1781

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الثاني

أولاً: قسم العبادات



(7) الحُكم الشرعي في إثبات رؤية الهلال

[مقَـدّمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الشمس والقمر آيتين من آياته؛ بهما يستدل المسلمون على أداء كثير من العبادات، فالصلاة والصيام والحج وغيرها يتوقف القيام بها على معرفة أحوال الشمس من شروق وغروب وزوال وعلى معرفة ظهور الهلال واختفائه.

وإنه لَمِمّا يؤسف له ما يشاهد في واقع المسلمين من اختلاف في رؤية هلال رمضان وهلال شوال وهلال ذي الحجة، مما يجر معه الاختلاف المشاهد في بدء الصوم وانتهائه، وفي تحديد أيام الحج ووقتها مع أنه يمكن رؤية الهلال في أقطار الإسلام كافة في ليلة واحدة.

ومع ذلك نرى الاختلاف المؤسف في بدء الصوم وانتهائه إلى الحد الذي يصل إلى أن تصوم بعض بلاد العالم الإسلامي بعد يومين من صيام الأخرى، وكذا في فطرها، كما حدث في هذا العام.

وفي الرسالة التالية التي وجهتها إلى العلماء الأجلاء حيثما وجدوا، وإلى حكّام المسلمين على اختلاف ديارهم، دعوة إلى الالتزام بالشرع الحنيف في إثبات رؤية الهلال، وإلى التحقق الواجب في إعلان بدء الصوم وانتهائه، وفي إهلال هلال ذي الحجّة مما سيؤدي - إن شاء الله تعالى - إلى توحيد بدء أداء هذه العبادات في حياة المسلمين، إذ إن الاختلاف في هذا الأمر ناشئ بدون شك عن أحد سببين: إما عدم التثبت من رؤية الهلال، مما يجر معه الأخذ بالشهادة الكاذبة، وإما عدم وجود هيئة مسؤولة عن رؤية الهلال مؤلفة من عدول ثقات، مشهود لهم بالصلاح والخير، يوكل إليها أمر رؤية الهلال، وهذا لا ينفي بالطبع واجب المسلمين جميعًا في التماس الهلال.

أرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهم علماء المسلمين وحكامهم والمسؤولين فيهم إلى التقيّد بالشرع الشريف، وأن تجد هذه الرسالة موقعها الحسن في نفوسهم، فيعملوا بما جاء فيها من اقتراحات. وحسبنا أننا نبذل الجهد والطاقة في سبيل خدمة هذا الدين الحنيف محتسبين في ذلك الأجر والثواب من الله، وعملاً بقوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٥ [الذاريات: 55] والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* * *

الرسالة الموجهة إلى العلماء والحكام في شأن رؤية الهلال

أرفع إلى العلماء الأعلام وإلى الحكّام الكرام وإلى قضاة شرع الإسلام هذه الرسالة الوجيزة التي تدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم؛ لأن من واجب العلماء التناصح في سبيل بيان الحق، والتواصي بما ينفع الخلق؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يُستمع، والمخلص في محبته هو من يجرع صديقه الدواء المرّ ليقيه من الوقوع في الضر. وإن النهي عما يجب إنكاره هو ما يقلل فشوه وانتشاره، ويبقى الود ما بقي العتاب.
ما ناصحتك خبايا الود من أحد
ما لم ينلك بمكروه من العذل
مودتي لك تأبى أن تسامحني
بأن أراك على شيء من الزلل
وبعد: فإن عيد الفطر من هذه السنة 1400هـ. قد وقع في غير موقعه الصحيح بناء على الشهادة الكاذبة برؤية الهلال ليلة الاثنين، حيث لم يره أحد من الناس الرؤية الصحيحة لا في ليلة الاثنين ولا في ليلة الثلاثاء، مما يستلزم بطلان هذه الشهادة، وقد تكرر مثل هذه الخطأ أعوامًا عديدة، إذ من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، والناس لم يروا الهلال إلا في الليلة الثالثة أي ليلة الأربعاء، رأوه صغيرًا جرمه ومنخفضة منزلته، كهلال أول ليلة من الشهر. وفي اللغة أن الشهر ليلة الثالثة لا يسمى هلالاً، وإنما يسمى قمرًا، وكان الصحابة يصلّون العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة. ذكره أبو داود في سننه حديثًا.

ومن قواعد الشرع أن الهلال متى رآه الناس، فإنه أول ليلة من الشهر، سواء أكان جرمه كبيرًا ومنزلته عالية أم لم يكن، لقوله سبحانه: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189].

فسمى الله الهلال هلالاً لارتفاع الأصوات برؤيته، كما سمي الشهر شهرًا لشهرته، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185].

لهذا يتبين لجميع الناس أن دعوى رؤيته بليلة الاثنين أنها كذب وزور، وأن الحكم بصحتها وقع خطأ، ويغفر الله لمن حكم بصحته.

وإن من شرط صحة الشهادة المقبولة كونها تنفك عما يكذبها، فمتى شهد أحد برؤية الهلال ليلة الاثنين ثم لم يره جميع الناس ليلة الاثنين ولا ليلة الثلاثاء، فإنه من المعلوم قطعًا أن الشهادة كاذبة، أو أن الشاهد توهّم رؤية خيالية حسبها هلالاً فكانت ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

وكثيرًا ما يقع الوهم والتخيلات في رؤية الهلال، ومتى كان الكذب موجودًا في الناس بكثرة، فإن من العجز الثقة بكل أحد، فاحترسوا من الناس بسوء الظن ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ [الحجرات: 6] أي تثبتوا.
ورُبَّ شهادة وردت بزور
أقام لنصها القاضي عدولَهْ
يا معشر العلماء الكرام، ويا معشر قضاة شرع الإسلام، لقد وقعنا في صومنا وفطرنا في الخطأ المتكرّر كل عام، ومن أجل كثرته عاد كالأمر المعتاد فلا يتحرّك لإنكاره أحد، على أن التدارك ممكن، والأخذ بالأمر اليقين متيسّر، والأخذ بالحزم هو من فعل أُولي العزم.

وإن المسلمين قد انقسموا في صومهم وفطرهم إلى قسمين:

منهم من يعتمدون على الرؤية المحققة التي يرونها بأعينهم في بلدهم وفي البلدان المجاورة لهم، فلا يعتمدون في صومهم وفطرهم إلا على رؤية جماعة من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب؛ فيدخلون في صومهم بيقين ويخرجون منه بيقين ولا يبالون بمن خالف رؤيتهم، وهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب، فهنيئًا لهم تقبل الله منا ومنهم حيث امتثلوا أمر الله سبحانه بقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] وكذلك أمر رسوله ﷺ بقوله: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [283] وبحديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» متفق عليه من حديث ابن عمر.

والقسم الثاني: هم الذين يعتمدون في صومهم وفطرهم على أدنى خبر يأتيهم من إحدى البلدان بأنه رئي الليلة فيعلنون بالمذياع بأنه ثبت شرعًا رؤية الهلال ليلة الاثنين، وأن العيد صبيحة الاثنين، فيفطر الناس بدون أن يرى الهلال أحد، وحتى الليلة الثانية، فإنه لم يره أحد سوى إشاعة هذا الخبر الذي هو حقيقة في الكذب، فيصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان بناءً على هذا الخبر المكذوب، فيدخلون في صومهم ويخرجون منه على غير بصيرة من أمرهم، وهذا هو حقيقة ما عليه عمل البلدان العربية، حيث يقلد بعضهم بعضًا بدون رؤية ولا رَوِيّة. وقد قيل: «ليس المخبر كالمعاين» وهذه كلمة مأخوذة من حديث رواه الإمام أحمد أن النبيﷺ قال: «ليس المخبر كالمعاين، إن موسى أخبره ربه بأن قومه قد عبدوا العجل فلم يلق الألواح، فلما رآهم بعينه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه».

وإنني في ولاية عملي وفي محل قضائي أسير مع قافلة هؤلاء لكونهم مشايخي وأوسع مني علمًا، خشية أن أُرمى بجريمة الشذوذ عن الجماعة، ثم يطبّق عليّ وعيد من شذّ شذّ في النار، ثم أُسلي نفسي بالتأسي بغيري قائلاً: إن الإنحاء بالملام وتوجيه الآثام يقع على من تعمّد الحكم بالخطأ ودعا الناس إلى متابعته وإلى العمل به بدون تثبت ولا تريث ولا عمل باليقين، وليس الشك كاليقين.

فيا معشر علماء الفقه في الدين، إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه قد نصب للناس علامات جلية ظاهرة يهتدون بها في صومهم وفطرهم، فنصب الهلال في السماء ليكون علامة ساطعة لجميع الناس في البر والبحر، وفي الحضر والبادية، وللرجال والنساء، وأكد الاهتداء به بقوله سبحانه: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وكما سماه شهرًا لشهرته فقال: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] فمتى طلع الهلال على الحقيقة، فإن الناس كلهم يرونه، أهل المشرق كأهل المغرب.

وقد عقب النبي ﷺ على هذا بما يقتضي تأكيده، فقال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» ومثله حديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» رواهما البخاري.

وهذا الحديث فيه الزجر بالنهي عن الصوم أو عن الفطر قبل تحقق الرؤية. والخبر بأن فلانًا رآه في بلد كذا لا يصدق عليه أن الناس قد رأوه، لكون الخبر يحتمل الصدق والكذب، والغالب على دعوى رؤية الهلال الكذب لوقوع التوهم والتخيلات في الرؤية.

إننا متى أهملنا اليقينيات من هذه النصوص البيّنات فإننا لا بد أن نقع في المتاهات والجهالات الناتج عنها سوء التصرف في الصوم والفطر، ومتى ساء التصرف ساء العمل وساءت النتيجة، ثم نكون عرضة للطعن علينا بعدم العمل بكتاب ربنا وسنة نبينا.

إن الهلال لن يُطلب من جحور الجرذان والضبان، بحديث يراه واحد دون الناس كلهم، وإنما نصبه الله في السماء لاهتداء جميع الناس في صومهم وحجهم وسائر مواقيتهم الزمانية: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وما كان ميقاتًا للناس لزم أن يشاهدوه جليا كمشاهدتهم لطلوع الفجر عندما يريدون الإمساك للصوم وعندما يريدون صلاة الفجر، وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

فيا معشر علماء الإسلام، أنقذونا وأنقذوا أنفسكم وأنقذوا الناس معكم من هذا الخطأ المتكرر كل عام، حتى صار عند أكثر الناس من المألوف المعروف.

فابنوا أمركم في صومكم وفطركم وحجكم على التثبت واليقين الذي لا يعتريه الشك في حقيقة رؤية الهلال في بلدكم، بشهادة عدد من العدول الثقات، واتركوا عنكم تناقل الأخبار من البلدان بأنه رآه فلان وفلان مما يكذبها الحس والواقع من عدم رؤية الناس تلك الليلة ولا الليلة الثانية، مما يدل على كذب تلك الشهادة، إذ إن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، وأنه متى تم العمل بنظام ما ذكرنا فإننا نكون عاملين في صومنا وفطرنا على اليقين، ويترتب على ذلك صوم جميع أهل الإسلام وعيدهم في يوم واحد كل عام، متى تم بناء نظام العمل في الصوم والحج، فإنّ جميع الناس سيكونون تبعًا لحكومة المملكة العربية السعودية؛ إذ أكثر المسلمين الذين يسكنون بريطانيا وفرنسا وأمريكا، كلهم أو أكثرهم يراقبون خبر الهلال بالمملكة العربية السعودية حرسها الله تعالى.

* * *

[283] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

حكم صوم أهل البلدان البعيدين عن خط الاستواء

إن أكثر البلدان التي تطلع عليها الشمس كل يوم فإنهم يرون الهلال كما نراه، إذا لم يكن ثَمّ مانع من غيوم متراكمة، إذ الهلال يتبع الشمس في مجراها ومغيبها.

فمتى طلع قبل الشمس من جهة المشرق فإنه يغيب قبلها فلا يراه أحد، أو طلع مع الشمس فإنه يغيب معها فلا يراه أحد لشدة ضوء الشمس، وإذا تأخر عن الشمس بقدر يمكن الناس أن يروه - وقدروه بعشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة - فإنه يمكن أن يراه الناس. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الهلال.

إنه بمقتضى المشاهدة والتجربة لرؤية الهلال في بلدان الغرب كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فإنه متى صفا الجو وزالت السحب، فإن الناس يرون الهلال كما يراه أهل نجد والحجاز على حد سواء، وكذلك منزلته في ليالي الإبدار كثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، قد شاهدناه بالعيان، كمنزلته في نجد والحجاز على حد سواء، ولا عبرة بكون اليوم في البلدان الغربية أطول جدا منه في بلدان نجد والحجاز، فإن هذا معلوم قطعًا ولن يتغير به مطلع الهلال، إذ هو يتبع الشمس في كل بلاد الغرب، حتى إذا نزلت الشمس إلى البلدان التي تحتنا، فإنه ينزل معها كحالته عندنا، إذ نوره مقتبس من ضوء الشمس، يقول سبحانه: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 38-40].

* * *

حكم الصوم في بلدان القطبين الشمالي والجنوبي

يبقى الكلام في البلدان البعيدة عن خط الاستواء والتي تغيب عنها الشمس فترة من الزمان، إذ توجد بلدان تغيب عنها الشمس نصف السنة، ثم تطلع عليها نصف السنة، وهذه البلدان مغمورة بالثلوج والسحب، ويوجد فيها أناس من المسلمين يسألون عن صلاتهم وصيامهم فأصدر العلماء لهم فتاوى باعتماد التقدير بالساعات في صومهم وصلاتهم قياسًا على أقرب بلد منهم من سائر البلدان التي تطلع عليها الشمس في كل يوم، مهما كان اليوم فيها طويلاً أو قصيرًا، لأن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وفي الحديث: «مَا أَمَرْتُكُمْ بشيء فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [284]. فيقدرون للإمساك ساعات معدودة على قدر أقرب بلد منهم، وكذلك سائر أوقات الصلاة تتم بالتقدير.

وليعلم أن كل بلد تطلع فيها الشمس وتغرب، فإنه لا يجوز لهم التقدير فيها، وكأن هذه الفتوى مقتبسة من حديث ورد في أشراط الساعة وأن اليوم كالسنة، فقيل لرسول الله ﷺ: ما نصنع بالصلاة والصيام فيه؟ قال: «اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ» [285] هكذا رأيت الحديث ولا يحضرني إسناده، ولعله بعد الخسوف بالشمس والله أعلم. بل يجب الإمساك فيها للصيام من حين يتبين الفجر إلى غروب الشمس، لقوله سبحانه: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ [البقرة: 187]، والنبي ﷺ يقول: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» [286].

لقد شاهدنا الصيام في لندن، وكان صوم يوم فيها ومقداره سبع عشرة ساعة أخف بكثير من صوم يوم في نجد أو في الخليج أو في العراق، لكون برودة الجو هناك تلطف على الصائم فلا يحس معها بجوع ولا ظمأ وأكثر يومه يكون نومًا.

وفي الغالب أن أكثر المصطافين في تلك البلدان متى أفطروا رمضان فإنهم لن يستطيعوا القضاء من أجل كسلهم وضعف إيمانهم، فكان صومهم مع الناس والتأسي بهم مما يعد خفيفًا عليهم.

إننا بحاجة ملحة إلى تحقيق رؤية الهلال بعين اليقين، ولسنا بحاجة للمسابقة لنشر خبر الهلال بين المسلمين، فكثير ما يقع الوهم والتخيلات في رؤيته.

* * *

[284] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [285] أخرجه مسلم من حديث النواس بن سمعان. [286] متفق عليه من حديث ابن أبي أوفى

كثرة اعتراض الوهم والتخيلات في رؤية الهلال

قد حدثني رجال عدول من أمراء آل ثاني قائلين: خرجنا في اليوم التاسع والعشرين من شعبان إلى الصحراء لنرى الهلال، فبينما ننظر إليه من جهته فوقع نظرنا على قطعة سحابة صغيرة تشبه الهلال، فأخذنا نكبر ونقول: هلال خير ورشد لا نشك في أنه الهلال، فبينما نحقق النظر فيه رأيناه يتمزق، ثم اضمحل فعلمنا أنها سحابة.

والمقصود أن منشأ هذا الاختلاف بين المسلمين في صومهم وعيدهم ليس نتيجة اختلاف في العقيدة أو العبادة، ولا عن التفاوت في مطلعه، بحيث يراه قوم دون آخرين. وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال.

وأكبر شبهة تعتري الناس في هذه المشكلة هو زعمهم باختلاف مطلع الهلال بتباعد الأقطار، وهذا الاعتقاد يكذبه الواقع المحسوس، فإن كنتم في شك مما قلنا فاسألوا أهل المغرب: متى رأيتم هلال الفطر من هذه السنة؟ يخبرونكم بأنهم رأوه ليلة الأربعاء وصار عيدهم بالأربعاء، ثم اسألوا أهل المشرق، كأهل باكستان والهند يخبروكم بمثل ذلك؛ مما يعلم به اتفاق مطلعه في كلا الجهتين على حد سواء، ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ [النمل: 88].

ومثله ما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان في مجتمع من الناس، منهم إياس بن معاوية يلتمسون الهلال، وكان أنس قد طعن في السن، فقال أنس: أنا رأيت الهلال هو ذاك. فقال إياس بن معاوية: محال أن يراه أنس، ومحال أن يتعمد أنس الكذب، ثم فرك بمشافر عينيه فقال: انظر - رحمك الله - هل تراه؟ قال أنس: أما الآن فلا أراه. فعلموا أنها هدبة اعترضت لعينيه فحسبها هلالاً ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

فالفقهاء من الأحناف القائلون بأنه لا بد من الاستفاضة بخبر الرؤية بأن يشهد بها عدد من العدول يبعد تواطؤهم على الكذب، لأنه متى كان الهلال في السماء فإنه لا يكتفى برؤيته بشخص أو شخصين دون بقية الناس لاحتمال التوهم منهما.

فالقائلون بذلك هم مجتهدون ومصيبون في حكمهم فلا يلامون على ما فعلوا من الحزم، وأحزم الحزم سوء الظن بالناس، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسائله المتعلقة بالهلال، فقال: إنه لا يعتد برؤية الواحد ولا الاثنين للهلال والناس لم يروه لاحتمال التوهم منهما في الرؤية إذ لو كانت الرؤية صحيحة لرآه أكثر الناس... انتهى.

لا سيما إذا كان المدّعون لرؤيته مجهولين أو غائبين عن البلد لوقوع التفاوت في الخبر بين الحاضر والغائب، كما قيل:
الاخبار فيها من بعيد تفاوت
فما بال إذ جاء النبا من بعيدها
وهذا هو حقيقة ما اعتمده ابن عباس في حديثه المشهور، كما رواه مسلم في صحيحه عن كريب: أن أُم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية رضي الله عنهم بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معهم معاوية. فقال: لكن رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نراه.

وهذا الحديث هو بمثابة المرفوع، حيث قال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ، وكأنه يشير إلى قول النبي ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [287] وكذا حديث: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمْ فَأَفْطِرُوا» [288] والخبر بأنه رآه فلان لا تعتبر رؤيته رؤية صحيحة لاسيما إذا كان مجهولاً.

لهذا امتنع ابن عباس عن خبر الرؤية حتى مع قبول معاوية وهو أمير الكوفة، وقال: أما نحن فلا نزال نصوم حتى نراه. أراد أن يتم صوم رمضان عن يقين وبصيرة من أمره بدل إحالته على خبر مجهول لا يعرف عن صحته.

ثم إن الكثيرين من شراح حديث ابن عباس مع كريب قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها من أجل أنه شاهد واحد والمفروض شاهدان احتياطًا وحفظًا لهذه الفريضة، إذ ما كل قول برؤيته في أي بلد يكون صحيحًا ثابتًا. ولا كون الرائي عدلاً صادقًا كما سبق القول به من الفقهاء المتقدمين، والحق عدم صحة القول بالتفاوت، كما سبق منا بيانه.

وقد استنبط الفقهاء المتقدمون من هذا الحديث القول باختلاف المطالع إذا تباعدت الأقطار، وأن أهل كل قطر يعملون برؤيتهم أخذًا من مفهوم هذا الحديث بدون أن يقع له ذكر فيه وهم مجتهدون في زمانهم ومأجورون - إن شاء الله تعالى - على اجتهادهم، لكنه لا يلزم صحة ما قالوا ولا العمل به ما دامت الحقائق تكذبه.

فهم قالوا بذلك في حالة انقطاع السبل وتباعد أخبار الأقطار فلا يعلم أهل المشرق عن كيفية صوم أهل المغرب وفطرهم ولا عن كيفية طلوع الهلال عندهم.

أما في هذا الزمان عند وجود آلة التليفون والتلفزيون والذي صار أهل المشرق يخاطبون به أقصى أهل المغرب شفهيا بصوت جلي غير خفي ليكلم من في المشرق صاحبه في المغرب: متى رأيتم الهلال؟ ومتى صمتم ومتى أفطرتم؟ فيخبره بواقع الأمر والحال، إذ لو كان صحيحًا لكان أهل المغرب أحق بالسبق إلى رؤية الهلال من أهل المشرق لقربهم من مغيب الشمس الذي يُرى الهلال قريبًا من غروبها، وواقع الحال أنه متى رأى أهل المغرب الهلال جليا، فإنه يراه أهل المشرق كذلك بلا فرق.

أما كون الشمس تغرب عن أهل المشرق ساعات عديدة والهلال يتبعها، فهذا معلوم ولن يغير من حكمة الرب في خلق القمر، فقد جرت العادة من الله أن الشهر يكون أحيانًا ثلاثين يومًا وأحيانًا تسعة وعشرين، وأن الله سبحانه قد رسم له في سيره ثماني وعشرين منزلة ينزل كل ليلة منها منزلة لا يتخطاها ولا يقصر دونها، ويقول علماء الفلك: إن بين كل منزلتين خمسًا وأربعين دقيقة، ثم يختفي عن أعين الناس ليلة أو ليلتين فلا يراه أحد، وما زعموه أنه من الممكن أن يرى بين الفجر وطلوع الشمس من جهة المشرق ثم يرى من ذلك بعد غروب الشمس من جهة المغرب، فإن هذا محال وغير ممكن ﴿لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ [يس: 40] وإنما قالوه قياسًا منهم على الرؤية الكاذبة، حيث يراه الناس وقبل طلوع الشمس واضحًا جليا، ثم يدعي أحد الكاذبين أنه رآه مساء ذلك اليوم، فالقياس على هذه الرؤية وهذه الدعوى من القياس الفاسد. فإن الهلال متى تقدم على الشمس في طلوعه من المشرق بعد الفجر، فإنه يغيب قبل الشمس بيقين. أما إذا تأخر عن الشمس في طلوعه من الفجر، فإنه يتأخر عن الشمس ثم يرى، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

وقال: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 38-40].

ولمّا كان أهل المشرق كمسلمي الهند وباكستان وأفغانستان وتركيا وسلطنة عُمان وبلدان الشيعة، لما كانوا يعتمدون الرؤية المحققة في صومهم وفطرهم رأيناهم يتفقون مع أهل المغرب بالرباط على صوم واحد وفطر واحد، كما صار عيد الجميع في هذا الزمان بالأربعاء، أي بعد عيدنا بيومين.

ولو اعتمدنا الرؤية المحققة لاتفقنا وإياهم على صوم واحد وعيد واحد. فأهلاً وسهلاً باليوم الذي يجمع شمل أهل الإسلام على عيد واحد كل عام.

وهنا قضية هي لنا بمثابة العظة والعبرة تنبئك عن الفرق بين الخبر والعيان، وذلك أننا في عام ماض صمنا رمضان تسعة وعشرين يومًا، وفي ليلة الثلاثين ورد علينا الخبر بأنه ثبت رؤية الهلال هذه الليلة فاعتمدوا صلاة العيد صبيحتها، فاحتسبنا ذلك وذهبنا إلى المصلى لأداء صلاة العيد، وبعد طلوع الشمس وارتفاعها رآها كل الناس مخسوفًا بها، وقد جرت العادة بأنه لا تكسف الشمس إلا في حالة الإسرار، أي يوم ثمانية وعشرين وتسعة وعشرين، وقال الفلكيون: إن سبب كسوفها هو توسط القمر بين الأرض والشمس.

كما أن القمر لا يخسف به إلا في حالة الإبدار، أي ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأن سببه حيلولة الأرض بين القمر والشمس والله أعلم.

والحاصل أن هذا العيد وقع قبل أن يتم رمضان، وتكرر هذا بدون كسوف ولا خسوف، فبالله قل لي: هل استدعي هذا المدعي لرؤية الهلال وأدب على تغرير الناس في فطرهم في وقت صومهم؟ فإننا لا نسمع بتنكيله على كذبه، وقد قال الله في المنافقين: ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ [التوبة: 47] مما يدل على أن الكذب قد يروج على الناس حتى على الصحابة.

وقد كذَبوا حتى على الشمس أنها تهان إذا حان الطلوع وتُضْرَب، فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن عمر، قال: تراءى الناس هلال رمضان فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته فصام رسول الله ﷺ وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان. ومثله حديث ابن عباس: أن أعرابيا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت الهلال. فقال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ؟». قال: نعم. قال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟». قال: نعم. قال: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: بِأَنْ يَصُومُوا غَدًا». رواه الخمسة صححه ابن خزيمة وابن حبان والنسائي.

فالجواب: أنه ليس في الحديثين ما يدل على حصر الرؤية في هذين الشخصين، إذ من المحتمل أن يكونا أول من رأى الهلال، ثم رآه غيرهما، إذ ليس في الحديث أنه لم يره تلك الليلة غيرهما، وقد جرت العادة في الناس حينما يتراءون الهلال أنه يسبق أحدهم إلى النظر إليه، ثم يراه الثاني والثالث والخمسة والعشرة، فيشتهر وينتشر خبره، فاكتفي في الحديث بذكر ابن عمر عن غيره لشهرته بدليل أن النبي ﷺ لم يبعث إلى قرى المدينة ليخبرهم برؤيته اكتفاء بظهوره وشهرته. أضف إلى ذلك معرفة النبي بعدالة الشاهدين، ومن لك بمثل ابن عمر وهو الصحابي الجليل، أشبه الرجل يخبر القوم بطلوع الفجر، ثم يخبر به الثاني، ثم يكتفى بانتشاره وشهرته.

ومثله تحقق رؤية هلال ذي الحجة حتى لا يقع خلاف ولا نزاع في يقين يوم عرفة ويوم العيد.

ثم إن هذا الحديث مدفوع بما هو أصح منه وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «وإذا رأيتموه فأفطروا، وإن لم تروه فانظروا، فإن غم عليكم فاقدروا له».

فالحكم المطلوب هو تحقيق رؤية الشهر لا المسابقة إلى نشر الخبر، فمن أراد أن يقود الناس إلى متابعته في الصوم والفطر على بصيرة من الأمر، فإنه يستعمل التثبت والحيطة في الرؤية المحققة التي تشهد بصحتها أبصار الناظرين؛ لكون الحكم في هذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة، ولم يوجب الرسول ﷺ على أمته قبول أي شاهد يشهد برؤيته، وإنما أحالهم إلى حقيقة الرؤية، فقال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوْهُ فَأَفْطِرُوا» [289].

ولم يحلهم إلى قبول أي خبر يأتيهم من إحدى البلدان لا يعلمون صدقه من كذبه، مع كون الغالب على هذه الأقوال الكذب لقيام الدليل والبرهان على بطلانها من كون الناس كلهم لم يروه تلك الليلة ولا الليلة الثانية، ومن شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، خصوصًا لمن يتصدى لإصدار الحكم إلى جميع المسلمين في تعميم الصوم والفطر، فإنه يجب أن يتقي ربّه فيما تولاه فلا يحمل الناس في حكمه وفتواه على صيام شيء من شعبان ولا فطر شيء من رمضان، مع العلم أن جميع الدنيا بأسرها قد صارت في انتشار أخبارها بمثابة المدينة الواحدة، وصارت أقاليمها بمثابة الغرف المتجاورة، بحيث ينتشر خبر الحكم في الهلال في الدنيا كلها في دقائق أو في ساعة، وهو أمر يوجب قوة العزم والأخذ بالحزم مما يرجى أن يوفق هذا القائد لجمع شمل كافة أهل الإسلام على عيد واحد كل عام، وما ذلك على الله بعزيز، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[287] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [288] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [289] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.