتهم ونصرتهم لرسول الله، يبتغون بذلك فضلاً من الله ورضوانًا، ولا ذنب لهم إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله.

ومنها قوله سبحانه: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ [الممتحنة: 2]، فبسط اليد بالسوء هو بالضرب والتجريح والشجاج، وبسط الألسنة بالسوء أي بالسب واللعن والسخرية وسائر الأذية ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ [آل‌عمران: 118].

ومنها أن الله سبحانه أكد ابتداء المشركين بالاعتداء على النبي ﷺ وعلى أصحابه في بداية الأمر ونهايته، فقال سبحانه: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡ [التوبة: 13-15]، فأثبت سبحانه بداية المشركين بالاعتداء على الرسول وأصحابه في بداية الأمر ونهايته، وأنهم نكثوا أيمانهم وعهودهم التي أبرموها مع الرسول في صلح الحديبية، وأنهم هموا بإخراج الرسول كما حصروه مع عمه أبي طالب في الشعب يطالبون أبا طالب بتسليمه إليهم ليقتلوه. وهذا معنى قول أبي طالب في قصيدته:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسّدَ في التراب دفينا
وإنما اشتد الأذى بالرسول بعد موت أبي طالب، بل وهموا بقتله حيث اتفقوا على أن يدفعوا لكل رجل سيفًا فيضربونه جميعًا بسيوفهم فيضيع دمه بينهم، فأطلع الله رسوله على ذلك وأذن له بالهجرة وأنزل الله: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠ [الأنفال: 30].

ومنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ [الممتحنة: 1]؛ أي لأجل إيمانكم بربكم.

فأثبت سبحانه شدة عداوة المشركين لله ورسوله وعباده المؤمنين، وأنه يحرم على المؤمنين موالاتهم بإظهار المودة لهم وقد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هداكم الله به. ثم قال: يخرجون الرسول من بلده لأنه خرج من مكة مكرهًا وخائفًا متخفيًا كما خرج المؤمنون فرارًا بدينهم من الفتنة وبأبدانهم من التعذيب لأجل إيمانهم بربهم. مثله قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩ [الممتحنة: 9]، فأثبت سبحانه قتال المشركين للمؤمنين على دينهم لأجل إيمانهم بربهم ليردوهم بطريق الإكراه إلى ملة الكفر التي أنقذهم الله منها.

فهذه كلها آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تبديل ولا تخصيص، ولا يجوز لأحد تغييرها ولا النظر في رأي يخالفها.

وأما الاستدلال بفقه السيرة فيثبت ابتداء الاعتداء من المشركين على رسول الله وأصحابه، وأنه إذا قاتل فإنما يقاتل لصد العدوان عن الدين وكف الأذى والاعتداء عن المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.

أما مسألة الجهاد بالدفاع عن الدين وعن أذى المعتدين فقد اعتنى العلماء المتأخرون بتصحيحها وتمحيصها أشد من اعتناء الفقهاء المتقدمين حتى ارتفعت عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التجلي والظهور، فضعف فيها الخلاف وكاد ينعقد عليها الإجماع. وإن غزوات الرسول كلها دفاع عن الدين وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.

ونشير الآن إلى غزواته وأسبابها التي أشار الكاتب إلى أنها وقعت من الرسول بطريق الابتداء بدون سبق عدوان من المشركين، فمنها حديث العير والنفير حيث خرج رسول الله في بعض أصحابه يريدون عير قريش، ومن المعلوم أن قريشًا هم الأعداء الألداء والبادئون بالاعتداء على الرسول وأصحابه، وقد استباحوا تعذيب الصحابة وأخذ أموالهم، فهم أئمة الكفر الحلال دمهم وأموالهم، أفيلام رسول الله وأصحابه عندما حاولوا أخذ العير ليتقووا بها على حرب عدوهم كما كان عدوهم يفعل ذلك بهم فيأخذون أموال المهاجرين؟ إذ هذا من باب المقاضاة بالمثل. وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم، يقول الله: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ [النحل: 126]، وقال: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا [الشورى: 40]، وقال: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١ [الشورى: 41].

أما وقعة بدر فقد حدثت على غير ميعاد سبق، وكان الرسول قد كره وقوعها وقد نزل بأصحابه بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة ونزل المشركون بالعدوة القصوى مما يلي مكة، وقد أرسل أبو سفيان إليهم يطلب منهم أن يرجعوا قائلاً: إن عيركم وأموالكم قد سلمت فارجعوا إلى بلادكم، لكنهم كما أخبر الله عنهم خرجوا بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، ومعلوم قرب بدر من المدينة، فهم قصدوا حرب الرسول وأصحابه بطريق التحرش بهم، وكان سبب بداية القتال أن أبا البختري قال: والله لأردن حوض مياه محمد ولأكسرن حوضهم. وفعلاً اندفع يريد أن يهدم الحوض فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله ثم انعقد سبب القتال بين الفريقين.

ونصر الله نبيه وأصحابه وقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ووضعوا عليهم الفداء، وبعدها سرحوهم بكفرهم إلى أهلهم وبلدهم امتثالاً لأمر الله سبحانه حيث قال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ [محمد: 4]، فذكر سبحانه المن والفداء بعد الأسر ولم يذكر القتل إلا في حالة التقاء الصفين.

فلو كان الكفار يقتلون حتى يسلموا لطالبهم النبي إما بالإسلام أو بالسيف، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، ولكنه قال: «أَسَتَأْنِي بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، أَوْ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[44].

إن قتال الرسول لقريش في بدر هو صريح لرد عدوانهم إذ إنهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين، والمحارب يُقاتل في أي حال وجد كما قال سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ [البقرة:190-191]؛ أي: حيث وجدتموهم ﴿وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ، وقال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ [البقرة:217].

فقتال الرسول لهم في بدر هو قتال لدفع شرهم وعدوانهم فهو جهاد بالدفاع، ولم يكن قتاله لهم لإكراههم على الدين حسبما يظنه الكاتب، ولم يكن وقع ابتداء من الرسول بدون عدوان يوجبه منهم، بل هم البادئون بالاعتداء والمعلنون بالحرب لله ورسوله والمؤمنين.

ثم ليعلم أن الكفار منهم المحاربون ومنهم المسالمون، وقد نزل تفسيرهم في تفصيل ما يجب أن يعاملوا به، فقال في شأن المسالمين: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ [الممتحنة: 8]، ثم قال في شأن المحاربين: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩ [الممتحنة: 9]، وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص وإنما نزلت عام الفتح وهي ترد على من جعل الكفار كحالة واحدة وأنه يجب أن يقاتلوا بطريق الهجوم -أي الابتداء- حتى يسلموا، لا فرق في ذلك بين المحاربين والمسالمين، فهذا لا صحة له قطعًا.

ومثله قتال الكفار المشركين للرسول وأصحابه يوم أحد حيث غزوا الرسول وأصحابه في بلادهم فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وهل قتال الرسول لهم إلا دفعًا لشرهم. ثم إنهم تحزبوا على حرب رسول الله وأصحابه يوم الأحزاب ومنهم عرب الحجاز ونجد ونقضت اليهود العهد الذي بينهم وبين رسول الله ودخلوا مع قريش في حرب الرسول، وتبعهم يهود خيبر لظنهم أنها الفاصلة المستأصلة للرسول وأصحابه، حتى ضرب النبي على المدينة خندقًا يمنع تجاوز الخيل وبلغ الخوف مع الرسول وأصحابه إلى نهاية الشدة وأنزل الله فيه صدر سورة الأحزاب وفيها: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩ إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ١٠ هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١ [الأحزاب: 9-11] إلى قوله: ﴿وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٢٥ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ [الأحزاب: 25-26].

أفيقال: إن الرسول هو البادئ بالقتال لأجل كفرهم وهم لم يبقوا للصلح موضعًا مع الرسول وأصحابه ولم يألوا جهدًا في فتنتهم للمؤمنين وتعذيبهم ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ [الممتحنة: 2]؟! ثم حارب الرسول يهود المدينة بعد نقضهم لعهده ومحاربتهم له مع قريش، فقتل بعضهم وأجلى بعضهم ومَنَّ على بعضهم. ثم قاتل يهود خيبر فلما نصره الله عليهم وفتح خيبر رفع القتل عنهم وأجرى الاتفاق بينه وبينهم على زراعة النخيل بشطر ما يخرج منها، وهذه سنته في فتوح البلدان، وهي أنه متى نصره الله عليهم وفتح البلد فإنه يرفع القتل والقتال عن أهلها ولا يسأل أحدًا عن عقيدته، فكل ما يسمعه الناس وتبينه كتب السير والتاريخ من القتال في فتح البلدان كفارس والروم فإنما يقع هذا القتال خارج البلد حين يخرج أهلها بسلاحهم وقوتهم يريدون صد المسلمين ودعاتهم عن نشر دين الله في بلادهم، وهو الدين الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم، والذي كلف المؤمنون بإبلاغه الناس مهما كلف الأمر، فهم يخوضون كل شدة ويقتحمون كل مشقة في سبيل نشره وإبلاغه ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ؛ أي عن قبول هدايته ﴿فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48].

ولا ينبغي أن ننسى ما فعله رسول الله في فتح مكة وذلك أن رسول الله صالح قريشًا يوم الحديبية على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وأن من دخل في عقد الرسول وعهده فإنه منه ومن دخل في عقد قريش فهو منهم، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله فنقضت قريش هذا العهد بقتلهم لخزاعة على حين غفلة منهم، فغزاهم رسول الله عام الفتح لاعتبار أنهم محاربون له ولمن دخل في عهده. فدخل مكة والسلاح بأيدي أهلها وحذر أصحابه من أن يتعرضوا لقتل أوباش قريش عندما يلقونهم. ولما سمع سعد بن عبادة يرتجز بتمني القتال وكان معه راية الأنصار ويقول: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل فيه الكعبة. فأخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس.

ولما دخل مكة وسّع نطاق الأمان لأهلها ولم يرعهم بقتل ولا قتال إلا أفرادًا عرف أن بقاءهم يفسد بقيتهم، منهم عقبة بن أبي معيط الذي هو أشر قريش والذي وضع سلى الجزور على رأس رسول الله وهو ساجد. ومنهم النضر بن الحارث الذي يهجو رسول الله بشعره، وقد أسبل المنَّ والعفو على جميعهم وقال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[45] ولم يسأل واحدًا منهم عن دينه حتى دخلوا دين الإسلام باختيارهم وصدق عليهم قوله سبحانه: ﴿۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧ [الممتحنة: 7].

وإن أردت تفصيل ذلك بتفسيره فراجع قضية الفتح الأكبر -الذي أعز الله به الإسلام ونصر، وأذل به الباطل وكسر- من كتابنا هذا تجد فيها ما يشفي ويكفي.

وأما قضية هوازن حيث صرح الكاتب عنها قائلاً: إن حروب الرسول ﷺ وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف حيث كان الرسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال.

وأقول: إن الشيخ رحمه الله يكتب عن القضايا كهذه وغيرها على حسب ما يضمره في نفسه بدون رجوع منه إلى أصول القضايا والغزوات من مظانها في كتب السير والتاريخ، لهذا السبب كثر خلطه وخبطه بدون بصيرة من أمره، فيجعل الباطل حقًّا والحق باطلاً، وقد قيل لي: إن كتابه لا يستوجب الرد لأنه معلوم البطلان عند كل واحد. فقلت للمعارض: إن كل من أوصلته خبرًا لن تستطيع أن توصله عذرًا، ولكن وجوب البيان وتحريم الكتمان يوجب علينا رد هذا البطلان؛ خشية أن يحتج به بعض من يرى صحته أو بعض من يعتقد اعتقاده؛ لأنه متى قل العلم وساء الفهم ساءت النتيجة، وقد قيل: خلاصة القول تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع آراء الشك.
سبكناه ونحسبه لجينا
فأبدى الكير عن خبث الحديد
وقد عقدنا لوقعة هوازن فصلاً مستقلاً وذكرنا فيه سبب هذه الغزوة التي أنزل الله في شأنها: ﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ [التوبة: 25-26].

وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين وسمعت هوازن بذلك فشرقوا بهذا الفتح حنقًا وبغضًا للرسول وأصحابه وولاء ومحبة منهم لقريش، فعزموا على أن ينتقموا من الرسول وأصحابه، فجمعهم ملكهم مالك بن عوف النضري فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها على بكرة أبيها، واجتمع إليه نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وكثير من شتى القبائل ومن عرب الحجاز ونجد ومعه يومئذ دريد بن الصمة وهو كبير يُحْمل في هودج ليأخذ من رأيه حيث إنه مجرب في الحروب، فزحفوا بجمعهم من عوالي نجد بأهلهم وعيالهم وأموالهم لقصد الحفيظة حتى لا يفروا عن القتال، ونزلوا بعسفان بين مكة والطائف ليفاجأ الرسول وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب لظنه أن أهل مكة المغلوبين سيكونون عونًا له على القتال معه.

ولما سمع رسول الله بخبرهم خرج إليهم بمن معه من أصحابه وبعض أهل مكة ومنهم مسلمون وبعضهم باقون على شركهم فوصل إليهم رسول الله في عماية الصبح بعد فتح مكة بعشرة أيام، وكانت هوازن قد كمنوا في الشعاب والمضايق وقد تهيؤوا لينفروا جميعًا، ولم يرع أصحاب رسول الله إلا والكتائب قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فشمر الصحابة راجعين لا يلوي منهم أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين وهو يقول «إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ»[46] وقد بقي معه نفر من المهاجرين وأهل بيته ومنهم أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.

ولم يتراجع القوم إلا وبعض الأسرى عند رسول الله ولم يقتل أحدًا منهم بعد أسرهم، وتفرقت هوازن ومن معهم وفرت ثقيف إلى بلدهم، أفيصدق أن يقال والحالة هذه: إن الرسول هو البادئ بقتال هوازن بدون سبب يوجبه منهم؟ وهل بقي من هوازن إلا هجومهم على الرسول في مكة؟ ولا يدرى سوء عاقبة هذا الهجوم، فإنه ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا وساءت حالهم، وقد قيل: كل محصور مأخوذ.

وأما حصاره للطائف فإن ثقيفًا على بكرة أبيهم كانوا مع هوازن في الحرب على رسول الله، فلما نصر الله رسوله والمؤمنين فروا إلى بلدهم وتحصنوا فيها فهم مستحقون للقتل والقتال لثلاثة أمور: أحدها مشاركتهم لهوازن في حرب رسول الله، فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين والله يقول: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ [النحل: 126]، وقال: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١ [الشورى: 41]، والأمر الثاني أن الرسول جاءهم قبل الهجرة وطلب منهم أن يؤووه وينصروه حتى يبلغ رسالة ربه وقد قيل: إنه مكث عندهم عشرة أيام، فلما أحسوا أن بعض ثقيف مال إليه وصدَّق دعوته أرسلوا عليه سفهاءهم فكانوا يرمونه بالحجارة ورؤساؤهم ينظرون إليهم ويضحكون من فعلهم وهم يقولون: مجنون كذاب. وزيد بن حارثة يقيه ببدنه عن وقوع الحجارة فيه حتى رجع كئيبًا حزينًا من فعلهم. الأمر الثالث أنه بعدما فرغ رسول الله من أمر هوازن ذهب إلى ثقيف رجاء أن يثوب إليهم عقلهم فيفتحوا له الباب ويسهلوا له الجناب حتى يبلغ رسالة ربه في بلدهم كما فعل أهل مكة. ومن سيرته أنه لا يعاقب أحدًا بجريمة سلفت منه مهما عظمت متى خلوا بينه وبين نشر دعوته في بلدهم، لكنهم عصوا وتمردوا وناصبوه العداوة فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدبابة، فكانوا يحمون النبال بالحديد ويرمون بها من في الدبابة، ويرمون الصحابة من وراء الجدران وفي السطوح، حتى قتلوا سبعة من أصحاب النبي، فانصرف عنهم وتركهم حتى هداهم الله للإسلام وأتوا إليه طائعين.

فهذا ملخص حصاره للطائف وهي مبسوطة بكاملها في كتابنا هذا.

وأما غزوه لتبوك حيث أشار إليه الكاتب فإن سببه أنه بلغ رسول الله بأنه اجتمع جنود من بلخ وجزام وغسّان وبعض متنصرة العرب وقد اجتمعوا في تبوك يريدون غزو رسول الله وأصحابه وقد قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وذلك عام تسع من الهجرة، فندب رسول الله أصحابه عام العسرة أي زمن جهد ومجاعة وانقطاع ظهر، فخرج في ثلاثين ألفًا من أصحابه، فكانوا يمرون على قبائل العرب من الحضر والبدو بوادي القرى والذين لم يدخلوا في الإسلام بعدُ، حتى وصلوا إلى بلد تبوك وبها مَن بها مِن الناس فلم يرع أحدًا منهم بقتل ولا قتال؛ لأنه إنما قصد الذين ظاهروه بالعداوة وبرزوا لحربه وأصحابه، لكنه في سفره لم يلق كيدًا ووجدهم قد تفرقوا، فرجع إلى بلده مؤيدًا منصورًا.

فهذه المقدمة نشير فيها إلى بعض الفقرات من المقتطفات التي ذكرها الكاتب وكلها مفصلة بأسبابها في ضمن الكتاب. والله الموفق للصواب

الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

[42] عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الأوسط من حديث جابر. [43] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. [44] زاد المعاد 1/94. [45] سيرة ابن هشام 2/412. [46] أخرجه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله.

الرد على كتاب الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

أما بعد:

فقد أهدى إلي أحد المشايخ الكرام كتابًا عنوانه الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع لمؤلفه الشيخ صالح اللحيدان، فعملت عملي في دراسته لأعجم عود فراسته وأعرف حقيقة سياسته، فألفيته قد ألفه كرد منه على كتابنا الجهاد المشروع في الإسلام.

وقد بنى قواعده على أمرين: أحدهما زعمه بأن الجهاد المشروع في الإسلام هو قتال الكفار حتى يسلموا بطريق الطلب، لا فرق في ذلك بين المحاربين والمسالمين، وزعم أن رسول الله وأصحابه هم المبتدئون بالقتال في غزواتهم، وأنهم المطالبون للعدو؛ لأن خروجهم لعير قريش لا يعني غير هذا، ولم تكن غزواته لهم لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه؛ فإنه لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال، وأخذ يندفع في تحقيق رأيه وتفنيد كلام من يخالفه، وهذه هي طريقة بعض العلماء المتقدمين وأكثر العامة، حتى حسبها الكاتب حقًّا لا يجوز تبديله ولا النظر في أمر يخالفه.

الأمر الثاني: قول من يقول: إن سبب الجهاد هو الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الرسول ﷺ إذا قاتل فإنما يقاتل لرد العدوان على الدين أو على عباده المؤمنين، وقد سخط الكاتب هذا القول أشد السخط، وتحامل على القائلين به بالإنحاء بالملام، وتوجيه المذام بدون كرامة ولا احترام، فوسمهم بالزراية وعدم الدراية والرواية، بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفاء وتنافي الإنصاف، قد جعل فيها الجد عبثًا، والتبر خبثًا، والصحيح ضعيفًا.
وكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب من لا له ذنبُ
إن الاختلاف بين الناس واقع ما له من دافع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وإن العصمة عن الخطأ ليست لكتاب غير كتاب الله تعالى، ﴿وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢ [النساء: 82].

إن هذا الاختلاف بين العلماء إنما ينشأ غالبًا من تفاوت الأفهام في العلوم والأحكام، وعدم التوسع في النصوص والقصود وسائر العلوم والأحكام؛ لأن الناس بدليل الاختبار يتفاوتون في العلوم والأفهام، وفي استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فيتحدث كل إنسان بما فهمه حسبما وصل إليه علمه، وعادم العلم لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، فمن واجب العالم أن يبدي غوامض البحث ويكشف للناس مشاكله، ويبين صحيحه وضعيفه، مدعمًا بدليله حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم.

وقد استدركنا على هذا الكتاب بعض الأخطاء التي سنذكرها في مواضعها ولن يستحق أن يرد على مثله لوضوح اعتلاله واختلاله وعدم عدالة أقواله، وليس تحامله على العلماء المخالفين لرأيه بأكبر من تحامله على الرسول ﷺ وأصحابه حيث نسبهم في غزواتهم إلى أنهم البادئون بالاعتداء بدون سبب يوجبه من الأعداء سوى إكراههم على الدين.

ويبعد جدًّا حمل هذا الخطأ على التعمد مع علمه به، ولكنه نشأ عن مبلغ فهمه وغاية ما وصل إلى علمه، وإننا لنرجو له أجرًا على خطئه وأجرين على إصابته.

* * *

العلم سلاح الدنيا والدين

إن من واجب العالم المخلص في علمه وعمله أن يحتسب القيام بما وصل إليه علمه من قول الحق والدعوة إليه بالحكمة الموعظة الحسنة، فيبين للناس معرفة الحق بدليله مشروحًا بتوضيحه، وبيان تعليله وتصحيحه؛ لكون العلم أمانة وكتمانه خيانة.

ومن المعلوم أن العلوم تزداد وضوحًا بتوارد أفكار الباحثين وتعاقب تذاكر الفاحصين؛ لأن العلم شجون يستدعي بعضه بعضًا، وملاقاة التجاوب من الرجال تلقيح لألبابها، وعلى قدر رغبة الإنسان في العلم وطموح نظره في التوسع فيه بطريق البحث والتفتيش والفحص عن الحق في مظانه، فإنه بذلك تقوى حجته وتتوق صلته بالعلم، ويقف على حقيقة الوفاق والخلاف فيه.

إن العلم الصحيح والدين الخالص الصريح هما شقيقان يتفقان ولا يفترقان، وقد مدح الله سبحانه الذي جاء بالصدق وصدق به.

إنه متى تصدى عالم أو كاتب لتأليف أي رسالة أو أي مقالة فبالغ في تنقيحها بالتدقيق، وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، وهي مما عسى أن يقع فيها الخلاف بين العلماء من سلف الأمة، فحاول جاحد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها حتى يكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها، فيلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان، ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام، أفيلام صاحبها متى كشف عنها ظلم الاتهام وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام بطريق الحجة والبرهان؟ إذ لابد للمصدور أن ينفث، والحجة تقرع بالحجة ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه ﴿لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ [الأنفال: 42].

فمتى لم ترسخ في قلب الإنسان معرفة الحق بدليله ويميز بين صحيحه وعليله، مما يتعلق بعقائد الدين وما يدعمها من الحجج والبراهين، فإنه سيصاب بالانزلاق في مهاوي الجهل، ويصاب بالارتباك والخجل وعقدة الوجوم والوجل عند أول ملاقاة مع أهل الجدل، فيبقى صريعًا لجهلهم قد استحوذ عليه باطلهم؛ لعدم وجود ما يصول به ويجول من علم اليقين والبصيرة في الدين. إذ العلم الصحيح سلاح الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، به تستنير البصيرة وتقوى الحجة.

وإن مما نستدرك على بعض علمائنا وعلى بعض الشباب المثقفين والمتعلمين كون أحدهم متى ظفر برسالة هامة تكشف له الإشكالات، وتزيل عن قلبه الشكوك والشبهات، مما يتعلق بهذه المسألة أو غيرها، وهي رسالة مختصرة صغيرة الحجم وغزيرة العلم بحيث يستطيع أحدهم دراستها في مجلس واحد أو في ساعة واحدة بدون مشقة ولا تكلف، فيكون حظه منها مجرد النظر إلى عنوانها، وعسى أن ينشط لدراسة الوجه الأول والثاني منها، ثم يصفق بأجنحتها بعضها على بعض ويودعها في سلة المهملات، وذلك آخر عهده بها، فيعود جهد صاحبها ضياعًا وعلمه عيالاً أشبه بمن يزف امرأة حسناء إلى عنين، أو كالمطر الوابل في الأرض السبخة.
فيا لائمي دعني أُغالي بقيمتي
فقيمة كل الناس ما يحسنونه

* * *

تحقيق معنى الجهاد بالدفاع

إن الجهاد بالدفاع ليس ببدع من القول وزور، وليس بغريب مهجور، وإنما هو أمر مشهور بالكتاب والسنة واللغة العربية.

والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١ [البقرة: 251]، وقوله: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ [الحج: 38]، وقوله: ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96].

والجهاد بالدفاع هو ضد الهجوم، وحقيقته صد العدوان لكون الجهاد بالهجوم هو البدء بالعدوان بدون أن يكون له سبب من المهجوم عليهم، فإن سبق منهم عدوان فإنه المقاضاة بالمثل، وفيه أنزل الله: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ [النحل: 126]، وقوله: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ [الشورى: 40].

فهذا وإن لم يكن له سبق ذكر بهذا اللفظ من العلماء المتقدمين لكنه معروف عندهم كمقابلة من الهجوم الذي هو المبادأة وقد قالوا: الشر بالشر والبادئ أظلم.

وإن العلماء المتأخرين الذين بحثوا عن حقيقة غزوات النبي ﷺ فأثاروا مسألة جهاده وسببها وحققوا بأن غزواته كلها دفاع عن الدين وكف أذى المعتدين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين، حتى كثر في موضوعها الجدل بين العلماء مع العلماء وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب.

وقد اعتبر النصارى غزوات الرسول هجومًا على المخالفين له في الدين بدون أن يكون لها سبب من العدوان، وقد جعلوها لهم عقيدة في التنفير عن دين الإسلام في ضمن ما يفعلونه من التبشير بدينهم، فكانوا يلقنون الطلاب وكافة العامة بأن الإسلام دين إكراه وحرب، يكرهون الناس على الخروج عن عقائدهم، يوقفون الشخص ويرفعون السيف فوق رأسه ويقولون: إما أن تسلم وإلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه، وهذا هو نفس اعتقاد الشيخ صالح في قوله ونقله، وهو كذب مفترى على الإسلام وأهله، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله تعالى يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99]، وهي آيات محكمات لا نسخ فيها في قول الجمهور لكون الإسلام هداية اختيارية.

وقد قال بعض العلماء من المتأخرين: إن دعوى القتال للإكراه على الدين إنما دخلت على المسلمين عن طريق النصارى حيث كانوا يجادلون بها دائمًا ويشنعون بها على الإسلام والمسلمين لقصد التنفير عن الدين واحتقاب العداوة لأهله، ويجعلونها في مقدمة تبشيرهم إلى دينهم وينشرونها في كتبهم وفي مدارسهم، فهي أكبر مطاعن النصارى على المسلمين وعلى الدين، فسرى هذا الاعتقاد إلى بعض العلماء وأكثر العامة لظنهم أنه صحيح واقع وهو باطل بلا شك، ومن طبيعة البشر كراهية اسم الإكراه والإجبار والنفرة منه مهما كانت عاقبته، وإننا متى قلنا بهذا القول قد اشتركنا مع القسيسين والمبشرين في التنفير عن الدين، ومتى تخاطب النصارى مع رجال من أفراد المسلمين غير العارفين بحقيقة الأمر ثم قالوا لهم: إن الرسول يقاتل الناس حتى يسلموا، فإنهم بذلك يزدادون فتنة بالمؤمنين، ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا [الممتحنة: 5].

وبما أن الحاجات هي أم الاختراعات ولكل حادث حديث، لهذا تصدى كثير من العلماء المتأخرين إلى بيان هذه المسألة، وأن حقيقة الجهاد الشرعي هي الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين عن المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته، أو يلقي الفتنة بين أهله بتعذيب من أسلم أو تغريبه كما كانت قريش تفعل ذلك، وإثبات الأمر اليقين في ذلك، وإزالة الشك والإشكال والكذب فيه، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غير هذا الكتاب، وقد رأينا غلط الشيخ في فهم الجهاد بالدفاع، حيث عبر عنه أسوأ تعبير فجعله كنطاح البهائم قائلاً: إننا إذا قلنا بالدفاع فما الفارق بين الإنسان وبين بهائم الحيوان الذي همه أن يدافع عن نفسه لا غير. انتهى. ففسره بهذا لعدم فقهه بشمول حكمه.

وإن هذه المسألة قد يشوبها شيء من الخفاء والغموض في بادئ الرأي لكنها بتصحيح الباحثين وتمحيص الكاتبين من أهل العلم ترتفع عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التجلي والظهور، فتلتحق بعلم اليقين والبصيرة في الدين.

وإن الخلاف في هذه المسألة يدور بين أمرين: أحدهما أن سبب الجهاد المشروع هو الدفاع عن الدين وعن حوزة المسلمين وحدودهم وحقوقهم وجماعتهم وأفرادهم حتى ولو في غير بلادهم؛ كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلادهم لاعتبار أن المسلمين متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، وكذلك الدفاع عن الدين يمنع الطعن فيه أو فتنة من أسلم ليرتد عنه أو منع نشره في البلد بين الناس أو في سبيل المستضعفين والمضطهدين في بلادهم من المسلمين، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥ [النساء: 75]. فالجهاد في سبيل ذلك هو جهاد بالدفاع؛ أي قتال من يقاتلنا أو يمنع نشر ديننا أو يلقي الفتنة بيننا، وهذا هو حقيقة جهاد رسول الله وخلفائه وأصحابه لقوله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢ [البقرة: 190-192]؛ أي إن انتهوا عن قتالكم فانتهوا عن قتالهم، وقال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ [البقرة: 193]؛ أي إن انتهوا عن فتنتكم فانتهوا عن قتالهم، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا، بل قال: ﴿حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ، فكل هذه الآيات نزلت في المحاربين الذين يقاتلون المسلمين ويفتننونهم في دينهم.

الأمر الثاني قول من يقول: إن الجهاد سببه الكفر فيجب قتال الكفار حتى يسلموا وهذا هو اعتقاد الكاتب، وقد بنى كتابه على تصحيحه واعتقاد العمل بموجبه، كما أنه اعتقاد بعض الفقهاء المتقدمين وأكثر العامة.

وقد استغل هذا القول القسيسون والمبشرون من النصارى وجعلوه عمدة لهم في دعوتهم، واستغلوه في التنفير من الدين واحتقاب العداوة للمسلمين، فكل من قال بهذا القول أو دعا إليه فقد شارك القسيسين في التنفير من الدين.

فلو ظفر النصارى بكتاب الجهاد بين الدفاع والطلب للشيخ صالح لأحلوه محل التقديس والتكريم، ونصبوه في كنائسهم ومدارسهم وعمموا تعليمه لجميع طلابهم وعامتهم؛ لكونه غاية بغيتهم، بحيث إنه يصدق مفترياتهم في إكراه الناس على الدين.

ثم قال الكاتب: (إنني أعجب من كُتاب الفقه الإسلامي الذين قالوا بالدفاع في الجهاد جريًا وراء التقليد بالأعداء الممقوتين، وهم - والله أعلم- يدركون خطأ هذا الرأي البعيد عن الصواب وأدلة الأحكام).

وأقول: سبحان الله ما أغفل هذا الكاتب عن تحقيق معنى الجهاد بالدفاع! فلأجل جهله بحكمته وقع في نفس ما عاب به من الجري وراء الكفار الممقوتين، فكان كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيٓ‍َٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓ‍ٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ١١٢ [النساء: 112]. وإن النصارى الآن ينفرون ويكرهون من يقول: إن غزوات الرسول كلها دفاع لكف العدوان عنه وعن الدين الذي جاء به لعلمهم بأنه معذور في دفعه ودفاعه، لكنهم يفرحون بمن يقول: إن غزوات الرسول كلها هجوم يقع منه بطريق الابتداء بدون سبق اعتداء عليه من أحد، فهذا هو غاية ما يبغون، لكن الكاتب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

وإن أكبر شيء حمل الشيخ على التهالك وعدم التمالك فيمن قال بالدفاع هو أنه لم يفقه معنى الدفاع على الحقيقة، حيث حصره في أضيق التعبير، وفسره بأسوأ التفسير، فحمله على القعود والخمول والعجز وعدم الحركة والاستعداد إلى حين هجوم العدو فيقومون بالدفع له: وشبههم بالحيوان الذي يدافع عن نفسه!

ثم قال الكاتب: (لقد قلت هذا بعد أن رأيت عشرين بحثًا كلها تبحث عن مسألة الجهاد بحثًا اختلف الباحثون فيه، فالذين قالوا بالدفاع من المتأخرين من الكتاب والمؤرخين وكتاب السيرة كلهم ليسوا بشيء، كعباس العقاد وعزام وشيت خطاب وعبد الحميد جودة السحار وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل والشرقاوي والحكيم، فكلهم ليسوا بشيء).

ثم ألحق بهم في الذم غيرهم قائلاً: والظن بغيرهم من علماء الفقه والحديث من أمثال يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام، ومحمد ناصر الألباني في كتابه حجاب المرأة المسلمة، والظن بهم العودة إلى الحق واتباع سبيل المؤمنين. انتهى.

فالجواب أن نقول: حنانيك قد أفتيت فاستبق بعضنا فلسنا بالحديد ولا الجبال. ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا يرتفع عن مجال الشك والإشكال بأن الجهاد المشروع في الإسلام هو الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته أو يلقي الفتنة بين أهله، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين الذي تدل عليه نصوص القرآن المبين وسيرة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية: إن من لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، أي فلا يُقاتَل، وما فهمه الكاتب بما قاله في صفة الدفاع فإنه ليس من خُلق أهل الدين، وقد قيل: ما آفة الأخبار إلا رواتها. وقالوا: ويل للشعر من رواة السوء.

وما يشعرني أن لهؤلاء الجماعة الذين مقتهم وعدّهم ليسوا بشيء أنهم أسعد بالحق والصواب منه، وأكبر ما ينقم عليهم فيه هو مخالفتهم لرأيه في مثل هذه المسألة؛ لكونه جعل رأيه بمثابة الميزان الذي يزن به أقوال الناس.
وكلٌّ يَدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكَ
ونحن نسوق اعتقادنا في صفة الجهاد بالدفاع:

إن الله سبحانه أمر نبيه محمدًا ﷺ بإبلاغ هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19].

وذكر العلماء أن من شرط صحة الجهاد بالقتال هو أن تتقدمه الدعوة إلى الله لفتح القلوب بالإيمان قبل فتح البلدان، فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعو أهله إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وسمح لهم بالدخول ونشر دين الله والدعوة إليه والاتصال بمن يرغبون إسلامه وتعليمه، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال ولا إكراه في الدين، والكل آمنون على أهلهم وأموالهم؛ لكون الدين هداية اختيارية لا إكراه فيه ولا إجبار، أما إذا خرج أهل البلد بقواتهم وسلاحهم فنصبوا المدافع ووجهوا أفواه البنادق وسلوا السيوف ومنعوا المسلمين ودعاتهم عن دخول البلد لنشر دين الله، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بمنعهم دخول الإسلام في بلدهم الذي فيه سعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم، لهذا يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة وخوض كل خطر وضرر في سبيل نشر دين الله، فيقاتلون في سبيل الله، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون، وهذا القتال يعتبر دفاعًا لشرهم حتى تزول الفتنة والاضطهاد عن الدين، وقتالهم إنما هو بسبب منعهم لنشر الدين لا لسبب إكراههم على الدين، يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99]، وقال: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103]، وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢ [الغاشية: 21-22]؛ أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم، ﴿إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ [الشورى: 48]. وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ١٠٨ [يونس: 108]، وقال: ﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٩٢ [النمل: 92]، وقال: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48].

وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها، فمتى دخل الدعاة أو الفاتحون في البلد بهذه الصفة ونشروا دين الله بدون مانع فقد صارت كلمة الله هي العليا، ودينه الظاهر، والهداية من الله.

وقد فتح الصحابة رضي الله عنهم كثيرًا من البلدان بالقرآن بهذه الصفة وهنا نفس ما فعله رسول الله في فتح مكة، فإن قريشًا لما نقضوا العهد الذي أبرمه رسول الله معهم في صلح الحديبية بهجومهم على خزاعة وقتلهم لهم على حين غفلة منهم وكانت خزاعة قد دخلت في عقد رسول الله وعهده، فانتقض بذلك عهد قريش مع رسول الله، فعزم على غزوهم وقال: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[47] فسار بالصحابة نحوهم عام ثمانية من الهجرة وأعطى راية الأنصار سعد بن عبادة ولما سمعه يرتجز بتمنيه للقتال ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الكعبة. أخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس، وقال للصحابة: «إنه سيلقاكم أوباش قريش فإياكم أن تحصدوهم»[48] كما سيأتي الكلام موضحًا في فتح مكة حيث مَنّ رسول الله على جميع أهلها، يقول الله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٢٤ [الفتح: 24].

والمقصود أن السيف لم يصل إلى كافة الأمم التي اعتنقت الإسلام، وإنما وصل إليها هداية القرآن حيث خرج الصحابة من بلادهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والجهالة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة وعلم وعرفان، وقد أنجز الله لهم ما وعدهم في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55] وصدق الله وعده.

* * *

[47] سيرة ابن هشام 2/397. [48] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

فصل [في قاعدة قتال الكفار]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار في قوله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ [البقرة: 190]: فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ هو تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن قتالنا لمن لا يقاتلنا أنه عدوان، ويدل عليه قوله بعد هذا: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ [البقرة: 194]، وقوله بعد ذلك: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 191].

فأمر الله سبحانه بقتل من وجد من أهل القتال حيث وجد قائمًا أو نائمًا، وقال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ و «حتى» لانتهاء الغاية، والفتنة هي أن يفتن المسلم عن دينه أو أن يمنع المسلمون عن نشر دينهم، كما كان المشركون يفتنون من أسلم عن دينه ويمنعون المسلمين عن نشر دينهم، وهذا إنما يكون بحالة الاعتداء على المسلمين، فيجب قتالهم حتى لا تكون فتنة، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا.

وأما قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ فمن قال: إنها منسوخة بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ فقد غلط؛ فإن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها. وأما قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ. فإنما يعني بهم المحاربين الذين يقاتلوننا، فإننا نقاتلهم على أي حال وجدوا قائمين أو نائمين، وهي عامة لكل من يحارب المسلمين في كل زمان ومكان إلى يوم القمامة.

وأما قوله: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ. فذكر ابن الجوزي في الاعتداء أربعة أقوال:

أحدها: أنه قتل النساء والولدان. قاله ابن عباس ومجاهد.

والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلوكم. قاله سعيد بن جبير وأبو العالية وابن زيد.

الثالث: إتيان ما نهوا عنه. قاله الحسن.

الرابع: ابتداؤهم بالقتل في الشهر الحرام.

ومثله قوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ، فقد زعم بعضهم نسخها وهو خطأ أيضًا، وقد قال الجمهور من السلف والخلف: إنها ليست مخصوصة ولا منسوخة بل يقولون: لا نُكره أحدًا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، وإن أسلم عصم دمه وماله، وإن لم يكن من أهل القتال لم نقتله ولم نكرهه على الإسلام، فالذين نقاتلهم لحرابهم متى أدوا الجزية لم يجز قتالهم إذا كانوا أهل كتاب أو مجوس باتفاق العلماء.

وإن كانوا من مشركي الترك والهند ونحوهم، فأكثر العلماء لا يجوزون قتالهم متى أدوا الجزية كأهل الكتاب، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، وهي المنصوصة عنه.

ثم ذكر فتح مكة وأن رسول الله ﷺ مَنّ عليهم ولم يكرههم على الإسلام ولم يسأل أحدًا منهم: هل أسلمت أم لا؟ بل أطلقهم بعد القدرة عليهم، ولهذا سموا الطلقاء، وهم مسلمو الفتح ومنهم صفوان بن أمية ورجال آخرون شهدوا مع رسول الله حنينا وهم على شركهم، ولم يكرههم على الإسلام حتى أسلموا من تلقاء أنفسهم. ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن رسول الله أنه أكره أحدًا على الإسلام لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا. انتهى كلامه.

وقال أيضًا في السياسة الشرعية: إن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، والفتنة أكبر من القتل، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. انتهى كلامه.

وإنني أعجب أشد العجب من العلماء المتمسكين بهذا القول الذي خالفوا به الحق والحقيقة، وخالفوا به نصوص القرآن الكريم، وخالفوا به نصوص مذهبهم وقول الجمهور، كأنهم بذلك يريدون نفع الدين والمسلمين من حيث يضرونهم وهم في الحقيقة لا الدين نصروا ولا الباطل كسروا.

وقد رُفع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله خصومة وقعت بين رجلين أحدهما مسلم والآخر كافر تناظرا في مسألة علمية واشتد نزاعهما فيها، وكأن النصراني لم يجد عند المسلم ما يشفيه ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، فسطا به المسلم ضربًا وقال: هذا جواب مسألتك. عند ذلك قال النصراني: صدق قومنا إذ يقولون: إنما قام الإسلام بالسيف ولم يقم بالكتاب. ثم تفرقا، هذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فعمل العلامة ابن القيم رحمه الله عمله في الحكم بينهما فقال: لقد شمر المجيب عن ساعد العزم، ونهض على ساق الجد والحزم، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف وإخلاد إلى الضعف، ومجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة عليهم وإزاحة للعذر، ﴿لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ [الأنفال: 42].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه هداية الحيارى ص22: إن أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعًا ورغبة واختيارًا لا إكراهًا ولا اضطرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ رسولاً إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف طبقوا الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها. فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أممًا وسلبهم الملك والعز. وأما النصارى فكانوا أطبقوا الأرض فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والجزيرة وأرض نجران وغيرها من البلاد. وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها، وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم. وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها.

وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يُعرف فيهم البتة. وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧ [الحج: 17].

فلما بعث الله رسوله استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر أهل هذه الأديان طوعًا واختيارًا ولم يكره أحدًا على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لأمر ربه سبحانه حيث يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]. وهذا نفي في معنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول كل من يُجوّز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.

وكل من تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته ولم ينقض عهده، بل أمره الله أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ [التوبة: 7]، ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنّ على بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم.

وكذلك لما عاهد قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بالقتال حتى بدؤوا بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم وكانوا يغزونه قبل ذلك، كما قصدوا يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر.

والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقًّا، فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية ثم دخلوا في دين الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، فلم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال ضعف المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفقتهم بالمال والبدن، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته ويخرج عن الدنيا رغبة في الإسلام لا لرئاسة ولا لمال، بل ينخلع من الرئاسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه.

وهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين إلا النادر، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلا الله، فأطبقوا على الإسلام ولم يتخلف منهم إلا النادر وصارت بلادهم بلاد إسلام وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف حيث دخلوا في دين الله أفواجًا، حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد تبين أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم على الكفر أقل القليل. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.

إنه بمقتضى التأمل لما سبق من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم يتبين بطريق الوضوح أن سبب الجهاد المشروع هو الدفاع عن الدين لمن أراد كبته وعدم نشره وفتنة من آمن به، وكف أذى المعتدين عن المؤمنين، وأن هذا هو الصحيح بمقتضى آيات القتال، كما أنه قول شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم كما سبق بيانه، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قول الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة.

فقول بعض العلماء: إن الجهاد المشروع هو قتال الكفار حتى يسلموا، قول ضعيف بمقتضى الدليل والبرهان.

وقد صار هذا القول من أكبر مطاعن النصارى على الدين وعلى المسلمين. وقد استغله جماعة القسيسين والمبشرين بحيث يلقنونه الطلاب وينشرونه لدى العامة قائلين: إن الإسلام دين حرب وإكراه، وإنه إنما انتشر بالسيف بحيث يوقفون الرجل ويرفعون السيف فوق رأسه ويقولون له: إما أن تسلم و إلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه. يريدون بهذا تنفير الناس عن الدين واحتقاب العداوة للمؤمنين.

وكنا في حالة ابتدائنا لطلب العلم نعتقد هذا الاعتقاد حتى توسعنا في العلم والمعرفة بتفسير القرآن وحقيقة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته ومعاملاته للكفار المحاربين منهم والمسالمين.

فعند ذلك تبدل رأينا وتحققنا بأن القتال في الإسلام إنما شرع لدفع العدوان عن الدين وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.

إن الكاتب - رحمه الله - أشار في كتابه بأنه نظر في عشرين بحثًا من عشرين كتابًا فلم يجد فيها ما يشفيه، وعرف من غضونها أن الدين فقد ما يجب أن لا يفقده. فلو نظر في كتابنا الجهاد المشروع في الإسلام بفكر حاضر وقلب واع لوجد فيه ما يشفيه.

إن من شرط الانتفاع بالبحوث النافعة كونه يتلقاها بصدر رحب وعدم نفرة وكراهية لها، أما إذا نظر إليها بكراهية ونفرة فإنه لا يكاد يراها ولا يسمعها، كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانُواْ يَسۡتَطِيعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ يُبۡصِرُونَ ٢٠ [هود: 20]، لكون الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء لم يكد يراه ولا يسمعه وتشتد نفرته منه.

وإن من طبيعة أكثر البشر كون أحدهم إذا جهل شيئا عابه، وبادر بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئا فكم من لائم ملوم.
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
والله سبحانه قد ضمن للحق البقاء، ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ [الرعد: 17].

وأهلاً وسهلاً بمن يرد الباطل في وجه قائله، فإن الباطل لا حرمة له ولا كرامة، فمتى اتّضح الباطل الذي لا محمل له من الحق ولا خلاف في بطلانه فإن رده واجب.

أما المسألة الخلافية كهذه وأمثالها مما يجعل بعض الناس رأيه ميزانًا لها يزن به أقوال الناس، ثم يتحامل بطريق التهالك وعدم التمالك على من خالف رأيه فيها ويحكم ببطلان قوله وعمله واعتقاده، فلا شك أن هذا حكم عائل وليس بعادل، وطريقة سقيمة وليست بسليمة، ولعل المخالفين له أسعد بالصواب منه.

* * *

التفاوت بين الكفار المحاربين وبين الكفار المسالمين للمسلمين

إن الله سبحانه حكم عدل، يعطي كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص ولا يظلم ربك أحدًا، والاختلاف بين الناس واقع ما له من دافع، فمنهم المسلم ومنهم الكافر ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢ [التغابن: 2]. ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ [هود: 118].

وقد فصل القرآن الكريم الحكم بين الفريقين؛ فأمر بقتال المحاربين حيث وجدوا، سواء كانوا قائمين أو نائمين، بطريق الهجوم أو الدفاع. كما أمر بأن يعامل المسالمون بما يستحقون من العطف والبر والصلة والإحسان، وأن الله سبحانه يبيح ذلك ولا ينهى عنه، يقول الله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ [الممتحنة: 8]، فأمر سبحانه ببر المسالمين، والبر هو من أجمع أفعال الخير وضده الفجور، وهو التوسع في أعمال الشرور، ويقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤ [الإنفطار: 13-14].

وقد سأل الصحابة عن الصدقة على أقاربهم من المشركين، فأنزل الله سبحانه: ﴿ ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272]، فأمروا بالصدقة عليهم جزاء على مسالمتهم للمسلمين وعدم تعرضهم لقتالهم أو الطعن في دينهم. نظيره قوله سبحانه: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠ [النساء: 90]، وهذه الآية هي من سورة النساء وهي مدنية، كما أن الآية الأولى من سورة الممتحنة وإنما نزلت عام حجة الوداع، فلا نسخ في كلتيهما ولا تخصيص ولا تقييد، بل الحكم بمدلولهما ثابت معمول به إلى يوم القيامة.

ثم قال في شأن المحاربين: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩ [الممتحنة:9]، فهذه من سورة الممتحنة التي نزلت يوم فتح مكة بسبب الكتاب الذي كتبه حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بمسير رسول الله ﷺ إليهم، وصفة الكتاب على ما ذكره يحيى بن سلام في تفسيره: أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب لقريش: أما بعد؛ يا معشر قريش، إن رسول الله قد جاءكم بجيش كالسيل يختبئ بالنهار ويسير بالليل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام.

فنزل الوحي بخبر الكتاب بما يتضمن معاداتهم وعدم موالاتهم لاعتبار أنهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين، نظيره قوله سبحانه: ﴿فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ [النساء: 91]؛ أي حيث وجدتموهم، ﴿وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١؛ أي حجة بينة تبيح قتلهم وقتالهم، وضدهم المسالمون حيث قال في حقهم: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠ يعني إلى قتالهم. فالآيات المطلقة التي تأمر بقتال الكفار تحمل على هذه الآيات المقيدة لجواز حمل المطلق على المقيد؛ لكون الكافر المسالم ما مضرة كفره إلا على نفسه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته السياسة الشرعية: إن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ [البقرة: 190]، وذلك أن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 191]؛ أي إن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار للمسلمين من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، يعني فلا يقاتل. انتهى.

أما الكافر المحارب فإن مضرة كفره تتعدى إلى الناس في دينهم وأبدانهم، فهذا حكم العدل من الله بين عباده، ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون.

يؤيده أن أكثر أهل الأرض كفار كما قال سبحانه: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103]، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ»، وهذا يؤيد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم من أن الإسلام يسالم من يسالمه، وما ورد في القرآن من الشدة والغلظة على الكفار وكون المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم فهذه وأمثالها محمولة على حالة قتال المؤمنين للمحاربين، كقوله سبحانه: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧ [الأنفال: 57]، وقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَا [محمد: 4]، فأمر الله عباده المؤمنين متى لقوا أعداءهم المحاربين بأن يضربوهم الضربة القاسية التي تثخنهم وتكون عبرة لأمثالهم، ولكل مقام مقال. والنبي ﷺ كان يعامل الكفار المقدور عليهم غير معاملته للمحاربين منهم.

فقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256] وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس:99] وقوله: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48] دليل على صحة ما ذكرناه.

الجهاد بالحجة والبيان والسنة والقرآن قبل الجهاد بالسيف والسنان

إن دين الإسلام قام واستقام على الكتاب الهادي والسيف الناصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.

إن الأمة الإسلامية مكلفة من قبل الله بنشر هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، وإزالة ما غشيهم من الظلم والاضطهاد والفتنة فيه وإزالة معابد الشرك، والدعوة إلى الله بالحجة والبيان والسنة والقرآن، وإن تعذر فبالسيف والسنان.

فوظيفة الكتاب أي القرآن هو إبلاغ الناس بما أنزل إليهم من ربهم ودعوتهم إلى دين الله الذي فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالهم بالتي هي أحسن.

وهذا هو حقيقة ما رسمه القرآن لأهله في أدب البحث والمناظرة مع المخالفين لهم في الدين، ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨ [يوسف: 108]، وقال سبحانه: ﴿۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ [العنكبوت: 46]. قال مجاهد: الذين ظلموا منهم هم من قاتل المسلمين ولم يعطهم الجزية. وفي رواية عنه قال: الذين ظلموا منهم أهل الحرب ممن لا عهد لهم، فالمجادلة لهم تكون بالسيف. وفي رواية عنه قال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم ولم يعط الجزية.

فوظيفة السيف هي كف العدوان عن الدين وعن المؤمنين، إذ لابد للدين ونشره والدعوة إليه من قوة تؤيده وتحميه وتعين على تنفيذه. وعن أنس أن النبي ﷺ قال «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ» رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم.

وقد شرط العلماء في الجهاد المشروع أن تتقدمه الدعوة في حق من لم تبلغه على الوجه المطلوب بخلاف المحاربين المعاندين، فإن جدالهم بالجلاد حتى يذعنوا لتعاليم الإسلام وهو آخر ما يعامل به الكفار المعاندون على حد ما قيل:
فيا أيها النّوام عن رَيِّق الهدى
وقد جادكم من ديمة بعد وابلِ
هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنموا
وإن تغفلوا فالسيف ليس بغافلِ
وما هو إلا الوحي أو حدُّ مرهفٍ
تميل ظباه أخدَعَيْ كلِّ مائلِ
فهذا دواء الداء من كل عالمٍ
وهذا دواء الداء من كلِّ جاهل
ومتى أوجبت الحاجة والمصلحة الجهاد بالقتال فإنه يجب قبله إعداد القوة المماثلة أو المقاربة لقوة العدو مع الإيمان بالله عز وجل، يقول الله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡ [الأنفال: 60].

فنص بالذكر على الخيل لأنها مراكب المقاتلين الشجعان في ذلك الزمان، ولكل زمان قوة تناسبه، فإنما يُرمَى الجندل بالجندل والحديد بالحديد.

وفسر النبي ﷺ القوة فقال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[49]، لكنه لم يفسر المرمي به، وليست القوة مقصورة عليه، وقد حارب النبي ﷺ بالمنجنيق ونصب الدبابة على أهل الطائف.

ومفهوم الآية أن الله سبحانه أمر المسلمين بأن يستعدوا لأعدائهم بما يستطيعونه من القوة. ولفظ القوة، عام يشمل كل ما يتقوون به على حرب عدوهم، ويشمل كل ما هو آلة للحرب من أسلحة البر والبحر والجو على اختلاف أنواعها وأشكالها بحسب الأزمنة والأمكنة.

والوسائل لها أحكام المقاصد وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لهذا يجب تعلم ما يفيد المسلمين في إصلاح حالهم في حالة حربهم لعدوهم من إنشاء معاهد لتعليم الجنود وتدريبهم فنون القتال واستعمال آلات الحرب، حسبما يستجده الزمان من الصنائع، إذ هذا من أسباب القوة التي يُتقى بها وقوع البلاء.

قالت الخنساء في الحجاج الثقفي:
إذا سمع الحجاج رزء كتيبة
أعد لها قبل القدوم قِراها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
تتبَّع أقصى دائها فشفاها
إنه متى تعذر سبيل الجهاد بالقتال فإنه يجب الجهاد بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد فتح الله للمسلمين كثيرًا من البلدان بالدعوة إلى الله بدون قتال، كبلدان اليمن على كثرتها وتعدد مدنها، فإن المسلمين فتحوها بمجرد الدعوة، وأرسل النبي ﷺ إليها معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، ومثلها بلدان البحرين فقد فتحت بدون قتال، وأرسل النبي ﷺ إليها أبا العلاء بن الحضرمي ثم أرسل إليها أبا عبيدة بن الجراح، ومثلها بلدان عمان فقد فتحها الإسلام بدون قتال، فكل هذه البلدان دخل فيها الإسلام زمن النبي ﷺ بمجرد الدعوة والإبلاغ بدون قتال، ثم سارت الفتوح على نحو ذلك ففتح العلم والبيان والسنة والقرآن من البلدان ما لم يصل إليها السيف والسنان.

وقد دخل المهاجرون والأنصار في الإسلام بمجرد الدعوة بدون قتال لكون الجهاد هو بذل الجهد والطاقة في الدعوة إلى الله بإعلاء كلمته ونشر دينه، وهو قولي وفعلي، يكون باللسان والحجة والقرآن ويكون بالقوة والسنان.

وأكثر الأنبياء لم يفرض عليهم القتال، ولكل قوم حالة تناسب دعوتهم بالقوة أو بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكان النبي ﷺ في حالة عجزه وعدم قدرته على المقاومة من أجل قلة عدد قومه وضعفهم مأمورًا بكف اليد عن القتال، وأن يجاهد الكفار بالقرآن فيدعوهم ويعظهم، كما قال سبحانه: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢ [الفرقان: 51-52].

وكما قال سبحانه: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣ [النساء: 63].

وكان النبي ﷺ ينصب لحسان منبرًا ويقول: «اهْجُهُمْ يَا حَسَّانُ، فَإِنَّ شِعْرَكَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ»[50].

فمتى كان هجو المشركين بالشعر مشروعًا كما سبق، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام وإبطال حجج الكفار والمشركين وأهل الكتاب؟ فجهاد الكفار باللسان والحجة والبيان ما زال مشروعًا من أول الأمر إلى آخره.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح: إنه من المعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره بالسيف والسنان، فإن النبي ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعًا واختيارًا بغير سيف؛ لما بان لهم من الآيات والبينات والبراهين والمعجزات من أن دينه الحق. انتهى.

ثم قال الكاتب رحمه الله: (إن حروب الرسول ﷺ كان هو البادئ فيها بالقتال لنشر هذا الدين، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنه لم يسبق منهم ذلك إلا في نادر الأحوال) انتهى.

فالجواب أن هذا الخطاب وقع منه على سبيل الخطأ حيث صده الهوى عن رؤية الهدى ويغفر الله له. يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ - أي: لأجل إيمانكم بربكم - إلى قوله: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ [الممتحنة: 1-2].

فبسط اليد بالسوء هو ضربهم وشجاجهم وجروحهم وأنواع الأذى منهم للصحابة وبسط ألسنتهم هو بالشتم واللعن والسخرية وغير ذلك من أنواع الأذية.

وحسبك أن الصحابة رجالهم ونساؤهم فارقوا وطنهم العزيز عليهم إلى الحبشة فرارًا بدينهم وأبدانهم عن التعذيب والافتتان، فالمشركون هم المحاربون لله ورسوله، يقول الله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ [البقرة:190]، فأمر سبحانه عباده المؤمنين بأن يقاتلوا كل من تصدى لقتالهم حتى لو تصدت المرأة لقتال المسلمين لاستحقت أن تقتل وتقاتل كالرجال، ثم قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ، وفسر الاعتداء بقتل النساء والصبيان والرهبان والعميان، وفسر بإحراق الشجر وقتل الحيوان، وفسره بعضهم بقتال من لا يقاتل المسلمين.

ثم قال: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢ [البقرة: 191-192]، وقال: ﴿وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ [التوبة: 36] ولم يقل: قاتلوا المشركين حتى يسلموا، بل قال: ﴿كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ وهذا فيه المقاضاة بالمثل، وهو أن المسلمين يقاتلون كل من تصدى لقتالهم فيقتلون بطريق الطلب أي الهجوم أو الدفاع سواء وجدوا قائمين أو نائمين، يقول الله: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ [البقرة: 194] ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا [الشورى: 40]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ [البقرة: 217]، وهذا هو غاية ما يبتغي المشركون من الرسول وأصحابه.

ثم قال سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39-40]، فأثبت سبحانه بدء المشركين بالقتال للنبي ﷺ وأصحابه.

نظيره قوله سبحانه: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡ [التوبة: 13-15]، وهذه شهادة من الله سبحانه في حقيقة بداءتهم بالاعتداء والقتال لرسول الله ﷺ وأصحابه، وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم.

فأثبت سبحانه في هذه الآيات بدء المشركين بالقتال للنبي ﷺ وأصحابه وأنهم لم يألوا جهدًا في الأذى والاعتداء وتعذيب كل من آمن بالله ورسوله، والمؤمنون متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، يجب أن يدافعوا عن أفرادهم كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلادهم.

فدعوى الكاتب بأن الرسول الكريم هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين، فإن هذا يعد من الخطأ المبين. وقد استباح الكاتب القول به لنصرة رأيه وإعلاء كلمته ليثبت بذلك ما ذهب إليه من أن الجهاد الشرعي هو قتال الكفار حتى يسلموا لا فرق في ذلك بين الكفار المسالمين والكفار المحاربين، وهذا القول وهذا الاعتقاد هو أكبر ما يشنع به النصارى على المسلمين، بحيث إن المبشرين والقسيسين يلقنون الطلاب هذا القول ويقولون: إن المسلمين يوقفون الرجل على حرف السيف ويقولون له: إما أن تسلم و إلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه.

ونقول: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الإسلام هداية اختيارية لا إكراه فيها ولا إجبار، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، يقول الله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99].

وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص ولا تقييد، وقد خرج رسول الله ﷺ من مكة التي هي أحب البقاع إليه خائفًا مختفيًا حين تمالؤوا على قتله بصورة يضيع بها دمه، وذلك بأن يعطوا كل رجل سيفًا فيضربونه جميعًا بسيوفهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأذن له بالهجرة، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠ [الأنفال: 30]، وكان يقول: «وَاللَّهِ إِنَّكِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ لَمَا خَرَجْتُ»[51].

يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ [الممتحنة: 1]؛ أي من أجل إيمانكم بربكم. ومثله قوله: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ [الحشر: 8]. فأثبت سبحانه شدة عداوتهم للمسلمين حيث أخرجوهم من بلادهم وأموالهم، وأنه يجب جهادهم أينما ثقفوا وتحرم موالاتهم ببرهم.

بخلاف من لم يقاتل المسلمين ولا يكون مع قوم يقاتلونهم، فإنه يباح برهم والإحسان إليهم لقول الله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩ [الممتحنة: 8-9]، وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص ولا تقييد، وهي إنما نزلت عام الفتح.

* * *

[49] أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر. [50] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [51] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس.

فصل [في تفسير حديث: «أمرت أن أقاتل الناس...»]

تفسير حديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ».

إن أكبر ما يشكل على الناس في هذه المسألة هو قوله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.

وقد يسبق فهم بعض الناس إلى أن هؤلاء الناس الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم حتى يقيموا هذه الأركان هم جميع الناس وهو ليس بصحيح، فإنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه قاتل جميع الناس على إقامة هذه الأركان.

فإن الناس في هذا الحديث اسم جنس لا يراد به كل فرد ولا عموم الناس، نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ [آل عمران: 173] فهؤلاء الناس القائلون: إن الناس قد جمعوا لكم، هم فرد أو أفراد من الناس، كما أن الناس الذي أجمعوا على الرجوع إلى الرسول وأصحابه هم أبو سفيان ومن معه، وهم أفراد من الناس وليسوا كل الناس، فيمتنع أن يكون الرسول مأمورًا بقتال جميع الناس حتى يقروا بالشهادتين ويقيموا الصلوات الخمس ويؤتوا الزكاة.

وإنما أراد بالناس مشركي العرب الذين لا يقرون في الجزيرة إلا بالإسلام، لكون الجزيرة لا يقر فيها إلا مسلم كما في صحيح البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا».

وروى الإمام أحمد وأبو عبيد عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله أنه قال: «أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».

وجزيرة العرب هي الحجاز ونجد بلا خلاف. وفي غيرها الخلاف المشهور، وقال في فتح الباري: الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها.

وقد دل القرآن على مفهوم ما دل عليه هذا الحديث فقال سبحانه: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥ [التوبة: 5].

فالمشركون هنا هم مشركو العرب الذين كانوا حربًا لرسول الله ﷺ ولأصحابه؛ لأن ولاءهم ومحبتهم ونصرتهم لقريش على حرب الرسول وأصحابه، وقد شاركوا قريشًا في الهجوم على خزاعة وهي داخلة في عقد الرسول وعهده، ثم شاركوهم يوم الأحزاب أي يوم الخندق، وشاركوا هوازن يوم حنين.

ولأن أكثر الناس من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس لا يطالبون بالتزام هذه الأركان وإنما يكتفى منهم بالجزية في سبيل حمايتهم، فهؤلاء الناس المذكورون في الحديث هم مشركو العرب في الجزيرة، وقد أنزل الله فيهم صدر سورة براءة وفيها: ﴿وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥ [التوبة: 3]، ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡ [التوبة: 4]، ثم قال في حنقهم وما يحتقبونه من العداوة لرسول الله وأصحابه: ﴿كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨ [التوبة: 8] إلى قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11]، ثم قال: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ [التوبة: 12-13]، فذكر سبحانه في هذه الآيات صريح الاعتداء بطريق الابتداء من المشركين على المؤمنين وكونهم لا يرقبون في المؤمنين إلاَّ ولا ذمة؛ أي لا عهدًا ولا قرابة، وكونهم بدؤوا المؤمنين بالقتال، وأنهم متى طعنوا في الدين فإنهم يكونون مستوجبين للقتال بطريق ابتدائهم بالاعتداء، وبطريق طعنهم في الدين الواجب على المسلمين حماية أنفسهم وحماية دين الله الذي يقاتلون في سبيله حتى لا يتعرض له أحد بالطعن فيه وحتى لا يفتن من آمن به، يقول الله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ [البقرة: 193]، وقال في سورة البقرة: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 217]؛ أي إن فتنة المشركين للمؤمنين في دينهم هو أضر وأعظم وأكبر عند الله من قتل المؤمنين لهم لكون الفتنة أكبر من القتل، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ [البقرة:217] فهذا هو غاية ما يبتغون.

فجهاد المؤمنين لهم هو جهاد دفاع لشرهم؛ لأن شريعة الدين مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول.

ثم احتج الكاتب بما رواه مسلم عن بريدة أن النبي ﷺ كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْكُفَّارِ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيةَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ».

ففي هذا الحديث بيان مراتب الدعوة إلى الله وأنها تكون بالأسهل فالأسهل لقول الله سبحانه: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ [النحل: 125]، فبدأ في هذا الحديث بدعوتهم إلى دين الإسلام فإن هم أبوا دعاهم إلى النقلة إلى دار المهاجرين ليختلطوا بالمسلمين ويسمعوا القرآن ويرون كيفية الصلاة والمصلين مع بقائهم على كفرهم؛ لأن هذا أعون على هدايتهم وإسلامهم ولم يقل: إن هم أبوا الإسلام فقاتلهم. ثم ادعهم إلى أن يكونوا كأعراب المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية.

* * *

تحريم تحريف القرآن بصرفه إلى غير المعنى المراد منه

قال الكاتب: (إن الآيات القرآنية الواردة في القتال لا يجوز صرفها إلى غير المعنى المراد منها، ولا إخضاعها تبعًا لما يعتقده الإنسان في نفسه ولا لتطور الأزمنة وتغير الأحوال عند الأمم).

فالجواب: إن هذا الكلام حسن صحيح نؤمن به ونعتقده، ونرجو أن نسير على منهجه.

لكن الكاتب قد استباح مخالفته بحالة غير خافية على أحد، حيث حاول صرف الآيات الظاهرة إلى غير المعنى المراد منها في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته.

من ذلك أنه استدل بقوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة:256] فنقل عن ابن كثير أضعف ما ذكره في التفسير قائلاً: قد ذهبت طائفة كثيرة من العلماء إلى أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: هي منسوخة بآية السيف.

فالجواب أن نقول: سبحان الله ما أسرع ما نسي هذا الكاتب! فأين ما قاله من أنه لا نسخ في القرآن ولا تخصيص ولا تقييد، وأنه يجب حمل الآيات على المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن؟ وكيف عدل عن أقوال العلماء التي ساقها ابن كثير في تفسير هذه الآية وبيان سببها؟ وكيف استباح الطعن في هذه الآية المحكمة بدعوى نسخها لعلة اعتراضها في طريقه فحاول عزلها عن الاحتجاج بها حتى يتم له صحة ما يدعيه من وجوب الإكراه على الدين خلاف ما حكم الله به في كتابه المبين؟ وكيف نقل عن ابن كثير أضعف ما ذكره في التفسير؟ وكان من واجب العدل والإنصاف أن يذكر كلام ابن كثير كله أو يتركه كله، لكنه استباح الإعراض عن القول الصحيح في الآية ليثبت بذلك صحة ما يدعيه، وهذا غاية في تعصبه لرأيه وعدم إنصافه وعدله.

وإن مما نستدرك على بعض المشايخ الكرام أو بعض الإخوان كون أحدهم إذا ذُكِر عنده كتاب أو كلام صادر من بعض العلماء المتأخرين فنراه يرميه بما ينقصه من الزراية وعدم الدراية، ويقول: هذا ليس بشيء. من أجل مخالفته لرأيه، وربما استطال بعضهم إلى كتب العلماء المتقدمين المشهورين فوسمها بالبطلان بدعوى نسبتها إلى غير مؤلفيها ليثبت في قلوب العوام وضعفه العلوم والإفهام عدم الثقة بها كي يعزلها عن موضوع الاحتجاج بها من أجل مخالفتها لرأيه واعتقاده، فدع عنا ذكر فلان أو كتاب فلان ولنرجع الآن إلى محكم القرآن حيث طرق الكاتب تفسير قوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ وهي آية محكمة وتفسيرها يُعرف من تلاوتها؛ إذ هي من التفسير الذي لا يعذر أحد بجهله، ولنذكر الآن سببها الذي هو عين تفسيرها.

فقد روى أبو داود في سننه والنسائي وابن حبان في صحيحه وابن جرير عن ابن عباس في تفسير الآية قال: كانت المرأة من الأنصار مقلاة؛ أي لا يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أُجْليت بنو النضير كان فيهم من أولاد الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ.

وأخرج ابن جرير عن طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال: نزلت ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلمًا، فقال للنبي ﷺ: ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية، وفي بعض التفاسير أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟

ولابن جرير عدة روايات في نذر النساء في الجاهلية، وتهويد أولادهن ليعيشوا، وأن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام، فنزلت الآية، فكانت فصل ما بينهم، وفي رواية له عن سعيد ابن جبير أن النبي ﷺ قال عندما نزلت: «قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ». لأن هؤلاء الأولاد قد تربوا في صغرهم منذ نشأتهم عند اليهود فاعتنقوا دينهم واختاروا عقيدتهم على الإسلام، فصاروا منهم وانفصلوا عن نسب آبائهم لكون دين الإسلام متعلقًا بنفس الشخص لا بنسبه، ولهذا تنقطع الموالاة والنسب والإرث بين الكافر وبين أبيه المسلم، فلا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، وليس هذا كالمرتد فإن المرتد، هو الذي يكفر بعد إسلامه، وقد دخل أناس من العرب في النصرانية فصاروا نصارى كبني تغلب مثلاً، كما دخل أناس في اليهودية فصاروا يهودًا.

ثم استدل الكاتب بقول الشوكاني في تفسير هذه الآية وأنها على أقوال:

الأول: أنها منسوخة لأن الرسول قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ [التوبة: 73].

ونقول: إن الشيخ الشوكاني هو كسائر العلماء الذين يؤخذ من أقوالهم ويترك، فإن قوله بنسخ هذه الآية لا صحة له، بل هي محكمة غير منسوخة عند جمهور العلماء وسببها معروف، كما ذكرنا من رواية المحدثين، كأبي داود والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس كلهم يقولون: إنها محكمة غير منسوخة، كما أن استدلال الشوكاني بالآية الناسخة لها غير صحيح وهي قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ، فإن الجهاد يشمل الدعوة بالقرآن والسيف والسنان، وحمل هذه الآية على الجهاد بالدعوة والقرآن أولى من حملها على السيف والسنان.

فإن رسول الله لم يقاتل المنافقين، ولما استُئذِن في قتل رجل منهم قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[52]، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢ [الفرقان: 51-52]؛ أي جاهدهم بالقرآن.

ومثله استدلال الشوكاني بأن رسول الله ﷺ قد أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، وهذا الاستدلال باطل أيضًا؛ فإن العرب لا يزالون يقاتلون رسول الله ﷺ لكون ولائهم ونصرتهم مع قريش على حربه، فهم الأعداء المحاربون للرسول وأصحابه.

* * *

[52] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.

القتال في سبيل الله

إن القتال في سبيل الله مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، يقول الله سبحانه: ﴿۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٤ [النساء: 74]، وقال: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٧٦ [النساء: 76]، وقال: ﴿فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ [النساء: 84]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٢٣ [التوبة: 123].

وفي البخاري و مسلم عن أبي موسى قال: سُئل النبي ﷺ فقيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ».

فلسنا نقول بإنكار هذا القتال المشروع في الإسلام، وإنما نقول به في الأمر المقصود منه، ويتمحض في أمور: أحدها: قتال المحاربين للمسلمين الموصوفين بقوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 190-191]، وقال: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ [الممتحنة: 2].

فهؤلاء يقاتلون حيث وجدوا قائمين أو نائمين بطريق الهجوم أو الطلب دفعًا لشرهم حتى يكفوا عن عدوانهم وفتنتهم، كجهاد اليهود في هذا الزمان فهم محاربون للإسلام والمسلمين.

الثاني: قتال من يمنع دخول الإسلام ودعاته إلى بلده بحيث يغلق أبواب البلد دونهم، ويبادر بالقتال لصدهم وصد ما يدعون إليه، أو يفتن من أسلم لمحاولة ردته عن دينه، فيعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين لحيلولتهم بمنعهم عن استماع الحق واتباعه الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم.

الثالث: قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، والجزية هي قدر يسير شرعت في مقابلة حمايتهم، فمتى عجز المسلمون عن حمايتهم سقطت جزيتهم، كما ردّ الصحابة على أهل الكتاب جزيتهم حين أحسوا بعجزهم عن حمايتهم يوم اليرموك، فهؤلاء هم المستوجبون للقتال.

وحكم القتال في سبيل الله باق إلى يوم القيامة وإن لم نسمع به إلا في الحروب الصليبية التي قام بالجهاد فيها صلاح الدين الأيوبي في القرن السابع، وحين غزا التتار بلدان الشام والعراق، ومن بعد ذلك ظهور الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث نشأ في القرن الثاني عشر وكان مولده عام ألف ومائة وخمس عشرة، وكانت نجد في ذلك الزمان مملوءة بالشرك وعبادة الأوثان، لكل قوم صنم يعبدونه.

فجاهد الناس بالحجة والبيان والسنة والقرآن، فأنشأ الكتب الإسلامية التي تدعو إلى عبادة الله وحده وتنهى عن عبادة ما سواه مثل كتاب التوحيد الذي هو حق الله تعالى على العبيد، و كشف الشبهات، و ثلاثة الأصول، وكتاب فضل الإسلام، وكتاب أصول الإيمان، وغير ذلك من الكتب العديدة والرسائل المفيدة التي عم الانتفاع بها الناس وانتفع بها العام والخاص، وصارت كتبه بمثابة القواعد في الأصول والعقائد.

فهو المجاهد الأكبر في زمانه وفي الأزمنة من بعده، فهو يجاهد الناس بالعلم والبيان، كما أن الإمام محمد بن سعود وابنه عبد العزيز بن محمد آل سعود رحمهما الله قد تصدوا لجهاد الشرك والمشركين بالسيف والسنان حتى طهر الله نجدًا بآثار سعيهم وجهادهم من الشرك وعبادة الأوثان، وجمع شملهم ووحدهم على التوحيد وعبادة الله وحده، وصار كل متمسك بالعقيدة الدينية السلفية يلقب بالوهابي كما قيل:
إن كان تابعُ أحمدٍ متوهبًا
فأنا المقرُّ بأنني وهابي
ثم وقع في هذا الزمان قتال المسلمين مع اليهود المحاربين وهو من الجهاد في سبيل الله لمن أخلص نيته وعمله..

ثم إن المطالبة بقتال من يستحق القتال تتمشى على حسب القدرة والاستطاعة فلا يجوز الدخول إلا على حسب رجحان القدرة عليه بالقوة المماثلة أو المقاربة لقوة العدو؛ لكون إثارة الحرب مع عدم القدرة عليها يترتب عليها أضرار كثيرة كبيرة فيما يتعلق بالدنيا والدين، أقلها الإذلال والإهانة؛ إذ الجهاد بالقتال هو من الضروريات التي شرعت لجلب المصالح ودفع المضار وهو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يتمشى على حسب القدرة بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

وحقيقة الجهاد هو دعوة إلى الخير ونهي عن الشر، والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ [النحل: 125].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين: إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.

وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»[53].

وقال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا عَنْ طَاعَتِهِ»[54]. ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر قد طلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.

فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأشد منه حرم إنكاره.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.

* * *

[53] أخرجه مسلم من حديث مالك بن عوف. [54] متفق عليه من حديث ابن عباس بنحوه.

هجرة رسول الله ﷺ بنفسه الكريمة

إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ على حين فترة من الرسل وقد استحكمت في الناس الضلالة وخيمت عليهم الجهالة، وسادت بينهم عبادة الأصنام والأوثان والقبور، فأنقذهم الله ببعثته وبركة رسالته، فجاهد في الله حق جهاده، فجاء بدين كامل، وشرع شامل، يهذب أخلاقهم، ويطهر عقائدهم، ويزيل كفرهم وشقاقهم، ويهديهم للتي هي أقوم، وابتدأ نزول الوحي عليه وهو ابن أربعين سنة من عمره، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو بين القبائل في المواسم ويقول: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي؟»[55]. فيلقى من قومه أشد الأذى، ويعذبون كل من آمن به، غير أن أبناء قبيلته وخاصة عمه أبا طالب يحمونه ويذبون عنه العدوان، وقد دخلوا معه في الشعب حين تمالأت قريش على مقاطعتهم حتى يسلموا لهم محمدًا، وكتبوا بذلك صحيفة القطيعة والمقاطعة، وعلقوها على الكعبة، وفيها يقول أبو طالب في قصيدته الشهيرة:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
عقوبة شر عاجلاً غير آجلِ
وقد أخبره ورقة بن نوفل بمقتضى فراسته بأنه سيؤذى ويمتحن ويخرج من بلده، فقال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟». قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم يلبث أن توفى؛ أي ورقة.

ثم توفيت خديجة وكانت تنفق على رسول الله من مالها، ثم تبعها أبو طالب شيخ قريش وسيدهم، وكان يحب رسول الله أشد الحب، يحميه وينصره، وكانت قريش تتحاشى من أذى الرسول خشية أن يغضب أبو طالب فيسلم.

ولما توفي أبو طالب اشتد الأذى برسول الله ﷺ وبمن آمن به وخاصة المستضعفين من أصحابه، كبلال وصهيب وسمية، فأمر رسول الله أصحابه بأن يهاجروا إلى الحبشة، وقال: «إِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ»[56].

فهاجر إلى الحبشة جماعة من الصحابة، رجالاً ونساء؛ فرارًا بدينهم من الفتنة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، ومنهم الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب، فخرجوا من مكة يمشون على أرجلهم حتى وصلوا إلى سِيف البحر، فاستأجروا سفينة وركبوا فيها حتى انتهوا إلى الحبشة، وهذه هي الهجرة الأولى، فآواهم النجاشي وأكرمهم، وقال لهم: أنتم سيوم بأرضي، اذهبوا حيث شئتم من رامكم بسوء غرم. ثم تتابعوا إلى الهجرة، وكان عددهم يزيد على الثمانين بين رجل وامرأة.

وكان المسلمون في ابتداء الإسلام مأمورين بالصلاة والعفو والصفح والصبر على أذى المشركين، وكانوا يحبون أن يُؤمروا بالقتال لينتصروا، وأتى عبد الرحمن ابن عوف وأصحاب له إلى النبي ﷺ وهو بمكة فقالوا: يا رسول الله، كنا أعزاء ونحن مشركون فلما أسلمنا صرنا أذلة. فقال رسول الله: «إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ»[57]. فلما أمروا بالقتال كرهه بعضهم وودوا لو تأخر فرضه عنهم، وأنزل الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧ أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ [النساء: 77-78].

فلما اشتد الأذى برسول الله وعظم البلاء كما قال: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ»[58]. خرج إلى الطائف يطلب من ثقيف النصرة والتأييد والحماية، فلم يجد عندهم قبولاً، وأرسلوا عليه سفهاءهم، فكانوا يرمونه بالحجارة ويقولون: ساحر كذاب، وزيد بن حارثة يقيه ببدنه من وقوع الحجارة به حتى أدموا عقبه، فرجع عنهم حزينًا كئيبًا حتى أتى وادي نخلة، وهي موضع ميقات أهل نجد فتوضأ وصلى ودعا بدعائه المشهور: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع من ذنوبي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تُنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»[59].

ثم إن رسول الله أراد دخول مكة بعد رجوعه من الطائف فمنعته قريش من الدخول، فأرسل إلى المطعم بن عدي وقال: «إن قريشًا منعتني من دخول بلدي وإني أريد أن أدخل في جوارك»[60]، فلبى دعوته وأمر بنيه وإخوته أن يلبسوا سلاحهم، فخرج إلى المكان الذي وعده فيه فدخل مكة فطاف بالبيت وهم محدقون به، ولهذا كان رسول الله يقول في قتلى بدر: «وَاللهِ لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، فَسَأَلَنِي هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»[61].

فلما استجاب الأنصار لدعوته، والتزموا حمايته بأن يمنعوه ويمنعوا كل من هاجر إليهم من أصحابه مما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، وتواثقوا معه على ذلك ليلة العقبة، فعند ذلك أمر رسول الله ﷺ كل من أسلم بأن يهاجر إلى المدينة، فكانوا يخرجون أرسالاً ويهاجرون على سبيل الاختفاء من قريش، وكانت قريش تصادر أموال كل من هاجر منهم، وأنزل الله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39-40]، وهذه هي أول آية نزلت في الإذن بالقتال.

ولما علمت قريش بأن أصحاب الرسول قد كثروا وأنهم سيمنعونه أعملت حيلها وآراءها في الإيقاع به، ثم اتفقوا على أن يختاروا من كل قبيلة رجلاً فيضربونه جميعًا بسيوفهم في وقت واحد حتى يضيع دمه من بينهم، فأطلع الله نبيه على كيدهم ومكرهم وأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠ [الأنفال: 30].

وعلى أثر هذه الممالأة على قتله حصل لرسول الله ﷺ في تلك الليلة شيء من الخوف من هجومهم عليه، إذ سمع حركة سلاح فاطلع فقال: «مَنْ هَذَا؟». فقال: أنا ربيعة بن كعب الأسلمي أحرسك يا رسول الله لتنام. فقال له: «سَلْ». فقال: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟». فقال: هو ذاك. قال: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رواه مسلم.

ثم إن الله سبحانه أمر رسول الله ﷺ بالهجرة[62] في شهر ربيع الأول على القول الصحيح، وكان رسول الله لا يخطئه يوم إلا ويأتي بيت أبي بكر إما بكرة أو عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه بالهجرة والخروج من مكة أتى إلى أبي بكر بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: والله ما جاء رسول الله في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله عليه، فقال رسول الله ﷺ: «أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ». فقال: إنما عندي ابنتاي عائشة وأسماء، وما ذلك فداك أبي وأمي؟ فقال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْهِجْرَةِ».

فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. فقال: «نَعَمْ». فبكى أبو بكر فرحًا فقال: يا نبي الله، إن عندي راحلتين أعددتهما لهذا الشأن. وأخذت أسماء بنت أبي بكر تجهز لهما جهاز السفر، فصنعت سفرة في جراب وشقت نطاقها نصفين فربطت فم الجراب بنصفه وربطت أسفل الجراب بالنصف الثاني، فسميت «ذات النطاقين».

ثم إنهما استأجرا عبد الله بن أريقط هاديًا خِرّيتا وكان مشركًا على دين قومه، فخرج رسول الله على حين غفلة من قومه ولم يعلم بخروجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن رسول الله أمره أن يتخلف حتى يؤدي الودائع التي عند رسول الله للناس، وكان رسول الله ﷺ يدعى الأمين، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. فخرج رسول الله في صحبة أبي بكر وعمدا إلى غار ثور وهو جبل بأسفل مكة، فدخلاه وأمر أبو بكر مولاه عامر ابن فهيرة بأن يرعى غنمه بالنهار ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار لتخفي أثرهما ويشربان من لبنها.

وخرج بعض أشداء قريش في طلب رسول الله ﷺ ومروا بالغار فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى شراك نعله لأبصرنا. فأجابه الرسول قائلاً: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟». يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠ [التوبة: 40].

فمكثا في الغار ثلاثة أيام ثم خرجا منه لإنشاء سفرهما إلى المدينة ونظر رسول الله إلى مكة وقال: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ».

ثم إن المشركين من قريش ذهبوا في طلبهما كل مذهب وجعلوا لمن يرشد عنهما مائة من الإبل عن كل واحد منهما، فجاء رجل إلى قوم جلوس فيهم سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا سراقة، إني رأيت أسودة بالساحل ولا أراها إلا محمدًا وأصحابه. فقال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، أريد أن أعمي خبرهما حتى أفوز بالإبل، ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وأخذت رمحي وركبت فرسي حتى إذا قربت منهما إذ سمعت قراءة رسول الله ﷺ وأبو بكر يكثر الالتفات ورسول الله لا يلتفت، ويقول أبو بكر: يا رسول الله، لقد لحقنا الطلب. ورسول الله يقول: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا». فأرسل رسول الله عليه سهمًا من سهام الدعاء، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين قال: فخررت عنها فناديتهم بالأمان فوقفوا وعرفت حينئذ أنه سيظهر أمر رسول الله على الناس، فقلت له: لله علي أن أرد كل من جاء في طلبك، فادع الله لي أن يخرج فرسي. فدعا الله وخرجت فرسه وصدق في قوله فكان لا يجيء أحد من الطلب إلى رده ويقول: قد كفيتم ما هنالك.

ولما سمع أبو جهل بخبر سراقة بن مالك أخذ يلومه ويعنفه حيث لم يرده، فقال سراقة بن مالك مجيبًا له:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا
لأَمْر جوادي حين ساخت قوائمُهْ
علمت ولم تشككْ بأن محمدًا
رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومُهْ
وسار رسول الله في طريقه فمر بخيمتي أم معبد الخزاعي وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي الناس، فجاء رسول الله وأبو بكر فسألوها: هل عندك من لحم أو لبن نشتريه؟ فلم يجدوا عندها شيئًا، وقالت: لو كان عندنا من ذلك شيء ما أعوزكم القرى. وكان القوم مجدبين مسنتين، فنظر رسول الله إلى شاة في كسر خيمتها فقال: «مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟». فقالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: «هَلْ فِيْهَا مِنْ لَبَنٍ؟» فقالت: هي أجهد من ذلك. فقال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟». فقالت: إن كان بها حليب فاحلبها. فدعا رسول الله للشاة ومسحها وذكر اسم الله عليها فدرت واجترت. ودعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه حتى ملأه فشربوا عَلَلاً بعد نهل، ثم حلب فيه ثانيًا فغادره عندها ثم ارتحل. فجاء زوجها أبو معبد فسألها عن هذا اللبن فأخذت تخبره خبره وتقص عليه صفته وتقول: إنه مر بنا رجل مبارك صفته كيت وكيت، فاستقصت أوصافه، وقالت: له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا قوله، وإن أمر تبادروا أمره، وهو أحسن الثلاثة منظرًا. فقال: والله هذا صاحب قريش الذي تطلبه.

ودخل رسول الله ﷺ المدينة بعد الزوال فتنازعه القوم كلهم يريد أن ينزل عنده فقال: «سَأَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ» أخوال جده عبد المطلب ليكرمهم بنزوله عندهم، فنزل على أبي أيوب الأنصاري فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وصلى بالناس الجمعة، وهي أول جمعة صلاها بالمدينة، وأسس مسجد قباء، ثم ركب ناقته فجعلت قبائل الأنصار يعترضونه في طريقه كل منهم يطلب نزوله عنده ويقولون: هلمّ إلينا فعندنا العدد والمنعة. ورسول الله يقول: «خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» حتى أتت موضع مسجده الآن فبركت به ناقته.

ومن كريم شعر الأنصار في الهجرة قول قيس بن صرمة:
ثوى في قريش بضع عشـرة حجة
يذكر لو يلقى حبيبًا مؤاتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم يَر من يُؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقرت به النوى
وأصبح مسـرورًا بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جُلِّ مالنا
وأنفسنا عند الوَغَى والتآسيا
نعادي الذي عادى من‌الناس كلهم
جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا ربَّ غيره
وأن كتاب الله أصبح هاديا

* * *

[55] أخرجه الإمام أحمد من حديث جابر. [56] سيرة ابن هشام 1/321. [57] أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن عوف. [58] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث أنس. [59] سيرة ابن هشام 1/420، والحديث في الكبير للطبراني والدعاء له باختلاف يسير. [60] انظر زاد المعاد فصل الخروج إلى الطائف. [61] أخرجه البخاري من حديث جبير بن مطعم. [62] انظر أحداث الهجرة في سيرة ابن هشام والبداية والنهاية لابن كثير.

حديث العير والنفير

قال الكاتب: (ويكفي عن كل قول ودليل مجرد أن نذكر غزوة أو بداية غزوة، وذلك أن الرسول حين خرج لأخذ القافلة التي تحمل تجارة لقريش كان خروجه هذا للقتال ولم يكن في هذا نوع دفاع. ثم كان بعدها وقعة بدر بين المسلمين والمشركين، وهذا فيه دليل قوي على أن الخروج للقتال يعني الطلب، فالرسول وأصحابه لم يدافعوا عن أنفسهم في هذه الواقعة بل كانوا مبتدئين بالقتال طالبين للعدو).

وحروب الرسول ﷺ في خيبر وهوازن وحصاره للطائف حيث كان الرسول هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين وتحكيم الكتاب بينهم، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنه لم يسبق منهم ذلك إلا في نادر الأحوال. انتهى كلامه.

وأقول إن الكاتب رحمه الله تناول وقعة بدر وما ترتب عليها من خبر العير والنفير وهي وقعة مشهورة ويدرسها الطلاب في مدارسهم؛ لكونها وقعة مشهورة، فهم يعرفونها ويعرفون أسبابها تمام المعرفة، فلو سأل عنها أحد أولاده لأخبره أن قريشًا هم الأعداء الألداء والبادئون بالاعتداء على الرسول وأصحابه، فهم أئمة الكفر الذين قال الله فيهم: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ [التوبة: 12-13]. فسماهم الله أئمة الكفر من أجل أن الناس يأتمون بهم في اعتقاد الكفر والعمل على حسابه.

ثم أثبت سبحانه اعتداءهم على المؤمنين في ابتداء الأمر ونهايته إلى قوله: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ [التوبة: 13]، ففي هذه الآيات أوضح الدلالات على بداءتهم بالاعتداء في الابتداء على رسول الله وأصحابه، فكان رسول الله بمكة يأتيه أصحابه ما بين مجروح ومضروب، وقد توفيت سمية أم عمار تحت التعذيب في سبيل إسلامها، كما توفي زوجها ياسر من جراء ذلك، وكان رسول الله يمر عليهما وهما يعذبان ويقول: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»[63]. وكانوا يحمون الحجارة ويضعونها على بطن بلال وظهره ويقولون له: قل: واللات والعزى. فيقول: أحد أحد.

ومن المعلوم بطريق المقاضاة بالمثل أن المحاربين يتحينون الفرصة لمواثبة عدوهم ويغتنمون غرته وغفلته؛ لأن الحرب خدعة. وهذا واضح من فعل النبي ﷺ وأصحابه في هذه الواقعة، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق، كما أن الكبر يمنع من اتباعه. ومثل هذا لن يخفى على أحد غير أن الكاتب أراد أن يوجد دليلاً يثبت صحة ما ذهب إليه من أن الجهاد سببه الكفر وأن الكفار يقاتلون حتى يسلموا.

[63] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث محمد بن إسحاق مرسلاً.

وقعة بدر الكبرى

وحاصل القصة هو ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن رسول الله ﷺ لما سمع بأبي سفيان مقبلاً من الشام بعير قريش، فعند ذلك ندب المسلمين إليه وقال: «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا». فندب الناس فخف بعضهم للخروج وثقل بعضهم؛ لأنهم يظنون أن رسول الله لن يلقى حربًا، وكان أبو سفيان بن حرب حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار تخوفًا على الأموال التي معه حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان بأن محمدًا قد استنفر أصحابه لعير قريش، لهذا أخذ أبو سفيان الحذر وهو من السياسة والرياسة بمكان وبصحبة عمرو بن العاص، فاستأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة وأمره بأن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى حماية أموالهم ويخبرهم بأن محمدًا وأصحابه قد عرضوا لها لمحاولة أخذها، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة حتى وصلها وكان رجلاً خفيفًا حديد اللسان، فلم يرع قريشًا إلا صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره وقد جدع أنف بعيره وحول رحله، وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.

قال: فتجهز الناس سراعًا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمن غير ذلك. فخرجوا على الصعب والذلول.

قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش. فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.

قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخًا جليلاً جسيمًا ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء. قال: قبحك الله وقبح ما جئت به. قال: يا أبا علي، تجهز. واخرج مع الناس. هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.

وقد رواها البخاري على نحو آخر فقال: حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا شريح ابن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدثني عمر بن ميمون، أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقًا لأمية ابن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرًا فنزل على أمية بمكة، قال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت. فخرج به قريبًا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا الذي معك؟ قال: هذا سعد. قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا وقد آويتم الصبأة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا. فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى المدينة. فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. قال سعد: دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّهُ قَاتِلُكَ». قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك أمية فلما رجع إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنه قاتلي. فقالت: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.

فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك. فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ عبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة. ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني. فقالت له: يا أبا صفوان، أوقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا.

فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلاً إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر. وقد رواه البخاري في موضع آخر عن محمد بن إسحاق عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق.

وقال يونس عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين، وذكر المطعمين لقريش يومًا يومًا، وذكر الأموي أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرًا، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعًا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرًا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يومًا، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعًا، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذ عتبة ابن ربيعة عشرًا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه أبناء الحجاج عشرًا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرًا، ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرًا، ثم أكلوا من أزوادهم. قال الأموي: حدثنا أبو بكر الهذلي قال: كان مع المشركين ستون فرسًا وستمائة درع، وكان مع رسول الله ﷺ فرسان وستون درعًا.

هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر، وأما رسول الله ﷺ فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه، وكان جملة الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع لواءه إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، وبين يدي رسول الله ﷺ رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.

قال ابن هشام: كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. وقال الأموي: كانت مع الحباب بن المنذر.

قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرًا يعتقبونها، فكان رسول الله وعلي ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرًا، فقالا: نحن نمشي عنك يا رسول الله. فقال: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا».

ثم نزل مما ثار الخبر عن قريش واستشار الناس، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن المقال، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فقاتل ونحن نقاتل عن يمينك وشمالك.

قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرًا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنًّا لهما يستقيان فيه ومجد بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحضر وهما تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك. قال مجد: صدقت. ثم خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس.

فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ وأخبراه بما سمعا وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرًا حتى ورد الماء، فقال لمجد بن عمرو: وهل أحسست أحدًا؟ قال: ما رأيت أحدًا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما. ثم انطلقا فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعًا فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرًا بيساره وانطلق حتى أسرع.

قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا- وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثًا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا.

وكان الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليفًا لبني زهرة وهم بالجحفة فقال: يا بني زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جُبْنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد. أطاعوه وكان فيهم مطاعًا ولم يكن بقي من بطن قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحد. قال: ومضى القوم.

قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ونزل رسول اللهﷺ وأصحابه بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة.

قلت: وفي هذا قال تعالى: ﴿إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ [الأنفال: 42]؛ أي من ناحية الساحل ﴿وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا [الأنفال: 42]، وبعث الله السماء وكان الوادي دهسًا فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ماء لبّد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشًا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.

قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة وقد بات رسول الله ﷺ تلك الليلة يصلي إلى جذع شجرة هناك ويكثر في سجوده أن يقول: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ». يكرر ذلك ويلفظ به عليه السلام.

قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به، قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ». قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنحن نشرب وهم لا يشربون. فقال رسول الله ﷺ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».

ثم إن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد سابق كما قال سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ، وكان المشركون هم أول من بدأ بالهجوم على رسول الله وأصحابه حيث إن الأسود بن عبد الأسد هجم على الحوض الذي بناه المسلمون فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله، ثم نشبت الحرب بينهما، فنصر الله نبيه وجنده على المشركين فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وضربوا عليهم الفداء كل واحد بحسبه.

وقد استشار رسول الله ﷺ أصحابه في الأسرى فأشار أبو بكر قائلاً: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما نأخذه قوة لنا على قتال الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا عضدًا لنا. وقال: «مَا تَرَى يَا عُمَرُ؟». فقال: إني لا أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكنني من قريبي فلان، وتمكن عليًّا من قريبه فلان، وتمكن كل قريب من قريبه فنضرب أعناقهم حتى يعلموا أنه ليس في قلوبنا هوادة ولا مودة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فركن رسول الله إلى ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قاله عمر، فضرب عليهم الفداء كل أحد بحسبه ولم يقل لهم: إما أن تسلموا وإلا قتلناكم، بل سرحهم إلى أهلهم بشركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم بعد فتح مكة، ومنهم من دخل الإسلام قبل ذلك.

ثم إن الرسول وأصحابه غنموا ما عند قريش من الخيل والدروع والسلاح ورجع فلُّهم -أي بقيتهم- إلى مكة مكسورين حزينين، ومنعوا النياحة على قتلاهم اتقاء الشماتة، وكان الحجاج بن علاثة قد قتل له ابنان هما نبيه ومنبه فسمع صوتًا عاليًا فقال لجاريته: انظري ما هذا الصوت لعله نُفس عن الناس في ندب موتاهم حتى أبوح بما في صدري. فرجعت الجارية وقالت: يا سيدي، هذا صوت امرأة أعرابية قد انطلق بعيرها من عقاله فهي تندبه تريد رده. فتزفر وقال:
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها عن النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
ألا قد ساد بعدهم أناس
ولولا يوم بدر لم يسودوا

* * *

جواز الصلح والمعاهدة والمهادنة بين المسلمين والمشركين

إن دين الإسلام هو دين الصلاح والإصلاح يقول الله تعالى: ﴿۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ [النساء: 114].

فليس الدين بحرج ولا أغلال دون الكمال، ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٩٠ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ ٩١ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍ [النحل: 90-92].

ولا يزال الصلح والمعاهدة والمهادنة جاريًا بين المسلمين وبين أضدادهم من المشركين من لدن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين وأصحابه إلى سائر حكام المسلمين؛ لأن أحوال الأمم تدور بين السلم القريرة والحرب المبيرة والمداجاة الغفيرة؛ أي المهادنة مع العداوة.

ولا ينبغي أن ننسى إجراء الصلح من رسول الله مع قريش في صلح الحديبية عام ستة من الهجرة ونهايته، فإن فيه في ظاهر الأمر نوع هضم وضيم على الإسلام والمسلمين وفي عاقبته نصر من الله وفتح قريب.

وحاصله أن النبي ﷺ صالح مشركي قريش في صلح الحديبية على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءه مسلمًا رده إليهم، ومن جاءهم مرتدًا لم يردوه إليه، وعلى أن يرجع بأصحابه هذه السنة فلا يدخلون البيت، وكان هو وأصحابه قد أحرموا بالعمرة، وعلى أن من دخل في عقد الرسول وعهده فهو منه، ومن دخل في عقد قريش وعهدهم فهو منهم، فدخل في عقد الرسول وعهده خزاعة، فكانت عيبة نصح لرسول الله مسلمهم وكافرهم، ودخل في عقد قريش بنو بكر وغطفان والأحابيش، وكان متولي الصلح عن قريش هو سهيل بن عمرو. ولما قال الرسول: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». قال: لا تكتب رسول الله؛ فإننا لو نعلم أنك رسول ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله. فأمر النبي ﷺ عليًّا أن يكتب محمد بن عبد الله. وفي أثناء الكتابة جاء أبو جندل بن سهيل فارًّا بدينه من الشرك والمشركين فرمى بنفسه بين أصحاب رسول الله، فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيك عليه أن ترده علينا. فقال: «اتركه لي». فقال: لا. فأمر رسول الله برده، فعند ذلك وقع الاضطراب من الصحابة حتى جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: إنه عبد الله ورسوله ولن يضيعه فاستمسك بغرزه. ثم جاء عمر إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، ألم تقل لنا إننا داخلون البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، وهل قلت لكم: هذه السنة؟». قال: لا. قال: «فإنك ستدخل البيت وتطوف به». ثم إن رسول الله أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فتلكؤوا واستبطؤوا ظنًّا منهم أنه سينزل الوحي بخلع هدا العقد، فدخل رسول الله على أم سلمة فقال: «ألم تري إلى قومك أمرتهم أن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فاستبطؤوا». قالت أم سلمة: يا رسول الله، انحر هديك واحلق رأسك ولا تكلم أحدًا فإنهم سيتابعونك على فعلك. وفعلاً نحر هديه وحلق رأسه فتاوثبوا على ذلك طاعة له.

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في بيان الحكم والمصالح التي اشتملت عليها هذه المصالحة، وأن الله سبحانه هو الذي أحكم أسبابها، فوقعت بالغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده ورحمته، وسماها الله فتحًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ [الفتح: 1] - يعني صلح الحديبية- فمنها أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه حكمة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها. ومنها أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس آمن بعضهم بعضًا واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله له أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١، والمراد به صلح الحديبية. قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاء عظيمًا. وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية. وحقيقة الأمر أن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد رسول الله ﷺ وأصحابه عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين وفي الباطن عزًّا وفتحًا ونصرًا.

وكان رسول الله ﷺ ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم تتحملها عقول أكثر الصحابة ورؤوسهم، ورسول الله ﷺ يعلم ما في ضمن هذا المكروه من الأمر المحبوب، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.
وربما كان مكروهُ النفوس إلى
محبوبها سببًا ما مثله سببُ

* * *

وقعة خيبر

وأما قول الكاتب: (إن غزو النبي ﷺ وأصحابه لخيبر وقع ابتداء منه بدون أن يسبق منهم تعد بطريق الابتداء على الرسول وأصحابه. فهذا مما يحقق كون الجهاد المشروع هو الابتداء؛ أي الطلب لنشر دين الله وإعلاء كلمته).

وأقول: إن يهود خيبر مرتبطون بيهود المدينة في الحماية والنصرة وفي العهد وفي نقضه، وكانوا حلفاء لغطفان، تحارب غطفان لحربهم كما أن أهل خيبر يحاربون لحرب غطفان، قاله ابن كثير في البداية والنهاية، وقد غزا غطفان بمن معهم من أهل خيبر يوم الأحزاب حيث تحزبوا مع قريش وقبائل العرب والأحابيش، وذكر المؤرخون من أهل السير أن أهل خيبر هم أكبر من حرض قريشًا واليهود وغطفان على حرب رسول الله، ونقض يهود المدينة العهد الذي بينهم وبين رسول الله حيث ظنوا أن هذه الغزوة هي المستأصلة للرسول وأصحابه، وقد كبر الأمر على المسلمين حيث تحزبت جميع القبائل عليهم، وذلك عام خمسة من الهجرة وقد ضربوا على المدينة خندقًا يتقون به هجوم الأحزاب عليهم وقد أنزل الله سورة الأحزاب في شأنهم ومنها: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩ إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ١٠ هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١ إلى قوله: ﴿وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٢٥ [الأحزاب: 9-25].

لهذا غزا النبي ﷺ خيبر عام ستة من الهجرة، ولما قرب منها نزل في مكان بين خيبر وغطفان ليقطع صلة غطفان ونصرتهم لأهل خيبر، وقد استعدت غطفان حين سمعت بالخبر بالحرب مع أهل خيبر، لكن رجالها حينما سمعوا بأن العدو قد صبح أهلهم، نفروا لنصرتهم وتركوا أهل خيبر، ففتحها رسول الله وأصحابه. وقد بشرهم القرآن بفتحها وهم بين مكة والمدينة، قال سبحانه: ﴿وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةٗ تَأۡخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمۡ هَٰذِهِۦ وَكَفَّ أَيۡدِيَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ [الفتح: 20]، والمقصود أن رسول الله ﷺ لم يفتحها إلا بعد جهاد شديد، وقتال ضارٍ بين الفريقين، فكانوا مستحقين للقتال، ويعتبر قتالهم دفعًا لشرهم لكونهم محاربين لله ورسوله وعباده المؤمنين، والمحارب يُقاتل حيث وجد، يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧ [الأنفال: 57].

* * *

طريقنا في الدعوة إلى دين الإسلام

قلنا في دعوتنا إلى دين الله وإلى الجهاد في سبيل الله: إن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته أو يقطع السبيل في منع إبلاغها للناس، فإنهم بمنع إبلاغها يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين؛ لأن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19]، فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعوا أهلها إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة، فهذا غاية ما يبتغون وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على دمائهم وأموالهم، وقد فتح المسلمون كثيرًا من البلدان بهذه الصفة مما يسمى صلحًا، أما إذا نصبت لهم المدافع ووجهت نحوهم أفواه البنادق وسلت في وجوههم السيوف ومنع الدعاة منعًا باتًّا عن حرية نشر دعوتهم وعن الاتصال بالناس في إبلاغهم دين الله الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم، فإنهم يعتبرون حينئذ معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين، ويعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله وفي سبيل نشر دين الله، حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193]، وقال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 191]، وقال: ﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ [محمد: 4]، فقتالهم والحالة هذه هو في سبيل الله ولا يبالون بما أصابهم في ذات الله؛ لأن الله سبحانه قد اشترى من المؤمنين أنفسهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فهم يتمنون الشهادة في سبيل الله كما يتمنى أكثر الناس الحياة، لعلمهم أن لهم حياة أخرى هي أبقى وأرقى من حياتهم في الدنيا، وقد باعوا أنفسهم لله في سبيل الحصول عليها، يقول الله سبحانه: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١١ [التوبة: 111]، فهذا طريق دعوتنا إلى دين الإسلام.

وقد سُئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ». رواه البخاري ومسلم في حديث أبي موسى.

وحتى القتال في سبيل نصر المستضعفين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق يقول الله: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥ [النساء: 75].

وهذه وإن نزلت في المستضعفين بمكة الذين لم يستطيعوا الهجرة لكنها شاملة لكل من كان بصفتهم إلى يوم القيامة؛ لكون الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه؛ ولأن المسلمين متكافلون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، فمتى بغى عدو على المسلمين وجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره وكف شره.

هذا وإن الحروب بين المسلمين والكفار يكون لها أسباب تثيرها وأحوال تهيجها سوى ما ذكرنا، مما يدخل تحت الدفاع عن حقوق المسلمين لاعتبار أنهم متكافلون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فمتى همّ العدو الغاشم باغتصاب بلادنا أو شيء من حقوقنا أو أراد العدو الباغي استذلالنا أو العدوان على استقلالنا بقطع حرية دعوتنا إلى دين الله، فعند ذلك يجب أن نتحلى بحلية الشجاعة والقوة والعزة فنقاتل في سبيل ذلك حتى تكون حقوقنا محفوظة، وهذا من باب الدفاع عن الدين وكف الاعتداء عن المسلمين وعن بلادهم وأفرادهم حتى في غير بلاد المسلمين؛ لاعتبار أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، وحتى لو حصل الاعتداء عل كافر من أهل الذمة فإنه يجب الدفاع عنه بما نستطيعه من قوة.

وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة. وكل هذا من أنواع الجهاد بالدفاع الذي نعتقده ونؤمن بصحته.

ثم إن هذه المسألة تليدة الأصل وليست بوليدة هدا العصر، فقد وقع الخلاف فيها بين أئمة المذاهب قبل كل شيء؛ فذهب الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى أن سبب الجهاد هو المقاتلة؛ أي نقاتلهم عند قتالهم لنا أو منعهم نشر ديننا، وذهب الإمام الشافعي إلى أن سببه الكفر فيقاتلون حتى يسلموا، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة قتال الكفار قال: وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.

* * *

الفتح الأكبر الذي أعز الله به الإسلام ونصر وأذل به الباطل وكسر

قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٢ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا ٣ [الفتح: 1-3].

المراد بالفتح هنا هو صلح الحديبية لكونه انفتح به ما هو مغلق بين الرسول وأصحابه وبين كفار قريش. ولما نزلت هذه الآية قال الصحابة: هنيئًا مريئًا هذا لك يا رسول الله فما لنا؟ فأنزل الله: ﴿لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٥ [الفتح: 5]، حاصلها أنها لما اشتدت حالة الحرب بين الرسول وبين كفار قريش وقد كثر أصحاب رسول الله وقويت شوكتهم بتوفر عددهم وعدتهم، ففي السنة السادسة من الهجرة رأى رسول الله في منامه أنه وأصحابه يطوفون بالبيت محلقين رؤوسهم ومقصرين كما قال سبحانه: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا ٢٧ [الفتح: 27]؛ أي صلح الحديبية.

وكانت الحديبية عينًا تقع على حدود الحرم من جهة جدة ونزل رسول الله بأصحابه خارج الحرم وإذا أراد أن يصلي دخل حدود الحرم لمضاعفة ثواب الصلاة فيه.

فعزم رسول الله على العمرة وأنه سيقاتل المشركين إن صدوه عن البيت ودعا أصحابه إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعوه على الموت بأن لا يفروا، فأحرموا من ميقاتهم للعمرة واستنفر من حوله من الأعراب فاعتذروا قائلين: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. وذلك لظنهم أن الرسول وأصحابه لن يرجعوا سالمين، فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار وعددهم ألف وخمسمائة، وكان مع رسول الله زوجته أم سلمة وقلد الهدي معه ليعلم الناس أنه لم يأت للقتال وإنما جاء للاعتمار.

وبعد أن وصل إلى عسفان جاءه عينه فأخبره بأن قريشًا أجمعت رأيها على أن يصدوه عن دخول مكة وأن لا يدخلوها عليهم عنوة أبدًا، وتجهزوا للحرب، فبعد المراجعة بينهم وبين رسول الله اتفق رأيهم أن يرسلوا سهيل بن عمرو لإجراء عملية الصلح، فلما أقبل سهيل قال رسول الله: «قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» فبرزوا لعقد الصلح وكان الكاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال رسول الله: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». فقال سهيل: لا تكتب باسم الله، اكتب باسمك اللهم. ثم قال: «هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو». فقال: لا تكتب رسول الله فلو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال: «امْحُ رَسُولُ اللَّهِ، وَاكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ». والصلح على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءك مسلمًا رددته إلينا، ومن جاءنا منكم لم نرده عليكم، وعلى أنكم ترجعون عامكم هذا فلا تدخلون مكة حتى لا يتحدث الناس أنكم أخذتمونا ضغطًا، وفي العام القابل تعتمرون بالسيوف في القرب، وفي أثناء الكتابة جاء أبو جندل فارًّا بدينه من مكة فرمى بنفسه بين المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيكم على رده. فطلب رسول الله أن يسمح له به فأبى، فأمر رسول الله برده إليه.

وبعدما تم عقد الصلح أمر رسول الله أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فتلكؤوا ووقع الاضطراب بينهم عندما رأوا أبا جندل مردودًا إلى الكفر، قالوا: يا رسول الله، كيف من جاءنا مسلمًا نرده إليهم ومن جاءهم مرتدًا منا لا يردونه إلينا؟ فقال رسول الله: «إِنَّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَمَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا فَأَبْعَدَهُ اللهُ». ثم جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا! فقال: إنه رسول الله فاستمسك بغرزه. ثم جاء إلى رسول الله فقال له مثل ذاك وقال: ألم تقل لنا إنكم ستأتون البيت وتطوفون به فلماذا نرجع عنه؟ فقال: «هل قلت لكم: هذه السنة؟». قال: لا. قال: «فإنكم ستأتونه وتطوفون به». وكان رسول الله قد رأى في منامه أنهم يدخلون البيت ويطوفون به فأخبر أصحابه بذلك فظنوا أن هذا أمر واقع لهذه السفرة وهذا في قوله: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا ٢٧ [الفتح: 27][64].

وفي الصلح أن من دخل في عقد رسول الله وعهده فإنه منه ومن دخل في عقد قريش وعهدها فإنه منهم، فدخل في عقد رسول الله خزاعة ودخل في عقد قريش بكر وغطفان، فنحر رسول الله هديه وحلق رأسه وتتابع الصحابة على ذلك وحلوا من إحرامهم ورجعوا إلى المدينة، ثم إن قريشًا مع من أعانهم من عرب الحجاز ونجد هجموا على خزاعة في حال غفلة منهم فقتلوهم، وبذلك انتقض عهدهم وعزم رسول الله على غزوهم وقال: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[65]. فلما عزم على الخروج كتب حاطب بن أبي بلتعة إليهم يخبرهم بعزم رسول الله على غزوهم وقال في كتابه: يا معشر قريش، إن محمدًا قد عزم على غزوكم بجيش كالسيل يختفي بالنهار ويسير في الليل، والله لو جاءكم وحده لنصره الله عليكم، فانظروا في أمركم، والسلام. وأرسل الكتاب مع امرأة فنزل الوحي بخبرها.

وأرسل عليًّا والمقداد لذلك وقال: «إنكم ستأتون امرأة ظعينة بروضة خاخ ومعها كتاب، فخذاه منها». فوجدوها كما وصفها رسول الله في روضة خاخ، فقالا: هات الكتاب. فقالت: ليس معي كتاب. فقالا: والله لتخرجن الكتاب أو لنجردن الثياب. فأخرجت لهما الكتاب من عقاص شعرها، قال رسول الله لحاطب: «ما حملك على ذلك؟». فقال: والله ما فعلته ردة عن الإسلام وما من أحد من قريش إلا وله قرابة يحمون ما له، وليس لي أحد، فأردت أن أجعلها يدًا عندهم يحمون بها ما لي. فقال رسول الله: «قد صدقكم». فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[66]. فصار صلح الحديبية الذي كرهه أكثر المسلمين ويرون أن فيه غضاضة وهضمًا للمسلمين عاقبته فتحًا ونصرًا مبينًا، وبه فتح الله مكة لرسوله فدخلها رسول الله والمسلمون عنوة وسلاح أهلها بأيديهم مستعدين لحرب رسول الله وأصحابه، فوسع نطاق الأمن للناس وقال: «من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن»[67]. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة ولما سمعه يرتجز في تمنيه للقتال ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الكعبة، أخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس وقال للصحابة: «إنه سيلقاكم أوباش قريش فإياكم أن تحصدوهم». وكان رجل يصلح سلاحه لمحاربة رسول الله وأصحابه وعنده زوجته قالت له: ما أرى أحدًا يقوم لمحمد وأصحابه. فقال: إني أرجو أن أخدمك أحدهم. ثم أخذ يرتجز ويقول:

إن يقبلوا اليوم فما لي عِلَّهْ
هذا سلاح كامل وألَّهْ
وذو غرارين سريع السلَّهْ
ثم أخذ سلاحه وخرج ثم رجع سريعًا مذعورًا، وقال لزوجته: أغلقي عليَّ الباب. قالت له: ما أسرع ما رجعت! فأخذ ينشد:
إنك لو رأيت يوم الخندمهْ
إذ فر صفوان وفر عكرمهْ
واستقبلتنا بالسيوف المسلمهْ
يقطعن كل ساعد وجمجمهْ
لهم نهيت خلفنا وهمهمهْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمهْ
ولما دخل النبي ﷺ مكة مؤيدًا منصورًا ومحشودًا محفودًا، ورأى النساء يصرخن بالبكاء ويرمين خمرهن في وجوه الخيل خوفًا على أولادهن وأزواجهن من القتل، التفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر فقال: «ما يقول حسان في مثل هذا؟». قال: يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
يلطمهن بالخمر النساء
ثم إن رسول الله وسع مجال الأمان للناس فقال: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ». فوضعوا كلهم سلاحهم وصدق عليهم قول الشاعر:
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَبْ
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
ولما دعا والسيف صلتٌ بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ثم إن رسول الله ﷺ جمع قريشًا، فقال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟». فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. فقال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[68]. وسموا الطلقاء من يومئذ، وهم مسلمة الفتح، ولم يقتل منهم سوى أفراد يعرف أن بقاءهم يفسد بقيتهم، منهم عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على رأس رسول الله وهو ساجد، ومنهم النضر بن الحارث الذي كان يهجو رسول الله بشعره، ولما أعلن لهم بالعفو الشامل قام أبو سفيان بن حرب فأنشد أبياتًا منها:
لعمرك إني حين أحمل راية
لتغلب خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليلُهُ
فهذا أواني حين أُهْدَى فأهتدي
هداني هادٍ غير نفسـي ودلني
على الله مَن طرّدتُه كل مطردِ
فضرب رسول الله ﷺ صدره وقال له: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ».

ثم إن رسول الله ﷺ ترك أهل مكة على حالتهم وعلاَّتهم ولم يثبت التاريخ أنه سأل واحدًا منهم عن إسلامه، بل تركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم ورغبتهم وصدق عليهم قوله سبحانه: ﴿۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧ [الممتحنة: 7].

وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ١٠٨ [يونس: 108]. ولو كان قتال الكفار مشروعًا حتى يسلموا لوجب أن يميز النبي ﷺ بين من أسلم فيستبقيه وبين من أصر على كفره فيقتله.

وبعد فتح مكة أخذ الناس يدخلون في دين الإسلام أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين لكون عرب الحجاز ونجد قد استأنوا بإسلامهم فتح مكة، وقالوا: إن كان محمد رسولاً فسيظهر على قريش ويفتح مكة، وإن لم يكن رسولاً فستظهر عليه قريش ويقتلونه. ولما فتح الله عليه مكة أقبلت وفود العرب من كل فج عميق يظهرون إسلامهم، وأنزل الله سبحانه: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [سورة النصر]. وفي هذه السورة إشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ.

* * *

[64] حديث صلح الحديبية في البخاري وأحمد وغيرهما من حديث البراء. [65] سيرة ابن هشام 2/394. [66] الحديث في البخاري -وغيره بألفاظ متقاربة- من حديث علي. [67] زاد المعاد، فصل في الفتح الأعظم. [68] سيرة ابن هشام 2/412.

غزوة هوازن يوم حنين

قال الكاتب: (إن حروب الرسول ﷺ وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف وكذلك الغزوات الأخرى حيث كان الرسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال).

وأقول: سبحان الله ما أغفل هذا الكاتب عن سبب مثار هذه الغزوة وبداءة الاعتداء من زعيم هوازن مالك بن عوف حيث زحف بالجنود من العرب الذين اتبعوه، فزحف بهم من عوالي نجد وأهلهم وعيالهم معهم للحفيظة والمصابرة على القتال، حتى وصل بهم إلى حنين وهو المكان المعروف بين مكة والطائف؛ لقصد أن يفاجأ النبي وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب، لظنه أن المغلوبين من أهل مكة سيكونون عونًا له على قتال الرسول وأصحابه، وقد خاب سعيهم فيما يؤملون وحيل بينهم وبين ما يشتهون.

فجهاد رسول الله لهم هو حقيقة في دفع شرهم مع العلم أنهم من الأعراب الذين قال الله فيهم: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ [التوبة: 97].

قال الله تعالى: ﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٦ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٧ [التوبة:25-27].

وقد ذكر ابن إسحاق في كتابه أن خروج رسول الله ﷺ إلى هوازن بعد الفتح في الخامس من شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم بخمس عشرة ليلة، وهكذا روي عن ابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير، واختاره أحمد وابن جرير في تاريخه.

وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إلى هوازن لست خلون من شوال، فانتهى إلى حنين في عاشره. وقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة. فانهزموا، فكان أول من انهزم بنو سليم ثم أهل مكة ثم بقية الناس.

قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وفتحه مكة، جمعهم زعيمهم مالك بن عوف النضري فاجتمع إليه من هوازن ثقيف كلها واجتمعت نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شيخًا مجربًا.

وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النضري، فلما أجمع السير إلى رسول الله ﷺ أحضر مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك. ودعي له، قال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن، والله هل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: أين كعب وكلاب؟ قال: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران. ثم قال: يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم الق الصبأة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك. ثم قال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، قالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.

فلما سمع بهم نبي الله ﷺ بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيسمع منهم ويعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وسمع من أمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فلما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وسلاحًا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك قال: «يَا أَبَا أُمَيَّةَ، أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَى فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا». فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ قال: «بَلْ عَارِيَةٌ، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ». فقال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله ﷺ سأله أن يكفيهم حملها، ثم خرج رسول الله ﷺ معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة وكانوا اثني عشر ألفًا، واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرًا، ثم مضى يريد لقاء هوازن.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارًا. قال: وفي عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضائقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد، وانحاز رسول الله ﷺ ذات اليمين، ثم قال: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ».

وبقي مع رسول الله ﷺ نفر من المهاجرين وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.

قال: فاجتلد الناس. قال: فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله ﷺ. قال ابن إسحاق: ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول اللهﷺ من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الطعن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الجنيد -وقال ابن هشام: صوابه كلدة- الآن بطل سحر محمد. فقال صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركًا: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن.

وذكر ابن سعد أن شيبة بن عثمان الحجي قال: لما كان عام الفتح دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة، قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا، وكنت مرصدًا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله ﷺ عن بغلته فأصلتُّ السيف فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه فرُفِع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمتحشني فوضعت يدي على بصري خوفًا عليه، فالتفت إلي رسول الله ﷺ فناداني: «يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي». فدنوت منه فمسح صدري ثم قال: «اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ». قال: فوالله لهو ساعتئذ كان أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي. ثم قال: «ادْنُ فَقَاتِلْ» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله أعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيًّا لأوقعت به السيف. فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون، فكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول اللهﷺ فاستوى عليها وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه، ما دخل عليه أحد غيري حبًّا لرؤية وجهه وسرورًا به، فقال: «يَا شَيْبُ، الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لَنَفْسِكَ». ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت: استغفر لي. فقال: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ».

وقال ابن إسحاق: وحدثني الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: إني لمع رسول الله ﷺ آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرأ جسيمًا شديد الصوت، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول حين رأى ما رأى من الناس: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟». قال: فلم أر الناس يلوون على شيء. فقال: «يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ». فأجابوا: لبيك لبيك. قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة واستقبلوا الناس، فاقتتلوا، فكانت الدعوة أول ما كانت: يا للأنصار، ثم خلصت أخرى: يا للخزرج، وكانوا صبرًا عند الحرب، فأشرف رسول الله ﷺ في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، قال: «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ». وزاد بعضهم أنه قال:
أنا النبي لا كذبْ
أنا ابن عبد المطلبْ

* * *

حصار النبي ﷺ للطائف

وأما حصار النبي ﷺ للطائف حيث ذكر الكاتب أنه ابتداء بالاعتداء من النبي بدون سبق اعتداء منهم عليه، وهذا إنما نحمله على الجهل الواقع من الكاتب لعدم الفقه بأحكام غزوات النبي ﷺ.

وقد ابتلي الكاتب بقلب الحقائق في المعقول والمنقول حتى تسلط بالتحريف على غزوات الرسول، ومن الواجب على العالم العاقل متى تصدى لتأليف أي كتاب فيما يرجو به النفع للإسلام والمسلمين أن يكون لديه مؤهلات علمية واسعة يعرف بها الحق بدليله، ويميز بين صحيحه وعليله، فيتضح له الطريق ويتمكن من إبراز دلائل التحقيق، فإن العلم الصحيح هو سلاح الدنيا والدين، والواقي عن الوقوع في الخطأ المهين، حتى لا يتعدى بجريمة الخطأ على الدين، ولا على رسول رب العالمين، ولا على علماء المسلمين المؤلفين.

فنسبة الابتداء بالاعتداء من الرسول على هوازن والطائف وقريش في بدر وغيرها، كل هذا يُعد من الخطأ المبين، ولا ننسب استباحة القول به على التعمد منه، وإنما نشأ عن نقص العلم وقصور الفهم، فهو يطعن في الدين من حيث يحاول نصره، ويضره من حيث يريد نفعه، وهو في الحقيقة لا الدين نصر ولا الباطل كسر.
ويسألني عن علتي وهو علتي
عجيب من الأنباء جاء به الخبر
ومن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.

أما حصار النبي ﷺ للطائف فإنهم البادئون بالاعتداء عليه في بداية الأمر ونهايته، فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين ويستحقون القتل والقتال لثلاثة أمور:

أحدها: أن النبي ﷺ سافر إليهم قبل هجرته إلى المدينة لنشر دين الله وليطلب منهم أن يؤووه لتبليغ رسالة ربه، وأقام عندهم -فيما قيل- عشرة أيام يتردد على الرؤساء والأكابر، ثم تمالؤوا عليه بينهم وقالوا: إنه يريد أن يسفه أحلامنا ويفسد أولادنا. فأرسلوا عليه سفهاءهم فأخذوا يرمونه بالحجارة ورؤساؤهم يضحكون من فعلهم به، وكان زيد بن حارثة يقيه ببدنه من وقوع الحجارة لتقع فيه دونه، حتى رجع النبي ﷺ عنهم كئيبًا حزينًا، وهذا نوع من بداءتهم بقتاله.

الأمر الثاني: أن ثقيف أهل الطائف شاركوا هوازن في حرب رسول الله يوم حنين، وعندما نصر الله نبيه وأصحابه فروا إلى بلدهم فغزاهم النبي ﷺ بعد فراغه من هوازن لقول الله سبحانه: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ [البقرة: 194]. وهل غزوهم في بلادهم لمشاركة هوازن في حرب الرسول وأصحابه إلا صريحٌ في الابتداء بالاعتداء حنقًا منهم على الرسول في فتحه مكة وهي عداوة تليدة؟

الأمر الثالث: أن النبي ﷺ لما أقبل على أهل الطائف يريد أن يدعوهم إلى دين الله راجيًا أن يكونوا كأهل مكة في استجابة دعوته وعدم مقاتلته برزوا لقتاله، فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدبابة، فكانوا يرمونه بنبال الحديد المحماة بالنار من فوق السطوح ومن وراء الحيطان حتى قتلوا سبعة من أصحابه، فانصرف عنهم النبي ﷺ وتركهم.

فكل واحدة من هذه الثلاث تستوجب قتلهم وقتالهم كسائر المحاربين لله ورسوله وعباده المؤمنين، فما بالك باجتماع الثلاث فيهم؟ وكل ما ذكرنا فإنه من العلم الذي اتفق عليه سائر علماء السير والمؤرخين.
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهمُ
فكل غزوات الرسول صريحة في كف العدوان عن الدين وعن عباد الله المؤمنين كما سبق في غزو هوازن لحربه، حيث زحف ملكهم بجنوده من عوالي نجد بمن معه من قبائل العرب حتى نزل بحنين القريبة من مكة لقصد الهجوم على الرسول وأصحابه، لظنه أن المغلوبين من أهل مكة سيساعدونه، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا.

والحاصل أن النبي ﷺ في غزواته كلها إذا قاتل فإنما يقاتل لرد العدوان على الدين أو على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين، حتى ما يبدو للناس من بعض غزواته أنها وقعت ابتداء بما يسمى الطلب، فإنه بالتحقيق يتبين أن لها سببًا من اعتداء المشركين عليه كغزوة بني المصطلق، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون يسقون مواشيهم على مياههم. قد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن إسحاق: أنه بلغ رسول الله أن بني المصطلق يجمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع بهم رسول الله خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل، وذلك في شعبان سنة خمس من الهجرة. فهذه القصة تثبت الابتداء بالاعتداء من بني المصطلق على النبي ﷺ وإن لم يتم لهم أمرهم لكون النبي عاجلهم قبل أن يفاجئوه؛ لاعتبار أنهم قد أعلنوا بحربه والمحاربون يقاتلون على أي حال وجدوا.

* * *

فصل [فصل في الرد على صاحب الكتاب]

قال الكاتب: (إن الذين يحاولون تغيير واقع الحال وتبديل الحق بعد مشاهدته بالعيان يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون. بيد أنه هنا يصعب جدًّا إنكار هذا الظاهر، فما معنى هجر الأوطان والأولاد وطلب المشركين والكفار في ديارهم النائية إن لم يكن معنى الجهاد بأوسع معانيه؟).

إن الذهاب لنشر هذا الدين والخروج من أجل ذلك لا يحصر الجهاد بالدفاع فقط. وإن طبيعة الجهاد في الإسلام هي المبادأة بالقتال، إذ ما معنى الدفاع هنا واللغة العربية قد حددت له مفهومًا لا يتعداه من حيث العموم؟ انتهى.

وأقول: إن الكاتب لما فسد تصوره للجهاد بالدفاع حيث وصفه بنطاح البهائم قائلاً: إننا إذا قلنا بالدفاع في الجهاد فما الفارق بين الإنسان وبين سائر الحيوان الذي همه أن يدافع عن نفسه لا غير. انتهى كلامه.

فمتى كان هذا اعتقاد الكاتب في صفة الجهاد بالدفاع فلا غرابة في القول منه بإنكاره، ثم التحامل بالملام وتوجيه المذام على من قال بصحته؛ لأنه متى ساء الفهم فسد التعبير وساءت النتيجة، فتراه يقول (ص116): إن جهاد الصحابة ومن بعدهم في القرون المفضلة يدل دلالة واضحة على أن قتالهم كان لإعلاء كلمة الله في الأرض والسماء، ولا يمكن ذلك ولا يعقل أبدًا إلا إذا كان جهادهم لطلب العدو ومن أجل إسلامه ودخوله دين الإسلام. انتهى كلامه.

ونقول: إنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أكره أحدًا على الإسلام لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا المكره، وقد فتح مكة ولم يكره أحدًا منهم على الإسلام بعد قدرته عليهم، بل قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[69]. حتى دخلوا في الإسلام من تلقاء أنفسهم طائعين مختارين.

وقد غزا بعض قريش معه هوازن وهم على شركهم، منهم صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان الحجبي وغيرهما.

وقد جعل الصحابة هذا الفتح بمثابة الدستور الذي يسيرون عليه في أدب فتوحهم للبلدان. ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم خرجوا من بلادهم وفارقوا أهلهم وأولادهم لنشر هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض والسماء وليس جهادهم مقصورًا على القتال بالطلب حسبما يدعيه الكاتب؛ إذ الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الله ونصر دينه، والتبشير به والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجدال المخالفين بالتي هي أحسن، وقد شرط العلماء في الجهاد بالقتال تقدم الدعوة عليه، إذ الجهاد بالقتال هو من الضرورات التي شرعت لجلب المصالح ودفع المضار، فهو آخر ما يستعمل من وسائل الجهاد على حد ما قيل: آخر الطب الكي.

وقد قلنا فيما سبق: إن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين ونشره والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19]، فمتى أقبل دعاة الإسلام والمسلمين إلى بلد ليدعوا أهله إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة والاتصال بمن يرغبون هدايته، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم. وقد فتح الصحابة كثيرًا من البلدان بهذه الصفة أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان.

أما إذا نصبت لهم المدافع ووجهت نحوهم أفواه البنادق، وسلت في وجوههم السيوف، ومنع الدعاة منعًا باتًّا من حرية نشر الدعوة، ومن الاتصال بالناس في إبلاغها، ودعوة الناس إلى دين الله الذي فيه سعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم، فمتى منعوا ذلك، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بمنعهم الخلق عن سماع الحق واتباعه، وبذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله وفي سبيل إبلاغ دين الله حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ [البقرة: 193]، نظيره قوله: ﴿... فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢ [البقرة: 191-192]، فتضمنت هاتان الآيتان من سورة البقرة الغاية من انتهاء القتال وهو أننا نقاتلهم حتى يكفوا عن فتنتنا في ديننا، كما كانت قريش تفتن كل من آمن، وحتى يكفوا عن قتالنا فنكف عن قتالهم و «حتى» لانتهاء الغاية بحيث يكون ما بعدها نقيضًا لما قبلها، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا. لكون الإسلام هداية اختيارية لا إكراه فيها بنص القرآن في قوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ [البقرة: 256]، وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99].

فكل ما يسمعه الناس ويثبته التاريخ من وقوع القتال بين الصحابة زمن الخلفاء الراشدين وبين الكفار في فتوح البلدان كمصر والشام والعراق وبلدان فارس وغيرها، فهذا القتال إنما يقع خارج البلدان حين يخرج أهلها إلى الصحابة بقواتهم وسلاحهم لصدهم عن دخول البلد ومنع نشر الإسلام بها، وبذلك تنعقد أسباب القتال ويعتبر هذا القتال جهادًا بالدفاع؛ لدفع شرهم وعدوانهم، ومتى نصر الله المسلمين عليهم ودخلوا البلاد فإنهم يضعون السلاح ويمنعون القتل ويأخذون في نشر الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلك يعتبر المسلمون دين الله هو الظاهر فلا يعاقبون أحدًا على عقيدته بل يعظونه بالحكمة والموعظة الحسنة، يقول الله تعالى: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48]، وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَا [يونس: 108].

والمقصود أن العرب المسلمين من الصحابة والتابعين خرجوا من جزيرتهم وفارقوا أهلهم وأولادهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فالقرآن بأيديهم يتلونه ويدعون إلى العمل به. ففتحوا الكثير من البلدان بالقرآن أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيّرتهم إلى ما صاروا إليه من عزة ومنعة وعرفان.

وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55]، وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار.

فهدى الله بهم وبدينهم ودعوتهم أعظم شعوب الأمم من النصارى والعجم فأسلموا وحسن إسلامهم، ونظموا في بلدانهم دولة عربية مسلمة كانت سعادة البشر كلها، وكانت زينة الحياة في العلوم والفنون والحضارة والعمران. وإنما كانوا يفضلون غيرهم بصلاح أرواحهم التي يتبعها صلاح أعمالهم؛ وذلك أن المسلم العربي يتولى حكم ولاية أو بلد وهو لا علم عنده بشيء من قوانين الحكومة ولم يمارس أساليب السياسة ولا طرق الإدارة، فيصلح الله به تلك الولاية، فيزيل فسادها ويحفظ أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من أموالها ومظالمها، وإنما يخرج من عمله بثوبه الذي دخل به، فيسعد الله به رعيته، لكون النفس متى صلحت أصلحت كل شيء، وإذا فسدت أفسدت كل شيء.

وإن أكبر عامل ساعد الصحابة والتابعين على فتح البلدان وتوسع الناس في الدخول في الإسلام في كل مكان، هو تأثر الأمم بسماع القرآن خصوصًا بعدما تعلموا اللغة العربية التي بها بلاغة القرآن، إذ كانوا يتلونه ويسمعونه في صلاتهم المفروضة، وتجدهم ينقلونه من بلد إلى بلد، فسرعان ما دخلت محبة دين الإسلام في قلوب الخاص والعام، فأيقظ الأنفس من غفلتها وجهالتها، وطهرها من خرافات الوثنية المستعبدة لها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، إن الله لذو فضل على العالمين.

* * *

[69] سيرة ابن هشام 2/412.

حروب الصحابة لفارس والروم

وأما حروب الخلفاء الراشدين لفارس والروم فقد اشتبه أمرها على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين بما فهموه من بعض الآيات وبعض الغزوات والسرايا، مما يوهم أن المسلمين هم البادئون بالحرب لسائر الأمم وخاصة حروبهم في فتح البلدان زمن الخلفاء الراشدين، فيظنون كل الظن أنه هجوم محض، وخفي عليهم سبب بداءة الحرب بينهم وبين المشركين، وبينهم وبين فارس والروم بتسلط النصارى على المسلمين بقتلهم كل من أظهر إسلامه في سائر البلدان التي سيطروا عليها في الشام وغيرها، فهذا وإن ظنه بعض الناس هجومًا لكنه حقيقة دفع لشرهم.

إن الغرض من الحرب ونتيجتها هو دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن وعبادة المسلمين ربهم آمنين في دينهم ووطنهم، وإعلاء كلمة الحق ودعوة الدين وتنفيذ شريعة الله. وكل هذا تعود مصلحته إلى البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، إذ هو دين الله لكافة البشر والذي قال الله فيه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19]. وقال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3].

إذ لولا هذا القتال الذي شرعه الله ﴿لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 40-41].

ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته.

أما حروب الصحابة لفارس والروم فإن الأصل فيها أنها لما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة على الإسلام وعلى التمسك به، والعمل بموجبه، صار أولئك الجيران أعداء لكل من أظهر الإسلام فيؤذونهم ويضربونهم. وقد قتل النصارى بعض من أسلم من المسلمين بالشام، فهم بدؤوا بحرب المسلمين بغيًا وظلمًا. والمسلمون متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، فيجب الدفاع عن أفرادهم كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلدانهم، فيقاتلون في سبيل ذلك حتى تزول الفتنة عن الدين وعن المؤمنين المستضعفين. فأرسل رسول الله سرية أمّر عليهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون مع النصارى، بمؤتة من أرض الشام.

وكان جيران جزيرة العرب من الروم بالشام ومصر وفارس والعراق اعتدوا على بعض من أسلم من المسلمين، فأخضعوهم لسلطانهم وكانوا يكتبون لبعض المسلمين يدعونهم إلى دينهم، كتبوا لكعب بن مالك لما هجره رسول الله على تخلفه عن غزوة تبوك. وكان الصحابة يترقبون هجوم غسان عليهم - وهم ملوك الشام - لما بلغهم أنهم ينعلون الخيل لغزوهم، حتى أصيبت المدينة بالخوف الشديد من ترقب هجومهم، وعند ذلك أمر النبي ﷺ بغزوة تبوك لما بلغه أن الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة بالشام وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين، وساعدهم على ذلك متنصرة العرب. ولهذا أمر النبي ﷺ بالخروج في ذلك الوقت الحرج، وكان المسلمون في شدة من العسرة والمجاعة وانقطاع الظهر ولذا سميت غزوة العسرة، وهي الغزوة التي ظهر فيها صدق المؤمنين ونفاق المنافقين. وقد أرسل النبي ﷺ شجاع بن وهب الأسدي بكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام.

وكانت غسان هم ملوك عرب الشام وكانوا حربًا لرسول الله، قال شجاع: فوجدتهم ينعلون خيولهم لمحاربة رسول الله وأصحابه: فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقدوم قيصر، وقد أقبل من حمص إلى إيلياء (القدس)، قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، قلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه. قال: إنك لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه وكان روميًّا يسألني عن رسول الله، فكنت أحدثه عنه وما يدعو إليه، فيرق قلبه حتى يغلب عليه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أومن به وأصدقه لكني أخاف من الحارث أن يقتلني متى علم بإسلامي.

قال شجاع: وخرج الملك -أي الحارث الغساني- يومًا فجلس فوضع التاج على رأسه وأذن لي بالدخول عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه ثم رمى به كالكاره له وقال: من ينزع مني ملكي؟ وقال: إني سائر إلى صاحبك ولو كان باليمن.

ولم يزل تعرض عليه الخيول ويأمر أن تنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره بخبري وما عزم عليه من غزو الرسول وأصحابه، وأجابه قيصر وقال: لا تسر ولا تعبر إليه واله عنه. فلما جاءه كتاب قيصر دعاني فقال: متى تريد أن ترجع إلى صاحبك؟ قلت: غدًا. فأمر لي بمائة مثقال ذهبًا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال حاجبه: اقرأ على رسول الله مني السلام. فقدمت على رسول الله وأخبرته خبره، قال رسول الله: «بَادَ مُلْكُهُ».

من المعلوم أن فارس والروم كانتا أمتي حرب وقتال، ولديهما الاستعداد التام بالعدد والعتاد وقد ضربتا بجرانيهما على ما جاورهما من بلاد العرب، وسعيا سعيهما في إضلال العرب وإفساد دينهم، وفي تنكرهم لرسول الله وعدم إجابتهم له. والعرب مستذلون تحت سلطانهم وسيطرتهم، ولم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بعد الإسلام.

فلما علما بإسلام العرب أخذا يعملان عملهما في التضييق عليهم وتعذيبهم كي يرجعوا عن دينهم؛ لأنه ساءهما دخول أكثر العرب الإسلام، وخشوا صولة الدين عليهما مما يخافان أن يقوض ممالكهما، فكان كل منهم يهدد دعوة الإسلام في بلاده وبجواره ويمنعون أشد المنع من نشرها في بلادهم، وكانوا يؤذون كل من يظنون أنه أسلم، فكانت حرب الصحابة كلها لأجل حماية الدعوة وحماية المسلمين من تغلب القوم الظالمين، لا لأجل الإكراه على الدخول في الدين.

إن التنازع بين الناس في مرافق الحياة ووسائل المال والجاه والسلطان كله غريزة من غرائز البشر، وقد يقضي التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات كما هي عادة البشر من قديم الزمان، وقد يكون التنازع والتقاتل لسبب تملك الأقطار واتساع العمران وتسخير الناس للسلطة الظالمة والسلطان الجائر، فيكون ضرره كبيرًا وشره مستطيرًا، أما القتال المذكور في القرآن وفي سيرة الرسول وخلفائه وأصحابه فإنه مبني على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة للبشر كلهم، فما كان النبي ﷺ يطلب بالقتال ملكًا ولا مالاً ولا سلطانًا، وقد عرض عليه رؤساء قريش كل ذلك على أن يكف عن دعوته فلم يقبل، وإنما يطلب أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر. وكان قتاله ودفاعه في سني الهجرة دفاع الضعيف للقوي إلى أن أظفره الله وأظهره على قريش بفتح مكة عنوة.

إن المسلمين في دعوتهم لأمتي فارس والروم لم يستعملوا القوة في بداية أمرهم، وإنما كانوا يطلبون من الممتنعين أن يسمحوا لهم بنشر دين الله في بلادهم، دين الحق، دين جميع الخلق والذي أوجب الله أن ينذروا به ويبلغوه جميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام:19]، فهم ينذرون ويحذرون ويبشرون بقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 15-16]؛ لأنه دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة والناس ينصاعون لاستجابة دعوته، ومن لوازمه تقويض دعائم ملكهم وسلطانهم، وحتى النصارى في هذا الزمان فإن أشد ما يقع بأسماعهم هو الدعوة إلى الدين.

وهذه غاية القتال لأهل الكتاب المشار إليها بقوله تعالى: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩ [التوبة: 29].

إن قيام الإسلام إنما هو بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع على بلدان العالم إنما هو بموافقته للفطرة والمصلحة، ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19]، ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]، فكان الصحابة في فتوحهم لا يتقدمون خطوة إلا والدعاة أمامهم يبينون للناس حقيقة الإسلام وما يترتب عليه من الفضل في الدنيا والسعادة في الآخرة، وبسبب هذا القتال في سبيل الله وفي سبيل حرية الدعوة حصل ما ترتب عليها من الفتوح للأقطار وسائر الأمصار حتى انتشر فيها الإسلام وصار أكثر النصارى من الأمم حنفاء لله يعبدونه ولا يشركون به شيئًا.

ثم إن المسلمين عاملوا من دخل تحت سلطانهم معاملة حسنة بمقتضى العدل والإنصاف، حيث ساووهم بأنفسهم في جميع معاملات الحياة وأقاموا أنفسهم مقام الحماة لهم دون دمائهم وأموالهم، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، ولا لمعابدهم ومقدساتهم. وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وهذا مما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الشك والجدل، ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩ [المائدة: 19]، ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤ [آل عمران: 64].

وحيث أمر الله بإبلاغ القرآن والإنذار به والدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن، فمتى منع المسلمون من ذلك وهدد الدعاة أو منعوا من نشر دعوتهم في البلاد، فإن المانعين لهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بقطع سبيل الدعوة إلى ربهم وإلى ما فيه صلاحهم وصلاح البشر كلهم، بسبب منعهم عن نشر دين الله في بلادهم، فعند ذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل نشر دين الله، فيقاتلون في سبيل الله دفعًا لشرهم، فإن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والفتنة فيه أشد من القتل، يقول الله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193].

فالإسلام لم يدع إلى قتال الكفار إذا هم أذعنوا ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشركهم ولا تشكيكهم ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن أجابوا الدعوة قبل منهم، وإن امتنعوا طلب منهم الجزية وهي نزر حقير ترمز لخضوعهم للإسلام وارتباطهم بعهده وعقده وكف الأذى والاعتداء على الدين وعلى المسلمين مع بقائهم على دينهم، ثم إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

والحقيقة أن المسلمين إنما شهروا سيوفهم لضرورة الدفاع عن أنفسهم وكفًّا للعدوان عنهم وعن دين الله الذي أمروا أن يبلغوه، فهم لم يستعملوا القوة إلا عند الحاجة وفي حالة الضرورة وقد فتحوا بعض البلدان بدون قتال لموافقة أهلها لدخولهم ونشر دعوتهم فيها. وسيرة النبي ﷺ وأصحابه في القتال مبنية على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة لكافة البشر من غير اعتداء على دين أحد أو ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده.

* * *

قتال الصحابة للخوارج على النهروان

وأما استدلال الكاتب بقتال الصحابة للخوارج زاعمًا أن قتلهم هو من المبادأة التي هي الطلب، ويسمى الهجوم، وأنه لم يوجد منهم من التعدي أو الابتداء بالاعتداء ما يوجب قتلهم وقتالهم.

أقول: إن الخوارج إنما سموا خوارج من أجل أنهم خرجوا على الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وعلى الصحابة، وقد وصفوا بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان. وسبب خروجهم أنه لما وقع التحكيم بين علي ومعاوية وقد اتفقا على تحكيم أبي موسى الأشعري عن علي وعمرو بن العاص عن معاوية، فعند ذلك قالوا: حكمتم الرجال ونبذتم كتاب الله وراء ظهوركم. وحكموا بكفر الصحابة لهذا السبب، وهم غوغاء الناس. والغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان. وقد وصفهم رسول الله بأنهم: «صغار الْأَسْنَانِ، وَسُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوْقَ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ»[70]. فخرجوا من صف علي ومعاوية وقد عرفوا بالشجاعة والشدة والغلو الزايد، ويكفرون الناس بالذنب.

وقد استشار علي رضي الله عنه الصحابة في قتالهم أو قتال أصحاب معاوية، فأشاروا عليه بالبداءة بقتالهم قائلين: إن بقاءهم على حالهم خطر علينا وعلى أهلنا وأولادنا. فاستعان بالله ثم قاتلهم على النهروان حتى هزمهم. وقد قال النبي ﷺ: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ». فكان علي رضي الله عنه أولى الطائفتين بالحق عند أهل السنة، ومع ذلك قد قيل لعلي: أكفار هم؟ قال: لا، بل من الكفر فروا، إخواننا بغوا علينا. فقتال الصحابة لهم هو نوع من الحدود الشرعية كقطاع الطريق. وقد بدؤوا يعيثون في الأرض الفساد بقتل بعض الأفراد أشبه بقطاع الطريق الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ [المائدة: 33]، وحسبك أنهم كفروا الصحابة.

فقتال الصحابة لهم هو دفع لشرهم ويدخل في نوع الجهاد بالدفاع وهو واضح جلي لا مجال للشك في مثله. فلا وجه لدعوى عدم تعديهم إذ الحقائق تكذب ذلك، ويعدون عند العلماء من المبتدعين وليسوا من القوم الكافرين.

* * *

[70] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.

معاملة المسلمين للمخالفين لهم في الدّين

إن النبي ﷺ أعطى أمته مثلاً عاليًا في تصرفاته ومعاملته مع المخالفين له في الدين من أهل الكتاب وغيرهم من سائر المسالمين لهم، فقد كان يجيب دعوتهم ويعود مرضاهم ويرد السلام عليهم.

ففي البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ». حتى إنهم في تحريفهم الكلم عن مواضعه يقولون: السام عليكم؛ يعني الدعاء بالموت، فيرد عليهم النبي ﷺ فيقول: «وَعَلَيْكُمْ».

كما في البخاري عن عائشة قالت: إن اليهود أتوا النبي ﷺ قالوا: السام عليكم. فقلت: بل عليكم السام واللعنة. فقال: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، فَعَلَيْكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ والفُحْشَ». قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ».

لقد سعى رسول الله عليه الصلاة والسلام بشريعته السمحة وعدله الشامل إلى أسس علاقات المسلمين بغيرهم من المخالفين لهم في الدين فسمى الله الإسلام سلمًا لأنه مبني على المسالمة والأمان، قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ [البقرة: 208]، فسمى الله الإسلام سلمًا، فهو يؤثر السلم على الحرب، كما قال سبحانه: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ [الأنفال: 61]؛ أي إذا كنت في حرب مع أعدائك ومالوا إلى السلم والمصالحة فأجبهم إلى ذلك.

وقد جعل الله السلام تحية أهل الإسلام يتبادله المسلمون في صلواتهم وفيما بينهم، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام، فتسلم على من عرفت ومن لم تعرف.

والسلام هو دعاء بالسلامة وبمعنى الأمان، فمتى سلم إنسان على آخر فرد عليه السلام، فكأنه قد دخل معه في عهد وأمان، يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ أي تثبتوا ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٩٤ [النساء: 94].

وسبب نزول هذه الآية أن سرية من أصحاب النبي ﷺ جاؤوا إلى صاحب غنم، فلما أقبلوا عليه قال لهم: السلام عليكم. فلم يردوا عليه، وقالوا: إنه ليس بمسلم وإنما سلم علينا ليحرز عنا غنمه بالسلام. فسبقهم القرآن بخبرهم، وفيه الأمر بالتثبت حيث كرره مرتين متى ضربوا في الأرض غزاة خشية أن يصيبوا قومًا بجهالة، ولأن أعمال الناس يجب أن تجري على حسب ما ظهر منهم، ويرشد القرآن الحكيم إلى أنكم كنتم كفارًا مثلهم فهداكم الله إلى الإسلام، فاشكروا الله على نعمة الهداية، فإن ربكم يحب الشكر.

ومن سماحة الإسلام ما ثبت عن النبي ﷺ من أخلاقه ومعاملته مع المخالفين في الدين، فمن ذلك ما روى أبو داود، حدثنا سليمان بن حرب، أنبأنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، أن غلامًا من اليهود كان مريضًا، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسْلِمْ». فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فأسلم، فقال النبي ﷺ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ». وتوفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير[71].

وروى الطبراني من حديث جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الْجَارُ الْكَافِرُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ». فجعل للكافر حقًا بجواره «وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ الْجَارُ ذُو الرَّحِمِ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ».

وكان ابن عباس يقول: هلا أهديتم إلى جارتنا اليهودية. حتى قال له غلامه: كم تقول لنا هذا! من كثرة ما يكرره عليهم، فقال: إن النبي ﷺ أوصانا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه.

ومن سماحة الخلفاء الراشدين مع المخالفين لهم في الدين ما ذكره الموفق بن قدامة في رسالته الرد على الموسوسين وحاصله أن عمر لما قدم الشام صنع أهل الكتاب له طعامًا، فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة. فكره دخولها وقال لعلي: اذهب بالناس. فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا، وجعل علي ينظر إلى الصور وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل.

فالإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام يحث على الإحسان إلى المسلم والمخالف له في الدين، وقد سأل الصحابة عن الصدقة على أقارب لهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ﴿۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272].

فأمروا بالصدقة عليهم، كما يدل قوله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ [الممتحنة: 8].

إنه لما امتد سلطان المسلمين على البلدان الأجنبية واتسعت فتوحهم في الأقطار الأجنبية صاروا يعاملون أهل الكتاب بأحسن معاملة من العطف واللطف والمساواة في الحقوق؛ لأن شريعة الإسلام توجب على المسلم أن يتواضع مع خصمه من أهل الكتاب في الجلوس للقضاء مهما كانت منزلته ورئاسته، كما جلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع اليهودي صفًّا بصف بين يدي عمر بن الخطاب فقضى بينهما، حتى إن عليًّا رضي الله عنه استدرك على عمر قوله له: قم يا أبا الحسن واجلس مع خصمك. فمن بعد الفراغ من الخصومة قال عمر: أكرهت يا علي أن تجلس مساويًا لخصمك. قال علي رضي الله عنه: كلا، ولكني كرهت حين قلت: يا أبا الحسن. يريد أن الكنية تشير إلى التعظيم أمام الخصم.

وكان أهل الكتاب يعيشون مع المسلمين متجاورين متساعدين، ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦ [الكافرون: 6]، فلا يتعدى بعضهم على بعض ولا يجعلون اختلاف عقائدهم سببًا لمثار النزاع بينهم، وصار النصارى يعيشون مع المسلمين في أمان واطمئنان، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وسموا أهل الذمة من أجل أنهم في ذمة الله وذمة المؤمنين، من رامهم بسوء غرم وأثم.

وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب أوصى في مرضه بأهل الذمة وقال: أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. فصار الجميع يتعاونون على الكسب والسعي والعمران وفنون العلم والعرفان، وأخذ الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون ينشرون عليهم ظلًّا ظليلاً من الرعاية والاحترام، فيحترمون معابدهم وكنائسهم، فلا يتعرض لها أحد منهم بضرر ولا يمنع أهلها من دخولها، ثم إن المسلمين يعولون سائر العجزة والعميان ومن لا كسب له، فيقومون بكفايتهم من المعيشة والكسوة كسائر ضعفة المسلمين.

وفي الصلح الذي أجراه رسول الله مع وفد نجران ما يدل على ذلك، فقد روى أبو عبيد رحمه الله أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران فكتب لهم كتابًا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه محمد النبي لأهل نجران وحاشيتها، لهم ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وصلبانهم وبيعهم -أي كنائسهم- ورهبانهم وأساقفتهم -أي علمائهم- على أن لا يغير لهم أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيته، وعلى أن لا يخسروا ولا يعشروا، ومن ملك منهم حقًّا فالنصف بينهم على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا منهم فذمتي منه بريئة وعليهم الجهد فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معسوف عليهم. شهد عثمان بن عفان ومعيقيب والأقرع بن حابس وغيلان بن سلمة وأبو سفيان بن حرب».

وقد قيل: إن النبي ﷺ فرش لهم عباءته وأجلسهم عليها. وقد عمل الخلفاء الراشدون مع المخالفين لهم في الدين كل ما أوصى به رسول الله في هذا الصلح الواقع بينه وبين أهل نجران، فأبقوهم على عقيدتهم وملتهم وصلبانهم وكنائسهم، ولم يكرهوا أحدًا على الخروج عن دينه، وبسبب هذا التسهيل وعدم الإكراه في الدين أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه فإنه آمن على نفسه وماله وعياله.

وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلدان ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء النصارى، فإن من تعاليم المسيح الأمر بالهدوء والعفو والصفح وعدم الانبعاث بالشر، لكنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيح أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين، وسفك الدماء والتمثيل وتشويه الأبرياء وخطف الأولاد والنساء وهدم المساجد المشيدة للعبادة وقتل الرهبان في كنيستهم، ودين الإسلام وسائر الأديان تحرم قتل الرهبان وهدم المساجد والكنائس وسائر المواضع المشيدة للعبادة، وناهيك بحوادث لبنان في هذا الزمان فإنها لم تشهد لبنان ولا غيرها من البلدان أبشع ولا أشنع منها، حتى صارت لبنان نيرانًا مستعرة وأنقاضًا مستقذرة.

وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب وأسوأ النتائج عليهم وعلى كافة الناس معهم، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا [المائدة: 41]. والفقهاء المتقدمون لم يهملوا حقوق أهل الذمة، وقد نصوا على وجوب الرفق بهم ودفع من يتعرض لأذيتهم، فقال الشهاب القرافي، وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام، في كتابه الشهير الفروق:إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وفي ذمة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله ﷺ وذمة دين الإسلام.

وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة. وقد شهد المؤرخون من سائر الأمم بأنه ما عرف فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا في الفتوح من المسلمين حين دخل الإيمان قلوبهم، بل ولا أعدل ولا أرحم منهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان بالله وحده والسياسة بالعدل والإصلاح، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم ويدينوا بدينهم ويتعلموا لغتهم إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الكفيل بسعادة البشر كلهم، الصالح لكل زمان ومكان، الذي نظم حياة الناس أحسن نظام.

فهو السبب الأعظم الموجب لدخول الناس من جميع الأمم في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، وهذا أمر مشهور ومشهود به بين سائر الأمم، يعرفه كل من عرف الإسلام وأهله.

قال لوثروب ستودارد الأمريكي في كتابه حاضر العالم الإسلامي:كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق للعادة عوامل ساعدت عليه أكبرها: أخلاق العرب وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته السمحة.

وقد عرف العرب بدورهم كيف يسوسون الحكم ويوثقون السلطان حتى دانت لهم أمور الملك واستقرت نقطة دائرته في أيديهم.

فالعرب المسلمون في فتوحهم لم يكونوا قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك، أمة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعمة التهذيب، تلك النعمة التي انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد كان اختلاط بعضهم ببعض سريعًا وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة؛ الحضارة العربية الإسلامية.

فسارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير، فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارةً ورقيًّا وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة والحواضر العامرة والمساجد الفخمة والجامعات العلمية المنظمة طول هذه القرون الثلاثة.

قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: سيرى القارئ حينما نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن هي العامل في انتشار الإسلام، ولكن العرب تركوا المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فانتحل بعض الشعوب من النصارى دين الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم ودينًا لما يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لا عهد للناس بمثله، ولما كان عليه دين الرسول من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى قبله.

وقال أيضًا في موضع آخر: يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصار أناس فيقترفون ما يقترفه الفاتحون عادة ويسيئون معاملة المغلوبين ويكرهونهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في أنحاء العالم، ولو فعلوا ذلك لتألبت عليهم جميع الأمم.

ولكن الخلفاء السابقين -أي الراشدين- الذين كان عندهم من العبقرية ما يندر وجوده في عادة الديانات، أدركوا أن النُّظم والأديان ليست مما يفرض قسرًا على الناس.. فعاملوا أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، فارضين عليهم جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن بينهم.

والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل قدماء المسلمين، فرحمتهم وتسامحهم كان من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق الكثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة ومخلدة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، وإن أنكر ذلك المؤرخون.

وقال ميشود في كتابه تاريخ الحروب الصليبية: إن الإسلام الذي أمر بالجهاد هو متسامح نحو الأديان الأخرى وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وقد حرم قتل الرهبان على الخصوص لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون من المسلمين العدد الكثير وحرقوا اليهود عندما دخلوها.

فهذه المقالات من المؤرخين الذين يعتنون بضبط الحوادث وتشخيصها على صفتها وهم لا يمتون إلى الإسلام بصلة، وإنما يعطون الحوادث حقها من العناية والتفصيل، وكفى بالله شهيدًا.

* * *

[71] أخرجه البخاري من حديث عائشة.

جهاد اليهود المحاربين للمسلمين

إن الله سبحانه قد ضمن النصر للمؤمنين المجاهدين فقال سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١ [المؤمن: 51]، وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]، فهذا النصر المضمون للمؤمنين هو مشروط بنصرهم لدين الله وحمايته والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم، وأن يجاهدوا أنفسهم على القيام بواجبات دينهم قبل أن يجاهدوا عدوهم، حتى يكون الله وليهم وناصرهم والمعين لهم على عدوهم، ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧ [محمد: 7].

ولابد مع هذا من الأخذ بأسباب الوسائل من الحزم والعزم والاستعداد بالقوة، كما أرشد إليه الكتاب العزيز في قوله: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]، وقوله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]، والقوة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، ولكل زمن دولة وقوة ورجال تناسب حالة القتال وزمانه.

أما إذا تخلف عملهم عن واجبات دينهم ولم يستعدوا بالحزم والعزم والقوة لجهاد عدوهم، فإنه يتخلف عنهم هذا النصر المضمون لهم؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، والاتكال على الإيمان بدون عمل يعتبر عجزًا ومخالفة لأمر الله ورسوله.

ولهذا يجب التفكير في سبب تخلف هذا النصر عن المؤمنين طيلة هذه السنين في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]، ولن يخلف الله وعده، وإن تخلف هذا النصر هو من أجل تخلف إصلاح الأحوال والأعمال، فتسلط الأعداء عليهم في حال تقصيرهم بواجبات دينهم وعدم استعدادهم بالقوة لمجابهة عدوهم، ثم وقوع الفتن والعداوة والبغضاء بين حكام المسلمين وزعمائهم، حتى صار بأسهم بينهم شديدًا مما أوجب تشتيت شملهم وذهاب حولهم وقوتهم، ولن تقوى صولة الباطل وتعظم شوكته إلا في حالة رقدة الحق وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ [الأنبياء: 18]، غير أن الشيطان يخوف ويخذل ضعفة الإيمان ويعظم شأن أعدائهم في نفوسهم، مما يدخل الرعب والرهب في نفوسهم منهم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥ [آل عمران: 175]؛ أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في نفوسكم.

ومن هذا التخويف ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم حتى ظنوا أنهم لن يغلبوا لشدة كيدهم ومكرهم وتوفر وسائل القوة لديهم، وقد غزوا قلوب أكثر الناس بالرعب والرهب.

ونسوا أن الله سبحانه قد وعد عباده المؤمنين بالنصر عليهم فقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١ ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ١١٢ [آل عمران: 111-112].

إنه من المعروف المألوف عن اليهود أنهم أجبن الناس عند اللقاء وجهًا لوجه؛ لأنهم كما أخبر الله عنهم أحرص الناس على حياة.

لكنهم وجدوا في هذا الزمان ملجأ منيعًا رفيعًا من متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء ثم يمطرون الناس بقذائف التعذيب والتخريب. ولن يستمر لهم هذا الصنيع إن شاء الله فإن المسلمين لديهم المادة المالية التي تؤهلهم لإدراك كل ما يريدون من وسائل القوة المماثلة أو الزائدة على قوة الأعداء مع قوة الإيمان بالله عز وجل، ومتى صدقت العزيمة وقويت الإرادة حصل المراد، وقد قيل: إن الحاجات هي أم الاختراعات. والمال هو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب، إن المصارعة بين الحق والباطل والقتال بين المسلمين والكفار لا تزال قائمة وموجودة من لدن خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة، والعاقبة للتقوى. فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو ظن أن الله يديل اليهود على المسلمين إدالة مستمرة، فقد ظن بالله ظن السوء.

لكن الله سبحانه بحكمته يؤدب عباده، فإذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والباطل لا تقوى شوكته ولا تعظم صولته إلا في حال رقدة الحق عنه وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ [الأنبياء: 18]. ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩ [البقرة: 249].

غير أن للباطل صولة نعوذ بالله من شرها لكن عاقبتها الذهاب والاضمحلال، ومن هذه الصولة ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم.

وكل شيء مرهون بوقته ومربوط بقضاء الله وقدره وعند التناهي يقصر المتطاول. إن هؤلاء الآيسين من رحمة الله والقانطين من نصر الله قد نسوا قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ [الأعراف: 167]، وصدق الله العظيم فإن هذا العذاب الذي وعدهم الله بأن يساموا به هو ضربة لازب في حقهم لا يفارقهم ولا يزال ملازمًا لهم بأيدي المسلمين أو بأيدي من يسلطهم الله عليهم من سائر الأمم، فإن الله سبحانه يولي بعض الظالمين بعضًا، وما سيقع بهم إلى يوم القيامة أكثر وأعظم، ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ [فصلت: 53].

إن هذا الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الفتك والسفك والعدوان الواقع من اليهود على العرب المسلمين الفلسطينيين طيلة هذه السنين، حتى أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم إلى الصحراء، واستولوا عليها قسرًا وقهرًا، وأخذوا يسومونهم سوء العذاب من القتل والتضييق والإرهاق حتى بلغ الأمر بهم إلى أشد الاختناق وإلى حد ما لا يطاق، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ [الحج: 39]، قد عرف العقلاء أن هذا التغلب والاستيلاء من اليهود إنما حصل بسبب ذنب من المسلمين اقترفوه ولو استقاموا ما سقموا، فإن ذنوب الجيش جند عليه والله تعالى يقول: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَ [النساء: 79]، فبسبب الاختلاف في النزعات والأهواء بين الملوك والزعماء تقطعت وحدة المسلمين إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشت من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، وهي فرصة سنح للعدو فيها المواثبة، فقويت شوكته وعظمت صولته وتسلط على المسلمين بجبروته وقوته، حتى أخذ الناس يقولون: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب، وإن هذه الطائفة الباغية الطاغية التي حلت بساحة العرب المسلمين تقتل الأنام وتحاول أن تجتث أصل الإسلام ينسلون للتعاون من كل حدب ويتواثبون على أهل الإسلام من كل جانب، فإن جهادهم واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن لم يقدر عليه ببدنه وجب عليه بماله؛ لأن المال بمثابة الترس يُستجلب به العدد والعتاد ووسائل الجهاد ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد.

إن منشأ هذا التغلب بطريق الطفور من طائفة اليهود هو أنهم وجدوا جوًّا خاليًا لا يقال لهم فيه: إليكم إليكم. فأخذوا يبيضون ويصفرون ويصنعون من السفك والفتك ما يريدون، وإلا فإنهم أجبن أمة عند اللقاء، وقد جرب المسلمون ذلك معهم في ذي الحجة عام87 هجري الموافق 68 ميلادي[72]، حيث هزموهم بإذن الله بدون عناء لولا إنقاذ أمريكا لهم، وصادفهم أهل الأردن وخاصة الفدائيين فهزموهم واستولوا على قواتهم وقتلوا منهم عددًا كثيرًا، ورجعوا منهزمين يائسين حزينين، وهذه سنته سبحانه فيمن طغى وبغى وتجبر على الناس.

إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه غيرة دينية أو نخوة عربية، فساهموا في الفضل وتنافسوا في البذل، فساحت أيديهم بالندى وتساعدوا على دفع الاعتداء، ﴿هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦ [محمد:38]، ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16]، والله أعلم.

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢.

وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 14 جمادي الآخرة سنة 1398هـ.

* * *

[72] يوم الخميس 22 ذي الحجة 1387 الموافق 21-3-1968م.