1787

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الثاني

ثانيًا: قسم أحكام الزواج والأسرة



(6) الحكم الشرعي في الطلاق السني والبدعي

مقدمة الرسالة

الحمد لله ربّ العالمين وبه نستعين على أمور الدنيا والدين...

اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

أما بعد:

فإن من واجب العالم أن ُيبيّن للناس ما وصل إليه علمه، وغايةَ ما بلغه فهمُه من أمر الدنيا والدين، نصيحةً لله ولعباده المؤمنين. وإنني نظرت في كتاب عنوانه أضواء البيان في تفسير القرآن لمؤلفه العالم الكبير والمحدِّث الشهير الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله، وقد عرفت هذا الرجل من أزمان متطاولة، وحضرت الدرس الذي كان يلقيه بعد العشاء في مسجد فضيلة الشيخ العالم محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي المملكة العربية السعودية، فسمعت من الشيخ محمد أمين ما أعجبني جدًّا من حسن تعبيره وبلاغة تحبيره وسعة اطلاعه، وسرعة استنباطه واستشهاده، حتى تمنيت أن لو سعى هذا العالم في إنشاء تفسير ينتفع به الناس على نسق ما سمعوه من إلقائه، وقد تمنَّى هذا الشيء كثير من العلماء مثلي، وسمعت في ذلك الزمان أن سموّ الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود رحمه الله قد ألحّ على الشيخ في إنشاء هذا التفسير، وأن الشيخ محمد أمين امتثل أمرَه وبدأ بتأليفه. وفي العام الماضي وصل إلي هذا التفسير أي أضواء البيان في تفسير القرآن، وبعد أن نظرت فيه رأيته دون ما سمعت منه، وأن فيه شيئًا من المدارك عليه، كقوله بصحة الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، وكونه طلاقًا صحيحًا لازمًا، وقد صال وجال في الاستدلال على هذا المقال، يسلك لتصحيحه كل سبيل، ويأتي بفنون من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل.

وقد قال في خاتمة بحثه ممّا يدل على شدة تعصبه لمذهبه:

عن ابن العربي: اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام، على أن الطلاق الثلاث في كلمة وإن كان حرامًا في قول بعضهم، وبدعة في قول الآخرين، فإنه طلاق لازم.

فحسبُنا اعترافه بهذا الطلاق الواقع جميعًا أنه حرام وبدعة، والحرام والبدعة لا ينفذ الحكم به شرعًا. ولم نجد في شرع الإسلام حكمًا يقول فيه علماء الإسلام: إنه بدعة وحرام، ثم يحكم فيه القضاة بالصحة والإلزام إلا هذا الطلاق البدعي.

ومن عجيب ما نقدت على فضيلة الشيخ إعراضه عن الاستدلال والاستشهاد بشيء من آيات القرآن في بحثه الطويل العريض الذي يقع في خمسة وأربعين وجهًا، لعلمه أن الاستدلال به يكون حجة عليه لا له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد ضمّن القرآن جميع ما يحتاج إليه من شأن الطلاق ولوازمه وما يترتب على صحته، وقد سبق إلى بيان كل فريضة وفضيلة من الآيات المحكمات المتضمنة لبيان أصل الطلاق الشرعي وتفصيله، والأدب مع الله فيه، وبيان حلاله وحرامه، وبيان عدد النساء مع اختلاف أنواعها، وبيان الرَّجْعَة، ومن تستحق النفقة والسكنى ومن لا تستحق ذلك، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الشأن.

وكل ما ذكر الله من أحكام الطلاق فإنما يعني به الطلاق الشرعي السُّني، الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والذي هو معروف زمن النبي ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن. فمخالفة الكاتب للقرآن لا تتحمل صبرًا عليه بكتمانه وعدم بيانه.

وحسبنا سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين من الرد من بعضهم على بعض في أصول الدين وفروعه، ولا يجدون فيه غضاضة ولا هضمًا. وما من الناس إلا راد ومردود عليه إلا رسول الله ﷺ.

وملاقاة التجاوب بين الرجال تلقيح لألبابها، كما يقولون: فلان حنّكه التجاوب وحكمته التجارب. فأنا وإن رددت على هذا العالم، فإنني أعترف بعلو قدره وغزارة بحره في سائر العلوم والفنون.
فهو بسَبْقٍ حائزٌ تفضيلا
مُستوجبٌ ثنائيَ الجميلا
لكنه رحمه الله من شدة تعصبه لمذهبه لا يبتغي عنه تحويلا.

لهذا عزمت واحتزمت على رد ما عسى أن أراه مخالفة للحق، نصيحة لله وكافة الخلق، وإني أسأل الله أن يجعل سعينا مشكورًا، وعلمنا وعملنا صالحًا مبرورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله... ونستعين بالله... ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إننا في كتابتنا لهذه الرسالة نعتمد فيها وفي العمل بموجبها على الكتاب والسنة، اللذين يجب اللجوء إليهما عند التنازع، فهما الحَكم القسط، يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان خلافهم إلى مواقع الإجماع.

ولن نستغني عن سَوق أقوال الراسخين في العلم والمعرفة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والطحاوي، وابن عبد الهادي، والصنعاني، ونحوهم ممن لهم رسوخ في العلم والمعرفة، والتوسع في النصوص والأصول، والمعقول والمنقول، فنسوق أقوالهم استئناسًا لها وبها، حذرًا من دعوى الشذوذ بما قلنا؛ فقد سمعت من ألسنة بعض الناس قولهم: إن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهم أنهم مجتهدون يخطئون ويصيبون، فلا يكون قولهم حجة على غيرهم، ونقول: نعم. إنهم بشر من البشر ليسوا بمعصومين، وليسوا بأرباب ولا أنبياء ولا ملائكة، لكنهم مجتهدون، لهم أجر على خطئهم وأجران على إصابتهم.

ثم إننا مأمورون من كتاب ربنا بأن نسأل أهل الذكر وهم العلماء، قال سبحانه: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل:43-44].

وقال رسول الله ﷺ في الذي أصابته شجَّة فاغتسل فمات، فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»[357].

وقد أمرنا الله أن نقول: ربنا واجعلنا للمتقين إمامًا. أي: يُّقتدى بنا في الخير والانتهاء عن الشر.

وإن المشتغلين بالتأليف متى خاضوا المشاكل العويصة التي من شأنها أن تخفى على بعض العلماء فضلاً عن العامة، فإنهم يستعينون في خوضهم فيها بأقوال من سبقهم من العلماء إليها، استئناسًا بأقوالهم. فهم يسوقون أقوالهم مساق الاعتضاد لا الاعتماد، مع العلم أن المعترضين عليهم، والذين لا يعدون أقوالهم حجة، لن يستغنوا عن أقوالهم وقت حاجتهم إليها. إذ هم أعلم منا ومنهم بالنصوص والقصود، وبالمشاكل الغامضة والشُّبَه الزائفة. يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83] والاستنباط هو: الشيء الخفي الذي من شأنه أن يخفى على أكثر الناس، مأخوذ من استنباط الماء أي استنباعه.

ومن المعلوم أن الرجال تُعرف بالحق، لا الحق بالرجال، إذ الحق كالنهار ليله كنهاره.

والنبي ﷺ قال: «لِيُبَلِّغُ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ». وقال: «نَضَرَ الله امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»[358].

مما يدل على أن العلم واستنباطه، وبيان حكمته وحل مشاكله، ليس مخصوصًا بالأولين دون الآخرين؛ فقد يظهر للمتأخرين من نصوصه والتفقه في حكمته، ما عسى أن يغفل عنه المتقدمون، فكم ترك أول لآخر.
وتفاوتُ العلماء في أفهامهم
في العلم فوق تفاوت الأبدان
وفي البخاري عن معاوية أن النبي ﷺ قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

ولهذا فاق ابن عباس أكثر الصحابة في فهم النصوص واستنباطها، وحل مشاكل الآيات وبيانها، فكان من الطائفة الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فالناس يتمتعون باستنباطاته وكشف مشكلاته إلى يوم القيامة، ببركة دعوة النبي ﷺ له حيث قال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ».[359]

ومثله شيخ الإسلام ابن تيميّة الذي وُصف بأنه الإمام المجتهد رأس مدرسة تحرير العقول من الخرافات والبدع، والعالم الذي لا يُشق له غبار. ولا يزال الناس يتمتعون بثمار علمه وتعليمه حتى عند المعادين له من غير المسلمين، وكذا أمثاله من سائر العلماء المجتهدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

ومن المعلوم أن الحق يبدو كرهًا وله تكون العاقبة والعاقبة للتقوى..

وقد علمنا أن الناس قد تربوا على إيقاع الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، ويحسب أكثرهم أن هذا هو الطَّلاق الشرعي، لكون أكثر العلماء في بعض البلدان يحكمون بصحته ولزومه.

وإن هذا الطلاق الواقع بالثلاث جميعًا قد صار معرك جدل بين العلماء من قديم الزمان وحديثه، بحيث تتناوبه فكرة المقلدين لأئمة مذاهبهم، كما تتناوبه فكرة المجتهدين المتمسكين بالكتاب والسنة.

فالمقلدون يرون أنه متى وقع الطلاق بالثلاث جميعًا بلفظ واحد، أو بألفاظ متعددة، في طهر واحد، فإنهم يحكمون بصحة هذا الطلاق ولزومه، وكونه طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه، ولا تَحِلُّ المرأة لزوجها إلا بعد نكاح زوج غيره.

ثم هم يحكمون بسقوط نفقتها وسكناها على الزوج، لاعتبار أنها مبتوتة، فلا سُكنى لها ولا نفقة، ويستدلون لذلك بما روى مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبا حفص طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى، والحديث صحيح، لكن مطابقته للمبتوتة غير صريح ولا صحيح كما سيأتي بيانه. فهم يسرحون هذه المبتوتة إلى أهلها بخُفي حُنين، ويجمعون لها بين الحشف وسوء الكيل والتسريح بالإساءة، فلا نفقة ولا سكنى ولا رجعة.

أما المجتهدون فإنهم يقولون: نحن متبعون للكتاب والسنة ولسنا بمبتدعين، ولم نجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ طلاق المبتوتة بهذه الصفة، فمتى طلق أحد امرأته بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، لكنه في طهر واحد، فإننا نحكم في هذا الطلاق بجعله عن طلقة واحدة، تأسيًا بحكم رسول الله ﷺ في طلاق أبي ركانة حيث طلق امرأته ثلاثًا جميعًا في مجلس واحد، فحزن عليها، فقال له رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك». فراجعها. فهذا حكم رسول الله ﷺ وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

ثم إن هذه المرأة يحكم لها بالبقاء في بيت زوجها، ولا بأس أن ينظر إلى وجهها، أو أن تتجمل له رجاء مراجعتها، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1].

فإن دام على طلاقه هذا حتى خرجت من عدتها، وهي ثلاث حيض مما تحيض، أو ثلاثة أشهر في حق الآيسات، أو وضع حملها إن كانت حاملاً، فإنها تطلق من زوجها بينونة صغرى، بحيث لو ندم فيما بعد فإنه يجوز له أن يتزوجها بعقد جديد، وهذا من بركة الطلاق الشرعي؛ لأن الله سبحانه جعل لكل مطلقة عدة، يقول الله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228].

ففرض الله هذه العدة لمصلحة الزوجين رجاء مراجعتها، ولم يكن للعلم ببراءة رحمها، فإن هذا يُعرف من حيضة واحدة، كما في قضية المسلمات المهاجرات والمسبيات وهن بعصم الكوافر.

ثم إن هذه المرأة ما دامت في العدة فإن لها حكم الزوجة من النفقة والسكنى والكسوة، ولو مات الزوج في أثناء العدة ورثته، كما أنها لو ماتت لورثها؛ أما رأيت كيف فرض الله سبحانه على المطلقة الآيسة من الحمل ثلاثة أشهر، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ [الطلاق: 4].

وهذا كله لحكمة التروي والتفكر رجاء مراجعتها في عدتها، ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1]. وأما استدلالهم بسقوط النفقة عن المبتوتة بحديث فاطمة بنت قيس، فإن زوجها قد طلقها آخر ثلاث تطليقات، وقد قضت عدتها في بيته، فلم يبق لها عليه نفقة ولا سكنى، كما أنه لم يبق له رجعة عليها.

وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة على طلاق المبتوتة من رسالتنا هذه لكثرة ما يلتبس فيها الأمر على أكثر العلماء وكل العامة.

وإنني في محل قضائي وحكمي أحكم لخاصة أهل البلد، متى طلق أحدهم امرأته ثلاثًا جميعًا، بلفظ واحد، أو بألفاظ متعددة، في طهر واحد، فإنني أجعل هذا الطلاق عن طلقة واحدة إذا لم يسبقه طلاق غيره، وآمره بمراجعة زوجته متى رغب في ذلك، وأشهد على رجعتها، فتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة. فإن طلقها مرة ثانية بالثلاث، فتُجعل عن طلقة ثانية، إلى أن يطلقها الثالثة، فتبين منه بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
هذا الذي أدى إليه علمُنا
وبه ندين الله كلَّ زمان
والله أعلم.

* * *

[357] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [358] رواه أحمد والطبراني وابن ماجه عن أنس بن مالك وعن جبير بن مطعم بمعناه، وفي رواية: «نَضَرَ الله امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا». [359] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس.

الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

قال الكاتب في قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] قال - أي الشيخ محمد أمين عفا الله عنه -: ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ الآية - يؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد. وأشار البخاري بقوله: (باب من جوّز الطلاق الثلاث) لقول الله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ والظاهر: أن وجه الدلالة المراد عند البخاري هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ علمنا أن إحدى المرّتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث.

وردّ ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق؛ لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى، بخلاف الثلاث وجعل الآية دليلاً لنقيض ذلك. انتهى.

فالجواب: بدأ الكاتب بحثه بهذه الآية واستأنس لها بقول الكرماني في تفسيره أنها كما جاز وقوع الطلقتين جميعًا فكذلك وقوع الثلاث جميعًا، ولا دليل على ذلك والكرماني لا يحتج بقوله.

ويظهر من كلام الكاتب أن الطلاق من شرط صحته كونه ثلاثًا سواء كان مجتمعًا أو مفرقًا، كما أن هذا هو رأي كثير من الناس، وقد غلطوا في فهمه، فإن الطلاق يكون بواحدة متى أراد إبانتها وتسريحها، فمتى طلقها واحدة ثم تركها حتى تنقضي عدتها بغسلها من الحيضة الثالثة فإنها تبين منه وتحرم عليه إذا لم يراجعها في عدتها، فهذا هو طلاق السنة. قاله في المغني والمقنع، فإن طلقها الثانية في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضًا فإنها للسنة أيضًا.

وهاتان الطلقتان هما اللتان عناهما القرآن بقوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فإن الزوج بعد هاتين المرتين يكون بالخيار بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، ولما سئل النبي ﷺ عن هذه الآية قيل له: أين الثالثة؟ قال: «هِيَ التَّسْرِيحُ بإحْسَانٍ» لأنها من بعد غسلها من الحيضة الثالثة تَبين منه وتحرم عليه، لكنه لو ندم على فراقها جاز له أن يتزوجها بعقد جديد، لقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ [البقرة: 232].

لكنه لو طلقها الثالثة في العدة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230].

لكن الفقهاء يستحبون التحفظ بالثالثة لتكون له بمثابة الرصيد خشية أن يندم. والحاصل أن الطلقة بالواحدة تعمل عمل الطلاق بالثلاث في تسريح المرأة متى رغب في طلاقها، فلا حاجة للتكلُّف بجعل الثنتين كالثلاث، ثم إن القائلين بجواز إيقاع الثلاث جميعًا بلفظ واحد هم يخالفون صريح القرآن بجعلهم الطلاق مرة واحدة، ولم يجعلوه مرتين ولا ثلاثًا، ثم خالفوا صريح السنة حيث جعل النبي ﷺ الثلاث الواقعة جميعًا من أبي ركانة عن طلقة واحدة، وهي حجة قاطعة لموضع النزاع. وقد نص الفقهاء على أنه لو رمى الجمار السبع دفعة واحدة فإنها لا تقع إلا عن مرة واحدة، فتدخل الجمار كلها ضمن المرة الواحدة، ويلزم تكميل البقية من غيرها. وكذا يقال في الطلاق بالثلاث جميعًا وأنه لا يكون إلا عن طلقة واحدة. فقوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ يعني به الطلاق الشرعي الذي كان على عهد النبي ﷺ وأصحابه وعهد نزول القرآن، من أن أحدهم يطلق زوجته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ثم تبتدئ المرأة في دخول العدة، فمتى حاضت الحيضة الأولى واغتسلت من حيضها طلقها الطلقة الثانية، وهاتان هما الطلقتان اللتان عناهما القرآن.

ثم هو قبل حيضتها الثالثة يفكر في أمره، فإن بدا له أن يراجعها راجعها، وإن حاضت الحيضة الثالثة فإنها تخرج من العدة وتبين منه.

وأما استدلال الشيخ، رحمه الله، حيث أخذ من مفهوم الآية قول الكرماني، أنه متى جاز طلاقها بطلقتين جاز بثلاث مجتمعة، فإن هذا بعيد عن مفهوم القرآن، كما أنه بنفسه يضعفه، لكنه استأنس بقول الكرماني من أنه تعالى لما قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث أيضًا.

فهذا الحكم قد وافق هوى الشيخ وتمشى على مذهبه، وكل الآيات المذكورة في أحكام الطلاق فإنها إنما تعني الطلاق المشروع، الذي يقع مرة بعد أخرى، فالجمع بين طلقتين في مكان واحد وفي طهر واحد وبلفظ واحد، هو بدعة وزيادة في الدين، وإنما يقع منه طلقة واحدة فقط في طهر لم يمسها فيه، بحيث إنه محجور عليه عن الزيادة على الطلقة في حالة الطهر الواحد، وتبقى رجعية، والرجعية لا يلحقها طلاق. ويدل له قوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] والقرء: هو الحيض، مع كونه يُحمل على الطُّهر، فهو من ألفاظ الأضداد، ثم قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي: في زمن العدة.

وهذا معنى قول ابن عباس: الطلاق عند أول كل طهر..

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد: إنه كان يفتي بلزوم الثلاث في بداية عمره، ثم رجع عنها، وقال: إني تدبّرت القرآن والسنة فلم أجد فيهما الطلاق إلا رجعيًّا.

ثم إن القائلين بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا يناقضون قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] فمعنى (مرتين) أي مرة بعد أخرى، كل واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولم تكن حائضًا. كما في قوله سبحانه: ﴿لِيَسۡتَ‍ٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ [النور: 58].

فهذه المرات الثلاث هي مفرقة في الأوقات المذكورة، ولا يمكن جمعها في زمان ولا مكان. فلو أن رجلاً وكل آخر على طلاق زوجته بالواحدة فطلقها ثلاثًا. أو وكله بأن يطلقها ثلاث مرات في ثلاثة أشهر، إحداهن في رجب، والثانية في شعبان، والثالثة في رمضان، فطلقها بالثلاث في رجب، أفلا يكون طلاقه غير واقع لمخالفة أمر موكله، وهذا بالإجماع. فما بالك بمخالفة الشخص لأمر الله سبحانه حيث طلق في طهر جامعها فيه أو وهي حائض، أفلا يكون هذا الطلاق باطلاً لمخالفة أمر الله ورسوله؟!

ثم إن القائلين بلزوم الثلاث جميعًا وكونها بينونة كبرى لا نفقة بعدها ولا سكنى ولا رجعة، هم يجعلون قوله سبحانه: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] لا معنى له، بل يجعلونه من حشو الكلام الذي ينزه عنه القرآن، فماذا يبقى مع المطلق بالثلاث من الإمساك بالمعروف، وقد غُلب على أمره بالحكم عليه بأنها بزعمهم بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره؟! ولا أمر ولا رأي لمُكرَه، مع مناقضتها لقوله سبحانه: ﴿إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]. أي في قُبل عدتهن، والعدة هي الطهر ﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ [الطلاق: 1] أي: لا تزيدوا فيها ولا تنقصوا منها ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1].

ثم إن هذه العدة التي أمر الله بإحصائها هي ثلاث حيض في حق من تحيض، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض، أو بوضع حملهن، أو ثلاثة أشهر في حق الآيسات من الحمل والصغيرات. كما في قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ [الطلاق: 4] فلو كانت العدة تسقط عن أحد لسقطت عن هؤلاء العجائز اللاتي لا يُرجى حملهن. وقال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّ‍َٔاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥ أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ [الطلاق: 4-6] والضمير في قوله: (أسكنوهن) يعود إلى أقرب المذكور وهن الآيسات من الحمل، فكما أوجب سبحانه النفقة والسكنى لذوات المحيض مدة عدتهن، وجاز للرجل إرجاع زوجته خلالها، فكذلك أوجب السكنى والنفقة والرجعة للآيسات من الحمل، وكون الزوج له الحق في رجعتها في أثناء عدتها؛ وهذه أحكام مشروعة ومفروضة كفرض الصلاة والصيام، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، وقد استوعبتها سورة الطلاق لأنها إنما نزلت بعد سورة البقرة التي قال الله فيها: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض. وبقيت عدة المتوفى عنها زوجها، وقد ذكرها الله بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ [البقرة:234] هذا إن لم تكن حاملاً، ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ [الطلاق: 4] سواء في ذلك المطلقة أو المتوفى عنها زوجها.

قال في المغني: ولو طلق رجل امرأته طلاق بدعة، كما لو طلقها في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، فإنه يستحب له رجعتها، وعنه - أي الإمام أحمد -: أنه يجب رجعتها.

وهذه العِدَد - على اختلاف أنواعها وبيان ما يترتب عليها من وجوب النفقة والسكنى وجواز الرجعة خلالها - كلها تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرِّم شيئا من المحرمات إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ - وحدود الله محرماته - ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

ويبقى عدة المختلعة بالمال وبمعناها المفسوخة، قد ثبت في البخاري من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت إلى النبي ﷺ قالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. وفي رواية: لا أطيقه بغضًا. فقال رسول اللهﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». وفي رواية: أمرها أن تعتد بحيضة. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المختلعات والمفسوخات يكفي إحداهن أن تعتد بحيضة واحدة، لكونه لا رجعة لأزواجهن عليهن. ويستفاد من هذا الحديث أن الطلاق المشروع يقع بطلقة واحدة، فتبين المرأة إذا لم يكن لزوجها فيها رغبة، فإن طلقها ثانية فإنها للسنة أيضًا، وفيما بين الطلقة الثانية إلى الاغتسال من الحيضة الثالثة يتفكر في نفسه، فإن بدا له أن يراجعها أشهد على رجعتها وتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة، وإن بدا له أن يفارقها فإنها تبين منه بغسلها من حيضتها الثالثة، وتسمى بينونة صغرى، بمعنى أنه لو ندم على فراقها فإنه يجوز له أن يتزوجها بعقد جديد، إلا إذا طلقها الثالثة فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230].

ثم إن المقلدين في حكمهم بإلزام الطلاق بالثلاث جميعًا وكونه بينونة كبرى، فإنهم بذلك يخالفون صريح القرآن في قوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ وفي الثالثة: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] فهم يحكمون بجعل هذا الطلاق المفرق كالصادر عن مرة واحدة، فخالفوا بذلك صريح القرآن وصحيح السنة.

ودونك ما ذكره العلامة ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ قال: هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم الله على ثلاث طلقات، وأباح الرَّجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229].

قال أبو داود رحمه الله في سننه: باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث: عن عكرمة عن ابن عباس: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ [البقرة: 228] الآية، وذلك أن الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ الآية، وقال ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: إن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلكِ راجعتكِ. فأتت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره، ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء، ما دامت في العدة، وإن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته فقال: لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلّق ومن لم يكن طلّق.

وروي عن عائشة أنها قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: لأتركنّكِ لا أيِّمًا ولا ذات زوج. فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا. فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ فوقت الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره. واختار ابن جرير أن هذا تفسير هذه الآية وقوله: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردّها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتُها فتبين منك، وتطلق سراحها مُحسنًا إليها لا تظلمها من حقها شيئًا ولا تضارَّ بها.

وقال ابن أي حاتم عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ أين الثالثة؟ قال: «التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ الثَّالِثَةُ» ورواه الإمام أحمد أيضًا.

وذكر في تفسير المنار ما نصه:

صرّح جماهير العلماء ومنهم الحنفية بأن الطلاق الشرعي هو ما كان مرة بعد مرة وأن جمع الثنتين أو الثلاث بدعة وأنه حرام. وهذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة، وهم من علماء الصحابة.

قال الإمام: وهذا هو الطلاق المشروع في كتاب الله تعالى، وهو الطلاق الرجعي على هذه الصفة وبهذا العدد، أما الطلاق البائن فلم يرد في كتاب الله.. انتهى.

وذكر العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: إن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وأن هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعده.

ثم قال: ليس المراد مجادلة المقلدين، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يُبالي بها، لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم وأئمة مذاهبهم دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الطلاق من مجموع الفتاوى المجلد الثالث والثلاثين ص 154، 155 ما نصه:

والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي. قال هؤلاء: وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلاً، بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي... ولو قال لامرأته: أنتِ طالق طلقة بائنة. لم يقع بها إلا طلقة رجعية، كما هو مذهب أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. قالوا: وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله. وهذا قول أهل الحديث، وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد.

* * *

الطلاق بعد اللعان بين الزوجين لغو لا معنى له

ثم قال الكاتب:

(اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة حديث سهل بن سعد الساعدي الثابت في الصحيحين في لعان عويمر العجلاني وزوجه، فإن فيه: فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله ﷺ.

أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه[360]، ووجه الدليل منه أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة ولم ينكره رسول الله ﷺ.

ثم استدل بقول الكرماني في قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ [البقرة: 229]: فيؤخذ منه جواز الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، لكونه إذا جاز جمع الطلقتين دفعة واحدة جازت الثلاث).

فالجواب: أن فضيلة الكاتب يظهر من تعصبه لمذهبه بما نُشاهد من صرفه الكَلِم إلى غير المعنى المراد منه، فقد فسّر القرآنُ والسنةُ ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ بكونها تقع مرة في خلال العدة، وهي رحمة من الله لعباده، حيث لم يجعل الطلاق مرة واحدة، بل جعل له ميدانًا من السعة بمدة وضع الحمل، أو بحيضها ثلاث مرات، أو ببقائها في العدة ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة، لِيتَروى المطلِّق في أمره وتذهب عنه ثورة الغضب والحنَق، ثم يعاوده عقله وفكرته في خلال هذه المدة، فيراجع زوجته بدون عقد ولا ولي ولا شهود، لكون الرَّجعية زوجية، بخلاف من يرى جواز وقوع الثلاث دفعة واحدة في مكان واحد، وتُسمى المبتوتة، فهؤلاء يبطلون حكم الله فيما شرع لعباده من التربُّص والتريث مدة بقاء العدة، ويحكمون بأنه لا نفقة لها ولا كسوة ولا سُكنى، فيجمعون لها بين الحشف وسوء الكيل والفراق السيئ لا التسريح بإحسان.

وقد أبعد الكاتب النجعة في استدلاله بطلاق عويمر العجلاني بعد وقوع اللعان، والله سبحانه شرع اللعان، وهو بينونة كبرى، ولم يذكر معه طلاقًا، وكذلك حديث سهل حيث قال عويمر العجلاني: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله. فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله بطلاقها. وهذا الطلاق يعتبر فضوليًّا لكونه واقعًا في غير موقعه الصحيح، أشبه من يطلق امرأة ليست له بزوجة، وكفانا في بطلانه كون رسول الله ﷺ لم يأمره بالطلاق، وغاية ما استدل به الكاتب سكوت رسول الله ﷺ عنه.

وسكوته لا يدل على صواب طلاق عويمر، فقد كان رسول الله ﷺ يسكت دائمًا عن اللغو فلا يجيب صاحبه، بل يعرض عنه عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ ٥٥ [القصص: 55] واللغو هو رديء الكلام، أشبه طلاق عويمر العجلاني لمن ليست له بزوجة، وقد كان اليهود يدخلون على رسول الله ﷺ ويقولون له: السَّامُ عليك. فيقول لهم: «وَعَلَيْكُمْ»، وقد فطنت عائشة لتحريفهم الكلم وكونهم يدعون على رسول الله ﷺ بالموت، فلم تستطع صبرًا على سوء قولهم، فقالت لهم: عليكم السَّام واللعنة، وقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟! فقال لها الرسول ﷺ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، هَلْ تَجِدِيْنِي فَحَّاشًا؟! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ»[361].

ومثله ما وقع لأبي بكر حين تحامل عليه رجل بسبه وذمه ورسول الله ﷺ ساكت لم يرد عليه، فلما طال سَبُّه رد عليه أبو بكر، فقام رسول الله ﷺ وهو متغيّر وجهه، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إن هذا أطال في سبي وأنا ساكت، فلما كلمته قمت وأثر الغضب على وجهك. فقال: «يا أبا بكر إنه مازال الملَك ينافح دونك لمّا كنت ساكتًا، فلما انتصرت لنفسك انصرف الملك، وانصرفت بانصرافه»[362].

فسكوت الرسول ﷺ عن جواب هذا لا يدل على صوابه في قوله ولا إقرار الرسول ﷺ لقوله وفعله، فاستدلال الكاتب بحديث عويمر العجلاني هو بعيد عن موضع الحُجة، فقد حصلت الفرقة الكبرى بمجرد اللعان، فكان طلاقه لاغيًا لا معنى له؛ ووضع البخاري ترجمته على هذا لا يدل على تصويبه لهذا الطلاق الواقع من عويمر العجلاني بعد ملاعنته لزوجته، إذ مدار الشريعة على الأمر والنهي لحديث: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».[363]

ويدل له ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال للمتلاعنين: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا». قال: يا رسول الله مالي. فقال: «إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». فهذا حكم رسول الله ﷺ حيث حكم بالفرقة بعد اللعان وكونه لا سبيل للزوج عليها.

فالاستدلال بهذا الطلاق الواقع من عويمر بعد اللعان هو استدلال واقع في غير موقعه الصحيح.

ثم قال الكاتب: (إن الفرقة بنفس اللعان لا يدل عليها كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع). يريد بهذا استقامة احتجاجه بوقوع الطلاق بالثلاث من عويمر العجلاني.

فالجواب: أن النصوص الصحيحة الصريحة تثبت وقوع الفرقة بمجرد اللعان، كما سبق حديث ابن عمر بأنهما لما فرغا من تلاعنهما قال له رسول الله ﷺ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» فقال: يا رسول الله مالي. قال: «إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». وهو حديث متفق عليه.

كما أن القرآن لم يذكر مع اللعان طلاقًا، والسنة تفسر القرآن وتُبيِّن ما سكت عنه، وليس بعد هذا بيان. ثم إنه قد وقع الفراق بين الأزواج والزوجات بدون طلاق، كزوجة المرتد عن دين الإسلام، فإنها تطلق منه بدون طلاق ولا صيغة فراق، وكذلك المسلمات المهاجرات وأزواجهن باقون في الشرك، فانفسخ نكاحهن بمجرد إسلامهن بدون طلاق ولا فرقة، أشبه فسخ نكاح المتلاعنين، ومثله ما وقع في سبايا أوطاس اللائي كن مع أزواجهن، وبمجرد سبيهن انفسخ نكاحهن بدون طلاق. وقال رسول الله ﷺ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً».[364] ولم يُحدِث لهن طلاقًا.

* * *

[360] وهي: (باب من جوز الطلاق الثلاث). [361] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [362] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة. [363] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [364] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري.

نفقة المطلقة وسكناها

ثم قال الكاتب:

(إن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق، وأوضح دليل على ذلك ما صح عنه من حديث فاطمة بنت قيس، أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى. أخرجه مسلم في صحيحه وهو نص صحيح صريح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى).

فالجواب: أن هذا الكاتب يحوم حول جواز إيقاع الطلاق بالثلاث جميعًا مع سقوط النفقة والكسوة والسكنى والرجعة، لكون صحة وقوع الطلاق لا يستلزم وجوب النفقة والسكنى بزعمه. ويستدل لذلك بحديث فاطمة بنت قيس الذي رواه مسلم وأهل السنن، أنها طلقها زوجها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. فهو عند الأئمة الذين يجيزون الطلاق بالثلاث بلفظة واحدة ويسمونها مبتوتة كما قيل:
مبتوتة الطلاق لا سكنى لها
إلا على زوج إذا أحبلها
ويستدلون على ذلك بهذا الحديث.

والجواب عنه يعرف من فحوى لفظه، فإن حديث فاطمة بنت قيس يفيد أنه أرسل لها زوجها وهو باليمن آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنه الإجماع السابق في الطلاق، وهو أن يكون مرة بعد مرة في خلال الأقراء، فطلاق فاطمة بنت قيس ولو ذكره العلماء والمصنفون بلفظ الثلاث فإنه وقع دفعات حسب الطلاق الشرعي، فآخر طلقة أرسلها لها وهو باليمن، وأمر وكيله بأن يذهب لها بشعير وتمر، فسخطته وذهبت إلى رسول الله ﷺ تشكوه، فقال رسول اللهﷺ: «إِنَّهُ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» وهذا هو الواقع المطابق للحق والعدل.

فقد أصبحت فاطمة بنت قيس بائنة من زوجها بالطلقة الثالثة بينونة كبرى، فلا نفقة لها ولا سكنى، ولا تحل لزوجها الأول أبي حفص بحال إلا بعد نكاح زوج غيره. لكن بعض الفقهاء ومنهم الكاتب يتعصبون للمذهب بتصحيح وقوع الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، ويسمّونها المبتوتة، فيحرمونها من النفقة والكسوة والسكنى والرجعة من حين وقوع الطلاق، ويبطلون حكم الله في قوله:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

فالحاكمون بجواز الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، يحكمون بلزومها ولزوم ما يترتب عليها من قطع النفقة والكسوة والسكنى وسائر الحقوق التي فرضها الله، وإن مات الزوج لم ترثه زوجته بعد وقوع لفظ الطلاق، وإن ماتت الزوجة لم يرثها زوجها عندهم. ولهذا استدلت فاطمة بنت قيس على بعض الصحابة لما دخل على بعضهم الشك لما حكم رسول الله ﷺ بسقوط نفقتها وسكناها عن زوجها، فتلت عليهم هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١. قالت: وما هذا الأمر الذي يحدث بعد وقوع الطلاق الثلاث مفرقة؟[365] أي: فلا سكنى لها على زوجها ولا نفقة؛ لأنها قد أمضت نفقتها وسكناها في بيت زوجها وقت عدتها.

ونحن نسوق حديث فاطمة بنت قيس في تصريحها بأن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أن جمع الطلاق بالثلاث في لفظة واحدة أنه بدعة وغير معروف من الصحابة، والحكم بلزومه ولزوم ما يترتب عليه خطأ وظلم.

وأشارت فاطمة بنت قيس إلى أن النفقة لا تكون إلا لمن هو له حق الرجعة عليها في حالة عدتها، وبعد الثلاث المفرقة لا رجعة ولا نفقة.

وروى مسلم عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثًا «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةٌ». وفي رواية لمسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات.

فحديث فاطمة بنت قيس قد التبس على المحدثين وأئمة المذاهب وعلى الفقهاء، لوروده أحيانًا بقوله: طلقني ثلاثًا ولم يجعل لي رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. وهذا صحيح لكنها ثلاث مفرقة ليست مجتمعة، والمفسر يقدم على المبهم.

وروى الإمام أحمد من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي ﷺ قال لها: «إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَلَا نَفَقَةَ، وَلَا سُكْنَى».

ويدل لذلك: ما روى أبو داود من حديث أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، فزعمت أنها جاءت رسول الله ﷺ فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى بيت ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق حديث فاطمة في خروج المطلقة من بيتها، وفي رواية أن مروان أرسل إلى فاطمة بنت قيس فسألها فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص.

وكان النبي ﷺ قد أمّر علي بن أبي طالب على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملاً. فأتت النبي ﷺ فقال: «لَا نَفَقَةَ لَكِ، إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا».

فهذه النصوص الصحيحة الصريحة تدل على صحة حديث فاطمة بنت قيس، سواء وقع باسم الثلاث، أو وقع بآخر طلقة، إذ المعنى واحد لا يختلف، ويدل بطريق الوضوح على أن المفروض في الطلاق هو أن يقع مرة بعد أخرى في خلال العدة، وكونه لا حق للرجل أن يوقعه دفعة واحدة فيقطع نفقة زوجته زمن العدة وسكناها. كما أن النبي ﷺ غضب على الذي طلق امرأته ثلاثًا بلفظ واحد، فقام غضبان وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أقتله يا رسول الله؟ وذلك من شدة غضب الرسول عليه. رواه النسائي ورواته مُوثَّقون.

فشدة غضب الرسول ﷺ على هذا يدل على أن جمع الثلاث بلفظ واحد أنه بدعة ومنكر من القول وزور، ويدل على عدم وقوعه لمنافاته لنصوص القرآن والسنة، التي يأمر الله فيها بالطلاق في العدة أي الطهر. ولمنافاته لحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[366].

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

إن الطلاق الشرعي هو الطلاق الرجعي المستلزم لوجوب النفقة والسكنى على الزوج خلال العدة، وإن مات الزوج ورثته لكون الرجعية زوجية، وإن ماتت الزوجة ورثها. وقال: ولا نعرف أن أحدًا على عهد النبي ﷺ طلق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه النبي ﷺ بالثلاث، ولا رُوي في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا نقل أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا.

وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة، بل إن ما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله.

ومتى وقع الطلاق على خلاف ما سنه الله في كتابه وعلى لسان رسوله لم يكن لازمًا نافذًا؛ لأن الأصل الذي عليه السلف والفقهاء، أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة ولا صحيحة، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».

* * *

[365] تقصد أن المراد بالمطلقة في الآية هي الرجعية؛ لأنها هي التي يؤمل رجعتها حتى يكون لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ معنى وبذلك تكون السكنى في الآية خاصة بالرجعية. [366] متفق عليه من حديث عائشة.

غضب رسول الله ﷺ من الذي طلق ثلاثًا بلفظ واحد

ثم قال الكاتب:

(ومن أدلة وقوع الثلاث جميعًا ما رواه النسائي:

عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام غضبانًا، فقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ أي: من شدة غضبه عليه. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن المطلِّق يظن الثلاث المجموعة واقعة، فلو كانت لا تقع لبيَّن النبي ﷺ أنها لا تقع، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ويقول: إن المناسب لمرتكب الجريمة التشديد لا التخفيف).

فالجواب: أن هذا الكاتب قد حذق في قلب الحقائق، وأن الاحتجاج بهذا الحديث يعد من قبيل ذلك، فهو حُجة عليه لا له؛ فالاحتجاج به على التحريم آكد لا الإباحة، والاستدلال به على الوقوع من باب التكهن والزيادة في الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشيء من وجوه الدلالات البتة، ولكن المقلد لا يبالي في سبيل تقليده بما اتفق له، إذ كيف يُظن برسول الله ﷺ أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله تعالى وصححه واعتبره في شرعه وحكمه، ونفذه وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى؟! وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث، ولا جعله في أحكامه.

وحسبك شدة غضب رسول الله ﷺ في إنكاره، وهو لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، وإلا فإن من صفته أنه ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] ولما استبدل هذا الرجل الطلاق الرجعي الذي هو سنة الله ورسوله بالطلاق البدعي، فعند ذلك اشتد غضب رسول الله ﷺ عليه، حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ وليس من هديه أنه يقابل الإساءة بالإساءة، ولا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله. كما قال بديل بن ورقة:
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سِيمَ خسفًا وجهه تعربدا
ثم قال الكاتب:

(ويدل على صحة وقوع الطلاق بالثلاث جميعًا ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن أبا ركانة طلق أم ركانة البتة، وأن رسول الله ﷺ استحلفه ما أراد بها إلا واحدة).

وقد تعرض الكاتب لحديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى وصححه بعضهم قال: طلق أبو ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبي ﷺ: «كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟» قال: ثلاثًا في مجلس واحد. فقال النبي ﷺ: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» فارتجعها.

ثم قال الكاتب: (إن هذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه لا دليل فيه البتة على محل النزاع - على فرض صحته - لا بدلالة المطابقة، ولا بدلالة التضمن، ولا بدلالة الالتزام، لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعة في مجلس واحد ولا يلزم منها كونها بلفظ واحد).

فالجواب: أن هذا الكاتب عفا الله عنه، يظهر منه أنه لا يقبل إلا الحديث الذي يتمشى على مذهبه ولو كان ضعيفًا.

أما الحديث الصحيح الذي يثبت كون الطلاق متى وقع بالثلاث في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة كهذا وأمثاله، فإنه يقابله بالرد والإنكار وصرفه إلى غير المعنى المراد منه، وهذا الحديث موافق لحكم الله ورسوله على أن الطلاق بالثلاث إذا وقع جملة واحدة فإنه لا يكون إلا عن واحدة.

وأما دعواه بأنه لم يثبت كونها بلفظ واحد، فإنها غلطة منه وعدم فقه منه بالطلاق الشرعي، فإنه متى طلقها بالثلاث بلفظ واحد، أو بعدد ألفاظ في مجلس واحد، فإنما يقع عليها واحدة فقط، والطلقتان الباقيتان تعتبران لغوًا في الكلام، بحيث لا يعتد بهما، لكون الرجعية لا يلحقها طلاق في طهرها. ولا يحق لكل إنسان أن يطلق في الطهر الذي لم يجامع زوجته فيه إلا طلقة واحدة، سواء وقعت بلفظ الثلاث أو بواحدةٍ، وسواء أكانت في مجلس أو في مجالس، إذ الطلاق الشرعي من شرط صحته كونه رجعيًّا. فدل هذا الحديث على بطلان الطلاق بالثلاث مجتمعة وأنه لا يقع فيه إلا واحدة بالالتزام والمطابقة والتضمن.

ويكفينا في الرد عن هذا كله قول الرسول ﷺ لأبي ركانة: «إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها» [367]. وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

ونحن نسوق قول العلامة ابن القيم في إغاثة اللهفان عن حديث أبي ركانة مفصلاً قال:

ضعف حديث أبي ركانة في الطلاق البتة:

وأما حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته البتة وأن رسول الله ﷺ استحلفه: ما أراد بها إلا واحدة، فحديث لا يصح. قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب العلل: قال أحمد: حديث أبي ركانة في البتة ليس بشيء. وقال الخلال في كتاب العلل: عن الأثرم قلت لأبي عبد الله: حديث أبي ركانة في البتة، فضعفه. وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد وغيرهم ضعفوا حديث البتة، وكذلك أبو محمد بن حزم، وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل لا تعرف عدالتهم وضبطهم. قال: وقال الإمام أحمد: حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته البتة لا يثبت، وقال أيضًا: حديثٌ ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا. وأهل المدينة يسمون من طلق امرأته ثلاثًا (البتة)

فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأن أهل بيته أعلم. يعني وهم الذين رووا حديث البتة. قال شيخنا في الجواب: إنما رجّح أبو داود حديث البتة على حديث ابن جريج لأنه رُوي حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول، فقال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد البر عن ابن جريج أخبرني بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس: طلق عبد يزيد، أبو ركانة أم ركانة ثلاثًا.. الحديث. ولم يرووا الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: طلق أبو ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد.

فلهذا رجح أبو داود حديث البتة على حديث ابن جريج، ولم يتعرض لهذا الحديث ولا رواه في سننه، ولا ريب أنه أصح من الحديثين، وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها أفادت العلم اليقيني، فإنها أقوى من حديث البتة بلا شك، ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب في ذلك، فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضعفه الأئمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث الصحيحة؟! انتهى.

* * *

[367] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس.

الحكم في طلاق ابن عمر لامرأته وهي حائض

ثم قال الكاتب:

(ومن جملة الأحاديث التي استدلوا بها على الطلاق بالثلاث هو ما جاء في روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض، فاحتسبت بواحدة.

ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره).

فالجواب: أن هذا الحديث له مدخل صحيح في كون الثلاث عن واحدة، وفي كون الحائض لا يلحقها طلاق، وفي كون الطلاق الشرعي لابد أن يقع في طهر لم يمسها فيه. ولفظ الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله ﷺ، فسأل عمر رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا». وفي رواية أخرى: قال ابن عمر: فردها عليّ ولم يرها شيئًا.

وهذا الحديث هو نص من أصول الدين، ويبين بطريق الوضوح أدب الطلاق ومشروعيته وبدعته، وكل بدعة ضلالة، وعلى فرض كونه طلقها ثلاثًا أو واحدة، فقد أمره رسول الله ﷺ بارتجاعها، أي ردها لتبقى عنده كحالتها السابقة، لكون هذا الطلاق في الحيض لم يصادف محلًّا للقبول، فكان باطلاً. وهذا معنى قول ابن عمر: فردها عليَّ ولم يرها شيئًا. ولهذا كان ابن عمر يفتي بما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وبما ثبت في القرآن الكريم، ويقول لمن سأله: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين فإن رسول الله ﷺ أمرني أن أراجعها. لاعتبار أن هذا الطلاق يعتبر طلاقًا رجعيًّا ممّا يدل بطريق الوضوح أن الطلاق بالثلاث هو كالطلاق بالثنتين، الذي أفتى رسول الله ﷺ ابن عمر بأن يردها ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.

وأما قول ابن عمر: أما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. رواه مسلم.

فهذا هو الجواب الشافي الكافي والذي يجب أن يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، وأن المطلق بالثلاث جميعًا هو كالمطلق بالثنتين جميعًا.

وقد قال فيه ابن عمر: إن كنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. لكونه طلاق بدعة غير مشروع، والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [368] وكفى بمعصية الله إثمًا، ولهذا قال: فردها عليّ ولم يرها شيئًا.

وأما الرواية الأخرى التي فيها: فردها عليّ وحسبت تطليقة. فإن هذه الرواية ينفيها صحة الحديث، فإن الرسول لا يحتسب إلا الطلقة الشرعية لا البدعية، كما عليه مدار نصوصه وأصوله. ويترجح أنها من قول بعض الرواة المقلدين لمذاهبهم، ولهذا كان ابن عباس يرى أن الطلاق عند أول كل طهر.

ثم إن الأصل الذي عليه السلف والفقهاء أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقود بتحريم الشارع لها وهذا متواتر عنهم.
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشـروط فكان ذا بطلان
قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار: (باب الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا معًا) ثم ذكر حديث أبي الصهباء، ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا فقد وقعت عليها واحدة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا الوقت على صفة، فطلقوا غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً وكَّل رجلاً وأمره أن يطلق امرأته في رمضان فطلقها في شعبان، أو أمره أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثًا، فإن طلاقه لا يقع لمخالفته لما أُمر به. ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم يبرك على ركبتيه، ويفجّر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق. ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه). انتهى كلام الطحاوي.

* * *

[368] متفق عليه من حديث عائشة.

عمر بن الخطاب وإمضاء الطلاق بالثلاث

ثم قال الشيخ محمد أمين: الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هنَاتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة! فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع[369] الناس في الطلاق فأجازه عليهم. هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهذه الطريقة الأخيرة أخرجها أبو داود.

وقال بدله: عن غير واحد. ولفظ المتن: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل جعلوها واحدة على عهد رسول اللهﷺ وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناسَ، يعني عمر، قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم.

وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:

الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة، ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلاً ولا شرعًا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاث مرات في وقت واحد، فطلاقه هذا طلاق الثلاث، لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة؟ من أين أخذت كونها بكلمة واحدة؟ فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟ فإن قال: لا يقال له: الطلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة، وهو أسعد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له. وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد، سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع، مما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة. انتهى.

فالجواب: أن الشيخ - رحمه الله - في تقريره قد تهالك في تقوية رأيه ونصر مذهبه، على حسب ما يعتقد من جعل الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو ألفاظ متعددة فإنه طلاق شرعي غير بدعي، فإن قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ يريد به الطلاق الشرعي، وكونه يقع عند ابتداء كل طهر. وهذا معنى قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي في قُبل عدتهن، كما قال ابن عباس: إن الطلاق عند كل طهر[370]. ثم إنه حاول إدخال هذه الرواية الضعيفة التي فيها طلاق غير المدخول بها، فساق قول ابن عباس: إن الإنسان إذا طلق امرأته غير المدخول بها ثلاثًا جعلوها واحدة، يوهم الناس أن الإجماع السابق الذي كان على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر أنه طلاق غير المدخول بها فسبحان الله!.. كيف يتم صرف الكلام إلى غير المعنى المراد منه، فإن غير المدخول بها تَبين بواحدة بقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩ [الأحزاب: 49]. فهذه القضية لا خلاف فيها بين الصحابة ولا عند العلماء الذين ينكرون الطلاق بالثلاث كشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيّم وغيرهما. ثم إن قوله: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. فإنها تعتبر ثلاثًا. يريد أن يجعل هذا الطلاق بصفته طلاقًا شرعيًا، ونحن إنما نحمل قوله مع جلالة قدره وسعة علمه على عدم التفقه في الطلاق الشرعي، لكونه قد صرف جُلّ علمه وجلّ فهمه في الطلاق البدعي، يحاول جعله شرعيًّا، فأنى له برفع أنف جدَّعته المخالب.

والطلاق الشرعي يجب أن يكون عند ابتداء كل طهر، فمتى قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. في طهر لم يجامعها فيه، فإنها تطلق بواحدة، والثنتان تعتبران لغوًا. لأن المفروض كون الطلاق رجعيًّا فرضًا محتمًا على الناس لقوله سبحانه: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي في قبل عدتهن، والرجعية لا يلحقها طلاق.

فسنة الطلاق هي أن الإنسان متى عزم على طلاق زوجته فإنه يجب عليه أن يراعي حدود الله ومحارمَه، والله يقول: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ [الطلاق:1].

فمن واجب الإنسان أن يطلِّق في طهر لم يجامعها فيه، ثم يتركها حتى تحيض حيضة، وبعد فراغها من غسلها عن الحيض، فإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها، كما يُشهد على طلاقها، وإن لم يراجعها فإنها تمضي في سبيلها في تكميل عدتها المشروعة في حقها، إلى أن تحيض الحيضة الثالثة وتغتسل منها، وعند ذلك تَبين من زوجها بينونة صغرى، إذا لم يطلقها سوى الطلقة الأولى، سواء كانت واحدة أو الثانية، فإن راجعها في خلال عدتها قبل أن تغتسل من حيضتها الثالثة، فهي زوجته كحالته السابقة بلا عقد ولا غيره لكون الرجعية زوجية، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ والقرء هو: الحيض، ويطلق على الطهر. ثم قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي: في زمن العدة. أما إذا خرجت من العدة أي بعد أن اغتسلت من حيضتها الثالثة، فقد قلنا بأنها تبين من زوجها بينونة صغرى. بمعنى أنه إذا ندم زوجها على طلاقها، وحاول أن يخطبها من أهلها، فإنها تباح له حينئذ بعقد جديد مستوف لشروط الصحة، إذ هو كخاطب من الخطّاب، وهذا من فضائل الطلاق الشرعي، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ [البقرة: 232].

قال ابن كثير في التفسير عن علي بن طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله الأولياء أن يمنعوها.

وذلك أن الطلقة الواحدة تبين المرأة إذا لم يراجعها زوجها في عدتها، ومثله الطلقتان المفرقتان، وعند الثالثة إما أن يمسك بمعروف أو يطلق بإحسان، فإن لم يطلق فإنها تطلُق منه ولا تحل له إلا بعقد جديد. وقد روى البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في معقل بن يسار وأخته، أن أخته طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها زوجها، فأبى معقل، فنزل قول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ.

وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار، وصححه الترمذي أيضًا ولفظه: عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهواها وهوته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لُكع بن لُكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدًا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢ [البقرة:232].

فدلت هذه الآية وتفسير الحديث لها على حسن الأدب مع الله في اختيار الطلاق الشرعي، وحسن عاقبته، من كون الزوج متى ندم على طلاقه ورغب في زوجته ورغبت فيه فإنه يجوز بعقد مستأنف من جديد.

بخلاف الحكم بلزوم الطلاق بالثلاث، وكون المقلدين يحرمونها على زوجها إلا بعد زواجها بآخر. فهم كما قال شيخ الإسلام: يحرمونها على زوجها الذي هي حلال عليه، ويبيحونها للغير وهي حرام عليه، تمشيًا مع مذهبهم وعلمائهم الذين يحكمون بذلك، وعلى إثر هذا الطلاق (المبتوتة) تسعى المرأة وزوجها في سبيل توسط المحلِّل لها. وقد لعن رسول الله المحلِّل والمُحلَّل له وسماه «التيس المستعار».

وروى مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم.

وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة؟! قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم وأجازه [371].

وأقول: إن هذا الحديث يدل على ما دل عليه القرآن في قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] والمرتان من شأنها أن تكون مرة بعد أخرى، وأن تكون كل مرة عند ابتداء كل طهر، إلا أن تكون المرأة حاملاً أو آيسة. يقول ابن عباس: إن الطلاق عند ابتداء كل طهر [372]. وهذا هو الإجماع السابق الذي دل عليه هذا الحديث زمن النبي ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر. وما كان شرعًا سابقًا زمن الرسول، ولم ينسخه الرسول فإنه شرع الله الذي لا يتغير ولا يتبدل إلا بسبب يقتضيه الشرع، وعمر وابن عباس وسائر الصحابة بشر ليسوا بمعصومين، قد يقع من أحدهم الخطأ على سبيل الاجتهاد، وله على خطئه أجر وعلى صوابه أجران.

لكن لا يكون حكمه أو تأديبه شرعًا مستمرًّا دائمًا، فمع فرض كونه أدّب الناس زمن ولايته ليرتدعوا عن سوء ما يعملون من شأنهم في الطلاق بالثلاث جميعًا، وهو أمر محرّم فألزمهم به تأديبًا لهم، فإنه لا يلزم أن يستمر هذا التأديب إلى يوم القيامة، وشرع الله أوفق ودين الله أحق.

ونحن نسوق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيله لهذا الطلاق الذي ألزم عمر الناس به.

قال شيخ الإسلام تعليقًا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم. فأنفذه عليهم.

قال: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث...

وإن قُدِّر أن عمر رأى ذلك لازمًا فهو اجتهاد منه اجتهده.

ومن جعل قول عمر فيه شرعًا لازمًا قيل له:

هذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رَدّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول.

وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين فيه بعمر. ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين: من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق عليٍّ الزنادقة بالنار، ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل الله له فرجًا ومخرجًا ولم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم، ألا يطلق إلا سُنِّيًّا، فإنه من المتقين في باب الطلاق، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة بل يلزم بواحدة فيها.

والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين:

إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة، كالزيادة على أربعين في الخمر، وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازمًا.

وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعًا لازمًا كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي.

وعلى هذا فالقول الراجح لهذا الموقع أنه يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته. انتهى[373].

فمتى علمنا هذا وكون عمر قد أراد به خيرًا، وقد تربى الناس على صحة إيقاع الطلاق بالثلاث، شب عليه الصغير وهرم عليها الكبير، ولم يجدوا من العلماء من يبين للناس خطأهم فيها، وصار العوام وبعض العلماء يظنونها حقًّا، ويحكمون بموجب لزومها؛ يعمد الشخص إلى أحد القضاة أو كتاب الوثائق فيوقع طلاق امرأته عنده بالثلاث، ثم يرجع إلى بيته فيصيح بامرأته وورقة الطلاق بيده، ويقول: اخرجي عن بيتي، أنت طالق، فلا يحل لي أن أرى وجهك. فينفذ القاضي صحة قوله وطلاقه، فلا يحكم لها بنفقة ولا سكنى، لاعتبار أنها مبتوتة أي مقطوعة. واعتمد الأئمة لصحة وقوع هذا الطلاق على حديث فاطمة بنت قيس أن أبا حفص طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. وأبو حفص إنما طلقها طلقة بعد طلقة، ثم أرسل لها الثالثة وهو باليمن. وهذه قد استوفى زوجها عدد الطلقات الثلاث وهي في بيته، فلا سكنى لها ولا نفقة.

ولما استدعاها مروان بن الحكم وسألها عن الطلاق الواقع عليها، حيث استفاض بين الصحابة أنها امرأة قد تحفظ وقد تنسى، فقالت لمروان: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] فهل بعد إيقاع الثلاث ينتظر أمر يحدث.

لهذا التزم المقلدون بالاستدلال بهذا الحديث، وهو واقع في غير موقعه الصحيح، فلا يقاس عليه طلاق المبتوتة التي طلقها زوجها بالثلاث في مجلس واحد وبلفظ واحد، فإن هذه في حكم الشرع رجعية، كما قال ابن عباس: إن الطلاق في أول كل طهر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

إن الطلاق الشرعي من لوازمه أن يكون رجعيًّا، بحيث إذا ندم على طلاقه أرجع زوجته إلى عصمته ما دامت باقية في عدته.

بخلاف من يحكمون بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًّا، فإنهم يحرمونها عليه ويسقطون نفقتها وسكناها فيندم حيث لا ينفع الندم كما قيل:
ندمت وما تغني الندامة بعد ما
خرجن ثلاث ما لهن رَجيع
ثلاث يحرِّمْنَ الحلال على الفتى
ويَصْدعْنَ شمل الدار وهو جميع
يقول العلامة ابن القيّم في كتابه إغاثة اللهفان: إن الذين يفتون بإيقاع الثلاث جميعًا أعظم إثمًا من الذين يفتون بجعلها عن واحدة وكونها تحل لزوجها، فإن هؤلاء يبيحونها لزوجها فقط، أما أولئك الذين يحرمونها بالثلاث، فإنهم يحرمونها على زوجها وهي حلال له، ويبيحونها للغير وهي حرام عليه. انتهى.

* * *

[369] التتايع: هو التتابع في الشر بدون تروٍّ ولا تفكير. [370] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس. [371] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [372] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس. [373] من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية مجموعة الشيخ ابن قاسم ص96، ص97 ج33.

فتوى ابن عباس في وقوع الطلاق بالثلاث

ثم قال الكاتب:

(ومن حجتهم على إيقاع الثلاث جميعًا، ما رواه أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا. فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول يا ابن عباس. إن الله تعالى قال: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربّك، وبانت منك امرأتك. وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير ابن عباس للآية).

فالجواب: أن ابن عباس رضي الله عنه هو حبر الأمة وترجمان القرآن وفقيه الصحابة، قد انفرد بأقوال وفتاوى خالفه فيها جُلُّ الصحابة.

وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، وهذه الفتوى الصادرة منه هي رأي ويدفع بروايته، لكون الرواية مقدمة على الرأي. وقد قال طاوس: أشهد بالله لقد سمعت ابن عباس يجعل الطلاق بالثلاث واحدة.

وقد حكى شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنه كان يفتي بلزوم الثلاث في بداية عمره، ثم رَجع عن رأيه، وقال: تدبّرت الكتاب والسنة فرأيت أن الطلاق الشرعي هو الرجعي، فلا يقع بالثلاث جميعًا إلا واحدة. وأن ابن عباس في زمانه لا يستطيع أن يخالف رأي عمر، فأفتى السائل بما أنفذه عمر من بينونة زوجته، قال: يركب أحدكم الأحموقة فيطلق ثلاثًا، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! عصيت ربك وبانت منك امرأتك[374].

والله سبحانه نصب العلماء كالنجوم يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، فلو عذرنا من أفتى بذلك زمن عمر، فإن عمر رضي الله عنه قد مضى إلى رحمة الله تعالى، وعندنا كتاب الله وسنة رسوله فهما الحكم القسط يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان الخلاف إلى مواقع الإجماع. والناس في هذا الزمان وخاصة بعض العلماء وأكثر العوام، يرون أن الطلاق بالثلاث جميعًا مشروعة، فهم يسألون متى وقعوا في هذه الشبكة إلى من يخرجهم منها.

فمن واجب العالم التقي والحاكم الشرعي أن يبين للناس ما نزل إليهم من شريعة ربهم.

وعلى فرض صحة الأثر عن ابن عباس، فإنه محمول على كونه أفتى به في خلافة عمر، فلا ينبغي أن يخالفه في أمر أراد عمر أن يؤدب به رعيته، ليرجعوا إلى الطلاق الشرعي الذي يملك به الرجل عصمة امرأته. ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

لكنة انقلب الأمر بعد أمير المؤمنين عمر، حيث جعل الناس هذا الطلاق البدعي هو السُّنِّي، وأصبحوا لا يعرفون غيره، شبّ عليه الصغير وهرم عليه الكبير حتى نسوا معالم الطلاق الشرعي وآدابه.

ثم إن هذا الأثر عن ابن عباس يؤكد صحة ما قلنا، من أن الطلاق بالثلاث جميعًا هو بدعة ومنكر من القول وزور. وقد قال ابن عباس لمن سأله عنه: أنت عصيت ربك. وكفى بعصية الله إثمًا. ثم قال: وإنك لم تتق الله - أي بامتثال أمره واجتناب نهيه - فلم يجعل لك فرجًا ولا مخرجًا؛ لكون الناس زمن الرسول ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن يعرفون الطلاق الشرعي ويوقعونه على حسبه عند حاجتهم إليه، وإن أوقعوه جميعًا جعلوه عن واحدة، كما جرى لطلاق أبي ركانة، وطلاق أبي حفص لزوجته فاطمة بنت قيس، وطلاق صهر معقل بن يسار. وحيث شبّ الناس على هذا الطلاق البدعي من لدن أتباع الأئمة، وصاروا لا يعرفون غيره، فإنه ينبغي أن يجاب السائل بما أنزل إليه من ربه، لكون العامي مشتق من العمى، والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44].

ولكل مقام مقال، فهؤلاء الذين يتعجلون بإيقاع الثلاث جميعًا، هم من العوام الذين لا يعرفون أحكام الإسلام ولا شريعة الطلاق، ويضيق صدر أحدهم بامرأته، وقد عرف أن الطلاق في الشرع هو ثلاث، فأراد أن يتعجل هذه الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات في مجلس واحد، فيبت بها طلاقها حتى يسلم من نفقة عدتها وسكناها. وهي مخالفة صريحة لأمر الله وحكمه، ومثل هذه الفتيا رجل مقلّد سأله إنسان عن طلاق زوجته بالثلاث جميعًا، فحرّمها عليه إلا بعد نكاح زوج غيره، ثم أنشد شعرًا ضمنه كتابه:
يا سائلي عن رجل قد طلقا
زوجته وبالثلاث نطقا
بلفظة واحدة قد جمعا
مرتكبًا محرمًا مبتدعا
ثم أتى مستفتيًا ليرجعا
فالحكم أن يُضرب ضربًا موجعا
لأنه طلاق بدعي
وبائن في الشرع ليس رجعي

فهذا أحد علماء الأحساء ويدعى الشيخ أحمد بن مشرف وهو سلفي العقيدة، لكنه من المقلدين الذين يقيّدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، كما ترى من شعره، وقد سمعت حكمه على هذا السائل بأن يُضرب ضربًا موجعًا، مع كونه يعترف بأنه طلاق بدعي، فهذا وأمثاله كثيرون.

ومثله الشاعر الرصافي الذي طلق زوجته ثلاثًا جميعًا، فطاف على العلماء يسأل عن طلاقه، وكل واحد منهم يقول: بانت منك وحرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك. فعمل قصيدته البائية ومنها:

ألا قُل في الطلاق لموقعيه
بما في الشرع ليس له وجوبُ
غَلوتُمْ في ديانتكم غُلوًّا
يضيق ببعضه الشـرعُ الرحيبُ
وَهَى حَبلُ النكاح وصار حتى
يكاد إذا نفخت به يذوب
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
فذا ابن القيم الفقهاء كم قد
دعاهم للصواب فلم يُجيبوا
والذي جعل هذا الطلاق البدعي يستفحل أمره واتباعه بين الناس حتى لا يعرفون غيره، هو كثرة أنصاره من سائر المقلدين لأئمة المذاهب.

وحسبنا ما نقله الكاتب عن الإمام ابن العربي رحمه الله، حيث قال: اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام، بأن الطلاق بالثلاث جميعًا وإن كان في قول بعض العلماء أنه بدعة، وفي قول الآخرين أنه حرام، فإن هذا الطلاق لازم.
إذا كان هذا نص قاضٍ وحكمهُ
فمن ذا الذي منه الهدى يُتعلمُ
قال العلامة ابن القيّم في مختصر الفوائد: إن الناس لما أعرضوا عن تحكيم الكتاب والسنة، ورأوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس واستحسان أقوال الشيوخ، عرض لهم في ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم، فعمّتهم هذه الأمور وغلبت عليهم، حتى رُبِّي فيها الصغير وهرم عليها الكبير. ثم جاءت بعدهم دولة أخرى أقامت البدعة مقام السنة، والمنكر مقام المعروف، والظلم مقام العدل. وكان أهل هذه الأمور المشار إليهم بالأصابع، فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وجيوشها قد ركبت[375]، فبطن الأرض - والله - خير من ظهرها، ومخالطة الوحش خير من مخالطة الناس. انتهى.

وذكر العلامة ابن القيّم أيضًا: أنه قد صح عنه ﷺ أن الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وأن الصحابة كانوا على ذلك، وأنهم كانوا يفتون به في حياته وحياة الصديق...

وقد أفتى هو ﷺ به. فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أَخذٌ باليد[376]، ولا معارض لذلك، ورأى عمر رضي الله عنه أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرًا لهم، لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه، غايته أن يكون سائغًا لمصلحة رآها، ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله ﷺ وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته، فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء. وبالله التوفيق.

وقال في موضع آخر: هذا كتاب الله تعالى، وهذه سنة رسول الله ﷺ، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله ﷺ والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدّهم العاد بأسمائهم واحدًا واحدًا، لوَجَد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى وإما وبإقرار عليها. ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك، فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر. وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى أو إقرار أو سكوت، وقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنًا بعد قرن وإلى يومنا هذا.

فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا. بفم واحد؛ فهي واحدة[377]. وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف.

وأما التابعون فأفتى به محمد بن إسحاق وخلاس[378] بن عمرو والحارس العكلي. وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، وأفتى به بعض أصحاب مالك، وأفتى به بعض الحنفية، وأفتى به بعض أصحاب أحمد.

والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله. والذي ندين الله تعالى به ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول اللهﷺ ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان[379]. انتهى حاصله. وقال الشيخ يوسف القرضاوي:

إن عيب الكثيرين من المشتغلين بالعلم أنهم سجنوا أنفسهم في قمقم التقليد والتعصب لمذهب معين لا يخرج أحدهم عنه، وإن بدا له ضعف مأخذه أو تهافت دليله لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أرجح ميزانًا وأفصح برهانًا. هذا مع نهي الأئمة المتبوعين رضي الله عنهم عن تقليدهم وترغيبهم في العودة إلى المنابع والأخذ من حيث أخذوا.

والحق أن التقليد لا يسمى علمًا، فالعلم هو معرفة الحق بدليله لا مجرد تلقي اللاحق عن السابق والخلف عن السلف، وإذا قُبل التقليد من العوام لم يُقبل أبدًا من العلماء الذين وقفوا حياتهم على العلم والبحث، ورحم الله من قال: لا يُقلد إلا عصبي أو غبي.

ويقول: وكم من عالم خلع ربقة[380] التقليد من عنقه وانتهى به البحث إلى رأي ارتضاه، ولكنه يكتمه أو يبوح به لخاصته والقريبين منه ولا يجرؤ على إذاعته بين جمهور الناس اتقاء لثورتهم التي لا تقف عند حد، وحرصا على السلامة من ألسنة هي أحدُّ من السيوف... والعالم الشجاع إذا وصل باجتهاده إلى رأي في قضية أذاع به وأعلن عنه ولم يبال في ذلك بهياج العامة وبسخط الخاصة. انتهى.

وقد قال بعض العلماء: إن محاسن الإسلام وحقائقه تذهب بين الجاحد والجامد. وقيل:
شكا دينُ الهدى مما عراهُ
بأيدي الجاحدينا الجامدينا
فالجاحدون يحسبون الدين جهلاً والجامدون يحسبون الجهل دينا

* * *

[374] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. [375] ركبت: أي علت وظهر أمرها. [376] لعله يقصد: أي يأخذ أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم بيد بعض في القول بفتوى رسول الله ﷺ. أو لعله يقصد أن هذه أدلة كأنها تأخذ بيد المستفتي إلى أقرب الطرق لمعرفة الصحيح من المسألة. [377] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. [378] لعله يقصد حديث أبي ركانة: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» رواه أحمد وأبو يعلى، وحديث مسلم عن ابن عباس أن الطلاق ثلاثًا كان واحدة على عهد رسول الله ﷺ. [379] ذكره صاحب الروضة الندية في الجزء الثاني كتاب الطلاق. ص51 - 54. [380] الرِّبْقَة والرِّبْق بمعنى واحد، وهو حبل يشد في عنق البهيمة والمراد: خرج من دائرة المقلدين.

وجوب الالتزام بالشرع والوقوف عند حدوده

إن الله سبحانه أرسل رسوله محمدًا ﷺ يهدي إلى الهدى ودين الحق، وأنزل عليه كتابه المبين ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فجاءنا بدين كامل شامل، بيّن فيه الحلال والحرام وسائر الأحكام، فنظم حياة الناس في عباداتهم وبيعهم وشرائهم ونكاحهم وطلاقهم أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان.

فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لكانوا به سعداء، لأنه يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

وقد أكثر سبحانه من الآيات التي فيها أحكام النكاح والطلاق. فقال فيها:

﴿ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢ [البقرة: 232].

ورغب سبحانه في النكاح فقال: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32] والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة. وضَيّقَ مسالك الطلاق لكونه كريهًا عند الله، يهدم بيوت الأُسر والعائلات، ويفرق بين الأهل والبنين والبنات، ويوقع العداوة بين الأصهار والعائلات، روى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ». وقال: «إِنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ»[381] وورد: «لَعَنَ اللهُ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ»[382].

لهذا شرع سبحانه في الطلاق أمورًا توجب التمهل فيه وعدم التسرع إليه، فشرع سبحانه أن لكل مطلقة عدة ثلاث حيض ممّن تحيض، أو بوضع حملها أو ثلاثة أشهر في الآيسة والصغيرة. وفي أثناء هذه العدة شرع الله للزوج فيها الرجعة ما دامت في عدته وحباله. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ ثم قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228]. أي في زمن العدة لكون الرجعية زوجية إن ماتت في عدته ورثها وإن مات في عدتها ورثته، حكم من الله ولا تبديل لحكمه. ثم إنها ما دامت في عدته، فإنه يجب عليه نفقتها وسكناها وفي أثناء العدة ينظر في نفسه وهذه رحمة من الله لعباده، ولو ارتفع حيض ذات المحيض بسبب رضاع ونحوه فإنها تمكث في عدتها إلى حين رجوع الحيض إليها، ولا يحل لها أن تنتقل عنه إلى العدة بثلاثة أشهر لكونها من ذوات المحيض وليست من الآيسات.

ففرض العدة وجواز الرجعة زمنها هي فرائض مُحتمة من الله كفرائض الصلاة والصيام، لكن المقلدين من أهل المذاهب يستبيحون سقوط لوازم هذه العدة من النفقة والمسكن كما يحرمون الرجعة في زمنها ويسمونها المبتوتة.

﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

لهذا رأينا كاتب الرسالة لم يجعل لعدة النساء ذكرًا ولا للرجعة زمنها شأنًا؛ لأنه لو بيَّن العدة والرجعة لهدمت أُصول مذهبه، وهو إنما يتكلم في الطلاق بالثلاث سواء كان بلفظ واحد أو بألفاظ، فإن حكم الشرع لا يختلف في موضوعه، لكون المطلق لا يحق له إلا طلقة واحدة عند ابتداء كل طهر، فإن زاد عليها الثانية والثالثة اعتبرت لغوًا، لكون الرجعية لا يلحقها الطلاق زمن عدتها.

وروى البخاري من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فقالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». مما يدل على أن سنة الطلاق هو أن يطلقها تطليقة واحدة. ولأبي داود والترمذي وحسّنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت عنه، فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة واحدة. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في المختلعات والمفسوخات بأن يكتفى منهن بحيضة واحدة.

* * *

[381] رواه الترمذي والبيهقي عن ثوبان، ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، والطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر. [382] في رواية الطبراني عن أبي موسى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ».

دعوة العلماء للعمل بالسنة

فيا معشر علماء المسلمين يجب علينا أن نحاسب أنفسنا وأن نفكر في أعمالنا وأحكامنا، هل نحن فيها على هدى أو في ضلال مبين؟ وهل نحن متّبعون أو مبتدعون؟

إن الحكم بالطلاق الثلاث المجموعة بكونها طلاقًا بائنًا لا تحل المرأة فيه لزوجها إلا بعد زوج آخر، فإن هذا حكم جائر يترتب عليه فنون من المساوئ والسيئات ومن الظلم والظلمات.

فمن مساوئه: أن العلماء سمّوه طلاق البدعة، ونحن - معشر المسلمين - يجب علينا أن نحارب البدعة وأن نردها إلى السنة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء: 59].

ولحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[383].

ومنها: أن الحكم بلزوم هذا الطلاق البدعي يترتب عليه لوازمه من سقوط النفقة والسكنى، حيث إن القائلين به والمتمسكين بمذهبه، استدلوا على سقوط النفقة والسكنى بحديث فاطمة بنت قيس، حيث بلغهم بلفظ أن أبا حفص طلقها ثلاثًا ولم يجعل لها رسول اللهﷺ نفقة ولا سكنى عليه، وأمرها أن تخرج من بيته إلى بيت ابن أم مكتوم. وقد غلطوا في فهم حديث فاطمة بنت قيس، فإن طلاق فاطمة وقع مفرقًا حسب الطلاق الشرعي، وعلى صفة ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه في الإجماع السابق.

ولفظ الحديث أنه أرسل لها بآخر تطليقة من الطلقات الثلاث وهو باليمن، وطلب وكيله منها أن تخرج من بيته، وقد قال رسول الله ﷺ - فيما رواه النسائي-: إنه لا يجب للمطلقة نفقة إلا إذا كان لزوجها عليها رجعة، أما إذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى، فأئمة المذاهب أخذوا بقوله في الحديث أنه طلقها ثلاثًا ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى على زوجها، ولم ينظروا إلى تفصيل الحديث وسبب سقوط النفقة، وهو كونها خرجت من عدتها بالثالثة، فلم يبق له عليها رجعة، كما أنه لم يبق لها عليه نفقة ولا سكنى.

فالذين يحكمون بلزوم الثلاث هم يحكمون بسقوط نفقتها زمن عدتها، ويقولون: إن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، والشرع يوجب النفقة لكل مطلقة ما دامت في العدة، كما أنهم يحرمون رجوع الزوج عليها زمن عدتها، وأنها لا تحل له إلا بعد زوج آخر.

ومن مساوئ الطلاق بالثلاث مجموعة: كونهم يحكمون بانقطاع الإرث من كل واحد منهما متى مات وهي في عدتها أو ماتت وهي في العدة، لزعمهم أن المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة ولا ترث زوجها ولا يرثها.

والطلاق الذي شرعه الله من لوازمه وموجباته بقاء المرأة في عدة الزوج حتى تخرج بعد غسلها من الثالثة، أو بعد وضع حملها أو بعد ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة. وهذه العدة والرجعة في خلالها هي فرائض من الله كفريضة الصلاة والصيام لا يجوز لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. يقول الله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي في حالة العدة. لكون الرجعية زوجية، والطلاق الشرعي من لوازمه أن يكون رجعيًّا.

لقد مكثنا زمانًا ونحن نرى كبار علماء المملكة العربية السعودية يفتي بعضهم بجعل الطلاق بالثلاث واحدة، يحكمون بذلك ولا يتأثمون. منهم مشايخ آل عتيق ومنهم الشيخ ابن سالم قاضي بلدان الخرج. وكذا الشيخ عبد الكريم البكري من أهل البكيرية وسكن بعمان وتوفي فيها فكان يفتي به لأهل عمان.

وحدثني الشيخ عبد الله بن قاسم الثاني حاكم قطر سابقًا، وهو ثقة صدوق، قال: حججت أول فريضتي فزرت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشيخ رحمه الله فبحثت معه في الطلاق بالثلاث جميعًا، فقال لي: أنا أفتيت بجعلها عن طلقة واحدة ثلاث مرات مع ثلاثة أشخاص.

وآخر من سمعنا عنه بأنه يفتي بها هو فضيلة العالم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عفا الله عنه، وأن جميع علماء العرب المسلمين في الأمصار كمصر والسودان والمغرب وسورية والكويت، قد عمّم علماؤهم العمل بجعل الطلاق الواقع بالثلاث عن طلقة واحدة، فأنقذوا قومهم من التورط في هذه المشكلة وساروا في طريقهم على وفق السنة المطهرة.

ومن مساوئ الحكم بلزوم الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو في طهر واحد: أنها تفتح باب التحليل على مصراعيه، بحيث إن الرجل متى انفلتت منه هذه الكلمة في حالة الغضب أو التشاجر، ثم ندم على ما فرط منه، وحاول الرجوع إلى زوجته، وربما أنها أم عياله، ثم سأل عن طلاقها العلماء الموجودين في بلده، وكلهم أفتوه بأنها حرام عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فإنه حينئذ تضيق به الأرض بما رَحبت، ويشتد حنقه[384] وقلقه على فراقها، ويزداد تلهفه على حبها، كما أنها تبكي على فراق زوجها، وقد قيل:
مُنعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا
فإنه حينئذ يعمل حيلته في توسط المحلل بينه وبين زوجته، وقد قال النبي ﷺ: «لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»[385] وسماه «التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ» وأكثر الناس لا يبالي عند وقوعه في هذه الضرورة كما قيل:
ألا قاتل الله الضـرورة إنها
تُبيح إلى المضطر أدنى الضـرائر
وقد ذكر في التاريخ أن رجلاً من العرب طلق زوجته بالثلاث فندم عليها حيث لم يجد من يفتيه بإرجاعها فأنشد:
ظلمتُك بالطلاق بغير جرم
ألا بِيني بنفـسي أن تبِيني
فأجابته بقولها:
رحلتُ إليه من بلدي وأهلي
فجازاني جزاء الخائنينا
فمن راني فلا يغترُّ بعدي
بحُلوِ القول أو يبلُو الدفينا
ومن طبيعة النفوس أنه متى سُدَّ عنها مشروعها فإنها تقتحم منه إلى محظورها.

ومن مساوئ الإفتاء بجعل الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو في طهر واحد أنها طلاق بائن، فإن من شؤم هذا الحكم وهذا الإفتاء، أنها نقلت أمة ظاهرة قاهرة من مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة.

وذلك أن فارس في قديم الزمان غالبُ سكانه من أهل السنة، والشيعة فيه قليلون إلى عام 707هـ حيث تولى الحكم الملك خدابنده محمد بعد أخيه غازان، وقد كان أخوه غازان ميّالاً لأهل السنة، وجاء خدابنده واستمر بعض الوقت مقيمًا على السنة إلى أن كانت سنة 709هـ حينما انتقل إلى مذهب الشيعة.

يقول الخوانساري في مؤلفه روضات الجنات: إن لابن المطهر دورًا بارزًا في تحويل السلطان من مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة، ويذكر لنا رواية تظهر هذا الدور الخطير.

وهي أنه غضب يومًا السلطان خدابنده من زوجته فطلقها ثلاثًا، ثم أراد أن يردها إلى عصمته، فقال له فقهاء أهل السنة: إنه لا سبيل إلى ذلك حتى تنكح زوجًا غيره. وصعب عليه ذلك، فأشار عليه رجال حاشيته من الشيعة أن يدعو فقيهًا من علماء الحلة[386] هو ابن المطهر، وأكدوا للسلطان أن هذا العالم هو الذي يخرجه من هذه الورطة، فلما حضر ابن المطهر واستفتاه السلطان فيما وقع منه من الطلاق ثلاثًا، سأله: هل طلقت بحضور شاهدين عدلين؟ قال السلطان: لا. فأفتى له ابن المطهر بأن الطلاق لم تتحقق شروطه، ولذلك لم يقع، وله أن يعاشر زوجته كما كان يعاشرها قبل الطلاق، فسُر السلطان بهذه الفتوى، فتشيع الملك. وبتسويل ابن المطهر كتب خدابنده إلى عماله بالأمصار بأن يُخطب باسم الأئمة الاثني عشر على المنابر، ونقش أسماءهم على نقوده، وأمر بأن تنقش على جدران المساجد والمشاهد منهم. انتهى.

فعند الشيعة أن الطلاق البدعي لا يصح ولا يلزم مثل الطلاق بالثلاث جميعًا، فإنها لا تصح عن واحدة، ولا عن ثلاث! وكذلك الطلاق في طهر جامعها فيه، أو الطلاق في الحيض، أو الطلاق غير المشهود عليه، فكلّ هذا يعدونه غير صحيح وغير لازم! ويستدلون بحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[387].

[383] متفق عليه من حديث عائشة. [384] الحنق شدة الاغتياظ. [385] أخرجه أصحاب السنن، والإمام أحمد، عن علي وعن عبد الله بن مسعود. [386] الحلّة: قرية مشهورة في أطراف بغداد. [387] متفق عليه من حديث عائشة.

الطلاق الشرعي هو ما شرعه الله ورسوله

إن القرآن الكريم والذكر الحكيم قد سبق إلى بيان كل فريضة وفضيلة، فضمّن الله كتابه كثيرًا من الآيات المحكمات المتضمّنة لبيان أصل الطلاق وتفصيله والأدب مع الله فيه، وبيان حلاله وحرامه، وبيان عِِدَد النساء مع اختلاف أنواعها، وبيان الرجعة ومن تستحق النفقة والسكنى ومن لا تستحق ذلك، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الشأن، وكل ما ذكر الله من أحكام الطلاق فإنما يتمشى على الطلاق الشرعي الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والذي هو معروف زمن النبي ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن، وهو كون الطلاق بالثلاث عن واحدة رجعية، حتى نقلهم عمر - رضي الله عنه - عنها إلى الإلزام بها، ولا يزال من الصحابة من يفتي بجعل الثلاث عن واحدة كعلي والزبير وابن مسعود في كثير من الروايات عنه.

ومن العجب أن هذا الشيخ الفاضل لم يذكر في بحثه الطويل العريض شيئًا من آيات القرآن المتعلقة بالطلاق الدالة على بيان حلاله وحرامه، لعلمه أن الاستدلال بها يعود عليه بسقوط مذهبه وتفنيد رأيه، ويكون استدلاله بها حجة عليه لا له، لهذا نراه يبعد عن الاستدلال بها كل البعد، ونراه يبالغ في صرف الكلام إلى غير المعنى المراد به، ويقول: إن الطلاق الذي كان على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر والذي نقلهم عمر عنه إلى الإلزام به، هو طلاق غير المدخول بها. ويستدل لهذا بأقوال ضعيفة وموضوعة، وتارة يقول: إن الطلاق الذي نقلهم عمر عنه، هو أنهم كانوا في ذلك الزمان صحيحة نياتهم، فكان أحدهم يطلق طلقة تأسيسية ويؤكدها بطلقتين، ومن المعلوم أنه يدان بنيته حتى عند الذين يحكمون بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا.

فسبحان الله ما أجرأه على التبديل بدلاً من التعديل، فقد حاول صرف الناس عن التعلق بهذا الحديث الصحيح الصريح الثابت في صحيح مسلم وفي السنن والمسانيد، والذي حدّث به ابن عباس في الطلاق الرائج بين الناس، والذي يكثر وقوعه دائمًا زمن الصحابة ومن بعدهم، ويقول: إن المراد به طلاق غير المدخول بها. ومن المعلوم أن غير المدخول بها لم يحصل فيها خلاف بين الصحابة ولا من بعدهم إلى يومنا هذا، وأنها تبين من زوجها بطلقة واحدة، حتى ولو طلقها بالثلاث فإنها تبين بواحدة، يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩ [الأحزاب: 49].

فهذه المرأة غير المدخول بها تبين من زوجها بطلقة واحدة، ولو ندم وحاول إرجاعها إلى عصمته فإنه تجوز له بعقد جديد.

وإننا عندما نتكلم على الطلاق في رسالتنا هذه، فإنما نتمشى فيها على الطلاق السني لا البدعي، إذ البدعي زيادة في الدين، ومن شريعة البشر لا من تشريع رب العالمين، فهو يدخل في عموم قوله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ [الشورى: 21] ونحن مكلّفون من قبل الله بأن نتلقى أحكامه بالقبول والتنفيذ، فنرد الطلاق البدعي إلى الطلاق السُّني، فإن قضاء الله أحق وحكمه ألزم، وهو رحمة من الله لعباده مع كراهيته له، لكن فيه الفرج والمخرج من كل ما يقع الناس فيه من الحرج.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب

* * *

تفسير ابن كثير لآيات الطلاق

لقد قلنا: إن كل ما ذكر الله في كتابه من شأن الطلاق وأحكامه وحلاله وحرامه، فإنما يتمشى على الطلاق الشرعي السني، كقوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] وقوله: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ [البقرة: 228] ومثل قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ [البقرة: 232] وقوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ [البقرة: 231] ومثله قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

قال ابن كثير: خوطب النبي ﷺ أولاً تشريفًا وتكريمًا، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري حدثنا أسباط بن محمد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: طلق رسول الله ﷺ حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة. رواه ابن جرير عن ابن بشار عن عبد الأعلى.

وروى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب، أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله ﷺ، فتغيظ رسول الله ﷺ منه، ثم قال: «لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا عَزَّ وَجَلَّ». وفي رواية لمسلم: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» [388].

ثم ساق حديث علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها، إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة.

وقال ابن كثير: من ههنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق، وقسموه إلى طلاق السنة وطلاق البدعة، فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرة من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها. والبدعي: أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا، وطلاق ثالث لا سنة ولا بدعة وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها.

وقوله: ﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1] لكونها معتقلة لحق الزوج أيضًا. ثم قال: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ أي شرائعه ومحارمه ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها ﴿فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ أي بفعل ذلك.

وقوله تعالى: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها، ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
قال الشعبي: هي الرجعة.

وقوله: ﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ [الطلاق: 2] قال عطاء: لا يجوز في نكاح، ولا طلاق، ولا إرجاع، إلا شاهدا عدل.

وعن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا رجعتها، فقال: طَلَّقْتَ لغير سنة، وراجعت لغير سنة، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُدْ [389].

ثم قال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ [الطلاق: 4] فهذه أنواع المعتدّات على اختلاف أجناسهن. انتهـى.

* * *

[388] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [389] أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين.

في مبتوتة الطلاق

اعلم أن مبتوتة الطلاق عند الفقهاء تطلق على من وقع عليها الطلاق بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة في طهر واحد، فالكلام في سكناها وفي النفقة عليها وجوبًا ومنعًا يتمشى على صفة الطلاق الذي ذكرناه.

فالذين يحكمون بلزوم هذا الطلاق وسقوط ما يترتب عليه من النفقة والسكنى يعتمدون في حكمهم على الحديث الذي رواه مسلم ورواه أحمد عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثًا قال: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةٌ».

ويسمونها المبتوتة ويحكمون بالثلاث بأنها بينونة كبرى، ويحرمونها على زوجها حتى تنكح زوجًا غيره. وقد وهم الأئمة وأتباعهم في هذا الحديث بلفظ: أنه طلقها ثلاثًا. ولم يبلغهم التفصيل الذي ذكرته فاطمة في جدالها مع مروان أمير المدينة ومع غيره، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود ومسلم بمعناه أن زوجها أبا حفص كان باليمن مع علي بن أبي طالب، فأرسل لها آخر تطليقة لها، وأمر وكيله بأن يدفع لها شعيرًا، فسخطته فجاءت إلى رسول الله ﷺ فأخبرت الخبر، فقال الرسول ﷺ: «إنه ليس لك عليه نفقة ولا سكنى، انتقلي من بيته إلى بيت ابن أم مكتوم» وفي رواية النسائي أنه قال: «إنما لا تكون النفقة إلا لمن لزوجها عليها الرجعة، أما من لا رجعة له عليها فلا نفقة لها ولا سكنى».

ولهذا قالت لمروان عند جداله لها: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] فماذا يحدث بعد الطلقات الثلاث؟ وقد صرح الأئمة بأنه لم يثبت شيء من السُّنة يخالف قول فاطمة، وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» فقد قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر. وقال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعًا.

وقال العلامة ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه، أن هذا كذب على عمر وكذب على رسول الله ﷺ وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرطُ الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصريحة الصحيحة بالكذب البحت، فلو يكون هذا عند عمر عن النبي ﷺ لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة، ولا دعت فاطمة إلى المناظرة. انتهى.

ووقوع الخطأ دخل على العلماء من لفظة: (طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى) فإن لفظ: (طلقها ثلاثًا) تحمل على كونها مجتمعة في مجلس واحد وبلفظ واحد، وعلى كونها مفرقة بين ثلاثة أطهار أي زمن العدة. وبين الصيغتين من الفرق كما بين السماء والأرض، فإن الطلاق الواقع على فاطمة بنت قيس هي ثلاث تطليقات مفرقة.

وقد أرسل زوجها إليها آخر الثلاث وهو باليمن، وعرف وكلاؤه بأنه لا حق لها على زوجها أبي حفص، لكونها بائنة منه بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد زوج، والنفقة والسكنى إنما فرضها رسول الله ﷺ على من لزوجها عليها الرجعة.

فغلط الأئمة وأتباعهم من أكثر الفقهاء وكل العامة وأكثر القضاة الذين يجيزون إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث، وهو أول طلاق وقع من الزوج، فيحرمونها عليه من لدن وقوع الطلاق، ويحرمون عليه رجعتها. ومن لوازم حكمهم بتحريم الرجعة هو حكم منهم بنسخ الرجعة من دين الإسلام التي فرضها الله بقوله: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة:228] إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ وليس في حديث بنت قيس دليل لهم في سقوط الرجعة ولوازمها من النفقة والسكنى، فإن طلاقه وقع مفرقًا، وقد أمضت عدتها في بيته، مما يدل على أن من لوازم صحته أن يطلقها عند كل طهر، لقوله سبحانه: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ والعدة هى الطهر ويجوز أن تبقى معه في البيت، وأن ينظر إلى وجهها، بل يجوز أن تتجمل له رجاء مراجعتها. ولهذا قال سبحانه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1] لأنها بمثابة المحادة لمصلحة الزوج، فمتى مضت العدة ولم يراجعها، فإن كان طلاقه لها مرة أو مرتين فإنها تبين بينونة صغرى وتنقطع نفقتها وسكناها، لكن لو بدا له بعد بينونتها أن يتزوجها جاز ذلك بعقد جديد مستوف لشروط الصحة.

وعليه يُحمل ما روى البخاري أن معقل بن يسار زوَّج أخته على رجل فطلقها، ثم إنه ندم عليها فخطبها من أخيها، قال له معقل: يا لكع أكرمتك بها وأهنتني بطلاقها، والله لا زوجتكها أبدًا. فعلم الله ما بين الزوج والزوجة فأنزل: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ [البقرة: 232] فدعا النبي ﷺ معقلاً فتلاها عليه، قال معقل: سمعًا وطاعةً لربي. فدعا الرجل وعقد له على أخته [390].

وهذا الطلاق الواقع من الرجل هو الطلاق الشرعي الذي كانوا يستعملونه زمن النبي ﷺ وزمن نزول القرآن، ومن بركته يجوز للرجل أن يتزوج مطلقته بعقد جديد.

أما لو طلقها بالثلاث مفرقة، فإنها تحرم عليه إلا بعد نكاح زوج غيره في نكاح صحيح لا نكاح تحليل، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا - أي الثالثة - ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230] ومنه يعلم أن الصحابة قد تربوا على معرفة الطلاق الشرعي والعمل به، فهم يطلقون المرأة عند ابتداء كل طهر، كما فعل أبو حفص في طلاقه لزوجته فاطمة بنت قيس، وكما فعل هذا الرجل لأخت معقل، ومن لوازم هذا الطلاق الشرعي أنها تبقى في بيت الزوج وينفق عليها حتى تخرج من عدتها.

قال الصنعاني في سبل السلام:

واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثًا فيقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.

وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم تستند إلى دليل واضح، وعدم استفصال الرسول ﷺ لطلاق أبي ركانة هل أوقع الثلاث في مجلس واحد، لأنه كان الواقع في عهد رسول الله ﷺ عدم إرسال الثلاث، وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث، فإنه تقع عليها واحدة، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا لقبول الطلاق فكان لغوًا. انتهى.

ويدل على صحة رجوعه بالطلاق الواقع بالثلاث ما رواه ابن عباس من حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فندم عليها، فسأل النبي ﷺ فقال: إني طلقتها ثلاثًا في مجلس واحد. فقال: «قَدْ عَلِمْتُ ذلك، فَرَاجِعْهَا». رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وقال: إن هذا الحديث أصح من حديث البتة؛ لأن حديث البتة رواته مجاهيل.

فهذا حكم رسول الله ﷺ في طلاق المبتوتة وكونه يجوز رجعتها، والرجعية زوجية.

فمتى طلق زوجته واحدة أو ثلاثًا في مجلس واحد، فإنه يحكم فيها بطلقة واحدة، وتبقى عنده رجعية، والرجعية لا يلحقها الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه، لكون المحل والزمن والشرع غير قابل لزيادة على الطلقة الواحدة في الطهر الواحد، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض فسأل النبي ﷺ عن ذلك، ثم قال مرة: «فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ لِيُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».

ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطلاق الشرعي هو الرجعي. ويروى عن الإمام أحمد أنه كان يفتي بلزوم الطلاق بالثلاث في أول عمره، ثم قال الإمام أحمد: إني تدبرت كتاب الله وسنة رسوله فلم أر فيهما إلا الطلاق الرجعي. لهذا رجع عن الإفتاء بلزوم الثلاث.

وقال ابن جرير في التفسير على قوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ وتأويل الآية: عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كن مدخولاً بهن تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان لأنه لا رجعة له بعد أن طلقها الثالثة.

وقال: سنة الطلاق التي سننتها لكم وأبحتها لكم إن أردتم طلاق نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك عليكم إما أن تمسكوهن بمعروف أو تسرحوهن بإحسان.

وعن مجاهد: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحبّ أن يفعل. فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، ثم قال الله تعالى ذكره الثالثة:﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع ثيابها. انتهى

قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله في الطلاق الرجعي والبائن في كتابه الأحوال الشخصية ما نصه:

كل طلاق يقع رجعيًّا إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية ولا يزيل الحل مادامت العدة قائمة. بل يكون المطلق له كل حقوق الزوج فله أن يراجعها في العدة في أي وقت شاء وأن المرأة حلال له، وحقوق الزوجية ثابتة لكل واحد منهما على صاحبه.

وإذا انتهت العدة في الطلاق الرجعي زالت الزوجية، ولكن يبقى الحل فله أن يعقد عليها في أي وقت شاء.

وفي أثناء العدة لا يمنع التوارث إذا مات أحدهما في العدة، فإذا مات الزوج في أثناء العدة ورثته الزوجة، وإذا ماتت الزوجة ورثها الزوج مادامت العدة كانت قائمة وقت الوفاة. ولا يحل بالطلاق الرجعي مؤجل المهر إذا كان مؤجلاً لأقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة. والطلاق يكون بائنًا في أربع أحوال:

1- إذا كان قبل الدخول؛ لأن الطلاق قبل الدخول يكون لغير عدة لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَا [الأحزاب: 49] وإذا كانت قبل الدخول لا عدة لها فلا يمكن مراجعتها.

2- إذا كان الطلاق على مال - الخلع - لأن الطلاق على مال هو لافتداء نفسها بما تقدمه من مال لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦ [البقرة: 229] ولا يمكن أن يتحقق افتداء مع ثبوت حق المراجعة في العدة، إذ يهدم هو بمراجعته فيها معنى الافتداء.

3- إذا كان الطلاق هو المكمل للثلاث فإذا طلقها واحدة وراجعها ثم طلقها أخرى وراجعها، ثم طلقها الثالثة، كان الطلاق بائنًا وكانت البينونة كبرى، وذلك لقوله تعالى بعد ذكر الطلقتين: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230].

فكانت الطلقة الثالثة هي نهاية ما سن له في الطلاق فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل.

4- الطلاق للعيب، والطلاق للسجن، والطلاق للتضرر بسبب الغيبة، والطلاق للضرر بسبب الإيذاء بالقول أو الفعل بما لا يليق بأمثالهما. وهذا الطلاق بائن بصورة الفسخ من قبل القاضي[391].

* * *

[390] أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي واللفظ له من حديث معقل بن يسار. [391] كتاب الأحوال الشخصية: ص 361،362،365،366.

الطلاق بالثلاث بدعة وحرام

ثم قال الكاتب رحمه الله في خاتمة بحثه نقلاً عن ابن العربي المالكي: (وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة - وإن كان حرامًا في قول بعضهم وبدعة في قول الآخرين - فإنه طلاق لازم). انتهى.

والجواب: أن هذا إنطاق من الله سبحانه بهذا الحق في هذا الطلاق الواقع بالثلاث جملة واحدة، وما كنا نتوقع نطقه به بعد أن رأينا شدة تعصبه لمذهبه، فهو يسلك في سبيل رأيه وإعلاء كلمته كل سبيل بفنون من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل، وكله يذهب جفاء ويرجع إلى الوراء.

والله تعالى يقول: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ [الرعد: 17].

فهذا الكاتب من بداية بحثه إلى نهايته وهو يدور على تصحيح الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة ويشير إلى أنه صحيح لازم.

وإننا لا نعلم في شريعة الإسلام حكمًا من الأحكام يتفق عليه علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام بأنه بدعة وحرام، ثم يتصدى قضاة المسلمين فيه بالصحة والإلزام، سوى هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، مع ما في الحكم به من الضنك والشدة والحرج والمشقة، بخلاف الطلاق الشرعي فإن فيه الراحة واليسر والسعة، فكانوا في استبدالهم به كما قال سبحانه: ﴿قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ [البقرة: 61].

وكما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

ومثله استدلاله بحديث ابن عباس في طلاق أبي ركانة ثلاثًا جميعًا في مجلس واحد، فرده النبي ﷺ فقال: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك» [392]. وهي حجة في موضع النزاع. ويقول في ترديدها: نعم، طلقها ثلاثًا في مجلس... ولم يثبت أن هذا الطلاق بلفظ واحد، يشير بهذا أنه إذا كانت الثلاث بألفاظ ثلاثة كأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنها بزعمه تطلق ثلاثًا، والكاتب - رحمه الله - لم يفقه المسألة حق الفقه، وإن كان هذا قولاً لبعض العلماء. والقول الصحيح أن الطلاق الشرعي يقع بأول طلقة من هذه الثلاث والطلقتان الزائدتان تعتبران لغوًا، لكون الطلاق لا يلحق الطلاق في طهر واحد، كما قالوا: إن الرجعية لا يلحقها الطلاق، وهي بالطلقة الأولى صارت رجعية يترتب لها لوازم الرجعية من النفقة والسكنى في المنزل، ثم إن تركها بعد هذه الطلقة الأولى ولم يراجعها حتى انقضت أقراؤها فإنها تبين منه بينونة صغرى.

ثم إنه كثر استدلاله بحديث محمود بن لبيد وأن رسول الله ﷺ أخبر أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا جميعًا فقام غضبان، وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله من شدة غضب رسول الله عليه [393].

ويقول الكاتب: إن سكوت الرسول عن هذا يدل على صحة طلاقه ولزومه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. ونقول: سبحان الله، فحسبه شدة غضب رسول الله عليه، وقوله: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، مما يدل بطريق الوضوح على تحريم هذا الطلاق الواقع بالثلاث جميعًا وعدم لزومه.

وإنما ذكرنا هذه النصوص لكثرة ما يرددها هذا الكاتب في بحثه، وهي حجة عليه لا له، وقد قال العلامة الصنعاني في سبل السلام بعد استعراضه لهذه الأحاديث التي ذكرناها ما نصه:

واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثًا: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.

وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم تستند إلى دليل واضح وعدم استفصال الرسول ﷺ لطلاق أبي ركانة هل أوقع الثلاث في مجلس واحد؛ لأنه كان الواقع في عهد رسول الله ﷺ عدم إرسال الثلاث.

وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث؛ فإنه تقع عليها واحدة، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا للطلاق فكان لغوًا. انتهى.

وقال الطحاوي وقد حكى القولين في كتابه شرح معاني الآثار، قال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثًا معًا. ثم ذكر حديث أبي الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قد وقعت عليها واحدة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً أمر أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة وطلقها على غير تلك الشريطة، أو أمره أن يُطلق في رمضان فطلقها في شعبان، أو أمره أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثًا؛ فإن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به. ثم ذكر حجج الآخرين القائلين بلزوم الثلاث معًا، وذكر الجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم يبرك على ركبتيه ويفجّر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق. ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه.

* * *

[392] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عباس. [393] أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد.

الحكم الشرعي في الطلاق السني والبدعي

قال[394] في المقنع في باب سُنة الطلاق وبدعته ج3 ص137:

السُّنة في الطلاق أن يطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. وإن طلق المدخول بها في حيضها، أو طهر أصابها فيه، فهو طلاق بدعة محرم ويقع، ويستحب رجعتها، وعنه أنها واجبة. انتهى.

والأصل في ذلك قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ [الطلاق: 1] أي إذا أردتم تطليق نسائكم فطلقوهن لعدتهن، أي في طهر دون جماع وبدون حيض. كما يفسره حديث ابن عمر في الصحيحين أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي ﷺ عن ذلك، قال له رسول الله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وفي رواية: فردّها عليّ ولم يرها شيئًا. وقوله تعالى: ﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ أي يحصر العدد لمدتها، لوقوع الخطر في الجهالة بها، فقد راجعها بدعوى أنها باقية في عدتها فله الحق في مراجعتها، ثم هي تدعي أنها خرجت من عدته فلا حق له في رجعتها، فيجري الخلاف بينهما على حساب ذلك. لهذا ورد الأمر بحصر العدة والإشهاد على الرجعة لزوال اللبس. والأمر بوجوب الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة متأكد لقوله: ﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ [الطلاق: 2]. والأمر يقتضي الوجوب.

وقد ذكر الفقهاء كون الرجعة تصح بالفعل ولو بدون إشهاد، كأن يمسها أو يقبلها مما يدل على رغبته فيها، لاعتبارها زوجتة، ولا شك أن الأفضل الإشهاد على الرجعة تأسيًا بالقرآن وحذرًا من النكران. ثم قال: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1] مما يدل بطريق الوضوح على أن لكل مطلقة عدة وأن للزوج الحق في ارتجاعها في مدتها ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ [البقرة: 228] ثم قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة:228]، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] أي ثلاث حيض. أي في زمن العدة. وهذه الرجعة حق للزوج حيث جعلت امرأته بمثابة المحادة في بيته زمن عدتها رجاء مراجعتها، فإبطال هذه الرجعة فيما يسمونه المبتوتة لا صحة له، فلكل مطلقة الحق في النفقة والكسوة والسكنى، وكذا مراجعة الزوج لها مدة عدتها، فكل هذه من الحقوق التي أوجبها الله سبحانه فلا حق لأحد في أن يحتال لإسقاطها أو يحكم ببطلانها، فقضاء الله أحق وحكمه ألزم.

وحتى الآيسات من العجائز أو البنات الصغيرات اللائي لم يحضن قد أوجب الله عليهن العدة بثلاثة أشهر لقوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ [الطلاق: 4] كالبنات الصغيرات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا. وهذه العدة جعلت في مصلحة الزوجين بحيث تكون المرأة المحادَّة في بيته مدة العدة أي ثلاثة أشهر رجاء مراجعته لها، فتبقى في منزله وينفق عليها من ماله لاعتبار أن الرجعية زوجته.

وفيها أنزل الله: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ [الطلاق: 6] فتبطلوا حق الله فيما حكم به لهن.

وقد حكم رسول الله ﷺ - وحكمه حق وعدل - أن للزوجة النفقة والسكنى مادام للزوج حق الرجعة عليها، وإذا لم يكن له رجعة بأن خرجت من عدته فلا نفقة لها ولا سكنى. وحتى لو مات أحدهما في أثناء العدة فإنه يرثه الآخر.

قال في الفروع ج5 ص538:

وإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت وابتدأت عدة وفاة من حين موته، لكونها وارثة. ثم قال: ويلزم الإحداد في العدة كل متوفى عنها في نكاح صحيح فقط. انتهى.

لكون الرجعية زوجية فتدخل في عموم قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ [البقرة: 234].

إلا الحامل فإن عدتها في الطلاق وفي وفاة الزوج بوضع حملها، سواء قصرت مدتها أو طالت؛ لقوله سبحانه: ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ [الطلاق: 4] من سورة الطلاق وهي إنما نزلت بعد سورة البقرة.

وفي الصحيح أن سبيعة الأسلمية[395] نفست بعد وفاة زوجها بأربعين يومًا فتجمّلت للخطّاب. قال لها أبو السنابل بن بعكك: والله ما أنتِ بناكحة حتى يمر عليك أطول الأجلين. قالت: فأخذت عليَّ ثيابي فأخبرت رسول الله ﷺ بقول أبي السنابل، فقال: «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ، فَقَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ» [396]. متفق عليه، ولهذا كان ابن مسعود يقول: من شاء لاعنته من كون الحامل عدتها في الطلاق وفي الوفاة بوضع حملها، سواء قصر أو طال - فكيف تجعلون عليها التطويل والتثقيل ولا تجعلون لها الخفيف؟!

وقد علمنا مما سبق قول الموفّق أن من طلق زوجته في حيضها أو في طهر أصابها فيه فإنه بدعة، ويقع، ويستحب مراجعتها، وفي الرواية الثانية أنه يجب مراجعتها.

فقد عرفت من هذه الرواية للإمام أحمد أنه متى وقع الطلاق على الطريق البدعي كالطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه أو بالثلاث جميعًا، فإنه يجب رجعتها في إحدى الروايتين. وهذا هو الرأي الأخير من الإمام أحمد كما حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الإمام أحمد أفتى في أول عمره بالإلزام بالثلاث، ثم رجع عنه إلى القول بجعل الثلاث عن طلقة واحدة، وقال: إني تدبرت الكتاب والسنة فلم أر فيهما إلا الطلاق الرجعي. وصدق في ذلك فإن الإلزام بالثلاث مع ما يترب عليه من سقوط النفقة والسكنى والرجعة أنه قول مبتدع ليس له دليل من الكتاب ولا من السنة.

وبمعناه الطلاق بالثلاث جميعًا بلفظ واحد أو في ألفاظ متعددة في طهر واحد فإنه طلاق بدعة أيضًا، لما روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله ﷺ عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام رسول الله ﷺ غضبان وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ من شدة غضب رسول الله. وهو لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله.

وقد رد رسول الله ﷺ طلاق أبي ركانة الواقع منه بالثلاث في مجلس واحد فحزن عليها، فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك».

ونص الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: طلق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول اللهﷺ: «رَاجِعْ امْرَأَتَك» فقال: إني طلقتها ثلاثًا. قال: «قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا». رواه أبو داود وفي لفظ لأحمد: طلق أبو ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثًا فحزن عليها، فقال له رسول الله ﷺ: «فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ». وروى أبو داود من وجه آخر أن أبا ركانة طلق امرأته سهيمة البتة، فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة. فردها إليه النبي ﷺ. وقد أسلفنا الكلام على طلاق أبي ركانة وقضية المبتوتة من رسالتنا هذه فليراجع.

لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الإمام أحمد والبخاري وأبا عبيدة ضعفوا حديث البتة، وقالوا: إنه ليس بشيء ورواته مجاهيل فسقط الاستدلال به. وقد قيل: إن أهل المدينة يسمون الثلاث البتة، فدل الحديثان الأولان على أن الطلاق بالثلاث جميعًا إنما يرد إلى واحدة.

وقال في المغني: والرواية الثانية: أن جمع الثلاثِ طلاقُ بدعة محرمٌ اختارها أبو بكر وأبو حفص، وروي ذلك عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. قال علي رضي الله عنه: لا يطلق أحد للسنة فيندم. وفي رواية قال: يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها، وعن عمر أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثًا أوجعه ضربًا. انتهى.

وتطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه وليست بحائض هي السنة بالإجماع امتثالاً لأمر الله سبحانه، وموافقة لقول السلف، وأمنًا من الندم. فإنه متى ندم راجعها، فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها بعقد جديد. قال محمد بن سيرين: إن عليًّا كرم الله وجهه قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق، ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدًا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثًا، فمتى شاء راجعها [397].

وإذا قال: أنت طالق للسُّنة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضة فإنها تطلق طلقة واحدة، ومثله الوكيل في الطلاق فإنه يلزم الطلاق بواحدة لكون الوكيل لا يملك إلا واحدة وهي طلاق السنة.

وإن كل من تأمل نصوص الفقهاء في الطلاق وفي غير الطلاق، وجد بعضهم ينقل عن بعض القول على علاته، كما استدلوا على جواز الطلاق بالثلاث جميعًا بلفظ واحد أو بألفاظ في طهر واحد، وكونه طلاقًا بائنًا لا تحل لزوجها إلا بعد نكاح زوج غيره؛ مع اعترافهم بأنه طلاق بدعة وحرام، وكون الحكم ببينونتها يخالف حكم الله ورسوله في قوله: ﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1]. ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وفي قوله: ﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1]. وفي قوله في الآيسات: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ [الطلاق: 6].

وفي حكم النبي ﷺ على طلاق أبي ركانة الواقع منه بالثلاث جميعًا فقال له النبي ﷺ: «رَاجِعْ امْرَأَتَك» وفي قول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[398].

وكل الأحاديث التي استدلوا بها على جواز الطلاق بالثلاث كلها تدور بين صحيح ليس بصريح وبين صريح ليس بصحيح، كاستدلالهم بطلاق الملاعن عويمر العجلاني، وقد وقعت الفرقة الأبدية بمجرد اللعان فوافق طلاقه لغوًا. ومثله استدلالهم بطلاق أبي ركانة البتة. وقد حقق أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد بأن حديث البتة ليس بشيء ورواته مجاهيل فسقط الاستدلال به. وكحديث فاطمة بنت قيس فإن زوجها أبا حفص طلقها ثلاثًا تدريجيًّا مفرقة، حتى أرسل لها وهو باليمن آخر ثلاث تطليقات، وقد قضت عدتها في بيته واستوفى مطلقها غاية ما سُنَّ له، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى. وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، فليس من باب المبتوتة وإنما هو من باب الطلاق الشرعي، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه أجاز الطلاق بالثلاث.

ومن عجيب شدة التعصب للمذهب مع العلم بضعفه ما ذكره الكاتب عن الإمام ابن العربي رحمه الله في قوله:

وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد في الأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة - وإن كان حرامًا في قول بعضهم وبدعة في قول الآخرين - فإنه طلاق لازم. انتهى.

فالجواب أن نقول: إننا لا نعلم في شريعة الإسلام حكمًا من الأحكام يقول فيه علماء الإسلام بأنه بدعة وحرام، ثم يحكم فيه القضاة بالصحة والإلزام، إلا هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، مع ما فيه من الحرج والمشقة، بدلاً من الطلاق الشرعي الذي فيه الراحة والرحمة والسعة، فكانوا فيه كما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة، فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكمُ ضروب
وإنه ما من أحد من كبار العلماء إلا وقد عرف حقيقة الطلاق الشرعي والطلاق البدعي.

لكن بعضهم يختار الحكم بالطلاق البدعي لأن فيه شدة وغلظة على العوام، ممن يحبون عدم التسرع إليه والتوسع فيه، فصار العمل بهذا عقيدة لهم وطريقة، وهي نفس ما فعله عمر رضي الله عنه من إلزام الناس بالثلاث جميعًا.

لكن هنا أمر ينبغي أن يفطن له، وهو أن الصحابة كلّهم والتابعين وأئمة المذاهب والعلماء المتقدمين والمتأخرين، فكل هؤلاء ليسوا بمعصومين، فقد يقع الخطأ من بعضهم في قول مرجوح قاله، أو رأي انتحله على سبيل الاجتهاد الخطأ، وله على خطئه أجر. لكن لا يكون المنتصر لخطئه أو المقلد له في رأيه بمثابته في حصول الأجر، وحتى الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر والبحث والتفتيش عن الحق في مظانّه حتى يقف على عينه، فيأخذ به ويحكم بموجبه، لأنه لو اغتفر التقليد في حق العوام فلن يغتفر في حق العلماء الأعلام، الذين أوقفوا نفوسهم في الاشتغال بالعلم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، لكون العلم هو معرفة الحق بدليله مع بيان صحيحه من عليله، فمن علم بشيء منه فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. فما عالم بدينه كمقلده.

وقد اتفق جميع علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام على أن من استبان له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.

* * *

[394] المؤلف هو عبد الله بن أحمد بن قدامة صاحب التصانيف العظيمة، منها: عمدة الفقه، والمقنع، والكافي، والمغني في عشرة مجلدات. وقد توفي عام 620هـ. [395] سبيعة الأسلمية هي زوجة سعد بن خولة توفي بمكة عام الفتح ورثاه رسول الله ﷺ بقوله: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ غَيْرَ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ» يرثي له رسول الله أن مات بمكة. رواه البخاري. [396] متفق عليه من حديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية. [397] ذكره ابن قدامة في الشرح الكبير. [398] أخرجه مسلم من حديث عائشة.

وجوب العدة وجواز الرجعة زمنها

فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة:229] فصرحت هذه الآية بأن لكل مُطلقة عدة بحسبها، وأفادت جواز الرجعة خلالها في إمساكها بارتجاعها متى رغب فيها، أو تسريحها متى انتهت من غسلها من الحيضة الثالثة.

وهذه الآية - كنظائرها - نص في وجوب العدة لكل مطلقة تتربص فيها؛ ريثما يفكر الزوج في عزمه على رجعتها أو على فراقها فيتركها حتى تنتهي من غسلها من حيضتها الثالثة فتبين منه وتحل للأزواج.

نظيرها قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة: 132]. أي شارفن على انقضاء عدتهن ولم يحضن بعد، فعند ذلك يفكر الرجل في أمره، فإن رغبها ارتجعها وتكون عنده زوجة له كحالتها السابقة، وإن رغب عنها تركها تمضي في سبيل إكمال عدتها، فبعد غسلها من الحيضة الثالثة تحرم عليه وتحل للأزواج، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ [البقرة: 231] ونظيره من سورة الطلاق: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ [الطلاق: 2] فقوله: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّۚ أي قاربن على انقضاء عدتهن بإقبالهن على الحيضة الثالثة ولمّا يحضن بعد، في ذلك الوقت يفكر الرجل في إمساكها بارتجاعها بالمعروف أو فراقها بأن يخلي بينها وبين إكمال عدتها بفراغها من غسلها من حيضتها الثالثة؛ فعند ذلك تحرم عليه وتحل للأزواج.

فهذه الآيات تؤكد أن لكل مطلقة عدة تتربص فيها، وأن للزوج جواز الرجعة في خلالها فرضًا محتمًا، فليس في شريعة الإسلام طلاق بائن بدون عدة ولا رجعة. فالحكم بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا وكونه طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه ولا نفقة ولا سكنى هو من باب اتخاذ آيات الله هزوًا ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

وإن المقلدين من علماء الدين قد اتخذوا هذه الأحكام بمثابة المنسيات أو المنسوخات من أحكام شريعة الإسلام، وجعلوا هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا من قبيل العقوبة الصارمة أو الصاعقة النازلة على هذه المرأة الضعيفة، بحيث تحل بها ثم تنقلها إلى بيت أهلها بدون إكرام ولا احترام، وبدون رحمة ولا حنان، وبدون إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ولم ينزل الله هذه الآيات المحكمات إلا للعمل بها ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩ [البقرة: 229]. ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] والله أعلم.

أما طلاق غير المدخول بها فإنه لا عدة عليها لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩ [الأحزاب: 49] وإن فرض لها في صلب العقد مهرًا معلومًا، فإنها تستحق نصف المسمى لقوله سبحانه: ﴿وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ [البقرة: 237] أما إذا خلا بها بعد العقد فإنها تستحق المسمى بكماله، فقد قضى الخلفاء الراشدون على أن من أسبل الحجاب وأغلق الباب وخلا بامرأته قد وجب عليه جميع المسمى.

آداب عقد النكاح وإثبات الطلاق

إن من الأمر المؤكد أن يوجد مقر يجتمع فيه الناس لعقد الأنكحة وإثبات الطلاق، ويتولى هذا المجلس أناس فقهاء يعرفون أحكام النكاح والطلاق، وإن العلم بالتعلم، وكثرة المزاولات تعطي الملكات أي الحذق في المعرفة.

هذا وإن عقد النكاح أيسر في نفوسنا من إثبات الطلاق، لكون الأنكحة يعرفها كل العوام، وأنها تدور على الإيجاب والقبول، والولي وشاهدي عدل، ورضا الزوجة وإزالة الموانع، كصحة خروجها من عدة من طلقها وعدم الإكراه على زواجها، وهذا كله معروف بلا إشكال.

وإنما الأمر المشتبه على أكثر العلماء وكل العوام هو الطلاق وكيفية آدابه وحلاله وحرامه. والإسلام وإن كان يجعل الطلاق مفوضًا للزوج وحقًّا من حقوقه، لكنه لم يجعله حقًّا مطلقًا يستعمله كيفما شاء، ويوقعه في أي وقت أراد. وإنما وضع له قيودًا إذا راعاها الزوج كان إيقاع الطلاق مباحًا لا إثم فيه، وإذا فقدت أو فقد واحد منها كان إيقاعه محظورًا.

وإن من الواجب على الفقيه أن يعلّم الناس كيفية ما يجب عليهم من الطلاق عند حاجتهم إليه...

أولاً: أن الطلاق بدون سبب يوجبه يعد من الأمر المكروه عند الله وعند رسوله، والله تعالى نهى الأزواج عن التعرض للزوجات إذا استقام أمرهن وصلح حالهن في قوله سبحانه: ﴿فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ [النساء: 34] والنبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ»[399]. فلو طلق الرجل زوجته بدون سبب يدعو إلى طلاقها كان آثمًا، ولكن الطلاق الذي أوقعه يكون معتبرًا ومعتدًّا به شرعًا.

ثانيًا: يُشعر الزوج بأنه لا يحل له أن يطلق زوجته في طهر جامعها فيه، كما لا يحل للفقيه وكاتب الوثائق أن يثبت طلاقه بهذه الصفة؛ لكونه أمرًا محرمًا، فيكون شريكًا له في الإثم، فيقول: أخّر الطلاق حتى تحيض ثم تطهر.

ثالثًا: أن تكون الزوجة غير حائض، فإن الطلاق في حالة الحيض محرم لا يحل إثباته ولا الشهادة عليه حتى تزول عنها الحيضة، ثم يستقبل الطلاق في الطهر.

رابعًا: لا يجوز أن يطلقها بالثلاث مجتمعة، سواء كانت بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، كما يجب على الفقيه ألا يثبت طلاق هذا إلا عن طلقة واحدة.

وصفة الإثبات لهذا الطلاق هو أن يقول:

إنه بتاريخ يوم....../....../ من........ عام......

حضر فلان بن فلان وطلب مني سماع طلاقه لزوجته فلانة بنت فلان...... وأنه طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، وقد أشعرته بحكم الشرع بأن هذا الطلاق يقع عن طلقة واحدة بالكتاب والسنة، كما أشعرته بأن المرأة تبقى زوجة له رجعية كحالتها السابقة، ويجوز أن ينظر إليها بلا محظور وأن ينفق عليها مادامت في العدة، فإن طلقها طلقة ثانية في طهر لم يجامعها فيه فهما طلقتان، ثم يفكر في نفسه فإن رغب في إمساكها فإنه يراجعها، والأفضل أن يشهد على رجعتها، وتكون عنده زوجة له كحالتها السابقة، حتى إذا حاضت من حيضتها الثالثة بانت منه وحرمت عليه.

لكنه لو ندم عليها جاز له أن يتزوجها بعقد جديد، أما إذا طلقها الثالثة فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره...

وإن هذه الأحكام يجب تعليمها للعوام حتى يتربوا على العلم بأحكام الطلاق الشرعي.

ثم الحكمة من هذا التشريع هو رغبة المشرع الحكيم في تحاشي وقوع الطلاق، وإبقاء الزوجين على حالة الحياة الزوجية ما أمكن؛ لأن الزوج إذا أراد الطلاق ومنعه الشارع من إيقاعه في فترة الحيض وفي حالة الطهر الذي واقع زوجته فيه، وطالبه بالانتظار حتى ينتهي الحيض، ثم يوجد الطهر الذي لم يخالطها فيه، وجد أمامه مدة من الزمن يتروى فيها ويفكر في الأمر العظيم الذي سيقدم عليه، وقد يدعوه ذلك إلى العدول عن الطلاق والإبقاء على الزوجية ويحل الوفاق محل القطيعة والشقاق... وبذلك تصان الحياة الزوجية وتحفظ الأسر من التفكك والانحلال لكراهة الشارع التسرع في الطلاق والتوسع فيه.

ثم إن الطلاق الذي يجوز سماعه وإثباته هو أن يطلق زوجته طلاق السنة أو بالطلقة الواحدة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضًا، فيثبت هذا الطلاق رجعيًّا، بمعنى أن يشعر الزوج وكذا الزوجة بتريثهما إلى حين أن تحيض الحيضة الأولى، فإن طلقها ثانيًا جاز ذلك وتعتبر طلقتين، ثم هو مخير بين أن يمسكها بالمعروف وذلك بارتجاعه لها والأفضل أن يشهد على رجعتها فتبقى زوجة له كحالتها السابقة، فإن تركها ولم يراجعها حتى حاضت الحيضة فإنها تطلق منه وتحرم عليه؛ لكنه لو ندم على طلاقها جاز له ذلك بعقد مستأنف من جديد، أما إذا طلقها الثالثة فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، ويكون نكاح رغبة لا نكاح تحليل؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230] ويكون بالطلقة الثالثة كمن أغلق الباب بينه وبين الاتصال بزوجته.

وقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه: الأحوال الشخصية ص357: إن الطلاق المتعدد بلفظ الثلاث، أو بإشارة مقترنة بالثلاث، أو بثلاث طلقات متتابعات في مجلس واحد، يقع طلقة واحدة، لأن السنة أن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولا في الحيض قبله، فإذا خالف السنة وطلق اثنتين أو ثلاثًا بلفظ واحد، فإنه يمضي عليه ما أذن به الشارع وهو وقوع طلقة واحدة ويكون الباقي لغوًا. وأيضًا إن الطلاق كما هو صريح الآية الكريمة ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ [البقرة: 229] لا يقع إلا في دفعات، فلا يقع مرة واحدة، فإذا أوقعه دفعة واحدة بلفظ الثلاث، أو بالنطق ثلاث مرات، فإنه لا تقع إلا واحدة والعدد لغو، أو ما يجيء بعد ذلك لغو لا يلتفت إليه.

وقد جاء القانون المعمول به في مصر رقم25 لسنة 1929م وعالج هذه الحال باعتبار أن الطلاق المتعدد لا يقع إلا واحدة، وهو مذهب طائفة من السلف وتبعهم بعض الفقهاء، ونصت على ذلك الحكم المادة الثالثة وهي: الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلا واحدة. انتهى.

كما أن غالب بلدان العالم الإسلامي اليوم تأخذ بهذا، أي تجعل الطلاق المقترن بعدد لا يقع إلا طلقة واحدة.

وإن المقصد من الحكم الشرعي في الطلاق هو حمل المطلق على ألا يسير إلا في الطريق الذي رسمه القرآن الكريم، فلا يطلق دفعة واحدة، والطلاق في المجلس الواحد ولو متتابعًا يعد دفعة واحدة.

* * *

[399] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر.

خاتمة الرسالة

أرفع كتابي هذا لعلماء الإسلام وللرؤساء والحكام، عليهم مني السلام. إن فائدة الاستماع الاتباع وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولكونه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وإن العلماء الكرام هم قادة العوام في أحكام الإسلام وأمور الحلال والحرام.

وإننا متى قلنا: إننا متبعون لا مبتدعون، وإننا مسلمون مستسلمون للانقياد لأمر الله واجتناب نهيه والحكم بما شرعه في كتابه وعلى لسان نبيه، والعمل بموجبه، فيجب علينا أن نرد الطلاق البدعي الذي هو من شريعة البشر إلى الطلاق السُّني، فقضاء الله أحق وحكمه ألزم.

إن جميع العوام الخاص منهم والعام قد تربوا على الطلاق البدعي، حتى إنهم لا يعرفون الطلاق السُّني الشرعي.

وزيادة على ذلك فإن العلماء في بعض البلدان قد منعوا بطريق الإلزام عن الحكم بالطلاق الشرعي، ويلزمون الناس بالطلاق البدعي الذي متى طلقها زوجها ثلاثًا بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة وربما كان في طهر جامعها فيه أو في الحيض فيلزمونه بذلك، ويجعلونه طلاقًا بائنًا لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، ويمنعون عن الحكم بالطلاق الشرعي الذي متى وقع بلفظ الثلاث في طهر لم يمسها فيه وليست بحائضة فإنه يرد إلى طلقة واحدة، عملاً بحكم رسول الله ﷺ في طلاق أبي ركانة حيث طلق زوجته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك» [400].

إن الطلاق بجملته بغيض عند الله لما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أن النبيﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» لكن حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض، والشارع الحكيم قد ضيق مسالك الطلاق لمصلحة استدامة الزواج وخشية التسرع إليه والتوسع فيه، فيجب على العلماء أن يُعلموا كافة العوام الأدب مع الله في الطلاق الشرعي وكونه يجب على من احتاج إليه أن يطلق امرأته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضة، فتبقى في بيته رجعية لكون الرجعة فرضها الله كما فرض الصلاة والصيام، فمتى طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو في طهر واحد فإنها ترد إلى طلقة واحدة، فلا يخرجها من بيته لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ [الطلاق: 1] ولهذا يقول ابن عباس: إن الطلاق عند أول كل طهر ولكل مطلقة عدة لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي زمن العدة، ولا مانع ولا حرام من أن يرى وجهها كحالتها السابقة، ويجوز أن تتجمل له رجاء أن يراجعها، فإن بدا له أن يراجعها بعد الطلقة الأولى سواء كانت بالواحدة أو بالثلاث بلفظ واحد أو في طهر واحد، فإنه ينبغي أن يشهد على رجعتها كما يشهد على طلاقها.

فهذا هو الطلاق السُّني الذي شرعه الله لعباده مصلحة ورحمة لهم، وفيه السعة والفرج والمخرج مما يقعون فيه من الحرج، وفيه حسن العاقبة ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] وهو اليسر الذي أراده الله بعباده في قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] وهذا الطلاق بصفته يسمى طلاق الرجعة، والرجعية زوجية.

أما الطلاق البدعي فإنه على صفته ما يفعله بعض القضاة حيث يحكمون على الناس متى طلق أحدهم زوجته بالثلاث بلفظ واحد أو بعدد ألفاظ في طهر واحد فإنهم يلزمونه به، ويحكمون أنه طلاق بائن لا تحل لزوجها إلا بعد زوج آخر، سبحانك هذا بهتان عظيم، إن هذا الإلزام بهذا الطلاق المبتوت يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار ما لا يحصى: ففيه إبطال حكم العدة التي شرعت ليتروى الزوج في أثنائها، ويتفكر في أمره، حتى لو بدا له راجعها بسهولة وبدون عقد ولا وَلي، ولم تشرع العدة إلا لهذا. أما العلم ببراءة رَحمها فإنه يعلم من حيضة واحدة، ففي هذا الحكم الجائر المتضمن لبطلان العدة والرجعة أنه حكم بإلزام الناس بالحرج والمشقة، والله يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78] ثم هو حكم بالعسر على الناس، والله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول، لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة، فضلاً عن غيرهم، فيحكمون بخلافها تم يتبيّن لهم وجه الصواب فيها، فيعودون إليه؛ لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ فإنه قد يحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها، لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم؛ لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وأنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن، والحديث، والتفسير، وأعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق والتدقيق، وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها، بحيث يخرجها من حيز الخفاء والغموض إلى حيز التجلي والظهور، بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه - والحالة هذه - سيجد سعة لعذرنا، ومندوحة عن عذلنا فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأصول بعضها ببعض، فيخصّص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، ويربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب، مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية بالأدلة القويمة القوية والمألوفة المعروفة حيث تقبلها العقول، ويتلقاها العلماء بالقبول لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.

* * *

[400] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عباس.