مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الثاني
أولاً: قسم العبادات
(1) أحكام منسك حج بيت الله الحرام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام. اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الكرام.
أما بعد:
فإن الله سبحانه جعل الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها، هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.
فلما مضى شهر الصيام أقبل شهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه. فكذلك من حج البيت فلم يرفث، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
وهذا التكفير إنما يقع في صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما الكبائر مثل: القتل، والربا، والزنا، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس، فهذه لا يكفرها الحج، ولا الصلاة، ولا الصيام، وإنما تكفر بالتوبة، ورد المظالم.
ثم إن الله سبحانه قد بنى دين الإسلام على خمسة أركان؛ الخامس منها: حج بيت الله الحرام. وخطب النبي ﷺ فقال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ». فقام الأقرع ابن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ. الْحَجُّ مَرَّةً، وَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» رواه الخمسة إلا الترمذي. وأصله في مسلم. يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ﴾ [الحج: 27-28] وهذه المنافع التي يشهدها الحاج، شاملة لمنافع الدنيا، ومنافع الآخرة.
فمن منافع الدنيا: أن يلقى المسلمون بعضهم بعضًا في بلد مَن دخله كان آمنا. فيتعارفون ويتعاشرون ويتواصلون ويتناصحون، فيفكرون في علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم وإزالة الإحن والشحناء من بينهم. كما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر أمراء الأمصار وسائر العمال بأن يلقوه في موسم الحج، فيسأل كل واحد عما تولاه من شؤون دولته، وما تحتاجه من الإصلاح والتعديل.
وأما منافع الآخرة: فبما يحصل لهم من المغفرة لمن أخلص نيته، وأصلح عمله، ففي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ، إِنْ سَأَلُوهُ أَعْطَاهُم، وَإِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنْ أَنْفَقُوْا أَخْلَفَ اللهُ عَلَيْهِمْ» رواه النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٧﴾ [آل عمران: 97] وعن أنس قال: قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». رواه الدارقطني وصححه الحاكم، والراجح إرساله. وشرط الفقهاء الأمن على نفسه من خوف الهلاك.
والحج هو من الشرائع القديمة. فكان الأنبياء وأُممهم المطيعون لهم يحجون البيت الحرام، كما في الحديث: أن النبي ﷺ مرّ بوادي عسفان، فقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا الْوَادِي هُودٌ، وَصَالِحٌ، عَلَى بَكَرَاتٍ خِطْمُهُمَا اللِّيفُ، يَحُجُّونَ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»[1].وقال: «لَقَدْ مَرَّ بَالرَّوْحَاءِ سَبْعُونَ نَبِيًّا فِيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»[2] وكانت قريش تحجه قبل الإسلام، غير أنهم أدخلوا فيه عبادة الأصنام؛ لأن هذا البيت هو أول بيت أُسس في الأرض لعبادة الله عز وجل وللصلاة فيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٧﴾ [آل عمران: 96-97].
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن أول بيت وضع في الأرض؟ قال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قلت: ثم بعد هذا؟ قال: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى». قلت: كم بينهما؟ قال: «أَرْبَعُوْنَ عَامًا».
[1] رواه أحمد والبيهقي من حديث ابن عباس. [2] رواه أبو يعلى والطبراني من حديث أنس.
فتح النبي ﷺ مكة عام ثمانية من الهجرة. وفي السنة التاسعة أمر النبي ﷺ أبا بكر بأن يحج بالناس، وكان عدم مبادرته إلى الحج في هذه السنة؛ أن أعمالاً منكرة يعملونها في الطواف؛ وذلك أنهم يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف بها، وأنزل الله: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ﴾ [الأعراف: 28] ولهذا أرسل النبي ﷺ عليًّا بأن ينادي في الناس بسورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد؛ فأجله إلى مدته: ﴿أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ﴾ [التوبة: 3].
وروى مسلم في صحيحه عن جابر: مكث النبي ﷺ تسع سنين لم يحج. وفي السنة العاشرة أذن في الناس: أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويحج معه، ويعمل مثل عمله. قال جابر: فخرج رسول الله ﷺ حتى أتى ذا الحليفة - وهي ميقات أهل المدينة - فنزل بها رسول الله ﷺ وبات بها تلك الليلة، فولدت أسماء بنت عميس - زوجة أبي بكر - محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله ﷺ قالت: كيف أصنع؟ فقال لها رسول الله ﷺ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي[3] بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» فدل هذا الحديث على أن الحائض والنفساء تغتسل للإحرام وتحرم، كما يحرم سائر الناس، وإحرامها صحيح. قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة.
ثم إن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل وتطيّب، قالت عائشة رضي الله عنها: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمه حين أحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت[4].
فطيب الرجال: ما ظهر ريحه وخفي لونه كدهن الورد. وطيب النساء: ما ظهر لونه وخفي ريحه.
[3] الاستثفار: أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملويًّا ثم يخرجه. واستثفرت الحائض: أي اتخذت خرقة عريضة بين فخذيها تشدها في حزامها. [4] متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
ثم إن رسول الله ﷺ تجرّد لإحرامه واغتسل، فأحرم في إزار ورداء، وصلى ركعتين بعد إحرامه. والإحرام: هو نيّة الدخول في نسك الحج والعمرة متمتعًا، ولا يلزمه التلفظ بالنيّة، بل لو أحرم كما يحرم الناس صح، ويصير متمتعًا، ولو لم يتلفظ بنية الحج، وهذا هو الظاهر من فعل الصحابة. وإن شاء جعل إحرامه مفردًا، أو إذا طاف طواف القدوم وسعى للحج بقي على إحرامه حتى يرجع من عرفة، وهذا اختيار بعض الصحابة كعمر وعثمان، وبه يسقط عن الحاج مفردًا دم النسك.
قال جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ ناقته القصواء، فلما استوت به على البيداء نظرت إلى مد بصري من بين راكب، وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله ﷺ بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن. فما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». وأهلَّ الناس بالذي يهلون به، ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.
ومعنى: لبيك، أي ملازمًا لطاعتك، مجيبًا لدعوتك، وهي من ألطف التحيات التي يستجيب بها المدعو لمن دعاه، فإنك إذا دعوت شخصًا فأجابك بقوله: لبيك، فإن محبته تتغلغل في قلبك.
وأصل التلبية: أن الله سبحانه لمّا أمر نبيه إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، فامتثل أمر ربه طائعًا، وساعده ابنه إسماعيل مسارعًا، فلما فرغا من بنائه أمره بأن ينادي في الناس بالحج، فقال: يا رب صوتي ضعيف، فمن ذا الذي يجيبني؟ قال الله: عليك الصوت، وعلينا البلاغ. فصعد جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس، إن الله قد بنى لكم بيتًا فحجوا. فالحاج في تلبيته يجيب نداء ربه لما دعاه إلى بيته، ويقول: لبيك اللهم لبيك.
فسار رسول الله ﷺ في طريقه حتى لقي ركبًا بالروحاء، فقال: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» فرفعت امرأة إليه صبيًّا، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»[5] فدل هذا الحديث: على استحباب إحرام الصبي للحج، بحيث يحرم عنه وليه، ويطوف به ويسعى به ويرمي عنه ويفدي له، إن كان إحرامه بالتمتع، وأن إحرامه له هو من باب الاستحباب لا الوجوب، وإنما شرع للتمرين على العبادة، لكن هذا الحج لا يجزيه عن حجة الإسلام.
ثم سار النبي ﷺ في طريقه فجاءت امرأة من خثعم، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»[6]. فدل هذا الحديث على جواز حج المرأة عن الرجل، وأن المرأة يجوز لها أن تحج عن أبيها وعن أُمها، كما يجوز للرجل أن يحج عن أبيه وعن أمه، إذا حج عن نفسه.
وسألته امرأة فقالت: يا رسول الله إن أُمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»[7]. فدل هذا الحديث على أن من نذر فعل طاعة من الطاعات، كمن نذر أن يحج، أو نذر أن يصوم عشرة أيام، أو أن يتصدق بكذا وكذا، فإن هذا النذر نذر طاعة، قد أوجبه على نفسه فلزمه الوفاء به. فقد مدح الله في كتابه الذين يوفون بالنذر، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ»[8] والنذر على الإطلاق مكروه وليس بمحبوب؛ لأن الناذر يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»[9] لكنه متى ألزم نفسه بنذر الطاعة من الحج أو الصيام أو الصدقة؛ وجب عليه الوفاء به، فإن مات قبل وفائه قضاه عنه وليه؛ لما في الصحيحين عن عائشة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، فهو الذي يقضى عن الميت؛ لأنه بمثابة الدين للناس الذي يتعين المبادرة بقضائه.
[5] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [6] رواه مسلم عن عبد الله بن عباس. [7] رواه البخاري عن ابن عباس. [8] رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة. [9] متفق عليه من حديث ابن عمر بلفظ: «إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُ».
الحج عن الغير: ثبت فيه أحاديث تدل على جواز حج الأولاد عن آبائهم. فمنها:
في الصحيحين، عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ» متفق عليه.
ولهما: من حديث سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم. تصدق عن أُمك».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن أبي أوصى أن يعتق عنه بمائة رقبة، وإن هشامًا أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون. أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتَ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ وَنَفَعَهُ» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.
وعن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ». رواه البخاري.
ولمسلم وأبي داود والترمذي عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند النبي ﷺ فجاءت امرأة، فقالت: يا رسول الله. إني تصدقت على أُمي بجارية، وإن أمي ماتت. فقال: «وَجَبَ أَجْرُكِ عَلَى اللَّهِ، وَرُدَّهَا إِلَيْكِ الْمِيرَاثُ» قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ فقال: «نَعَمْ، صُومِي عَنْهَا». قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا».
وفي البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
فهذه النصوص هي التي استمد منها الفقهاء جواز إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى، وكلها وقعت سؤالاً من الأولاد عن واجبات آبائهم الواجبة بالشرع وبالنذر، فأفتاهم رسول الله ﷺ بجواز قضائها. وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه غيرها، لكون الولد بضعة من أبيه، كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»[10] ولهذا تجعل أفراط المؤمن في كفة ميزانه. وفي الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[11].
وقد رجح بعض العلماء جواز قضاء الأبناء والبنات لواجبات آبائهم. قال ابن عبد القوي:
ويشرع أن يُقضـَى عن الميْت نذرُه
كحجٍّ وصومٍ واعتكافٍ بمسجدِ
ونذرُ صلاةِ النفل يُقضـَى بأوكد
ولو قيل يقضـَى فرضُه لمُبعدِ
ومحل قضاء واجبات الميت متى أفطر في رمضان في مرضه، ثم عوفي في وقت يتمكن فيه من قضاء ما عليه، فتوفي قبل أن يقضي، فهذا الذي يُقضى عنه صومه أو يُكفَّرُ عنه عن كل يوم مسكين. أما إذا توفي في مرضه، وقد أفطر شيئًا من رمضان، فإنه لا يجب في حقه الصيام ولا الإطعام، لكونه معذورًا بالمرض - قاله في المغني - سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو بالنذر، لعموم النصوص الواردة في هذا الخصوص. أما غير الولد، فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابها إلى الميت. ولكن يعارضه حديث ابن عباس: أن النبي ﷺ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. فقال: «مَنْ شُبْرُمَةُ؟» قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: «أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قال: لا. قال: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رواه أبو داود وابن ماجه.
قال ابن حجر في بلوغ المرام: الراجح عند أحمد وقفه. فسقط الاحتجاج به. وقد اختلف الأئمة فيمن مات قبل أن يحج حجة الإسلام:
فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الحج عنه لأنها عبادة بدنية لا يجوز الاستنابة فيها، كالصلاة والصيام - وكذا قال الإمام مالك - وأنه يسقط عنه الحج فلا يحج عنه، إلا إذا أوصى به، أخرج من ثلثه.
وقال الشافعية: يحج عنه، ولو من الميقات.
وقال فقهاء الحنابلة: إذا مات قبل أن يحج وجب أن يخرج من ماله ما يحج به عنه من بلده. وهذه من مفردات المذهب. قال ناظمها:
ويلزمُ الورّاث أن يحجوا
من أصل مال الميت عنه يخرجوا
هذا وإن لم تك في الوصيه
حتى ولا تجزئ ميقاتيه
قال العلامة ابن القيم في الإعلام على قوله ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[12]. قال: فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، فقالت: يصام عنه الفرض والنذر. وأبت طائفة ذلك وقالت: لا يصام عنه الفرض ولا النذر. وفصلت طائفة، فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي. وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه، وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يُسلم أحد عن أحد؛ فكذلك الصيام، لا يصوم أحد عن أحد، ولا يحج أحد عن أحد.
وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدَّيْن، فيقبل قضاء الولي له، كما يقضي دينه، وَطرْدُ هذا أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان معذورًا، وبدون العذر لا يجوز الإطعام، ولا الصيام. فأما المفطر من غير عذر أصلاً، فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبة أحد عن أحد، ولا صلاة أحد عن أحد، ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلته، وأسفر صبحه، فذاك هو شرع الله ودينه، والسبيل الموصل إلى رضاه، والفوز بجنته[13].
فمتى علمنا بهذا، تبين لنا بطريق الوضوح أن ما يفعله الناس من التوسع في الاستنابة في الحج، بحيث يدفعون دراهم إلى النائب ليحج عن الميت، فهذا لا يصح، ولا يصل إلى الميت ثواب هذا العمل، كما أنه لا حج ولا أجر للنائب؛ لكونه يبيع عملاً صالحًا بدراهم، ويدخل في عموم قوله: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
[10] متفق عليه من حديث المسور بن مخرمة. [11] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. [12] متفق عليه من حديث عائشة. [13] المجلد الثالث من تهذيب السنن ص279.
لقد طلب مني أحد العلماء الأجلاء أن أُدلي بدلوي في استنباط طريق الفقه الشرعي في جواز الإحرام بالحج من جدة أو عدمه.
لهذا وجب عليَّ أن أُبين للناس ما ظهر لي في حكمه حسب ما وصل إليه علمي، وقد يخفى علي ما عسى أن يظهر لغيري، إذ الحق فوق قول كل أحد، وفوق كل ذي علم عليم.
وإنه مما لا خلاف فيه ولا خفاء ما ثبت في البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة - وتسمى الآن آبار علي - وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة».
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُتِح هذان المصران (العراق ومصر) أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله ﷺ حدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحدَّ لهم (أهل العراق) ذات عرق.
وهذه المواقيت المكانية تعد من معجزات النبوة، حيث وقَّتها رسول الله ﷺ لهذه البلدان قبل إسلام أهلها، كما أشار إليه الناظم بقوله:
وتعيينُها من معجزات نبيِّنا
لِتعيينه من قبل فتح المعدد
لكون النبي ﷺ لم يفتح في زمنه سوى مكة والطائف، والذي حج مع النبي ﷺ هم أهل المدينة، وعرب الحجاز ومن يليهم من أهل نجد، وبعض من أسلم من أهل اليمن، فكانوا قليلين بالنسبة إلى الحجاج في هذه السنين.
وهذا التحديد بهذه الصفة، وقع حيث كان حج الناس على الدواب من الإبل والخيل والحمير، ويمرون بهذه الطرق، وهي المواقيت المكانية لسائر أهلها، ولمن مرّ عليها إلى يوم القيامة.
وقد انتشر الإسلام، وامتد سلطان المسلمين على كثير من البلدان التي لم يقع لها ذكر في التحديد كمصر والسودان والمغرب وسائر أفريقيا، وبلدان الترك والهند، وكثير من المسلمين الذين يسكنون في بلدان النصارى، وفي الصين واليابان وروسيا، فحيث إنهم في تلك الأزمنة لا يستطيعون حيلة في الوصول إلى مكة ولا يهتدون إليها سبيلاً، فلم يقع لهم ذكر في التحديد من جهة البحر سوى قوله: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ»[14] ومن المعلوم أن ركاب الطائرات لا يأتون إلى هذه المواقيت، ولا يمرون عليها.
وقد صار حج جميع أولئك على متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء مسافة الألوف من الأقدام في الارتفاع، حتى تهبط بهم على ساحل جدة بحيث لا يمرون بشيء من المواقيت.
والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم؛ ما وقع في هذا الزمان وما سيقع مستقبلاً.
وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله، ولو كان رسول اللهﷺ حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمُّون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه.
والحكمة في وضع المواقيت موضعها؛ أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال وقلم الأظفار والطيب، ثم التخلي عن المخيط ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار أو رداء، ثم تعليم العوامِّ كيفية الدخول في النسك. وهذه الأعمال تتطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي ﷺ في حجة الوداع نزل بذي الحليفة - ميقات أهل المدينة - ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيّب.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: إعلام الموقعين، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة، والأحوال والنيّات، والعوايد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا يطاق؛ مما يُعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وإن نسب إليها. انتهى.
وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغيير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي ﷺ في بعض الصور، من ذلك: ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قَدِمْنا على رسول الله ﷺ ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: «يَا عَمْرُو، أصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» قلت: نعم يا رسول الله. ذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩﴾ [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئًا؛ مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل: وجوب الغسل لواجد الماء.
ومثله ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله ﷺ رويجلاً ضعيفًا في أبياتهم زنا بامرأة، قال رسول الله ﷺ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ». فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» ففعلوا.
فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله ﷺ في هذا، من حالة الشدة إلى حالة التيسير والتسهيل؛ إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده، ونظرًا لضعف حاله جعلها رسول الله ﷺ جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ.
وله نظائر كثيرة. وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تُفتَى بهذا.
وهذا هو عين الفقه، ولو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية، ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية، وإلى التساهل في أمر الدين. كما أنهم الآن يعيبون كل من أفتى بالتيسير فيما يقتضيه، متى وجد العالم إليه سبيلاً، فيرمونه بالتساهل في أمر دينه، وكونه مستخفًّا بحرمات الله وحدوده؛ لأن بعض الفقهاء المتحجرة أفهامهم يميلون إلى التشديد في أقضيتهم وأحكامهم ويقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، ويجعلونها ضيقة النطاق.
وقد قال لي أحد الفقهاء في محضر محشود بكبار العلماء، قد عقد للمناظرة في قولين بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق عند حصول هذا الحشد العظيم، حينما فتحت مشارق الأرض ومغاربها لحج بيت الله العتيق بالآلات الحديثة من السيارات والطائرات حتى ضاقت الأرض، فكان من قول هذا العالم: إن من تتبع الرخص تزندق. قاله بمسمع من جميع العلماء الحاضرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين.
وخفي على هذا العالم أن هذه كلمة كبيرة عند الله، تنادي بإبطال سنة الله التي شرعها لعباده، صدقة منه عليهم ورحمة منه بهم، إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد، ولما نزل قوله سبحانه: ﴿فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ﴾ [النساء: 101]، ولما قيل للنبي ﷺ: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمِنّا؟ قال رسول الله ﷺ: «هِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[15]. فقصر الصلاة في السفر رخصة، وفطر الصائم في السفر رخصة، وفطر المريض رخصة، والمسح على الخفين رخصة، والمسح على الجبيرة رخصة. أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقًا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. وقد سمى الله الرخصة تيسيرًا في جواز فطر المريض والمسافر والشيخ الكبير، فقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185] ولما أرسل النبي ﷺ معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: «يَسِّرَا، وَلَا تُعَسِّرَا»[16]. وقال يومًا لأصحابه: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»[17]. فالتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين التي قال الله فيها: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨﴾ [الأعلى: 8].
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكمُ ضروبُ
ولا ينبغي لنا أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدماء، ليس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقًّا لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ، الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله:
والناس أكثرهم بسجن اللفظ محـ
بوسون خوف معرّة السجّانِ
والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا
في قالب ويرده في ثانِ
[14] رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. [15] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عمر بن الخطاب. [16] متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري. [17] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
إنه متى كان أصل فرض الحج موقوفًا على الاستطاعة، وكونه يسقط بجملته عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بدون استنابة على القول الصحيح، ويسقط عمن يخاف على نفسه خوفًا محققًا، فكذلك سائر واجباته، تسقط عمن لا يستطيعها بدون استنابة، ولا فدية. ومتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن جميع الطائرات التي تحمل الحاج مكلفة حسب النظام بالنزول في مطار جدة، ولا يحيد أحد عن هذا النظام الحكومي، وقد هيأت الحكومة - حرسها الله - للحجاج في مطار جدة سائر ما يحتاجون إليه، من وسائل الراحة والرفاهية، فأعدت لهم المحلات الواسعة المنظمة بالماء للشرب، وللوضوء والاغتسال، ومواضع الراحة، والصلاة، وكذا الكهرباء والأكل، بحيث يتمكنون من فعل الإحرام براحة وسعة.
ويوجد هناك من العلماء من يرشدهم إلى تعلم الدخول في النسك، وتعلم ما ينبغي لهم فعله، وبيان ما يجب عليهم اجتنابه، والنبي ﷺ قال في المواقيت: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ»[18] ومن المعلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات، وهي محلقة في السماء، لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة، ولا عرفًا، لكون الإتيان هو الوصول إلى الشيء في محله، كقوله سبحانه: ﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَا﴾ [البقرة: 189]، فإتيان البيوت هو: الوصول إليها أو دخولها، فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة، كما أنه لن يتمكن ركاب الطائرات من الإحرام في بطن الطائرة بين السماء والأرض، لكونهم مشغولين بالاضطراب والخوف من خطر الطائرة خشية وقوع الحادث بها، ولن يزالوا في خوف حتى يصلوا إلى ساحل السلامة.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن القضية هي موضع اجتهاد، وتتطلب من العلماء والحكام تحقيق النظر في تعيين الميقات لهؤلاء القادمين على متون الطائرات لحجهم وعمرتهم، ولا أوفق ولا أرفق من جعل جدة هي الميقات، إذ هي باب الدخول إلى مكة من جهة البحر، فتكون ميقاتًا لجميع القادمين إليها على الطائرات أو البواخر والسفن ليتمكن الحاج من فعل ما يسن في الإحرام، أشبه ما فعله عمر حين وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق، ويجب على جميع الكافة طاعتهم، ومتابعتهم على هذا التوقيت، لقوله سبحانه: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾ [النساء: 59]، فأولو الأمر هم: العلماء والحكام الذين تجب طاعتهم في مثل هذا، إذ هو من طاعة الله سبحانه.
وبما أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية، كونها بطرق الناس وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز، وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء، أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر ما يسن للإحرام، إذ هو مما تقتضيه الضرورة وتوجبه المصلحة ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسولﷺ.
فهذه نصيحتي للملوك والحكام وللعلماء الكرام، والله خليفتي عليهم والسلام.
[18] رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.
وسئل النبي ﷺ: ماذا يلبس المحرم؟ فقال: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»[19].
إن من سنة الإحرام: أن يتجرد الإنسان عن كل ما يعتاد لبسه، فلا يلبس القميص ولا العمائم ولا القلنسوة ولا السراويلات ولا الخفاف، وهي: الزرابيل، بل يتجرد عن كل مخيط. فيحرم في إزار ورداء يشبه أكفان الموتى، بحيث يتساوى في هيئة الإحرام الشريف والوضيع، والغني والفقير، والملك والمملوك، والوزير والصعلوك، كما يتساوون في الصلاة وفي الطواف وفي سائر العبادات. ومن بطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه.
ومتى كان الإنسان يشتكي رأسه لعِلة يجدها في نفسه إذا كشف رأسه، واحتاج لستر رأسه، فإنه يجوز أن يستر رأسه، ويفدي ما يجزئ في الأضحية، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ» رواه البخاري[20]. ولا يبطل بذلك إحرامه ولا حجُّه، بل يكفيه عن حلق رأسه أو تقليم أظفاره أو لبس المخيط من القميص والسراويل أن يفديه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، وكل هذا على التخيير، وحجه صحيح.
أما المرأة: فإن إحرامها في وجهها، فلا تلبس البرقع ولا النقاب، فتزيل عن وجهها النقاب الذي يستعمله نساء الأعراب، إلا عندما يراها أحد من الرجال، فإنها تسدل الخمار على وجهها. تقول عائشة: كانت إحدانا تكشف وجهها في إحرامها، فمتى رأينا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها[21]. فإن انتقبت المحرمة - أي لبست النقاب على وجهها - وجب عليها أن تفدي عنه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، ولا يجب عليها أن تستعمل العصابة على جبهتها لتمنع بها مس الخمار لوجهها، فهذا لم يثبت فعله عن نساء الصحابة، ولو فرض أن الخمار مس وجهها من أجل هبوب الهواء أو غير ذلك، فإن هذا لا يضرها، ولا يقدح في صحة حجها.
ثم إن رسول اللهﷺ سار في طريقه حتى أتى سَرِفًا، وهو بطرف مكة مما يلي طريق جدة فنزل به.
حكم الحيض وما يجب على من ابتليت به في سفر حجها
ثم دخل على عائشة وهي تبكي، قال: «مَا يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟» - أي حضت - فأشارت إليه، أي نعم. فقال: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[22]. وفي رواية قال: «ارفضي حجك، واجعليها عمرة» - أي قولي: لبيك عمرة وحجًّا - وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ». فالحيض: خلقة وجبلة في المرأة، خلقه الله لحكمة غذاء الجنين في البطن، كما أن صفار البيضة يغذي الفرخ حتى يتم، ولهذا الحامل لا تحيض، ومتى خرج منها الدم فإنه نقص في الحمل، ويعتبر بأنه دم فاسد لا تترك له الصلاة، ولا الصيام، وهو من مكملات المرأة، لكون المرأة التي تحيض هي المستعدة للحمل.
فالمرأة التي ابتليت بخروج الحيض عند الإحرام، أو عند قرب دخولها مكة، فإنها تدخل العمرة على الحج، وتقول: لبيك عمرة وحجًّا، فتصير قارنة، ولا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، ويكفيها لحجها وعمرتها طواف واحد، وسعي واحد، ولو بعد الوقوف ورمي الجمار. لكن إذا استمر الحيض عليها، وخافت من خروج الرفقة من مكة قبل أن تطهر، وقبل أن ينقطع عنها الدم، ولا يمكنها التخلف عنهم، فقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، مثل هذه المرأة: بأن تغتسل،وتستثفر، ثم تطوف وتسعى، وتفعل بقية حجها، ويكفيها ذلك، ويعتبر حجها صحيحًا؛ لأنها حالة ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ [البقرة: 286]، ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16] أشبه عادم الطهورين، يصلي على حسب حاله، وكذا المرأة المبتلاة بجريان الدم بما يسمى: الاستحاضة. وكذلك الرجل المبتلى بسلس البول الدائم، فكل واحد من هؤلاء يصلي على حسب حاله، حتى ولو قطر الدم على الحصير، وكذلك طواف الحج، فإنه يطوف على حسب حاله؛ إذ الطهارة للصلاة آكدُ من الطهارة لطواف الحج. وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[23] وهذا هو الذي نعتقده، ونعتمد صحة الفتوى به.
وقد رخص الفقهاء للحائض والنفساء، متى توضأت وضوء الصلاة بأن تمكث في المسجد الحرام وغيره من المساجد متى أمنت تلويثه، لكون الوضوء يخفف من حدث الحيض والنفاس، وكذا الجنابة، وقالوا: إن الصحابة كانوا يمكثون في المسجد بعد الوضوء وهم مجنبون، ولهذا قال ناظم المفردات:
وبوضوء جنب أو حائض
أو نفسا بلا نجيع فائض
لهم يجوز اللبث كالعبور
في مسجدٍ ذاك على المشهور
[19] أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. [20] متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. [21] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عائشة. [22] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [23] من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
قال جابر: ثم سار رسول الله ﷺ حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، فَرَمَل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة - والرَّمَل هو: العدْوُ مع تقارب الخُطا - واضطبع بردائه، فجعله تحت إبطه الأيمن - وهذا الرمل والاضطباع إنما يشرعان في طواف القدوم من السفر فقط، وما عدا ذلك فإنه يطوف ماشيًا بسكينة ووقار - ثم قرأ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗىۖ﴾ [البقرة: 125] فصلى ركعتين، وشرب من ماء زمزم، ثم خرج إلى المسعى، فبدأ بالصفا وختم بالمروة، فعل ذلك سبعًا، يذكر الله فيهما ويسبح ويدعو.
فلما كان آخر سعيه بالمروة قال لأصحابه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً»[24] وفي هذا دليل على تحديد نحر نسك التمتع والقران بيوم العيد وأيام التشريق، وأنه لا يجوز قبل ذلك. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[25]. فحل الناس كلهم، وقصروا من رؤوسهم، ولبسوا ثيابهم، ودارت مجامر الطيب بينهم، إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، فإنهم بقوا على إحرامهم، ولم يحلوا منه إلا يوم العيد، بعدما رموا جمارهم، ونحروا هديهم.
وفي اليوم الثامن أحرم الذين حلوا بالحج، وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها، وفي اليوم التاسع توجهوا إلى عرفات، وصلى بهم رسول الله ﷺ الظهر والعصر قصرًا وجمعًا حتى أهل مكة، فكانوا يقصرون معه الصلاة بنمرة ومزدلفة ومنى. وبعد الصلاة خطب بهم رسول الله ﷺ الخطبة العظيمة. ومما قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، فَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع رسول الله ﷺ إصبعه إلى السماء وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[26] وفي رواية قال: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[27]، فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها.
[24] رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [25. 1) أخرجه أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه. [26] رواه مسلم في باب حجة النبي ﷺ عن جابر بن عبد الله. [27] متفق عليه من حديث جرير.
إن يوم عرفة هو أفضل أيام الدنيا كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل ما قلت والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[28]. ويكثر من ذكر الله ويسبحه ويستغفر أو يسكت، إذ ليس لعرفة دعاء مخصوص، إذ المقصود الوقوف بها، لحديث «الْحَجُّ عَرَفَةُ»[29] وأنزل الله عليه بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3] وقد أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [سورة النصر]، ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ كما فسرها بذلك ابن عباس.
وفي موقف عرفة سقط رجل عن راحلته فمات. فقال رسول الله ﷺ: «غَسِّلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَجَنِّبُوهُ الطِّيبَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[30].
[28] أخرجه مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبيد الله بلفظ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. [29] من حديث رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي. [30] مثله رواه البخاري ومسلم وابن خزيمة عن ابن عباس.
إنه لم يثبت عن النبي ﷺ دعاء مخصوص بعرفة سوى قوله: «خَيْرُ الدُّعاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[31].
وبما أن الوقوف طويل وأكثر الناس لا يحسنون الدعاء، ويطلبون أن يساعدوا بما يُرجى أن يستجاب لهم به. لهذا تعيّن علينا أن نذكر طرفًا من الأدعية النبوية التي كان رسول الله ﷺ يدعو بها في سائر أوقاته، وخاصة في سجوده، إذ هي أقرب للاستجابة. والله ولي التوفيق: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»[32].
«اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[33].
«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»[34].
«اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِنِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ»[35].
«لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَالشَّرُّ كُلُّهُ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»[36].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ»[37].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكِ»([38].
«اللَّهُمَّ اقْسِمْ لِي مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ مَعَاصِيْكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنِي بِهِ جَنَّتَكْ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي، وَاجْعَلْ ثَأْرِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ عَادَانِي، وَلَا تُسَلَّطْ عَلَيَّ بذنبي مَنْ لَا يَخَافُكَ، وَلَا يَرْحَمُنِي»[39].
«اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمِكَ، عدلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلِمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيْمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي وَهَمِّي»[40].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةِ الدَّائِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِيْنِي وَبَدَنِي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي»[41].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، حُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ»[42].
«يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك نستغيث ومن عذابك نستجير، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين»[43].
«اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمُشْتَكَى، وَبِكَ الْمُسْتَعَانُ، وَأَنْتَ الْمُسْتَغَاثُ، وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»[44].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»[45].
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ»[46].
«اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ ذَكَّارًا، وَلَكَ شَكَّارًا، لَكَ أَوَّاهًا، لَكَ مُخْبِتًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي»[47].
«اللهم إنك أمرت بالدعاء ووعدت الإجابة، وقد سألتك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني، اللهم هذا الجهد وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»[48].
اللهم صل على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ولمّا غربت الشمس انصرف النبي ﷺ من عرفة وقد شَنَقَ للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحل رسول الله ﷺ وهو يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» كلما أتى حبلاً[49] من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد[50].
[31] رواه الترمذي عن ابن عمرو بن العاص، وقال: غريب. [32] أخرجه أبو داود من حديث أنس. [33] أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس. [34] متفق عليه من حديث أبي بكر. [35] أخرجه مسلم من حديث علي بن أبي طالب. [36] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [37] أخرجه ابن ماجه عن عائشة. [38] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [39] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث ابن عمر. [40] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [41] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر. [42] أخرجه أحمد من حديث شداد بن أوس. [43] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث أنس. [44] أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث عبد الله بن مسعود. [45] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [46] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [47] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [48] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [49] حبلاً من الحبال: أي المستطيل من الرمل. [50] أخرجه مسلم من حديث جابر.
إن للمزدلفة ثلاثة أسماء هي: المزدلفة، وجَمْعٌ، والمشعر الحرام. وحدُّها من عرفة إلى قرن محسر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب والجبال فهو منها. ففي أي موضع منها وقف الحاج أجزأه؛ لقول النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[51].
والأصل في ذلك قوله سبحانه: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩﴾ [البقرة: 198-199].
والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل واجب في ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، وقال الإمام مالك: إن نزل بها ثم دفع فلا شيء عليه، وإن لم ينزل بها فعليه دم، وقال في الإفصاح: أجمعوا على أنه يجب البيتوتة بمزدلفة جزءًا من الليل في الجملة، إلا مالكًا، فإنه قال: هو سنة مؤكدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. قال: واختلفوا فيمن ترك المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل، هل يجب عليه دم أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه في تركها، مع كونها واجبة عنده. وقال مالك: يجب في تركها دم، مع كونها سنة عنده. وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدم، مع كونها واجبة عندهما.
فهذه الأقوال مع اختلافها خرجت من هؤلاء الأئمة مخرج الاجتهاد منهم، لكونهم لم يجدوا عن رسول الله ﷺ نصًّا صحيحًا صريحًا في تحديد الواجب من المبيت، وهل هو الليل كله أو نصفه أو جزء منه؟ فاجتهد كل واحد منهم في القول فيه على حسب الحالة والحاجة في زمنهم، من قلة الحاجّ وسعة المكان والطرق والقدرة على تصرف الإنسان بما يريد.
وإن الأمر الذي لا نزاع فيه، هو أن النبي ﷺ نزل بمزدلفة بعد انصرافه من عرفة؛ فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ثم رقد حتى طلع الفجر، فصلى بعدما تبين الفجر، ثم وقف بالمشعر الحرام، فذكر الله، وهلله، وأخذ يدعو حتى أسفر جدًّا، ثم دفع من مزدلفة، ومعه أصحابه حتى أتى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه، وحلق رأسه، ولبس ثيابه، وبعدما أكل من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بالبيت طواف الحج، فهذا أفضل ما يفعله الحاج، إذ إنه سنة رسول الله ﷺ الفعلية وسيرة خلفائه وأصحابه حتى في حالة هذا الزمان وشدة الزحام، فإنه يكون أوفق وأرفق به، إذ إنه بعد انصرافه من مزدلفة يجد فجوة خالية من شدة الزحام بين المتعجلين والمتأخرين، فهذا أفضل ما ننصح به، وندعو الناس إليه، لكنه لا يلزم أن يتيسر هذا التسهيل لكل أحد، فإن الحاج زمن النبي ﷺ وزمن الخلفاء، وفي كل السنين السابقة كانوا قليلين، فلا يحج من أهل البلدان البعيدة أحد، ولا يحج من أهل البلدان القريبة إلا النادر.
أما الآن، وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات، وسهلت المواصلات بوسائل المراكب الهوائية والبرية، ودُكَّت عقبات التعويق، وقُطع دابر قطّاع الطريق، وشمل الناس الأمنُ المستتب في أنحاء الحرم، وسائر السبل المفضية إليه، فمن أجله قدم الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون، وفي كل زمان يزيدون، فعظم الخطب واشتد الزحام، وصار الناس بعد انصرافهم من عرفة يسيرون مقسورين غير مختارين، يتحكم فيهم قائد السيارة، وشرطة نظام المرور، بحيث يمنعون السائق من الوقوف أو الانصراف عن طريقه، لكون أرض مزدلفة مملوءة بالناس والسيارات، وربما تمادى بهم سيرهم حتى يصلوا إلى المسجد الحرام، فيطوفون طواف الإفاضة وهم قد مروا بمزدلفة، لكنهم لم ينزلوا بها. ولأجله كثر السؤال عن حج هؤلاء، وهل هو صحيح أم لا؟
فالجواب: إننا على دين كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، ولو فكرنا فيه بإمعان ونظر، لوجدنا فيه الفرج عن هذا الحرج، وقد قيل: إن الحاجات هي أُم الاختراعات. لهذا يجب على العلماء الاجتهاد في تجديد النظر فيما يزيل عن أمتهم وقوع الخطر والضرر، والنبي ﷺ قد أرخص للظُّعُن[52] والضعفة بأن يدفعوا بالليل، ويرموا الجمرة بالليل، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة وحديث أسماء (بنتي أبي بكر) وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس.
وكما ثبت الدفع إلى مكة من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ أم سلمة ليلة المزدلفة، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. وكل الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن لم تثبت تحديد المبيت بجزء من الليل، ولا تقييده بنصفه، كما قيده الفقهاء بذلك. وترجم له البخاري في صحيحه، ما عدا أن أسماء بنت أبي بكر قالت للذي يُرحلها: هل غاب القمر؟ فقال: لا. فأخذت تصلي. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا. قال: فارتحلنا، فمضت حتى رمت الجمرة وقالت: يا بنيّ: إن رسول الله ﷺ أذن للظُّعن. ومثله قاله ابن عمر، حين دفع من مزدلفة بأهله من الليل، وكلها لا تدل على تحديد ولا تقييد.
ونتيجة الجواب عن هذا السؤال: أن حج هؤلاء يعتبر صحيحًا بدون دم، إذ هو نظير ما فعلته أُم سلمة زوج النبي ﷺ كما في حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم. وهو جنس ما فعله هؤلاء من دفعهم من مزدلفة إلى الجمرة، ثم إلى مكة لطواف الإفاضة بطريق القسر غير مختارين، وهو غاية وسعهم، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
ولأن الحاج بعد انصرافه من عرفة يمر بمزدلفة في طريقه، وقد قال الفقهاء: إن حُكم من مرّ بعرفة حكمُ من وقف بها يوم تمام حجّه. ومثله من مرّ بمزدلفة ولم يقف بها، ثم إن بقية مناسك الحج التي تفعل بعد الوقوف بعرفة، مثل المبيت بمزدلفة، والرمي، وطواف الإفاضة، كلها من الأمور التي رفع رسول الله ﷺ فيها عن أُمته الحرج في تقديم شيء على شيء منها، فإنه ما سئل يوم العيد عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[53].
وبما أنها حصلت الرخصة من النبي ﷺ في الدفع بالليل للظُّعن والضعفة، بدون تحديد ولا قيد، فإن أكثر الناس في حالة هذا الزحام الشديد قد صاروا بمثابة الظعن والضعفة، بل أشد في حالة استعمال هذه الرخصة التي قُصد بها التسهيل، فيسِّروا ولا تعسِّروا، وقد قال الإمام مالك: إن المبيت بمزدلفة سنة مؤكدة. وقال الإمام الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. وقال الإمام أبو حنيفة: ليس عليه شيء في تركه، قاله في الإفصاح. وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة والشافعية المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة، قال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى ولا مزدلفة. وقيل: أهل الأعذار، كالمريض، ومن له مال يخاف ضياعه، حكمه حكمهم في ترك البيتوتة. قال في الكشاف: جزم به الموفق والشارح، وابن تميم، وهذا كله يرجع إلى كون الدين مبنيًّا على جلب المصالح، ودفع المضار.
[51] رواه مسلم عن جابر. [52] الظُّعُن: النساء، واحدتها: ظعينة. [53] رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس.
قال الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ﴾ [البقرة: 196] فأوجب سبحانه ذبح الهدي على المتمتع من أجل ترفهه باستعمال المباحات من الطيب والنساء، ولبس الثياب فيما بين الحج والعمرة. كما أوجب الدم على القارن من أجل أنه قرن بين الحج والعمرة بعمل واحد، واكتفى عنهما بطواف واحد، لدخول الحج في العمرة إلى يوم القيامة. فوجب عليه من أجله ذبح نسك، وهو ما يجزئ في الأضحية.
وهذا الدم هو دم نسك وليس بدم جبران، لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد أو أيام التشريق، كالأضحية، ويسمى أضحية.
والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد، فقال في خطبته: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَلَيْسَ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ؟ قَالُوْا: بَلَى»[29]. ويسمى يوم النحر؛ لأن جميع المسلمين ينحرون فيه. فالحجاج ينحرون نسكهم، وأهل البلدان والأمصار ينحرون فيه أضاحيهم.
وذهب الإمام الشافعي: إلى أن دم المتعة والقران دم جبران، وبنى عليه القول بجواز ذبحه في اليوم السابع أو الثامن، أي قبل العيد. وخالفه كافة العلماء في ذلك. وحققوا بأنه دم نسك، وأنه لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد وأيام التشريق. والنبي ﷺ لما أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوا سعيهم عن العمرة؛ أنه أبدى الأسف في سوقه الهدي معه؛ والذي امتنع بسببه عن أن يحل من إحرامه. فقال ﷺ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً». فقال سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[30].
فالرسول ﷺ قد تمنى التحلل من إحرامه بعد سعيه، كما فعل أصحابه، لكنه مأمور بأن لا يحل منه حتى ينحر هديه الذي ساقه معه. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۚ﴾ [البقرة: 196]. فمحله الزماني هو يوم العيد وأيام التشريق، كما أن محله المكاني هو منى، وفجاج مكة كلها منحر. فمن نحر دم التمتع قبل العيد؛ فهو كمن ذبح أضحيته قبل العيد. والنبي ﷺ خطب الناس، فقال: «إِنَّا نُرِيْدُ أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَ هَذَا قَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ»[31].
فمن ذبح دم نسكه في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع، فإنما هو دم لحم وليس من النسك في شيء.
ويسقط دم المتعة والقران بإحداثه سفرًا مسافة قصر فيما بين الحج والعُمرة، كأن يسافر إلى المدينة أو الطائف أو جدة، فيسقط عنه دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة. قال ناظم المفردات:
مسافة القصـر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقران
سقوطه فواضح البرهان
وقد استغل هذا القول المطوفون، وأخذوا يشغلون به أذهان الناس ليتعجلوا به أكل اللحم، وانخدع لقولهم أكثر الغرباء الذين يجهلون أحكام الشرع.
وبعض العلماء غير المحققين عندما يرى عظمة مصرع الحيوان بمنى، وكونه يركم بعضه بعضًا، ولا يأكلها الناس، رأى أن يتوسط بالقول في إباحة ذبحه في اليوم السابع أو الثامن، كأنه بذلك يريد التخفيف من الذبح بمنى، وهذا من باب الاستشفاء عن الداء بالداء. إذ لو سُمح للناس بأن يذبحوا نسكهم في اليوم السابع أو الثامن فإن البيوت والشوارع والأزقة تكون منتنة مجيفة من إلقاء الجيف فيها، والفرث والدم في وقت هي مغلقة بكثرة الحجاج، بحيث لا يتمكن عمال البلدية من دخولها لتنظيفها، فينجم عن ذلك سوء النتائج، من تعفن الهواء الذي قد ينجم عنه الوباء، والوقاية خير من العلاج.
إذا استشفيت من داء بداء
فأكثر ما أعلك ما شفاك
[29] متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. [30] أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه. [31] متفق عليه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
إن كثيرًا من العقلاء والرؤساء والعلماء، قد كثر حديثهم فيما يشاهدونه ويستبشعونه من كثرة سفك دماء المناسك بمنى، بحيث تبقى ركامًا بعضها فوق بعض ولا يؤكل منها إلا القليل، ويرون أنها بهذه الصفة مال ضائع.
ولم يَحفظ مُضَاعَ المجدِ شيءٌ
من الأشياء كالمال المضاع
ويتمنى أكثر الناس صرف قيمة هذا الحيوان فيما هو أنفع من ذبحه من سائر أفعال الخير، وما سيقوم مقامه في الفريضة والفضيلة، مع العلم أن الحيوان في هذه السنين قد أصيب بالنقص والانقراض؛ من أجل توالي الجدب ومن أجل جفاء البادية في عمل الرعي لالتحاق أولادهم الرعاة بالوظائف الحكومية، ووظائف الشركات، ثم في إسراف الناس في ذبح الحيوان وخاصة الأغنام في سبيل الولائم والمآدب، وما لا سبب له إلا الترف الذي يحملهم على التوسع في الذبح بطرق متنوعة، وهذه الأفعال تهدد بانقراض الحيوان، أو بالغلاء الزائد في ثمنه.
وهذه القضية بهذه الصفة توجب على العلماء والحكام تحقيق النظر في تدارك هذا الخطر بإزالة الضرر وتخفيفه بطرق شرعية لا تصادم النصوص الجلية، والأمر الذي يوجبه الله في كتابه إيجابًا محتمًا لا مجال للجدل في دفعه ورفعه، لكن قد يوجد بطريق الشرع ما يخفف هذا الوضع؛ لأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولأن مدار الشريعة على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.
ولن يقع بين الناس مشكلة من مشكلات الدهر كهذه وأمثالها، إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ﴾ [النساء: 83]، وأصل دماء المناسك التي تفعل بمنى، هي واجبة على المتمتع والقارن في قوله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ﴾ [البقرة: 196] والله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات، إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرّم شيئًا من المحرمات، إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.
لكن هذه الحكمة في فعل هذا الشيء الواجب قد تخفى أحيانًا في وقت، وتظهر في أوقات، والدهر أبو العجب، وما يشعرني أن يأتي على الناس زمان يتمنون فيه رائحة اللحم ولا يجدونه، ثم إن ما يستبشعه الناس في هذا الزمان، من كون ذبائح الأغنام وسائر الحيوان تبقى مركومة بعضها فوق بعض، فإن له أسبابًا توجبه: أحدها فمن كثرة الحجاج الذين لا يحصى عددهم، والذي لا يوجد لمثله نظير في سائر الأزمان، وكل شخص يعتقد أن عليه نسكًا يتمّم به حجه، وإن لم يكن واجبًا عليه بحكم الشرع، كالحاج المفرد الذي ليس بقارن، ولا متمتع، فإنه لا يجب عليه دم نسك.
والأمر الثاني: حصر الذبح والذبائح في مكان مخصوص بمنى، ومحصور بالشبك، بحيث لا يسمح لأي شخص بأن يخرج منه ذبيحته حتى يذبحها ويسلخ عنها جلدها وفرثها ودمها. مع العلم أن مصرع الذبح مخاضته من الدم والفرث يشق الوقوف فيه، فضلا عن الجلوس والسلخ والتنظيف، يتطلب مدة لا تقل عن نصف ساعة أو قريب منها، لهذا صار الفضلاء وأكثر الناس يوكلون على ذبح نسكهم ولا يتمكنون من قبضها ولا الأكل منها إلا من قبيل الندور، فتبقى الذبائح بحالها، وأكثر الناس لا يتحصلون على اللحم في يوم العيد.
فلو وزعت هذه الأغنام المذبوحة والمركومة على الناس، لما وسع الخمسين من الحاج ذبيحة واحدة، لقلة الذبائح بالنسبة إلى كثرة الحاج. ثم إنه لا يقدح في صحتها بقاؤها بحالها وعدم الانتفاع بها، إذ هي من القرابين التي تقرّب لرب العالمين.
وكانت الأمم قبلنا متى قرّبوا القرابين من الأغنام أو البقر نزلت عليها نار من السماء فتحرقها، كما حكى الله سبحانه في كتابه عن ﴿ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ﴾ [آل عمران: 183] وقد أهدى النبي ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة - أي ناقة - نحر ثلاثًا وستين بيده، عدد عمره الشريف، وكن يزدلفن بين يديه - أي تبرك الناقة قبل الأخرى - ووكل عليًّا فنحر ما تبقى، وكما أنه لما بعث الهدي إلى الكعبة أمر سائقيها متى عطب شيء منها بأن ينحره ويتركه، ولا يأكل هو ورفقته شيئًا منه.
أحدها: الإحرام بالإفراد بالحج
فبما أن مدن المملكة العربية السعودية وما جاورها من بلدان الخليج، هم بالعادة أكثر الحجاج، لقربهم من مكة، وسهولة السفر للحج عليهم، فهم دائمًا يترددون إلى الحج، وبعضهم يحج كل عام، كأهل مكة ومن حولها من البلدان.
وكلهم يحجون متمتعين، بحيث يلزم كل واحد ذبح النسك، لقول الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ﴾ [البقرة: 196]، وأكثر العامة لا يعرفون الفرق بين الأنساك الثلاثة، ولا يعرفون إلا التمتع الذي داوموا على فعله.
لهذا ينبغي للعلماء وللدعاة المرشدين، بأن يأمروا هؤلاء بالحج مفردين لكون الإفراد بالحج، هو من الأنساك المشروعة المشهورة، وبعض العلماء يفضله على حج التمتع كمالك والشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب واختياره، وفعل بعض الصحابة، وقد حصل النزاع بين عمر بن الخطاب وابن عباس في هذه المسألة، فكان عمر يرى إفراد الحج، وتكون العمرة مستقلة عنه، لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا من أهلّ بحج، فأما الذين أهلّوا بعمرة؛ فحلوا - تعني بعد طوافهم وسعيهم وتقصيرهم - وأما الذين أهلوا بالحج أو بالحج والعمرة؛ فلم يحلوا حتى كان يوم النحر.
وإن الإفراد بالحج فيه مصلحة خاصة لفاعله، ومصلحة عامة لجميع الناس.
فأما المسألة الخاصة: فإنه يسقط به دم النسك، إذ ليس على المفرد دم، ثم إنه يثاب على عمله بهذا النسك الذي هو بمثابة السنة المهجورة غير المشهورة، فيثاب على تنقله إلى فعل هذه السنة، ولا يأثم من دعا الناس إليها، أو ألزمهم بها؛ لأن فعلها من باب تنوّع العبادات الذي ينبغي أن يفعل هذه السَّنة مرة، وتلك مرة، ثم إنه يستفيد العلم بهذه السُّنّة، كما أن العلماء يستعينون على حفظ العلم بالعمل به، وأكثر الغرباء لا ينوون بإحرامهم إلا الحج، ولا يعرفون التمتع، ولا القران، لولا أن المطوفين يلقنونهم ذلك. وليس في الإهلال بهذا النسك ما يشق، ما عدا أنه يبقى على إحرامه حتى يرجع من عرفة ويرمي الجمرة، ثم يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الفرض، ويسعى إن لم يكن سعى طواف القدوم.
لكن أكثر الحجاج من أنحاء المملكة العربية السعودية وما جاورها من البلدان، إنما يقدمون مكة في اليوم الخامس والسادس والسابع وبعضهم لا يقدم إلا في اليوم التاسع، فيتوجه إلى عرفة، وبعد رجوعه منها ورميه للجمار يفيض إلى مكة، ويطوف طواف الفرض، ويسعى سبعًا، ثم يحلق رأسه أو يقصر. وبذلك يتم حجه، وليس عليه دم نسك. ومثل هؤلاء لا يشق عليهم استدامة إحرامهم، لقصر المدة.
أما المصلحة لجميع الناس: فإنهم يستفيدون توفير الحيوان عن التوسع في هلكته، وبذلك يخف ما يشاهده الناس من بشاعة.
وكنا نتمنى أن لو صدر الأمر من الحكومة - حرسها الله - بجعل الحجة بالنوبة والتوزيع؛ ليخف هذا الضغط على الناس، ثم إن المفرد للحج في إمكانه إدراك العمرة في أي وقت يريدها، حتى ولو بعد فراغه من أعمال الحج.
وبهذا يسقط عن الناس الشيء الكثير مما يتعلق بذبح النسك.
الأمر الثاني من مقتضيات تخفيف ذبح النسك بمنى: هو أن الحكومة السعودية - حرسها الله - تسافر إلى مكة في موسم الحج، وفي أشهر الحج، ومعها جميع أتباعها، وسائر المتعلقين بأعمالها، من كل الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والموظفين وسائر الأسرة المالكة، وأكثرهم قد حجوا خمسين حجة، وأربعين، واعتمروا مثل ذلك.
وغاية قصد الجميع، هو تنظيم أمر الحاج وحمايتهم ورعايتهم وترتيب ما يلزم بشأنهم، ثم ملاقاة العظماء من الغرباء، والتخاطب معهم بما يلزم من شأن الجميع، فهذا هو السبب الأعظم في سفرهم إلى مكة، وشهودهم لموسم الحج.
فكل هؤلاء ينبغي أن يؤمروا بدخول مكة بثيابهم بدون إحرام؛ لكونهم لم يقصدوا الحج أصلاً، وإنما دخلوا مكة للحاجة. ولا يلزم كل من دخل مكة لحاجته أن يحرم، وإنما شرع الإحرام في حق من أراد الحج أو العمرة.
ثم إنه لا مانع لهؤلاء عند خروج الناس إلى عرفات بأن يخرجوا معهم بثيابهم غير محرمين، ولا بأس بذلك، أو يقعدوا في بيوتهم حتى يرجع الحاج إليهم، وإن أرادوا أن يحرموا بالحج فعلوا، ويكون حكمهم كحكم حاضري المسجد الحرام، أي كأهل مكة، ولا يلزمهم ذبح نسك. أشبه المترددين إلى مكة، فكل هؤلاء يسقط عنهم دم النسك.
الأمر الثالث مما عسى أن يخفف من ذبح النسك بمنى:هو أن الحاج متى دخل مكة متمتعًا، أو قارنًا، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وحلق رأسه أو قصره، ثم حل من إحرامه ولبس ثيابه، ثم بدا له بعد ذلك أن يسافر إلى المدينة أو إلى جدة أو إلى الطائف، وفعلاً أنشأ السفر فيما تقصر فيه الصلاة إلى شيء من هذه البلدان، ثم رجع بمن معه إلى مكة، فإن هؤلاء يسقط عنهم دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة، قال ناظم المفردات:
مسافة القصـر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقران
سقوطه فواضح البرهان
وعلّلوا هذا السقوط بأنه لم يبق على حالة إحرامه بالحج والعمرة في سفرة واحدة، وبعمل واحد، حيث أدخل عليها سفرة ثانية، فتغير الحكم من وجوب دم النسك إلى سقوطه. والصحيح عدم سقوط دم المتعة والقران بمثل هذا السفر لعدم ثبات ما يدل على سقوطه، ولكونه من جنس الترفه الذي أبيح للمتمتع فعله فيما بين حجه وعمرته، كما أبيح له الترفه بالجماع والطيب وسائر محظورات الإحرام، وهذا هو الصحيح بمقتضى الدليل والبرهان وفاقًا للأئمة الثلاثة، والله أعلم.
الأمر الرابع: أن هذه الذبائح المركومة والمتروكة، بحيث لم يبق لأهلها رغبة فيها، فإنها مباحة لمن أخذها، أو أخذ شيئًا منها، أو باع شيئًا منها، كما لو عملوا التصنيع لجعلها في علب، ثم بيعها على الناس، لكونها من المال المتروك المباح لمن أخذه.
وسميت الأيام الثلاثة بعد العيد بأيام التشريق، لكون الناس يشرقون اللحم فيها - أي ينشرونه بالشمس - كما سمي أوسط أيام التشريق بيوم الرؤوس. وقد نهى رسول الله ﷺ في أول الإسلام عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، قيل: من أجل الدافّة؛ أي الفقراء من أهل اليمن، ثم إنه رخص بعد ذلك في ادخارها، فكان الصحابة يتزوّدون من هذه اللحوم إلى أهلهم بالمدينة، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم ركب رسول الله ﷺ راحلته، فجعلوا يسألونه، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». فرفع الحرج عن الناس في جميع ما قدموه أو أخروه من بقية مناسك الحج، حتى سأله رجل قال: رميت بعدما أمسيتُ. فقال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». وهذا الحديث في الصحيحين عن ابن عباس، وهو نص صريح في جواز تقديم رمي الجمار قبل الزوال، أو تأخيرها عن هذا الوقت، فيجوز رميها في أية ساعة شاء، من ليل أو نهار، أشبه النحر والحلق، وأشبه طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج، فقد طاف رسول الله ﷺ وأصحابه في يوم العيد ضحى بعد ما أكلوا من لحم هديهم، وشربوا من مرقه.
ثم قال العلماء بجواز التوسعة في فعله، وأنه يطوف في أية ساعة شاء، من ليل أو نهار من يوم العيد، أو سائر أيام التشريق.
فلا أدري ما الذي جعلهم يتشددون في عدم جواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق، وهو عمل يقع بعد التحلل الأول، وفيه حديث: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عائشة. وإذا طاف طواف الإفاضة فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث يباح له كل ما يفعله من سائر المباحات، من الطيب والجماع وغير ذلك، ولو مات لحكم بتمام حجه. قاله في الإقناع. وقال أيضًا: إنه لو أخر رمي الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد، ثم رماها كلها في اليوم الثالث أجزأه ذلك أداءً لاعتبار أن أيام منى كالوقت الواحد، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، لكونه قد وقع التسهيل والتيسير من النبي ﷺ في بقية واجبات الحج التي تفعل يوم العيد وأيام التشريق، حيث إنه لم يسأل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ» وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
من ذلك أن العباس استأذن النبي ﷺ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقاية الحاج، فأذن له في ذلك، ولم يأمره باستنابة من يرمي بدله، كما أنه رخص لرعاة الإبل في البيتوتة بعيدًا عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، وبعد الغد، ليوم النفر، وقِسْ عليه كل من يخاف على نفسه وماله. والله أعلم.
إن الأصل في هذا هو قول النبي ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[54] فكما أن واجبات الصلاة تسقط عمن لا يستطيعها، فكذلك واجبات الحج فإنها تسقط عمن لا يستطيعها؛ لأن واجبات الصلاة آكد من واجبات الحج، حيث إن واجبات الصلاة لو تعمد ترك واجب منها بدون عذر بطلت صلاته، بخلاف واجبات الحج، فإنه لو تعمد ترك واجب بدون عذر لم يبطل حجه، وإنما عليه دم.
ومتى كان أصل فرض الحج يسقط عمن لا يستطيعه بنص القرآن، فما بالك بسقوط الواجب المعجوز عنه، إذ هو أولى بالسقوط بدون استنابة، وليس عندنا ما يثبت الاستنابة في واجبات الحج عند العجز عنها.
لهذا أفتينا ضعاف الأجسام وكبار الأسنان والمصابين بالمرض من رجال ونساء الذين لا يستطيعون الوصول إلى الجمار، بأن الرمي يسقط عنهم بدون استنابة ولا دم، كما أن أصل الحج يسقط عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بنص القرآن، فما بالك بسقوط الرمي عمن لا يستطيعه، إذ هو من باب الأولى والأحرى، وقد أسقط النبي ﷺ طواف الوداع عن الحائض بدون استنابة، وقد عدّه الفقهاء من واجبات الحج، وهذا واضح جلي لا مجال للجدل في مثله، إذ ليس عندنا ما يثبت صحة التوكيل في سائر واجبات الحج أو مستحباته.
[54]رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
فلما أكل رسول الله ﷺ من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بها طواف الحج، ولم يثبت عنه أنه سعى، بل اكتفى بسعي القدوم عن الحج والعمرة؛ لكون القارن يكفيه سعي واحد عن الحج والعمرة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، أن المتمتع يكفيه سعي واحد عن حجه وعمرته، كالقارن، إذ هما في الحكم سواء، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[55] إذ الدخول هو أن يُكتفَى بسعي أحدهما عن الآخر. وهذا هو ما فعله الصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، ثم طافوا مع النبي ﷺ طواف الإفاضة فلم يعيدوا السعي اكتفاء بسعي العمرة، فاكتفاء الرسول ﷺ بسعي واحد عن حجه وعمرته، هو أمر مسلَّم لا خلاف فيه، لكونه قارنًا، والصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة لم يثبت تخلفهم عنه، لاستئناف سعي ثان لحجهم، وبذلك تظهر فائدة دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وكونه يُكتفى بطواف أحدهما وسعيه عن الآخر.
ونحن لا نشك في صحة حج من اكتفى بسعي واحد عن حجه وعمرته في حج التمتع، كالقارن على حد سواء، كما هو فعل الصحابة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، وبما أننا نخشى أن يلقى هذا الحاج أحدًا من أهل العلم الذين لم يفقهوا في المسألة حق الفقه، فيقول له: بطل حجك. فيعود باللائمة على نفسه، وعلى من أفتاه، لهذا فإن الأحوط في حق هذا أن يسعى مع طواف الإفاضة حتى يكون مطمئنًّا من اللائمة، مع العلم بأننا لا نشك في صحة حج من اقتصر على سعي واحد. والله أعلم.
ثم أتى رسول الله ﷺ زمزم وقال: «انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»[56]. فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم، وصلى بالناس الظهر بالمسجد الحرام قصرًا. ولمّا فرغ من صلاته قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[57].
وفي اليوم الثاني من أيام العيد جلس رسول الله ﷺ للناس، وجعلوا يسألونه. فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». حتى إذا زالت الشمس، وقام الناس معه يتبعونه أتى الجمرة الأولى، فرماها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم أسهل في الوادي، وأخذ يرفع يديه يدعو ويتضرع طويلاً والناس صفوف خلفه يدعون ويتضرعون، ثم أتى الجمرة الوسطى، ففعل مثل ذلك، ثم أتى جمرة العقبة، فرماها ولم يقف عندها، قيل: لضيق المكان. ثم انصرف بالناس، وصلى بهم صلاة الظهر بمسجد الخَيْف من منى، فصلى بهم ركعتين قصرًا من غير جمع.
[55] رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ منذ دخل مكة إلى أن خرج منها أنه جمع بين الصلاتين، إلا في عرفة، جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم؛ لاتصال الوقوف، وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وما عدا ذلك، فإنه يقصر الصلاة ولا يجمع، قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ولعل السبب في تأخيره رمي الجمار إلى الزوال؛ أنه يريد أن يخرج بالناس مخرجًا واحدًا للرمي وللصلاة في مسجد الخَيْف، ليكون أسمح وأيسر لهم.
ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: لا ترموا الجمرة حتى تزول الشمس. حتى يكون فيه حجة لمن حدده. وأما قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[58]. فإن مناسكه تشمل: الأركان، والواجبات، والمستحبات. وأما تحديد الفقهاء للرمي أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب فإنه تحديد خال من الدليل، وقد أوقع الناس في الحرج والضيق، لكون الجمع كثير وزمن الرمي قصير وحوض المرمى صغير، وصار الناس يطأ بعضهم بعضًا عنده، والنبي ﷺ قد بيّن للناس ما يحتاجون إليه. فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير فيما يفعلونه في يوم العيد وأيام التشريق إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»، فنفى وقوع الحرج عن كل شيء من التقديم والتأخير، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي؛ لبينه النبي ﷺ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. والحالة الآن، وفي هذا الزمان، هي حالة حرج ومشقة وضرورة، توجب على العلماء إعادة النظر فيما يزيل عن أُمتهم هذا الضرر، ويؤمِّن الناس من مخاوف الوقوع في هذا الخطر الحاصل من شدة الزحام والسقوط تحت الأقدام، حتى صاروا يحصون وفيات الزحام كل عام، إذ هو من باب تكليف ما لا يستطاع، ولا يلزم بتركه مع العجز عنه دم، وصار الحكم بلزومه مستلزمًا لسقوطه للعجز عنه، والله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
[58] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر.
وقد عدّ الفقهاء المبيت بمنى من واجبات الحج، وقد أنزل الله فيه: ﴿ ۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ﴾ [البقرة:203]، فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والنبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشرِيِقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ، وَذِكرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[59] وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد، فمن تعجل بالانصراف في اليوم الثاني فلا إثم عليه، وإنما وجب المبيت بمنى من أجل تكميل بقية الحج الذي يفعل فيها، من الرمي والنحر والحلق، ولكن متى ضاقت منى بالناس فإنه من الجائز أن ينزلوا بما جاورها من أرض مزدلفة، أو عرفة أو محسر، لكونها ضرورة تقدّر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[60]، ولأن ما جاور الشيء يعطَى حكمه، أشبه المسجد الحرام حيث أدخل فيه كثير من البيوت بما اشتملت عليه من المرافق والمنافع، وصار حكمها حكم المسجد الحرام، ويلتحق الزائد بالمزيد في الفضيلة، ومثله الوقوف بعرفة؛ فقد قال النبيﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَجَمْعٌ - أَيْ: مُزْدَلِفَةَ - كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[61]. فوسع النبي ﷺ للناس في مواقفهم، فمتى ضاق الموقف بالناس جاز الوقوف بما جاوره، كما جازت الصلاة في الطرق عند مضيق الناس وزحمتهم، كما أن في إحدى الروايتين عن أحمد أن المبيت بمنى سنة ولا دم في تركه، اختارها عبد العزيز صاحب الشافعي، وهي مذهب أبي حنيفة، قاله في الإفصاح.
ثم إن رسول الله ﷺ وأصحابه في اليوم الثالث دفعوا إلى مكة، ونزل بالأبطح حتى باتوا بها. فقال بعض الناس: إن النزول بالأبطح سنة. فقالت عائشة: إنما نزل بالأبطح ليكون أسمح لخروجه. وفي آخر الليل دفع رسول الله ﷺ إلى المسجد الحرام، فطاف طواف الوداع، وقيل له: إن صفية قد حاضت. فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ هَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟» قالوا: نعم. قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ»[62] فدل على أنه لا يجب على الحائض طواف الوداع، ولا الاستنابة فيه لسقوطه عنها.
ثم قيل له: إن أُم سلمة شاكية لا تستطيع الطواف، فقال: «لِتَطُفْ وَهِيَ رَاكِبَةٌ»[63]، قالت: فطفتُ على بعير من وراء الناس، ورسول الله ﷺ يصلي بالناس صلاة الفجر، ويقرأ فيها بالطور، فما رأيت أحسن قراءة منه. ثم سافر رسول الله ﷺ إلى المدينة.
[59] رواه مسلم عن نبيشة الهذلي. [60] من حديث رواه البخاري ومسلم. [61] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر. [62] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [63] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة.
والجواب: أنه لا مشاحة في ذلك، وبداءته يجعل المدينة هي طريقه إلى مكة أفضل من إنشائه السفر إلى القبر. ويجب عليه أن يُحرم عندما يتوجه إلى مكة من موضع ما يحرم منه أهل المدينة، لكون المواقيت للبلدان هي لأهلها، ولمن مرّ عليها من غيرهم، فقول النبي ﷺ: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم». ثم قال: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة» متفق عليه من حديث ابن عباس.
وتعيينه المواقيت لأهل هذه البلدان قبل إسلام أهلها هي من معجزات نبوته ﷺ كما قال الناظم:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدّد
وقد قال النبي ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ»[64].
وإنما استحب العلماء زيارة المدينة لأجل الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ لحصول المضاعفة بالصلاة فيه، ومشاهدة آثاره، لكنه يستحب للحاج متى وصل إلى المدينة ودخل المسجد النبوي أن يزور قبر رسول الله ﷺ وقبر صاحبيه ويسلّم عليهم، مع العلم أنه لا علاقة لزيارة المدينة في الحج، بل الحج صحيح بدونها. وأما حديث «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» فإنه حديث مكذوب على رسول الله ﷺ بتحقيق علماء الحديث، بل الحديث الصحيح هو قول النبي ﷺ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا - أي تعتادون مجيئه - وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، - أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها - وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[65].
وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها ويدعو، فنهاه. قال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[66]، فلا معنى لهذا الزحام عند القبر، ولا التمسّح بجدار الحجرة والشبابيك، فكل هذا يعد من الغلوّ الذي نهى عنه رسول الله ﷺ، فالذي يصلي ويسلّم على رسول الله ﷺ في مشارق الأرض ومغاربها، والذي يصلي ويسلّم عليه عند حافة قبره، هما في التبليغ سواء. وليس الذي يصلي ويسلّم عليه عند جانب قبره بأفضل من الذي يصلي عليه في بيته، أو في مسجد قومه، أو في أي بقعة من مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الله وكّل ملائكة كرامًا يبلغونه سلام أمته.
وقد أمرنا بأن نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعلّم الرسول أصحابه كيفية الصلاة عليه، فقال: «صَلَّوْا عَلَيَّ، وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[67] وهذه هي أفضل صيغة في صفة الصلاة على النبي ﷺ. وكما أمرنا بعد إجابتنا لنداء الصلاة بأن نقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»[68] وهذا كله حماية منه لجناب التوحيد، وسد لطرق الشرك؛ لأن الذي يُدعى له لا يُدعى من دون الله.
والصلاة على النبي ﷺ هي من أفضل الطاعات، وأجلّ القربات، ومن صلى عليه مرّة صلى الله عليه بها عشرًا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾ [الأحزاب: 56].
والنبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[69] وقال: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[70].
فمحبة الرسول الطبيعية لا تغني عن محبته الدينية. فالمحبة الصادقة توجب طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع لا بمجرد الهوى والبدع.
وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ﴾ [آل عمران: 31]، فمعناه بالضبط: إن كنتم تحبوني: فاتبعوني، وأطيعوا أمري، يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم.
فمن البدع: كون بعض الناس بالمدينة متى سلّموا من صلاة الفرض نفروا وقاموا إلى القبر يسلّمون على رسول الله ﷺ، وقد عدّه الإمام مالك بدعة؛ لأنه ليس من عادة الصحابة، ولا السلف الصالح أنهم يفعلون ذلك، وإنما يكتفون بتسليمهم عليه في صلاتهم، حيث يقولون: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ»، وهذا السلام بهذه الصفة كافية، ولن يضيع عند الله، ولا عند نبيّه وحبيبه محمد ﷺ.
وأعظم من هذا دعاؤهم واستغاثتهم برسول الله ﷺ كأن يقولوا: يا محمد اشفع لي، يا محمد أنقذني، يا محمد أنقذ أُمتك من المهالك. ومثله قول بعضهم:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العمم
فهذا كله يُعد من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ﴾ [المائدة: 5]، ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢﴾ [المائدة: 72] والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»[71]، وكل من دعا الرسول واستغاث به فقد عبده؛ لأن الدعاء من العبادة.
وأخبر سبحانه بأنه لا أَضَلّ ممن يدعو من دون الله، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦﴾ [الأحقاف: 5-6]، فسمّى الله دعاءهم عبادة؛ لأن من دعا مخلوقًا فقد عبده. وقال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦﴾ [يونس: 106] فأخلصوا الدعاء لربكم، وأكثروا من الصلاة على نبيكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. والله أعلم.
[64] أخرجه مسلم عن ابن عباس. [65] أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن الزبير. [66] رواية أبي داود: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا» وأخرجه الإمام أحمد. [67] رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي وابن سعد والبغوي والباوردي والطبراني. [68] أخرجه البخاري عن جابر. [69] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أوس بن أوس. [70] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة. [71] أخرجه مالك عن عطاء بن يسار مرسلاً. وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة بدون لفظ: «يُعبد».
إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾ [الحجر: 99]
فهذه العبادة التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بالاستقامة عليها واستدامة فعلها حتى يلقوا ربهم تنقسم إلى فرائض: وهي الواجبات، وإلى نوافل: وهي التطوّعات.
فالفرائض: بمثابة رأس المال؛ لأن الله فرض فرائض فلا تضيعوها. والنوافل: بمثابة الربح، ولا ربح إذا لم يصح رأس المال. وحكمة النوافل: أنها يرقع بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها، كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه. وهي من أسباب محبة الرب للعبد، فتجعله من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣﴾ [يونس: 62-63].
كما روى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[72].
فأفضل ما تقرّب به المتقرّبون إلى الله هو المحافظة على الفرائض الواجبة، ثم التزوّد بعدها بنوافل التطوّعات. وهذه التطوعات بعضها آكد من بعض؛ لأن منها ما هو مقصور النفع على فاعله، ومنها ما هو متعدد النفع للغير. فمقصور النفع على فاعله مثل: نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فلا ينتفع الناس بعمل الشخص في مثل هذه التطوّعات.
أما المتعدي نفعه إلى الغير فهو مثل: عمل الصدقة، والصلة، وسائر الأفعال الخيرية التي ينتفع بها الناس، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير، أنه أفضل من العمل المقصور على النفس.
لهذا ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوّعات ما هو أصلح لقلبه، وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، وكذا عكسه. من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين، وعلى الفقراء والمضطرين، أنها أفضل من حج التطوّع، سواء كان حجه عن نفسه، أو عن والديه وأقاربه الميتين؛ لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لاسيما عند قرب العيد، وفي عشر ذي الحجة التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة، فتشتد حاجة الفقير لما يتطلبه العيد من النفقة، والكسوة له ولأهله وعياله، فتقع الصدقة بالموقع الذي يحبه الله؛ من تفريج كربته وقضاء حاجته.
وكل من تأمل القرآن والحديث، فإنه يجد فيهما الحث والتحريض بفنون من التعبير، كلها تحفز الهمم وتنشط الأمم إلى الكرم. وقد مدح الله الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم - أي يطمئنون بأن ما أنفقوه يخلف عليهم - كقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ﴾ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة.
ففي الدنيا: يدرك المتصدق المزكّي سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة في ماله، حتى في يد وارثه ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ: 39]، فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف.
وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الصدقة والصلة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والقطيعة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.
إن أكثر الناس يكسلون عن النفقة فيما هو من واجبهم، وفي الأمر المرغب فيه في حقهم، فتراهم يكسلون عن أداء الزكاة الواجبة، وعن الصدقة على الأرحام، وعلى الفقراء والمضطرين، لكنهم ينشطون على النفقة في سبيل المآدب الواسعة، والولائم الإسرافية، وبعض الناس من رجال ونساء ينفقون أيضًا في سبيل حج التطوّع وهم قد حجوا، ثم حجوا، ثم حجوا. فيتركون العمل الواجب عليهم، والفاضل في حقهم، ويعدلون عنه إلى العمل المفضول والذي تركُه أفضل من فعله، أو العمل المحرم في نفسه.
وإنني أقول على سبيل النصيحة، رجاء أن تعيها أُذن واعية: إن هؤلاء الذين ينفقون هذه النفقات، إن الأفضل في حقهم هو صرف ما ينفقون إلى الفقراء والمضطرين، ومساعدة المنكوبين، وتأسيس الأعمال الخيرية، من بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء بيت لفقير أو رحم أو مساعدته على ذلك؛ لأن الصدقة على الفقراء والمضطرين لها وقع عظيم في مثل هذه الأيام الفاضلة، وخاصة عشر ذي الحجة، التي العمل فيها أفضل من العمل في غيرها.
وإن كان أحدهم مدينًا، وجب عليه أن يصرف نفقته إلى قضاء دَيْنه، ليعتق نفسه من ذل المطالبة بالدَّيْن، فإن الدَّيْن همّ بالليل وذل بالنهار، ولأن الدَّيْن واجب، والتطوّع بالحج مستحب، أو أنه مكروه في حقه، فلا يقدّم المستحب على الواجب، وقد قال بعض العلماء بعدم جواز حج من عليه دَيْن حتى يقضيه، أو يسترضي غريمه.
إن من النساء في وقت الحج من تقلق راحة زوجها في مطالبته بالحج بها، فتلجئه بإلحاحها إلى الحرج والمشقة، وتحمّل الديون المرهقة؛ من تخليه عن العمل الذي هو كسبه ومعيشة عياله، فيتحمل هذا كله في سبيل رضاها والحج بها، ولعلها قد قضت فرضها، ثم حجت مرة بعد أُخرى. وهذه تعتبر مأزورة غير مأجورة. فإن الأفضل في حقها هو طاعة زوجها وعدم المشقّة عليه، ثم الإكثار من عبادة ربها، فتصوم وتصلي وتتصدق. فإن النبي ﷺ لمّا حج بنسائه قال لهن: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ»[73] أي الْزَمْنَ الجلوس في البيوت، فبعضهن لم تفارق بيتها لا لحج ولا لغيره حتى توفّاها الله، منهن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.
إن الصدقة بما سينفقه في حج التطوّع، هي أفضل من حج التطوّع، لكون الصدقة من العمل المتعدي نفعه إلى الغير، لاسيما في عشر ذي الحجة، التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة، فتصادف الصدقة من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فصدقته أفضل من تطوّعه بحجه.
ومثله الذين يضحون لوالديهم الميتين، فإن الصدقة عن والديهم أفضل من ذبح الأضحية، فإنه لا أُضحية للميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحيّ، شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وتأسيًا بأبينا إبراهيم، ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام. والله سبحانه أمر بالحج في آية واحدة، لكنه أمر بالصلاة والصدقة وسائر الأفعال الخيرية أكثر من ثلاثمائة مرّة، وتكرار ذكرها هو مما يدل على فضل فعلها.
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق؛ من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.
وما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة. فلو جربتم لعرفتم، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾[سبأ:39] ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16]
إن أكثر الناس قد غلب عليهم حب الشهرة، فجعلوا الحج والعمرة بمثابة سفر النزهة، كي يقال: حج فلان، وحجّت فلانة. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه؛ لهذا نرى خشوع العبادة قد عزب عن قلوب الناس في مشاعر الحج ومشاهده.
وإنني أقول على سبيل النصيحة لهؤلاء الذين يتطوّعون بالحج كل عام، أو عامًا بعد عام، وأخص أهل مكة، وأهل البلدان المجاورين للبلد الحرام، من سائر البلدان في المملكة العربية السعودية، وأهل الخليج، وما حولهم: إن الأفضل في حق هؤلاء هو الإكثار من عبادة ربهم في بلدهم، فيكثرون من الصلاة، والصيام، والصدقة، ويصرفون ما سينفقونه في حجهم إلى الفقراء والمساكين والمضطرين وسائر أفعال الخير، فإن هذا أفضل من تطوّعهم بحجهم وعمرتهم.
أضف إلى ذلك أن المجاورين للبلد الحرام والذين يترددون للحج عامًا بعد عام أنهم يتعرّضون للأضرار ومواقع الأخطار، من تصادم السيارات وانقلابها، ويصيب الناس الضرر الشديد منهم، بتضييقهم على الناس بسياراتهم وخيامهم ومسالك طرقهم ومشاعر حجهم وفي الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، حتى لا يكاد يجد الإنسان مكانًا لموضع جبهته في المسجد، وكله من شدة زحمة المجاورين للبلد الحرام، والذين يترددون إلى الحج عامًا بعد عام.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أهل مكة بأن يخلوا المطاف للحجاج الغرباء. فاحتساب التوسعة على الناس في مثل هذا الزمان فيه فضل، ولفاعله أجر.
وإنني أنصح كبار الأسنان وضعاف الأجسام من رجال ونساء، متى قضوا فرضهم بأن يلزموا أرضهم ويكثروا من عبادة ربهم في بلدهم، فإن أبواب الخير كثيرة، وليس الحج من أفضلها، وليحافظوا على حياتهم وصحتهم فلا يتعرّضوا للبرد القارص ولا للحر القتّال؛ فإن البرد سريع دخوله بطيء خروجه، ويتزايد ضروه ويعظم خطره في أوله، كما قال عليّ رضي الله عنه: اتقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يعمل في الأبدان كعمله في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق.
هذا: وإن الوقاية خير من العلاج، ونيّة المؤمن تبلغ مبلغ عمله، والحمد لله الذي جعل الحج فرض العمر مرّة واحدة ولم يفرضه على التكرار، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩﴾ [النساء: 29].
* * *
[72] رواه البخارى عن أبي هريرة. [73] رواه أحمد عن أبي هريرة.