1773

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الأول
العقائد



(9) لا مهدي يُنتظر بعد الرسول محمد ﷺ خير البشر

خطبة الرسالة

الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد: فإن هذه الرسالة المسماة لا مهديّ يُنتظر بعد الرسول محمد ﷺ خير البشر اخترت لها هذه التسمية لتكون عقيدة حسنة، تتدلل بها الألسنة من كل مسلم ومسلمة، لاعتقادي أنها حقيقة مسلّمة.

بدأتها بدعوة العلماء والطلاب إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد من أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر؛ لأنني وإن كنت أرى في نفسي أنني أصبت في الرسالة مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيها إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل، لكنني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وقدمت في الرسالة عقيدة المسلم مع المهدي، ومنها:

أن جميع الناس من العلماء والعوام، في كل زمان ومكان، يقاتلون كل من يدعي أنه الإمام المهدي، لاعتقادهم أنه دجال كذاب، يريد أن يفسد الدين، ويفرق جماعة المسلمين، ويملأ ما استولى عليه جورًا وفجورًا، كما جرى لكثير من المدعين للمهدية، ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟

وأن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول، ولا بين التابعين، وأن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وهو الإمام الثاني عشر: محمد بن الحسن العسكري، فسرت هذه الفكرة وهذا الاعتقاد، بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة، فدخلت في معتقدهم، وهي ليست من أصل عقيدتهم.

ثم انتقلت بصورة عامة إلى المجتمع الإسلامي حين نادى بها في الناس عبد الله بن سبأ، المعروف بصريح الإلحاد والعداء للإسلام والمسلمين، فأخذ هو وشيعته يعملون عملهم في صياغة الأحاديث، ووضعها على لسان رسول الله بأسانيد منظمة عن أهل القبور، وأخذوا في نشرها في مجتمع الناس، حتى لا يفقدوا الأمل الذي يرتجونه بزعمهم في إرجاع الحكم إلى أهل البيت، ليزيلوا عنهم الظلم والاضطهاد الواقع بهم من قبل خصومهم بني أمية؛ فهي دعوة سياسية إرهابية.

كما أن بني أمية لما سمعوا بهذه الأحاديث الموجهة لهم من العراق، والتي ترجف بهم تهددهم بالإيقاع بهم، تنبهوا لهذا، فأقاموا السفياني مقام المهدي، وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث عن رسول الله في السفياني، من ذلك ما روى الحاكم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «يَخْرُجُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: السُّفْيَانِيُّ من دِمَشْقَ، وَعَامَّةُ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنْ كَلْبِ، فَيَقْتُلُ حَتَّى يَبْقَرَ بُطُونَ النِّسَاءِ، وَيَقْتُلُ الصِّبْيَانَ»، وذكر بقية الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ثم ساق حديثًا ثانيًا في السفياني بلفظ الحديث الأول ومعناه.

فتصحيح الحاكم لأحاديث السفياني، هي بمثابة تصحيحه وتصحيح الترمذي لأحاديث المهدي على حد سواء، وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة، ولا متواترة، فإن قيل: كيف عرفتم أن هذه الأحاديث الكثيرة المسندة، والمسلسلة عن عدد من الصحابة، بأنها مختلقة وهي في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، والحاكم، وغيرها من الكتب؟

فالجواب: إن هذه الأحاديث الكثيرة التي تبلغ خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، بعضها يزعمونها صحاحًا، وبعضها من الحسان، وبعضها من الضعاف، وقد بلغت ألفًا ومائتي حديث عند الشيعة، والمهدي واحد وليس باثنين تنازعته أفكار الشيعة وأفكار أهل السنة.

فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من علماء أهل السنة على حد ما قيل، والقوة للكاثر، على أن الكمية لا تغني عن الكيفية شيئًا، وأكثر الناس مقلدة، يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون، فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين، قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص، وللجرح والتعديل، فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، لأمور:

منها: أن النبي ﷺ بُعث بدين كامل، وشرع شامل، مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المضار وتقليلها، ومن المعلوم أن اعتقاد المهدي، والقول بصحة خروجه يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار، ومن إثارة الفتن، وسفك دماء الأبرياء، ما يشهد بعظمته التاريخ المدروس، والواقع المحسوس، من كل ما يبرأ النبي ﷺ عن الإتيان به، إذ الدين كامل بدونه.

ومنها: أن المهدي الذي يزعمون صحة خروجه، أن اسمه محمد بن عبد الله، وأن صفته أجلى الجبهة، أقنى الأنف. وهذه التسمية بهذه الصفة توجد بكثرة في الطوائف المنتسبين إلى الحسن والحسين، فلا تعطي يقينًا في التعيين، فمتى أتى من انطبعت فيه هذه الأوصاف، وقال: إنني أنا المهدي. فعند ذلك يقع المحذور من إثارة الفتنة بين مصدق به ومكذب، وبين محب ومحارب، فيكون اعتقاده شقاء على العباد طول حياتهم، لوقوع الاشتباه فيه دائمًا، مما يتنافى مع الدين الذي جعله الله رحمة للخلق أجمعين، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء:107]. ومنها: أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي ﷺ على أمته التصديق برجل من بني آدم، مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته، ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128].

ومنها: أننا لسنا بأول من رد هذه الأحاديث، فقد أنكرها بعض العلماء قبلنا، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج[147] بعد ذكره لأحاديث المهدي:

إن هذه الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء، فطائفة أنكروها مما يدل على أنها موضع خلاف من قديم بين العلماء، كما هو الواقع من اختلاف العلماء في هذا الزمان.

ومنها: أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم، ولم يدخلاها في كتابيهما، مع رواجها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم ثبوتها عندهما، كما أنه ليس للمهدي ذكر في القرآن، مما يقلل الاحتفال به.

ومنها: تناقض هذه الأحاديث وتعارضها في موضوعها، فمهدي اسمه اسم الرسول، واسم أبيه اسم أبيه، ومهدي اسمه أبو عبد الله، ومهدي يشبه الرسول في الخلق، ولا يشبهه في الخلق، ومهدي يصلحه الله في ليلة، ورجل يخرج هاربًا من المدينة إلى مكة، فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل اسمه الحارث بن حران، يوطئ أو يمكّن لآل محمد، ورجل يخرج من وراء النهر، ورجل يبايع له بعد وقوع فتنة عند موت خليفة، ورجل أخواله كلب، وتأتيه الرايات السود من قبل العراق، وأبدال الشام، ومهدي يصلي عيسى ابن مريم خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صل أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه، تكرمة الله لهذه الأمة.

فهذه وما هو أكثر منها، مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله ﷺ، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها، فضلاً عن تصديقها.

فهذه الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه هي التي حملت بعض علماء السنة لكثرتها على التصديق بها، فقبلوها قاعدة مسلّمة، وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها بدون تفكر ولا تدبر، كالشيخ صديق، والشوكاني، والسفاريني، والشيخ مرعي، والعبادي، وسائر العلماء من المتأخرين. فلو أن هؤلاء حققوا النظر بإمعان وتفكروا في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، فقابلوا بعضها ببعض، لعرفوا من مجموعها حقيقة التعارض والاختلاف، ولظهر لهم منها ما يوجب عليهم الرجوع عن التصديق بها، وكون أكثرها قضايا أحداث وقعت مع أشخاص، ولا ذكر للمهدي فيها.

وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، كحديث علي مرفوعًا: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ، لَبَعَثَ اللهُ رَجُلًا مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا». ومثله عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ». وكذا عن علي رضي الله عنه: ونظر إلى ابنه الحسن فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق. ومثله: حديث أم سلمة مرفوعًا: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، وَمِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ». رواها كلها أبو داود في سننه وغيره.

وقد أعرض أكثر العلماء المحدثين عن إثبات أحاديث كثيرة في كتبهم عن أهل البيت، لتسلط الغلاة على إدخال الشيء الكثير من الكذب في فضائلهم، كما تحاشى عنها البخاري ومسلم، والنسائي والدارقطني والدارمي، فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة، وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها، مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزه مسنده عن أحاديث المهدي، فلا ذكر لها فيه.

ثم إن من عادة العلماء المحدثين، والفقهاء المتقدمين، أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته، تقليدًا لمن سبقه، كما ذُكر عن الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد، فينقلها، ثم يردها إليه، ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إليَّ حتى أثبته في كتابي. وكذلك سائر علماء كل عصر، ينقل بعضهم عن بعض، فمتى كان الأمر بهذه الصفة فلا عجب متى رأينا أحاديث المهدي تنتشر في كتب المعاصرين لأبي داود كالترمذي وابن ماجه، لخروج الحديث من كتاب، إلى مائة كتاب، وانتقال الخطأ من عالم إلى مائة عالم، لكون الناس مقلدة، وقليل منهم المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم.

وقد عقدت في الرسالة فصلاً عنوانه التحقيق المعتبر في أحاديث المهدي المنتظر شرحت فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، والحاكم بما لا مزيد عليه فليراجع. وبينت في الرسالة أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة، ولا صريحة، ولا متواترة بالمعنى، وقد أسلفنا كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله فيها، وأن طائفة أنكروها بتاتًا، ومثله العلامة ابن القيم رحمه الله، فقد قال في كتابه: المنار المنيف في الصحيح والضعيف: اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال:

أحدها: أنه المسيح ابن مريم، وهو المهدي على الحقيقة.

الثاني: أنه المهدي بن المنصور، الذي ولي من بني العباس، وقد انتهى زمانه.

الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي ﷺ، من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان. وأكثر الأحاديث على هذا.

الرابع: قول الإمامية، أنه محمد بن الحسن العسكري.

فهذه الأقوال على اختلافها، تدل على أن القضية هي موضع نزاع وخلاف في قديم الزمان وحديثه، وليست بموضع اتفاق.

ومن لوازم قوله أن ما يزعمونه من خروج المهدي المجهول في عالم الغيب، أنه لا حقيقة له، لكن المتعصبين لخروجه لما طال عليهم الأمد، ومضى من الزمان أربعة عشر قرنًا -وما يشعرني أن يأتي من الزمان أكثر مما مضى بدون أن يروه حتى تقوم الساعة- لهذا أخذوا يمدون في الأجل ليثبتوا بذلك استقامة قولهم عن السقوط، فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى ابن مريم، مع العلم أن الأحاديث التي بأيديهم، والتي يزعمونها صحيحة ومتواترة والتي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، أنها وردت مطلقة لم تقيد بزمن عيسى عليه السلام، إلا حديث صلاة عيسى خلف المهدي، قال الذهبي وعلي القاري: إنه موضوع، أي مكذوب، فسقط الاحتجاج به.

وكلام العلماء من المتأخرين كثير، وأعدل من رأيته أصاب الهدف في قضية المهدي هو: أبو الأعلى المودودي، حيث قال في رسالة اسمها البيانات عن المهدي:

إن الأحاديث في هذه المسألة على نوعين، أحاديث فيها الصراحة بكلمة المهدي، وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان، ويعلي كلمة الإسلام. وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات، فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه، وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلا رواية واحدة في صحيحه، ولكن ما جاءت فيها أيضًا الصراحة بكلمة المهدي.

وقال: لا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبًا دينيًّا يعرف بالمهدوية يجب على كل مسلم أن يؤمن به، ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة.

وقال: مما يناسب ذكره بهذا الصدد، أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي، ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد، انتهى.

والحاصل الذي نعتقده، وندين الله به، أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، وأنه لا ينكر على من أنكره، إذ إنكاره لا ينقص من الإيمان، وإنما يتوجه الإنكار على من يجادل في وجوده، وصحة خروجه.. والله أعلم.

* * *

[147] راجع منهاج السنة النبوية: 4/211.

دعوة العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيا معشر العلماء الأجلاء ويا معشر العقلاء الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

تعالوا بنا نجلس على بساط البحث والتحقيق في أحاديث المهدي التي وقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال، فننظر إلى صلاحيتها وصحتها، وما يجب الإيمان به منها، وما يجب على المسلمين اعتقاده ومنعه.

فإن البحث نتيجته الفائدة، وملاقاة التجارب من الرجال تلقيح لألبابها، والعلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا.

ومتى قلنا: إننا مسلمون سلفيون، وعقيدتنا عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن هذا الاعتقاد يوجب علينا الاتحاد على كلمة الحق وقول الصدق، فنتفق ولا نفترق. يقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا [آل عمران: 103] وإنه من المعلوم بطريق اليقين أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين في العلوم والأفهام، كما أنهم متفاوتون في العقول والأجسام، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ [هود: 118-119].

من ذلك أحاديث المهدي وما يقال في صحتها وصلاحيتها، وما يجب اعتقاده منها، وأنه بمقتضى التحقيق منها والدرس لرواياتها يتبين بطريق اليقين أن فيها من التعارض والاختلاف، وعدم التوافق والائتلاف، ووقوع الإشكالات، وتعذر الجمع بين الروايات ما يحقق عدم صحتها، ويجعل العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين يحكمون عليها بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله ﷺ، وليست من كلامه، وينزهون ساحة رسول الله وسنته عن الإتيان بمثلها، إذ الشبهة فيها يقينية، والكذب فيها ظاهر جلي، وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به، ثم يتقدم أحدهم فيحل نفسه محل هذا المهدي المجهول، ويترتب عليه فتنة في الأرض وفساد كبير، وكل الأحاديث التي يوردونها لتحقيق خروجه متناقضة متعارضة، ومختلفة غير مؤتلفة، فما يزعمونه صحيحًا منها فإنه ليس بصحيح في الدلالة على ما ذكروا، وما يزعمونه صريحًا وفيه ذكر المهدي فإنه ليس بصحيح، وجماع القول أنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة.

لكن قد يعرض لتحقيق ما قلنا قول بعضهم بأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال بصحة خروج المهدي، وهو العالم المحقق المشهود له بصحيح الرواية وصريح الدراية.

وأقول: نعم وإنني رأيت لشيخ الإسلام قولاً يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود. وكنت في بداية نشأتي أعتقد اعتقاد شيخ الإسلام، حيث تأثرت بقوله، حتى بلغت سن الأربعين من العمر وبعد أن توسعت في العلوم والفنون، ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها، فبعد ذلك زال عني الاعتقاد السيئ والحمد لله، وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله، وبعد كتاب الله. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا.

وقد قيل: كم فات على العالم النحرير[148] ما عسى أن ينسب فيه إلى الخطأ والتقصير وهو كسائر علماء البشر فلا يحيط بكل شيء علمًا، قد يحفظ شيئًا وينسى أشياء، إذ الكمال لله سبحانه الذي لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته. وقد شبهوا زلة العالم بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير، وكم غرق في كلمة شيخ الإسلام هذه كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي، فكان من لقيته من العلماء والعوام يحتج بكلام شيخ الإسلام رحمه الله.

ولعل هذا القول خرج منه في بداية عمره قبل توسعه في العلوم والفنون وهو مجتهد ومأجور على اجتهاده، إذ يقول العالم المحقق قولاً ضعيفًا مرجوحًا فلا يكون المقلد لقوله، والمنتصر لرأيه بمثابته في حصول الأجر، وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر، فكم من عالم كان يقول أقوالاً في بداية عمره ثم يتبين له ضعفها فيقول بخلافها.

فهذا الإمام الشافعي له أقوال قالها في العراق، وتسمى أقواله القديمة، ثم صار له أقوال جديدة قالها في مصر، وصار العمل على أقواله الجديدة الأخيرة، ومثله الإمام أحمد فإن له في المسألة الواحدة عدة روايات، لكون الاجتهاد في عرفهم يتجدد.

وهذا الدارقطني رد على البخاري في بضعة وثمانين موضعًا في صحيحه، ولا عيب على البخاري ولا على الدارقطني، وحسبك تفرق المذاهب إلى أربعة، وكلُّ يرى عنده دليلاً ليس عند صاحبه ويترضى بعضهم على بعض.

وفي البخاري: أن موسى لما لقي الخضر في مجمع البحرين، وهاله ما رآه من تصرفه من قتله للغلام، وبنائه للجدار الذي يريد أن ينقض، وخرقه لسفينة المساكين الذين يعملون فيها في التكسب في البحر، فضاق صدر موسى من تصرفه، وعيل صبره، فأراد أن يفارقه فقال له الخضر: يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. وقال له أيضًا: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر[149].

وهكذا يقع تفاوت العلماء فيما علموه، والاختلاف فيما فهموه، كما قيل:
وتفاوت العلماء في أفهامهم
في العلم فوق تفاوت الأبدان
يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين:

إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله ﷺ كما لا نبي بعده.
جزى الله عنا كل خير محمدًا
فقد كان مهديًّا وقد كان هاديًا
كما نعتقد بأن رسول الله ﷺ لم يخلف وراءه علمًا ولا دينًا يرتجى حصوله ووصوله على يد المهدي من بعده، لأن الله سبحانه قد أكمل لنا الدين، وأتم به النعمة على المسلمين بإرسال هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة:128].

وأنزل الله في كتابه المبين ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ [المائدة: 3] فما بعد الكمال إلا النقص، ولا بعد الإسلام إلا الكفر.

وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غنى واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر

إذ المهدي ليس بملك مقرّب ولا نبي مرسل، وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١١٥ [الأنعام: 115].

إن رسول الله ﷺ قال في موقف عرفة حين خطبهم تلك الخطبة الطويلة قال فيها: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا»[150]، «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»[151]، وفي رواية أخرى: «وَسُنَّتِي»[152] ولم يقل: وتركت من بعدي المهدي، إذ إنه لم يثبت عن رسول اللهﷺ في حديث صحيح صريح أنه ذكر المهدي باسمه.

إن من العلم ما يحسن كتمانه ويضر بيانه لبعض الناس، فقد كان النبي ﷺ يخص ببعض العلم أفرادًا من الناس، يوصيهم بكتمانه خشية أن يفتن الناس، كما خص معاذًا بقوله ﷺ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ». فقلت: وإن زنا وإن سرق. قال: «وَإِنْ زَنَا، وَإِنْ سَرَقَ». فقلت: أفلا أبشر بها الناس؟ فقال: «لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا». متفق عليه. فأمره رسول الله بكتمان هذه البشرى خشية أن يتهاون الناس في فعل المعاصي والمنكرات، اتكالاً على ما سمعوه فيفتنوا، ولم يخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا إلا عند موته..

ومثله إخباره حذيفة بأسماء ثلاثين من المنافقين وأمره بكتمانها، فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة، ويسمونه صاحب السر المكتوم.

وقد ترجم له البخاري في صحيحه فقال: (باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وساق عن علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وقالوا: إنك لن تحدث الناس بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن السياسة الشرعية توجب على العالم بأن يذكّرهم بما ينفعهم، وما يزيد في إيمانهم وتقواهم، وأن يجتنب التذكير بما يفتنهم ويزعزع إيمانهم، ويوقع القلق والاضطراب في مجتمعهم، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد قيل: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره.

من ذلك: تذكير الناس بأن المهدي حق، وأنه سيخرج على الناس لا محالة وأنه يملأ الأرض عدلاً، فإن هذا لا يزيد في الإيمان، ولا في صالح الأعمال ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب.

مع العلم أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة، ولا صريحة، ولا متواترة بل هي كلها مجروحة وضعيفة، والجرح مقدم على التعديل، وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله، فهي حديث خرافة سياسية إرهابية صيغت وصنعت على لسان رسول الله ﷺ، صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت، فأخذوا يرهبون بها بني أمية ويوعدونهم بأنه سيخرج المهدي، وقد حان خروجه فينزع الملك من بني أمية ثم يرده إلى أهل بيت رسول الله إذ إنهم أحق به وأهله.

وكان لعبد الله بن سبأ اليد العاملة في صياغة الحديث، والتلاعب بعقول الناس، وكان يقول: إن المهدي هو محمد ابن الحنفية بن علي بن أبي طالب، وإنه بعث بعد موته وسكن بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وإن عنده عين عسل وعين ماء، وسيقود الجموع لقتال بني أمية. وسموا بالسبئية، وفيه يقول كثير عزة وهو سبئيّ:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانًا
برضوى عنده عسل وماء
وعلى كل حال فإنه متى ساء الاعتقاد ساء العمل، وساءت النتيجة.

ولقد عاش الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، ثم عاش من بعدهم العلماء والسلف الصالحون ممن كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، ثم عاش من بعدهم جميع العلماء والحكام ومنهم: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وجميع الناس بعدهم، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم، فلم ينقص إيمانهم وتقواهم على عدم وجود المهدي من بينهم لعلمهم واعتقادهم أن الدين كامل بدونه فلا حاجة لهم به خرج أو لم يخرج.

وإننا الآن في العام المتمم للقرن الرابع عشر من السنين، وما يشعرني أنه سيأتي من الزمان أكثر مما مضى حتى تقوم الساعة دون أن يخرج المهدي، والله أعلم.

* * *

[148] النحرير: الماهر الحاذق. [149] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس. [150] أخرجه أبو يعلى من حديث جاير. [151] أخرجه مسلم من حديث جابر. [152] أخرجه البيهقي من حديث زيد بن أرقم.

عقيدة المسلم مع المهدي

لقد علق بعقائد العامة وعقولهم، وبعض العلماء، وجود مهدي في عالم الغيب لا يعلمون مكانه ولا زمانه.

فمنهم: من يؤمن به، ويصدق بظهوره، وينكر على من أنكره. ومنهم: من ينكر وجود المهدي بتاتًا، ويطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه ويزعم بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله.

ولم تزل المناظرة والمجادلة واقعة قائمة بين الفريقين، ولأجله لا يزال يخرج في كل زمان، وفي بعض البلدان من يدعي أنه المهدي، وعلى أثر هذه الدعوى تثور الفتن وتسيل الدماء.

والحق الذي نعتقده، وندعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه، هو أنه لا مهدي بعد رسول الله كما أنه لا نبي بعده.
جزى الله عنا كل خير محمدا
فقد كان مهديًّا وقد كان هاديا
والمهدي متى قلنا بتصديق الأحاديث الواردة فيه، ليس بملك معصوم، ولا نبي مرسل، ما هو إلا رجل عادي، كأحد أفراد الناس إلا أنه عادل، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة، ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله ﷺ، ولم يحدث بها.

مقام المسلم من المهدي ومقام المهدي منه

أولاً: إنه لا يجب الإيمان الجازم بخروجه لقوة الخلاف في الأحاديث، فلا ينكر على من أنكره، وإنما يتوجه الإنكار على من قال بصحة خروجه.

ثانيًا: ليس من عقيدة الإسلام والمسلمين الإيمان به، كالإيمان بوجود الرب، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بالجنة والنار إذ هذه من أمور الآخرة التي يجب اعتقادها ووقوعها جلية للعيان في دار الآخرة، وقد أثبتها القرآن وصحيح السنة، وليس منها الإيمان بالمهدي، وقد غلط السفاريني حيث أدخل الإيمان به في عقيدته، قال:
منها الإمام الخاتم الفصيح
محمد المهدي والمسيح فقد أخطأ حيث جعل المهدي هو الخاتم، وإن حملناه على جعله خاتم الأئمة الاثنى عشر خليفة الذين يستقيم بهم أمر الدين، فهذا هو نفس عقيدة الشيعة حيث جعلوا الإمام الحادي عشر هو الحسن العسكري، وبعد موته انتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن الحسن العسكري الذي دخل سرداب سامراء، فدعوى المهدي في مبدئها للشيعة، فهم الذين آمنوا بها وصدقوها، وأكثروا من ذكر هذا المهدي المنتظر، فاقتبس بعض أهل السنة هذا الاعتقاد، ثم سار في طريقه وتلقينه إلى حالة انتشار هذه الفكرة عند المتأخرين، حتى جعلوها طريقة وعقيدة، متى غيرت قيل: غيرت السنة! وهكذا حال البدعة، فبسبب مجاورتهم للشيعة واختلاطهم بهم اقتبسوها منهم، وإلا فإنها ليست من عقيدة أهل السنة، ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في عقائده، لا في الواسطية ولا في الأصفهانية ولا السبعينية ولا التسعينية ولا العرشية، كما أنها لم تذكر في عقيدة الطحاوية ولا في شرحها، ولا في عقيدة ابن قدامة، ولا عقيدة ابن زيدون المالكي.

فعدم ذكرهم لها يدل على أنها ليست من عقائد الإسلام والمسلمين، والمهدي في مبدأ دعوته هو واحد وليس باثنين، فلم يقل أحد: إنهما مهديان، وإنما هو مهدي واحد، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار بعض أهل السنة، فكل لوم أو ذم ينحى به على الشيعة لإيمانهم بإمامهم محمد بن الحسن الذي هو في سرداب، فإنه ينطبق بطريق التطابق والموافقة على أهل السنة الذين يصدقون بالمهدي المجهول في عالم الغيب، فهما في فساد الاعتقاد به سيان.

فبيت الشعر للسفاريني على الحالتين غير صواب ولا صحيح، والسفاريني رحمه الله هو أقوى من ثبت دعائم عقيدة المهدي في قلوب المسلمين.

ثالثًا: إن المهدي لم يذكر في القرآن، ولا في صحيح البخاري ومسلم فقد نزها كتابيهما عن ذكره، وعن الحديث عنه مع رواج الخبر عنه في زمانهما، فلا نرى ذلك إلا لضعف أحاديثه عند هما.

رابعًا: إن رسول الله ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يختصر الحكم الكثيرة في الكلمات اليسيرة، تقول عائشة: لقد كان رسول الله يتكلم بكلمات لو عدّها العادُّ لأحصاها [153]. وأحاديث المهدي هي بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، قد أحصاها الشوكاني فيما يزيد على خمسين حديثًا، وكلها متخالفة ومضطربة ينقض بعضها بعضًا، منها ما يشير إلى أن المهدي هو علي بن أبي طالب، ومنها ما يشير إلى أنه الحسن أو بنوه من بعده، ومنها ما يشير إلى أنه محمد ابن الحنفية، وأنه حي في جبل رضوى بين مكة والمدينة، وعنده عينا عسل وماء، ومنها ما يشير إلى أنه رجل اسمه الحارث، ويؤمر بالسعي إليه لبيعته ولو حبوًا على الركب أو على الثلج، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يعلم كل عاقل بأن رسول الله منزه عنها.

خامسًا: لم يكن من هدي رسول الله ولا من شرعه، أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب وهو من أهل الدنيا، ومن بني آدم فيخبر عنه أنه يفعل كذا وكذا، مما يوجب الاختلاف والاضطراب بين الأمة.

سادسًا: بما أن المهدي بصفة ما يزعمون، وأن اسمه كاسم الرسول محمد بن عبد الله، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف ومن قريش، فإن هذه الصفة توجد بكثرة في كثير من الأشراف.

وبما أنني من هؤلاء الأشراف، من ذرية الحسن بن علي، فإنه لو خرج رجل من الأشراف اسمه محمد بن عبد الله، وهو أجلى الجبهة أقنى الأنف، ويدعي أنه المهدي، فإنني أول من يقاتله لاعتقادي أنه كذاب يريد أن يفسد الدين، ويشق عصا المسلمين، والنبي ﷺ قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[154].

سابعًا: إن من صفة المهدي الذي يدعون خروجه، وأن مقامه في الدنيا سبع سنين أو تسع سنين في الحديث الآخر، وهل هو يؤيد بالخوارق والمعجزات أو بالأحلام والمنامات؟ وهل تنزل معه الملائكة تحارب معه، أو الجن تسخر له كما سخرت لسليمان؟ وهل هو أكرم على الله من محمد رسول الله الذي مكث ثلاثًا وعشرين سنة، كلها يجاهد ويجادل ويصبر على اللأواء والشدة، ويتبع السنن الكونية من الطرق الموصلة إلى نجاحه، والقرآن يؤيده والملائكة يمده الله بهم، وقد شُج رأسه ﷺ، وكسرت رباعيته، ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا وذلك في وقعة أحد.

ومع هذا كله لم يتمكن من بسط العدل إلا في جزيرة العرب، وهي نقطة صغيرة بالنسبة إلى سعة الدنيا.

أفيكون المهدي المنتظر أعز على الله من محمد رسول الله؟!

ثامنًا: إن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، علماءهم وعامتهم، متفقون على قتال من يدعي أنه المهدي كما مضى منهم ذلك في كل زمان ومكان، مع كثرة من يدعي أنه المهدي، لاعتقادهم أنها دعوى باطلة لا صحة لها.

ولا يزالون يقاتلون من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟ وصار المهدي كالموجود في الأذهان دون الأعيان.

تاسعًا: اتفق العلماء على أن الصحابة كلهم عدول، فلا ينسب إليهم شيء من تعمد الكذب، لكنه في القرن الأول ثم الثاني شمل الناس فتن مثل فتنة الجمل وصفين، ثم فتنة النهروان في قتال علي للخوارج، ثم فتنة ابن الزبير مع عبد الملك ابن مروان والحجاج، ثم فتنة مقتل مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان في العراق، ثم فتنة المختار بن أبي عبيد وقتله لعبيد الله بن زياد.

وعلى أثر هذه الفتن انتشرت الأهواء في الناس إلى حالة أنهم يتقاذفون بالسب والشتم على المنابر، فأصحاب علي رضي الله عنه وأنصاره يسبون معاوية وبني أمية، وبنو أمية وأنصارهم يقابلونهم بمثل ذلك إلى بداية ولاية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فرفع هذا السب، وجعل بدله: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠ [الحشر: 10].

عاشرًا: إن الدين كامل بوجود رسول الله ونزول كتاب الله، ولم يخلف رسول الله شيئًا منه لا في السماء ولا في الأرض، يقول تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3].

والنبي ﷺ يقول: «لَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ وَسُنَّتِي»[155].

لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين وعدل يأتي به المهدي، فلا مهدي بعد رسول الله ﷺ كما لا نبي بعده.

حادي عشر: إن العلماء كأبي داود في سننه، وابن كثير في نهايته، والسفاريني في لوامع أنواره وغيرهم، قد أدخلوا أحاديث المهدي في جملة أشراط الساعة مع أحاديث الدجال والدابة، ويأجوج ومأجوج، وأحاديث الفتن. فكل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، لعلمهم أنها أحاديث مبنية على التساهل، ويدخل فيها الكذب والزيادات، والمدرجات، والتحريفات وليست بالشيء الواقع في زمانهم، ولا من أحاديث أحكامهم، وأمور حلالهم وحرامهم.

وفي القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي، وثارت الفتن بسببه كما ذكرها المسعودي في تاريخه، فعند ذلك اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها، وصحيحها من سقيمها، لكون الحوادث في الحياة هي أم الاختراعات، فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها، فنخلها ثم نثرها حديثًا حديثًا، وبين عللها كلها، وأن من رواتها الكذوب، ومنهم المتهم بالتشيع والغلو، ومنهم من يرفع الحديث إلى الرسول بدون أن يتكلم به الرسول، ومنهم من لا يحتج به.

وخلاصته أنه حكم على أحاديث المهدي بالضعف.

لكن رأينا بعض العلماء في هذا الزمان يعترض على تصحيحات ابن خلدون قائلاً: إنه مؤرخ، وليس بصاحب حديث. وهذا الاعتراض لا موقع له من الصحة، فإن ابن خلدون عالم جليل، ولا يقول أحد فيه إلا الخير، وكونه مؤرخًا لا يمنع من كونه محققًا لعشرة أحاديث أو أكثر، لكون التحقيق سهل على مثله عند توفر الآلات والكتب المؤلفة عن صفات الرواة... ودراسة الأشخاص وعدالتهم والقدح فيهم من شؤون التاريخ، كما أنه من شؤون علم الحديث، وكان لابن خلدون مناظرات ومساجلات في الرد مع ابن حجر صاحب فتح الباري.

وقد رأينا من يؤيد قول ابن خلدون من العلماء المتقدمين، والراقين في العلم والمعرفة، والاعتصام بالكتاب والسنة، ومنهم: العلامة ابن القيم فقد ذكر في كتابه المنار المنيف عن أحاديث المهدي وضعفها كما سنورد كلامه بطوله في التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا فلتراجع.

ومنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام[156] فقد جعل المهديين والإمامية من أهل البدع، ويعني بالمهديين: الذين يصدقون بخروج المهدي، ودونك كلامه بلفظه إثباتًا للحجة والعذر، وإزالة للشبهة والعذل، قال بعد كلام له سبق في المتبعين لأهل الأهواء والبدع:وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرًا لها ومحتجًّا عليها.

وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل.

وقال: مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة، وافقت حكم الشريعة أو خالفت، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم، من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي[157].

وبذلك تنقطع حجة من ادعى أنه لم يسبق الإمام ابن خلدون أحد من العلماء في تضعيف أحاديث المهدي، وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي، وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله ﷺ، بدليل التعارض والتناقض، والمخالفات والإشكالات، مما يجعل الأمر جليًّا للعيان، ولا يخفى إلا على ضعفة الأفهام، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

ثاني عشر: هو أن النبي ﷺ جاء بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والمضار وتقليلها، وأن التصديق بالمهدي والدعوة إلى الإيمان به يترتب عليه فنون من المضار والمفاسد الكبار، والفتن المتواصلة التي تكون الآخرة منها شر من الأولى، مما ينزه الرسول عن الإتيان بمثلها، فهي من فتنة الحياة التي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منها في أدبار الصلوات، وقد لازم الناس الخوف والوجل من الابتلاء بفتنة المدعي أنه المهدي وبشيعته وأعوانه من الشباب الطائش الذين هم الغوغاء والهمج السذج أتباع كل ناعق، ويميلون مع كل صايح، والغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان، فيترتب على التصديق به فتنة في الأرض وفساد كبير، وما يقع في قلوب الناس من اعتقاده هو أكبر وأنكر، فإن الفتنة أشد من القتل فلا يلام ولا يأثم من أنكره إذ الأصل عدم صحته.

فإن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، فإن هذا مما ينافي شريعته التي جعلها الله رحمة لعباده ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨[التوبة:128].

فوجود هذا أضر على الناس من عدمه، مع أنه من المحال بأن يكون على صفة ما ذكروا..

أما اعتقاد بطلانه، وعدم التصديق به فإنه يعطي القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتنان ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة: 41].

إن فكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية، وكلها نبعت من عقائد الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من آل البيت.

واستغلت الشيعة أفكار الجمهور الساذجة، وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية فآتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله ﷺ في ذلك، وأحكموا أسانيدها، وأذاعوها من طرق مختلفة فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم.

وكانت بذلك مؤامرة شنيعة أفسدت بها عقول الناس، وامتلأت بأحاديث تروى وقصص تقص، نسبوا بعضها إلى النبي ﷺ، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار.

وكان لكل ذلك أثر سيِّئ في تضليل عقول الناس، وخضوعهم للأوهام كما كان من أثر ذلك الثورات والحركات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، ويتسببون في إثارة الكثير من الفتن، وهذا كله من جراء نظرية خرافية هي نظرية المهدي وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم.

* * *

[153] متفق عليه. [154] أخرجه مسلم من حديث عرفجة بن ضريح. [155] أخرجه مسلم من حديث جابر. [156] انظر صفحة 129 وما بعدها. [157] انظر كتاب الاعتصام: 301 وما بعدها.

التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر

علم أن أحاديث المهدي تدور بين ما يزعمونه صحيحًا وليس بصريح، وبين ما يزعمونه صريحًا وليس بصحيح، وأننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي ﷺ حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي، وأن الرسول ﷺ تكلم فيه باسمه.

وقد نزه البخاري ومسلم كتابيهما عن الخوض في أحاديث المهدي، كما أنه ليس له ذكر في القرآن، لهذا لا ننكر على من أنكره، وإنما الإنكار يتوجه على من اعتقد صحة خروجه.

وسنتكلم على الأحاديث التي يزعمونها صحيحة، والتي رواها أبو داود والإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وكلها متعارضة ومختلفة، ليست بصحيحة ولا متواترة، لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى.

الحديث الأول:

روى أبو داود في سننه عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً». ثم قال كلمة فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» فالجواب أن هذا الحديث يجعلونه رأسًا وأصلاً في أحاديث المهدي بحيث يستقي منه أهل السنة الذين يصدقون بصحة خروج المهدي، كما يستقي منه الشيعة حيث يرون أن إمامهم محمد بن الحسن العسكري هو الثاني عشر.

وبمقتضى التأمل لم نجد للمهدي ذكرًا في هذا الحديث، لا بمقتضى التصريح ولا التلميح، فالاستدلال به، على فرض صحته، غير موافق ولا مطابق، فإنه لا ذكر للمهدي فيه ولم يقل في الحديث: إن أحدهم المهدي. حتى يكون حجة.

وقد صار أمر المهدي وخروجه مشتركًا بين السنة والشيعة، وكل منهم استدل بهذا الحديث، وقد سماه العلامة ابن كثير في نهايته بالخليفة، وجعله بصف الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

وقد قال النبي ﷺ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً»[158]. وقد انتهت بوفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

كما أن السفاريني سماه بالإمام وبالخاتم فقال:
منها الإمام الخاتم الفصيح
محمد المهدي والمسيح
ولا أدري من أين وجدوا بأن رسول الله قال في هؤلاء الأئمة إن أحدهم المهدي أو إنه الإمام أو الخليفة، وما هو إلا محض المبالغة في الغلو في القول بخروجه حتى أدخلوا هذا الاعتقاد في قلوب بعض العلماء، وأكثر العامة، وحتى أدرجوه في عقيدة أهل السنة والجماعة.

والحق أن حديث جابر بن سمرة في قول النبي ﷺ: «لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً». ينبغي أن يحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حمله على حكام المسلمين الذين كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، والذين قام بهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية بن أبي سفيان ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد ابن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك ثم يزيد بن الوليد، ومن بعده إلى مروان بن محمد، ثم انتقلت الإمامة إلى بني العباس ومنهم: المنصور، ثم ابنه المهدي، ثم هارون الرشيد إلى من بعدهم ممن استقام بهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين، ومن بعد هؤلاء عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي.

فلا ينبغي أن نبخس هؤلاء حقهم، أو ننسى محاسنهم، أو نجحد عموم عدلهم الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، ثم نحمله على المهدي الذي لا يخرج بزعمهم إلا زمن عيسى ابن مريم، وهو مجهول في عالم الغيب.

ولا نقول: إن هؤلاء ليس فيهم عيوب ولا ذنوب، بل قد يوجد فيهم ما يعابون به كما قالوا في معاوية وقتاله لعلي، وكون علي أحق بهذا الأمر منه بشهادة رسول الله ﷺ حيث قال في الخوارج: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»[159]. وقد قاتلهم علي، وقال في عمار: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»[160]. وقد قتله أصحاب معاوية، وهذه كلها ذنوب خاضعة تحت عفو الله ومغفرته، إذ لا يلزم أن تحبط سائر عمله، وماضيه ومستقبله، والحسنات يذهبن السيئات، فقد حكم معاوية عشرين سنة، واستقام عليه أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين.

وقبله قد قاتل الزبير وطلحة في وقعة الجمل عليًّا رضي الله عنهم أجمعين، ومع هذا فقد قال علي رضي الله عنه: إني أرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة من الذين قال الله فيهم: ﴿وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ ٤٧ [الحجر: 47].

فمتى قلنا: إن الاثني عشر خليفة الذين استقام بهم الدين لن يخرجوا عن هؤلاء الأئمة الذين أعز الله بهم الدين، وجمع بهم شمل المسلمين لم نكن آثمين، بدلاً من أن نحيل أحدهم إلى تسميته بالمهدي، ثم نجعله خيالاً غيبيًّا يوجد في الأذهان دون الأعيان، إذ هذا من التخرص والظنون، والقول على الله وعلى رسوله بغير حق.

[158] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث سفينة. [159] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. [160] أخرجه مسلم من حديث أم سلمة.

الحديث الثاني:

روى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ واحد، لَبَعَثَ اللهُ رَجُلًا مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا».

ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم، ورواه الترمذي أيضًا.

والجواب: إن هذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة، وهي ليست بصريحة في الدلالة على المعنى الذي ذكروه، إذ ليس فيها ذكر للمهدي.

وعلى فرض صحته، فإنه لا مانع من جعل هذا الرجل الذي يملأ الأرض عدلاً من حكام المسلمين الذين مضوا وانقضوا واستقام عليهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين.

فقوله: «منَّا» يحتمل أن يكون من أهل ديننا وملتنا، على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا يكاد أن يكون من المحال، فقد خلق الله الدنيا وخلق فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر كما قال سبحانه: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢ [التغابن: 2] لكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والمصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين المسلمين والكفار.

وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ». وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «يَقُوْلُ اللهُ: يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّي وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائةٍ وَتِسْعَةٌ وتسعون فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ».

وعلى كل حال فإنه ليس في الحديث التصريح باسم المهدي، ولا زمانه ولا مكانه ولا الإيمان به، ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين الذين استقام بهم الدين، وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين.

وهذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة.

الحديث الثالث:

روى أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «الْمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ سَبْعَ سِنِينَ».

والجواب: إن هذا بمعنى الحديث الأول ما عدا الأوصاف، من كونه أجلى الجبهة أقنى الأنف، وهذه الأوصاف موجودة في كثير من الناس وخاصة الأشراف، فلا تفيد بالمهدي علمًا ولا يقينًا، ورسول الله ﷺ منزه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله، ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد صارت دعوى المهدي، والاتصاف بالأوصاف المذكورة، مركبًا للكذابين الدجالين، فكل واحد منهم يحاول أن يكون هو، فيقع الناس في مشكلة لم تحل، وفتنة لا تنتهي يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة، وحاشا أن يأتي بها رسول الله لأمته.

الحديث الرابع:

روى أبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، وَمِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ».

فالجواب أن نقول: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأم سلمة، وأبا سعيد الخدري، وابن مسعود وسائر الصحابة كلهم إن شاء الله منزهون عن الكذب على رسول الله ﷺ، وإنما حدث وضع أمثال هذه الأحاديث وصياغتها من الغلاة الزنادقة.

وقد تعقب صاحب تهذيب السنن على حديث أم سلمة هذا وأعله بالبطلان. قال أبو جعفر العقيلي: إن هذا الحديث يروى عن أبي نفيل العقيلي، وإنه من قول نفيل، ولا يتابع عليه ولا نعرفه إلا منه، وذكر البخاري أن في سنده زياد بن بيان، وقد وهم في رفعه إلى رسول الله ﷺ.

فهذا الحديث مما قلنا: إنه صريح في ذكر المهدي، لكنه ليس بصحيح لا في سنده ولا متنه، ولم يحفظ عن رسول الله اسم العترة، وهم أقارب الشخص، ولا اسم المهدي.

الحديث الخامس:

روى أبو داود في سننه عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن و المقام، ويُبعث إليه بعث من الشام، فتخسف بهم البيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك آتاه أبدال الشام، وعصائب أهل العراق، فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش، أخواله كلب فيبعث إليهم بعثًا، فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب -أو قال: بيعة كلب- فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيه، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض، فيلبث سبع سنين، تم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون».

فالجواب: إن هذا الحديث ليس بصحيح ولا بصريح، وليس للمهدي فيه سوى ذكر رجل خرج هاربًا من المدينة إلى مكة، ويبعد كل البعد أن يصدر هذا الخبر عن أم سلمة، فإنها ليست معروفة برواية الحديث كهذا، وبطلانه يظهر من دراسته، ولقد صرح السيوطي في كتاب اللآليء المصنوعة بأنه موضوع، والموضوع: هو المكذوب على الرسول.

وكم خليفة قد مات فوقع من بعده اختلاف، ولما قتل ابن الزبير ألزم الحجاج الناس بأن يبايعوا لعبد الملك بن مروان بين الركن والمقام، أفيقال: إنه هو؟ ولأن حوادث الزمان لا تنضبط، وليس من شأن الرسول، ولا من شأن عالَم الغيب، أن يخبر أمته بكل حادثة تحدث من بعد موته إلى يوم القيامة، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا ينكر فيه حديث أبدال الشام ورايات العراق، ويقول: إنه لا صحة له.

وقد أخبر النبي ﷺ أنه يؤخذ بأناس من أمته ذات الشمال «فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُوْلُ: بُعْدًا وَسُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي، أَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: ﴿وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧ [المائدة: 117]»[161].

وأما قوله في الرجل الذي من قريش والذي يبايعه الناس: «ثُمَّ يُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ بَيْنَ النَّاسِ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ».

فكم من رجل من قريش تولى الحكم على الناس، وألقى الإسلام بجرانه في زمانه، واجتمعت عليهم كلمته واستفادوا في زمانه بالإيمان والأمان وزيادة الاطمئنان، ثم نشر العدل في جميع الأوطان، ومكث في ولايته سنين طويلة دون أن يسمى المهدي.

أما هذا الرجل الذي لا يمكث في ولايته على الناس إلا سبع سنين فإنه فيء زائل.

وكيف يملأ الأرض عدلاً في سبع سنين، وقد ملئت جورًا وكفرًا؟ فهل يغزو الناس بالأحلام في المنامات، أو يغزو الناس بالملائكة أو بالجن؟

وهل هذا الرجل أفضل من رسول الله ﷺ، الذي جادل وجاهد وصبر على اللأواء والضنك والشدة، وأوذي في الله، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ومشى على طريق السنن المعتادة، واستقام على ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، ولم يتمكن من ملء الأرض عدلاً إلا في الجزيرة العربية، التي هي بمثابة النقطة بالنسبة إلى سعة الدنيا، ومتى صدقنا بهذا الحديث فإننا نكون ممن يفضل هذا الرجل على النبي محمد ﷺ، مع العلم أنه لم يذكر اسم المهدي فيه، فسقط الاستدلال به، إذ الرجل مبهم، وتعيين شخص معين هو تحكم بغير علم، إذ هذا يعود إلى علم الغيب.

[161] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.

الحديث السادس:

روى أبو داود بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له: الحارث بن حران على مقدمة رجل يقال له: منصور، يوطئ أو يمكّن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله ﷺ، وجبت على كل مؤمن نصرته» أو قال: «إجابته».

فالجواب: إن هذا الحديث هو من جملة ما أورده أبو داود في سننه عن المهدي، وإنه يبعد كل البعد عن المعنى الذي أرادوا، فليس فيه ذكر للمهدي قطعًا لا باللفظ ولا بالمعنى، فليس هو بصحيح ولا بصريح ولا متواتر، وإن أمارات الكذب تلوح عليه جلية، إذ لا يوجب الرسول على أمته البيعة لرجل مجهول اسمه الحارث يخرج من وراء النهر، ويوطئ الملك لآل محمد.

فقد قال النبي ﷺ لقريش: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَلِّبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي من مالي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»[162].

فليس من شأن الرسول، ولا من عمله، ولا من خلقه ودينه، أن يمهد الملك ويوطد البيعة لأهل بيته، ولو كان كذلك لقدم عليًّا على أبي بكر في البيعة، ولما قال: «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[163].

ولهذا قال الصحابة عند بيعته: رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ بل قال رسول الله ﷺ في حديث العرباض بن سارية الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن العرباض قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصِنا قال: «أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ».

والنبي ﷺ قال لأهل بيته: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَرَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»[164]. والأثرة: الاستئثار بالشيء عن الآخرين.

وقريش لم تمهد لآل محمد الملك، إنما قاتلهم عليه، فقد غزت قريش النبي ﷺ في عقر داره يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، وإنما بذلوا له الطاعة بعد فتح مكة، لأن الدنيا دار أنكاد وأكدار، ودار شرور وأضرار، وأشد الناس فيها بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، والآخرة عند ربك للمتقين.

[162] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [163] أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «يأبى الله والمؤمنون» . [164] أخرجه البخاري ومسلم عن أسيد بن حضير.

الحديث السابع:

روى الإمام أحمد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية عن أبيه عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: «الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ». وقد رأيت من ينتقد هذا الحديث قائلاً: والعجيب أن يكون المهدي بعيدًا عن التوفيق، والفهم والرشد، ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة ليكون في صبيحتها داعية هداية ومنقذ أمة.

ورواه ابن ماجه عن عثمان بن أبي شيبة، وقال: ياسين العجلي ضعيف.

فهذا من جملة الأحاديث التي فيها التصريح باسم المهدي، لكنها ليست بصحيحة كما أشار ابن ماجه إلى تضعيفه، ومن الأمر العجيب في هذا الحديث كون المهدي بعيدًا عن الهداية والتوفيق والرشد، ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة فيكون في صبيحتها: هاديًا مهديًّا ومنقذ أمة من جورها وفجورها.

الحديث الثامن:

روى أبو داود عن هارون بن المغيرة، حدثنا ابن أبي قيس عن شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال: نظر علي إلى ابنه فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله ﷺ، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق، ولا يشبهه في الخلق. ثم ذكر قصة يملأ الأرض عدلاً... وهذا يعد من كلام علي رضي الله عنه، وليس بحديث عن رسول الله، فسقط الاحتجاج به، ومن المحتمل أن يكون مكذوبًا على علي به.

الحديث التاسع:

روى أبو داود في سننه من حديث سفيان الثوري بسنده عن عبد الله بن مسعود، عن النبيﷺ قال: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يُبْعَثُ فِيْهِ رَجُلٌ مِنِّي، أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا». ورواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.

والجواب: إن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، كهذه الأحاديث وأمثالها، لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم. وفي صحيح البخاري عن أبى جحيفة، قلت لعلي رضي الله عنه: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر، وفي رواية: والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. ولم يذكر شيئًا من هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب، ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما، لكون الغالب عليها الضعف والوضع، وأصح ما ورد في ذلك هو قول النبي ﷺ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»[165]. وقد وقع ما أخبر به حيث تنازل الحسن عن المطالبة بالملك لمعاوية ابن أبي سفيان، فأطفأ الله به نار الحرب بين الصحابة، وسموا ذلك العام بعام الجماعة.

[165] أخرجه النسائي والترمذي من حديث أبي بكرة.

الحديث العاشر:

روى ابن ماجه بسنده إلى الحارث بن جزء الزبيدي قال: قال رسول الله ﷺ: «يَخْرُجُ النَاسُ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَيُوَطِّئُونَ لِلْمَهْدِيِّ»، يعني السلطان. وروى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي ﷺ اغرورقت عيناه، وتغير لونه، قلت: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه!؟ قال: «إِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ اخْتَارَ لَنَا اللَّهُ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَلَاءً وَتَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ يَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُوْنَ فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ». قال الذهبي: هذا حديث موضوع، والموضوع: المكذوب على رسول الله. وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو سيئ الحفظ، اختلط في آخر عمره، وكان يقلد الفلوس أي: يزيفها.

الحديث الحادي عشر:

روى ابن ماجه عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: «لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً، وَلَا الدُّنْيَا إِلَّا إِدْبَارًا، وَلَا النَّاسُ إِلَّا شُحًّا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَمَا الْمَهْدِيُّ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».

وقالوا: إن هذا الحديث مشهور بمحمد بن خالد الجندي المؤذن شيخ الشافعي.

وهذا الحديث لو صح لقضى بإبطال سائر الأحاديث في المهدي، ولكنه ضعيف عندهم لمخالفته لسائر الأحاديث، ولا يقل عن ضعف سائر الأحاديث المذكورة في المهدي، وهنا حديث كثيرًا ما يحتج به المتعصبون للمهدي وهو: أن المهدي مع المؤمنين يتحصنون به من الدجال، وأن عيسى عليه السلام ينزل من منارة مسجد الشام، فيأتي فيقتل الدجال، ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فيقول المهدي: تقدم يا روح الله، فيقول: إنما هذه الصلاة أقيمت لك، فيتقدم المهدي، ويقتدي به عيسى عليه السلام إشعارًا بأنه من جملة الأمة، ثم يصلي عيسى عليه السلام في سائر الأيام. قال علي بن محمد القاري في كتابه: الموضوعات الكبير؛ بأنه حديث موضوع.

وإننا متى حاولنا جمع أحاديث المهدي التي يقولون بصحتها وتواترها بالمعنى، وقابلنا بعضها ببعض، لنستخلص منها حديثًا صحيحًا صريحًا في المهدي، فإنه يعسر علينا حصوله، وكلها غير صحيحة، ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى، بل هي متعارضة ومتخالفة، وغالبها حكايات عن أحداث، ومتى حاولت جمعها نتج لك منها عشرة مهديين، صفة كل واحد غير الآخر مما يدل بطريق اليقين أن رسول الله ﷺ لم يتكلم بها، منهم مثلاً:

1- مهدي يخرج من اثني عشر خليفة الذين يستقيم بهم الدين.

2- ومهدي استخرجوه من حديث: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ، لَبَعَثَ اللهُ رَجُلًا مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا».

3- ومهدي منا أجلى الجبهة، أقنى الأنف.

4- ومهدي يقول فيه رسول الله ﷺ: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، وَمِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ».

5- ومهدي يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة إلى مكة، فيبايعونه بين الركن والمقام.

6- ومهدي يخرج من وراء النهر يقال له: الحارث بن حران، وعلى مقدمته رجل يقال له: منصور، يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله ﷺ.

7- ومهدي قال فيه رسول الله: «الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ».

8- ومهدي قال فيه رسول الله: «إِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ ذلًّا وَتَشْرِيدًا من بعدي، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ الْمَشْرِقِ، مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ فَيَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُوْنَ وَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُوهَا حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا».

9- ومهدي أخواله كلب.

10- ومهدي قال فيه رسول الله: «لَا مَهْدِيَّ بعدي إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».

وهذه الأحاديث هي التي يزعم المتعصبون لصحة خروج المهدي بأنها صحيحة ومتواترة بالمعنى، وهي لا صحيحة ولا صريحة ولا متواترة.

* * *

فصل مهدي أهل السنة ومهدي أهل الشيعة

إننا عندما نتحدث في كتابنا هذا عن المهدي، فإنما نعني به المهدي المجهول في عالم الغيب، والذي يصدق بخروجه بعض أهل السنة.

أما مهدي الشيعة فإنه معلوم اسمه، ومعروف مكانه فلا حاجة للكلام فيه.

وأول من قال بالمهدية: كيسان مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ابنه محمد ابن الحنفية، فقد زعم بأنه المهدي، وأنه مقيم بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وأن عنده عيني عسل وماء. وهذا هو اعتقاد المختار بن أبي عبيد ومن معه، ثم دخلت فكرة المهدي وخروجه في المجتمع الإسلامي، وكان لعبد الله بن سبأ اليد العابثة في تحقيقه، وصناعة الحديث في التصديق به، وكانت الكوفة موطنًا أو مسرحًا لجميع الناس، وخاصة غلاة الزنادقة ومن دخل في الإسلام في الظاهر من اليهود والنصارى والمجوس، فدخلت من بينهم الأهواء، ومجادلة انتصار قوم على آخرين مع الحرص منهم على إفساد عقيدة الدين، فصار من السهل عليهم مع عدم إيمانهم وأمانتهم بأن أنشؤوا الأحاديث المكذوبة عن أهل القبور بحيث يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله. وهم كلهم أموات غير أحياء، فوسعوا الشكوك الإلحادية، وزعزعوا بآرائهم العقائد الدينية، ولقحوا أفكار الناس بعقائد خيالية دخيلة ليست من عقائد الإسلام والمسلمين، كعقيدة المهدي المنتظر وما يكون من أمره ونشره للعدل في جميع الدنيا في خلال سبع سنين، وساعد على رسوخ فتنة المهدي نشاط دعاتها، وجَوبهم للأقطار في سبيل نشرها، واشتهارها وصحتها ويوهمون أتباعهم بنجاح دعوتهم، وكثرة أتباعهم، مع حلاوة ما يدعون إليه من محاربة الجور والظلم، وبسط العدل والأمن الذي يخالفه فعلهم عند استيلائهم. فكانوا يرون بالضروري بزعمهم أن يلجؤوا إلى صناعة الأحاديث المكذوبة ليشغلوا بها الأذهان وضعفة العقول والأفهام، ويستعملوها بمثابة آلة الانتصار لحزبهم وحرب عدوهم، والباطل لا تقوى شوكته وتعظم صولته إلا في حالة رقدة الحق عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله.

يقول الله تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ [الأنبياء: 18].

لها رأينا كما رأى المؤرخون قبلنا بأن دعوى المهدي لا تزال تتكرر في الأعصار والأمصار، فكان دعاتها يملؤون ما استولوا عليه من البلدان جورًا وفجورًا وظلمًا وعدوانًا، ويستبيحون سفك الدماء وأخذ الأموال، ويفسدون الدين ويفرقون جماعة المسلمين حتى في أشرف بقاع الأرض كالمسجد الحرام، والذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ومن دخله كان آمنًا.

لهذا وقبل ذلك تنبه العلماء من المتقدمين والمتأخرين لرد الأحاديث التي يرددونها ويموهون بها على الناس، فأخضعوها للتصحيح والتمحيص، وبينوا ما فيها من الجرح والتضعيف، وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين.

وممن انتقد هذه الأحاديث وبين معايبها: العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: المنار المنيف في الصحيح والضعيف.

وقد أشرنا إلى كلامه بلفظه في كتابنا هذا، ومنهم: الشاطبي صاحب الاعتصام، فقد ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع، ويعني بالمهدية: الذين يعتقدون صحة خروج المهدي، وكذلك ابن خلدون في مقدمته فقد فحص أحاديث المهدي وبين بطلان ما يزعمونه صحيحًا منها، فسامها كلها بالضعف وعدم الصحة، وأن من رواتها من يتهم بالتشيع، ومنهم الحروري[166]، ومنهم من يعتقد رفع السيف على أهل القبلة، ومنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من يتهم بسوء الحفظ، ومن يتهم برفع الحديث إلى رسول الله بدون أن يتكلم به الرسول، مع ما فيها من التعارض والاضطراب والاختلاف.

ثم قال: والحق الذي ينبغي أن يتقرر أن ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في رأيه إلى اعتقاد صحيح، ولا إلى علم صريح يفيده، فيجيبون في ذلك على غير نسبة، وفي غير مكان تقليدًا لما اشتهر من ظهور الفاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر وإنما يقولون تقليدًا، فقد ظهرت حركات كثيرة كلها تدعي أنها المهدي، ثم ظهر ناس بهذه الدعوة وينتحلون السنة، وليسوا عليها إلا الأقل.

ويقول محمد فريد وجدي في دائرة المعارف الجزء 9 ص 480: ما ورد في المهدي المنتظر من أحاديث، والناظرون فيها من أولي البصائر لا يجدون في صدورهم حرجًا من تنزيه رسول الله ﷺ من قولها، فإن فيها من الغلو والخبط في التواريخ والإغراق في المبالغة، والجهل بأمور الناس والبعد عن سنن الله المعروفة ما يشعر المطالع لأول وهلة أنها أحاديث موضوعة تعمد وضعها رجال من أهل الزيغ المشايعين لبعض أهل الدعوة من طلبة الخلافة في بلاد العرب أو المغرب.

وقد ضعَّف كثير من أئمة المسلمين أحاديث المهدي، واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه منهم: الدارقطني والذهبي، وقد أوردناها مجتمعة لتكون بمرأى من كل باحث في هذا الأمر حتى لا يجرؤ بعض الغلاة على التضليل بها على الناس. انتهى.

* * *

[166] الحروري: الخارج، وكان الخوارج يسمون بالحروريين.

المقارنة بين أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين

إننا متى قابلنا بين العلماء المتقدمين والمتأخرين، نجد الفرق واسعًا، فلا مداناة فضلاً عن المساواة، إذ العلماء المتقدمون قد جمعوا بين العلم والعمل، فهم أحق وأتقى وأقرب للتقوى.

لكن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله ﷺ من مؤمن بالله، ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة، حتى بلغت خمسين حديثًا في قول الشوكاني كما نقلها عنه السفاريني في لوامع الأنوار، وأورد ابن كثير في نهايته الكثير منها، وفي كتب الشيعة: إنها بلغت ألفًا ومائتي حديث.

والسبب أن من عادة علماء السنة المتقدمين التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة، كأحاديث المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وما كان من قبيل ذلك فلا يتكلفون في نقدها، ولا إخضاعها للتصحيح ولا للتمحيص لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة.

بخلاف أحاديث الأحكام وأمور الحلال والحرام، وما يحتاجه الناس في عبادة ربهم والتعامل فيما بينهم في أمور دنياهم، فقد بالغوا في تحقيقها بمعرفة رواتها، وما يجوز وما لا يجوز منها، فهم بعلم صحيح نطقوا وببصر ناقد كفوا.

غير أن الحاجات هي أم الاختراعات، ولكل حادث حديث، وكم ضارة نافعة، وأنه لولا حادث الحرم الشريف بمكة، وانتهاك حدوده ومحرماته وقتل الحجاج والمصلين فيه، وقتل حراسه من قبل الفئة المارقة المنافقة، إنه لولا ذلك لما تكلفت تأليف هذه الرسالة، لاعتقادي أن المهدي وما يقال فيه ليس من عقيدة أهل السنة، فلم أعطه حظًّا من الاحتفال به، وأنه وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة، يتلقفها واحد عن آخر، ويزيد كل واحد فيها ما يريده. لله در الحادثات فإنها صدأ الجبان وصيقل[167] الأحرار إن فكرة المهدي والفتنة به أصبحت تتكرر في كل زمان ومكان، وأصبح يتطلع لها ويطمع في الاتصاف بها كل شاب مجنون يطابق اسمه اسم المهدي وصفته كصفته، فيظن الهمج السذج الذين هم أتباع كل ناعق ويميلون مع كل صائح أنه أملهم المنشود وبغيتهم المطلوبة.

ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان.

والذي جعل أمر المهدي يستفحل بين أهل السنة من المسلمين، وكان بعيدًا عن عقيدتهم، هو عجز العلماء المتقدمين وكذا العلماء الموجودين على قيد الحياة، فلم نسمع بأحد منهم رفع قلمه ولا نطق (ببنت شفة)[168] في التحذير من هذا الاعتقاد السيئ، وكونه لا صحة له. اللهم قد بلغت، بل إنهم ينكرون على من يقولون بإنكاره فيزيدون الحديث علة والطين بلة.

وقد سمعت أن أحد الطلاب قد حصل على شهادة الدكتوراه بتقديم رسالة أثبت فيها صحة خروج المهدي. إن فكرة المهدي والفتنة به لها أسباب سياسية واجتماعية، وغالبها مقتبس من عقائد الشيعة وأحاديثهم، فسرى اعتقادها إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى.

فبعد خروج الخلافة من أهل البيت تصدى أقوام من المتحمسين لهم فعملوا عملهم في صناعة الأحاديث التي غزوا بها أفكار الجمهور، يروونها عن رسول الله ﷺ، وأحكموا أسانيدها عن أكثر الموتى وأخرجوها بطرق مختلفة، وأسانيد مضطربة ومتعارضة، فصدق بها بعض علماء الإسلام، وضعفة العلوم والأفهام، وصار لها الأثر السيئ في تضليل عقول الناس، وإفساد عقائدهم، وخضوعهم للخرافات والأوهام.

وعلى أثر اعتقادها والتصديق بها، تتابعت الحركات والثورات المشحونة بسفك الدماء، ففي كل عصر يخرج من يدعي أنه المهدي، وناهيك بالمغرب وكثرة من يخرج فيه من المدعين للمهدية، ويلتف حوله أتباعه من الهمج السذج والغوغاء الذين هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

ففكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع سيرة رسول الله ﷺ وسنته بحال، فقد أثبتت التآريخ الصحيحة حياة رسول الله من بداية مولده إلى حين وفاته، كما أثبتها القرآن وليس فيها شيء من ذكر المهدي، كما لا يوجد في القرآن شيء من ذلك فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به والقرائن والشواهد تكذبه؟

وما هذا التهالك في محبته والدعوة إلى الإيمان به، وهو رجل من بني آدم ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به؟!

* * *

[167] صيقل: جلاء. [168] بنت الشفة: أي كلمة.

محاربة أكثر علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي

إن علماء الأمصار -والحق يقال- متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية التي يقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال، فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، حتى يجعلونه جليًّا للعيان، وصحيحًا بالدلائل والبرهان، وليس من شأن الباحث أن يُفهِم من لا يريد أن يَفهَم.

وقد قرروا قائلين: إن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما، مع العلم أنها على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين، وما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان، أو في أوله يقوم بها فلان أو فلان، بدون ذكر المهدي.

فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها، وقد ثبت بطريق الواقع المحسوس أن فكرة المهدي أصبحت فتنة لكل مفتون، تنتقل من جيل إلى جيل، ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، وتراق من أجلها الدماء الزكية البريئة، في الشهر الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام، مما أزعج المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها.

والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي، وعدم اعتقاد صحتها، وعندنا كتاب الله نستغني به عنه، وعن كل بدعة واتباع كل مبتدع مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله باللواذ به عند الفتن، كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة سواء كانت متواترة، أو من رواية الآحاد غير المتعارضة ولا المختلقة.

ولعل العلماء الكرام، والأكابر من الطلاب، يقومون بجد ونشاط إلى بيان إبطال فكرة المهدي وفساد اعتقاده، وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم، وعلى أئمة المسلمين وعامتهم، وما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول، وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم، وإن الجهل بأحكام الدين وحقائقه وعقائده الصحيحة يدفع صاحبه إلى أي فكرة تنقش له بدون مناظرة عقلية، وبدون رجوع منه إلى نص صحيح وصريح، وهذا الجهل هو الذي أدى بأهله إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وإلى وضع ألف ومائتي حديث عند الشيعة[169]، وإن هذه الأحاديث المختلقة هي التي أفسدت العقول وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدي.

ولقد قام علماء الأمصار بجد ونشاط إلى تحذير قومهم من اعتقاد المهدي وصحة خروجه، فواصلوا قولهم ونصحهم بعملهم بكتابة الرسائل في الجرائد والمجلات والنشرات، يبينون لهم فسادها وسوء عواقب اعتقادها حتى خف أثرها في نفوسهم، وحتى زال اعتقادها عن علمائهم وعامتهم، على نسبة عكسية من فعل علمائنا، فإنهم -رحمهم الله- يسيرون في طريق مخالف، ويصدعون على رؤوس الناس بصحة اعتقادها، وينكرون على من أنكرها، ويحجرون رأي الجمهور على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم. إنهم لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر، من كتابنا هذا وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة، وقابلوا بعضها ببعض، لظهر لهم بطريق اليقين أنها لست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى، نسأل الله لنا ولهم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياهم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

إن بعض علمائنا عندما يرى أحدهم شيئًا من الرسائل أو البحوث الصادرة من علماء الأمصار المتأخرين، وهي تعالج شيئًا من المشاكل الهامة التي يشتد الخلاف فيها، ويهتم كل الناس بأمرها، كمسألة المهدي ونحوها، فلا يعطي هذه الرسالة شيئًا من الاهتمام والنظر، خصوصًا عندما يعرف أنها تخالف رأيه واعتقاده، فإنه يشمئز منها، وينفر عنها، وتشتد كراهيته لها وربما قال: إن هؤلاء ليسوا بشيء، حتى لا يكاد يراها ولا يسمعها، لكون الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء فإنه لا يكاد يراه ويسمعه، وقد مدح الله الذي جاء بالصدق وصدق به، والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فهؤلاء قد حرموا أنفسهم خيرًا كثيرًا، وعلمًا غزيرًا، فإن من واجبهم تلقي هذه العلوم والبحوث بالرحب وسعة الصدر، وتدبر وتفكر في مدلولها.. ثم التزود مما طاب لهم منها ليزدادوا علمًا إلى علمهم، وعسى أن يفتح لهم من العلوم والفنون ما لم يكونوا يحتسبون، لأن العلم شجون يستدعي بعضه بعضًا... ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا ١١٤ [طه: 114].

* * *

[169] نشأت هذه الأحاديث عن أهواء عصبية وأمور سياسية.

فصـل من كلام ابن القيّم في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف

قال رحمه الله: ذكر أبو نعيم في كتاب المهدي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَبَعَثَ اللهُ فِيْهِ رَجُلًا، اسْمُهُ اسْمِي، وَخُلُقُهُ خُلُقِي، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللهِ» ولكن في إسناده العباس بن بكار لا يحتج بحديثه؛ وقد لخصه الحافظ السيوطي، وحذف أسانيده، وزاد عليه أضعافه في جزء سماه: العرف الوردي في أخبار المهدي. وأدخله في كتابه: الحاوي للفتاوى.

وقد قالت أم سلمة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، مِنْ فَاطِمَةَ» رواه أبو داود وابن ماجه، وفي إسناده زياد بن بيان وثقة ابن حبان، وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الهلالي، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن زياد، عن الأعمش، عن زر بن حبيش، عن حذيفة قال: خطبنا النبي ﷺ فذكر ما هو كائن، ثم قال: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ رَجُلًا مِنْ وَلَدِي اسْمُهُ اسْمِي». ولكن هذا إسناده ضعيف.

وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي ﷺ اغرورقت عيناه، وتغير لونه فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه؟ قال: «إِنَّا أَهْلَ بَيْت اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَلَاءً وَتَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ، يَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ، فَيُنْصَرُوْنَ، فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ» وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو سيئ الحفظ، اختلط في آخر عمره، وكان يقلد الفلوس أي: يزيفها.

ومن كلام العلامة ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف عن موقف الإمامية من المهدي:

قال: إن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيرًا من أكثر من خمسمائة سنة، وهم ينتظرونه، ولقد أحسن من قال:
ما آن للـسرداب أن يلد الذي
حمّلتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم
ثلثتم العنقاء والغيلانا
أما مهدي المغاربة: محمد بن تومرت فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل، ملك بالظلم والتغلب والتحيل، فقتل النفوس وأباح حريم المسلمين وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، وكان شرًّا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير، وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، يأمرهم أن يقولوا للناس: إنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ. ثم يردم عليهم ليلاً لئلا يكذبوه بعد ذلك، وسمى أصحابه الجهمية: (الموحدين) نفاة صفات الرب وكلامه، وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بالأبصار يوم القيامة، واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم والإيمان، وتسمى بالمهدي المعصوم. ثم خرج المهدي الملحد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان جده يهوديًّا من بيت مجوسي، فانتسب بالكذب والزور إلى أهل البيت، وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ، وملك وتغلب، واستفحل أمره إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون، الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ولرسوله، على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام. واشتدت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم، وكانوا يدعون الألوهية، ويدعون للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها.

ولم يزل أمرهم ظاهرًا إلى أن أنقذ الله الأمة منهم، ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم.

والمقصود أن هؤلاء لهم مهدي، وأتباع ابن تومرت لهم مهدي، والرافضة الاثنى عشرية لهم مهدي.

فكل هذه الفرق تدعي في مهديها الظلوم الغشوم، والمستحيل المعدوم: إنه الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم، الذي بشر به النبي ﷺ.

فهذا كلام ابن القيم قد أنحى فيه بالملام، وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي، ولم يستثن فرقة من فرقة، لكونها دعوى باطلة من أصلها.

ويشير إلى أن فكرة المهدي المنتظر قد سبق إلى ادعائها كثيرون، وأنهم كلهم لم يعدلوا في الأرض، بل ملؤوا الدنيا جورًا وظلمًا وعدوانًا، وسفكوا الدماء، واستباحوا المحارم، خلاف ما يدعون إليه.

ويقول الأستاذ البلاغي في تصوير حالة المنتظرين للمهدي: إن هؤلاء الناس يعيشون تحت ركام من الإيحاءات والتمنيات المستمرة بشأن ظهور المهدي، وحتى امتلأت قلوبهم وجوانحهم بالبشرى به، والشوق إلى لقائه وطالت عليهم ليالي الانتظار في توقع صبح الفرج، فكان من يأتيهم باسم المهدي يكون حاجتهم المطلوبة، وأمنيتهم المنتظرة، ويأتي إلى مهاد موطد، وأمر ممهد، قد امتلأت بالرغبة إليه القلوب، واشتاقت إليه النفوس، وامتدت الأعناق وشخصت الأبصار، فلا يحتاج المتمهدي فيه من ضعفاء البصائر إلا إلى شيء من التمويه والتلبيس الذي قد فتح بابه وقدح زناد فتنته[170]. انتهى.

هذا الجهل هو الذي أدى إلى وضع ألف ومائتي حديث موضوع في المهدي عند الإمامية، وإلى وضع خمسين حديثًا عند أهل السنة، إن مثل هذه الأحاديث المختلقة هي التي أفسدت العقول، وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية.

وإنه على فرض صحة هذه الأحاديث، أو بعضها، أو تواترها بالمعنى، حسب ما يدعون، فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية، ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله: الواسطية والأصفهانية والسبعينية والتسعينية، ولم تذكر في عقيدة الطحاوية وشرحها، ولا عقيدة ابن قدامة، ولا في الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، وهي تتمشى على عقيدة أهل السنة، وهي من آخر مؤلفاته، وجعلها خاتمة حياته، فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين. ثم إن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى، ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص، كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من وراء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة.

فهذه كلها ليست من العقائد الدينية كما زعم دعاة المهدي والمتعصبون لصحة خروجه، كما حدث من هذا المدعي أنه المهدي الذي سفك دماء زكية بريئة في الشهر الحرام، في البلد الحرام وفي المسجد الحرام، وحول البيت الحرام الذي يستقبله المؤمنون في المشارق والمغارب صلاتهم ودعاءهم، وروع المسلمين وأحدث بينهم زلزالاً شديدًا وكفى بالمسيء عمله.

لهذا يجب طرح فكرة المهدي جانبًا، فعندنا كتاب الله تعالى نستغني به عن كل دعي مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله ﷺ باللواذ به عند الفتن، كما أن لدينا سنة رسول الله ﷺ فيما صح منها سواء كان متواترًا أو أحادًا.

وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تثار من آن لآخر ﴿وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤ [الأحزاب: 4].

* * *

[170] رسالة نصائح المهدي والدين: 141.

تعدّد أحداث من يدّعي أنه المهدي

إن مدار الأعمال على العقائد صحة وفسادًا لحديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[171]. فمتى صح الاعتقاد صلح العمل، أو فسد الاعتقاد ساء العمل وساءت النتيجة.

ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح، والاعتقاد السيئ القبيح، وهي في الأصل حديث خرافة، يتلقفها واحد عن آخر، وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف، حيث غزا بها قوم آخرين، وإلا فمن المعلوم قطعًا أن الرسول الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] لذا فلن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم، مجهول في عالم الغيب، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك أهله يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة.

إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به، إذ هو جرثومة فتنة دائمة، ومشكلة لم تحل، والرسول جاء بمحاربة الفتن، وقال: «أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ»[172]. وقال: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»[173]. وقال: «لَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»[174].

وقال: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ»[175]. والمهدي واعتقاده هو من محدثات الأمور.

إن أول من قال بالمهدي هو كيسان، مولى علي بن أبي طالب، في ابنه محمد ابن الحنفية. وجاء في كتاب أسد الغابة أنهم أطلقوا على علي: هاديًا مهديًا ثم أطلقوا الكلمة على الحسين بعد مقتله فقالوا: المهدي بن المهدي. ولما قتل الحسين ومات الحسن، رأت طائفة أنه من الطبيعي أن يرث عليًّا ابنه محمد ابن الحنفية، كما رأى غيرهم أن الوارث لعلي هما الحسن والحسين فقط، لأنهما وحدهما ابنا علي من فاطمة بنت الرسول ﷺ، أما ابن الحنفية فابن علي لكن لا من فاطمة بل من امرأة من بني حنيفة.

ونشأت فرقة تسمى الكيسانية، نسبة إلى كيسان يتزعمها عبد الله بن سبأ، ثم المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي زعم هو وفرقته أن محمد ابن الحنفية هو الإمام، وهو المهدي، وأنه لم يمت ولكنه تغيب في جبل رضوى، وهو في الحجاز على سبع مراحل من المدينة، وأنه حي يرزق، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلاً وماء، وأنه سوف يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلاً، وأنه سيقود الجيوش فيرد الملك إلى أهل البيت، وفيه يقول كثير عزة وهو سبئي:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانًا
برضوى عنده عسل وماء
ثم خرج السفياني زمن بني أمية فلقبوه: المهدي المنتظر.

ولما سمع المنصور العباسي بخبر المهدي، وكثرة حديث الناس فيه، أراد أن يقطع الطريق عن التسمي به؛ فسمى ابنه المهدي.

فاستغل الخليفة المنصور أخو مؤسس الدولة العباسية، شيوع كلمة المهدي فلقب ابنه بالمهدي، ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي، والتقديس الديني، وجعله ولي عهده وكان ذلك في بغداد.

وفي المغرب تضخمت كلمة المهدي على أيدي البرابرة، وكانوا قد ضاقوا ذرعًا باستغلال الحكم العباسي لفكرة المهدي المنتظر، ثم ظهر عبيد الله الملقب بالمهدي، وأسس بلدة المهدية، وكان من نسله المعز لدين الله الفاطمي الذي فتح مصر.

ومن الدول التي تأسست على فكرة المهدي في المغرب: دولة الموحدين وزعيمهم محمد بن تومرت، وهو شيعي أيضًا، وعندما ذهب الموحدون والمرابطون وانتصر الأسبانيون على المسلمين، كان ملوك بني الأحمر يتطلعون إلى مهدي منتظر يقويهم على الأسبان ويطردهم منها.

وقد قامت الكثير من الثورات على أساس فكرة المهدي من ذلك: ثورة الزنج في العراق، وثورة القرامطة التي ظهر على رأسها رجل يدعى حمدان قرمط، وكلمة قرمط تعني (المعلم السري)، وكان أساس الدعوة: الإيمان بالمهدي المنتظر. ومن الفرق التي أسست على التشيع والاعتقاد بالمهدية: فرقة الحشاشين، ويسمون أحيانًا بالإسماعيلية، وزعيمهم الحسن بن الصباح المشهور، وهناك ثورة البساسيري، وهو رجل تركي، قدم بغداد في زمن الخليفة القائم بأمر الله العباسي، فبشر في بداية ثورته بالمهدي.

وفي العصور الحديثة لعبت فكرة المهدي دورًا خطيرًا لا يقل شأنه عن العصور القديمة.

ففي نهاية القرن الثاني عشر الهجري، خرج شيعي من مواليد الأحساء اسمه الشيخ أحمد الأحسائي سنة ست وستين ومائة وألف هجري، واشتهر بتبشيره بظهور المهدي، وله آراء باطنية وفلسفية تحوم حول تغيير نظام دين الإسلام وشريعته، ويدعي أن لديه علمًا لدنيًّا تلقاه عن آل البيت، وينشر دعوة سرية وينظم حركتها، ثم اقتفى أثره خليفته من بعده على نشر دعوته، وهو: كاظم الرشتي، ولم يزل متنقلاً داعيًا إلى أن توفي بجدة من أرض الحجاز سنة 1242هـ. فهو أول من أسس نحلة البهائية، ثم قام علي محمد بعد وفاة الرشتي سنة 1260هـ مدعيًا أنه نائب عن الإمام المنتظر، وأنه بابه الذي يفتح به ظهور الإمام، فسموا البابية من أجله، وهم فرع من البهائية.

ثم أظهر أنه الإمام المنتظر المهدي، فقام بثورة وأخذ يظهر للناس فنونًا من الكفر، وأن شريعته تنسخ شريعة القرآن، وأنها قد أنهت دور الشريعة المحمدية، فلا صلاة ولا صيام، ويعمد إلى النصوص القرآنية فيتأولها تأويلات الباطنية، فيقلب حقائقها، ويصرفها عن المعنى المراد منها، وأنكر عليه علماء فارس ما ادعاه وحاكموه، فحكمت عليه محكمة تبريز بقتله على ردته هو وأعوانه.

ثم ظهرت بدعة المهدي في الهند على يد رجل يدعى ميرزا غلام أحمد القادياني من سكنة قاديان بالهند، ونسبت طائفة القاديانية إليها، وتفرعت عنها الأحمدية.

وقد زعم مؤسسها ميرزا غلام أحمد بأنه المسيح المنتظر، فقام في وجهه علماء الشريعة بالهند، فأنكروا عليه أشد الإنكار وكادوا يقتلونه، لأنه كان يتقي بالنصارى، فهم يحمونه ويحاربون دونه.

وانتقل غلام أحمد إلى دلهي، يدعو إلى نحلته، ويدعي الوحي والنبوة والرسالة ويقول: إن كل من لم يصدق بنبوّتي فهو كافر!! ويقول: إن سائر الأمم من اليهود والنصارى والمجوس الذين كذبوا نبوة محمد سيؤمنون برسالتي!!

وفي الحقيقة أن كلتا الطائفتين: البهائية والقاديانبة قد ابتعدتا عن الإسلام تمام الابتعاد.

نسأل الله سبحانه أن يسلك في قلوب عباده المؤمنين نور اليقين والثبات على الدين، وأن يحفظهم من فتنة الضالين بما يحفظ به عباده الصالحين.

وإني أرجو بعد دراستهم لهذه الرسالة أن ينتبهوا ويتناصحوا، فيغسلوا قلوبهم من اعتقاد هذه الخرافة التي ستضرهم وتضر أبناءهم ومجتمعهم من بعدهم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم وستذكرون ما أقول لكم.. ﴿وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤ [المؤمن: 44].

* * *

[171] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [172] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عبد الله بن عمر. [173] أخرجه ابن ماجة من حديث العرباض بن سارية. [174] أخرجه مسلم من حديث جابر. [175] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية.

فصـل رأي محمد رشيد رضا في المهدي المنتظر

قال محمد رشيد رضا في تفسيره: المنار عند تفسيره سورة الأعراف ما نذكره ملخصًا[176]: أما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر والجمع بين الروايات أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر.

ولذلك لم يعتد الشيخان -البخاري ومسلم- شيئًا من رواياتها، وقد كانت أحاديث المهدي أكبر مثارات للفساد والفتن في الشعوب الإسلامية، إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان، ومن أدعياء الولاية، وأولياء الشيطان للدعوة المهدية في الشرق والغرب، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية، ومرق بعضهم من الإسلام مروق السهم من الرمية.

وقد كان من أسباب تصديق الجماهير من المتأخرين بخروج مهدي يجدد الإسلام، وينشر العدل في جميع الأنام، أن يجعلهم على أهبة الاستعداد لظهوره، وقد جاءهم النذير وهو ابن خلدون الشهير، وصاح فيهم قائلاً: إن لله تعالى سننًا في الأمم والدول والعمران، مطردة في كل زمان ومكان كما ثبت في مصحف القرآن، وصحف الأكوان، ومن المعلوم وقوع الاختلاف والاضطراب في أحاديث المهدي.

منها: أن أشهر الروايات في اسمه واسم أبيه عند أهل السنة محمد بن عبد الله، وفي رواية: أحمد بن عبد الله.

والشيعة الإمامية متفقون على أنه محمد بن الحسن العسكري، وهما الحادي عشر والثاني عشر من أئمتهم المعصومين، ويلقبونه بالحجة، والقائم، والمنتظر، ويقولون: إنه دخل السرداب في دار أبيه في مدينة (سر من رأى) التي تسمى الآن سامراء، سنة 265 هـ وله من العمر تسع سنين، وأنه لا يزال في السرداب حيًّا!!

ومنها: أن العابثين بالإسلام، ومحاولي إفساد المسلمين، وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود، وغيرهم من أهل الابتداع، وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية، قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها، وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها، ورواج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى، ولم تعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها.

سؤال: إلى صاحب المنار محمد رشيد رضا[177].

إنه من المشهور بين الكافة من أهل الإسلام، على ممر الأعصار أنه لابد من ظهور رجل يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويسمى المهدي، فرأيت أن أكتب لجنابكم لكي تتكرموا علينا بالإفادة ولكم الأجر.

الجواب: وردت أحاديث في المهدي، منها ما حكموا بقوة إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها كلها.

ومن استقصى ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار، وعرف مواردها ومصادرها، يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة، وذلك أنه لما استبد بنو أمية بأمر المسلمين، وظلموا وجاروا، وخرجوا بالحكومة الإسلامية عن وضعها الذي يهدي إليه القرآن، وعليه استقام الخلفاء الراشدون، وهو المشاورة في الأمر، وفصل الأمور برأي أهل الحل والعقد من الأمة، حتى قال على المنبر من يعد من خيارهم، وهو عبد الملك بن مروان: من قال لي: اتق الله؛ ضربت عنقه! لما كان هذا؛ كان أشد الناس تألمًا له وغيرة على المسلمين آل النبي عليه وعليهم السلام، فكانوا يرون أنهم أولى بالأمر وأحق بإقامة العدل، فكان من تشيع لهم يؤلفون لهم عصبية دينية يقنعونها بأن سيقوم منهم قائم مبشر به يقوم بالعدل، ويؤيد الدين، ويزيل ما أحدث بنو مروان من الاستبداد والظلم، وعن هذا الاعتقاد صدرت تلك الروايات.

والناظر في مجموعها يظهر له أنهم ينتظرون ذلك في القرن الثاني ثم في الثالث، وكانوا يعينون أشخاصًا من خيار آل البيت يرجحون أن يكون كل منهم القائم المنتظر فلم يكن، وكان بعضهم يسأل من يعتقد أنه صاحب هذا الأمر فيجيبه ذلك بأجوبة مبهمة، ومنهم من كان يتنصل ويقول: إن الموعد ما جاء ولكنه اقترب، ومنهم من كان يضرب له أجلاً محدودًا، ولكن مرت السنون والقرون ولم يكن ما توقعوا أن سيكون.

وجرّت هذه العقيدة على المسلمين شقاء طويلاً، إذ قام فيهم كثيرون بهذه الدعوى، وخرجوا على الحكام فسفكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فتنها: فتنة البابية الذين أفسدوا عقائد كثير من المسلمين، وأخرجوهم من الإسلام، ووضعوا لهم دينًا جديدًا، وفي الشيعة ظهرت هذه الفتنة وبهم قامت، ثم تعدى شرها إلى غيرهم، ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المسلمين ينتظرون ظهور المهدي، ونصر الإسلام به، فهم مستعدون بهذا الاعتقاد لفتنتة أخرى نسأل الله أن يقيهم شرها.

ومن الخذلان الذي ابتلي به المسلمون، أن هذه العقيدة مبنية عندهم على القوة الغيبية والتأييد السماوي، لذلك كانت سببًا في ضعف استعدادهم العسكري فصاروا، أضعف الأمم بعد أن كانوا أقواها، وأشدهم ضعفًا أشدهم بهذه العقيدة تمسكًا، وهم مسلمو الشيعة في إيران، فإن المسألة عندهم اعتقادية، أما سائر المسلمين فالأمر عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين، ولو كانوا يعتقدون أنه يقوم بالسنن الإلهية والأسباب الكونية، لاستعدوا لظهوره بما استطاعوا من قوة، ولكان هذا الاعتقاد نافعًا لهم.

وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به، ولو ظهر -ونحن له منكرون- لما ضره ذلك إذا كان مؤيدًا بالخوارق كما يقولون، وقد بينا ذلك في كتابنا: المحكمة الشرعية[178].

* * *

[176] انظر تفسير المنار: 9/499 وما بعدها. [177] انظر فتاوي الإمام محمد رشيد رضا: 1/106 وما بعدها. [178] فتاوي الإمام محمد رشيد رضا: 1/106 وما بعدها.

حوادث الحرم الشريف من المدعين للمهدي

إن حادث الحرم الشريف الواقع من المارقين المنافقين في يوم الثلاثاء أول يوم من المحرم عام 1400هـ، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، والذي من دخله كان آمنًا؛ فإنه ليس بأول حادث، فقد مضى للملحدين المهديين أمثالها، فرد الله كيدهم وبدد شملهم، وأعتق البيت الحرام من جورهم وفجورهم، وإنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله يعتقه من ظلم الجبابرة فلا يكون لهم عليه من سبيل.

وقد أثبت التاريخ، كتاريخ المسعودي وغيره، عدوانًا مماثلاً لهذا العدوان على البيت الحرام، وذلك أنه حدث في موسم الحج عام 317 هجري: أن جاء إلى مكة باسم الحج رجل يدعى أبو طاهر الجنابي، ومعه تسعمائة رجل من أتباعه، وكان أبو طاهر هذا قد نشر الرعب والدمار في الجزيرة العربية وهو من القرامطة.

فدخل أبو طاهر هذا وأصحابه مكة في سابع ذي الحجة، وكان أميرها إذ ذاك محمد بن إسماعيل المقرون بابن مخلب، وقام أهل مكة والحجاج بمخادنة أبي طاهر في بادئ الأمر، ولكن القرامطة كانوا يبيتون أمرًا آخر، وهو مهادنة الأمراء والرؤساء والاحتكاك بهم حتى يتم لهم مقصودهم من المكر والكفر، فاحتكوا برجال الأمن وقتلوا واحدًا منهم، فبدأت الاشتباكات، فقاموا بإثارة فتنة عظيمة قتل فيها على ما يقوله المؤرخ المسعودي: نحو ثلاثين ألفًا من الحجاج وأهل مكة. وهجم على الحرم الشريف فخلع باب الكعبة، و كان مصفحًا بالذهب، وأخذ كل المحاريب والذهب التي كانت داخل الحرم، وقام بانتزاع الحجر الأسود من الكعبة، وجرد الكعبة من كسوتها، وأقام في مكة ستة أيام وهو يعبث فيها بالفساد والظلم، وسفك الدماء ونهب الأموال.

ثم سافر في طريقه إلى هجر والقطيف، يحمل الحجر الأسود وباب الكعبة وكسوتها، وما غنم من الأموال التي حملها على خمسين بعيرًا، واعترضت له قبيلة هذيل في المضائق والجبال فأخذت منه بعض ما غنمه، لكنه استطاع أن يهرب بعد ما فقد كثيرًا من غنائمه، وأقام كعبة جديدة للقرامطة بالقطيف، بمكان يسمى الجعبة، ووضع فيها الحجر الأسود، ثم رُدَّ الحجر إلى مكانه من الكعبة بعد موت أبي طاهر.

والشاهد من هذا الحديث: أن أبا طاهر الذي فعل في الحرم الشريف ما فعل كان يدعي بأنه المهدي المنتظر، نفس ما ادعى به جهيمان ومن معه، إذ الدنيا أم العبر والفتن، يرقق بعضها بعضًا، بحيث تكون الآخرة شرًّا من الأولى، لكنها لن تزيغ ولن تزعزع أهل الإيمان الثابت.

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٣٠ نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١ نُزُلٗا مِّنۡ غَفُورٖ رَّحِيمٖ ٣٢[فصلت: 30-32].

* * *

كلمة المؤلف في مؤتمر السنَّة والسيرة النبويّة[179]

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وهدي الرسول هو سيرته وسنته التي هي طريقته وأمره ونهيه وإقراراته.

إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل، وشرع شريف شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام بالحكمة والمصلحة، والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم. فهو الرحمة المهداة لجميع خلقه. يقول الله تعالى: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 156-158] فكل ما ذكر في هذه الآية فإنه من عمل سيرته وسنته.

وليست سيرة الرسول وسنته التي انعقد هذا المؤتمر المبارك لبيان فضلها وبيان عموم علمها ونفعها، بمقصورة على العلم بغزواته وبعوثه وسراياه ورسائله حسبما يظنه بعض الناس، والحق أن سيرته هي أعم وأشمل، فهي تشمل كل ما جاء به من العلم والهدى، ودين الحق من لدن بعثته إلى حين وفاته ﷺ.

فسيرته كاسم شريعته التي جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والجرائم وتقليلها، وهي تدور على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، فالتخلق بسيرة الرسول ﷺ، والتمسك بسنته هي التي تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق؛ ولهذا قالوا: إن كل متدين بدين صحيح فإنه متمدن، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة من القتل، ونهب الأموال وانتهاك الأعراض من عادمي الدين، الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، وفسقوا عن أمر ربهم، لأن من لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم وفسادهم فإنه يترتب على جهرهم فتنة في الأرض وفساد كبير.

إن التكاتف على العمل بشريعته عليه الصلاة والسلام، من المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، وأداء الزكاة الواجبة، وصيام رمضان، هو الذي يوحد بين المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إن الله أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم»[180]. إن دين الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وإن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام بأقوالهم لكنهم يخالفونه بأعمالهم، فهم في جانب والإسلام في جانب آخر، حتى صاروا بمثابة الخزي على المسلمين، والفتنة للكافرين، بحيث يقول الكفار: إن كان الإسلام يبيح قتل الأبرياء، وسبي أموال الأغنياء فإنه لا خير فيه: ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَآۖ [الممتحنة: 5].

والحق: أن دين الإسلام بريء من هذه الأعمال التي تخالف نظام شرعه، فهو قائم على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول.

الإسلام دين السلام والأمان، والمطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام والبغي والعدوان.

الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام، لا فضل لأحمر على أسود إلا بالطاعة والإيمان، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. الإسلام يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف والتلاطف كالإخوان، وفي التعاون والتساعد كالبنيان، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ [التوبة: 71].

الإسلام يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[181]. ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[182]. أي: بمقتضى الرضا التام، وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]. الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا ودينهم الإسلام، ودستور حكمهم السنة والقرآن، فهم يعتزون بهما، إذ هما أكبر معين للحاكم على سياسة مملكته، وسيادة رعيته، لكونهما يوقفان الخصم اللدود على حده، ويقنعانه بحقه، فلا يقع بين الناس مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها.

ونحن في كلامنا على السنة، إنما نتكلم على الأحاديث الصحيحة الصريحة التي قام جهابذة النقاد العلماء على تمحيصها وتصحيحها، حتى جعلوها عمدة في العقائد والأحكام، وأمور الحلال والحرام.

وإلا فإنه من المعلوم أن الوضاعين الكذابين قد أدخلوا كثيرًا من الأحاديث المكذوبة في عقائد المسلمين، وأحكامهم حتى صار لها الأثر السيئ في العقائد والأعمال، لكن المحققين من علماء المسلمين قد قاموا بتحقيقها، وبينوا بطلانها، وأسقطوها عن درجة الاعتبار، وحذروا الأمة منها.

من ذلك أحاديث المهدي المنتظر، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا ونحو ذلك مما يقولون.

وصار في كل زمان وفي كل مكان يظهر مخرف ويقول: أنا المهدي المنتظر. حتى كأن المهدي جرثومة البدع، ومثار الفتن، ولا يزال علماء السنة في كل مكان يحاربون هذه الدعوى، ويحاربون من تسمى بها لاعتباره من الكذابين الدجالين، والحق: أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا. وفي سنن ابن ماجه: «لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».[183]

وإنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي، نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها، وأكثرها من رواية أبي نعيم في حلية الأولياء وكلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة، ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى.

ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي، وكونه لا حقيقة لها؛ فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين، فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدًّا، فلا ينكر على من أنكره. كما رأيت أيضًا لمنشئ المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعًا، وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار[184].

لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء من يقول بخروج المهدي، ويقوي الأحاديث الواردة فيه، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد رأيت له قولاً يقول فيه بصحة خروجه، وأن فيه سبعة أحاديث.

فقول شيخ الإسلام هذا خرج بمقتضى اجتهاد منه، ويأجره الله عليه وقد أخد بقوله بعض العلماء المتأخرين، وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء.

ومعلوم أن شيخ الإسلام هو أطول منا باعًا، وأوسع اطلاعًا في سائر العلوم والفنون، فنحن نعترف بفضله، ولم نزل نغترف من بحر علمه، لكنه بشر كسائر علماء البشر، والصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين، هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي، لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من الدجالين المنحرفين، فإنه يسمي نفسه بالمهدي، ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم، ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

وحسبكم ما سمعتموه عما فعله هؤلاء في بيت الله الحرام، وهم ينتسبون إلى الإسلام ﴿وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۢ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ٢٥ [الحج: 25].

ولا يجني جان إلا على نفسه، ﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]، وقد اتخذ دعاة البدع هذه العقيدة لهم طريقة.

فمن ذلك دعوة البهائية، فقد خرج عام 1166 هـ رجل يدعى الشيخ أحمد الأحسائي، شيعي من أهل الأحساء، وأظهر للناس أنه المهدي المنتظر، وأن شريعته تنسخ شريعة الرسول محمد، ثم ظهر بعده محمد علي الرشتي وأظهر للناس أنه باب المهدي ثم قال: إنه باب الله. ثم ادعى أنه المهدي فقام عليه علماء فارس، فحاكموه وحكمت عليه محكمة تبريز الشرعية بقتله على ردته، فقتل ومن معه، وقد خرجوا بردتهم عن عداد المسلمين.

ثم ظهرت بدعة القاديانية في القرن الثاني عشر الهجري، وأسس دعواها رجل يسمى ميرزا غلام أحمد، من سكنة قاديان الهند، وسمى نحلته[185] بالأحمدية وادعى أنه المهدي المنتظر، وقام علماء الهند في نحره، لكنه استجار بالإنجليز فكانوا يحمونه، وتخمرت دعوته في الهند وباكستان، يعتقدها الهمج السذج وعلى طول الزمان حتى أخرجهم علماء المسلمين عن عقيدة الإسلام.

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان حيث وصفوه بالقدم، وكونه لا يتلاءم الحكم به في هذا العصر، وأن شرائعه تكاليف شاقة.

وقولهم بعزل الدين عن الدولة، وربما عابوه بإقامة الحدود الشرعية، كحد الزنا والسرقة، وشرب الخمر، وينسبون هذه الحدود إلى القساوة والوحشية، وهي حدود الله التي شرعها لعباده، لتكون بمثابة الزواجر عن هذه الجرائم لتطهير المجتمع منها، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ [الحج: 18]، فهم يعيبون الإسلام بما يعد من محاسنه، ولا عجب وهؤلاء هم أعداء الإسلام الذين يحبون أن تشيع الفواحش في البلدان، فهم يتحاملون على الإسلام بالطعن فيه لصد الناس عنه، فهم كما قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وإن مما يقوي الرجاء، ويزيد في الأمل، حينما نسمع حكام المسلمين وزعماءهم في مؤتمراتهم التي يعقدون الاجتماع لها، للتذاكر في شأن أممهم، وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، يتفقون على كلمة واحدة وهي: أن الشيء الذي فلّ حدهم وفرق شملهم، وألقى العداوة بينهم، هو تقصيرهم بالعمل بنظام دينهم، وأن الرأي السديد والأمر المفيد: هو رجوعهم إلى العمل بكتاب ربهم، وسنة نبيهم، فإنه لن يصلحهم إلا ما صلح به سلفهم.

فهم يتواصون بذلك، ويتناصحون بموجبه، وسيكون لهذا التواصي تجاوب ولو بعد حين. فهذه نصيحتي لكم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* * *

[179] ألقيت بتاريخ: 5 محرم 1400هـ . [180] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [181] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [182] أخرجه الدارقطني من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [183] هذا اللفظ جزء من الحديث وتمامه: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارًا، ولا الناس إلا شحًّا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا المهدي إلا عيسى ابن مريم». انظر سنن ابن ماجه 2/1340-1341. [184] انظر تفسير المنار: 9/499 وما بعدها، وفتاوى محمد رشيد رضا 1/106 وما بعدها. [185] نحلته: أي مذهبه.

الحديث عن يأجوج ومأجوج

لقد أكثر الشيخ السفاريني في كتابه: لوامع الأنوار من أحاديث يأجوج ومأجوج على صفة ما عمله في أحاديث المهدي؛ لأنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين، والصحيح والسقيم.

ونحن نسوق لك قليلاً من كثير من أحاديثه التي ذكرها، منها حديث: «أن منهم من طوله مائة وعشرون ذراعًا، ومنهم من طوله قدر شبر، ومنهم من يفترش شحمة أذنه ويلتحف بالأخرى» [186] وحديث: أنه لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من أولاده [187] وأحاديث تصفهم بصفة الإرهاب، وأن لهم أنيابًا كالسباع وقرونًا.

ونقل عن كعب الأحبار في صفة بدء خلقهم، وذلك أن آدم احتلم فاختلط ماؤه بالتراب، فخُلق منه يأجوج ومأجوج. قال: فهم إخوتنا لأبينا [188].

كل هذه وما هو أكثر منها، ذكرها السفاريني.

ويأجوج ومأجوج قد أخبر الله عنهم في كتابه مما لا شك فيهم، فقال سبحانه: ﴿قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ [الكهف: 94].

وقال: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ ٩٦ وَٱقۡتَرَبَ ٱلۡوَعۡدُ ٱلۡحَقُّ [الأنبياء: 96-97].

فالمسلمون يصدقون في وجودهم بلا شك، ولكنهم لا يخوضون في أمرهم وفي مكان وجودهم، وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم، بل ومن ذرية نوح، وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة، ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟ لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها فلم يروهم، ولم يرو سدًّا، وتجرأ بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا: إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها!!

فبينما هم كذلك في غمرة من الجهل ساهون، إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج قائلاً: لا تبعدوا النظرة، ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم، وعن شمائلكم، ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم والتي تداعى عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها، وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا هو حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي ﷺ كما في صحيح البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش قالت: خرج علينا النبي ﷺ فزعًا قد احمر وجهه، وهو يقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ، وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا» [189] وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، فقلنا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ».

وكانت ابتداء حركتهم في ظهورهم على المسلمين من غزوة مؤتة، حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَتِ الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا» قالوا: يا رسول الله، أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: «لَا، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ مَهَابَةَ عَدُوِّكُمْ مِنْكُمْ، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ» قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ» [190].

ولما أخرج الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رسالته في تحقيق أمر يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسيره واستنباطه، أنكر عليه بعض العلماء في ذلك، واتهموه بأنه يكذب بالقرآن، واستدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله.

فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن، وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم، وسوء اعتقادهم.

لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام، وضلال أهل الزيغ والبهتان.

وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا..

ونحن نسوق فقرات من رسالته للاتعاظ بها والانتفاع بعلمها...

* * *

[186] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة: وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: موضوع. [187] ذكره القرطبي في تفسيره من حديث علي موقوفًا. [188] ذكره القرطبي في تفسيره من حديث كعب الأحبار مقطوعًا. [189] أخرجه مسلم من حديث زينب بنت جحش. [190] أخرجه أبو داود من حديث ثوبان.

فقرات من كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله

اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله ﷺ عنهم، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم الموجودون الآن الذين ظهروا على الناس: كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا والفرنسيين والإنجليز واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم، فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي كالجن، ونحوهم ممن حُجب الآدميون عن رؤيتهم، والإحساس في الدنيا بهم، بيان ذلك في القرآن من قصة ذي القرنين في قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٩٣ قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٩٤ [الكهف: 93-94] إلى آخر الآيات، فمن فهم معنى هذه الآيات، وما ذكره أصناف المفسرين فيها، علم قطعًا أنهم كما ذكر الله في شكاية هؤلاء القوم الذين كثر إفسادهم لذي القرنين بالقتل والنهب والتخريب وأنواع الفساد، فطلبوا منه أن يجعل بينهم وبينهم سدًّا، يمنعهم من الإفساد، والنفوذ إليهم، فأجاب ذو القرنين طلبتهم، طاعة لله وإحسانًا على هؤلاء المظلومين، فجعل بينهم وبينهم ردمًا، ومعلوم أنهم آدميون محسوسون، قد تناولوهم بأنواع الأذى. فلو كانوا جنسًا آخر كالجن ونحوهم، ممن حُجبوا عن الأبصار، لم يتمكنوا من الأذية لبني آدم إلى هذا الحد، ولم يطلب هؤلاء القوم من ذي القرنين ما لا قدرة له عليه، ولم يمنعهم من الأذية سد ولا ردم.

وذلك أن هناك جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل، والبغال، والحمير فبنى ذو القرنين سدًّا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس، وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى.

ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي، والجبال، والبحار فتحركوا في وقت النبيﷺ في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى، في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف، وجيش النصارى مائة وعشرين ألفًا، فكشف للنبي ﷺ عنهم يوم قتالهم فقال وهو يخطب الناس: «أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا زَيْدُ ابْنُ حَارِثَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ»[191] يخبرهم بذلك وهو يبكي.

وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين، والخروج عليهم، وهو معنى قوله ﷺ: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا».

قال: ولم يزالوا في ازدياد، وظهور على الناس، حتى وصل الأمر إلى هذه الحال المشاهدة، ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله.

ومنها: أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فإن السد -كما ذكرنا- في الموانع الجبلية، والمائية، ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود، والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة وهي سد محكم بينهم وبين الناس، لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله، وشاهدهم الناس، وقد اخترقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات، وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه.

وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة الصحيحة، والأدلة العقلية، والواقع، والمشاهدة، كلها أمور يقينية لا شك فيها، ولا مناقض لها.

والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه، قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي، يعتبر آية وبرهانًا عظيمًا على صدق القرآن، وصحة ما جاء به رسول الله ﷺ، من آيات بينات لا تزال تشاهد، وتظهر كل وقت وحين، يعتبر بها المعتبرون وينتفع بها المؤمنون، ويسترشد بها الغافلون المعرضون، وتقوم بها الحجة على المعارضين المعاندين.

وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية، وآثار موضوعة وقصص خرافية، وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع. انتهى.

* * *

[191] أخرجه البخاري من حديث أنس.

سد يأجوج ومأجوج

قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه[192]

سألنا عن سد يأجوج ومأجوج غير واحد، من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار، ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلة؛ فإن بقعة كل من القطبين -لاسيما القطب الجنوبي- لا تزال مجهولة، وقد استدل بعض العلماء على أن سدًّا بني في جهة أحد القطبين، يذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس مطلعها، وليس ذلك جهة الشمال أو جهة الجنوب، ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد القطبين، فإن حالة مدنية ذلك العصر، وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا الآن، فنبني عليها اعتراضًا كهذا، فما درينا أن الاستطراق إلى أحد القطبين أو كليهما، كان في زمن ذي القرنين سهلاً، فكم من أرض يابسة فاضت عليها البحار، فغمرتها بطول الزمان، وكم من أرض انحسر عنها الماء، فصارت أرضًا عامرة متصلة بغيرها، أو منفردة (جزيرة) وكم من مدينة طُمست حتى لا يُعلم عنها شيء، ومن المعلوم الآن من شؤون المدنيات القديمة بالمشاهدة، أو الاستدلال ما يجهل بعض أسبابه، كالأنوار والنقوش وجر الأثقال عند المصريين القدماء، فالقرآن يقول في ذي القرنين ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٩ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ ... [الكهف: 89-90] كذا من مطلع الشمس ومغربها، وبين السدين، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية أو كهربائية؟ الله أعلم بذلك.

هذا ما يقال بالإيجاز في رد دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض التي بني عليها الاعتراض، ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطل، وإن فرضنا أنها هي مسلّمة؛ وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما:

أحدهما: الموضع الذي يسمى الآن (دربند) بروسيا ومعناه السد، وفيه موضع يسمى (دمرقبو) أي باب الحديد، وهو أثر سد قديم بين جبلين، يقال: إنه من صنع بعض ملوك الفرس، ومحتمل أن يكون موضع السد، وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك، وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريطة جغرافية قديمة لتلك الجهات، وفيها رسم ذلك المكان، وبيان أن وراءه قبيلتين اسم إحداهما: (آقوق) واسم الثانية (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين: يأجوج ومأجوج ؛ ظاهر جلي.

وأما الموضع الثاني، فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية على غرابته وهو:

في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين مرحلة (مائة وبضع فراسخ) مدينة قديمة تسمى الطويلة، وفي شرقي هذه المدينة واد عميق جدًّا يحيط به من ثلاث جهات جبال شامخة منتصبة، ليس فيها مسالك معبدة، فالموغل فيها على خطر السقوط والهوي، وفي الجهة الرابعة منه سهوب فيحاء، يستطرق منها إلى الوادي، ومنه إليها، وفجوة الوادي من هذه الجهة تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذراع الفارسي متر وأربعة سنتيمترات) وفي الفجوة سد صناعي، يمتد من أحد طرفي الجبلين إلى الآخر، وهو من زبر الحديد المتساوية المقدار، فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع، فأما سمكه فخمسة عشر شبرًا، وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه، وارتفاعه؛ لأن أرضه غير مستوية، وفي القرن العاشر للهجرة لما فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن، وصل إلى قلعة تسمى تسام واقعة بجوار هذا السد، فأمر بعدٍِّ زبر الحديد المبني بها السد، فقصارى ما تيسر لهم عده منها: تسعة آلاف، وفي طرفي هذا السد قلعتان عظيمتان، محكمتا البناء، قديمتان تسمى إحداهما: قلعة العرصة، والثانية: قلعة الباحثة.

فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد، وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحميريين في حضرموت واليمن، المعروفين بالأذواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس) ولكن إن صح وجود السد فأين يأجوج ومأجوج منه؟ وهم التتر كما في تاريخ السوريين قبل الإسلام، أو السكيثيين الذين وصفهم النبي حزقيال بما ينطبق على وصفهم في تاريخ اليونان، ويعدهم النصارى رمزًا لإعادة الكنيسة.

ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك، ولم يكن فيما بقي مجهولاً من الأرض، فلم لا يجوز أن يكون قد اندك، وذهب أثره من الوجود؟ إن قيل: يمنع ذلك أن اندكاكه، وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة، أجبنا بجوابين:

أحدهما: قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين بدليل أن نبينا نبي الساعة، وقرب الساعة أي: هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض، وما يدرينا أنه ملايين من السنين.

وثانيهما: أن هناك ساعة عامة، وساعة خاصة أي: ساعة هلاك أمة معينة، كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في الساعة، وربما عدنا إلى التفصيل في هذه المسألة. انتهى.

* * *

[192] من فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا: 2/650 وما بعدها.

الإصلاح والتجديد بالعلم والعدل والدين

سألني غير واحد عن حديث: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» [193].

فيسألون هل هذا حديث؟ وهل هو صحيح أو غير صحيح؟

فأجبتهم بأن هذا الحديث رواه أبو داود وصححه الحافظ العراقي والعلامة السخاوي..

وأقول: إن الإصلاح والتجديد بالعلم والعدل والدين فضل من الله يوفقه له من يختاره الله من صفوة عباده المؤمنين، من حاكم وعالم ومحتسب لفعل الخير والصلاح، والأمر به والدعوة إليه في أي زمان وفي أي مكان، أشبه الغيث النازل من السماء على أي مكان وفي كل زمان. وخير الناس أنفعهم للناس، وخير الناس من يرجى خيره ويؤمن شره، والخير خزائن والناس لها مفاتيح، فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.

والله يقول: ﴿وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٨١ [الأعراف: 181] فهذا الحق والحكم به هو من الإصلاح والتجديد لما اندرس من الدين، فقد يكون في رأس القرن أو في وسطه أو في آخره؛ فليس لرأس القرن مزية على غيره من سائر الأعوام والشهور والأيام..

لكنه توجد نصوص صحيحة صريحة مثل قول النبي ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ، لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[194].

فالإصلاح والتجديد يكون بسبب من يصلحه الله من عالم، وحاكم، في أي شهر، وفي أي سنة كما يدل له حديث: «لا زال الله يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته، ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[195].

ومثله ما رواه الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ».

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: هذا حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، قال: وصححه ابن حبان من حديث عمار.

فكل هذه الآثار تدل دلالة واضحة على تقلب الأحوال وتغير الأزمان، وأن الدين معها محفوظ عن الزوال، لا يزال باقيًا دائمًا يتقلب بين الضعف والنشاط، حتى تقوم الساعة، فمن ظن أن الله يُديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو أن الأشرار تتسلط على الأخيار دائمًا، فقد ظن بالله ظن السوء.

ولكن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ودار جدال وجهاد، فالمصارعة فيها لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين العلم والجهل، والعاقبة للتقوى.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمن
﴿وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ [محمد: 4].

﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١ [محمد:31].

إن الله سبحانه قادر على أن يخلق في كل قرن عشرات، أو مئات، من العدول المهتدين، ومن المصلحين، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويهدون إلى الحق والعدل، ويهدون إلى صراط مستقيم، كما فعل ذلك من قبل، وسيفعله من بعد إن شاء الله، كما قال علي رضي الله عنه: لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله على عباده، أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم [196].

فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا من واقعهم، ويتركوا واجبهم، لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم، ويبسط العدل بينهم، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات.

ثم يفرض عليهم علماؤهم التحجر الفكري، والجمود الاجتماعي، على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي عالم، أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه، وعدم الخروج عنه وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب، هو من سائر البشر يأتي في آخر الزمان، فينقذ الناس من الظلم والطغيان.

إن من واجب المسلمين في كل زمان ومكان؛ أن يتكاتفوا على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن ينصحوا من ولاه الله أمرهم بالحكمة والموعظة الحسنة، دون خروج عليه، ودون محاولة قلب نظام الحكم فإن هذا أساس كل فتنة وشر.

لقد رأينا في هذا الزمان من يدعي الإسلام، ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ [البقرة: 205]، فيكثرمن قتل الأبرياء، وسلب أموال الأغنياء، ويهدم العمران ومشيد البنيان، ويعطل المصانع، ويحاول قلب نظام الحكم، كله باسم الإسلام وباسم الإصلاح والعدل، والله يعلم أن عملهم غاية في الفساد والجور والظلم، والله لا يحب المفسدين.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله.

فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر، وأكبر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله، مثل الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.

وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»[197].

وقال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ ما يَكْرَهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا عَنْ طَاعَةٍ»[198].

قال: ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الصغار والكبار، وأنها إنما حدثت عن عدم الصبر على منكر قد طلبوا إزالته، فتولد عنه ما هو أكبر منه، إذ كان رسول الله يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف؛ وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأكبر منه حرم إنكاره.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: مررت أنا وبعض أصحابي زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت: إنما حرم الله الخمر لكونها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم يشتغلون عن الناس بخمرهم.

والمقصود أن أحق من يتصف بالإصلاح والتجديد، هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، و الذين يبلغون عن الله وحيه، وسنة رسوله، فيعلمونها الناس وينشرون فضل العدل والتوحيد، والمحافظة على الفرائض، والنهي عن المنكرات والرذائل، وينهون عن الشرك والبدع، والمذاهب الهدامة والاعتقادات السيئة التي تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل، والزيغ عن سواء السبيل، فهم ﴿ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٤ [الواقعة: 13-14].

والحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم والتقى، يدعون من ضل عن الهدى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، يجددون ما اندرس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها، فهم أنفع الناس للناس، ولولا العلماء لكان الناس بمثابة البهائم، وكم مضى من المصلحين المجددين، ما لا يعد ولا يحصى، وسيأتي من بعدهم من يخلفهم على علمهم وعملهم، ويحمل راية تبليغهم وعدلهم، «وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [199].

أما الحكام فإنهم دون مرتبتهم في العلم والعمل، ومعرفة الحق بدليله، فمتى وفق الحاكم للإحسان والعدل، وتنفيذ الحق وتحكيم الشرع، ونصر المظلوم، وردع الظالم، واستيفاء الحق منه، فإن هذا نعمة من الله، وفضل على العباد والبلاد.

وقد قيل: الحاكم ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].

إذ العدل قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين، وله وضعت الموازين، فمتى اتصف به الحاكم ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه، وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
إنه من المعلوم بمقتضى النصوص، وبالواقع المحسوس، أن للدين إقبالاً وإدبارًا، وقوة و ضعفًا.

فمن إقبال الدين: أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق، أو الفاسقان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمعا.

وإن من إدبار الدين: أن تجفو القبيلة عنه بأسرها، وتنحل عن عزائم دينها وتفسق عن أمر ربها، حتى لا يكون فيها إلا الفقيه، أو الفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، ومن المعلوم أن الناس يزدادون إسرافًا في الرذائل، وفي ترك الفرائض والفضائل عامًا بعد عام، والدين معها محفوظ عن الزوال، ويبقى فضل الجهاد فيه، والعمل والتمسك به، والصبر على الأذى فيه.

وإن صفوة الأمة هم: أصحاب النبي ﷺ الذين هم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، ثم: التابعون لهم بإحسان، الذين تلقوا العلم عنهم، فهم من خير الناس بعدهم، لما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، -لَا أَدْرِي أَذَكَرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ يَجِيْءُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، يَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» أي: من أجل غرقهم في الترف وسائر الأكل المسمن للجسم. وفي رواية: «تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»، مما يدل على فساد دينهم ويدل له ما روى البخاري في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، ثُمَّ تَبْقَى حُفَالَةٌ -وَفِي رِوَايَةٍ- حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً»[200].

ومن المعلوم أنه متى ذهب الصالحون المصلحون، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، فإنه يخلو الجو للفاسدين الفاسقين، فيبيضون ويصفرون.

ومن أشراط الساعة: أن يذهب العلم، ويفيض الجهل، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ولهذا حث النبي ﷺ على التمسك بسنته عند فساد أمته، وقال في حديث العرباض بن سارية: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان وقال الترمذي: حسن صحيح؛ ويدل له ما رواه ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» رواه البيهقي والطبراني.

وقد سماها النبي ﷺ بأيام الصبر، وقال: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الْقَابِضُ فِيْهِنَّ عَلَى دِيْنِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيْهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» قالوا: كيف يكون له أجر خمسين منا؟ قال: «إنكم تجدون على الحق أعوانًا، وهم لا يجدون» رواه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني.

إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون بأنهم من أهله، وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، فترى أكثرهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ويستحلون الربا، وشرب الخمر، فهم في جانب والإسلام الصحيح في جانب، فهؤلاء هم أكثر الناس، والله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103] وقد قيل: الركب كثير والحاج قليل.
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
يقول بعض الناس: إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاطًا. ونحن نقول: إنه متى فسد العمل بالدين فلا دين، كما أنها متى فسدت الصلاة فلا صلاة، ومتى فسد الصيام فلا صيام، لكون الدين عند الإطلاق ينصرف إلى الدين الصحيح الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[201].
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
فمتى أفسد الناس الدين بترك أوامره، وارتكاب نواهيه، قد خرجوا عن حده، واستبدلوا به ضده، وكانوا بهذا الانقلاب جديرين بالضعف والانحطاط، لأن ذنوب الجيش جند عليه و ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ [الرعد: 11].

فكل ضعف حصل بالمسلمين فبسبب ما ضيّعوه من تعاليم الدين، حتى التنازع والاختلاف والقتال بين الحكام المسلمين، فكلها ذنوب تورث الضعف والذل، وحلول الفشل..

ولضعف الدين عوامل عديدة، تساعد على ضعف الناس، منها: قول عمر بن الخطاب: يفسد الإسلام ثلاثة أشياء: أئمة مضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن [202].

وروى مسلم عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ».

والخطر المخوف من زلة العالم هو: الاغترار به فيها ومتابعته عليها؛ إذ لولا التقليد والاتباع لما خيف على الإسلام وأهله من زلته، وكان ابن عباس يقول: ويل للأتباع من عثرات العالم [203]. وقد شبهوا زلته بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير.

كما أن الأئمة المضلين هم: أمراء الناس الذين تنكبوا الطريق المستقيم، وتركوا شريعة القرآن الحكيم، وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، واستبدلوا بها شريعة القوانين، فتبعهم الناس على ضلالهم، ووافقوهم على فسادهم واستبدادهم. والناس غالبًا على طرائق ملوكهم في الخير والشر، ومتى فسد الراعي فسدت الرعية.

ومنها: دنيا تقطع أعناق الناس، حتى تجعلهم كالميتين عن مصالحهم الدينية، وعن ما يوجب قوّتهم واستقامتهم، والاستعداد للجهاد في سبيل الله؛ لأن شغفهم بلذاتها المادية قد شغلهم عن الأمور الدينية، فلأجل حبها صارت هي الجيش الغازي لبلاد الإسلام في هذا العصر، وكأنها الكافلة لأعداء الإسلام بالفتح والنصر بغير جموع ولا جنود، وبغير دفاع ولا امتناع؛ طبق ما روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَتِ الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا» قالوا: أمن قلة يومئذ؟ قال: «لَا، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ مَهَابَةَ عَدُوِّكُمْ مِنْكُمْ، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ».

كل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا لدخول الضعف منه على العباد.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
فهذا الضعف الحاصل بالمسلمين ليس من الدين، وإنما حصل بسبب ما ضيعوه من تعاليم الدين.

ثم إن هذا الضعف والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم، بل قد تقع، ثم تزول، إذ هي وصف عارض، كالأمراض الطبيعية، وربما صحت الأبدان بالعلل.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فقد يعود الإسلام إلى قوته، ويفيء من غربته، كما اشتد ضعفه وغربته زمن وفاة النبى ﷺ، حتى ارتدت العرب عنه، ولم يبق مسجد يصلَّى فيه إلا مسجد مكة ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى أي الأحساء، ولهذا يقول شاعرهم:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول في الخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وعلى أثر هذا الضعف، وهذه الغربة، جاهد الصحابة في الله حق جهاده حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه.

فقول النبي ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد، و ابن ماجه من حديث ابن مسعود وفيه قالوا: يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ». وفي رواية قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» وفي رواية قال: «هُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».

وقد اتخذ الناس هذا الحديث بمثابة التخدير للهمم، والتخذيل للأمم بحيث يتخذونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، حتى كأن الرسول بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف المفاجئ للمسلمين، ولهذه الغربة في الدين.

وإن هذه الغربة تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، فمثل الرسول في الإخبار كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم من وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. قال: فاجتمعنا. فقال النبي ﷺ: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الفتن يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا»، يعني الآخرة شر من الأولى.

فالعاقل لا يستوحش طرق الهدى من قلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[193] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [194] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية، والمغيرة بن شعبة، وأخرجه مسلم من حديث ثوبان، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله. [195] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة والحاكم في المستدرك. [196] ذكره أبو نعيم الأصبهاني في الحلية. [197] أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك. [198] أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك بلفظ مقارب. [199] متفق عليه من حديث معاوية. [200] رواه البخاري عن مرداس الأسلمي. [201] ذكره ابن بطة في الإبانة. [202] أخرجه الدارمي من حديث عمر. [203] أخرجه البيهقي في الكبرى.