مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الثاني
أولاً: قسم العبادات
(4) كتاب الصيام وفضل شهر رمضان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات وتنزل البركات. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله صاحب الآيات والمعجزات. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول. هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم ليسبغ عليهم فواضل النعم والخيرات ويبوئهم رفيع الدرجات والفوز بالجنات.
فما من يوم من هذه الأيام إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم الليالي والأيام والساعات وتقرب إلى الله بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات. فاطلبوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات ربكم، فإن خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله.
إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56]، ففرض سبحانه على عباده الصلوات الخمس مفرّقة في أوقاتها المعروفة لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، وجعلها عمود دينهم وعنوان إيمانهم وأمانتهم والصلة بينهم وبين ربهم.
كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قبل وجه عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[140]، وفي دعاء الاستفتاح «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[141]. وكما فرض الزكاة في أموالهم طهرة تطهرهم وتزكيهم بها عند ربهم، وجعلها بمثابة الدليل والبرهان على صحة أمانتهم وصدق إيمانهم، وكما فرض صيام شهر رمضان لتمحيص تقواهم، وليتبين به من يطيع ربه في سرائه وضرائه فيما يحب وفيما يكره، فيصبح صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضاء ربه ومحبوبه، والله يقول: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[142]، فالمسلم لو ضرب على أن يستبيح الفطر لما استباح الفطر أبدًا، لأن دينه يمنعه من إبطال صيامه وإحباط أعماله، والدين هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
وكما أوجب حج بيت الله الحرام في العمر مرة واحدة بدون تكرار. وهذه هي أركان الإسلام التي يصير بها الإنسان مسلمًا، لما في البخاري و مسلم من حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».
* * *
[140] أخرجه ابن المنذر في الأوسط من حديث الحارث الأشعري. [141] أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث علي. [142] متفق عليه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.
اعلم أن شرائع الإسلام هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية، فلا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرّم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وهذه الشرائع الإسلامية هي أم الفرائض والفضائل والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تهذب الأخلاق وتطهّر الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، لهذا يبعد جدًّا أن ينشأ عن المتخلق بها شيء من الجرائم الفظيعة والفواحش الشنيعة، لأن دينه سينهاه، فكل متدين بدين صحيح فإنه متمدن ولو بدر منه غلطة أو خطيئة بادر إلى التوبة منها والإقلاع عنها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١﴾ [الأعراف: 201]
وإنما تنشأ الحوادث الفظيعة والجرائم الشنيعة من العادمين للدين، الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، لأن من لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.. ثم إن الشرائع الإسلامية قد جعلها الله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. لأن الله سبحانه بحكمته وعدله لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان ينطق به البر والفاجر والمسلم والكافر، وحتى عبّاد القبور والأوثان يقولون هذا وهم يعبدون الأولياء والأصنام. ولهذا نصب الله سبحانه هذه الأعمال بمثابة الشهادة على صحة الإسلام، لأن الإسلام هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان. وقد روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ».
ومعنى كون الإسلام علانية: أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المسلمين ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه. لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه. [143] كما ورد في الحديث: فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.
وإنما سمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالطاعة والإذعان، وانقياده للعمل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وبصيام رمضان وسائر شرائع الإسلام. وهذه الشرائع بما أنها تكسب صاحبها الفضائل في الدنيا فإنها تكسبه أيضًا الفوز بالجنة والنجاة من النار.
كما في سؤال معاذ، حين قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ثم قال: «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ». ثم تلا: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦﴾ [السجدة: 16]، ثم قال: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ». رواه الترمذي.
إنه لولا العمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الأخلاق والكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. يقول الله: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤﴾ [الفرقان: 44].
فجعلهم سبحانه أضل من الأنعام: أي البهائم من أجل أنهم لم يستعملوا مواهب عقولهم وأسماعهم وأبصارهم في سبيل ما خلقت له من عبادة ربهم. ورضوا بأن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
* * *
[143] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من حديث أبي الدرداء.
افترض الله صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكانت الشرائع تنزل تدريجيًًّا شيئًا بعد شيء، وكان في ابتداء فرضه بحالة هي أشد وأشق منها الآن، وذلك بأنهم أمروا متى صلوا العشاء أو نام أحدهم قبلها فإنه يجب عليه أن يمسك صائمًا طول ليله مع نهاره، ومع ذلك فقد قالوا: سمعنا وأطعنا. لكنهم أدركهم شيء من المشقة في الصوم بهذه الصفة حتى إن أحدهم أتى إلى امرأته يريد منها حاجته، فقالت له: إني قد صليت العشاء ونويت الصيام فلا يحل لك شيء مما تريد، فكذبها لظنه أنها تريد إبعاده عنها بدون سبب. ورجل آخر أفطر على الماء بدون أن يجد شيئًا يفطر عليه من الأكل فذهبت امرأته تلتمس له فطورًا، فلما جاءت وجدته قد نام ووجب عليه الصيام، فقالت له: تعسًا لك فطرت جائعًا وصمت جائعًا. فأنزل الله قوله: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ﴾
[البقرة:187].
يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ ﴾ [البقرة: 183-184]
فنادى - سبحانه- عباده المؤمنين باسم الإيمان بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم وانقادت للعمل به جوارحهم وعملوا به في سرائهم وضرائهم فيما يحبون وفيما يكرهون، فلا توجد هذه الصيغة إلا في السور المدنيات. والإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، فقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ أي فرض فرضًا محتمًا؛ لأن صوم رمضان هو أحد أركان الإسلام لما في الصحيحين من حديت ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». فهذه هي أركان الإسلام، بل هي الإسلام لما روى مسلم عن عمر بن الخطاب في سؤال جبريل حين قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». فقال: صدقت.
فمن جحد وجوب صوم رمضان فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، والصوم هو من الشرائع القديمة فلا تزال الأمم قبلنا تعبد الله بالصوم، كما قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة: 183]، ولا يلزم أن يكون صوم الأمم قبلنا كمثل صومنا في الزمان والعدد، لأن لكل نبي شريعة توافق حالة زمانه وأمته، كما قيل من أن النصارى مفروض عليهم في شريعتهم صيام خمسين يومًا، لكنهم يجيزون لعلمائهم القسيسين أن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون، فلما رأوا أن الصوم تطول مدته عليهم، وأنه يحول بينهم وبين شهواتهم، أسقطوا منه عشرًا ثم عشرًا حتى أسقطوه بجملته وجعلوا صومهم عن مجرد الفاكهة فقط.
فجاءت شريعة محمد ﷺ ناسخة لجميع الشرائع التي قبلها وأنه لا يجوز لأحد العمل بغيرها، لأنها خاتمة الشرائع والمهيمنة عليها، كما أن رسول الله ﷺ هو خاتم النبيين، وقد عدوا من أنواع الردة عن الإسلام كون الإنسان يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
أقْبل شهر رمضان المبارك ففرح به المؤمنون وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة قرآن وبسط يد بالصدقة والصلة والإحسان، فهم في نهارهم صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون، أولئك هم المؤمنون، أما المنافقون فإنهم يجاهرون فيه بالإفطار وتمد لهم الموائد بالنهار، قد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار. ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣﴾ [الحجر: 2-3].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». ومعنى إيمانًا: أي بالوجوب واحتسابًا للثواب. وهذا التكفير إنما يراد به تكفير الصغائر فقط في قول الجمهور. أما الكبائر مثل: الربا والزنا وشرب الخمر وقتل النفس وأكل أموال الناس، فإنه لا يكفرها الصوم ولا الصلاة ولا الحج، وإنما يكفرها التوبة بشرطها ورد المظالم إلى أهلها، كما ورد مشروطًا بذلك.. ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْهُ، كَفَّرَ ذَلِكَ مَا قَبْلَهُ».
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وترك الطاعات من فرائض الصوم والصلاة هو من أكبر الكبائر، لأن ترك فرائض الطاعات أعظم من ارتكاب المنكرات.
وقول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة: 183] قال ابن كثير: يقول الله مخاطبًا المؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله - عز وجل- لما فيه من زكاة للنفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم. فلهم فيهم أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك. انتهى.
وفيه تشبيه للفرض بالفرض دون الصفة في الوقت والعدد، وقد قيل: إن الحكمة في فرض الصيام هو أن يذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى أخاه المعوز الفقير، مع العلم أن الشرائع كلها من الصلاة والزكاة والصيام قد جعلها الله بمثابة التمحيص لصحة الإيمان، ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ﴾ [الأنفال: 37]. وهذا معنى قوله: ﴿لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾، فإن حقيقة التقوى هي أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله فهي بمثابة التمحيص لصحة الإيمان. فإن حكمة الله تأبى أن يترك الناس سدى بدون اختبار لهم بالأعمال. يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢﴾ [العنكبوت: 2]: أي لا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ﴾ [العنكبوت: 3]: أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ﴾ [العنكبوت: 3] في دعوى إيمانهم فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣﴾ [العنكبوت: 3] الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وكان حظهم من الإسلام هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل. والله أعلم.
* * *
يقول الله سبحانه: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥﴾ [البقرة: 185].
ففي هذه الآية التنويه بفضل شهر رمضان الذي أوجب الله فيه الصيام، كما فيها التنويه بفضل القرآن الذي أُفيضت فيه على جميع البشر هداية الرحمن ببعثة محمد ﷺ برسالته المتضمنة للهداية العامة لجميع الأنام ﴿وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧﴾ [النمل: 77].
إن شهر رمضان هو غرة الزمان ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام. فمن جحد وجوبه فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان. قال ابن عباس - حبر الأمة وترجمان القرآن-: ثلاثة أسس عليها الإسلام: الشهادتان والصلاة والصيام. [144]
افترض الله صيام رمضان على النبي ﷺ في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله ﷺ تسع رمضانات وصام المسلمون معه، ووافق فرضه شدة الحر مع نهاية طول اليوم مع عدم اعتيادهم للصوم، ومع ذلك قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥﴾ [البقرة: 285].
وإنما سمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالطاعة والإذعان، وانقياده للعمل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وسائر شرائع الإسلام، وهذه هي الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، فقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ [البقرة: 185] سمي الشهر شهرًا لشهرته، لأن الله سبحانه نصب الشهر علامة لجميع الناس يعرفون به ميقات صومهم وحجهم وعِدَد نسائهم وحلول ديونهم.
وكان رسول الله ﷺ يبشر أصحابه بقدومه، كما روى ابن خزيمة في صحيحه عن سلمان، قال: خطبنا رسول الله ﷺ في آخر يوم من شعبان فقال: «إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر كتب الله عليكم صيامه، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعًا، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء».
فسماه رسول الله ﷺ شهر الصبر، لأن فيه صبرًا على طاعة الله من الصيام والصلاة، وصبرًا عما حرم الله من الطعام والشراب وسائر ما يفطر الصائم أو يجرح صومه أو ينقص ثوابه وأجره. وصبرًا على أقدار الله المؤلمة ومنها الصوم الذي قدره الله وفرضه على عباده. وسماه «شهر المساواة»، لأن المسلمين يتساوون فيه في الجوع لرب العالمين غنيهم وفقيرهم، فيصبح المسلم صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضى ربه ومحبوبه. والله يقول: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [145]
«وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ»: يعني أن الخيرات وسعة الأرزاق تنبسط في رمضان حتى تكون أوفر فيه من غيره. وكان الفقراء يفرحون بقدومه لاتساع الرزق عليهم لأن للطاعات أثرها في سعة الرزق وبسطته.
والصوم عبادة دينية ورياضة بدنية وتأديب للشهوة الإنسانية لتتعود الصبر على طاعة الله ثم الصبر عما حرم الله، وحتى يقوى صاحبها على كبح جماح نفسه عن الشهوات وعلى ترك المألوفات والمحرمات.. ولهذا أسماه رسول الله ﷺ «شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ» ، ولم يشرع الله الصيام إلا لمصلحة تعود على الناس في أديانهم وأبدانهم وإيمانهم، لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات، كالصيام والصلاة والزكاة إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، لكون الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودفع المضار، فهي عنوان النظام والكمال والتهذيب.
كما أن الصيام نوع من الجهاد في سبيل الله، لكون المجاهد هو من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل، وقد وعد الله المجاهدين في سبيله بأنه لا يصيبهم جوع ولا ظمأ ولا تعب إلا كتب لهم به حسنات ورفع درجات في الجنات. فقال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٢٠ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةٗ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةٗ وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢١﴾ [التوبة: 120-121] من سورة التوبة.
والصوم هو من أسباب الصحة للأبدان ويستشفى به من أدواء كثيرة، أهمها داء السكر الذي هو داء المترفين، لأن في البدن فضولاً سيالة تنشف بالصوم فتقوى العضلات ويعتدل الهضم ويشتهي الطعام باشتياق أشبه تضمير الخيل للسباق فهو من الحمية التي تعقب البدن الصحة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا تَصِحُّوا»[146]، وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةً، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. يعني أن الصوم يزكي البدن وينميه.
ومن المشاهد بالاعتبار أن الذين يعتادون التطوع بالصيام أنهم من أصح الناس أجسامًا وأطول الناس أعمارًا، ويجدون قوة ولذة في صومهم أشد مما يجدها المتنعم في أكله وشربه، وللصائم فرحة عاجلة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم تقبل الله منهم.
* * *
[144] أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس. [145] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [146] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة.
لقد سمعنا من بعض الجهال تفضيلهم الشهور الشمسية التي عليها مدار الحساب الميلادي على الشهور القمرية بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاءً ولا صيفًا، وهذا التفضيل بهذه الصفة غلط في التعبير وخطأ في التفضيل لا يصدر إلا عن جهل عريق وجفاء عميق.. فإن الشهور الشمسية لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب، وأكثرهم لا يعرفها ولا يعرف اسم الشهر ولا كم مضى منه إلا عن طريق الجداول المخصصة لها، لأنها ليست بشهور مشهورة تشاهد بالعيان، وإنما هي عبارة عن حزر[147] أيام يسمونها أشهرًا، وأكثر العامة لا يعرفونها ولا يعرفون كم مضى من الشهر. وقد عمل علماء المسلمين طريقة لحساب السنة لا تتغير شتاءً ولا صيفًا، فجعلوا السنة اثني عشر برجًا، أي كل فصل على مقدار الشهر فبعضها ثلاثون وبعضها واحد وثلاثون وبعضها تسعة وعشرون، فجعلوا للشتاء ثلاثة بروج أحدها الجدي وهو تسعة وعشرون يومًا، والدلو ثلاثون يومًا، والحوت ثلاثون يومًا. وللربيع ثلاثة بروج أحدها الحمل وهو واحد وثلاثون يومًا، وبرج الثور واحد وثلاثون يومًا، وبرج الجوزاء اثنان وثلاثون.. وهكذا سائر البروج فما من شيء من المحاسن إلا وقد سبق الإسلام إليه وأخذ بالنصيب الوافر منه. أما الشهور العربية القمرية فكل الناس يعرفونها لشهرتها ومشاهدتهم لها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ﴾ [التوبة: 36].
وقال سبحانه: ﴿ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ﴾ [البقرة: 197]، وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ﴾ [البقرة: 185] وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»، وفي رواية قال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ»[148].
فهي شهور مشتهرة متركزة في السماء يستوي في العلم بها العالم والعامي والحضري والبدوي والرجال والنساء، حتى إنهم ليعرفون كم مضى من الشهر بمعرفة منزلة القمر، لكونه منصوبًا لكافة الناس في معرفة صومهم وحجهم والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب أن يكون ثابت الأركان لا يتغير في مكان دون مكان، كما أن علماء الهيئة في هذا الزمان أثبتوا عدم تغيره في مطلعه ومغيبه، وأن طلوعه في المشرق كطلوعه في المغرب على حد سواء.
فإذا طلع في المشرق قبل الشمس طلع في المغرب قبلها، وإذا غاب في المشرق قبل الشمس غاب في المغرب قبلها على حد سواء، وما يذكر من اختلاف المطالع عند استهلاله فمنشؤه من تحقق الرؤية وعدمها وإزالة المانع ووجوده، فالاختلاف هو من الرؤية لا من المرئي. وإنما سمي شهرًا لشهرته، كما سمي هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، يقول الله تعالى: ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ [البقرة: 189] وسبب هذا السؤال أن أناسًا من الصحابة قالوا: يا رسول الله إن الهلال يبدو ضعيفًا ضئيلاً ثم يكبر إلى أن يصير بدرًا ثم يأخذ في النقص إلى أن يضمحل. فأنزل الله سبحانه ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ [البقرة: 189]، فعدل بهم - سبحانه - عن الاشتغال بالسؤال عن جرم الهلال إلى الإخبار بما يترتب عليه خلق الهلال من المصالح والأحكام، إذ هي المقصود الأعظم من خلق الهلال، يقول الله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥﴾ [يونس: 5].
* * *
[147] حزر: تقدير. [148] أخرجه مالك في الموطأ من حديث ابن عباس.
قال الله عز وجل: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا ٣٢ وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا ٣٣﴾ [الفرقان: 32-33] وقال سبحانه: ﴿وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا ١٠٦﴾ [الإسراء: 106] وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾ [البقرة: 185] وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ»، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصد عرقًا.
وروى البخاري عن ابن عباس قي قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧﴾ [القيامة: 16-17]، قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه خشية أن ينساه، فأنزل الله ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧﴾ [القيامة: 16-17]، أي جمعه لك في صدرك وتقرأه، ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ﴾، - أي أوحيناه - ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨﴾، أي فاستمع له وأنصت ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩﴾، أي علينا أن تقرأه فلا تنسى شيئًا منه. فكان رسول الله ﷺ إذا أتاه بعد ذلك جبريل استمع له وأنصت، فإذا ارتفع عنه جبريل قرأه النبي بدون أن ينسى شيئًا منه. حتى إنها لتنزل عليه السورة الطويلة كسورة الأنعام - فإنها نزلت عليه جملة واحدة - فيقوم رسول الله حافظًا لها من ساعته، والحافظ المجد صاحب الذاكرة القوية يمكث في حفظها الشهر والشهرين فلا يتقن حفظها مع ممارسته لقراءتها، والنبي ﷺ كان أميا وقد فاجأه الوحي بغار حراء، وهو لا يكتب ولا يقرأ المكتوب صيانة للوحي من أن تتطرق إليه الظنون الكاذبة، فيقال: كتبه من كتاب كذا أو تعلمه من كذا.
وليس عند قريش في مكة مدارس ولا كتب، ويسمون بالأميين لكون الأمية سائدة من بينهم، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩﴾ [العنكبوت: 48-49].
ويقول أيضًا: ﴿أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٥١﴾ [العنكبوت: 51]، فكان القرآن هو المعجزة العظمى للنبي محمد ﷺ كما في البخاري أن النبيﷺ قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من المعجزات ما آمن به البشر، وإن المعجزة التي أوتيتها هو هذا القرآن، وإني أرجو أن أكون أكثرهم تبعًا».
نشأ ﷺ يتيمًا في حجر عمه أبي طالب بمكة، وكان أهل مكة وكافة قريش يطلقون عليه اسم الأمين، وقد رعى الغنم بقراريط لأهل مكة، وقال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ» فقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ [البقرة: 185] قيل: إنه أنزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل منجمًا على قدر الوقائع. حكاه ابن جرير وابن كثير والبغوي والقرطبي عن ابن عباس ولم يحكوا قولاً غيره. لهذا ظن كثير من العلماء والمفسرين أن التفسير به صحيح لكثرة ما يمر ذكره بأسماعهم.
وقال ابن الجوزي في التفسير: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل فيه القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا. قاله ابن عباس، والقول الثاني: أن معناه أنزل فيه القرآن لغرض صيام رمضان، روي عن مجاهد والضحاك، والقول الثالث: أن القرآن ابتدئ بنزوله على النبيﷺ في رمضان، قاله ابن إسحاق وأبو سليمان الدمشقي.. انتهى.
وأقول: إن هذا القول الأخير هو الصحيح، وهو أن القرآن ابتدأ نزوله في رمضان في ليلة القدر منه وهي الليلة المباركة كما قال سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ﴾ [الدخان: 3]، وقال: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ١﴾ [القدر: 1]، ومعنى إنزال القرآن في شهر رمضان مع أنه من المعروف باليقين أن القرآن نزل منجمًا متفرقًا في خلال ثلاث وعشرين سنة زمن البعثة: أنه ابتدئ نزول القرآن في رمضان، لكون لفظ القرآن والإنزال يطلقان ويراد بهما هذا القرآن بجملته، ويطلقان ويراد بهما بعضه، كقوله: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢﴾ [الرحمن: 1-2] وإنما يتعلم الناس القرآن شيئًا بعد شيء، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وأن معنى ﴿أُنۡزِلَ فِيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ [البقرة: 185]: أي بدؤه وأوله.
وفي تفسير المنار ما يدل على الجزم بهذا وعدم الالتفات إلى ما يخالفه. فقد قال: إن معنى ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ [البقرة: 185]، أي ابتُدِئ نزوله في رمضان في ليلة القدر منه، وهي الليلة المباركة؛ لأن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجمًا متفرقًا في مدة البعثة كلها، على أن لفظ القرآن يطلق ويراد به القرآن بجملته ويطلق ويراد به بعضه، كما في الآية. قال: وقد ظن بعض المفسرين أن الآية مشكلة ورووا في حل الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل على النبي ﷺ منجمًا بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي ﷺ في رمضان، وهو خلاف ظاهر القرآن، إذ لا يقول سبحانه: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ وهو في السماء ولم ينزل بعد! قال: وقد رووا على هذا روايات في كون الكتب السماوية أنزلت في رمضان[149]، كما قالوا: إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان، وقال الأستاذ الإمام: ولم يصح من هذه الأقوال والروايات شيء وإنما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان.. انتهى.
لا يقال: إن القرآن شيء فاض على نفس محمد بدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن هذا حقيقة في الكفر به. يقول الله: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥﴾[الشعراء:192-195]. وأما قول ابن عباس: إن القرآن نزل جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا[150]. فهذا القول خرج على سبيل الاجتهاد منه بدون أن يسنده، ويأجره الله عليه، وليس بالمرفوع حتى لا يكون للاجتهاد مجال في مخالفته، وكان ابن مسعود وبعض الصحابة يخالفون ابن عباس في كثير من تفسير الآيات مما يعلمون أنه قاله عن اجتهاد منه. وكذلك علماء التابعين، كمجاهد وسعيد بن جبير يخالفون ابن عباس في تفسير بعض الآيات. على أنه أعلم الصحابة بالتفسير بالاتفاق، حتى قيل: كأنه ينظر إلى الغيب عن ستر رقيق، وقد دعا له رسول الله ﷺ وقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[151]. لكن لا يلزم أن يكون كل ما يقوله في التفسير على سبيل الاجتهاد أنه الصحيح وما يخالفه فباطل؛ إذ المعلوم أن العلماء من الصحابة ومن بعدهم يتفاوتون في فهم بعض الآيات، وكل إنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء، إذ الكمال المطلق لله سبحانه وكم ترك أول لآخر.
وعلى فرض قول ابن عباس، فإن القرآن لم ينزل على النبي ﷺ في رمضان حينما يفسر بإنزاله إلى السماء الدنيا ولا تظهر به المنة على المؤمنين ولا تقوم عليهم به الحجة مادام في السماء، ولم يقل الله سبحانه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا. ثم إن القول بهذا يقوي حجة من قال: إن القرآن مخلوق وهو باطل قطعًا بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فإن القرآن كلام الله نزل به جبريل على رسول الله ﷺ بدون واسطة بيت العزة ولا غيره ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ﴾ [النحل: 102] وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥﴾[الشعراء:192-195].
* * *
[149] يشير إلى عدم صحة حديث واثلة بن الأسقع أن النبي ﷺ، قال: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» رواه الإمام أحمد وابن جرير. ومما يدل على ضعفه يقين ليلة القدر وأنها لأربع وعشرين من رمضان، والصحيح عدم اليقين في يقينها لإخفائها عن الناس فدل على عدم صحة الحديث [150] أورده ابن كثير في تفسيره والقرطبي في تفسيره عن ابن عباس. [151] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس.
ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ». رواه الترمذي والنسائي والحاكم، وفيه: «يُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ فِيْهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ». وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله ﷺ قال يومًا وقد حضر رمضان: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، يَغْشَاكُمُ اللَّهُ فِيْهِ، فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَيَحُطُّ الْخَطِيئَةَ، وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ الدُّعَاءَ، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ فِيْهِ فَيُبَاهِيَ بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيْهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الطبراني ورواته ثقات، ولأجل هذه الفضائل جرى تبادل التهاني بين المسلمين في دخوله، بحيث يهنئ بعضهم بعضًا ببلوغه، لأن بلوغه نعمة عظيمة في حق من أطاع الله واتقى، إذ لا أفضل من مسلم يعمر في الإسلام للتزود من الصلاة والصدقة والصيام وصالح الأعمال، وأن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم لصلاة ركعة أو صدقة أو صيام يوم ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة، يقول المفرط منهم: ﴿قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ﴾ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا، قد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.
والدنيا مزرعة الآخرة تزرع فيها الأعمال الصالحة، بحيث يقال لهم: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢﴾ [النحل: 32] فمن خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
غدًا توفى النفوس ما عملت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
وشهر رمضان شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهير للقلوب من الفساد وقمع للشهوة والشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب توسع الناس في العبادات وتنافسهم في الأعمال الصالحات، التي من جملتها الإكثار من الصلاة وبسط اليد بالصدقات وصلة القرابات والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات وكثرة الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتكثير أيدي المفطرين من الصوام على الطعام، وهذه الخلال جدير بأن تفتح لفاعلها أبواب الجنان وتغلق عنه أبواب النيران.
وقد كان رسول الله ﷺ أجود الناس. وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فيتضاعف جوده بالعطاء والصدقة والإحسان وتلاوة القرآن قدرًا زائدًا على سائر الزمان.. لأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان ومكانًا على مكان وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان فأنزل فيه القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقًا من النار.. وقد أقسم رسول اللهﷺ أنه ما مر بالمسلمين شهر هو خير لهم من رمضان.
أتى رمضان مزرعة العباد
لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً
وزادك فاتخذه للمعاد
ومن زرع الحبوب وما سقاها
تأوّه نادمًا وقت الحصاد
* * *
إن الصدقة في رمضان فيها فضل كثير لشرف الزمان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان، كما روى الترمذي في صحيحه عن أنس قال: سئل النبي ﷺ أي الصدقة أفضل؟ فقال: «صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ». وكان السلف الصالح تنبسط أيديهم بالصدقة فيه رجاء مضاعفة الأجر، ففي الحديث: «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ»[152] والصدقة هي من أفضل أعمال الخير. وكان الصحابة والسلف الكرام يخصون رمضان بمزيد من الصدقة والإحسان، ومنهم من يجعله وقتًا لإخراج زكاة المال لقصد أن يتقوى بها من يعطاها من الصوام.
فيا معشر التجار، إن الله سبحانه قد أنعم عليكم بنعمة الغنى بالمال، وإن المال كاسمه ميال؛ إذ دوام الحال من المحال، وإن المال خير لمن أراد الله به الخير. وهذا الخير كالخيل لرجل أجر وعلى رجل وزر. فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور. فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله.. فإن مال الإنسان ما قدم، كما أن النبي ﷺ قال: «يَقُولُ الإنسان: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلْوَرَثَةِ»[153] والله يقول: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ ٧﴾ [الحديد: 7].
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يَوْمٍ إِلَّا وبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[154].
إن بعض الناس يحسب الزكاة والصدقة مغرمًا ويراها ثقيلة في نفسه، كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا﴾ [التوبة: 98] وكذلك بعض الحضر. كما أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، والصحيح أنها مغنم وليست بمغرم في حق من وفقه الله لفعل الخير وأعانه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩﴾ [الحشر: 9].
وقد قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
وقد مدح الله سبحانه الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم، أي يوقنون ويطمئنون بأن ما أنفقوه سيخلف لهم بخير منه، فما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ: 39] ويقول الله سبحانه: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ﴾ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة تحصل للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا يتسع رزقه وتنزل البركة في تجارته وصفقة يده، فلو جربتم لعرفتم، فاسمعوا ﴿وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16].
ومن الدليل على مضاعفة ثواب الأعمال في رمضان قول النبي ﷺ للمرأة لما فاتها الحج معه، فقال: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تُعَادِلُ حَجَّةً» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ورواه مسلم ولفظه قال: قال رسول الله ﷺ لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟» قالت: لم يكن عندنا إلا ناضحان[155] فحج أبو ولدي وابنه على ناضح وترك لنا ناضحًا ننضح عليه. قال: «فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وفي رواية: «تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي».
ولا تكون عمرة في رمضان حتى يحرم بها من الميقات المشروع ويتمم بقية عملها من الطواف والسعي والحلق في رمضان، أما تردد المقيم بمكة إلى التنعيم لأخذ عمرة كما زعموا، فإن هذا لم يفعله النبي ﷺ ولا أمر به أحدًا من أصحابه ما عدا عائشة رضي الله عنها حين تلكأت عن الرجوع إلى المدينة فأمر أخاها عبد الرحمن بأن يحرمها من التنعيم، لقصد تطييب قلبها لا لتكون سنة. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله.
أما صوم رمضان بمكة فإنه عمل مستقل لا تعلق له بالعمرة، وقد ورد فيه حديث ضعيف جدا أخرجه ابن ماجه في سننه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا: «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ».
لكن مضاعفة الأعمال في رمضان وفي مكة ثابتة بالنصوص الصحيحة لشرف الزمان والمكان فيتضاعف ثواب الصلاة فرضها ونفلها.. كما روى الإمام أحمد وصححه ابن حبان عن أبي الزبير، قال: قال رسول الله ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ».. والله أعلم.
* * *
[152] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح من حديث سلمان. [153] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [154] رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء ورواه ابن حبان والحاكم. [155] الناضح: الذي يُستقى عليه الماء.
ثبت في البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، والصيام جنة، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَاتَمَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
وعن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»، ثم تلا ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٧﴾ [السجدة: 16-17] رواه الترمذي وصححه. فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الصوم جُنة يستجن به المسلم من الإجرام والآثام ومن الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور واللعن والسب ورديء الكلام ومن الخصام وظلم الأنام، حتى لو تعدى أحد فسبه أو شتمه وجب أن يلجم نفسه بلجام التقوى وأن يتمسك من الورع بالعروة الوثقى ويقول: إني صائم، كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان، ومن كان الصوم له جُنة في الدنيا عن الإجرام والآثام كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
وترك مقال الزور في الناس واجب
ولكنه من صائم ذو تأكد
لتذكير نفس أو لدفع معتد
فإن شتم أشرع له أنا صائم
وروى البخاري وأبو داود قال: قال رسول الله ﷺ «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، لكونه لا يتم التقرب إلى الله بترك الأكل والشرب في الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه من الكذب والظلم والعدوان على الناس، لحديث: «ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام عن اللغو والرفث»[156].
لهذا قال السلف: أهون الصيام ترك الطعام والشراب.. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ»[157] لأن كل صيام أو قيام لا ينهى صاحبه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد به صاحبه إلا بعدًا.. ولهذا قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء([158].
إن من يتقرب إلى الله بترك المباحات من الشراب والطعام في حالة الصيام ثم يرتكب المحرمات من الزنا والربا وشرب الخمر، فإنه بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، فهو وإن كان صومه مجزيًا عند الجمهور، بحيث لا يؤمر بإعادته، إلا أن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به.
وروى أبو جعفر الباقر مرسلاً: «من أتى عليه رمضان فصام نهاره وصلى وردًا من ليله، وغض بصره وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكر إلى الجمعة، فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب»[159].
* * *
[156] أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة. [157] رواه ابن ماجه واللفظ له من حديث أبي هريرة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. [158] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث جابر. [159] أخرجه ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان.
إن الله سبحانه خص رمضان بإنزال القرآن، الذي أفاض فيه على المؤمن هداية الرحمن، كما خصه بوجوب الصيام وكما خصه ببعثة محمد ﷺ برسالته العامة لجميع الأنام، الخاص منهم والعام، والناسخة لما سبقها من الشرائع والأحكام، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فهو سفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الوقوع في الرذيلة، ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فََٔامَنَّا بِهِۦۖ﴾ [الجن: 1-2].. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا.
أوجب الله على المؤمنين صيام شهر رمضان، تذكيرًا لهم بنعمة إنزال القرآن، وبعثة محمد ﷺ، ولهذا كان جبريل يدارس الرسول ﷺ القرآن في رمضان، فيتضاعف جوده بالعبادة والصدقة والإحسان، قدرًا زائدًا على سائر الزمان، وكان السلف يتدارسون القرآن في رمضان، ويقومون به الليل بما يسمى قيام رمضان.. والنبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»[160] رواه مسلم. وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».
فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن القرآن حجة لأقوام وحجة على آخرين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥﴾ [التوبة: 124-125].
قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن فقام سالمًا، بل إما له وإما عليه. ولهذا قال ابن مسعود: القرآن شافع مشفع، وماحل - أي مخاصم - مصدق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.[161] وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن اتبعه قذف به في النار [162].
تدبر كتاب الله ينفعك وعظه
فإن كتاب الله أبلغ واعظ
وبالقلب ثم العين لاحظه واعتبر
معانيَه فَهْو الهدَى للملاحظ
وعن عبد الله بن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فاقبلوا مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِيْنُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ، لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَاتْلُوهُ، فَإِنَّ اللهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ كُلَّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، لَا أَقُولُ: {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» رواه الحاكم.
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ». قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ، قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ إِلَّا أَنْ قَالُوا: ﴿ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فََٔامَنَّا بِهِۦۖ ﴾ [الجن: 1-2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي: إسناده مجهول، وفي إسناده الحارث الأعور، وفيه مقال.
والقرآن إنما أنزل لتدبره وتوطين النفس للعمل به، ومن قرأ القرآن ولم يعمل به فقد ضرب الله به مثل السوء ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ﴾ [الجمعة: 5] أي كتبًا لا يدري ما فيها.
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا﴾ - أي كلفوا العمل بها فلم يعملوا بها - ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ﴾ وهذا الذم ينطبق على كل من حمل القرآن فلم يعمل به، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ﴾ [المائدة: 68] معناه بالضبط يا أهل الإسلام لستم على شيء حتى تقيموا القرآن فتحافظوا على فرائضه وتجتنبوا محارمه. وقد أخبر النبي ﷺ أن أناسًا من هذه الأمة يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وأخبر أن أناسًا يقرؤون القرآن يقيمونه كما يقام القِدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه، يعني أنهم يتعجلون أخذ الأجرة على التلاوة ولا يتأجلون أجره وثوابه.
ومر عمران بن حصين على قارئ يقرأ القرآن فلما فرغ من قراءته أخذ يسأل الناس فاسترجع عمران ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ أُنَاسًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ، فَاقْرَؤُوا الْقُرْآنَ واسألوا بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»[163].
ويستحب تحسين الصوت بالقراءة لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» أي يحسن صوته بالقراءة. وقال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»، ومعنى أذن: يعني استمع لكون حسن الصوت يستدعي الإصغاء والاتعاظ، كما في الحديث «حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ»[164]. ويستحب أن يحتسب ثواب قراءته لنفسه ويدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، أما إهداء ثواب القراءة فلم يثبت عن رسول الله ﷺ الأمر به ولا عن الصحابة فعله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لم يكن من عادة الصحابة والسلف الصالح إذا صاموا تطوعًا أو حجّوا تطوعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى موتاهم، فلا ينبغي العدول عن طريقة السلف فإنها أفضل وأكمل. وقال: إنه لو أوصى بمال في ختمات فإن هذا المال يصرف على الفقراء والمساكين، فهؤلاء الذين يبيعون الختمات على الناس، بحيث يشتريها من يهدي ثوابها لموتاهم فإنه ليس لهم ثواب ولا أجر في قراءتهم حتى يشترى هذا الثواب منهم، وإنما يتحيلون على الناس بأكل أموالهم، وأكثر من يفعل هذا هم الهمج السذج الذين ليس لهم حظ من العلم والمعرفة والعقيدة الصالحة، ومثله تعليق ما يسمونه الجامعة والحروز على الأجساد والأولاد، سواء كانت من القرآن أو من غير القرآن، فإنه منهي عنها على الإطلاق لحديث: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا فَقَدْ أَشْرَكَ»[165]، وقال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ»[166]. وقال: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»[167]. والنهي شامل لكل ما يعلق من القرآن أو غير القرآن. والله أعلم.
* * *
[160] رواه مسلم عن أبي هريرة. [161] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن مسعود. [162] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي موسى الأشعري. [163] أخرجه أحمد من حديث عمران بن حصين. [164] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عمر. [165] أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ «مَنْ سَحَرَ فَقَدْ أشرك، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ». [166] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [167] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عكيم.
إن الله سبحانه لا يشرع شيئًا من العبادات، كالصلاة والصيام وقيام الليل، وخاصة قيام رمضان إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة.. فالصلاة بما أنها عبادة دينية لحديث: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ»[168] فإنها أيضًا رياضة بدنية لكون الدين يجمع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة وبين مصالح الروح ومصالح الجسد.. وكذلك الصيام فإنه عبادة دينية ورياضة بدنية وتأديب للشهوة البهيمية، شرعه وفرضه مَن يعلم ما في ضمنه من مصلحة العباد من زيادة الإيمان وصحة الأبدان، وقد راعى النبي ﷺ التنبيه على ذلك بقوله: «صُومُوا تَصِحُّوا».[169] وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[170] لكونه يزكي البدن أي ينميه.. وقد سن رسول الله ﷺ صلاة التراويح قولاً منه وفعلاً، فروى البخاري ومسلم، قال: كان رسول الله ﷺ يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ويقول: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى غَصَّ المسجد بالناس، فلم يخرج إليهم رسول الله، فلما أصبح قال: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلَّا أَنِّي خَشِيْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ». وذلك في رمضان. قالت عائشة: إن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم[171]. وقد زال هذا المحذور الذي خشيه رسول الله ﷺ، وبقي الاستحباب على حاله، فتعتبر صلاة التراويح جماعة سنة سنها رسول الله ﷺ لأمته، ويدل له حديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[172]. قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.
وروى البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها[173]. يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله وينامون آخره.. فقول عمر: نعمت البدعة هذه، ليس معناه أن عمر هو الذي ابتدع صلاة التراويح. فقد سنها رسول الله ﷺ قبله، حيث صلاها بالناس ثلاث ليال واعتذر عن مواصلة عمله بصلاته بهم جماعة، لأنه خشي أن تفرض عليهم فيعجزوا. وأنه كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، كما ترك صلاة الضحى من أجله. وحسبك أن الناس زمن رسول الله وزمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، يصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط من الجماعة بدون أن ينكر عليهم رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في فعلهم لها جماعة.
فصلاة التراويح جماعة لا شك في مشروعيتها وأنها سنة سنها رسول الله ﷺ بقوله وفعله. وليس ببدعة، وإنما أراد عمر بقوله: نعمت البدعة هذه: يعني تنظيم الناس على الاجتماع لصلاتها، حيث ضم الجماعات والأفراد لصلاة التراويح على إمام واحد بالعمل المستمر، فكان أُبي بن كعب يصلي بالرجال وتميم الداري يصلي بالنساء، ولم ينكر هذا العمل أحد من المهاجرين ولا الأنصار فكان سنة والفضل للسابق.
وقد أخذ بعض الفقهاء من لفظة عمر: نعمت البدعة أن التراويح بدعة حسنة، وليس في الشرع بدعة حسنة أبدًا، بل كل بدعة سيئة وكل بدعة ضلالة. وصلاة التراويح سنة حسنة وليست من البدعة في شيء، لكون البدعة هي ما يفعل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع. وكذلك جمع القرآن، فقد حكم الله بجمعه في كتابه، قال سبحانه: ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧﴾ [القيامة: 17]، فلو ترك الصحابة جمعه لأثموا، لكون عدم جمعه مدعاة إلى ضياعه.
وسميت تراويح من أجل أنهم يستريحون بعد كل أربع ركعات لكونهم يعتمدون على العصي من طول القيام ولا ينصرفون منها إلا في فروع الفجر، وكانوا يحزبون القرآن فيختمونه في سبع ليال يقرؤون في الليلة الأولى بالبقرة وآل عمران والنساء.
كما قال أصحاب ابن مسعود: كنا نحزب القرآن ثلاثًا وخمسًا وسبعًا وتسعًا وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد وأوله (ق).
والتراويح هي من قيام الليل المطلق ليست محصورة بعدد، فكان بعضهم يصليها بعشرين، وبعضهم يصليها بست وثلاثين، وبعضهم يصليها بإحدى عشرة، وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.
ولنعلم أن لب الصلاة الخشوع، وصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢﴾ [المؤمنون: 1-2]. فما يفعله بعض الناس من السرعة الزائدة في صلاة التراويح يعتبر خطأ.. فإن صلاة ركعتين بخشوع في القيام والركوع والسجود أفضل من أربع ركعات وست ركعات بلا خشوع.
ويصليها الرجل في جماعة أو في بيته، وكذلك المرأة تصليها في الجماعة أو في بيتها وهو أفضل.
والتراويح بما أنها من أسباب محبة الرب للعبد، كما في الحديث: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»[174] فإنها من أسباب الصحة للجسم، كما في الحديث «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ»[175]، وذلك أن الصائم يأتي إلى الفَطور في حالة شدة الشهوة فيأكل ويشرب إلى غاية الشبع ونهاية الامتلاء، ومن لوازم هذا الشبع والامتلاء استرخاء الأعضاء وسريان الفتور فيها فيستولي عليه الكسل والضعف فكان في أشد الحاجة إلى التخفيف والهضم، لهذا شرع الله على لسان نبيه صلاة التراويح التي لا يزال فيها بين قيام وقعود وركوع وسجود إلى أن ينصرف منها وقد استعاد نشاطه وقوته ودب فيه روح السرور والهناء والغبطة، فيتحلل عنه مضرة ذلك الامتلاء وتبقى فيه منفعته، وهذا من حكم الشريعة التي جعلها الله بمثابة الشفاء من سائر الأدواء؛ لأن الله لا يشرع شيئًا من العبادات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، فهي رياضة بدنية وعبادة دينية.
* * *
[168] أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. [169] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [170] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. [171] متفق عليه من حديث عائشة. [172] أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر. [173] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر بن الخطاب. [174] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [175] رواه الترمذي عن أبي أمامة وبلال.
إن تناول أكلة السحور وقت السحر سنة سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ويستحب تعجيل الفطور وتأخير السحور، وقد سماه رسول الله ﷺ بالغداء المبارك لما روى العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله ﷺ إلى السحور في رمضان، قال: «هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وصححه ابن حبان.
وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» رواه البخاري ومسلم عن أنس. وقال «فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ»[176]، وقال: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً»[177] وقال: «تَسَحَّرُوا، ونِعْمَ السَّحُورُ التَّمْرُ»[178]، وقال: «تَسَحَّرُوا، وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»[179] فأرشد النبي ﷺ أمته إلى أكلة السحور ورغبهم فيه ولو بأقل شيء ليستعينوا بالسحور على الصيام، ثم ليتعودوا القيام من آخر الليل لذكر الله والصلاة والاستغفار؛ لأن الله سبحانه ينزل آخر الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟»[180]. فأحب رسول الله ﷺ من أمته أن يستيقظوا في هذا الوقت المبارك حتى يكون منهم من يذكر الله، ومنهم من يستغفر، ومنهم من يصلي، ومنهم من يدعو، ومنهم من يتلو القرآن، وحتى لا يكونوا من الغافلين. فسماه السحور المبارك من أجل ما يترتب عليه من الفضائل، ومن أجل أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. وحسبك بها من فضيلة، ويتبعها ما هو أفضل منها وهو شهود المتسحرين لصلاة الفجر في جماعة، الذي ورد فيه حديث: «مَنْ صَلَّى الفجر فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ»[181] وقال: «مَنْ صَلَّى الفجر فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُمْسِيَ»[182].
وهذا كله من فضائل التيقظ للسحور. أما الرجل الأكول النؤوم الذي يملأ بطنه من أصناف الطعام ولحوم الأنعام، ثم ينام عليه بعد العشاء ولعله لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس أو إلى وقت الضحى فلا شك أن هذه خلة ذميمة وعادة لئيمة، فكم فات رقّاد الضحى من غنيمة.. فإن التقلل من العشاء والتيقظ وقت السحر فضيلة.. فقد قيل: نم مبكرًا وقم مبكرًا ترى الصحة أحسن ما ترى. وفي وقت السحر تنزل الرحمة وتقسم الغنيمة، فما يطلع الفجر إلا وقد حاز القائمون الغنيمة وحمدوا عند الصباح السرى وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنْ هُوَ قَامَ وَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتِ الْعُقْدَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِنْ صَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، وَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ».
ومن شعر عبد الله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا اشتعلت بالمشركين المضاجع
[176] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن العاص بلفظ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ». [177] رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر. [178] رواه الطبراني في الكبير من حديث السائب بن يزيد، ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ». [179] رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر. [180] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة. [181]رواه مالك ومسلم وأبو داود من حديث عثمان بن عفان ولفظه: قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ». [182] رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله.
ومن أحكام الصيام الفقهية أنه يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل. ويؤمر به الصغير متى أطاقه لتمرينه على العبادة كالصلاة، ويجب تبييت نية الصيام من الليل لحديث حفصة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه. والنية قلبية ومعناها القصد، ومتى خطر في قلب الشخص أنه غدًا صائم فقد نوى. وقد رخص للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة متى بلغا في السن فوق الثمانين ويشق عليهما الصوم فوق المشقة المعتادة بأن يفطرا، ويطعم كل واحد منهما عن كل يوم مسكينًا، ومثله من به مرض ملازم له كمرض السل ونحوه، ويقول الأطباء: إن الصوم يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه، فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.
وقدر الفقهاء الإطعام بمدين من الطعام، ونقدره فيمن غالب قوتهم الأرز بكيلو من الأرز، وإن أطعم فقيرًا أكلة تامة من طعامه الذي يأكله بدون تملك أجزأه ذلك؛ لأن الله سبحانه ذكر في كتابه المبين إطعام المسكين في حق الشيخ الكبير إذا أفطر، وفي كفارة اليمين، وأطلق الإطعام ولم يقيده بالتملك فدل على جوازه بمجرد الإطعام، كما حققه العلامة ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن عشَّى فقيرًا من طعامه فقد قام بواجب إطعامه. وكذلك من عشى عشرة مساكين في كفارة اليمين أجزأه ذلك في تحلة قسمه.
ولا بأس بالفطر في السفر متى أيقن بالعزم على القضاء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185]، وإن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، لما روى مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح في ذلك؟ فقال رسول اللهﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». ومن أفطر رمضان أو بعضه لمرض ثم توفي من مرضه ذلك قبل أن يتمكن من القضاء، فلا يجب على ورثته إطعام ولا صيام لعدم وجوبه على المتوفى المذكور.
أما إذا أفطر لعذر المرض، ثم عوفي وبرئ من مرضه ومكث وقتًا يتمكن فيه من القضاء فيه، ثم توفي قبل أن يقضي ما عليه، فإنه يطعَم عنه عن كل يوم مسكين، ومثله من أفطر لعذر السفر وهذا ظاهر المذهب. والصحيح أنه إن صام عنه وليه أجزأه لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، والصحيح حمله على الإطلاق في صوم النذر والفرض. قال ابن عبد القوي:
ويشرع أن يقضى عن الميْت نذره
كحج وصوم واعتكاف بمسجد
ونذر صلاة النفل يقضَى بأوكد
ولو قيل يقضَى فرضه لمبعد
وأما مختل الشعور عديم العقل والمعرفة فلا صيام عليه ولا إطعام، لكونه مرفوعًا عنه القلم.
ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه فلا قضاء عليه، ومن استيقظ بعد الفجر فأكل وشرب ظانا أنه ليل فتبين أن الفجر طالع فصيامه صحيح ولا قضاء عليه لدخوله تحت العفو. فقد عفي لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ومن غلبه القيء فخرج بغير اختياره فلا قضاء عليه، ومن أخرجه باختياره فعليه القضاء. ويجوز للصائم أن يستاك أول النهار وآخره، لما في البخاري عن عامر بن ربيعة، قال: رأيت النبي ﷺ - لا أعد ولا أحصي - يستاك وهو صائم. لأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، وبمعنى السواك غسل الأسنان بالمعجون فيجوز، ومن استيقظ آخر الليل وعليه جنابة ويخشى إن اغتسل أن يطلع عليه الفجر ويفوته السحور، فإنه يجوز له أن يتسحر وهو جنب ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر وصيامه صحيح، لما في البخاري أن النبي ﷺ كان يصبح جنبًا ثم يغتسل ويصوم. وكذلك المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل ورأت أمارات النقاء فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس وصيامها صحيح لكونه لا يشترط للصيام الطهارة من الحدث.
وإذا اغتسلت وجب عليها أن تقضي صلاة المغرب، ثم صلاة العشاء، ثم صلاة الفجر على الترتيب من تلك الليلة التي انقطع عنها دم الحيض فيها. وإذا انقطع عنها دم الولادة بعد عشرة أيام من ولادتها أو بعد عشرين يومًا أو أقل أو أكثر، فإنه يجب عليها من حين انقطاع الدم أن تغتسل وتصوم وتصلي، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وما يفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس ثم تمكث اليوم واليومين والثلاثة لا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم فيها كلها تقول: أخشى أن يعود عليّ الدم. فهذا جهل وخطأ وتفريط منها في عبادة ربها لا ينبغي أن تفعله، فإن واجب المسلمة أن تبادر إلى الاغتسال من حين انقطاع الدم عنها من غير تأخير، ثم تقوم بواجباتها من صلاتها وصيامها. فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
وكذلك نساء البوادي اللائي يسكنَّ في الصحراء فينقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس وليس عندها ماء تغتسل به، فإنها يجب عليها أن تضرب التراب بيديها فتمسح به وجهها وكفيها تنوي بذلك رفع الحدث عنها ثم تصوم وتصلي؛ لأن التيمم يقوم مقام الطهارة بالماء.. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ﴾ [المائدة: 6] ثم تفعل ما تفعله النساء الطاهرات من قراءة القرآن ومس المصحف. وكذلك يفعل من عليه جنابة أو من يريد الوضوء للصلاة وقد انقطع الماء عن بيته فلا يجده إلا بطريق السؤال من الناس، فإنه يجب أن يتيمم ويصلي ولو كان بالبلد لاعتباره عادمًا للماء وقت الصلاة، والله يقول: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا﴾.
ويقوم التيمم مقام الوضوء والغسل بالماء، لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» رواه البزار وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة، لكن صوب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه الحاكم.
وإذا صامت المرأة وبعد غروب الشمس عندما أفطرت رأت دم الحيض، فإن صيامها ذلك اليوم صحيح ولا ينبغي لها أن تشك في صحته؛ لأن الشك لا يرفع يقين الطهارة، وإذا اغتسلت المرأة من المحيض أو من النفاس، ثم رأت شيئًا من الكدرة أو الصفرة فإنها لا تبالي به. بل تصوم وتصلي وتقرأ القرآن وتمس المصحف، وكذا الجنابة لاعتبارها طاهرة، لما في البخاري عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئًا..
والاغتسال من المحيض والنفاس هو مثل الاغتسال من الجنابة على حد سواء فلا يلزمها أن تنقض شعر رأسها، بل تروي أصوله بالماء فحسب، كما أن ثوب الحائض طاهر فلا يلزمها غسله ولا إبداله إلا أن ترى شيئًا من الدم فيه فتغسله، والحامل متى خرج منها شيء من الدم فلا تبالي به، بل تصوم وتصلي؛ لأن هذا الدم ليس بدم حيض وإنما هو دم فساد يشبه دم الرعاف ودم الجرح.
والنبي ﷺ قال: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطير في الأفق؛ فإن بلالاً يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرد غائبكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت.. رواه البخاري ومسلم وفي آخره إدراج.. يقول الله: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ﴾ [البقرة: 187] والله أعلم.
* * *
قال الله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦﴾ [آل عمران: 134-136].
أمر الله عباده بأن يبادروا ويسارعوا إلى الأعمال الصالحات قبل الفوات وقبل أن تحين الوفاة، فإن للتأخير آفات، ولهذا أمر سبحانه بالأخذ بالحزم وفعل أولي العزم في المبادرة إلى أفعال هذه الخيرات. فهي التي تؤهلهم من المغفرة والرحمة والفوز بالجنات، وقد مضى للأنبياء والأولياء أمثالها، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ ٩٠﴾ [الأنبياء: 90].
وكما وصف الله عباده الصالحين بها، فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ ٦٠ أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ ٦١﴾ [المؤمنون:60-61]، وقد سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويزنون؟ قال: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُوْنَ أَلَّا يقبل مِنْهُمْ»[183]. أولئك الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، لأن المؤمن هو من جمع إحسانًا وشفقًا، والمنافق هو من جمع إساءة وأمنًا فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
فالمسارعة إلى وسائل المغفرة والرحمة والفوز بالجنة بمعنى المسابقة التي أمر الله بها بقوله: ﴿فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ ٤٨﴾ [المائدة: 48].. وقال: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١﴾ [الواقعة: 10-11].. أي السابقون إلى الخيرات والأعمال الصالحات هم السابقون إلى الجنات، والسابقون إلى الصلوات والجمعات هم المقربون إلى الله في الجنات، ولهذا قال العلماء: إن الناس يكونون في القرب من الرب على قدر قربهم من الإمام يوم الجمعة.
وقال الحسن: إن الله سبحانه جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه العاملون ويخسر فيه المبطلون، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ ٢٦﴾ [المطففين: 26]. وعن عمرو بن ميمون الأزدي قال: سمعت النبي ﷺ وهو يعظ رجلاً ويقول له: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ مُسْتَعْتَبٍ، وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ». رواه الترمذي مرسلاً.
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى
صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده
سوى جنة أو حر نار تضـرَّم
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة
وعدلك مقبول وصرفك قيّم
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا
ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسـرعا فالسيل خلفك مسـرعا
وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته
عليها القدوم أو عليك ستقدم
وقوله: ﴿أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ١٣٣﴾: يعني أن الله سبحانه خلق الجنة كرامة ونعمة لمن أطاعه واتقاه. كما خلق النار عقابًا وعذابًا لمن خالف أمره وعصاه، ولما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي. قالت: قد أفلح المؤمنون.. قال: طوبى لك منزل الملوك. وإن الجنة هي سلعة الله الغالية لا تنال إلا بالأعمال الصالحة، وقد هيئت وأعدت للمتقين الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة واجتنبوا المحرمات وأنفقوا في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، لأن الله سبحانه يقول: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢﴾ [النحل: 32] والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ﴾ [النساء: 131]، وحقيقتها تنحصر في فعل المأمورات واجتناب المحرمات خوفًا من عقاب الله ورجاء ثوابه.
ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك. ولكن التقوى هي أداء ما فرض الله وترك ما حرم الله وإن زدت على ذلك فهو خير إلى خير، فالمتقون يجعلون أعمالهم الصالحة بمثابة الوقاية دون عقاب الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «اتَّقُوا النَّارَ» ثم أعرض وأشاح، ثم قال: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».[184] وكان النبي ﷺ يخطب، فسأله رجل قال: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ للرب، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»[185].
وقد قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هي الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا كان ذا تقوى وإن حاك أو حجم
﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ ﴾ [الطلاق: 2-3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَئَِّاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥﴾ [الطلاق: 4-5]، ذلك أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا، فالتقوى هي قوام أمر الشخص وملاك دينه وغاية شرفه في دنياه وآخرته، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات: 13].
كما قيل:
لقد رفع الإسلامُ سلمان فارس
كما وضع الشـركُ الشقي أبا لهب
لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
ثم شرع سبحانه في أوصاف المتقين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ﴾ [آلعمران:134] أي ينفقون ويتصدقون في حالة اليسر والعسر لرغبتهم في الثواب والأجر وخوفهم من العقاب والوزر ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠﴾ [الإنسان: 8-10].. إنهم لم يقولوا هذا الكلام حين أطعموا الطعام، ولكن الله علمه من قلوبهم فنطق به على ألسنتهم. وأفضل الصدقة جهد المقل. وابدأ بمن تعول ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ﴾ [الطلاق: 7].
وروى البخاري عن أبي مسعود الأنصاري، قال: حث النبي ﷺ على الصدقة ولم يكن عندنا مال، قال: فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق. وقد سبق درهم من فقير مائة درهم من غني.
وفي البخاري قال رجل للنبي ﷺ: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَأْمُلُ الْغِنَى، وتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ». وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللهﷺ: «لأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ»، ثم قال: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤﴾ [آل عمران: 134]. وهذه أيضًا من صفات المتقين الذين أعد الله لهم جنات النعيم أنهم يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس، والله عفو يحب العفو، فهم يحتسبون إسقاط حقهم عفوًا منهم عنه مع قدرتهم على الانتصار، وفي كظم الغيظ فضل عظيم وهو ينبئ عن رزانة العقل والرغبة في الخير، ولهذا يقال: ليست الأحلام في حال الرضا، إنما الأحلام في حين الغضب، لاسيما لصائم.. فإنه يستحب له متى غاضبه أحد أو شاتمه أن يلجم نفسه بلجام التقوى ويستمسك من الورع بالعروة الوثقى وليقل: إني صائم كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان؛ لأن الصوم جُنة يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام ورديء الكلام، ومن كان الصوم له جُنة في الدنيا كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
وقد سأل رجل النبي ﷺ قال: يا رسول الله، أوصني. قال: «لَا تَغْضَبْ»، فردد مرارًا، يقول: «لَا تَغْضَبْ»،[186] لأن الغضب يتفرع عنه كل شر.. وقد قال النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: «لَا لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».[187] ولهذا يستحب للرجل إذا غضب أن يتوضأ أو يغسل وجهه بالماء.. لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء يطفئ النار، وهو مجرب لتسكين الغضب.. ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤﴾.. لأن الله سبحانه كتب الإحسان على كل شيء، على الناس فيما بينهم..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإحسان إنسانا
وحتى البهائم، ففي البخاري: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يَلْهَثُ مِنَ العَطَشِ، إِذْ نَزَعَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مُوقَهَا[188] فَسَقَتْهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهَا ذَلِكَ، فَغَفَرَ لَهَا». فقالوا: أولنا في البهائم أجر؟ قال: «نَعَمْ، إِنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا».
وقال: «دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».[189] ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥﴾ [آلعمران: 135].. فهذا من بعض أوصاف المتقين وأنهم إذا ارتكب أحدهم ذنبًا على حين غفلة أو غلبة شهوة أو غضب، فإنهم يفرون إلى الله بالتوبة ويتوبون إليه ويستغفرونه من ذنبهم ويندمون على ما وقع منهم، إذ ليس من شرط المتقين العصمة فقد يقترف أحدهم الذنب ثم يتوب إلى الله منه والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ ٢٠٢﴾ [الأعراف: 201-202].
فأخبر الله عن الذين اتقوا بأنهم متى وقع من أحدهم ذنب أبصر الخروج منه بالتوبة عنه، وقد قيل:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا
وأي عبد لك لا ألمّا
وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على ألا لا يعود، وإن كانت عن مظالم مالية فيردها إلى أربابها لأنها من الديون التي لا يترك الله منها شيئًا، وأن الهلاك كل الهلاك في الإصرار على الذنوب وعدم التوبة منها، كما في الحديث: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ، الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»[190] و«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ»[191] كما ثبت بذلك الحديث، لكنه متى تاب من الذنب واستغفر منه وقلبه متعلق بمحبته وعازم على معاودته.. فإن هذه توبة الكذابين المستهزئين بربهم.
﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ﴾ [النساء: 18].
إن أعظم ما يهم به العاقل هو سؤال المغفرة والفوز بالجنة والعمل على حساب ذلك بأن يسعى لها سعيها وهو مؤمن.
وقد قال رجل للنبي ﷺ: إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إلا أني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار. قال رسول الله ﷺ: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»[192]. وفي صحيح ابن خزيمة عن سلمان في فضل رمضان أن النبي ﷺ قال: «إنه شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، والاستغفار، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهمَا: فَتُسْأَلُونَهُ الْجَنَّةَ، وَتَسْتَعِيْذُوْنَ بِهِ مِنَ النَّارِ».
وسيد الاستغفار هو أن يقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[193].
فبدأ سبحانه هذه الآيات بالدعوة إلى المغفرة والفوز بالجنة، وختمها بالمغفرة والفوز بالجنة والله أعلم.
فاعملوا لدار لا يموت سكانها ولا يخرب بنيانها ولا يتغير حسنها وإحسانها، هواؤها النسيم وماؤها التسنيم، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين ويتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين، ﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠﴾ [يونس: 10].
* * *
[183] رواه الترمذي والإمام أحمد في مسنده. [184] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [185] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن درة بنت أبي لهب. [186] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [187] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [188] مُوقها: خُفَّها. [189] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [190] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. [191] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة. [192] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث أبي هريرة. [193] أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس.
قال الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦﴾ [البقرة: 186].
فهذه الآية توجد متوسطة بين آيات الصيام من سورة البقرة، والحكمة في وضعها بين آيات الصيام أن المؤمن الصائم يتوسع في أفعال الطاعات ويكثر من الدعاء والتضرع إلى الله لعلمه أن للصائم دعوة ما ترد، وسبب نزولها أن أناسًا قالوا للنبي ﷺ:يا رسول الله، أربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية[194]. وكان رسول الله في سفر وكان الصحابة إذا علوا الربا كبروا وهللوا، وإذا هبطوا الأودية سبحوا يرفعون بذلك أصواتهم. فنادى منادي رسول الله ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا أقرب إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».[195]
قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، أي عباد الإجابة والدعوة الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإلا فكل الناس عبيد الله بطريق القهر والخلق والتكوين، ولكن السائلين المتضرعين هم عباد الله الصالحون المخلصون الذين يعبدون الله ويدعونه بما شرع لهم ولا يدعون معه أحدًا غيره.
فالدعاء عبادة، لما روى النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثم قرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠﴾ [المؤمن: 60] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وقال: صحيح الإسناد.
وفي رواية: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ»[196] ومخ الشيء خالصه فليس شيء أكرم على الله من الدعاء، لأنه عماد الدين ونور السماوات والأرض وسلاح المؤمن وأنه لن يهلك مع الدعاء أحد، كما ثبت بذلك الحديث، والله يحب أن يسأل ويحب الملحين في الدعاء؛ ومن لم يسأل الله يغضب عليه.
الرب يغضب إن تركت سؤاله
وبُنيُّ آدم حين يسأل يغضب
ونظير هذا ما حكى الله عن نبيه يونس عليه السلام؛ وذلك أنه لما غاضبه قومه ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به خرج من البلد مغاضبًا فركب في سفينة، ثم إن السفينة أشرفت على الغرق فقذفوا في البحر جميع ما تحمله لتخف وترتفع فلم ترتفع، فاتفقوا على أن يعملوا قرعة فمن وقع عليه سهم القذف رموا به في البحر، فوقع سهم الإلقاء على نبي الله يونس بن متى، فرموا به في البحر لكون الأنبياء أشد الناس بلاء في الدنيا، قال الله: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ ١٤١﴾ [الصافات:141]، أي الملقين ﴿فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ ١٤٢﴾ [الصافات: 142]، أي أن الله سبحانه قد لامه على شدة الغضب الذي خرج من البلد بسببه، وكان من واجبه أن يصبر نفسه على أذى قومه.. فعند ذلك دعا ربه وهو في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة بطن الحوت.. فكان من دعائه: ﴿لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٨٧﴾ [الأنبياء:87 ]، قال الله سبحانه: ﴿فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٨٨﴾ [الأنبياء: 88]، ثم ذكر الله سبب هذا الإنجاء وأن سببه كثرة دعائه لربه في حالة الرخاء، فقال تعالى: ﴿فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٤٤﴾ [الصافات: 143-144] وفي الحديث أن النبيﷺ قال: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مكروب إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»[197]. فمن أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء، وإذا دعا المسلم بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم حصل له إحدى ثلاث خصال: «إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا». قالوا: إذًا نكثر يا رسول الله، قال: «فَضْلُ اللهِ أَكْثَرُ»[198]. ومن فتح له باب الدعاء وذاق حلاوته فقد فتح له باب الخير والرحمة والإجابة، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا أعطيت الدعاء وفقت للإجابة[199].
ولهذا يقال: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، ومتى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العباد والإنسان مخلوق للعبادة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56] فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسأم من الدعاء ولا يعجز عنه، ففي الحديث: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَدَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» [200]. وأفضل العبادة انتظار الفرج، وفي الحديث: «لوذوا بيا ذا الجلال والإكرام»:[201] أي الزموا وداوموا. والله يقول: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ﴾ [الفرقان: 77]، سواء قلنا: إن المراد به دعاء العبادة أو دعاء المسألة.
فالدعاء بمثابة الأشجار المثمرة والخزائن المدخرة ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فهو يدفع البلاء بعد انعقاده وقبل نزوله، ويرفعه بعد نزوله.. لقول النبي ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ، بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»[202]. فأخبر النبي ﷺ أن الدعاء يرد القدر والقضاء، وفي دعاء القنوت: «وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ»[203] فلو لم يكن الدعاء سببًا في صرف شر القدر والقضاء.. لما شرعه النبي وأرشد إليه أمته.. وفي المراسيل أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، واستدفعوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ».[204] وفي حديث ابن عباس: أن النبي ﷺ قال له: «احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» رواه الترمذي بطوله وقال: حديث حسن صحيح.
إنه متى كان الإنسان له معاملة مع ربه بالدعاء والتضرع في حالة رخائه وسرائه، ثم وقع في شدة من الشدات فدعا الله عز وجل، قالت الملائكة: يا رب صوت معروف من عبد معروف.. اللهم استجب دعاءه[205]. ولهذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم إنك أمرت بالدعاء ووعدت بالإجابة، وقد سألتك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني. إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه وتعتقد بأن دعاءك واقع بمسمع من الله.. كانت عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد أتت المجادلة - أي خولة بنت ثعلبة - إلى رسول الله ﷺ تشتكي زوجها - أي أوس بن الصامت - وتقول: إنه أفنى شبابي وأكل مالي وكان لي منه عيال، فلما كبر سنه ظاهر مني، أشكو إلى الله حالي، والله إني لفي ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه، فما برحت من مكانها حتى سمع الله تعالى شكواها وأنزل: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ١﴾ [المجادلة: 1].... إنه يراك ﴿حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٢٢٠﴾ [الشعراء: 218-220].
وللدعاء آداب ينبغي للداعي أن يتأدب بها؛ لأن من حُرم الأدب حرم التوفيق، كما أنها بمثابة الباب الذي يدخل على إجابة الدعاء من طريقه، والله يقول: ﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ﴾ [البقرة: 189]:
الأول: طيب المطعم وتنظيف البطن عن أكل الحرام. فقد ذكر رسول الله ﷺ الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك. رواه مسلم من حديث أبي هريرة. فكأن هذا بفعله قد سد باب الإجابة عن نفسه، وقد قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ»[206].
الثاني: أن يبدأ في دعائه بحمد الله والثناء على ربه والصلاة على نبيه، ثم يدعو بحاجته، فقد سمع النبي ﷺ رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي ﷺ فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي ﷺ ثم يدعو بحاجته»[207] لكون الوسائل مطلوبا تقديمها أمام المساءل، يقول الله: ﴿وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: 35]، فتقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله هي نِعْم الوسيلة التي ترفع الدعاء إلى الله.
ومنها: أن يمد يديه في دعائه؛ لأن في مد اليدين إظهارًا للتذلل والعبودية وإشعارًا بأنه فقير إلى ربه في كل حالاته. وفي الحديث: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا مَدَّ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» أي خائبتين. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث سلمان.
ومنها: أن يدعو بقلب حاضر موقن بالإجابة، وللدعاء في السجود سر عجيب، كما في الحديث: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»[208] فيدعو في سجوده سائر حاجاته من أمور الدنيا والآخرة وبصلاح دنياه وآخرته. وللدعاء أمر عجيب وحسن عاقبة في إصلاح الحال وإصلاح المال والعيال والتوفيق لصالح الأعمال.. فالذي له حظ ونصيب من الدعاء والتضرع إلى الله في كل حالاته وسائر حاجاته ويدعو له أبوه أو تدعو له أمه أو يدعو له الناس على حسن أعماله تجده ملحوظًا من الله بالتوفيق والتسديد وإصلاح الشأن والمحبة في قلوب الناس. أما من ليس له نصيب من الدعاء ولم يذق حلاوة المناجاة ويستكبر عن عبادة ربه ودعائه.. فهذا يعد محرومًا من الخير محرومًا من التقرب إلى الله والتحبب إليه، قد سد عن نفسه باب الرحمة والاستجابة؛ لأن نزع حلاوة المناجاة من القلب هي أشد عقوبة يعاقب بها الشخص وهو لا يشعر. وقد استعاذ النبي ﷺ من أربع، فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ»[209] أي لا يستجاب له.
ومتى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فليعلم أن من صرف هذه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله ووقع في الشرك الأكبر الذي لا يُغفر.. فمن دعا نبيًّا أو دعا عليًّا أو دعا وليًّا أو دعا عبد القادر أو دعا العيدروس أو دعا صاحب قبر من القبور فقد أشرك بالله، ومن أشرك بالله قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ومن يشرك بالله فقد حبط عمله. وأخبر الله بأنه لا أضل ولا أظلم ممن يدعو مخلوقًا دون الله ويتوسل به في قضاء حاجاته وتفريج كرباته، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦﴾ [الأحقاف: 5-6]. فسمى الله دعاء الأنبياء والأولياء عبادة، فهؤلاء الذين يترددون رجالاً ونساءً على بعض القبور ويزعمون أنه قبر ولي وأنه يتصرف في الكون فيسألونه ويتوسلون به في قضاء حوائجهم وتفريج كربهم هم بالحقيقة من أضل الناس طريقة وأفسدهم عقيدة، وإنه لا أجهل ولا أظلم ولا أضل منهم. وإلا فكيف يدعون ميتًا رميمًا في قبره لا يستطيع زيادة في حسنات نفسه ولا نقصًا من سيئاته فضلاً عن أن ينفع غيره.. يقول الله: ﴿إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ ١٤﴾ [فاطر: 14] وهو الله. ومثله الذين يأتون عند قبر رسول الله ﷺ فيتضرعون إليه ويسألونه، يقول أحدهم: يا محمد أغثني، يا محمد اشفع لي عند ربي.. وإذا قام أحدهم أو قعد قال: يا رسول الله أو يا علي.. فإن معنى يا رسول الله: أدعو رسول الله. ومعنى يا علي أو يا عبد القادر: أدعو عليًّا أو أدعو عبد القادر. والله يقول: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ﴾ [يونس: 18].
وشفاعة الرسول لا تنال من أشرك بالله، وإنما تكون لمن وحد الله ولم يشرك به أحدًا.. ولما قال رجل للنبي ﷺ: من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ فقال: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»[210] فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص ولا تكون لمن أشرك بالله. قال رجل للنبيﷺ: إنا نستشفع بك على الله، قال رسول الله ﷺ: «شأن الله أكبر من ذلك.. إنه لا يتشفع بالله على أحد من خلقه»[211] فنهى رسول الله عن الاستشفاع به أو بجاهه، وأمر أمته بأن يخلصوا دعاءهم لربهم وأن يكثروا من الصلاة عليه فقال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ» فأمر أمته بأن تدعو له؛ لأن الذي يُدعى له لا يُدعى ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦﴾ [يونس: 106]. نعوذ بالله من الشرك والشك وسوء الأخلاق وفساد الاعتقاد.
* * *
[194] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة من حديث عيينة بن أبي عمران. [195] أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري. [196] رواه الترمذي من حديث أنس. [197] أخرجه الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص. [198]أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد. [199] ورد في شرح العقيدة الطحاوية. [200] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [201] أخرجه الترمذي من حديث أنس بلفظ: «ألظوا». [202] رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث ثوبان وقال: صحيح على شرطهما. [203] متفق عليه من حديث الحسن بن علي. [204]أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود. [205] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث سلمان بلفظ: من امرئ ضعيف. [206] أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس. [207]لما روى فضالة بن عبيد أن النبي ﷺ سمع رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي ﷺ فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بحاجته». رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. [208] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [209] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [210] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [211] أخرجه أبو داود من حديث جبير بن مطعم.
إن في العشر الأواخر من هذا الشهر ترجى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر.. العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. وقد نوه القرآن بفضلها وحثكم النبي ﷺ على طلبها، فقال في الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[212] وهي ترجى في أفراد العشر، ولله الحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في العمل في سائر الشهر ولا يتَّكلوا على العمل في ليلة القدر، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهد الناس في الدعاء في سائر أوقاتها حرصًا على طلبها ولا يتَّكلوا على الدعاء في ساعة منها.
وكان النبي ﷺ يخلط العشرين الأُول من رمضان بنوم وقيام فإذا دخلت العشر الأخيرة أحيا ليله وأيقظ أهله وهجر فراشه وجد واجتهد في العبادة، وكان يوقظ أهله ويطرق باب علي وفاطمة ويقول: «أَلَا تَقُومَانِ فَتُصَلِّيَانِ؟»[213] ثم يتلو: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسَۡٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢﴾ [طه: 132]، وكان يقول: «أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[214] وكان يعتكف في العشر الأخيرة من رمضان حرصًا على طلبها، والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية لله عز وجل لقطع أشغاله وتفريغ باله وخلوه لمناجاة ربه وذكره وشكره ودعائه.
والاعتكاف سنة مشهورة وقد أصبحت بين الناس مهجورة، والسنة على المعتكف هو أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه.. فكأن المعتكف يقول بلسان حاله: يا رب إن الناس قد رجعوا إلى أهلهم وأموالهم وإنني عاكف في بيتك ملازم لبابك أرجو رحمتك وأخشى عذابك. وإن العمر بآخره وملاك الأمر خواتمه وخير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
فكم من مستقبل لهذا الشهر ثم لا يستكمله، وكم من مؤمل لعوده إليه ثم لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام وهن قلائل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به والشيب للرأس شاعل
* * *
[212] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [213] أخرجه أبو عوانة من حديث علي. [214] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة.
إن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان ومكانًا على مكان وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان، حيث أنزل فيه القرآن وأوجب فيه على المؤمنين الصيام وجعله شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهيرًا للقلوب من الفساد وقمعًا للشهوة والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد. شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
وقد قوضت الآن منه الخيام وتقلصت منه الليالي والأيام، وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه والحافظ لما أودعتموه، إنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصنة والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»[215].
صعد النبي ﷺ المنبر، فقال: «آمين آمين» قالوا: علام أمَّنت يا رسول الله؟ قال: «جاءني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله. قل: آمين.. قلت: آمين»[216]، فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان شهر النفحات شهر إقالة العثرات شهر مضاعفة الحسنات شهر تكفير السيئات، ثم خرج ولم يحظ فيه لا بمغفرة ولا برحمة ولا بإقالة عثرة ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه، حيث ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته فأفنى شهره ودهره في البطالة وعدم الطاعة حتى لم يبق للصلاح منه موضع ولا لحب الخير من قلبه منزع، قد رضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا - والله - لهو الغاية في الإفلاس والإبلاس ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين لا يتقيدون بالدين، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع.. واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ثم يدَّعي أحدهم الإسلام، بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم ولا يؤدي الزكاة الواجبة، وقد قلنا غير مرة: إنه لا يستحل ترك الصلاة والصيام عمدًا من غير عذر سوى ملحد مرتد عن دين الإسلام.
ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان، فهو شر من الكلب والخنزير، قد ساءت طباعه وفسدت أوضاعه فعصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد به أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتنافل والمرء على دين خليله وجليسه.. قتل هذا الملحد ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان، ومع هذا الكفر المتظاهر البواح فإنه يتسمى بالإسلام وقد جمع بين ضلال مع إصرار كفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣﴾ [الحجر: 2-3]، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٩﴾ [المرسلات: 48-49].
إن الله سبحانه قد أنزل في كتابة المبين التعزية والتسلية للمؤمنين عن هؤلاء المرتدين عن الدين، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٧٧﴾ [آل عمران: 176-177].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥﴾ [محمد: 25] إنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية وتركوا الصلاة والزكاة والصيام الفرضية وسائر الطاعات المُرضية واستباحوا المنكرات وشرب المسكرات إلا فتح عليهم من الشر كل باب وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25] فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.. رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
* * *
[215] رواه مسلم عن أبي ذر. [216] رواه ابن حبان في صحيحه بطوله عن أبي هريرة، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الترمذي.
اعلموا رحمكم الله: أن الله سبحانه أوجب على المؤمنين زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة مشروعة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات وليست من الفطرة في شيء. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهي زكاة بدن تجب على الصغير والكبير ولا تجب على الحمل في البطن.
قال أبو سعيد الخدري: كُنَّا نُعْطِيهَا زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ[217]. وإنما خص هذه الأصناف بالذكر لكونها هي الرائجة في البلد زمن نزول القرآن والنقود قليلة الوجود، فالحضر من سكان المدينة غالب قوتهم التمر والبر والشعير، حتى إن البر النقي يعد من القليل. وقد توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير.
أما الأعراب فغالب قوتهم الأقط واللبن، فخص هذه الأصناف بالذكر من أجل كونها غالب قوتهم ولا ينفي الاجتزاء بغيرها، فمن كان غالب قوتهم الأرز أو الذرة أو الدُّخْن، جاز أن يتصدقوا بذلك، إذ هي من أوسط ما تطعمون أهليكم.. لكون الحكمة فيها هو إغناء الفقراء الشحاذين عن تكفف الناس بسؤالهم يوم العيد، لحديث: «أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»[218].
ومن العلماء من يقول بجواز إخراج القيمة في الفطرة (دراهم) إذا كانت أنفع للفقراء، كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، لكون المقصود من زكاة الفطر سد حاجة الفقراء عن سؤال الناس يوم العيد، وهو محقق في القيمة - أي النقود - وقد أصبح أكثر الفقراء في البلدان المثرية يسخطون الطعام بالكلية ولا يقبلونه، لكونه لا يقوم بسد حاجاتهم، وإنما يطلبون القيمة دراهم ليشتروا بها حاجاتهم وحاجة أهلهم وعيالهم وكسوتهم ليوم العيد.
فمن أجل هذه الأسباب أفتينا الناس بجواز إخراج الفطرة دراهم بدلاً من الطعام وقررنا فطرة الشخص الواحد بخمسة ريالات قطرية، فمن أخرج هذا القدر عن كل شخص ممن يمونه فقد برئت ذمته من عهدة فطرته. ومع القول بهذا فإننا لا ننكر جواز التفطير بالطعام من التمر والأرز، وقدر الفطرة كيلوان. ولا يجوز إيداعها عند أحد لانتظار فقير يقدم إلى البلد، ولا يجوز أن تدفع إلى غني ولا إلى قوي مكتسب، ولا يجوز أن يستخدم بها أجير، ويجوز أن تدفع فطر الجماعة إلى فقير واحد، كما يجوز أن تقسّم فطرة الشخص الواحد بين فقيرين وثلاثة.
والفقير متى تحصل على فطر من الناس وجب عليه أن يفطر منها عن نفسه وعن سائر من يعوله، لكونه قد ملكها ملكًا تامًّا فجاز أن يفطر منها، ومن أدركه العيد في هذه البلاد وأهله وعياله في بلد آخر أخرج فطرة أهله مع فطرته في البلد الذي أدركه العيد فيه، والله يقول: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧﴾ [الأعلى: 14-17].
* * *
[217] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري. [218] أخرجه ابن زنجويه في الأموال من حديث عبد الله بن عمر.
إن السلف الصالح الكرام يدعون الله أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله أن يتقبله منهم لأنهم لقبول العمل أشد اهتمامًا منهم بالعمل. وإنما يتقبل الله من المتقين، وهذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال. فهي تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول ودائم لا يحول.. هو في كل الحالات إله واحد ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم ليسبغ عليهم فواضل النعم ويعاملهم بغاية الجود والكرم.
فقد مضى شهر الصيام، ثم أقبلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فما من يوم من الأيام إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه.. فالسعيد من اغتنم مر الليالي والأيام والساعات وتقرب إلى الله بما فيها من فرائض الطاعات ونوافل العبادات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات، وفي الحديث: «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ»[219]. وقد أمر الله عباده بأن يعبدوه حتى الممات، لأنه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت.. قال الله: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾ [الحجر: 99].
ولما قيل لبعض السلف: إن قومًا يتعبدون في رمضان ولا يتعبدون في غيره. قال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقا إلا في رمضان، كن ربانيا ولا تكن رمضانيا.
إن من الحزم وفعل أولي العزم كون الإنسان إذا عمل عملاً كصيام رمضان فإنه يحافظ على إتقانه وعدم إحباطه وإبطاله، وقد قيل: إن من علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، ومن علامة ردها أن تعقب تلك الطاعة بمعاص بعدها.. فما أحسن الحسنات بعد الأعمال الصالحات تتلوها، وما أقبح المنكرات بعد الأعمال الصالحات تمحقها وتعفوها، وقد قال النبي ﷺ لرجل: «يا فلان، إنك تبني وتهدم». قال: يا رسول الله كيف أبني وأهدم؟ قال: «إنك تعمل أعمالاً صالحة ولكنك تعمل بعدها أعمالاً سيئة»[220].
وتهدم ما تبني بكفك جاهدًا
فأنت مدى الأيام تبني وتهدم
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تسدي وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا
ظهـيرًا على الرحمن للجبر تزعم
بطيء عن الطاعات أسرع للخنى
من السيل في مجراه لا يتقسم
فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.. رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا عن أبي أيوب، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ»؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وفعله هذا يدل على رغبته في الخير وفي العمل الصالح في رمضان وفي غير رمضان.
ولما قال أناس من الصحابة: إنا إذا أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد. فقال لهم بعض من سمعهم من الصحابة: ويحكم والله لا يسألكم الله إلا عما افترض عليكم، وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا منكم، والله لقد قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه، وإنكم تخطئون بالليل والنهار، وإن النوافل يكمل بها خلل الفرائض[221]. فهذا محض الفقه.. فإن الإنسان لا بد أن يحصل منه شيء من النقص والتقصير في الفرائض فتكون النوافل بمثابة الترقيع لخلل الفرائض.
كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه وفيه حديث مرفوع، وهو أن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته، فإن كملت فقد أفلح ونجح، وإن نقصت فقد خاب وخسر، ثم يقول الله: انظروا ما كان لعبدي من تطوع فكملوا به فريضته[222] . وكذلك الأعمال تجري على هذا المنوال، ثم إن المحافظة على النوافل هي من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أولياء الله المقربين وحزبه المفلحين. كما في البخاري: أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» [223].
فالذي يصوم رمضان، ثم يصوم بعده ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر كله، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن فيها فضلاً كبيرًا ويترتب عليها أجر كثير، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام. فهذه الثلاث الخلال من حازها فقد حاز خيرًا كثيرًا. وكذلك صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، ففيهما فضل كبير.
أما صلاة ركعتي الضحى، فإنها بمثابة الصدقة عن سائر أعضاء الإنسان وجسمه، لحديث أن النبي ﷺ قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى». رواه مسلم. وقال: «رَكْعَتَا الضُّحَى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[224] والأفضل أن تفعل هذه الصلاة في البيت، لقول النبي: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ مِنْ صَلَاتِكُم فِي بُيُوتِكُمْ خَيْرًا، وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا».[225] أي تهجرونها من فعل الصلاة فيها؛ فالبيت الذي تصلى فيه النوافل ينبسط فيه الرزق وتنزل فيه البركة وتغشى أهله الرحمة.
وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنها كصيام الدهر وهي بمثابة زكاة البدن، ففي الحديث: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[226] وقال: «صُومُوا تَصِحُّوا»[227] وكل من تأمل أحوال الناس فإنه يرى أن الذين يتنفلون بالصوم والصلاة أنهم من أصح الناس أجسامًا وأطول الناس أعمارًا، وأن الله يمتعهم في الدنيا متاعًا حسنًا نتيجة أعمالهم الصالحة؛ لأن الصوم والصلاة بما أنهما من العبادات البدنية فإنهما من الرياضات البدنية التي تعود على البدن بالنشاط والصحة والقوة.
وآكد النوافل الوتر، فقد قال النبي ﷺ: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُ الْوِتْرَ»[228] وقال: «أوتروا، وَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا».[229] وأعلى الوتر إحدى عشرة ركعة وأقله ركعة واحدة. والوتر حق، من أحب أن يوتر بسبع فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل. وكان النبي ﷺ يحافظ على عشر ركعات وهي السنن الراتبة: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر.. فهذه هي السنن التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها وإن فاته شيء منها سُن له قضاؤه، يقول الله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا ٦٢﴾ [الفرقان: 62] قالوا: من فاته حزبه بالليل كان له من النهار مستعتب.
أما السنن التي لها سبب، فمثل تحية المسجد.. ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[230]، وسواء كان في وقت نهي كما بعد العصر أو الفجر. وحتى الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب أو المؤذن يؤذن، فإنه لا يجلس حتى يركع ركعتين، لما في الصحيح، أن النبي ﷺ كان يخطب فدخل رجل يقال له: سليك الغطفاني فجلس، فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»[231] أي خففهما. ولهذا تفعل هاتان الركعتان ولو كان المؤذن يؤذن أو الخطيب يخطب.
وعلى كل حال، فإنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لفعل صلاة أو صيام أو صدقة، وإن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة.. ويقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ﴾ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا فقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون.
وإذا كان للرجل أو المرأة عادة من فعل الصلاة أو الصيام، ثم أقعد عنها بمرض أو كبر، بحيث لا يستطيع أن يعملها، فإن الله يقول لملائكته: أجروا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح. فتجرى له أعمال صالحة وهو مضطجع على فراشه، وإذا أتى الإنسان إلى فراشه ومن نيته أن يقوم من آخر الليل فغلبته عيناه كتب له قيام ليله وكان نومه عليه صدقة، وعلى كل حال فإن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، ولما مر النبي ﷺ على قبر حديث عهد بدفن قال: «ما هذا القبر؟». قالوا: قبر فلان التاجر. قال: «والله لصلاة ركعتين أَحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها» [232]
فالدنيا مزرعة الآخرة تزرع فيها الأعمال الصالحة، من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
[219] أخرجه الطبراني من حديث محمد بن سلمة الأنصاري. [220] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة من حديث عبد الله بن شقيق. [221] أخرجه الطبراني بمعناه في مسند الشاميين عن عائشة، وهو في مختصر قيام الليل للمروزي. [222]أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «ركعتا الفجر». [223] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [224]أخرجه النسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة. [225] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [226] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. [227] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [228] أخرجه أحمد من حديث علي. [229] أخرجه أبو داود من حديث بريدة الأسلمي. [230] رواه أبو قتادة عن النبي ﷺ. [231] أخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام من حديث جابر. [232] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة.
إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم بقول الله تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ﴾ [الحج: 78] وأعظم الجهاد جهاد الإنسان نفسه وأهله وعياله على عبادة ربهم، فالطاعة قيد النعم والمعاصي من أسباب حلول النقم، ورأس الطاعة بعد الشهادتين الصلاة التي هي عمود الديانة ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ﴾ [العنكبوت: 45] تفتح باب الرزق وتيسر الأمر وتشرح الصدر وتزيل الهم والغم، وهي من أكبر ما يستعان بها على أمور الحياة وعلى جلب الرزق وكثرة الخيرات ونزول البركات.
وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة أو وقعوا في شدة من الشدات، فزعوا إلى الصلاة؛ لأن الله يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ﴾ [البقرة: 45] فهي قرة العين للمؤمنين في الحياة، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس. وهي خمس صلوات مفرقة بين سائر الأوقات لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد. فرضت الصلاة على النبي ﷺ بمكة ليلة الإسراء فهي أول ما فرض من شرائع الإسلام، كما أنها آخر ما يفقد من دين كل إنسان فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين.
وقد وصفها رسول الله ﷺ بنهر غمر - أي كثير - قال: «يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قالوا: لا. قال: «فَكَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا». رواه مسلم من حديث جابر.
سميت صلاة من أجل أنها تشتمل على الدعاء، أو من أجل أنها صلة بين العبد وبين ربه، فالمصلي متصل موصول من فضل الله وبره وكرمه، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قبل وجه عبده مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[233]، فالمحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات هي العنوان على صحة الإيمان؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ﴾ [التوبة: 18] وعمارتها تحصل بالصلاة فيها، ومن بنى مسجدًا يحتسب ثوابه عند الله بنى الله له قصرًا في الجنة. أما من بنى مسجدًا ثم هجره من الصلاة فيه فإنه آثم في عمله وهجرانه لمسجد ربه، وإنما بنيت المساجد ونصبت فيها المآذن وشرع النداء فيها كله لقصد الصلاة جماعة الذي يستدعي التعارف والتآلف بين المسلمين.
وكان الصحابة يرون التارك للصلاة في الجماعة منافقًا، يقولون ذلك ولا يتأثمون، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود، قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق. لأن من صفة المنافقين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨﴾ [المائدة: 58]، فنفى الله عنهم العقل الصحيح من أجل عدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح. لأنه إنما سمي العقل عقلاً من أجل أنه يعقل عن الله مراده، أمره ونهيه، أو من أجل أنه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل.
لن ترجع الأنفس عن غيِّها
ما لم يكن منها لها زاجر
إنه لو كان عند هؤلاء التاركين الصلاة في الجماعة عقل صحيح لما أهملوا حظهم من هذا الفلاح والمنادي ينادي فيهم: حي على الصلاة حي على الفلاح. والنبي ﷺ يقول: «من دعي إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[234]. ويقول: «إن الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق فيمن سمع داعي الله بالصلاة، ثم لا يجيب»[235]، وقد هم رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة.. لاسيما إذا كان هذا التارك للصلاة في الجماعة من المنتسبين للعلم أو من الأساتذة المعلمين، فيسمع النداء ثم يصر مستكبرًا عن الحضور إلى المسجد، فإنه يكون فتنة للعامة؛ لأن تخلفه بمثابة الدعاية السافرة والإعلام منه بهجران المساجد، حيث يتوهم العامة بنظرهم إليه أن صلاة الجماعة ليست بواجبة. والنبي ﷺ قد حذر من الاغترار بمثله، فقال: «ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة في الجماعة فيتخلف بتخلفهم آخرون، أولئكم شراركم وأولئكم شراركم»[236]. لأن الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر. وقال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ فِي بَرٍّ، لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ جماعة، إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةِ»[237].
ومن المشاهد بالتجربة والاعتبار أن الذين لا يشهدون الصلاة في الجماعة أنهم غالبًا لا يصلون وحدهم؛ لأن التهاون بالشيء مدعاة إلى تركه.
إن رأس العلم خشية الله، فلو كان عند هؤلاء المنتسبين للعلم نصيب من خشية الله لما أهملوا حظهم من حضور الصلاة في الجماعة التي من حافظ عليها كان في ذمة الله وعهده ورعايته، كما في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي»[238] وقال: «مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيْامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ»[239]، والمتخلف عن الجماعة قد خسر هذا الخير كله.
إن أعظم الناس بركة وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس وعنده جلساؤه وأصحابه وأولاده وخدمه، فيسمع النداء بالصلاة فيقوم إليها فزعًا وفرحًا ويأمر من عنده بالقيام إلى الصلاة معه فيؤمُّون مسجدا من مساجد الله لأداء فريضة من فرائض الله.. يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم.. أولئك الميامين على أنفسهم والميامين على جلسائهم وأولادهم ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾ [الزمر: 18].
وبضد هؤلاء قوم يجلسون في المجالس وفي المقاهي وفي النوادي وفي ملاعب الكرة، فيسمعون النداء بالصلاة ثم لا يجيبون.. ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية، قد استحوذ عليهم الشيطان ﴿فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩﴾ [المجادلة: 19] فهؤلاء هم المشائيم على أنفسهم والمشائيم على جلسائهم وأولادهم.
يشقى رجال ويشقى آخرون
بهمويُسعد الله أقوامًا بأقوام
أما التارك للصلاة بالكلية، بحيث يمر عليه اليوم واليومان والشهر والشهران وهو لا يصلي وربما يتعذر بعدم طهارة ثوبه وسراويله.. فهذا كافر قطعًا بشهادة رسول الله ﷺ عليه ﴿وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ ٦١﴾ [طه: 61] ففي الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[240]. وقال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[241]. وروي «لَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ»[242]. إن موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد؛ لأن الصلاة عمود دين الإسلام وهي آخر ما يُفقد من دين كل إنسان.
ولهذا كان العلماء يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حدثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين وأنه مؤمن، وإن حدثوا بأنه لا حظ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه وكل إناء ينضح بما فيه.. ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ﴾ [التوبة: 11].
خسـر الذي ترك الصلاة وخابا
وأبى معادًا صالحًا ومآبا
إن كان يجحدها فحسبك أنه
أضحى بربك كافرًا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل
غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له
إن لم يتب حد الحسام عقابا
وقد حكى بعض العلماء إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة عمدًا[243]، كما أن أئمة المذاهب الأربعة قد أجمعوا على كفر من استباح ترك الصلاة، إذ لا يصر على ترك الصلاة مؤمن بوجوبها.. فحافظوا على فرائض ربكم وخذوا بأيدي أولاكم إلى الصلاة في المساجد معكم، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها ومجاهدته عليها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، ولأنها بمثابة الدواء تقيم اعوجاج الولد وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر وتصده عن الفحشاء والمنكر.. وإنكم متى أهملتم تربية أولادكم فلم تهذبوهم على فعل الصلاة في المساجد معكم، فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَمَن يَعۡشُ﴾ - أي يعرض - ﴿عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧﴾ [الزخرف: 36-37].
أما إذا ترك الوالد الصلاة، فإن الولد يتأسى به في تركها؛ لأن الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر، وإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد الراعي فسدت الرعية. فمتى ترك الوالد الصلاة تركها الولد وتركتها الزوجة والبنات، أو شرب الوالد المسكرات شربها الولد أو شرب الدخان (التنباك) شربه الولد، أو أطلق لسانه باللعن والشتم عند أدنى مناسبة، أطلق أولاده ألسنتهم بهما؛ لأن هذا بمثابة التعليم الذي ينطبع في أخلاقهم، والجريمة جريمة المربي الذي لم يؤسس فعل الخير في أولاده، كما يجب على المرأة المحافظة على واجبات دينها من طهارتها وصلاتها وأن تأمر بذلك أولادها وبناتها، فإنها مسؤولة عن حسن تربيتهم. وفي الحديث: «الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعَيَّتِهَا» [244].
فيا معشر شباب المسلمين، إن الله سبحانه قد شرفكم بالإسلام وفضلكم به على سائر الأنام، متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن دين الإسلام هو بمثابة الروح لكل إنسان، فضياعه من أكبر الخسران وإنه ليس الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.. لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه.. فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعو الناس إليه تكونوا من خير أهله فإنه لا إسلام بدون العمل، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ﴾ [التوبة: 71]، فمتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم أو لحاجة العلاج أو لحاجة التجارة فمن واجبه أن يظهر إسلامه في أي بلد يحل به فيدعو إلى دينه وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلوات وجب عليه أن يبادر بأدائها في وقتها فيأمر من عنده من جلسائه وزملائه بأن يصلوا جماعة حتى يكون مباركًا على نفسه ومباركًا على جلسائه وزملائه.
أما إذا أهملتم تربية أنفسكم وأولادكم وضيّعتم فرائض ربكم ونسيتم أمر آخرتكم وصرفتم جل عقولكم وجل أعمالكم واهتمامكم للعمل في دنياكم واتباع شهوات بطونكم وفروجكم.. ولم ترجعوا إلى طاعة ربكم صرتم مثالاً للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم السيئة التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالحين الذين شرفوا عليكم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. فانتبهوا من غفلتكم وتوبوا من زللكم وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
* * *
[233] رواه الترمذي من حديث الحارث الأشعري، وقال: حسن صحيح. وروى النسائي بعضه وابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم. [234] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة. [235] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما من حديث أبي الدرداء. [236] أخرجه عبد الرزاق من حديث عمر بن الخطاب. [237] رواه أحمد والطبراني من حديث معاذ بن أنس. [238] رواه ابن ماجه بسند صحيح من حديث سمرة. [239] رواه مسلم وأبو داود من حديث عثمان. [240] أخرجه الطبراني من حديث جابر. [241] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث جابر، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، والحاكم من حديث بريدة. [242] رواه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طُهُورَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ»... إلخ. [243] قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ: أن تارك الصلاة كافر. وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها - كافر. وقال الحافظ عبد العظيم المندري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا لتركها حتى يخرج جميع وقتها: منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء، ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم. [244] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.
ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». فهذه هي أركان الإسلام لمن سأل عن الإسلام وهي الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وكل من تأمل القرآن يجده مملوءًا بالأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الصلاة عمود دين الإسلام كما أن الزكاة أمانة الله في مال كل إنسان، لأن الله سبحانه قد افترض في أموال الأغنياء بقدر الذي يسع الفقراء، ولن يجهد الفقراء أو يجوعوا أو يعروا إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الواجب في مالهم، وقد قال النبي ﷺ: «أُمِرْتُ بِأَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّها». رواه البخاري ومسلم.
ولهذا استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، وعدُّوهم مرتدين بمنعها، ولما بلغ عمر بن الخطاب أن قومًا يفضلونه على أبي بكر قال: أما إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما مات رسول الله ﷺ ارتدت العرب فمنعت زكاتها شاءها وبعيرها، فاتفق رأينا - أصحاب محمد ﷺ- أن أتينا إلى أبي بكر الصديق فقلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله ﷺ كان يقاتل الناس بالوحي والملائكة يمده الله بهم وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك فإنه لا طاقة لك بقتال العرب كلهم. فقال: أوكلكم رأيه على هذا؟ قلنا: نعم. قال: والله لإَِنْ أَخِرّ من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي. ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها الناس، إن قل عددكم وكثر عدوكم ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون.. قوله الحق ووعده الصدق، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]، و ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩﴾ [البقرة: 249]. والله - أيها الناس - لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لجاهدتهم عليه واستعنت بالله عليهم وهو خير معين، والله - أيها الناس - لو أفردت من جمعكم لسللت سيفي حتى أبلي في سبيل الله بلوى أو أقتل في سبيل الله قتلاً. قال عمر: فعلمنا أنه الحق فاتبعناه حتى ضرب الناس له بعطن.
وإنما استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة من أجل أن الفقراء شركاء الأغنياء في القدر المفترض لهم في أموال الأغنياء، فمتى أصر الأغنياء على منعه وجب على الحاكم جهادهم بانتزاعها منهم ودفعها إلى فقرائهم، وهذه هي الاشتراكية الشرعية التي نزل بها الكتاب والسنة على أن في المال حقا سوى الزكاة.
إنه عند حلول حول الزكاة وطلب الفقراء من الأغنياء حقهم منها وقالوا: آتونا من مال الله الذي آتاكم. فعند ذلك يتبين التاجر المؤمن الأمين من التاجر الخائن المهين، فالتاجر المؤمن الأمين يحاسب نفسه ويراقب ربه ويبادر بأداء زكاته طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.
فهو يعلم من واجبات دينه أن هذا المال فضل من الله ساقه إليه واستخلفه عليه ليمتحن بذلك صحة إيمانه وأمانته ﴿لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ﴾ [النمل: 40]، فهو يشكر الله الذي فضله بالغنى على كثير من خلقه.
وأداء الزكاة هو العنوان على شكر نعمة الغنى بالمال، لهذا ترى الفقراء يلهجون له بالثناء والدعاء بألسنتهم أو بقلوبهم ويقولون: تقبل الله منك ما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورًا وأجرًا.
أما التاجر الخائن المهين، فإنه يؤثر محبة ماله على طاعة ربه ويستبيح أكل زكاته وحرمان فقراء بلده منها، فهو يعدها مغرمًا، أي يجعلها بمثابة الغرم الثقيل كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا﴾ [التوبة: 98]، وكذلك من الحضر من يتخذ ما ينفق في سبيل الزكاة والصدقة والصلة مغرمًا، فهو بمثابة الغرم الثقيل في نفسه، كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوق
مغارم في الأقوام وهي مغانم
وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا[245]. ولهذا يستحب للمؤمن عند دفع زكاته أن يقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.
سميت الزكاة زكاة من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه، كما أنها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل وتطهره، يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103] وقد أقسم رسول الله ﷺ أنها ما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ: 39].
فلو جربتم لعرفتم، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حُرم انحرف، فاسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩﴾ [الحشر: 9].
فبادروا بزكاة المال إن بها
للنفس والمال تطهيرًا وتحصينا
أتحسبون بأن الله أورثكم
مالاً لتشقوا به جمعًا وتخزينا
أو تقصـروه على مرضاة أنفسكم
وتحرموا منه معترًّا ومسكينا
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل، ثم نعود ونقول: إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ﴾ [البقرة: 245]. فحصنوا أموالكم بالزكاة فإنها ما بقيت الزكاة في مال إلا أفسدته وأذهبت بركته، جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أنا ذو مال كثير وأهل وحاضرة، فأخبرني ماذا يجب علي في مالي. فقال: «تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ الْمِسْكِينِ، وَالْجَارِ، وَالسَّائِلِ»[246] فأرشده النبي ﷺ إلى ما ينبغي أن يفعله.
فالمال غاد ورائح وموروث عن صاحبه، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر، فأيما رجل غمره الله بنعمته وفضله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله وتنقبض يده من أداء زكاته ومن الصدقة منه والصلة لأقاربه والنفقة في وجوه البر والخير الذي خُلق لأجله إنه لرجل سوء وتاجر فاجر قد بدل نعمة الله كفرًا وحل بغناه دار البوار ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥﴾ [التوبة: 35] فحذار حذار أن يقول أحدكم: هذا مالي أوتيته على حذق مني بكسبه حتى كثر ووفر. ولكن ليقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ﴾ [النمل: 40] فأداء الزكاة هو العنوان على شكر نعمة الغنى بالمال، كما أنه الدليل والبرهان على الأمانة وصحة الإيمان. وفي الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» أي تبرهن عن إيمان مخرجها وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله، وسميت الزكاة صدقة لكونها تصدق وتحقق إيمان مخرجها، كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق، يقول الله تعالى: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ﴾ [التوبة: 67]، أي عن أداء زكاة أموالهم. إن بعض الناس في حال فقره يعد نفسه ويمنيها أن لو أغناه الله لأنفق وتصدق وأدى زكاة ماله، فلما حقق الله آماله وكثر ماله فر ونفر وبخل واستكبر، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة: 76-77].
والزكاة قدر يسير يترتب عليها أجر كبير وخلف من الله كثير، وهي في النقود وفي مال التجارة ربع العشر، ويستحب للمسلم أن يجعل له شهرًا معينًا معلومًا يحصي فيه ماله ويخرج زكاته، فبعض الناس يستحب إخراجها في المحرم إذ إنه بدء السنة، وبعضهم يجعلها في رمضان لفضل الصدقة والنفقة فيه، غير أنه لا يجوز أن ينتقل في دفعها من المحرم إلى رمضان، أما تعجيل الزكاة قبل حولها فيجوز للحاجة الحاضرة بخلاف تأخيرها عن وقتها فإنه لا يجوز، ففي خمسمائة ريال إذا حال عليها الحول اثنا عشر ريالاً ونصف، وفي أربعة آلاف ريال مائة وفي أربعين ألفًا ألف واحد، وهكذا الحساب جرى على هذا المنوال.
والأوراق المتعامل بها عند الناس المسماة بالنيطان والدولارات والجنيهات الإسترلينية هي بمثابة نقود الذهب والفضة يجب فيها الزكاة على حسب أثمانها في البلد.
ومن له وديعة نقود في البنك أو عند تاجر من التجار، وجب عليه أن يخرج زكاتها عند رأس الحول. فالذين يودعون النقود ثم لا يؤدون زكاتها هم آثمون وعاصون، وجدير بهذه النقود التي لا تؤدى زكاتها أن تُنتزع منها البركة وأن يحل بها الشؤم والفشل ويحرم صاحبها من بركتها، لأنها ما بقيت الزكاة في مال إلا أهلكته، وما هلك مال في بر ولا بحر ولا جحود ولا عصب إلا بحبس الزكاة عنه.
والمال المجعول أسهمًا في شركة الإسمنت أو شركة الكهرباء أو شركة الأسمدة أو الملاحة أو شركة الأسماك أو أي شركة من الشركات، فإنه يجب فيه على صاحبه الزكاة عند رأس الحول، بحيث يخرج زكاته على قدر قيمته، أشبه عروض التجارة لأنة لو أراد بيع رأس ماله لباعه من ساعته، وإذا تحصل صاحبه على ربح فإنه يخرج زكاته عندما يقبضه، لأن ربح التجارة ملحق برأس مال التجارة.
وكذلك العقار المعد للإيجار، فقد صار في هذا الزمان من أنفس أموال التجار، حتى إن أحدهم ليؤجر العمارة الواحدة بمائة ألف أو بخمسين ألفًا أو أقل أو أكثر في السنة الواحدة، وما كان شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام ليهمل هذا المال الكثير بدون إيجاب حق فيه للفقير، والنبي ﷺ أمر أن تخرج الصدقة أي الزكاة من الذي نعده للبيع وما أعد للكرى، فهو بمثابة ما أعد للبيع والشراء أشبه الحلي المعد للكرى، فإن فيه الزكاة بإجماع العلماء، ولسنا نقول بإيجاب تثمين العقار وإخراج زكاة قيمته، لأن فيه إجحافًا للملاك، ولا نقول بإسقاط زكاته فإن فيه إجحافًا للفقراء، وإنما القول القصد الوسط في هذا المقام الهام: أنه يجب إخراج الزكاة من غلة العقارات، فمن تحصل على أربعة آلاف أخرج زكاتها مائة ريال، أو تحصل على أربعين ألفًا أخرج زكاتها ألفًا واحدًا، أو أربعمائة ألفٍ أخرج زكاتها عشرة آلاف.
وليس على المسلم زكاة في البيت الذي يسكنه، ولا في السيارة التي يركبها، ولا في السيارة التي يعيش عياله من كسبها، ولا في آلات النجارة أو الحدادة التي يمتهن بها ويتكسب بها، كأدوات البناء وغيرها؛ قياسًا على العوامل التي أسقط النبي ﷺ الزكاة فيها.
وتجب الزكاة في حلي النساء، أي المصاغات من الذهب الموجودة عند النساء المثريات اللاتي يتخذنه خزينة لا زينة، فيجب أن تخرج زكاته مصوغًا على حسب قيمته. فمتى كانت المصاغات تبلغ أربعة آلاف ريال أخرجت زكاته مائة ريال، أو أربعين ألفًا أخرجت زكاته ألفًا واحدًا، ويجري الحساب الزائد والناقص على حسب ذلك. أما المصاغات التي تستعملها المرأة في الزينة وتعيرها غيرها، فقد رجح الفقهاء سقوط الزكاة فيه، لأن زكاته لبسه وإعارته.
والزكاة في النقود وفي عروض التجارة وفي الإبل وفي الغنم هي من أسباب بركة المال ونموه وحفظه من الآفات، وأكثر ما يجني على المال بالهلاك والتلف والشؤم والفشل ونزول الآفات من الجرب وغيره. كل هذا من أسباب منع الزكاة، أضف إلى ذلك كونه يعذب به صاحبه ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥﴾ [التوبة: 35].
* * *
[245] رواه البزار عن علي بن أبي طالب. [246] رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.
اعلم أن الله سبحانه قد فصل من يستحق الزكاة بقوله: ﴿۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ﴾ [التوبة: 60]، فأحق المستحقين للزكاة هم الفقراء. وقد بدأ الله بذكرهم لشدة العناية بهم من أجل حاجتهم وهم من لا يجدون شيئًا.
ثم المساكين وهم من يجدون بعض كفاية القوت وينقصهم بعضها، ويكونون مستحقين للزكاة ولو عنده بيت يؤجره أو سيارة يتكسب بها، أو عنده إبل يعيش عياله من لبنها أو يكون قويا مكتسبًا ولكن أجرته لا تقوم بكفاية عيشة أهله وعياله لتمام سَنتهم، فيعطى من الزكاة قدر كفايته وعياله، لقول عمر: أعطوهم من الزكاة ولو راحت عليهم من الإبل كذا وكذا.. لأن هذه الإبل للبدوي بمثابة البيت الذي يسكنه فيؤخذ منه زكاتها. ويعطى من زكاة غيره ما يكفيه وأهله وعياله لكفاية سنتهم، ومن له راتب شهري مقرر من الحكومة قد يكفيه لسَنته فإنها لا تحل له الزكاة، أما إذا كان لا يكفيه لتمام السنة فإنه يجوز أن يعطى من الزكاة.
وأما قول النبي ﷺ في حديث عدي بن الخيار: «إِنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ»[247] فإنه حديث صحيح لكنه محمول على الكسب الذي يكفيه ويكفي أهله وعياله، أما إذا لم يكف كسبه وأجرة عمله لكفاية أهله وعياله، فإنه يُعطى من الزكاة ما يكفيهم لدخولهم في عموم المساكين، فإن المسكين المستحق للزكاة قد يكون عنده سيارة يتكسب بها أو سفينة أو بيت يؤجره ولكنه لا يكفيه دخله لقوته تمام السنة.
وأما الغارم في نفسه: فهو الذي تتراكم عليه الديون، أو يصاب بحاجة تذهب ماله من حريق أو نهب، أو تحمل حمالة مال من ديات وغيرها في سبيل الإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين، فيعطى من الزكاة بقدر ما يؤدي ضمانته.
وقوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾، فسره بعض الفقهاء بالمجاهدين. وقيل: إنه يشمل كل فعل لله من بناء المساجد والقناطر وفتح الطرق والمدارس والمستشفيات وسائر ما ينفع الناس.
وأما ﴿وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ﴾ فإنه المسافر الذي انتهى إلى بلد وقد نفدت نفقته فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده.. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 12 ربيع الأول سنة 1397هـ.
* * *
[247] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي عن عبيد الله بن عدي.