مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الثاني
ثانيًا: قسم أحكام الزواج والأسرة
(4) بطلان نكاح المتعة بمقتضى الدلائل من الكتاب والسنة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فإن النكاح الشرعي هو من سنن المرسلين ومن ضروريات بقاء الآدميين، به ينتظم العفاف والإحسان وحفظ الأنساب. والنبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[324] ولا يسمى النكاح زواجًا إلا إذا كان عن طريق شرعي. فلقد شرع الله سبحانه هذا الزواج ليكون طريقًا وحيدًا لالتقاء الرجل بالمرأة، فكل لقاء بينهما خارج نطاق الزواج الشرعي، بأركانه وشروطه، هو لقاء محرم يحاربه الإسلام أشد المحاربة.
هذا وإنه تظهر بين حين وآخر دعوات لإباحة أنواع من الأنكحة خارج نطاق الزواج الشرعي، من ذلك دعوة بعضهم في هذه الأيام إلى حلِّية نكاح المتعة وضرورة الأخذ به في الوقت الحاضر، إن نكاح المتعة وإن كان مباحًا زمن الجاهلية وبدء البعثة، كإباحة الربا وشرب الخمر، والصلاة إلى غير الكعبة، إلا أن رسول الله ﷺ حرمه بعد ذلك تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة.
وفي هذه الرسالة مناقشة هادئة مدعمة بالأدلة الشرعية والمنطقية لدعاوى القائلين بنكاح المتعة، تبين ضعف دليلهم، وزيغ قصدهم، وقصور حجتهم، بل كون هذا الدليل حجة عليهم لا لهم، إذ إن دليلهم الوحيد في ذلك هو حديث ابن عباس في هذا الموضوع، وهم يأخذون شطرًا من الحديث ويتركون الشطر الآخر، كما أنهم يأخذون قولاً ويدعون آخر ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ﴾ [البقرة: 85] إذ إن ابن عباس نفسه يصرح بأن نكاح المتعة قد حرم كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير على أن ابن عباس بشر يخطىء ويصيب، وقد سبقه القرآن الكريم بتحريمه بقوله سبحانه: ﴿إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١﴾ [المعارج: 30-31] فاتفق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم نكاح المتعة. نسأل الله سبحانه أن يسدد خطانا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
* * *
[324] متفق عليه من حديث أنس بن مالك.
من عبد الله بن زيد آل محمود - رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية إلى عيسى عبد الحميد الخاقاني.
وبعد، فإنني وقفت على مقالتك المسجلة والصادرة منك في يوم الجمعة الموافق 20/2/1979م. وسمعت ما تضمنت من الحث والتحريض للشباب والشابات إلى التمتع من بعضهم مع بعض بنكاح المتعة الذي يستأجر فيها الرجل امرأة لوطئها باليوم أو الأسبوع بأجر مسمى معلوم، وقد أثرت هذه الفتنة في الشباب لتفسد بها أخلاقهم وأنكحتهم الشرعية وتدنيهم إلى الإباحة المحرمة المطلقة التي يعدها العلماء زنا من عمل الجاهلية. وقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة القطعية عن رسول الله ﷺ في تحريمها إلى يوم القيامة في أحاديث مشهورة ومنشورة في رسالتي هذه، وأصحها ما ثبت في الصحيحين عن الإمام علي رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله ﷺ عن متعة النساء عام خيبر. وفي الحديث الآخر عنه: حرم رسول الله ﷺ متعة النساء والحمر الأهلية عام خيبر. وثبت عنه أنه قال: لا أوتى بمستمتعين إلاّ رجمتهما. وثبت مثله في صحيح مسلم عن سبرة بن معبد. وعن سلمة بن الأكوع عن رسول الله ﷺ، وقد انعقد إجماع الصحابة على تحريمها كتحريم الزنا، وكلّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مجمعون على تحريمها تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، ولا عبرة بشذوذ الشيعة القائلين بإباحتها، إذ القول الشاذ لا يعتد به.. ثم إن الشيعة أنفسهم لا يعملون بها في أنفسهم ولا مع محارمهم وبناتهم، فلا نسمع برجل منهم لا من أغنيائهم ولا من فقرائهم أنه أجر ابنته أو موليته لرجل يطؤها أسبوعًا أو شهرًا باسم نكاح المتعة، فهم أبعد الناس عن هذه العملية الدنيئة، وأشدهم بغضًا لها لاعتقادهم بطلانها وعدم إباحتها.
وأنت تحاول أن تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإباحة المحرمة بزخرف القول غرورًا. وكأنك إنما قصدت هذه البلاد لقصد إثارة الفتن فيها التي هذه من جملتها، ومتى أردت بنا فتنة أبينا.
وبما أنني رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية فإنني أمنعك منعا باتًّا من التعرض لإثارة مثل هذه الفتنة التي تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تدنيهم من الإباحة المحرمة، ولو كان عن جهل منك لعذرناك ولكنه عن قصد لإثارة الفتنة بين أهل السنة فعزلناك. فمن واجبك التزام الأدب الذي هو من صالحك وصالحنا وعدم التعرض لإثارة الفتن الضارة ولا الأقوال الشاذة، إذ تحريم المتعة هو من الأمر الجلي الذي لا يخالطه غبار من الشك.
وستجد في رسالتنا ما يشفي ويروي الغليل مما لا شك في صحته. وإني أرجو أن تكون لك بمثابة العظة النافعة، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع. والسلام.
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمّد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنّته واتبع هداه، أما بعد:
فإنني رأيت مقالة صادرة عن أحد علماء الشيعة[325] يقول فيها بإباحة متعة النساء ويحث فيها الشباب والشابات على فتح أبواب التمتع من بعضهم مع بعض بالنكاح المؤقت باليوم واليومين والأسبوع والشهر، ليشبعوا بذلك شهوتهم بدون تكلف النكاح الشرعي الذي يشق عليهم فعله وفعل ما يترتب عليه من الصداق والنفقة.
وهذه دعوة سافرة إلى فتح أبواب الزنا والتوسع فيه، مما يجعل الشباب ينصرفون عن النكاح الشرعي، وكانت هذه القضية هي مما عفا عليه الأثر ولم يبق عند علماء المسلمين كافة أي اهتمام بها ولا ذكر، لكونها معلومة البطلان بواضح الكتاب والسنة والإجماع.
ثم إنه يستدل لتأييد رأيه بالنقول الباطلة غير الصحيحة وبالأحاديث المنسوخة، فتراه يقول ذكر البخاري في كتابه كذا وذكر مسلم كذا وذكر الرازي كذا بما لا حقيقة له، ولم أجده ذكر في مقالته حديثًا واحدًا بلفظه أو معناه، لكنه عندما يسوق حديثًا كحديث الإمام علي رضي الله عنه أن رسول الله رخص في المتعة في أول الإسلام، ثم نهى عنها عام خيبر وقبل عام الفتح نهيًا عامًّا دائمًا إلى يوم القيامة، فتراه يحتج بالمنسوخ من قوله رخص النبي ﷺ في المتعة ويترك الناسخ تغريرًا وتدليسًا لأسماع الناس، مع العلم أنني لم أره ذكر حديثًا واحدًا صحيحًا بلفظه يؤيد صحة ما ذهب إليه، إلا أن يكون منسوخًا قد بطل العمل به.
إن أول كلمة بدأ بها مقالته هي قوله: (إن المتعة كانت مباحة، وإن أول من قال بتحريمها هو الخليفة الثاني) يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو يحاول إلصاقها بعمر ليستبيح بذلك حرمة تحريمها وينزه الرسول عنها، وهذا ليس محمولاً على عدم معرفته أحاديث النسخ لها وإجماع الصحابة على تحريمها، وإنّما فعله تلبيسًا على أسماع الناس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١﴾ [آل عمران: 71].
ولَبْس الحق بالباطل هو تغطيته به، بحيث يظهر الباطل في صورة الحق، فيظهر للناس باطله في صورة الحق وهو في الحقيقة باطل.
ومن لوازم هذا التدليس كتمانُ الحق وعدم بيانه، لأنه لو بينه للناس لعرفوا حقيقة بطلان قوله كله.
وإباحته في بدء الإسلام إنما نشأت عن بقاء الناس على حالتهم في الجاهلية، وكان هذا نوعًا من أنكحتهم، ويسمى في القرآن بالمتخذات أخدان. كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرّ عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كن ينصبن على أبوابهنّ رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد ﷺ بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
وبه يعلم أن نكاح المتعة هو من قبيل ﴿مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ﴾ [النساء: 25] حيث يختص بها واحد بدون مشارك في زمن محدود، كما هو الواقع من فعل كثير من النساء الزواني اللاتي يراعين التستر، وبذلك أنزل الله تعالى قوله: ﴿فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ﴾ [النساء: 25] فسمى الله الصداق أجرة وأجرًا كما قال سبحانه: ﴿وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [المائدة: 5] وفي قصة موسى قول شعيب: ﴿إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرٗا فَمِنۡ عِندِكَۖ﴾ [القصص: 27]، فتزوجها موسى برعاية غنم شعيب ثماني سنين ثم كمّلها عشرًا. فليس في الشريعة الإسلامية نكاح مباح إلا نكاح الزوجة أو الأمة، فمن ابتغى نكاحًا غيرهما فأولئك هم العادون، أي: الذين يطلبون نكاحًا مؤقتا بيوم أو يومين فهم المتعدون لحدود الله والمستحلون لمحارمه.
ثم إن صاحب المقالة رد على من قال بجواز الاستمناء باليد يعني بذلك الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام حيث طرق موضوع هذه القضية، ثم قال بجواز الاستمناء باليد عند الضرورة، وليس رأيه هذا ببدع من القول والزور لجواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، وهو عمل جائز في مذهب الحنابلة، قال في الإقناع ولا يعزر من استمنى بيده، أي لقوة الخلاف فيه وضعف القول بحرمته[326].
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أبناء المهاجرين والأنصار في غزواتهم الطويلة كانوا يستريحون بالاستمناء باليد، وهذا الاستمناء هو كاسمه حقيقة ومعنى ولا يسمى نكاحًا، فإخراج هذا المني إلى التراب أو إلى الفراش أيسر من وضعه في فرج حرام. وقال شيخ الإسلام في فتاويه: إن اضطر الشخص إلى الاستمناء بيده مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض فهذا فيه قولان مشهوران، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف[327].
هذا وإن أساطين الشيعة ورؤساءهم يتعففون عن هذا العمل، فلا نسمع بغني ولا فقير أنه سلم ابنته لرجل باستئجاره لها يومًا أو يومين أو أسبوعًا أو شهرًا باسم نكاح المتعة، فهم يترفعون عن العمل بهذا أو عدم السقوط فيه لدناءته، فهو نكاح مفسدة وتنقل في اللذات، وحتى إن جريمة الزنا قليلة فيما بينهم، وليس فيه شيء من المصالح سوى قضاء وطر الشهوة، بخلاف النكاح الدائم الشرعي، فإنه يترتب عليه مصالح كثيرة منها الإحصان ويعني أنه يحصّن الزوج عن غير زوجته ويحصّنها هي أيضًا، ومتى أشرك مع زوجته غيرها من الأخدان فإنه يفسد به نظام الزوجية الشرعية، فيبغض زوجته وتبغضه.
ومنها أن الله سمى الزوجة سكنًا، فيسكن إليها الزوج وتسكن إليه ويأنس بها، فقال سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ﴾ [الروم: 21] فالزوج سكن للمرأة يسكن إليها ويطمئن بها، فتجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم. فمسكين مسكين رجل بلا زوجة، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات. كما أن الزوج كرامة ونعمة للزوجة، يرفع مستوى ضعفها وينشر جناح وحدتها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُمّ بنين وبنات.
ومنها أن الله سمى الزوجة حرثًا، والذي هو محلٌّ لإنشاء النسل المحبوب تكثيره عند الشرع، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[328]، ولا توجد هذه الميزات في نكاح المتعة الذي غايته قضاء وطر الشهوة لا غير، ولهذا أمر النبي ﷺ بإعلان النكاح واشتهاره لشرفه، فقال ﷺ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ»[329] وقال: «فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ»[330] لكون النكاح الحرام يبالغ أهله في إخفائه وعدم بيانه، فنكاح المتعة غايته تفنُّن الذوق والتنقل في اللذات بدون رغبة منه ولا منها في إنجاب البنين والبنات، بل إنه من الأسباب التي ينقطع بها النسل، لأنه متى تعاقب الرجال على المرأة بحيث تكون عند أحدهم شهرًا وعند الآخر الشهر الثاني فإنه بذلك يفسد نظام الحمل من أجل اختلاط المياه في الرحم، إذ هي بهذه الصفة من قبيل المتخذات أخدان.
وفي مذهب الزيدية: أن النكاح مؤبد، فلا يجوز عندهم نكاح المتعة أو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا أو أكثر من ذلك. فقد حدث زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم: أن رسول الله ﷺ نهى عن المتعة عام خيبر.
وأخرج البخاري ومسلم والمؤيد بالله في شرح التجريد وغيرهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما عن علي ابن أبي طالب: أن رسول اللهﷺ نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسيّة[331].
وأخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.
وأخرج البيهقي أيضًا أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن المتعة فقال: حرام. قال: فإن فلانًا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله ﷺ حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين. وهذا يدل على تحريم المتعة.
ثم إن الشيعة تمسكوا في استدلالهم على نكاح المتعة بقوله سبحانه: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ﴾ [النساء: 24] وهذا الاستدلال لا صحة له، فإن هذه الآية سيقت في بيان ما يحل ويحرم من نكاح النساء كما يُعلم من نظمها فيما قبلها وما بعدها، وأن يكون الغرض المقصود من النكاح هو الإحصان وطلب النسل دون التمتع بسفح الماء والتنقل في اللذات والتي يكون حظ الحيوان فيها أكثر من حظ الإنسان، ثم إن السنة تفسر القرآن وتبين ما أشكل منه، وقد فسرت السنة هذا الاستمتاع وأن المراد به النكاح الشرعي.
فقد روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت، وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا». فدل هذا الحديث على نفس ما دلت عليه الآية، وأن المراد بقوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ﴾ أي بالنكاح الشرعي الذي يتخلله الطلاق عند عدم الوفاق، كما قال: «وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» ونكاح المتعة ليس فيه طلاق ولا نفقة ولا ميراث، فيجوز عندهم أن يستأجرها بنكاح المتعة[332] فهو يتمشى على طريقة السفاح، بحيث إن الرجل يتفق مع المسافحة أسبوعًا أو شهرًا بأجر مسمى على سبيل الاختصاص بدون مشارك، ثم يتفق الثاني معها كذلك، إلا أنهم لا يذكرون فيه نكاح المتعة. ولهذا قال علي رضي الله عنه: لا أوتى بمستمتعين إلاّ رجمتهما.
فقوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ﴾ أي تمتعتم، والزوجة تسمى متاعًا كما روى الإمام أحمد والدارمي أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». ثم إن النكاح الشرعي المؤبد يخالف نكاح المتعة المقدر بيوم أو أسبوع أو شهر، فإن نكاح المتعة ليس فيه سوى قضاء وطر الشهوة فقط، بحيث يسفح ماءه في فرجها، فهو يزيد في الولوع والشغف في التنقل في اللذات، فكلما سفح ماءه في امرأة انصرف عنها إلى غيرها، لكون الحب إذا نكح فسد، ولكون المتمتع بنكاح المتعة لا يقصد الإحصان وإنما يقصد مجرد السفاح والتنقل في اللذات بين المشتهيات، فتزداد به المرأة جنونًا لا إحصانًا، بحيث تنصرف برغبتها عن النكاح الشرعي، ومن شروط النكاح الشرعي هو أن يكون عن رغبة في استدامة بقائها لإحصانه بها وطلب النسل منها، أما إذا تزوجها على عزم أن يطلقها بعد يوم أو يومين أو أسبوع، أو على نية أن يبيحها لزوجها الأول فإن هذا نكاح باطل ولا ينعقد ولا تحل به المرأة لزوجها الأول، ويسمى التيس المستعار.
عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله ﷺ المحلِّل والمحلَّل له. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١﴾ [المعارج: 29-31] أي: المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
إن متعة النساء في استئجار المرأة لوطئها يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا كانت من عمل الجاهلية، ثم بقيت على حالة الإباحة في أول الإسلام حيث كان الناس في شدة وحاجة، فلما وسع الله عليهم بالمال يوم فتح خيبر أي عام ستة من الهجرة حرمها رسول الله ﷺ عن الله تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، وقال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»[333].
فلقد أُبيحت متعة النساء لهم في أول الإسلام كحالتهم في الجاهلية حيث كانوا مصابين بالفقر الشديد والفاقة وبالجوع والعراء، حيث كانوا يتقاسمون في بعض أسفارهم بالتمرة الواحدة، وحيث كان يوجد من بينهم سبعون رجلاً ما منهم رجل عليه إزار ورداء، بل إما إزار وإما رداء قد ربطوها في أعناقهم. وفي الصحيحين أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي. فنظر إليها ثم صوب نظره، ثم طأطأ رسول الله ﷺ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست. فقام رجل فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فقال: لا والله. قال: «انْظُرْ، وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ» قال: والله ما عندي ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه. وليس عليه سوى إزار، فقال رسول الله ﷺ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنْ هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟» فقال: نعم، معي سورة كذا وكذا. قال: «اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». مما يدل على أن متعة النساء قد أبيحت في زمان أُبيح فيه أكل الميتة، وهذا معنى الفتوى التي قيل: إن ابن عباس أفتى بها. على أنه ليس بمعصوم، وقد زجره الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ما أراك تاركًا هنيّاتك، أما علمت أن رسول الله ﷺ قد حرمها؟!
وجاء سعيد بن جبير إليه فقال: ما هذه الفتوى التي سمعت الناس يتحدثون بها؟ فقال: ما يقولون؟ قال: يقولون: إنك أبحت متعة النساء، وقد سمعت ركاب الإبل يتغنون بها. فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون:
أقول للشيخ لما طال مجلسه
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في خصـرة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: والله ما قلت إلا أنها محرمة كحرمة الميتة والدم ولحم الخنزير.
وليس تأخير تحريم متعة النساء إلى زمن خيبر ببدع من القول للحكمة والمصلحة، فإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وكانت الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام تنزل على النبي ﷺ شيئًا بعد شيء، كما كان بعضهم يكلم بعضًا في نفس الصلاة فقال لهم النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ»[334] ويقول الله سبحانه: ﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ﴾ [البقرة: 106] فقد أُبيح للنّاس شرب الخمر في أول الإسلام، فكان أول آية نزلت في التمهيد لتحريمه هي قوله سبحانه: ﴿لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]، ثم أنزل الله بعدها ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ﴾ [البقرة: 219].
ومتى كان الشيء إثمه أكبر من نفعه وجب اجتنابه، ثم أنزل الله في السنة التاسعة من الهجرة قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠﴾ [المائدة: 90]، وهذه من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. وهذا تحريم مؤبّد يكفر مستحلُّه، حتى إن الصحابة حزنوا على من قتل شهيدًا وهي في بطنه، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ [المائدة: 93]، لكون الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها لقوله سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥﴾ [الإسراء: 15] ومثله صلاة الصحابة إلى جهة المشرق، وهو قبلة اليهود والنصارى، حتى أنزل الله: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ﴾ [البقرة: 144] وأتى رجل إلى بني عبد الأشهل وهم يصلون الفجر مستقبلين المشرق، فقال: أشهد بالله لقد أنزل الله على رسوله قرآنًا، وأمر أن نستقبل القبلة. فاستداروا وهم في صلاتهم إلى جهة القبلة.
إن الله سبحانه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالخمر والميسر ومتعة النساء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، ولهذا أوجب العلماء إقامة الحد على من يستحل متعة النساء لإجماع الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين على تحريمها إلى يوم القيامة، ولا عبرة بشذوذ الشيعة في هذا. وما نسبوه إلى أحد الصحابة كأبيٍّ وابن مسعود من أنهما فعلا المتعة زمن النبي ﷺ فإنه - على فرض صحته - محمول على فعله قبل تحريمه. وإلا فحاشا وكلاّ أن يستبيحا فعلها بعد تحريم النبي ﷺ لها وانعقاد إجماع الصحابة عل تحريمها بالنصوص الصحيحة الصريحة. ومثله ما نسبوه إلى علي رضي الله عنه من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلا شقي. فإن هذا من الكذب المفترى صريحًا على علي وعلى عمر رضي الله عنهما بشهادة علي على ذلك، فإن له في البخاري حديثين يبين فيهما أن رسول الله ﷺ حرم المتعة والحمر الأهليّة عام خيبر، ولم يحرمها عمر من تلقاء نفسه كما يقوله أعداؤه.
فقد أخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وأما احتجاج الشيعة بما روى مسلم عن جابر بن عبد الله: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر حتى نهى عنها عمر. فدعوى إسناد إنشاء التحريم إلى عمر هو باطل قطعًا، فما كان نهي عمر إلا بمثابة التبليغ والتنفيذ لحكم رسول الله ﷺ في تحريمها، إذ هو من واجبه، والنبي ﷺ قال: «فَلْيُبَلِّغُ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».
ثم قوله: كنا نتمتع على عهد رسول الله وأبي بكر. فإن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم عن علي وعن سلمة بن الأكوع وعن ابن عمر، ولا يبعد أن يكون حديث جابر مكذوبًا عليه أو أنه دخل فيه شيء من زيادة بعض الرواة. والصحيح هو ما رواه مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا». فهذا الحديث فيه ذكر الناسخ والمنسوخ، وكون التحريم صدر عن رسول الله ﷺ عن الله ولم يقع من عمر ابتداءً إلا على سبيل التبليغ والتنفيذ عن الله سبحانه وتعالى.
ومثله الحديث الذي احتج به صاحب المقالة عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو في الصحيحين قال: كنا نغزو مع رسول الله ﷺ ليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله ألا نختصي؟. فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. ثم قرأ ابن مسعود: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٨٧﴾ [المائدة: 87].
إن من عادة صاحب المقالة أن يحتج بالمنسوخ الذي زال حكمه وبطل العمل به ويترك الناسخ المحكم الذي يجب العمل به والحكم بموجبه.
ونحن لا ننكر إباحة متعة النساء في أول الإسلام على حسب حالتهم في الجاهلية وكونهم يستأجرون المرأة في أسفارهم الطويلة بالثوب وبالقبضة من التمر وبالقبضة من الدقيق، فابن مسعود وجابر - على فرض صحة حديثيهما - يتحدثان عن حالتيهما في الجاهلية قبل تحريمها، كما يتحدث الصحابة عن شربهم الخمر قبل أن تحرم عليهم، وكما يتحدثون عن صلاتهم إلى المشرق قبل أن يحولوا إلى جهة الكعبة، وكما يتحدثون عن كون أحدهم يكلم صاحبه بحاجته وهو في صلاته زمن النبي ﷺ حتى أنزل الله ﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ ٢٣٨﴾ أي: ساكتين. فقال لهم النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ». لكون أحكام الشرائع من الفرائض والمحرمات تنزل شيئًا بعد شيء، وإنما يؤخذ بالأخير فالأخير من أقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحكامه، وملاك الأمر خواتمه، وكل الصحابة مجمعون على تحريمها كالزنا سوى ما نسب إلى ابن عباس للمضطر، وقد تحامل عليه الإمام علي رضي الله عنه باللوم والتعنيف وقال له: إنك امرؤ تائه، فرجع ابن عباس عن فتواه، والصحابة كغيرهم يخطىء أحدهم في فتواه ويصيب.
قال في الروضة الندية[335]:
ونكاح المتعة قال في الحجة: رخص فيها ﷺ أيامًا ثم نهى عنها. أما الترخيص أولاً فلمكان حاجة تدعو إليه، كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله. أشار ابن عباس إلى أنها لم تكن يومئذ استئجارًا على مجرد البضع، بل كان ذلك مغمورًا في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل، كيف والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ووقاحة يمجها الطبع السليم؟!
وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات، وأيضًا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب، لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه، ويكون الأمر بيدها فلا يدري ماذا تصنع؟ وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأبيد في غاية العسر فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع، فإن أكثر الراغبين في النكاح إنما غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج، وأيضًا فإن من الأمور التي يتميز بها النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس... انتهى. وفي شرح السنة اتفق العلماء على تحريم المتعة، وهو كالإجماع بين المسلمين...
* * *
[325] المقالة صادرة عن عيسى الخاقاني. [326] ذكره صاحب الإقناع في باب التعزير من كتاب الحدود من المجلد الثالث. [327] المسألة 38 ص62 من المجلد الأول لفتاوى ابن تيمية. [328] أخرجه النسائي من حديث معقل بن يسار. [329] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن الزبير. [330] أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد من حديث محمد بن حاطب. [331] أخرجه الدارمي وابن أبي شيبة من حديث علي. [332] بل إنهم يجيزون نكاح المتعة بالمرة والمرتين ومع بنت لها عشر سنين ولو بدون إذن أبيها، قاله في النهاية من كتب الشيعة: (وبهذا فهو لا يغادر من الزنا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها). [333] أخرجه مسلم من حديث سبرة الجهني. [334] أخرجه أبو يعلى من حديث عبد الله بن مسعود. [335] لصاحبها الإمام صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجى البخاري. في الجزء الأول: ص 15.
ولقد قيل: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، وتأبى الدنية ولو اضطرت إليها. إن قول صاحب المقالة:
(إن نكاح المتعة أُبيح في حالة الضرورة، وإن أكثر الشباب لا يستطيعون النكاح الشرعي لصعوبة التكاليف المترتبة عليه من الصداق وغيرها، فصاروا واقعين في هذه الضرورة التي تبيح لهم نكاح المتعة أشبه إباحة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشربة الخمر لدفع اللقمة التي يغص بها).
فالجواب أن هذا الخطاب بعيد عن الصواب.
ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، فجعل جميع المنهيات من الأشياء التي يجب اجتنابها ولا يعذر أحد بارتكابها كالربا والزنا وشرب الخمر؛ لأن هذه كلها ليست بأحمال على الجسم، وليست بأكل وشرب مما يفتقر إليه الجسم، بل كلها من التروك، بل كل المنهيّات كهذه تركها أنفع من فعلها، وإنما تحتاج إلى شدة حزم وقوة عزم في انصراف النفس عنها، بخلاف الأوامر فإنها على حسب الاستطاعة: صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب؛ لأن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
فلو فعل أحد شيئًا من المنهيات والحدود وجب أن يعاقب بما يستحقه من الحد أو التعزير الذي يرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ﴾ [النور: 2]. لأن من لا يكرم نفسه لا يكرم، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ﴾ [الحج: 18]. لأن الله سبحانه شرع الحدود للزجر بها عن مواقعة المنهيات كالزنا ونكاح المتعة وغيرها، فكما أنه لا يستجاب لمرتكب كبيرة الزنا في دعوى الضرورة، فكذلك نكاح المتعة وهو محرم كالزنا.
فقول بعضهم: إن نكاح المتعة محرم كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. فإن هذا التعريف قاصر عن حدود التعريف بتحريمها، وفيه شيء من التدليس والتلبيس على أسماع الناس.
فإن نكاح المتعة حرام إلى يوم القيامة، كما روى مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»[336]. وخطب النبي ﷺ بذلك عام الفتح. فهذا هو التعريف الكافي الشافي كما رواه الدارقطني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ليس من تحريم المؤبد إلى يوم القيامة بل له أجل ينتهي إليه وهو وجود الضرورة المقتضية لإباحته، فمتى أُصيب الإنسان بالجوع الشديد الذي أشفى منه على الهلاك أُبيح له أن يتناول من الميتة أو لحم الخنزير ما يسدّ به رمقه، ولو مات بدون أن يتناول منها عُدّ عاصيًا. وقد قال بعض العلماء: إنني لن أوتى برجل مات جوعًا ولم يأكل من الميتة، فإنني لا أُصلي عليه. لكونه قد أعان على قتل نفسه، والمطلوب منه إحياؤها ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا.
ومثله إباحة الدم للضرورة، وقد صار من أكبر العوامل والأدوية عند الأطباء في تدارك صحة المصابين بالجروح البليغة وبالرصاص الذي ينزف الدم عن الجسم، فيكون في حالة ضرورة في تدارك علاجه بالدم لسريانه في الجسم مما عسى أن تتدارك به حياته وصحته، لكونه لا بقاء للجسم بعد خروج الدم منه، بخلاف نكاح المتعة فإنه لا ضرورة إليه، وإنما يزداد صحة بتركه، وقد قال رسول الله ﷺ لرجل: «أقلِل من النكاح فإنه نور عينيك وقوة ساقيك». وقيل:
أقلل نكاحك ما استطعت فإنه
ماء الحياة يصب في الأرحام
ولو كانت شهوة النكاح التي يجدها الإنسان في نفسه تبيح له نكاح المتعة لقيل بجواز الزنا للضرورة إذ هما في الحكم سواء، بل إن نكاح المتعة أشد من الزنا، فإن الزنا يستخفي به أهله أما نكاح المتعة فيجهرون به.
وقد حدثني رجل من الثقات قال: أتيت أصفهان فوجدت نساء كثيرات صفوفًا ينادين الرجال بأصوات عالية: المتعة... المتعة!!
ومتى كان في مذهبهم وعقيدتهم أنه يجوز استئجار المرأة باليوم واليومين وبالمرّة والمرتين ويجوز مع بنت ابنة تسع سنين وعشر سنين بدون إذن أبيها أو وَليها علمت حينئذٍ أنه الزنا قطعًا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الزنا إلا أحصاها.
تبقى تسميته بالمتعة، والأسماء لا تغير المسميات عن حقائقها وأوصافها، كما أخبر النبي ﷺ عن أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها.
ومن القواعد الأُصولية أن الاعتبار في العقود بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها ومبانيها.
فدعوى عدم صبره عنها حجة داحضة، نظير إحالة ارتكابه لها على القضاء والقدر، وما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون، ولما جيء عمر بن الخطاب بسارق فقال له: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره. فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. فأمر به فقطعت يده[337].
وقد شرع الله الحدود لتكون بمثابة الزواجر عن ارتكاب الجرائم. وحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحًا؛ لأن الحدود تقلل من فشو انتشار المنكرات من الزنا وشرب الخمر، فلا يقبل من أحد دعوى ضرورته وعدم صبره عند تغلب شهوته على عقله، ولو كان كذلك لفسد باب الأمر والنهي اللذين عليهما مدار أحكام الشرع.
أفيقال: إن الزنا مباح للضرورة في حق من لا يستطيع الصبر عنه والله تعالى يقول: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١﴾ [المعارج: 29-31] فجعل كل من طلب نكاحًا غير النكاح الدائم الشرعي وملك اليمين أنه من المعتدين لحدود الله. ومثله دعوى عدم الصبر عن شرب الخمر.
فكيف يقاس أكل الميتة للمضطر التي لو ترك أكلها لمات؟! وقد قال بعض العلماء: لو ترك أكلها فمات لا يصلَّى عليه، فكيف يقاس هذا على ضرورة الشهوة إلى النكاح التي لا يخشى على أحد الهلاك بتركه، وبعض الناس يؤثر البقاء على العزوبة مع توفر الشهوة. ومثله لو غص بلقمة فدفعها بشربة خمر التي هي نادرة الوقوع ولعلها لم يقع لها نظير في الدنيا.
وقد رأينا بعض العلماء من جعل هذه حجة في إباحة ربا النسيئة للمضطر الذي يكفر من قال بإباحته، ولا شك أن هذا من باب الترخص الجافي، والأحكام الشرعية يجب ألا تعارض بترخص جافٍ، ولا تشدُّد غالٍ، ولا تحمل على علة تُوهن الانقياد للحكم.
والنبي ﷺ حرم الربا بموقف جميع الناس بعرفة عام حجة الوداع فقال: «إِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[338].
فحرم الربا تحريمًا عامًّا بدون استثناء مع كونه عمدة تجارتهم، فقد اشتهرت قريش بالتجارات الواسعة من أجل رحلاتهم الصيفية والشتوية ومن أجل توسعهم في المعاملات الربوية، مع العلم أن جميع العرب سوادهم في حاجة وفقر شديد، فكانوا يقتسمون الزاد بالتمرة الواحدة في غزوة العسرة القريبة من حجة الوداع، ومع هذا فلم يبح رسول الله ﷺ تعاطي الربا للمضطر لدخوله في عموم قوله: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»[339]، لكون الشخص متى صحت نيته وصدقت عزيمته سهل عليه مفارقة المألوفات المحرمة، كما قيل:
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على
حب الرَّضاع وإن تفطمه ينفطم
ولهذا عزف الصحابة عن التعامل بالربا، فلم يبق له ذكر بينهم امتثالاً لأمر الله وطاعة لرسوله، ولم يقولوا: لا نستطيع تركه؛ لأن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤﴾ [الطلاق: 4]. ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ﴾ [الطلاق: 2-3]، ومثله عزوفهم عن الخمر التي كانوا قد شبوا على شربها ونشؤوا على حبها وإدمان شربها، ولما بلغهم تحريمها أخذوا يرمون الأوعية من أيديهم، ثم خرجوا إلى السوق وبه ظروف الخمر فجعلوا يطعنونها بالسكاكين حتى سالت بالأزقة وهم يقولون: والله إن كنا لنكرمك عن هذا المصرع وأما اليوم فقد أهانك الله. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ﴾ [الحج:18] ولم يقولوا: لا نستطيع تركها. ولم يتعالوا بدعوى الضرورة، وهكذا يقال في نكاح المتعة.
فقد كان العرب في جاهليتهم يستأجرون المرأة بالثوب وبالأتوار[340] من الأقط[341] والشعير، ولما بلغهم خبر تحريمها وخطبهم النبي ﷺ قائلاً: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» رواه مسلم. فعزفوا عنها كلهم غنيهم وفقيرهم لكونها من التحريم المؤبد إلى يوم القيامة كما يدل له لفظ الحديث، ثم إن النكاح قد يصبر عنه بعض الناس السنين الطويلة مع رجوليتهم وقوة شهوتهم خصوصًا الرؤساء والمجاهدين والمشتغلين بالعلم والتجارة والصناعة، فإنهم ينصرفون عنه الانصراف الكلي بدون أن يحسوا بشدة، وكانوا يتغربون عن أهلهم السنتين والثلاث ولا يجدون مسًّا من تعب العزوبة، وكنت ممن تغرب عن الأهل في طلب العلم أربع سنين ولم أجد مشقة في الغربة ولا في العزوبة، لكون الاشتغال بالعلم وبالأعمال الدينية والمالية يستدعي الانصراف الكلي، على حد ما قيل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
عن النساء ولو باتت بأطهار
وإن الذين يولعون بمجالسة النساء والعكوف بينهن هم الفارغون البطالون الذين ليسوا في عمل دنيا ولا دين، وكذا الذواقون الذين يتنقلون في اللذات بين المشتهيات، فلا يشبع نهمة أحدهم شيء، حتى قيل: إنه لو كان مع رجل جميع نساء أهل العراق، فقدمت امرأة من الشام، وذكر له جمالها لتمنى أن تكون زوجة له مضافة إلى نساء أهل العراق. وقد قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت بها سعة
لها إلى الشـيء لم تظفر به نظر
لكن من قرَّ عينًا بعيشه نفعه، ومن جمع الضرَّات يطلب لذة فقد بات في الأضرار غير سديد.
لهذا رأينا شعراء العرب كامرئ القيس وزهير وعمر بن أبي ربيعة وكثير عزة رأيناهم يكثرون المديح والمبالغة في أوصاف النساء وذكر محاسنهن بدقة الأوصاف الجميلة، خصوصًا عندما يريد تقديم قصيدة على فاضل، كما قدم زهير قصيدته في معشوقته سعاد، لأن عندهم متى جاد المدح في المليح فالنسيب مقدم. فبالغوا في الغوص على الأوصاف الشائعة المشتملة على الصدق والكذب، حتى قيل: أعذبه أكذبه، كله من أجل غلبة الفراغ عليهم وكثرة اختلاطهم بالنساء في البادية زمن الجاهلية.
غير أن عشقهم يُتصور على ألسنتهم، وإلا فمن المشهور اتصافهم بالعفاف والحصانة، كما في قصة بيعة النبي ﷺ للنساء حينما قال: «لَا تُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقْنَ، وَلَا تَزْنِينَ»[342] فقالت هند: أوتزني الحرة يا رسول الله؟! استنكارًا لذلك، لكون الزنا إنما يعرف في الإماء، ولسنا بهذا ننكر شدة حاجة الرجل إلى المرأة الحاجة الضرورية من جهة الناحية الجنسية أو الاجتماعية، لكن هذه الحاجة الضرورية لا ينبغي أن ترقى إلى درجة استحلال المحظورات من الزنا ونكاح المتعة لكونها من اللذات ونعيم الحياة، يقول الله سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ [آلعمران: 14] والمزيِّن هو الله، والنبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ».[343] وقد تكلمنا في بعض مذكراتنا على شدة حاجة الرجل إلى المرأة وحاجتها إليه عند قوله سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ﴾ [الروم: 21].
فقلنا: إن المرأة سكن للزوج، تجلب إليه الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم، فمسكين رجل بلا امرأة، والعزاب هو أراذل الأحياء وشرار الأموات، فمتى تعاملا بينهما بالمودة والرحمة فإنها السعادة الزوجية في الحياة، كما أن الزوج كرامة للمرأة، يرفع مستوى ضعفها، وينشر جناح وحدتها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُم بنين وبنات. ولا توجد هذه الميزات في المنكوحة بالمتعة لأنها ليست بزوجة.
ولما جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب تجادله في خصومة لها أنشدها:
إن النساء شياطين خلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
فقالت ليس كذلك ولكن قال الشاعر:
إن النساء رياحين خلقن لكم
وكلكم يشتهي شمَّ الرياحين
ثم رأينا صاحب المقالة يحتج بما زعم بأنه قول العلامة ابن القيم في زاد المعاد، وهو كذب منه فإن العلامة يجزم بتحريمها.
لكنه في بحثه في فتح مكة طرق موضوع تحريم متعة النساء، قال: من العلماء من قال: إنها حرمت يوم خيبر. وعليه تدل أحاديث علي في البخاري.
ومنهم من قال: إنما حرمت عام فتح مكة. ورجح هذا القول لما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع: أن النبي ﷺ نهى عن متعة النساء عام أوطاس. أي يوم حنين، وهو عام فتح مكة.
ثم طرق موضوع الخلاف وهل تحريمها كتحريم الميتة ولحم الخنزير؟ أو هو تحريم مؤبد في الحضر والسفر، وهذا هو الصحيح لحديث ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[344] ثم قال العلامة ابن القيم: إن رسول الله رخص فيها - أي في ذلك الزمان - للضرورة والحاجة في الغزو، فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح الشرعي المعتاد فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين. انتهى.
وبه يعلم أن النصوص الصحيحة الصريحة ترد على من ادعى أن بدء تحريم متعة النساء وقع من عمر اجتهادًا منه واستجاب الصحابة له من أجل هيبته، وهذا كله من الكذب على الله ورسوله وعلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولم نر لهذا القول سندًا صحيحًا ولا حسنًا، بل هو من نوع الكذب المفترى على عمر لكون الشيعة يبغضون عمر أشد البغض، ولهذا شددوا في الإنكار على من يقول بتحريم المتعة مع ظواهر النصوص الصريحة المؤيدة للتحريم مع الإجماع العام ولا عبرة بشذوذ المخالفين.
أما نهي عمر عن التمتع في الحج فإن له أصلاً من الصحة في الصحاح، وهو رأي رآه. والرأي يخطىء ويصيب، وليس الصحابي بمعصوم، فقد رأى أن يفرد الحج بسفرة ويفرد العمرة بسفرة، فخالفه الصحابة على ذلك، وإن رسول الله ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج في حجّة الوداع ولم ينسخها شيء وبقي العمل بها إلى الآن، وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج، فإذا طاف طواف العمرة وسعى سعي العمرة قصّر من شعره، ثم يلبس ثيابه ويتمتع بما هو مباح له من الطيب والنساء وغير ذلك من المحظورات كحالته قبل الإحرام، فإذا كان يوم الثامن يحرم بالحج، فهذه هي التي قال فيها ابن عباس - حين نهى عمر عن التمتع -: يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر. أما القول بالنهي عن متعة النساء فإنما ذكره - على فرض صحته - إبلاغًا للسنة واشتهارًا لها، ليبلغ الشاهد الغائب.
ومن الكذب أيضًا ما نسبوه إلى علي من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي[345]. فهذا مما لا صحة له وينزه الإمام علي عنه، فقد ثبت عنه في الصحيحين من طريقين أن النبي ﷺ نهى عن متعة النساء عام خيبر، وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص رسول الله ﷺ عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها. رواه مسلم. وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن المتعة عام خيبر. متفق عليه. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء وعن الحمر الأهلية يوم خيبر. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وابن حبان.
وعن ربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا». رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه. قال أبو محمد بن حزم في المحلى، الجزء الحادي عشر: ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل، وكان حلالاً على عهد رسول الله ﷺ، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ نسخًا باتًّا إلى يوم القيامة.
ثم قال بعد ذكره للخلاف بين الصحابة في بداية تحريمها: ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت وهو ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ. فذكر الحديث، وفيه: فقال: سمعت رسول الله ﷺ على المنبر يخطب ويقول: «مَنْ كَانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ فَلْيُعْطِهَا مَا سَمَّى لَهَا، وَلَا يَسْتَرْجِعْ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا، وَيُفَارِقُهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنّا نسخه.
فهذه النصوص الصحيحة المريحة تكذب ما نسبوه إلى علي من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.
وإن من حكمة الله في شرعه وخلقه أنه لا يسد عن النفوس باب ممنوعها إلا ويفتح لها باب مشروعها، لأن من ترك شيئًا لله عوضه الله ما هو خير منه، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ﴾ [الطلاق: 2-3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤﴾ [الطلاق: 4].
لهذا حث النبي ﷺ على النكاح الشرعي لكونه من أسباب الغنى لقوله سبحانه: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ﴾ [النور: 32] فكم فقير عاد بعد الزواج غنيًّا.
وكذلك حث النبي ﷺ أمته على فتح أبوابه وتسهيل طرقه وأسبابه، فقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»[346] ولم يقل: ومن لم يستطع فعليه بنكاح المتعة.
وقال: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ»[347] وخير النكاح أقله[348] كلفة، وقد أجاز نكاح امرأة بنعلين، وبوزن نواة من ذهب، وبخاتم من حديد، وبتعليم سورة أو سورتين من القرآن، وكذلك التخفيف من مؤونة وليمة العرس وغيرها، فقال: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»[349]، وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه بمدين من شعير، ولم يتزوج أحدًا من نسائه ولا زوج أحدًا من بناته بأكثر من خمسمائة درهم، وهو قدر يقل عن مائة ريال، فلا يزني مع هذه التسهيلات إلا شقيّ، ولا يكلف الخاطب الزيادة في الصداق إلا بخيل[350].
ثم إن الشيعة يستدلون على رأيهم بما هو معلوم البطلان لتضليل العوام وضعفة العقول والأفهام، فهم يوردون لتأييد رأيهم ما دب ودرج من الأحاديث الموضوعة والأخبار المنكرة المكذوبة، ومن ذلك قولهم: (قلت لأبي جعفر رضي الله عنه: للتمتع ثواب؟ قال: إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى، وخلافًا على من أنكرها، لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له بها جنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنبًا، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره. قلت: بعدد الشعر؟ قال: بعدد الشعر).
وقولهم عن النبي ﷺ قال: «إني لما أُسري بي إلى السماء لحقني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى يقول: إني غفرت للمتمتعين من أُمتك من النساء».
ذكر أبو زهرة في كتابه موسوعة الفقه الإسلامي المجلد الأول ص3. قال بعد ذكره لأقوال القائلين بإباحة المتعة: وهي مذهبهم واعتقادهم وعليها جمهورهم، لكن يوجد في أعقاب هذه الأقوال من ينكر متعة النساء من علماء الشيعة وينهى عنها أشد النهي.
من ذلك أن تحريم المتعة نقل صحيحًا عن الإمامين أبي جعفر محمد بن الباقر وأبي عبد الله جعفر الصادق وهما إمامان من أئمة الإمامية: فقد رووا أن بسامًا الصيرفي سأل أبا عبد الله جعفر الصادق عن المتعة ووصفها له، قال رضي الله عنه: ذلك هو الزنى، وإنها من المخادنة التي نهى الله تعالى عنها في كثير من آيات القرآن مثل قوله: ﴿مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ﴾ [المائدة: 5]، وقوله تعالى: ﴿مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ﴾ [النساء:25]. ولقد جاء في الكافي عن الحسن بن يحيى بن زيد فقيه العراق أنه قال: أجمع آل رسول الله ﷺ على كراهية المتعة والنهي عنها. والكراهية مع النهي تقتضي التحريم.
ورأس الأئمة بالإجماع عندهم هو علي كرم الله وجهه قد نهى عن المتعة نهيًا مؤكدًا، فقد قال رضي الله عنه: لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما. وقد نقل الكافي وهو أحد المصادر الأربعة لفقههم النهي عنها. وقد وجدنا في كتب الزيدية عن أئمة آل البيت عامة، وعن الإمام جعفر الصادق خاصة ما يثبت أنه يرى المتعة من الزنا. كما نسب هذا القائل القول بإباحة المتعة إلى البخاري ومسلم وعن ابن القيم في زاد المعاد وعن ابن كثير في النهاية وغيرها من الكتب، ليوهم الناس أن هؤلاء يقولون بإباحتها إلى يوم القيامة، وهو كذب صريح عليهم، فإنهم مجمعون كغيرهم على تحريمها إلى يوم القيامة.
والحاصل: أن المتعة ليست إلا من قبيل اتخاذ الأخدان الذي هو معروف من عادات الجاهلية، وسكت عنه النبي ﷺ في أول الإسلام عفوًا حتى يجيء الوقت المعين لإعلان التحريم، وقد حان وقت تحريمه زمن خيبر - أي عام ستة من الهجرة، وقيل: عام الفتح - وإنه بلا ريب لا تتفق المتعة مع مقاصد الإسلام من العلاقة بين الرجل والمرأة التي أحلها الله سبحانه وتعالى بكلمته، ولا يمكن أن يحل الله تعالى بكلمته اتخاذ الأخدان.
ثم إن هذا القرآن الكريم النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج إليه الناس إلا جاء بما يقطع النزاع فيها ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع في شأن هذه القضية وغيرها.
فقد حكى القرآن الكريم عن الرجل المعدم الفقير الذي يشتهي النساء بشدة ولا يستطيع صداق المحصنات الحرائر فماذا يصنع؟ أيحل له أن يستأجر امرأة بأجرة زهيدة إلى أجل مسمى ليتمتع بها أم لا؟ وهي عين القضية التي نحن بصددها قال سبحانه: ﴿وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ﴾ [النساء: 25].
ولم يقل: ومن لم يستطع منكم طولاً أي صداقًا - والطول هو الغنى بالصداق - فليتمتع بامرأة بأجر معلوم إلى أجل مسمى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤﴾ فلو كان حلالاً لما سكت عنه القرآن. ولو كانت المتعة تباح بحال لأبيحت لهذا المضطر الذي لم يجد صداقًا للمحصنات، ولكون المقام مقام ضرورة، والمقال جرى على حالة المَخرج من هذه الضرورة، فأباح الله له أن ينكح الجارية المملوكة مع علمه باسترقاق أولاده فيها تبعًا لأُمهم، أما إذا كان غنيًّا يجد صداق الحرة المحصنة فإنه لا يجوز له أن ينكح أمة مملوكة، لكونه يذل نفسه باسترقاق أولاده إلا إذا كانت ملكًا له، وقد نزلت هذه الآية في زمان كان الأرقاء فيه كثيرين، فنكاح الأمة في مثل حالة هذا المقل هو نكاح شرعي يترتب عليه لوازم النكاح الشرعي، فحصرت هذه الآية النكاح في أربعة أمور، منها: اثنان حلالان، واثنان حرامان. فإن الحلال هو نكاح الرغبة الشرعي الدائم، ومنه زواج الفقير بالمرأة المملوكة.
والثاني: النكاح بملك اليمين.
وأما النكاح الحرام فمنه: نكاح المسافحات اللاتي يزني بهن كل أحد.
والثاني: المتخذات أخدان أي التي تزني مع خليل واحد لا يشاركه فيها أحد، وقد جعل العلماء نكاح المتعة من قبيل المتخذات أخدان، وهذه الآية تشبه قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠﴾ [المعارج:29-30] والمستأجرة يومًا أو أسبوعًا في سبيل نكاح المتعة لا تسمى زوجة لا لغة ولا عرفًا، ولا ينطبق عليها أحكام الزوجة الشرعية من الولي والإشهاد والنفقة والطلاق والميراث.
ويدل لهذه الآية قول النبي ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» [351]. أي يكسر من حدة شهوته، ولم يقل: ومن لم يستطع فليتمتع بامرأة بأجر معلوم إلى أجل مسمى، فلو كان جائزًا لوجب بيانه ولما ساغ كتمانه لكونه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، إذ الأمر بنكاح المتعة أيسر من الصوم الذي لا يطيقه أكثر الناس وخاصة الشباب، مما يدل على عدم إباحة المتعة.
ومثله إباحة نكاح الفقير للأمة المملوكة، فإن هذه الأمة لا توجد في كل زمان ومكان وخاصة في هذا الزمان الذي تم فيه إبطال الرق العام وصار الناس كلهم أحرارًا.
ومما ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر ونكاح المتعة إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.
وأنه لو انفتح للشباب والشابات إباحة نكاح المتعة الذي هو سهل وميسَّر لكل أحد بحيث يستأجر المرأة بنقد يسير في زمن قصير كيوم أو أسبوع أو مرة واحدة على مذهبهم يتمتع بها فإنه يفضل هذا على الزواج وتحمل تبعته وتكاليفه.
فلو فتح لهم إباحة هذا لانصرفوا برغبتهم عن النكاح الشرعي، وكذلك تؤثر المرأة أن تبقى خالية من الأزواج وبريئة من الحمل وأعباء مشقته وتكاليفه، لكون المسافِحة لا ترغب أن تحمل ولا رغبة لها في الزواج الشرعي الدائم لكونها مسحورة بالتنقل في اللذات، وكذا الرجل يفضل التنقل من واحدة إلى أخرى، وبذلك يقل النسل أو ينقطع، وقد لعن رسول الله ﷺ الذواقين من الرجال والذواقات من النساء، ويوجد في هذا من المضار ما يوجد في السفاح من قلة النسل واختلاط الأنساب والعداوة بين الأغيار.
ولهذا رأينا من عرفنا من الشيعة أنهم أبعد الناس عن هذا العمل، وأشدهم بغضًا له، فلا نسمع بغني ولا فقير ولا شريف ولا حقير أنه أجر ابنته أو موليته رجلاً يتمتع بنكاحها أسبوعًا أو شهرًا بأجرة معلومة، فهم يترفعون بشرفهم واحترام محارمهم عن السقوط في هذه المهانة، حتى كانت جريمة الزنا نادرة الوجود فيما بينهم، ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٢٦ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا ٢٧﴾[النساء:26-27] والله أعلم.
* * *
[336] رواه مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه. [337] أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل من حديث عمرو. [338] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.. [339] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [340] الأتوار: جمع تور، والتور هو الإناء من نحاس أو حجارة. [341] الأقط: لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. [342] أخرجه أحمد من حديث أم عطية الأنصارية. [343] أخرجه البيهقي بنحوه من حديث أنس بن مالك. [344] رواه مسلم. [345] كتاب جواهر الكلام في شرائع الإسلام للشيخ محمد حسن بن محمد باقر النجفي. [346] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [347] أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامر. [348] جاء في تحفة الأحوذي، أقله أي: أيسره. [349] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [350] ولنا رسالة في استحباب تخفيف الصداق وجواز تحديده فلتراجع. [351] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.
صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر
أحمد إليكم الله تبارك وتعالى الذي يوفقكم دوامًا إلى الخير وصالح الأعمال، وأُصلي وأُسلم على رسوله الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه، واتبع طريقته إلى يوم الدين
وبعد:
سعدت بالاطلاع على رسالتكم بطلان نكاح المتعة بمقتضى الدلائل من الكتاب والسنة وتتبعت مصادرها.
وقد تبين لي أن الغاية من الرسالة: بيان حكم الشرع في نكاح المتعة إزاء الفتنة بإباحته في العصر الحديث على يد أحد علماء الشيعة، والتي قد تجد لها هوى بين نفوس الشباب والشابات في المجتمع القطري وغيره من المجتمعات الإسلامية، نظرًا لغلاء المهور ووجود أزمة الإسكان، وتعد من عوامل الهدم لكيان المجتمع الإسلامي.
وتبدو قيمة الرسالة في كشف التزييف والتدليس الذي اعتمد في الأدلة لإباحة نكاح المتعة، وهدم رأيهم بأقوال أئمتهم، وبالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم من ذوي العقل الراجح.
وتتميز الرسالة بأسلوب علمي هادئ ومقنع، وتدل على رجاحة عقل مؤلفها، ونقاء قلبه وإخلاصه للإسلام، ورصده لما يعتري المجتمع الإسلامي من شبهات للزيع والضلال، وتقديم الدواء الناجع بالأدلة القاطعة المعتمدة. فجزى الله الشيخ عبد الله بن زيد خيرًا عما يقدم للإسلام، وأجرى على يديه النفع للأمة الإسلامية، وبارك الله في عمره وعمله ونفع به.
الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد رئيس محكمة من الفئة الأولى بالإسكندرية ومعار خبيرًا للبحوث الإسلامية برئاسة المحاكم الشرعية 25رجب 1400 هـ - 8 يونيه 1980م
* * *