مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الثاني
ثانيًا: قسم أحكام الزواج والأسرة
(1) حكمة إباحة تعدد الزوجات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شاف شامل، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في مجتمعهم وفيما بين أهلهم وعيالهم بالحكمة ومراعاة المصلحة والعدل والإحسان، مبني على جلب المصالح ودفع المضار، فهو عدل الله في أرضه، ورحمته لجميع عباده. يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107] فهو دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، قد نسخ جميع الشرائع ورفع الآصار والأغلال وأباح للناس الطيبات من الحلال، ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ﴾ [الأعراف: 32].
فلا يشرع شيئًا من الأعمال والمباحات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.
فهو دين الكمال والنظام، وشريعته منزلة على جلب المصالح ودفع المضار، غير أن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان. فهم ينكرون كل ما ليس معروفًا عندهم، وما ليس بمعهود في بلدهم، فينكرون حكم الله في القصاص، وفي قطع يد السارق وإقامة الحدود الشرعية على الجناة لتقليل الجرائم، ومنه إنكارهم لتعدد الزوجات ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١﴾ [المؤمنون: 71].
لكنهم عندما يبلون بالكوارث وانتشار الفواحش من القتل والنهب والسرقة وهتك الأعراض وكثرة النساء الأيامى اللائي ليس لهن أزواج، فعند ذلك يندبون الإسلام ويقولون: سلام الله على شريعة الإسلام التي تحكم بقتل القاتل وقطع يد السارق والقبض على أيدي الجناة، وحتى إباحة تعدد الزوجات فقد رجع بعض عقلائهم إلى استحسانه بعد إنكارهم له، لأنهم في هذه الأزمان لما انتبهوا لمصالح نسائهم ورأوا البنات يجلن في الأسواق كالقطعان من الغنم كلهن أو أكثرهن أيامى ليس لهن أزواج، أخذوا يدعون قومهم وينادون بإباحة التعدد بين الزوجات، إذ هو خير من بقاء البنات أيامى طول الحياة.
ومثله الطلاق فقد كانوا ينحون بالملام على الإسلام في مشروعية الطلاق، وعندما رأوا كثرة البغاء وعزوف الرجال عن الزواج الشرعي فرارًا من مسؤوليته، ولأن القانون لا يمكنه من طلاقها متى ساءت العشرة بينهما فصاروا يفضلون التمتع بالمرأة على سبيل السفاح. فلأجله اضطروا إلى الرجوع إلى شريعة الإسلام فصاروا يوقعون الطلاق على أدنى سبب، فتوسعوا في الإسراف فيه، وصار أحدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها، ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة إلى العمل بشريعة الإسلام، لأنها شريعة للناس أجمعين ورحمة للعالمين. فيعودون يعترفون للإسلام بفضله بعد أن شبعوا من ثلبه، فهم وإن لم يطبقوا العمل به لكنهم يعترفون بصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان.
ولا يزال الناس يحتاجون بداعي الضرورة إلى الرجوع إليه في المشاكل العظام، لاسيما عند ظهور الفتن في آخر الزمان التي تقضي بفناء الرجال، وناهيك بمفاسد فتنة لبنان وكيف قضت بحصاد عشرات الألوف أو مئات الألوف من الرجال من سوى الجلاء الذي يؤول بهم إلى الفناء مع قضائها على مشيد المنازل والعمران والفنادق والقصور العظام والنهب والقتل وهتك الأعراض. وهذه الحروب هي مصداق ما أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان حيث قال: «تظهر الفتن ويقل العلم ويثبت الجهل ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لأحدثنكم حديثًا لا يحدثكم به أحد بعدي، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ».
إن الإسلام يجمع بين مصالح الدنيا والدين وبين مصالح الروح والجسد ليس بحرج ولا أغلال ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة والتمتع بأنواع الزينة المباحة. يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ﴾ [الأعراف: 32] والنساء هن من أفضل زينة الدنيا ومن أفخر اللذائذ. يقول الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ [آلعمران: 14] والمزيِّن هو الله. والنبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس.
واقتضت حكمة الباري سبحانه أن يكون الرجل مستعدًّا للنسل ولو بلغ ثمانين سنة، وأن المرأة إذا بلغت الخمسين من عمرها يئست من الحمل والحيض وقيل: خمسًا وخمسين. ومن نظر بعين الاعتبار إلى التباين بين الرجل والمرأة يجد المرأة أكثر شغلاً وتعبًا من الرجل في الحياة المنزلية لقيامها بأعباء الحمل والولادة والرضاع وتربية الأولاد وشغل البيت من إصلاح الطعام وغيره من المتاعب التي تقتضي الحط من قوتها وصحتها حتى قيل: إنه لن ينبت عمر إلا وقد أكل عمرًا. أضف إلى ذلك أنها قد تكون عاقرًا وزوجها يحب أن تكون له ذرية، وقد تصاب بمرض معد يقتضي بعدها عن زوجها وبعده عنها زمانًا طويلاً.
لهذا صار الرجل في الإسلام يجوز له الجمع بين المرأتين والثلاث متى علم من نفسه القدرة على القيام عليهن بالعدل، لما في ذلك من العون على العفاف وتكثير النسل المطلوب شرعًا وعرفًا والذي يباهي به النبي ﷺ سائر الأنبياء، وحتى يكون المسلمون بكثرة نسلهم أكثر عددًا من عدوهم فيظهر بذلك فضلهم وعظمتهم أمام عدوهم كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ٦﴾ [الإسراء: 6] فكثرة المسلمين خير من قلتهم مع ما فيه من حفظ النوع الإنساني الذي يترتب عليه عمار الكون في الدنيا.
والتعدد فيه محاسن ومساوئ، فبعض الخواص من الناس قد شارك في موضوع التعدد لسبب يقتضيه، لكنه دخل فيه بعدل واعتدال وحسن سيرة وسياسة في الأهل والعيال فصار قرير العين به سليمًا من الأنكاد والأكدار، وذلك ببركة العدل بين الزوجات؛ إذ إن حكمة الله فوق رأي كل حكيم. ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً﴾ [النساء: 3].
* * *
إن النصارى والمبشرين يشنعون على الإسلام والمسلمين في تعدد الزوجات وينسبونه إلى مجرد التشهي والتنقل في اللذات، وينتقدون الإسلام نفسه في مشروعية ذلك، وما منهم أحد إلا وله خليلة وخليلتان يخلو بهما سرًّا عن زوجته، فهم يحرمونه قانونًا ويحلونه عادة وعرفًا ولا يعدون الزنا جريمة، وقد بدأ النصارى رجالاً ونساءً يعرفون وجه الحاجة بداعي الضرورة إلى التعدد، وأخذوا ينادون بإباحته قانونًا في صحفهم ومحاضراتهم وأنديتهم، كما أخذوا يعترفون بفضل دين الإسلام في مشروعيته وأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان ينظم حياة الناس أحسن نظام، فهو الكفيل بحل مشاكل الخاص والعام، ودونك الشاهد والمشاهد لأحوالهم وأعمالهم.
قال جوستاف لوبون وهو العالم الشهير عندهم: إن نظام تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل، وُجد قبل محمد ﷺ بين شعوب الشرق وأممه، وكان مشروعًا بين الفرس ومسنونًا بين اليهود وساريًا بين العرب، فلم يكن في مقدرة أي دين من الأديان وإن أوتي قدرة كبرى على تغيير الآداب والأنظمة والأخلاق أن يلغي نظامًا مثل هذا النظام الذي جاء به دين القرآن ويعمل على إبطاله، لأنه النتيجة الضرورية للجو والغاية المجتمعة لمزاج الشرق ونوع الحياة التي يعيشها.
أما عن تأثر الجو فلا حاجة إلى البسط فيه والشرح وحسبك أن مطالب الأمومة والولادة والأوجاع والأمراض وغيرها تضطر المرأة إلى أن تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها، وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرق. وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات أوجب الضروريات.
أما عن الغرب وإن كان الجو أهدأ تأثيرًا والطبائع أخف حرارة إلا أنك مع ذلك قل أن تلقى فردًا مقتنعًا بفردية الزوجية إلا في القوانين فقط. وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندره.
ومعنى ذلك أن الاقتصار على زوجة واحدة لا يوجد في أوروبا إلا في القوانين، ولا يعمل به إلا الأقلون، وأن تعدد الزوجات واقع في الغرب بين أهله وإن لم يكن مشروعًا عندهم.
إلى أن قال: لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الفاحش عند الغربيين؟! وإن كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الأول أسمى مكانًا وأرفع قدرًا من الآخر. أما وقد فهمنا الأسباب التي عملت على تشريع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي حمل الدين على الإقرار عليه والاعتراف به.
إن رغبة الشرقيين في الإكثار من النسل وذوقهم المعترف به في عيشة الأسرة، وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجران المرأة التي لم تعد تعجبهم، هي الأسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشئ عن الآداب والطبائع. انتهى[290] فقد عرفت مقالة هذا الكاتب الخبير وأن النصارى يستبيحون التعدد حرامًا وينكرونه حلالاً.
إن الإسلام دين السماحة والسهولة واليسر ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ﴾ [الحج: 78]، ولكونه ليس المقصود من النكاح هو التمتع بالشهوة الجنسية فقط فإنها من الشيء المشترك بين الإنسان وبين بهائم الحيوان، وإنما القصد هو كثرة النسل المطلوب شرعًا والمرغب فيه عرفًا والذي يباهي به النبي ﷺ سائر الأنبياء، ثم هو يحفظ به نوع الإنسان، وكانت بعض الحكومات تدفع مرتبات شهرية للنسل للترغيب في كثرته، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[291].
والقصد من النكاح أيضًا إحصان كل من الرجل والمرأة، فإحصان المرأة بكفالة الرجل لها وقيامه بكفاية مؤنتها وحسن عشرته لها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسيدة عشيرة وأم بنين وبنات كما أن المرأة كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك الخدوم والسيد المحشوم.
إذا رُمتها كانت فراشًا يقلني
وعند فراغي خادم يتملق
لهذا كانت المرأة عند بعض الأمم تبذل للرجل المهر على أن تكون زوجة له تحت عصمته ورعايته وتشاطره النفقة، لعلمها بحاجتها إلى كفالته وكفايته وأنها بانفرادها عن الزوج ذليلة ذميمة كما قيل: مسكينة مسكينة امرأة بلا زوج، وتدعى الأيم والأرملة.
فالشريعة الإسلامية الصادرة من الحكيم العليم تنظر إلى حالة جميع الناس وحاجتهم في حاضرهم ومستقبلهم نظرة رحمة وإحسان إلى جميعهم ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ ٤٧﴾ [النحل:47].
لهذا أباح الله التعدد رحمة منه لجميع الناس، ذكرهم وأنثاهم لأنه من المشاهد بالعقل والثابت بالنقل أن النساء في كل بلد أكثر من الرجال، طبق ما أخبر به النبي ﷺ من أن الرجال يقلون وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، يَلُذْن به، وذلك عند ظهور الفتن والحروب التي تحصد الرجال حصدًا في آخر الزمان.
أفَترى شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، يهمل جانب هؤلاء النساء الأيامى فلا يجعل لهن حظًّا ولا نصيبًا من العلوق مع الرجال بطريق مباح شرعي، لكون الرجل أقوى وأقدر على العمل وسائر وسائل الكسب من المرأة، أفلا يخفف هذا الضغط بإباحة التعدد بنكاح من ترغب في نكاحه ويرغب في نكاحها بطريق مشروع غير محظور؟ إذ هذا أصلح وأحب إلى الله من أن تبقى أيمًا تذهب نضرتها طول حياتها أو تتاجر ببضعها، بحيث تكون عرضة وطعمة لكل ساقط ولاقط، بدون زوج تأنس به ويأنس بها.
ولو سألنا الأيامى العوانس: هل الأفضل لهن البقاء على حالتهن الراهنة من العزوبة أو العلوق مع الرجال بطريق المشاركة مع الضرائر؟ لاخترن العلوق بكلمة الإجماع، لأنه أنفع وأصلح لهن. والشرع ينظر إلى حالة وحاجة جميع الناس، لا إلى امرأة واحدة تحب الحجر على زوجها في حضنها وحضانتها ولا تريد الاشتراك معها في مودته والتمتع به، لكون الثانية تدعى الضرة، وهي من أخطر ما يكون على الأولى بحيث تخشى أن تنفرد بمودته عنها فهي تكره المشاركة معها فيه، والنبي ﷺ قد حذر المرأة أن تشترط على الخاطب طلاق زوجته الأولى ففي البخاري ومسلم: نهى رسول الله أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها. أي من المحبة والغبطة بزوجها، فمصلحة التعدد لا يخرجه عن كونه رحمة للعالمين؛ ما حصل على هذه المرأة من مضرة مشاركة الضرة لها في زوجها، فإن المضار الجزئية الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية أشبه قتل القاتل، وقطع يد السارق، وإقامة الحد على شارب الخمر.
وقد وجد في هذا الزمان ومن قبل أزمان كثيرون من الأدباء والكتاب والكاتبات من النصارى، يدعون قومهم إلى إباحة التعدد بمقتضى القانون، وذلك حينما رأوا أكثر النساء الأيامى مشين في الأسواق كالقطعان من البقر، وحينما رأوا الزنا قد فشا وانتشر بكثرة هائلة، مما سبب قلة نسلهم. وحينما رأوا الرجال يعدلون عن النكاح الشرعي إلى الزنا، وقد ثبت بطريق المشاهدة والتجربة أن منع التعدد قد وسع في بلدانهم من خطورة الزنا لكون النفوس متى ضيق عليها في منع مشروعها اقتحمته إلى محظورها بشغف وحرص كما قيل:
منعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
من ذلك ما قاله الفيلسوف الإنجليزي (سبنسر) في كتابه أصول علم الاجتماع: إن التعدد ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب، ولم يكن لكل رجل من الباقين إلا زوجة واحدة. فإذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها الحروب وبقي نساء عديدات بلا أزواج فإنه ينتج عن ذلك نقص في المواليد لا محالة.
فإذا تقاتلت أمتان إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاء فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها بمقتضى التعدد للزوجات. وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجة تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات. اهـ
وكأن هذا هو السبب في الضرر الذي ابتليت به الدول الأوروبية ومن على شاكلتهم حينما تساهلوا في انتشار الزنا ولم يعتبروه جريمة، ويعدونه من كمال الحرية للمرأة، فظهر عليهم أثر ضرره وسوء عاقبته بشكل ينادي بقلة عددهم وتقويض دعائم صنائعهم وأعمالهم، لكون النسل جيل المستقبل وقد أصبح عاطلاً عن العمل وعن الزواج الشرعي من رجل وامرأة، ويكتفون بالزنا بدله ولا شك أن المرأة المسافحة يقل نسلها لكون أحد الرجال يفسد حرث الآخر.
إن ضرورة قلة النسل وانتشار الفساد في الأرض هو أعظم من ضرورة التعدد بكثير.
فهؤلاء الذين يبالغون في التشنيع على المسلمين في وصف مفاسد التعدد للزوجات ما منهم أحد يكتفي بزوجة واحدة يقتصر عليها، بل لكل واحد منهم خليلة وخليلتان يخلو بهما سرًّا عن زوجته الشرعية، فأكثرهم مسافحون ومتخذو أخدان كما أن أكثر نسائهم مسافحات ومتخذات أخدان، حتى إن رجالهم أخذوا ينفرون من الزواج الشرعي لكون الزوجة بزعمه لا تقتصر عليه وحده، وتحدث له عداوة الأغيار الذين يشاركونه في التمتع بها، ويقول بعضهم: كيف تطيب نفسي أن أتزوج امرأة ثم أرى رجلاً يأخذ بيدها ويذهب بها كيف شاء وأنا لا استطيع صدها عنه ولا صرفه عنها؟! ثم إنه يراها بمثابة الغل في عنقه، والقيد في رجله، متى اشتدت كراهيته لها، ولم يتمكن بمقتضى القانون من طلاقها. فكانوا يتمتعون بالزنا ويؤثرونه على النكاح الشرعي، وكان هذا هو السبب في انتشار الزنا، وقلة النسل، يقول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾ [فصلت: 53].
* * *
[290] من كتاب: حكمة التشريع وفلسفته لمؤلفه علي أحمد الجرجاوي (جزء2 ص 16). [291] رواه النسائي من حديث معقل بن يسار.
إن غلاة النصارى من المبشرين والقسيسين قد صار التعدد موضع لجاج وجدال منهم مع المسلمين، حتى صار جل حديثهم في محاضراتهم وأنديتهم وفي صحفهم وكتبهم. ولا نعلم قضية كثر فيها اللجاج والجدال كهذه القضية، على أنها قضية واضحة جلية. وإنه لا يمكن أن يعيش مجتمع بدونها سواء كان التعدد عن طريق مشروع أو محظور.
فهم يبالغون في إنكار التعدد على شريعة الإسلام وعلى خاصة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في جمعه لتسع نسوة. فيعبرون عن إنكاره بأبشع تعبير، من كل ما ينفر الكبير والصغير عن الإسلام وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. لاعتقادهم أن ما هم عليه من الانفراد بواحدة هو الحسن الجميل وأن ما عليه الإسلام هو شيء قبيح. فهم يتوارثون التعصب ضد الإسلام وضد النبي محمد عليه الصلاة والسلام جيلاً بعد جيل.
والحق أن النبي محمدًا ﷺ ليس ببدع من الرسل فيه فقد مضى للرسل أمثالها وما هو أكثر منه فيها.
فقد كان لنبي الله داود تسع وتسعون زوجة، وكان لنبي الله سليمان - كما جاء في التوراة - سبعمائة زوجة من الحرائر وثلاثمائة من الجواري وكن أجمل أهل زمانهن، وكذلك أنبياء بني إسرائيل معددون للزوجات من لدن إبراهيم عليه السلام.
وروى البخاري: «قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك: قل إن شاء الله. فلم يقل ونسي، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان».
قال النبي ﷺ: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ».
وعلماء النصارى يعرفون هذا كله ويصدقون به فلا وجه للإنكار على النبي محمد ﷺ فيه.
إن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء، وقد خص الله أنبياءه بمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم، أهمها نزول الوحي الذي هو أفضل المزايا على الإطلاق. ثم جمع النبي ﷺ لتسع نسوة كما جمع الأنبياء قبله أكثر منهن. يقول الله تعالى: ﴿وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ﴾ [الأحزاب: 50] فأباح الله لنبيه في هذه الآية ما لم يبحه لسائر المؤمنين. ولما أسلم غيلان بن سلمة وكان تحته عشر نسوة أسلمن معه فأمره النبي ﷺ أن يختار منهن أربعًا ويفارق الباقي[292].
ولما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩﴾ [الأحزاب: 28-29].
فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة أكرمهن الله بأن أمر نبيه ﷺ بأن لا يفارقهن ولا يتزوج عليهن. فقال تعالى: ﴿لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ﴾ [الأحزاب: 52] فانتهى رسول الله ﷺ إلى أمر الله واقتصر عليهن.
* * *
[292] رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث سالم عن أبيه.
إننا لا نشك ولا ننكر أن الاقتناع بزوجة واحدة متى حصل المقصود منها أنها أفضل من التعدد؛ لأن الله سبحانه حينما أباح تعدد الزوجات لم يبحه بطريق التوسع فيه على حسب التشهي والتنقل في اللذات، وتنوع المشتهيات، وإنما أباحه بشرط العدل بين الزوجات ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً﴾ [النساء: 3]، لأن العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، وله وضعت الموازين، وهو الإلف المألوف تتألف به القلوب وتلتئم به الشعوب ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح.
فالقناعة بزوجة واحدة هي الأصل في تسميتها زوج، وكما يسمى الرجل زوج. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع، وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[293] وبذلك يسلم من التنكيد والتكدير عليه في حياته من كل ما يثيره أحقاد الضرائر كما قيل:
ومن جمع الضّـَرات يطلب لذة
فقد بات في الأضرار غير سديد
ونحن معشر المسلمين على دين وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، بين الغالي فيه والجافي عنه.
فالذواقون الذين يتنقلون في مراتع الشهوات من واحدة إلى أخرى تمشيًا مع رغبتهم، ودواعي شهواتهم، ليسوا بمحمودين على عملهم، وربما يدخلون بمقصدهم في نكاح المتعة المحرم في الإسلام، متى تزوجها ومن نيته أن يطلقها ولا يستديم بقاءها، وقد ورد الوعيد الشديد في الذواقين من الرجال والذواقات من النساء، ومن كانت هذه سجيته فلن تدوم صحبته.
ومن طبيعة النفوس متى استرسل صاحبها معها في تنقلها في اللذات وتنوع المشتهيات، فإنها لن تشبع نفسه أبدًا، بل كلما تزوج بامرأة جميلة يحسن السكوت على مثلها ثم ذكر له أخرى غيرها تاقت نفسه لأخذها. حتى قيل: إنه لو كان عند رجل جميع نساء العراق فقدمت امرأة من الشام ووصف له جمالها فإنها تتوق نفسه لأخذها ولا يقنع بما عنده كما قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت لها سعة
لها إلى الشـيء لم تظفر به نظر
والنفس من صاحبها فإن أطمعها تاقت وطمعت، وإن سلاها سلت وسمحت.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وقد قيل: الجدة تذهب اللذة، وما كل ما فوق البسيطة كافٍ، وإن قنعت فكل شيء كافٍ، فأهنأ العيش وأسعده هو ما أرشد إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ﴾ [الروم: 21]، وهذه المودة والرحمة لا تدرك ولا تتفق غالبًا إلا في حالة انفراد الزوج بزوجة واحدة يأنس بها وتأنس به ويطمئن إليها، وهذا هو الذي أرشد إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ﴾ [النور: 32] والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، إذ هذا هو الأصل في تسمية الزوج والزوجة.
غير أن الشريعة الإسلامية السمحة أباحت التعدد بشرط التزام العدل وهو من تمام محاسنها وعموم مصالحها. وقد أخبر النبي ﷺ بداء التوسع في المشتهيات من النساء كما أخبر بطريق علاجه فقال: «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذهب إلى امرأته فإن معها الذي معها». رواه الدارمي عن ابن مسعود ورواه مسلم عن جابر.
ثم إنه يتضاعف ضرر التعدد على الفقير وكل من كان مرتبه حقيرًا، لأن لكل زمان أحوالاً وأعمالاً تناسبه من السهولة واليسر ومن الشدة والعسر، فقد مضى على الناس زمان يكتفون فيه بالقليل من القوت والغذاء والملابس، وكان غالب ما يأكلونه ويستعملونه هو من نتاج بلدهم، وكان عمدة قوت الكثير منهم البر والتمر ولا يحتاجون إلى شيء من الخارج ما عدا اللباس الذي عسى أن يستعمل أحدهم الثوب الواحد غالب السنة لا يجد له بديلاً.
لهذا كان التعدد بين الزوجات لا يشق عليهم أبدًا، وربما يساعدنه في سعة رزقه بما تستعمله إحداهن من المهنة كخياطة ونشازة وشؤون الحرث والزراعة حتى قيل: امرأة الصعلوك إحدى يديه.
أما الآن وفي هذا الزمان فقد تبدلت الحالات وتجددت الحاجات وصار كل شهر يتجدد لهم حوائج ومؤن لا يجدون بدًّا منها من مكيفات وغسالات وثلاجات ومفروشات فضلاً عن السيارات، وكل امرأة تطالب بحقها من ذلك حسب عرف البلد وعادة الناس، وبذلك يتزايد الصرف ويشتد ضرره وتتراكم الديون عليه من حيث لا يحتسب، ويصعب عليه الخروج منها لأن دخوله في تعدد الزوجات بشهوة وشهامة يعود عليه بالملامة والغرامة، فالذين ينقادون مع شهواتهم إلى استحسان التعدد بدون تفكير في عواقبه هم يقعون غالبًا في سوء العاقبة والمصير.
ثم إن بعض هؤلاء متى استجد أحدهم نكاح امرأة ووقعت في نفسه موقع الحظوة والرغبة، أقبل عليها بكليته ووحدها باتصاله وصلته وقطع صلته بالأولى وقطع نفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يدعها معلقة لا هي ذات زوج ولا مطلقة، فيتضاعف عليها الضرر من كل الحالات، لعجز الزوج عن القيام بكفاءة المرأتين لا في البيت ولا في المبيت ولا في النفقة، وإن مثل هذا يستحق أن لا يسمح له بالتعدد لعجزه عن القيام بواجبه، ولإخلاله بشرطه لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً﴾ [النساء: 3].
إن العقل المعيشي يعقل الرجل المقل عن التعدد لغير ضرورة لما يترتب عليه من الإرهاق في الإنفاق، ثم هو يزرع زرعًا من العيال لا يستطيع سقيه ولا القيام بمؤنة كلفته.
كما أن التعدد يترتب عليه الإرهاق في صحته بسبب المباضعة التي هي هدم في قوته، فإن ماءه يخرج من سلالة جسمه، وقد وصفه رسول الله ﷺ بأنه مخ ساقيه ونور عينيه، فهو روح نشاطه وقوته كما قيل:
أقلل نكاحك ما استطعت فإنه
ماء الحياة يُصب في الأرحام
لاسيما إذا كان شيخًا طعن في السن، وقد تزوج بكرًا، فإنه إن وفاها حقها أنهك جسمه وإن قصر عنها أبغضته.
[293] أخرجه عبد الرزاق في الجامع لمعمر مرسلاً من حديث مجاهد.
بما أن الله سبحانه قد شرع النكاح لعموم منفعته وشمول مصلحته التي أهمها بقاء النوع الإنساني لما يترتب عليه من عمار الكون، فكذلك شرع فسخ هذا النكاح عند وجود ما يقتضيه من وقوع الشقاق وعدم الوفاق أو شدة كراهية الزوج لزوجته أو كراهيتها له، يقول الله تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ﴾ [البقرة: 231] والطلاق بغيض إلى الله لما روى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم.
وإنما كان بغيضًا إلى الله من أجل أنه يسبب العداوة والبغضاء بين الأصهار، ولما يعقبه من تشتت الشمل وانقطاع النسل بين الزوجين. لكنه بمثابة الدواء الكريه المر يعالج به ما لا بد منه؛ لأنه متى ساءت الطباع وفسدت الأوضاع بين الزوج والزوجة واستمر بينهما الشقاق وأعيت الحيل في الوفاق فما أحسن الفراق إذا لم تتلاءم الأخلاق؛ فإنه لا عيش ولا أنس ولا سعادة مع شدة كراهية أحد الزوجين لصاحبه، وهذا يعد من محاسن الإسلام الذي جعل الله فيه للمؤمن من كل ضيق فرجًا ومخرجًا، ولم يجعل الزوجة الكريهة في نفسه حرجًا وغلًّا في عنقه لا تنفك عنه حتى يموت أحدهما كزوجة النصارى، ولهذا رجع النصارى مضطرين إلى العمل بشريعة الإسلام في الطلاق، ومن أجل منع القانون لوقوعه بدون سبب صار أحدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها.
ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة إلى العمل بشريعة الإسلام لأنها شريعة الله للناس أجمعين ورحمة للعالمين، فيعودون يعترفون بفضل الإسلام في مشروعيته بعد أن شبعوا من ثلبه[294] والطعن في أحكامه، فهم وإن لم يطبقوا العمل بموجبه لكنهم يعترفون بفضله وصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان.
* * *
[294] الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان.
إنها متى ساءت الطباع فسدت الأوضاع ثم ساءت النتيجة، وقد جعل الله في الشريعة الإسلامية للمؤمن من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا.
ونحن نعتقد ولا شك بأن الشريعة الإسلامية عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، وقد أباحت الزواج بأربع نسوة متى علم من نفسه القدرة التامة على القيام بالعدل والكفاية في النفقة وسائر الواجبات الزوجية، وذلك في وجوب القسم في الدخول والمبيت والنفقة الواجبة، بخلاف ميل القلب بالمحبة وما يستدعيها من الشهوة الجنسية فإنها لا تدخل في مسمى القسم لأنها ليست من إمكانية الشخص كما قال تعالى: ﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ﴾ [النساء: 129] سميت معلقة لكونها لا ذات زوج ولا مطلقة. وكان النبي ﷺ يقسم لنسائه ويعدل ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا لَا أَمْلِكُ»،[295] يعني القلب ودواعيه.
وكان النبي ﷺ في حالة مرضه يحمل إلى منزل كل امرأة من نسائه وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يريد يوم عائشة، فأذِنَّ له أزواجه أن يُمرّض في بيت عائشة فكانت تقول: توفي رسول الله بين سحري[296] ونحري[297].
أما إذا لم يستطع إعطاء كل واحدة منهن حقها إما لفقره أو لعجزه عن المباشرة الجنسية أو عدم عدله في قسمه ونفقته الواجبة، فإن تنازلت إحداهن عن حقها من ذلك فهو صحيح ويسقط حقها باختيارها متى خيرها زوجها على البقاء معه بدون قسم أو الطلاق، فإن اختارت البقاء بدون قسم فلا بأس إذ القسم من حقها ولها إسقاطه للمصلحة الراجحة من استدامة بقائها في عصمته بدون قسم، فقد وهبت سودة قسمها لعائشة، فكان النبي يقسم لعائشة رضي الله عنها يومها ويوم سودة.
أما إذا طالبت بحقها من ذلك كله فإنه يحكم لها به، وعند امتناعه يعتبر ظالمًا لها بحيث تستحق الفسخ من عصمته بطلبها.
فإذا لم يستطع إعطاء كل امرأة منهن ما تستحقه من النفقة الواجبة أو المباضعة أو عدم قسمه لها فإنها تعتبر والحالة هذه أسيرة تحت قهره وظلمه، لكون الرجل لا يستحق استدامة القوامة عليها إلا بالنفقة عليها مع قيامه بسائر واجباتها؛ يقول الله تعالى: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ﴾ [النساء: 34].
ولما كان من حالة عيش النبي ﷺ ما هو معروف من القلة فكان يمضي عليهم الشهر والشهران وما أوقد في بيت من بيوته نار، فاجتمع نساؤه يطالبنه بالنفقة عالية أصواتهن عليه، فسمع عمر أصواتهن وزجرهن وقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله ﷺ؟! فأنزل الله سبحانه آية التخيير: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩﴾ [الأحزاب: 28-29] فقلن كلهن: نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولن نعود إلى المطالبة بالنفقة بعد اليوم[298].
وفيه دليل على جواز مطالبة المرأة بالفسخ عند قطع النفقة عنها بلا سبب يوجبه منها، وكونها تجب إجابتها إلى ذلك لكونه لا يستحق القوامة عليها إلا ببذل النفقة التامة، فمتى كان هذا التخيير النازل في القرآن وقع في حق الرسول مع زوجاته، مع العلم بواسع عذره من عوزه وقلة موجوده، فما بالك بمن قطع نفقته عن زوجته إضرارًا وعنادًا أفلا تستحق المطالبة بفسخ نكاحها وإجابة دعوتها في تخليصها من عصمته؟ إذ لا حق له في استدامة نكاحها إذ هذا من الضرر الذي يجب إزالته.
أما إذا اتصف بالجنف ومال إلى واحدة دون الأخرى فإنه ينهدم نظام منزله وتسوء معيشة عائلته ويحتقب أفراد عائلته العداوة له، ثم العداوة من بعضهم لبعض فيستبدلون الألفة بالنفرة والمحبة بالبغض كله من أجل الجنف الذي عامل به إحدى نسائه على الأخرى، وأنه عندما يشتد النزاع ويستمر الشقاق ويتعذر الوفاق بينهما فقد جعل الله لهن سبيلاً، فقد أنزل الله آية التخيير في حق الرسول مع زوجاته أمهات المؤمنين، ثم أنزل الله تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ [النساء: 35] وهذان الحكمان يريدان الإصلاح من الوفاق والإنفاق أو الفراق فهما حكمان مستقلان بنص الكتاب بحيث يقرران الفراق عند تعذر الحيلة في الوصول إلى الوفاق، أو يقدمان اقتراحهما إلى القاضي ويحكم بتنفيذه سواء كان على عوض مالي أو بدون عوض.
والدليل الثالث ما روى البخاري عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله ﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعم. فقال: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». وفي رواية قالت: إني لا أطيقه بغضًا. فجعل لها النبي فرجًا ومخرجًا مما وقعت فيه من البغض الشديد الذي سبب الشقاق وتعذر معه الوفاق، فما بالك بالقضاة الذين يحكمون على مثل هذه المرأة بهجرانها وقطع النفقة عنها كل السنين الطويلة مع أن الله سبحانه قد جعل لها مخرجًا مما وقعت فيه، ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ﴾ [البقرة: 231].
وفي نفس هذا المقام وما يقتضيه من الأحكام فإنني أذكر الناس فضيلة العدل وحسن ما يترتب عليه من صلاح الأهل والمال والعيال، فإن العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وهو الإلف المألوف المؤمِّن من كل مخُوف، به تتألف القلوب وتلتئم الشعوب، ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح، فقد رأينا أناسًا من أهل الصلاح والتقى يتزوج أحدهم باثنتين وثلاث ويتمتع بهن متاعًا حسنًا قي عيشة راضية مرضية وأخلاق كريمة زكية بدون تنكيد ولا تكدير، وذلك كله من بركة العدل وحسن الخلق، وعلى أثره ينشأ الأولاد متحابين متجانسين متآنسين كأنهم بنو أب وأم واحدة، والعدل يُمنٌ والجنف والجور شؤم.
إن من مساوئ عدم العدل في القسم أو النفقة وقوع الضجر عليه من كثرة التشكي والمطالبة بالحقوق مما عسى أن يضجره كثرة هذا القلق والشقاق والاضطراب لاسيما إذا كان ضيق الصدر سيئ الخلق، فيوقع الطلاق على زوجته أم أولاده وبناته على أثر المشاجرة، فيكون طلاقه بمثابة الصاعقة النازلة عليها في بيتها فينهدم البيت ويتفرق شمل العيال فيندم حيث لا ينفعه الندم كما قيل:
ندمت وما تغن الندامة بعدما
خرجن ثلاثًا ما لهن رجيع
ثلاث يحرمن الحلال على الفتى
ويصدعن شمل الدار وهو جميع
فتخرج من بيته ودمعها يسيل على خدها حزينة على فراق زوجها وعلى فراق عيالها، وإنه لا أسوأ من حالة أم العيال متى خرجت وليس لها من تأوي إليه ولا من يصبر على عيالها من أهلها، فيشتد حزنها وأسفها لاسيما متى علمت أن زوجته الجديدة تعامل عيالها بالسوء وخشونة التربية من الطرد والتقريع وسوء المعيشة.
إننا بتولينا للقضاء كل السنين الطويلة قد عرفنا من حالة الناس ما لا يعرفه من لا يبتلى بالقضاء.
لقد عرفنا أن القاضي الشرعي يكلف الزوج بالنفقة على مطلقته إن كانت حاملاً حتى تضع حملها ثم ينفق نفقة الرضاع لقول الله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6] فينفق عليها وعلى عياله منها ما داموا في حضانتها لاعتبار أنها لهم بمثابة الخادم لإصلاح أمرهم وحسن تربيتهم.
وكل ما أوجب الإنفاق فإنه يوجب السكنى فهو وإن كلفته المحكمة الشرعية بأن تحكم عليه بذلك طبق ما أوجبه الله عليه في قوله: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ﴾ [البقرة: 233] لكن أكثر الناس من أجل عدم العدل والإنصاف لا يستجيبون لهذا الحكم ولا ينقادون لتسليم ما وجب عليهم إلا مكرهين، وأكثر الناس وإن تسموا بأنهم مسلمون لكنهم لا ينصفون من أنفسهم، وحتى بعض العلماء وبعض القضاة رأينا أحدهم يهمل عياله مع كثرتهم عند أمهم ويقطع نفقتهم عنها ويتركها تقاسي مرارة أكدارهم بدون نفقة ولا اهتمام بأمرهم.
والمرأة لا تستطيع أن تطالب بحقها عند الحاكم الشرعي في كل شهر فلا تقدر على الذهاب إلى المطالبة في المحكمة، وتختار أن يذهب حقها ولا تبرز للمطالبة والشكوى، لهذا تبقى حائرة حزينة إن أرسلت عيالها إلى أبيهم ضاعوا، وإن استدامت بقاءها بهم عند أهلها سئموا وملوا، وحتى الخطاب يمتنعون عن الزواج بها مهما كان من حسنها وجمالها من أجل عيالها، لعلمهم أنهم يكونون عبئًا ثقيلاً عليهم فتبقى أيِّمًا مدة شبابها تتجرع غصص الفاقة والذل في سبيل تربية عيالها، وصار زوجها بمثابة من حملها ثم أهملها.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[299] فهذه معاملة غالب الناس في حال التزوج بالجدد من النساء ووقوع الطلاق منه على أم عياله، كأنهم لم يفهموا حكمة الله في مشروعية الطلاق والإنفاق، وهؤلاء يعتبرون من النذلاء الرذلاء الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم فلا أخلاق ولا إنفاق ولا كرم ووفاق.
ويستثنى من ذلك ذوو الشرف واليسار ومن لهم حظ ونصيب من الكرم والأخلاق فإنهم قد ينفقون النفقات الكثيرة على مطلقاتهم وأولادهم اتباعًا لأداء ما وجب عليهم وزيادة في الفضل، وهؤلاء يندر وجودهم، وهذا كله يعود إلى التخلق بمحاسن الأخلاق؛ لأن الله سبحانه فاوت بين الخلق في الأخلاق كما فاوت بينهم في الأرزاق، ومن الدعاء المأثور: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت»[300]. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 4 جمادى الآخرة سنة 1396هـ
[295] أخرجه أبو داود والبيهقي والدارمي والحاكم في المستدرك، جميعًا عن عائشة. [296] السَّحر (بتثليث الحاء): الرئة. [297] متفق عليه من حديث عائشة. [298] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [299] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [300] أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد من حديث علي بن أبي طالب.