مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الأول
العقائد
(6) القول السديد في تحقيق الأمر المفيد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.
أما بعد:
فإن من واجب العالم المحتسب القيام ببيان ما وصل إليه علمه من معرفة الحق بدليله مقرونًا بتجليته وتوضيحه والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.. فإن بيان العلم أمانة والكتمان خيانة.
ومن المعلوم أن العلم ذو شجون، يستدعي بعضه بعضًا ويزداد وضوحًا، والشخص يزداد نضوجًا بتوارد أفكار الباحثين وتعاقب تذاكر الفاحصين، إذ ملاقاة التجاوب بين العلماء تلقيح لألبابها وتقوية لخطابها وعلى قدر رغبة الإنسان في العلم وطموح نظره في التوسع فيه بطريق البحث والتفتيش عن الحق في مظانه.. فإنه تقوى حجته وتتوثق صلته بالعلم والدين. ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، واتقوا الله ويعلمكم الله. ورأس العلم خشية الله..
ولقد نشرت مجلة الدعوة بالرياض بتاريخ 28 جمادى الأولى عام 1397 هـ، مقالاً صادرًا من الشيح عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز بالمملكة العربية السعودية، إنكارًا منه على رسالة إتحاف الأحفياء، حينما قلت بعدم التفريق بين الأنبياء والرسل.. فإن الأنبياء هم الرسل والرسل هم الأنبياء، إذ إن مخرجهما في كتاب الله واحد؛ فمتى ذكر الأنبياء دخلت فيه الرسل، أو أفرد ذكر الرسل دخلت فيه الأنبياء، أشبه التسمية بالمؤمنين والمسلمين.
فإن الله سبحانه إذا ذكر المؤمنين دخل فيه المسلمون، أو أفرد ذكر المسلمين دخل فيه المؤمنون، كما أنه سبحانه إذا أفرد ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، أو أفرد ذكر الإسلام دخل فيه الإيمان على حد سواء، فكل نبي رسول وكل رسول نبي، وكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن في ظاهر الحكم على الناس في الدنيا، والله سبحانه يتولى الحكم في السرائر.
فأنكر فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد عدم التفريق بين الأنبياء والرسل وعدم التفريق بين المؤمنين والمسلمين، لزعمه أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.
فلأجله أصدر الشيخ عبد العزيز هذا المنشور ليطلع عليه كافة الجمهور من الرجال والنساء، كأنها فضيحة يريد إشاعتها، وهي شكاة قد ذهب عنا عارها، وقد كان من الأوفق أن يكتبها في رسالة ثم يعمم بها جميع المختصين بالعلم والمعرفة، ثم يحكموا رأيهم فيمن هو أهدى سبيلاً، بدلاً من أن يغشى بها العوام وضعفة العقول والأفهام.
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
إن الشيخ عبد العزيز رحمه الله لديه قوة ونشاط في الرد والنقد، ولكن بدون رماية ولا دراية ولا سياسة ولا حكمة، فتراه يجعل الصحيح خطأ والصواب غلطًا، كما ستراه مفصلاً من قوله..
فبما أن الشيخ عبد العزيز أشاع الشناعة على الرسالة بصريح التضليل والتجهيل بدون تثبت ولا تصحيح، ومن المعلوم أن كل من أوصلته خبرًا لن تستطيع أن توصله عذرًا..
وقد تبين لنا أن اعتراضاته كلها باطلة لا تعتمد على أساس من العلم والمعرفة، وأن سكوتي عن الجواب قد يعطي بعض الناس شيئًا من الشك والارتياب فيما قلت في الكتاب، مما قد يئول إلى عدم الثقة والاطمئنان إليه..
فلأجله بدا لي أن أُبدي اعتذاري بكشف هذا الاتهام الناشئ عن غلط الأوهام وخطأ الأفهام.
وكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
وقد كنت أحسب لهذه النفرة الحساب، فطرقت لسدها كل باب، وجمعت النصوص الجلية والبراهين القطعية ما عسى أن يزيح الشك والارتياب عن الكتاب.. غير أن صواب القول وصحته غير كافلة لصيانتة عن الرد عليه والحط من قدره بحق وبغير حق.
غير أن الناس بطريق الاختبار في القول والنقد يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام.. فمن واجب العالم الكاتب أن يبدي غوامض البحث ويكشف مشاكله ويبين صحيحه من ضعيفه، حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم.
إنه متى تصدى عالم أو كاتب لتأليف أي رسالة أو أي مقالة أو أي قصيدة فبالغ في تنقيحها بالتدقيق، وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة، فحاول جاحد أو حاسد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها ويلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان، ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام؛ أفيلام صاحبها متى كشف عنها ظلام الاتهام، وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام، إذ لا بد للمصدور[106] من أن ينفث[107]، والحجة تقرع بالحجة، ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه. ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١﴾ [الشورى: 41].
مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق لأن الحق مضمون له البقاء، فأما الزبد فيذهب جفاء.. وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ عبد العزيز في جهده ونقده جزيل الأجر والثواب، سواء أخطأ في النقد أو أصاب، فما رده عليَّ أو الرد عليه إلا محض التلقيح للألباب ويبقى الود ما بقي العتاب.. إذ ما من أحد من الناس إلا وهو راد ومردود عليه، ولنا الأسوة بالصحابة، حيث يرد بعضهم على بعض في مسائل الفروع ولن يجد أحدهم في نفسه حرجًا أو افتخارًا بفلج[108] في رد أخيه عليه؛ لأن قصد الجميع الحق، فهو غايتهم المقصودة وضالتهم المنشودة، وإنا لنرجو في إثارة هذه المباحث بأن لا نعدم من نتائج جميلة وحكم جليلة يثيرها البحث والنقاش، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب. وهذا أوان الشروع على رد مداركه، ونسأله سبحانه الهدى والسداد فإنه ولي التوفيق والهادي لأقوم الطريق.
[106] المصدور: الذي يشتكي صدره. [107] ينفث: يبزق. [108] فلج: ظفر وفوز.
قال الشيخ عبد العزيز: ((إن ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الله، من أنه لا فرق بين النبي والرسول، والحق أن الاسمين اسمان لمعنيين: فإن الرسول أخص من النبي، وأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.. فإن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهو الرسالة)).
قال: ((فالأنبياء والرسل اشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم، واختصت الرسل بإرسالهم إلى الأمة.. قال الله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52])).
قال: ((فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة، ففيها دليل على التغاير بين النبي والرسول)) انتهى.
فالجواب: أن كل شخص لا يبني قوله ونقده على أساس من العلم والمعرفة؛ فإنه سيتخبط في فنون الخطأ والغلط، ومن عادة شيخنا عبد العزيز في نظرياته وتقريراته أنه يرمي بمثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف، غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف، ثم يذهب كل مذهب في تحقيقها بما يظهر خطأه على فلتات لسانه ونزوات أقلامه، ويقولون في تفسير الحكمة: إنها إصابة الحق في القول والعمل. فهم يمدحون الثبت المصيب في أن إيراده وارد مورده، وأنشدوا:
ثبت البيان إذا تلعثم قائل
أضحى شِكالاً[109] للسان المطلق
لم يتبع شنعَ اللغات ولا مشى
رسف[110] المقيد في حدود المنطق
في هذه خبث الكلام وهذه
كالسور مضـروبًا له والخندق
من ذلك استدلاله بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52].
قال: ((فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة، ففيه دليل على التغاير بين النبي والرسول)).. انتهى.
فيا سبحان الله، لا أدري في أي كتاب من كتب النحو وجد أن العطف بالواو يقتضي المغايرة، فإننا لم نر من فسر العطف بالواو على ذلك.
وإنما حقيقة قول النحاة: أن العطف بالواو لمطلق الجمع للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، وهي من باب عطف الشيء على مصاحبه في الحقيقة أو المعنى، كقوله سبحانه: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ﴾ [البقرة: 238] فعطف الصلاة الوسطى على الصلوات الخمس التي أمر بالمحافظة عليها جميعها ومنها الصلاة الوسطى.. وهي صلاة العصر على القول الصحيح، وخصها بالذكر لمزيد فضلها ويسمونه من عطف الخاص على العام، إذ الكل جنس واحد، وقد أمروا بالمحافظة عليها جميعها، ويسمونه هذا من عطف الشيء على مرادفه وجنسه.
نظيره قوله سبحانه: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ ٩٨﴾ [البقرة: 98] فعطف جبريل وميكال على الملائكة وهما من جنسهم.
ومثله قوله: ﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ١١٢﴾ [النساء: 112]، فعطف الإثم على الخطيئة والخطيئة إثم والإثم خطيئة.
نظيره قوله سبحانه: ﴿وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ﴾ [النحل: 90] فعطف المنكر على الفحشاء، والمنكر من الفحشاء كما عطف البغي على المنكر وهو منكر.
ويقول العلماء: إنه من عطف الشيء على مرادفه وجنسه، ففي الأول معنى الثاني، وفي الثاني معنى الأول.
فقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ﴾ [الحج: 52]: أي ولا أرسلنا نبيًّا إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فدلت هذه الآية بفحوى لفظها ومعناها: أن الله يرسل الأنبياء إلى الناس.
نظيره قوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤﴾ [الأعراف: 94].
ومثله قوله سبحانه: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ﴾ [البقرة: 213].
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر.. أن النبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنِ اسْتَعْجَلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا.. الحديث». فوصف رسول الله جميع الأنبياء بإرسالهم إلى الناس بدون استثناء أحد منهم، وأنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فكلهم مرسلون يبشرون وينذرون، يتبين أن استدلاله بالآية هي حجة عليه لا له.. وهذا جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق والكبر يمنع من اتباعه.
وبالتحقيق نجد القرآن يخاطبهم باسم الأنبياء تارة كما تقدم، وباسم الأنبياء والرسل تارة أخرى، كقوله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥﴾ [النساء: 163-165].
فهذه الآيات تثبت أن جميع الأنبياء من بعد نوح أنه أوحي إليهم وأنهم أرسلوا إلى الناس مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فأين هؤلاء الأنبياء الذين أُوحي إليهم بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام، ثم لم يؤمروا بتبليغه؟! وكيف سكت عن ذكرهم وعدم بيانهم الكتابُ والسنة وما كان ربك نسيًّا؟
وتارة يخاطبهم باسم الرسل خاصة كقوله سبحانه: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ﴾ [البقرة: 253].
فإن هذا خلاف ما تقتضي سنة الله في إرسال رسله وأنبيائه.
فقد وصف الله سبحانه الأنبياء بالرسل، كما وصف الرسل بالأنبياء والمعنى واحد، لكون النبي يُنبِّئه الله من وحيه بما شاء، كما قال سبحانه: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ﴾ [التوبة: 94].
ثم هو يُنبِّئ عن الله أمره ونهيه وأحكامه وحلاله وحرامه وصلاته وصيامه، كما نجد القرآن يخاطبهم باسم الرسول بقوله: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ ﴾ [البقرة: 253] ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ﴾ [البقرة: 253] ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ﴾ [الأنفال: 64].. فمن لوازم إنزال الوحي على النبي هو الإنذار والتبشير كما هي طريقة الرسل وكما نصف نبينا محمدًا ﷺ بأنه نبي رسول.
.. فوُصِف هذا النبي بإرساله إلى الناس، وبه يتبين أن استدلاله بالآية هو حجة عليه لا له، وهو واضح جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق والكبر يمنع من اتباعه.
نظيره قوله سبحانه: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: 213]، فوصف هؤلاء النبيين بالإنذار والتبشير وهي وظيفة الرسل.
وكما في صحيح مسلم عن العباس أن النبي ﷺ قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا».
وليست هذه التسمية بهذه الصفة من خصائصه، بل يشاركه فيها سائر الأنبياء، إذ ليس عندنا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أن فلانًا نبي، وليس برسول، فيلزم المدعي لذلك إيجاد الدليل الواضح الذي يبين اسم النبي الذي ليس برسول.
﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤﴾ [الأحقاف: 4]، فالتفريق إنما هو تنوع اسم والمسمى واحد.
وفي البخاري ومسلم، أن النبي ﷺ قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ أَنْبِيَاؤُهُمْ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي». والله سبحانه قد أثنى على المؤمنين القائلين: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق ببن أحد من رسله.
فهذا التفريق الذي ذمه الله، كما أنه يشمل الإيمان ببعضهم والتكذيب ببعض، فإنه يشمل أيضًا إثبات الرسالة لبعضهم ونفيها عن بعضهم، فكله من التفريق الذي ذمّه الله ونهى عنه. فالذي يحتج بإثبات التفريق بين النبي والرسول، يجب عليه بأن يورد لنا أسماء الأنبياء الذين ليسوا برسل، حتى يكون لاحتجاجه موضع من الصحة وموقع من القبول.
[109] الشّكال: العقال (وما يُقيد به). [110] رسف: مشْي المقيد.
قال الشيخ عبد العزيز، في قوله سبحانه: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا ٥١﴾ [مريم: 51] قال: ((فوصفه بالرسالة والنبوة، فدل على أن الرسالة وصف زائد على النبوة..)) قال: وقال ابن كثير -رحمه الله-: وهذا دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف إسحاق بالنبوة فقط وإسماعيل وصفه بالرسالة والنبوة.
فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز عاجز مبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سَلك العنكبوت ؛ لهذا تراه يتتبع السقطات واللقطات عن العلماء التي ليس لها أصل والتي يخالفها الحق والحقيقة، من ذلك استدلاله بهذه الآية وبقول ابن كثير من تفضيل إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف إسحاق بالنبوة فقط وإسماعيل وصفه بالرسالة والنبوة، والله سبحانه هو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، وقد ذكر الله إسحاق مع الرسل بجنب أخيه إسماعيل، فقال سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥﴾ [النساء: 163-165].
فكل هؤلاء رسل وأنبياء بإجماع العلماء، وحسبما ذكرهم الله في كتابه في هذه الآيات التي بدأها بالنبيين وختمها بالمرسلين.. فهم أنبياء ورسل ومنهم إسحاق عليه السلام بجنب أخيه إسماعيل، وصفًا ومحلًّا.. فهذا التفريق بين إسماعيل وإسحاق باطل لا حقيقة له.
أما كون إسماعيل أبو العرب أفضل من إسحاق، فهذا ثابت للبلوى التي ابتُلي بها في تسليم نفسه لربه حسب طاعة أبيه، ولمشاركته لأبيه في بناء بيت الله؛ ولهذا أكثر القرآن من ذكره، فكما أن إسماعيل نبي رسول، فكذلك إسحاق نبي رسول، فإثبات الرسالة في حقه شيء والتفاضل بينه وبين أخيه إسماعيل شيء آخر، يقول الله: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ﴾ [البقرة:253].
قال الشيخ عبد العزيز على حديث البراء حين قال: ورسولك الذي أرسلت؛ قال له: «قُلْ: آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» -أخرجه في الصحيح -: ((فإن قوله: ورسولك الذي أرسلت؛ تكثير للرسالة وهو معنى واحد، فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قولك: ونبيك الذي أرسلت. وعلى هذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا..)) انتهى.
فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز أخد هذا الاستدلال تقليدًا عمن سبقه، فهو يستدل بما لا خلاف فيه وبما هو خارج عن موضع الاحتجاج والبحث.. فإننا وإياه وجميع المسلمين متفقون على أن محمدًا هو نبي ورسول لا خلاف فيه.
أما حديث البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال له: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.. فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ». رواه البخاري ومسلم.
ولما قال: رسولك الذي أرسلت. قال له: «قُلْ: وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» فأرشده النبي ﷺ إلى أن يقول: «وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»؛ فلأن قوله: ورسولك الذي أرسلت؛ تكرار كالحشو الذي لا فائدة فيه.. وأمر آخر وهو مراعاة الأدب مع الرسول في الدعاء الذي شرعه، فهو أفضل من كونه يتصرف بتغييره من زيادة فيه أو نقص عنه. والاستدلال بهذا يعد خارجًا عن موضع النقد، إذ النبي رسول بلا خلاف.. ونحن وجميع المسلمين نقول: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً، وليست هذه من خصائصه، وإنما يشاركه فيها جميع الأنبياء.
قال الشيخ عبد العزيز، فيما نقله عن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله قال بعد كلام سبق له: ((فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخفى من جهة أهلها، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة)).
ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قائلاً: ((والنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما آتاه الله، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله فهو رسول. وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة ربه فهو نبي وليس برسول. قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52])).
فالجواب: أن نقول: إننا متى كنا على الحق ولدينا الدلائل العقلية والنقلية من الكتاب والسنة لصحة ما نقول؛ فإننا لن نتخلى عنه لقول أحد كائنًا من كان، إذ الحق فوق قول كل أحد.. وقد اتفق العلماء على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، كما اتفقوا أيضًا على أنه لا يترك حق لانفراد قائله، كما لا يقبل باطل لكثرة ناقله، وقد سمى الله نبيه إبراهيم أمة وحده؛ لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به ولو كان وحده. ويظهر أن شيخ الإسلام رحمه الله قد اضطرب قوله في هذا، فمرة قال: إن كان هذا النبي أرسل إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله فهو رسول، وإن كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة ربه فهو نبي وليس برسول.
فقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بهذا، ثم استدلاله بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52] فإن هذه الآية تثبت إرسال النبي كما تثبت إرسال الرسول، فإن قوله:﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ﴾، أي وما أرسلنا من نبي. وهذا واضح جلي، فإن هذه الآية تنص على أن الله يرسل الأنبياء كما يرسل الرسل وهي تحقق ما قلنا، نظيره قوله: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤﴾ [الأعراف: 94]
أخبر سبحانه أنه يرسل الأنبياء إلى أهل القرى، كما قال تعالى: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ ﴾ [البقرة: 213].
فوصف الله النبيين بصفة المرسلين لكون الأنبياء هم الرسل والرسل هم الأنبياء، نظيره قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ [الحديد: 25].. فوصف الرسل بما وصف به الأنبياء من الإنذار والتبشير، وأنزل الكتاب عليهم بالحق ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه. فهم الوسطاء بين الله وبين خلقه في دعوة الناس إلى ما ينفعهم، وتحذيرهم عما يضرهم ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾ [النساء: 165] أي خشية أن يقولوا: ﴿مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ﴾ [المائدة: 19]..
ولن يخفى أن كل نبي أُوحي إليه بشرع؛ فقد كلف بتبليغه وأرسل إلى الناس من أهل بلده ومن حوله ثم يدعوهم إلى دين الله، فهذا هو ثمرة النبوة التي من لوازمها الرسالة.
وإن هذا الكلام الذي ساقه شيخ الإسلام ليس مستندًا إلى دليل صحيح صريح من الكتاب والسنة يثبت لنا وجود أنبياء تنزل عليهم الملائكة بالوحي، وبشرع من الفرائض والحلال والحرام والأحكام ولم يؤمروا بتبليغه.
ويترجح بأن شيخ الإسلام متأثر بحديث أبي ذر الموضوع الذي فرّق بين الرسل والأنبياء، فميز الرسل بعددهم وميز الأنبياء بعددهم، كما تأثر به غيره حتى صار عقيدة وطريقة، وهو حديث موضوع -أي مكذوب على الرسول- وقد قال علماء الأصول: إن أوضح علامات الوضع كونه يخالف نص القرآن، والقرآن يثبت أن ﴿مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ﴾ [المؤمن: 78].
ثم يقال: إن الله سبحانه قال: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ﴾، ثم ختمها بقوله: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾ [النساء: 163-165]. فالقرآن يثبت أن جميع الأنبياء بعد نوح كلهم قد أوحى الله إليهم وأُرسلوا إلى الناس مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، وهذه الآيات لم تبقِ مجالاً للشك في الموضوع.
وإذا البينات لم تغن شيئًا
فالتماس الهدى بهن عناء
فكل الأنبياء بعد نوح رسل مبشرون ومنذرون بدون استثناء أحد منهم، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤﴾ [مريم: 64].
يوضحه أن الله سبحانه لا يحابي بوحيه نبيًّا دون نبي، بحيث يوحي إلى أحدهم ويكلفه القيام بالدعوة والتبليغ والإنذار والتحذير والصبر على أذى قومه وعلى ما أصابه في ذات الله، فكان بعضهم يُقتل وبعضهم يُضرب وبعضهم يُسجن وبعضهم يُرجم بالحجارة ويُخرج من بلده ويصابون بفنون من البأساء والضراء، ﴿حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ﴾ [البقرة: 214]؛ لأن الأنبياء هم أشد الناس بلاء.
والصنف الثاني من الأنبياء يوحى إليه بشرع تنزل به عليه الملائكة من الله من الأمر والنهي والحلال والحرام، ثم لا يكلفون بدعوة ولا بأمر ولا نهي ولا تبشير ولا تحذير ولا بشيء من إبلاغ هذا الشرع النازل عليهم!! فيكون هذا الشرع المشتمل على الأحكام وأمور الحلال والحرام بمثابة العلم المكتوم، الذي لا يطلع عليه ولا ينتفع به سوى صاحبه لعدم تبليغه والدعوة إليه!! فهذا يعد من القياس البديع ولن يوجد له نظير في شرع الله لكونه يخالف ما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ﴾ [آل عمران: 187]، ويقول: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ﴾ [آل عمران: 81].
والأنبياء هم رؤوس من أوتوا الكتاب وأخذ عليهم العهد والميثاق في بيان الله من الكتاب، وقد قال الله لنبيه: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ﴾ [المائدة: 67].
فالعالم الذي يبلغ ما أنزل الله من العلم والهدى هو أفضل وأنفع من هذا النبي الذي أوحي إليه بشرع من الأمر والنهي والحلال والحرام، ثم يكتمه ولا يبلغه، ويجلس في بيته تاركًا الناس يموج بعضهم في بعض بفنون الشرك والضلال!!
ثم إننا متى بحثنا عن أصل هذه القاعدة التي صارت طريقة وعقيدة للناس بحيث يتلقفها الصغار عن الكبار ويتعلمها العامة عن العلماء وهي قولهم: الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.. والنبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. فهذه القاعدة حيث لم نجد لها أصلاً في القرآن يثبتها، ولم نجد لها أصلاً عن رسول الله يحققها، ولم يحفظ القول بها عن أحد من الصحابة، علمنا أنها محدثة ليس لها أصل تستند إليه ولا نظير تقاس عليه.
وهؤلاء الذين استقصوا عن مبدأ نشأتها عزوا بداية القول بها إلى الإمام النووي المتوفى عام 676هـ من كتابه: الفتح المبين بشرح الأربعين، حيث قال: الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، قال: والنبي هو من أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه، ولذلك كثرت الرسل إذ هم ثلاثمائة وثلاثة عشر.. انتهى.
ويظهر من كلام الإمام النووي رحمه الله أنه متأثر بحديث أبي ذر في التفريق بين الأنبياء والرسل، كما حقق عدد الرسل وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ولا يوجد حصرهم في هذا العدد إلا في حديث أبي ذر الضعيف. وقد غفل رحمه الله عن مصادمته للقرآن الذي هو أوضح الدلائل على وضعه وهو قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ﴾ [المؤمن: 78] ومن عادة العلماء أن ينقل بعضهم عن بعض القول بصحته وضعفه، حتى يشتهر وينتشر، ومثله يقع كثيرًا في كتب الفقهاء.
وكذا قوله: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ ﴾ [النساء: 163-165].
ومتى تبين لنا أن هذا التفريق بين الأنبياء ليس له أصل لا من القرآن ولا من السنة، وإنما نشأ القول به من الإمام النووي أو من مخلوق مثله.. أفيجوز أن نترك نصوص القرآن لقوله.. والله يقول: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: 213] ويقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤﴾ [الأعراف: 94]، وكل يؤخذ من قوله ويترك، وما من الناس إلا راد ومردود عليه سوى رسول اللهﷺ.
وقد قيل:
وما كل قول بالقبول مقابل
ولا كل قول واجب الرد والطرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
فذلك قول جَلَّ يا ذا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها
تدور على حسب الأدلة في النقد
والحاصل أنه متى لم يوجد في القرآن ولا في السنة تحقيق القول بوجود هؤلاء الأنبياء الذين أُوحي إليهم بشرع ولم يؤمروا بتبليغه ولا صفتهم، فإنه يدل على عدم وجودهم، وإنما يوجدون في الأذهان دون العيان!!.
ونقول أيضا: إن الله سبحانه قال: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦﴾ [البقرة: 136].
ومثله قوله: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
ومثله قوله: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [البقرة: 177].
وإذا لم يكن الأنبياء هم الرسل المذكورين في هذه الآيات، فأين الأنبياء الذين أوجب الله الإيمان بهم؟! ثم يقال: هؤلاء الأنبياء الذين أوجب الله الإيمان بهم ونهى عن التفريق بينهم، هل هم أنبياء وليسوا برسل، أم هم أنبياء ورسل؟ ومثله قوله سبحانه: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ﴾ [البقرة: 285].
والقول الحق في هذا المقام أن مخرج الأنبياء والرسل في كتاب الله واحد، وأنه إذا أفرد ذكر الأنبياء دخلت فيه الرسل أو أفرد ذكر الرسل دخلت فيه الأنبياء، أشبه ما قلنا بأنه متى أفرد الإسلام دخل فيه الإيمان أو أفرد الإيمان دخل فيه الإسلام على حد سواء، ومثله أن الله سبحانه سمى عباده المؤمنين باسم المسلمين وباسم المؤمنين، وكما سماهم رسول الله بالمسلمين المؤمنين عباد الله، وكما سمى الله كتابه المبين بالقرآن وبالفرقان في قوله: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ﴾ [الفرقان: 1] والمسمى واحد.
ونحن لا نصدق بوجود نبي أو أنبياء قد أُوحي إليهم بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام، ثم يقال لهم: اجلسوا في بيوتكم ولا تكلفوا أنفسكم شيئًا من الدعوة والتبليغ والإنذار والتحذير!!! وكأن فكرة اعتقادها نشأت عن حديث أبي ذر فرسخت واستقرت عقيدته في نفوس الناس، وهو من سوء تأثير الأحاديث الموضوعة في الأمة، وإنا لنرجو أن يزول هذا الاعتقاد الخاطئ بضده الحق.. فإن الحق مضمون له البقاء ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ﴾ [الرعد: 17].
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد فيما نقله عن الشيخ تقي الدين رحمه الله في كتاب الجواب الصحيح ما نصه: ((وقد روي في حديث أبي ذر، عن النبي ﷺ أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وبعض الناس يصحح هذا الحديث وبعضهم يضعفه..)) ثم نقل عن ابن القيم رحمه الله أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز يحاول رفع هذا الحديث الموضوع إلى درجة الصحة لكونه يقوي حجته، ومن له برفع أنف جدعته المخالب..
وإن كان شيخ الإسلام ذكر هذا الحديث في الجواب الصحيح، فإن ما ذكره بصفة التمريض الدالة على التضعيف مع العلم أنه محك التمحيص للتصحيح والتضعيف، ونستبعد جدًّا من شيخ الإسلام ابن تيمية تصحيحه لهذا الحديث الذي يشهد القرآن بوضعه وبطلانه، وقد ألحقه ابن الجوزي بالموضوعات، وكل عالم نِحرير[111] متى درس هذا الحديث ترجح لديه عدم نسبته إلى الرسول، لكونه لا يشبه كلامه. ونحن نسوقه بتمامه للإحالة عليه ولحقيقة النظر لمن يحب الوقوف عليه.
قال ابن كثير: وقد اختُلف في عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه في تفسيره عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ». قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله نبي مرسل؟ قال: «نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه، ثم سوّاه قبيلا» ثم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ؛ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ، وَشِيثُ، وخنوخ -وَهُوَ إِدْرِيسُ-، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنُوحٌ. وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ. يَا أَبَا ذَرٍّ؛ وأول نبي من بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيّك» قال: وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي؛ فذكر هذا الحديث في الموضوعات، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ابن كثير، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، من أجل هذا الحديث والله أعلم.. انتهى.
وأقول: كيف لا نتكلم في هذا الحديث بما يقتضيه من التضعيف نصيحة لله ولعباده المؤمنين؟ وحسبك أنه يصادم القرآن مما يدل على وضعه وعدم صحته؛ لمخالفته صريح القرآن، فقد قال سبحانه: ﴿وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ...﴾ [النساء:164]، ... وفي قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَ﴾ [المؤمن: 78].
وهاتان الآيتان تنصّان على أن الله سبحانه لم يقص على نبيه أسماء الأنبياء كلهم، بل منهم من قص عليه ومنهم من لم يقصص عليه، فيعتبر الإحصاء المذكور في حديث أبي ذر كذب على الله وعلى رسوله.
وأجمع آيات تنص على عدد الرسل وأعيانهم ببيان أسمائهم هي قوله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥﴾ [النساء: 163-165].
فهؤلاء كلهم أنبياء ورسل بدأهم بذكر الأنبياء وختمهم بذكر الرسل، ومثلها آية الأنعام وهي قوله سبحانه: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ ٨٣ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٤ وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٥ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨٦ وَمِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡ وَإِخۡوَٰنِهِمۡۖ وَٱجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٨٧ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَلَوۡ أَشۡرَكُواْ لَحَبِطَ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٨٨ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩﴾ [الأنعام: 83-89].
[111] نحرير: حاذق ماهر.
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد رحمه الله: ((أما ما ذكره الشيخ في رسالته من أن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد.. فهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة.. فإن الإسلام والإيمان شيئان متباينان كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
قال الله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ﴾ [الحجرات: 14].. فمعنى هذه الآية دليل على أن الإيمان غير الإسلام وأنه ليس كل مؤمن مسلمًا..)) انتهى.
فجوابه: أن الشيخ عبد العزيز يستبيح الكذب على صاحب الرسالة؛ لأنني لم أقل: إن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد. بل قلت: إن الإيمان تصديق القلب ولوازمه العمل وإلا اعتبر كاذبًا. وقلت: إن المسلمين هم المؤمنون، والمؤمنون هم المسلمون، فمخرجهما في كتاب الله واحد. وإن هذه الآية التي استدل بها نزلت في أعراب الجزيرة، لما غشيهم جنود الصحابة وخافوا من القتل أقبلوا وهم يقولون: آمنا. قبل أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وقبل أن يعرفوا أحكام الإسلام، فأنزل الله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾، وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، فقال:
(باب)
إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقول الله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا﴾، وإذا كان على الحقيقة فهو على حد قوله جل ذكره: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19]. فهم في تلك الحالة مستسلمون لحكم الإسلام وحكومته خوفًا من القتل قبل أن يعرفوا الإسلام ولا الإيمان.. لكن هؤلاء الأعراب بعد ما دخلوا في الإسلام وعرفوا الإيمان زال عنهم هذا الوصف وصاروا مسلمين مؤمنين بناء على الظاهر من أعمالهم، ودخلوا في عموم قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ﴾ [الحجرات: 10] وفي قوله ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ»[112].. فلا يجوز أن يقال: فلان الأعرابي مسلم وليس بمؤمن، لكون الإيمان مجرد التصديق ومن لوازمه العمل وإلا صار كذبًا.
فإن مجرد التصديق بدون عمل هو سببه كفر إبليس حين امتنع عن السجود لآدم، حيث أمره الله به فاستكبر عنه، ولأجله سمي إبليس لكونه أبلس من رحمة الله وإلا فإنه يصدق بوجود الرب والملائكة والجنة والنار، كما أخبر الله عنه في كتابه: ﴿وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ﴾ [إبراهيم: 22]، ومثله ما حكى الله عن اليهود أنهم يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم.. فمجرد التصديق الخالي عن العمل لا يجدي على صاحبه شيئًا ولا يسمى إيمانًا.
والنبي ﷺ إنما كان يطالب الناس بإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ولا يسأل عما في قلوبهم من إيمان أو نفاق.. ونحن إنما نتكلم على أعمال الناس الظاهرة حسب القاعدة، والله يتولى الحكم في السرائر..
وفي البخاري أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعد موت رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إننا نعرفكم إذ ينزل الوحي فينبئنا الله من أخباركم، وإنما نعرفكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أحببناه وقرّبناه وسريرته إلى الله.. ومن أظهر لنا شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه ولم نأمنه، وسريرته إلى الله عز وجل.
إنه ليس من الممكن أن يسرع دخول الإيمان إلى قلوب عرب الجزيرة وهم حديثو عهد بجاهلية ويعبدون الأصنام وسلاحهم بأيديهم يحاربون به الرسول والمؤمنين.. أو إلى أهل مكة -حال استيلاء الصحابة عليهم- وهم يعبدون الأصنام ويكذبون بوجود الرب وبالرسول وبالقرآن ويكذبون بالبعث بعد الموت ويكذبون بالجنة والنار، ويقولون ما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ﴾ [الجاثية: 24].
فدخول الإيمان إلى قلوب هؤلاء يحتاج إلى وقت يزاولون فيه بالتعليم بأحكام الإسلام والعمل بشرائعه، ثم يدخل الإيمان تدريجيًّا في قلوبهم. وقد يموت بعضهم على كفره، ولكن القاعدة الأصولية أن كل بلد يفتحها المسلمون ويغلب عليها أحكام الإسلام فإنها بلد إسلام، ومتى أظهر أهلها الطاعة والخضوع وجب الكف عنهم، وفي بعض الغزوات لما شهر بعض الصحابة سيفه يريد قتل رجل في صف المشركين، فقال: لا إله إلا الله. فقتله، ولما أُخبر رسول الله بذلك أنكر عليه قتله.. فقال: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من القتل. فقال رسول الله ﷺ: «أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»[113]، «فَإِنِّنِي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»[114]. ومثله ما جرى لخالد بن الوليد في قتله بني جذيمة، حين أقبلوا عليه وهم يقولون: صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فقتلهم، فأنكر رسول الله عليه قتلهم.. وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»[115].
وأول ما يزاول عليه المغلوبون الحديث عهدهم بالشرك هو مزاولتهم على أعمال الإسلام من الوضوء والصلاة والزكاة والصيام، فمتى عرفوا أن لهم ربًّا يصلون ويصومون له، فهذا هو مبدأ الإيمان.. والله سبحانه لم يخاطب عباده بندائهم بالإيمان إلا بعد ما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم.. فناداهم الله سبحانه باسم الإيمان بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة: 183].
وهذه الآية إنما نزلت في أول السنة الثانية من الهجرة، ولا أدري هل نزل قبلها من جنسها شيء أم هي أول ما نزل؟ لهذا لا توجد هذه الصيغة -أي النداء بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ - إلا في السور المدنيات[116]. وكان قبل ذلك يناديهم بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ في السور المكيات، كما توجد في السور المدنيات أيضًا [117].
لهذا أنزل الله على رسوله وهو واقف بعرفة في السنة العاشرة من الهجرة قوله سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: 3]، وإذا أفرد الإسلام دخل فيه الإيمان لكونه من لوازمه وكذا عكسه.
كما أن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وعبادة غير الله، ولا يستغني أحدهما عن الآخر أبدًا، فلا يصح إيمان بدون إسلام ولا إسلام بدون إيمان.
والنبي ﷺ قد فصّل ذلك بأحسن تبيان وبما يزيل الإشكال في هذا المقام. فروى الإمام أحمد من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». ومعنى كون الإسلام علانية: أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المصلين ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.
وهذا معنى ما روى الحاكم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ» من ذلك أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسلم على من لقيت من المسلمين، وتسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم.
أما من يتسمى بالإسلام أو بالإيمان وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة ولا يؤدي الزكاة الواجبة ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه لا حقيقة له. ما هو إلا إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
يقول الله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ [البقرة: 8-9]. وقال: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ﴾ [المائدة: 41]. فاعملوا بإسلامكم تعرَفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.. وقد نصب الله سبحانه للإسلام علامات ومراسيم يعرف بها إسلام الشخص. ففي الصحيحين من حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ».
وكما في حديث جبريل، حين قال: يا رسول الله أخبرني عن الإسلام، قال: «الْإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: صدقت.. الحديث.
ولما سأل معاذ النبي ﷺ عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار، فأرشده إلى العمل بهذه الأركان.. وهذه الأركان هي بمثابة التصحيح والتمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والطغيان.
فالمتصف بالعمل بهذه الأركان هو المسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.
كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون اختبار لهم بأعمالهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم.. أنا مؤمن.. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان ينطق به البر والفاجر حتى عبدة الأوثان.
يقول الله سبحانه: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢﴾ [العنكبوت: 2]، أي: ولا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ﴾، أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع من الأمر والنهي والصلاة والصيام والحلال والحرام، ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ﴾، أي: في دعوى إيمانهم، فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم وسائر ما أوجب الله عليهم، ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣﴾ [العنكبوت: 3]، أي الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ﴾ [الأنعام: 125]، فيفوح بذكره ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره. ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ﴾ [الزمر: 22]. وكان من دعاء النبي ﷺ على الجنازة: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[118]، لكون الإنسان في حال حياته يعمل بشرائع الإسلام، وبعد موته ينقطع ذلك العمل ولم يبق معه سوى الإيمان في قلبه.
وإن كل ما ذكر في الإسلام من الآيات والأحاديث، فإنه يدخل فيه الإيمان، غير أن عناية القرآن والسنة بالإسلام أشد من الإيمان، لكون الإسلام مبني على الأعمال الظاهرة، أما الإيمان فمبني على التصديق بالقلب وحساب صاحبه على ربه.
فقول الشيخ عبد العزيز: ((إن في الآية[119] دليلاً على أن الإيمان غير الإسلام، وأنه ليس كل مسلم مؤمنًا..)) فهذا غير صحيح، فإنه لا يكون الرجل مسلمًا صحيح الإسلام حتى يكون مؤمنًا لتلازم ما بينهما وإلا اعتبر كافرًا.. فلو رأينا رجلاً يحافظ على أعمال الإسلام كلها، بحيث يصلي الصلوات الخمس المفروضة ويؤدي الزكاة الواجبة ويصوم رمضان ويحج البيت الحرام، لكنه لا يصدق بوجود الرب ولا الملائكة ولا بالبعث بعد الموت ولا بالجنة والنار، فإن كان يجهر بعقيدته وعدم تصديقه فهو الكافر المحض، وإن كان يخفيها في نفسه فهو المنافق تجري عليه أحكام الإسلام ويسمى مسلمًا تبعًا للمسلمين المؤمنين الصحيح إيمانهم، لكون الناس لم يكلفوا عن التنقيب عما في القلوب، كما قال النبي ﷺ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»[120].. وهذا الصنف من المنافقين لا يزالون يوجدون في كل زمان ومكان.
لهذا كان يعامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين من الصحابة من التناكح والتوارث بناء على ما ظهر من أعمالهم، فليس عندنا مسلم ليس بمؤمن أبدًا، بل كل مسلم مؤمن بناء على الظاهر من عمله.. والنبي ﷺ قال: «إنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ»[121]. ولا أدري هل يلتحق هذا المسلم الذي ليس بمؤمن بقسم المؤمن التقي أو الفاجر الشقي.. وقد أتى النبيﷺ في هذه القضية بما يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع..
وهي قضية وقوع التزاحم على الماء بين المهاجرين والأنصار.. فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار.. فقال رسول الله ﷺ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ»[122]، «فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ»[123]. وهذه كافية في قطع النزاع وحل الخلاف لولا أن الهوى يصد عن رؤية الحق، والكبْر يمنع من اتباعه. فإن هذا التداعي بالمسلمين والمؤمنين يجمع جميع المسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها من مسلم ومنافق؛ لكون أعمال الناس تجري على الظاهر من أمرهم.
[112] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
[113] أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد.
[114] متفق عليه عن أبي سعيد الخدري.
[115] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.
[116] كسورة البقرة وآل عمران والنساء... (وكلها سور مدنية).
[117] كسورة الأعراف ويونس ولقمان (وهي سور مكية)، وسورة البقرة والحج والحجرات (وهي سور مدنية)
[118] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
[119] يقصد بالآية قوله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾ [الحُجرَات: 14].
[120] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.
[121] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من حديث أبي هريرة.
[122] متفق عليه من حديث جابر.
[123] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.
استدل الشيخ عبد العزيز بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35]، وبحديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان، وبحديث سعد بن أبي وقاص، قال: أعطى النبي ﷺ رجالاً ولم يعطِ رجلاً.. فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان وهو مؤمن؟ فقال: «أو مسلم»[124].. قال: ((فيه دليل على مغايرة الإسلام للإيمان وأنهما اسمان لمعنيين مختلفين.. )) انتهى. فالجواب: أن الإسلام والإيمان متى تفرّقا اجتمعا، فيدخل الإسلام في الإيمان بعمل الجوارح، ويفسر الإيمان بالتصديق بالقلب، ولا يكفي التصديق بالقلب بدون عمل الجوارح ولا عمل الجوارح بدون التصديق بالقلب.
وكأن فضيلة الشيخ عبد العزيز يرى أن الإسلام بدون إيمان يوجد في شخص، بحيث يشار إليه بالبنان ويقال: هذا مسلم وليس بمؤمن، وأنه لا تلازم بينهما، وهذا خطأ مبين وعدم فقه في الدين، وفي نصوص القرآن الحكيم. فليس في الشرع مسلم ليس بمؤمن، ولكن الشيخ يريد أن لا يعتق نفسه من رق الاعتقاد الخاطئ الذي نشأ عليه في حالة الصغر.. وما أسرع ما نسي عقيدة أهل السنة من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأنه متى فُقد أحدهما فقد الآخر.. أشبه الرأس والقلب.. فإنه لا حياة للشخص بدون اجتماعهما، فلو رأينا شخصًا يعتقد الإيمان بالله واليوم الآخر ويصدق بوجود الملائكة والجنة والنار، ولكنه يقول: لا أصلي ولا أصوم ولا أؤدي الزكاة ولا أصدق بوجوب ذلك عليَّ.. فإن هذا كافر قطعًا وليس بمسلم ولا بمؤمن لمناقضته للإيمان.
كما أننا لو رأينا رجلاً يحافظ على أحكام الإسلام الظاهرة، ولكنه لا يصدق بوجود الرب ولا الملائكة ولا البعث بعد الموت ولا بالجنة والنار، فإن هذا ليس بمسلم ولا مؤمن. وكيف نسي فضيلة الشيخ قول العلماء في حكم المرتد، وأن من جحد وجود الرب، أو جحد صفة من صفاته، أو جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئًا منها، فإنه يكفر إلا أن يكون حديث عهد بجاهلية فيعرف وجوب ذلك، فإن أصرّ حُكم بكفره.
ومتى صح الإيمان صلحت أعمال الإسلام، ومتى فسد الإيمان فسدت الأعمال، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»[125].
وقد فسر النبي ﷺ الإيمان بعمل الإسلام، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس، أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي ﷺ قال: «مَنِ القَوْمُ؟ أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟» قالوا: ربيعة، فقال: «مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوِ الْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا». فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر.. فأْمُرْنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة.. فأمرهم بأربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ»، ففسر النبي ﷺ الإيمان بأعمال الإسلام لارتباط ما بينهما، كما فسره أيضًا بقوله: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»[126] ومن المعلوم أن قول: لا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق والحياء كلها من أعمال الإسلام وسماها رسول الله بالإيمان.
إن كل من يتأمل القرآن فإنه يجده يصف أهل الإسلام بأنهم مسلمون، كما يصفهم بأنهم مؤمنون، يقول الله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦﴾ [البقرة: 136]. ومثله قوله: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84]. وكذلك قوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64]. ومثله قوله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣﴾ [الأنعام: 162-163]. وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢﴾ [آل عمران: 102] وكذا قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٨٠ وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ٨١﴾ [النمل: 80-81]. ففي آيات كثيرة يصفهم بأنهم مسلمون ولم يذكر معها أنهم مؤمنون، للاكتفاء بذكر الإسلام عن الإيمان ولدخوله في مسماه.. فقوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19] أي الإيمان؛ لأنه من لوازمه فلا إسلام بدون إيمان ولا إيمان بدون إسلام، ولن يوجد مسلم صحيح الإسلام بدون إيمان، كما أنه لا يوجد شخص حي بجسم دون رأس. وأنا أضرب لك مثلاً:
وهو أن الإسلام بمثابة رأس الإنسان؛ لحديث «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ»[127]، والإيمان بمثابة قلب الشخص فلا يكون الإنسان حيًّا سويًّا برأس دون قلب ولا بقلب دون رأس.. والنبي ﷺ حين فسر الإسلام بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج؛ فسر الإيمان بأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره، كما في حديث جبريل.
والنبي ﷺ بهذا التفسير والتفصيل بمثابة الطبيب الحاذق يشخّص حواس الرأس بمميزاته وكونه يشتمل على الدماغ وعلى السمع والبصر وبقية مخصصاته، ثم يشخّص القلب بأوصافه المختصة به، مع العلم أن كل واحد منهما ملازم للآخر صلاحًا وفسادًا وحياة وموتًا، فهما جزء واحد لا يتجزأ.
فقول الشيخ عبد العزيز: ((إن الإسلام والإيمان شيئان متباينان ومختلفان، وأنه ليس كل مسلم مؤمنًا.. )) فيا ليته وصف لنا هذا المسلم الذي ليس بمؤمن وبيَّن لنا صفات أعماله واعتقاده، وقد استدل لذلك بقول سعد في الرجل الذي لم يعطه رسول الله، فقال: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فإني أراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا..» قال: ((رواه الإمام أحمد)). ونحن نسوق هذا الحديث بكماله، فإن آخره يفسر أوله.
روى البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان في ترجمة باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل.. قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أعطى رهطًا -وسعد جالس- وترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا»، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان.. فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا»، ثم قال: «يَا سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ».
إن رسول الله لا يأنس بالمجازفة بدعوى الإيمان لشخص معين لكون الإيمان اعتقاد قلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى، لحديث «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ»[128]، ومتى ادعاه شخص عند رسول الله عمل معه التحقيق في صحته، كما في حديث حارثة بن النعمان أنه دخل على النبيﷺ فقال له: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًا. فقال: «انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً». فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الشهوات، فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَالْزَمْ»[129]. قال ابن رجب: روي هذا الحديث مسندًا وروي مرسلاً والمرسل أصح.
لكن الخطاب باسم المؤمنين على الإجمال كما يقول الخطيب: يا معشر المؤمنين اتقوا الله فهذا جائز ومشروع لقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ﴾ [التوبة: 71]، وقوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ﴾ [الحجرات: 10]. لكون الخطاب بهذه الصفة يدخل فيه جميع المسلمين والمؤمنين. إن الناس زمن النبي ﷺ حديثو عهد بشرك وجاهلية، وأكثر العرب لم يسلموا إلا بعد فتح مكة عام ثمانية من الهجرة. ولم يدخل الإيمان في قلوبهم حال استيلاء الرسول والصحابة عليهم، ولم يوقف رسول الله رجلاً منهم فيسأله: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكم أركان الإيمان؟ بل تركهم على حالهم، وأخذ الإسلام يدخل في قلوبهم تدريجيًّا شيئًا بعد شيء، وبعد أن عرفوا الإيمان بمقتضى المزاولة والمجالسة والتعلم صاروا مسلمين مؤمنين تبعًا للفاتحين الغالبين.
وبقي فيهم منافقون يظهرون الإسلام والإيمان ويبطنون الكفر والنفاق، ﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ١٤﴾ [البقرة:14]. وقد أنزل الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ [البقرة:8-9]. فالرسول يعرف مِنْ هؤلاء ما لا يعرفه سعد؛ لأن الله سبحانه قد أخبره بأسماء بعضهم، كما أنه أخبر حذيفة بن اليمان بذلك وستر عليهم نفاقهم.. فالرسول كره من سعد أن يجزم بإيمان هذا الشخص والإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. كما نهى عن المجازفة في المدح والثناء، فقال: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: فُلَانٌ أَحْسَبُهُ كَذَا، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا»[130].
ولما كان رسول الله يعرف من هؤلاء ما لا يعرفه سعد؛ قال له: «أَوْ مُسْلِمًا» أي مستسلمًا بالطاعة والإذعان، كما فسرها البخاري بالترجمة وهي باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، ثم ساق هذا الحديث.
ولهذا أسرع أكثر هؤلاء العرب إلى الردة عن الإسلام بعد وفاة رسول الله ﷺ ومنعوا زكاة أموالهم وقالوا: إنه لو كان نبيًا لم يمت، فقاتلهم الصحابة حتى ردوهم إلى الدين؛ لأنه من المعلوم تفاوت الناس في الثبات على الدين وعدمه وزيادة الإيمان ونقصانه، وإن من الناس من إيمانه كالجبل في الثبات والقوة والاستقامة فلا تزعزعه الفتن، ومنهم من إيمانه كمثقال ذرة في خفته وقلّته ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧﴾ [إبراهيم: 27]. وكما أخبر القرآن أن من ﴿ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨﴾ [البقرة: 8]، وهذه الآية نزلت في المنافقين، وكما أخبر النبي ﷺ فيما رواه مسلم عن حذيفة «أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»، ثم حدثنا عن رفع الأمانة «وَأَنَّ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، مَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَعْقَلَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ». وقد ترك النبي ﷺ المنافقين يتسمون بالإسلام، وينسبون أنفسهم إلى الصحابة الكرام فيناكحونهم ويوارثونهم، ولما استؤذن رسول الله في قتل رجل منهم قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[131]. لما كانوا ينتسبون إلى صحبته في الظاهر.
وإنما سمي عبد الله بن أُبي ابن سلول بأنه رأس المنافقين من أجل أنه كان يظهر نفاقه ولم يملك كتمانه، وقد شهد عليه زيد بن أرقم بأنه قال: لا تنفقوا على محمد وأصحابه حتى يخرجوا من بلدنا، فما مَثلنا ومَثَلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، فوالله لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. يعني بالأعز: نفسه، وبالأذل: الرسول وأصحابه، فأنزل الله تعالى تصديق شهادة زيد، بقوله: ﴿هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ ٧ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨﴾ [المنافقون: 7-8]. وقد جرى العمل بتحكيم هذه القاعدة وأن جميع المنتسبين للإسلام الذين يصلون الصلوات الخمس ويؤدون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام أنهم مسلمون مؤمنون على الإجمال بناءً على الظاهر من أعمالهم، ويدخلون في عموم قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ﴾ [الحجرات: 10] وفي عموم قوله ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ»[132]، مع إثبات المغايرة بينهم في الإيمان والإسلام، كما قال سبحانه: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ﴾ [التوبة: 97]. وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ﴾ [التوبة: 98].. وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ﴾ [التوبة: 99] فالله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص ﴿وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩﴾ [الكهف: 49]. وكل ما ذكره الله سبحانه عن الأعراب فإنه ينطبق بوصفه على الحضر. فمن الحضر من هو أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، ولا يزال النفاق موجودًا في الحضر والأعراب في كل زمان ومكان.
كما قال سبحانه: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ﴾ [التوبة: 101]. ومنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الزكاة والصدقة والصلة مغرمًا -أي غرمًا ثقيلاً على نفسه- قد بخل بما آتاه الله من فضله، وهي بالحقيقة مغنم لهم لو كانوا يعلمون، كما قيل:
وبما أن الشيخ عبد العزيز يدور كلامه على تحقيق وجود مسلمين غير مؤمنين، فإننا نطالبه بتعيين عشرة أشخاص أو خمسة أشخاص من الأحياء الموجودين في الدنيا، بحيث يسميهم بأسمائهم ويقول: هؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين. حتى يكون لقوله موقع من القبول والصحة في الجدل.
[124] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص.
[125] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير.
[126] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة.
[127] أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل.
[128] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس.
[129] أخرجه البزار من حديث أنس بن مالك.
[130] متفق عليه من حديث أبي بكرة.
[131] متفق عليه من حديث جابر.
[132] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.
قال الشيخ عبد العزيز: ((قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ [فاطر: 32]. قال: فالظالم لنفسه: هو الذي أخل ببعض الواجبات أو انتهك بعض المحرمات، والمقتصد: هو الذي قام بفعل الواجبات وترك المحرمات، والسابق: هو الذي قام بفعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات واستفرغ وسعه في مرضاة الله.. )) انتهى. فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز أخذ هذا الإيراد تقليدًا عمن سبقه وهو خارج عن موضع النزاع، وكأنه أراد من الظالم لنفسه أنه التارك لبعض الواجبات والمنتهك بعض المحرمات، ولعله يريد تطبيق المسلم على صفته، والصحيح أن هؤلاء الأصناف الثلاثة كلهم من أهل الجنة، كما تدل عليه فحوى الآية والحديث. وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ لما تلا هذه الآية قال: «هؤلاء كلهم في الجنة». لكن الحديث ضعيف.. وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾ [فاطر: 32]. قال: «فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابًا يسيرًا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في المحشر، ثم هم الذين تلقاهم الله برحمته ويقولون: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35]». ثم إن فحوى الآية يدل بطريق الوضوح بأنهم كلهم في الجنة؛ لأن الله وصفهم أولاً: بأنه أورثهم الكتاب وهذه الوراثة صفة عالية. ثم وصفهم بأنه اصطفاهم، والاصطفاء افتعال من الصفوة، فكأنه جعلهم صفوة الخلق. ثم أضافهم إلى نفسه الكريمة بقوله: ﴿مِنۡ عِبَادِنَاۖ﴾، ثم نوّه بفضلهم بقوله: ﴿ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢﴾ [فاطر: 32].. ثم ختمها بقوله: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ ٣٣﴾ [فاطر: 33]. والذي أشكل على الشيخ عبد العزيز، هو قوله: ﴿فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ ﴾ [فاطر: 32] فمنهم ظالم لنفسه.. فجعل الظالم لنفسه هو التارك للواجبات والمنتهك للمحرمات وخفي عليه أنه ما من أحد من الناس إلا وهو ظالم لنفسه، وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق قال: سمعت رسول الله يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ». وروي «كَبِيْرًا» بدل كثيرًا.
وقال سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦﴾ [آلعمران: 135-136]. قال الشيخ عبد العزيز: ((إن اسم الإيمان ينتفي عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله ﷺ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ..» الحديث، وأما الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته.. )) انتهى.
فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز يقول: ((إن الإيمان ينتفي عمن ترك شيئًا من واجباته)) ثم يستدل بحديث: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ» وهي بالحقيقة من ارتكاب المنهيات وليست من ترك الواجبات، والفرق عظيم بين ترك الواجبات وبين ارتكاب المنهيات. إذ إن ترك الواجبات أشد من ارتكاب المنهيات؛ لأنها أول ذنب عُصي الله به حين ترك إبليس السجود لآدم..
وقد ذكر شيخ الإسلام الفرق بين ترك الواجبات وفعل المنهيات، وأن ترك الواجبات أشد من ارتكاب المنهيات بأكثر من ثلاثين وجهًا، وأشار إليها العلامة ابن القيم في كتاب الفوائد.
ولفظ الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.. وهذا الحديث من أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت، وللعلماء فيه تفسيرات متنوعة. وحاصلها أننا لا نقول في الزاني: إنه ليس بمؤمن. إلا على طريقة الخوارج الذين يكفرون بالذنب، أو المعتزلة الذين يقولون: إنه بمنزلة بين المنزلتين.
أما أهل السنة فإنهم يعبرون عن مرتكب الكبيرة من الزنا والسرقة وشرب الخمر بأنه مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، فلا يخرجونه من الإيمان بكبيرة الزنا، كما أنهم لا يعطونه كمال الإيمان، لكون الكبيرة تنقص إيمان فاعلها، وقد يتزايد هذا النقص مع الإصرار عليه وعدم التوبة منه حتى تئول إلى ما هو أكبر منها، وهذا معنى قولهم: إن المعاصي بريد الكفر، وقد ترجم عليه البخاري.. فقال: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر وفي عقيدة السفاريني.
فالذي يعتقد إنكار وجود الرب والتكذيب بالملائكة والتكذيب بالنبيين أو بالمعجزات التي أيدهم الله بها وأثبتها القرآن، أو التكذيب بالبعث بعد الموت أو الجنة والنار ويكتم هذا الاعتقاد في نفسه ولا يظهره للناس، فهذا هو المنافق الذي منزلته في الدرك الأسفل من النار.. لكنه يعامل معاملة المسلمين المؤمنين في الدنيا، ويسمى هذا النفاق الاعتقادي وهو النفاق الأكبر.
أما النفاق العملي فهو مثل ما ورد في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ». وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص، أن النبيﷺ قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ». وزاد مسلم: «وَإِنْ صَلَّى، وَصَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ».
فهذا نفاق عملي، ويسمى النفاق الأصغر؛ لأن حقيقة النفاق هو إظهار الخير وإبطان الشر، فبعضه أشد من بعض، وهذا النفاق لا يخرج عن الملة، بل صاحبه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه كسائر عصاة الموحدين.. إن بعض أهل السنة أدخلوا في العقيدة السلفية كونه يستثنى في الإيمان ولا يستثنى في الإسلام، فمتى سئل الرجل وقيل له: أنت مؤمن؟ فليقل: إن شاء الله، أو قيل له: أنت مسلم؟ فليقل: نعم. بدون استثناء. قال السفاريني في عقيدته:
ومثله ما ذكره العلامة ابن القيم في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد[134]:
قال: ذكر أبو نعيم في كتاب: معرفة الصحابة -وكذا الحافظ أبو مسلم المديني - عن سويد بن الحارث الأزدي، قال: وفدت على رسول الله ﷺ وأنا سابع سبعة من الأزد، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزيّنا.. فقال لنا: «مَا أَنْتُمْ؟» فقلنا: مؤمنون. فتبسم رسول الله وقال: «إِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكُمْ؟» قلنا: خمس عشرة خصلة يا رسول الله.. خمس أمرتنا أنت بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئًا. فقال رسول الله ﷺ: «مَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا؟» قالوا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً. قال: «وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ بِهَا رُسُلِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا؟» قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. فقال: «وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي تَخَلَّقْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟» قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضى بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.. فقال رسول الله: «عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوا مِنْ فقههم وعلمهم أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ».
والمقصود أن النبي ﷺ أقرّهم على الجزم بالإيمان ولم ينكر عليهم، ولا أدري ما الذي أدخل في عقيدة أهل السنة الاستثناء في الإيمان دون الإسلام على أن الاستثناء شرع لمنع انعقاد الإيمان، ولا يكون إلا في الشيء المستقبل الذي قد يفعله وقد لا يفعله، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٢٣ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ﴾ [الكهف: 23-24]. والنبي ﷺ قال: «وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا»[135] ثم قال: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ».. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم * * *
[133] ذكر في شرح الأربعين على حديث جبريل والمسند أخرجه البزار من حديث أنس.
[134] ج2 - ص50.
[135] أخرجه أبو داود من حديث عكرمة.
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في العبادة الأعضاء
﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا﴾ بالإسلام، ﴿حَرَجٗا﴾ [الأنعام: 125] حرجًا من أمره ونهيه وصلاته وزكاته وصيامه وسائر أحكامه، يحب التحلل منه وعدم التقيد به حتى يعيش في الدنيا عيشة البهائم ليس عليه أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام.. وقد روى الطبراني من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل».المدرك السابع: الاعتماد على حديث جبريل عليه السلام في التفريق بين الإسلام والإيمان اعتماد غير صحيح
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
كما أن منهم من يتخذ ما ينفق قربات عند الله يرجو ثوابها وأجرها، فهو يحتسبها مغنمًا وليس بمغرم، فتراه يعطي زكاته عن سخاء نفس ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.المدرك الثامن: التدليل على التفريق بين الإيمان والإسلام بالاعتماد على آية (32) من سورة فاطر. وضعف هذا الاستدلال
المدرك التاسع: الاستدلال بحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" على التفريق بين الإسلام والإيمان غير صحيح
لا يخرج المرء من الإيمان
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جر عليه حوبا
ومن يمت ولم يتب من الخطا
فأمره مفوض لذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
ثم إن لفظ الحديث في قوله: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، أي حين ارتكابه لهذه الجريمة حال كون فرجه في فرجها، فلا ينطبق عليه هذا الوصف على ما قبل الزنا ولا ما بعده، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقد يخرج الشخص من الإيمان بمقتضى علم الله وإحاطته بسره وعلانيته، لكنه يعامل معاملة المسلمين المؤمنين في سائر الأحكام، ولنعلم أن من ليس بمؤمن فإنه الكافر أو المنافق، لكنه تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر.تتمة البحث
ونحن في إيماننا نستثني
من غير شك فاستمع واستبن
فهذا التفريق لا صحة له، ولم نجد له في الشريعة أصلاً يعتمد إليه ولا نظيرًا يقاس عليه، فيجوز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن. بدون استثناء متى علم من نفسه صحة إيمانه، كما يقول: أنا مسلم. بلا فرق.. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال لحارثه بن النعمان: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. فقال رسول الله ﷺ «انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً». فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الشهوات فأسهرت ليلي بالقيام، وأظمأت نهاري بالصيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَالْزَمْ».. قال ابن رجب: روي هذا الحديث مسندًا ومرسلاً والمرسل أصح[133].. فلم ينكر النبي ﷺ جزمه بإيمانه بدون استثناء.