مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الأول
العقائد
(5) إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على سائر الأنبياء.
أما بعد:
فقد جرى على ألسنة العلماء والعوام، مما دخل في ضمن عقائد الإسلام، التعريف عن مراتب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فقالوا: إن الرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، والنبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. وقالوا: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. وقالوا: إن رسول الله ﷺ نُبِّئَ باقرأ، وأُرسل بالمدثر.
معنى ذلك أن الرسول في حالة الفترة من نزول ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١﴾ [العلق: 1] إلى نزول ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١﴾ كان نبيًّا ولم يكن رسولاً. وقد قيل: إن هذه الفترة أربعون يومًا.
وقد صار هذا من العقائد الثابتة في قلوب الناس والتي لا مجال فيها للمماحلة والالتباس بين العام والخاص.
إن هذا التقسيم بصفة التفريق بين الرسول والنبي قد شاع على ألسنة العلماء والعوام حتى ألحقوه بعقائد الإسلام وكأنه لا خلاف فيه بين الخاص والعام، وهو ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من قول الصحابة، لأنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن وآثار الصحابة لم نجد لهذا القول أصلاً يعتمد عليه ولا نظيرًا يقاس عليه، وأسبق من رأيناه تكلم بهذا التفريق هو العلامة ابن كثير في التفسير على قوله تعالى: ﴿وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ﴾ [الأحزاب:40] من سورة الأحزاب قال: فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، فإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأوْلى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس... انتهى.
فهذا الكلام وقع من ابن كثير رحمه الله ولم يسنده. والطريقة أن كلام العلماء يستدل لها ولا يستدل بها؛ إذ كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، فكلام العلماء يساق للتقوية والاعتضاد لا للاعتماد.
وكأنهم أخذوه من مفهوم قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5] فقالوا: إنه ليس في السورة صريح الأمر بالدعوة وتبليغ الرسالة، إذ هي محض تعليم له خاصة فصار به نبيًّا لا رسولاً.
أما سورة ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢﴾ فإن فيها صريح الأمر بالدعوة والإنذار والتحذير فصار بها نبيًّا رسولاً. هذا حاصل ما يقولون وبه يعتقدون، والحق أن كل نبي ذكره الله تعالى في القرآن فإنه رسول، فلا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم فقط والمسمى واحد، وهذا من تنوع الاسم. كما نقول: محمد رسول الله، ومحمد نبي الله. والقرآن يخاطب الرسول بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 59] ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ﴾ [التحريم: 1] وأحيانًا يخاطبه بلفظ الرسول كقوله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ﴾ [المائدة: 67] ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ﴾ [المائدة: 41] والمعنى واحد.
فكما أن محمدًا نبي رسول فكذلك سائر الأنبياء بلا فرق.
والنبي مشتق من الإنباء أي أن الله أنبأه من وحيه بما شاء، كما قال تعالى: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡ﴾ [التوبة: 94]. ثم هو يقوم بدوره بإنباء ما أوحى الله إليه، كما يقول المحدث: أنبأنا فلان.
فكل نبي إذن ملزم بإبلاغ ما أوحى الله إليه من الشرع، إذ التبليغ ثمرة النبوة وعقد نظامها، فلا يوجد في حكم الله وشرعه نبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه؛ إذ هذا أمر يخالف مقتضى النبوة ويجب تنزيه الأنبياء عنه، والله تعالى يقول: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: 213] فوصف الأنبياء بالتبشير والإنذار الذي هو وظيفة الرسل بلا خلاف كما قال تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ﴾ [النساء: 165] فوصف الرسل بالتبشير والإنذار كما وصف بذلك الأنبياء على حد سواء.
وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابًا في النبوّات سمّاه النبوّات قد استقصى فيه أخبار الأنبياء وأوصافهم ومميزاتهم ومعجزاتهم والبراهين الدالة على صدق رسالتهم، وتصدّيهم لدعوة قومهم وصبرهم على أذاهم. وذكر الفرق بين الأنبياء وبين السحرة والكهان وخوارق العادات، ولم يذكر فرقًا بين الأنبياء والرسل، لأن الأنبياء هم الرسل تنوّع الاسم والمعنى واحد، فكل نبي فإنه رسول، فلو كان عنده فرق بين النبي والرسول لذكره ولَمَا أهمل السكوت عن بيانه، إذ الكتاب محل البحث عن مثل هذا لو كان له وجه عنده، والله سبحانه لمّا ذكر أقسام المنعم عليهم بقوله: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩﴾ [النساء: 69] فمتى كان الأنبياء ليسوا برسل فأين الرسل من مقعد هذا الصدق عند مليك مقتدر؟!.
ويترجح أن هذا الاعتقاد في قولهم: إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه؛ أنه إنما دخل على الناس من عهد قريب حيث إنه ليس معروفًا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين، وكأنهم أخذوه من مفهوم قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١﴾ [العلق: 1] لظنهم أنه ليس فيها الأمر بالدعوة ولا تبليغ الرسالة، وخفي عليهم أن الرسول نفسه هو أول من أرسل إليه بنفسه؛ لأن العلم مقدم على القول والعمل، ومن حين فاجأه الحق ونزل عليه الوحي فإنه رسول الله حقًّا، وقد أخذ القرآن ينزل عليه تدريجيًّا.
فهذه الغلطة في التفريق بين الرسول والنبي يظهر أنها إنما دخلت على الناس من طريق حديث موضوع رواه ابن مردويه عن أبي ذر، وهو حديث طويل جدًّا لا يتحمل أبو ذر حفظه مع طوله وفيه قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ». قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: «آدَمُ» قلت: أنبي مرسل؟ قال: «نَعَمْ». ثم قال «يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ وَشِيثُ وخنوخ -وَهُوَ إِدْرِيسُ- وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ. وَنُوحٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ» قال: «وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى..» إلى شيء كثير ذكره مما يدل على صريح وضعه.
فمنها: حصره الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا وهذا الحصر مخالف لصريح القرآن، فإن الله يقول: ﴿مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ﴾ [المؤمن: 78] وقد وردت عدة أحاديث في عدد الأنبياء يخالف بعضها بعضًا، وكلها من الضعاف التي لا يحتج بها. وقد ساقها ابن كثير في التفسير من آخر سورة النساء، وبعضها من قول كعب الأحبار. والذي عليه المحققون من السلف أن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، منهم من قصّ الله خبرهم في كتابه فنؤمن به تفصيلاً ولا نفرق بين أحد منهم، ومنهم من لم يقصص خبرهم. وقالوا: إن من عدّ الأنبياء قد أخطأ وتكلف ما لا علم له به. ومثله: قوله في عدد الرسل وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وكأن هذا منشأ الغلط في التفريق بين الأنبياء والرسل، وأن النبي غير الرسول إذ النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فليس كل نبي رسولاً بزعمهم. وهذا التفريق لم نجد له أصلاً قطعًا، كما أن هذا الحديث لا يحتج به، وقد ذكره ابن الجوزي وكثير من العلماء في الموضوعات. والموضوع هو المكذوب على رسول الله ﷺ، وقد حرم أهل الحديث التحديث به إلا في حالة بيان وضعه.
قال في ألفية الحديث:
الخبر الموضوع شر الخبر
وذكره لعالم به احظر
ومثله: قوله في آدم وأنه أول الرسل، والصحيح أن أول الرسل نوح، يقول الله تعالى: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ﴾ [النساء: 163] ويعني بالنبيين: المرسلين. ثم قال: ﴿وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾ [النساء: 164-165] فذكرهم باسم الأنبياء في قوله: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ﴾ [النساء: 163]. ثم ذكرهم باسم الرسل والمعنى واحد، إذ لا يوجد في شرع الله نبي ليس برسول، ولكن الجهل قد عمّ بالناس فصاروا يكذبون على الله وعلى رسوله ويروِّجون كذبهم بين العامة باسم الصحابة كأبي ذرّ ونحوه، ثم إن الكثير من العلماء قد غفلوا عن تحقيق هذا الحديث المكذوب. وكل من تأمل القرآن في موارده ومصادره وأمره ونهيه وقصص أنبيائه فإنه يجده يذكر الرسل باسم الأنبياء، والأنبياء باسم الرسل.
فقوله تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [النساء: 165] هو نظير قوله: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: 213] لفظًا ومعنى، وهو تنوع اسم والمسمى واحد، وأن جميع الأنبياء أرسلوا إلى قومهم يحملون رسالة ربهم، يدعونهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فكلهم مبشرون ومنذرون ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾ [النساء: 165]. وهذه هي الحكمة في بعث الرسل، ثم إن السبب الذي جعل العلماء المتقدمين يغفلون عن نقد هذا بعدم ذكر الخلاف فيه، هو كونه مدرجًا في العقائد التي شبوا ونشؤوا عليها، فلا يتساءلون عن مصدر هذا التفريق، ويقتدي بعضهم ببعض في القول به، كما كنا نعتقده في حداثة سننا، فمثل هذا متى تصدى أحد من العلماء لنقده بالدلائل والبراهين الدالة على صحة ما يقول فعند ذلك ينتبه الناس له، وتنسحب عن قلوبهم الغفلة في الاستسلام بالقول به. وهذا يقع كثيرًا في مسائل الأصول والفروع مما يرجع إلى قوة الاستنباط.
ولم يتناول درة الحق غائص
من الناس إلا بالروية والفكر
وجميع الناس من الأولين والآخرين يُسألون يوم القيامة ويُقال لهم: ماذا كنتم تعملون ﴿مَاذَآ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦٥﴾ [القصص: 65].
ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ ١٣٠﴾ [الأنعام: 130] فذكر الرسل ويعني بهم الأنبياء. فإن قيل: في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٥٢﴾ [الحج: 52] فعطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة فكأن النبي غير الرسول.
فالجواب: أن مثل هذا يقع كثيرًا في القرآن وفي السنة، يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب:35] فغاير بينهما بحرف العطف، ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون، والمؤمنين هم المسلمون، فلا يقال: فلان مسلم وليس بمؤمن ولا أنه مؤمن وليس بمسلم، وإنما هو تنوع اسم والمسمى واحد. نظيره قوله تعالى: ﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٩٧ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ ٩٨﴾ [البقرة: 97-98] فعطف بجبريل وميكال على الملائكة وهما منهم. والنبي ﷺ قال: «فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ»[96] مثله قول أحدنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول.
ثم إن الله سبحانه تأبى حكمته أن يوحي إلى نبي من الأنبياء بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام ثم لا يأمره بتبليغه، بحيث يصر على كتمانه وعدم بيانه بدون حرج ولا إثم عليه، ويكون هذا الشرع الذي أوحاه الله إليه بمثابة الدين الضائع بحيث لا ينتفع به أحد. وما الفائدة بهذا النبي وبهذا الشرع الذي أوحي إليه وهو لم يبلغه إلى الناس؟!! إن هذا لا يكون أبدًا، وليس هو من سنّة الله ولا من شرعه ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به. والله تعالى يقول: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ﴾ [آل عمران: 187]. والأنبياء هم رؤوس من أوتوا الكتاب وأُخذ عليهم الميثاق في بيان ما نزل إليهم من ربهم، فهم لا يكتمون الله حديثًا.
ولم نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في قول أحد من الصحابة أن فلانًا نبي وليس برسول.
ولو سألنا أعمق رجل في العلوم والفنون وأعرفه بعلم القرآن والتفسير ليدلنا على اسم شخص معين هو نبي وليس برسول فإنه لن يجد إلى ذاك من سبيل، لأن هذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان، فإذا لم نجد ما يدل على الفرق بين النبي والرسول لا في الكتاب ولا في السّنة علمنا حينئذ أنه لا أصل له، وأن القول به جرى على ألسنة العلماء المتأخرين بدون سند من علم اليقين، وأن هذا النبي الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه لا يوجد ولن يوجد أبدًا، ويجب تنزيه الأنبياء عن هذا الاعتقاد الذي هو تفريق بينهم.
[96] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.
أما تفضيل بعضهم على بعض مع إثبات رسالة جميعهم فهذا شيء ثابت، فقد قال الله تعالى: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ﴾ [البقرة: 253] فأثبت التفضيل مع إثبات رسالة الجميع. وأفضل الأنبياء محمد رسول الله؛ فقد قال: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ، وَأَنَا أَفْضَلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [97] ومن بعده أولو العزم وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى. ومع ثبات تفضيله كما في حديث الشفاعة وغيره ففي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ» وهذا النهي محمول على تفضيله عليهم في حالة الجدل والمماراة، وقد عبّر عن الرسل باسم الأنبياء بدون فارق، والله سبحانه أمر عباده بأن يقولوا: ﴿ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٣٧﴾ [البقرة: 136-137] فأمر الله عباده المؤمنين بأن يؤمنوا بكل النبيين وأن لا يفرقوا بين أحد منهم.
ولا شك أن وصف أحدهم بأنه نبي وليس برسول لكونه أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وبعضهم نبي رسول أن هذا هو حقيقة التفريق بينهم، إذ فيه إزالة وصف الرسالة التي هي أعلى المراتب عن بعضهم؛ لأنه وإن فسر هذ ا التفريق بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فإن الخطاب محتمل لهذا وذاك، إذ كِلا الأمرين تفريق بينهم، والقرآن يوجب على المؤمنين أن يؤمنوا بجميع الأنبياء بدون تفريق. وقد وصف الله نبيه والمؤمنين بالإيمان بهم جميعًا فقال تعالى: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥﴾ [البقرة: 285].
فذكر سبحانه الأنبياء في هذه الآية باسم الرسل كما ذكرهم في الآية التي قبلها باسم النبيين، والكل حق والمعنى واحد، فالأنبياء هم المرسلون والمرسلون هم الأنبياء، كما أن الله يخاطب نبيه أحيانًا باسم النبي وأحيانًا باسم الرسول والمعنى واحد، فقوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40] أي وخاتم المرسلين إذ النبيون هم المرسلون.
[97] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري.
وقد دخلت طائفة البهائية، الذين هم أشد الأمم كفرًا وعنادًا من فجوة هذا التفريق حين قالوا برسالة (بهاء الله الميرزا علي محمد)[98] حيث زعموا بأنه رسول الله، ولما استدل عليهم بعض المسلمين بقوله: ﴿وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40] قالوا: إن محمدًا خاتم النبيين وليس بخاتم المرسلين، فكأنهم وجدوا في هذا التفريق بين النبيين والمرسلين فجوة يدخلون عن طريقها بباطلهم، كما هي طريقة القاديانية القائلين: إن محمدًا ليس بخاتم النبيين وإن النبوّة باقية، ﴿يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨﴾ [التوبة: 8] ﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٢٧﴾ [ص: 27]
[98] البهائية وابتداء دعوتها: نشأت البهائية في إيران وكان أول من أنشأها رجل شيعي من مواليد الأحساء اسمه الشيخ أحمد الأحسائي سنة 1166 وسُمّوا الشيخية نسبة إليه، واشتهر بتبشيره بظهور المهدي المنتظر، وله آراء باطنية وفلسفية تحوم حول تغيير نظام الإسلام وشريعته، ويدعي أن لديه علمًا لدنيًّا تلقاه عن آل البيت، ويبشر بدعوة سرية ينظم حركتها أو يولي الخلفاء من بعده، واقتفى خطة الباطنية في تحريف القرآن والسنة إلى غير المعنى المراد منهما وفقًا لآرائه ونزعاته. وكان يقول: إنه لا يوجد بعدي من يعرف مقصدي سوى السيد كاظم الرشتي فاطلبوا علومي منه. ولم يزل متنقلاً داعيًا إلى أن توفي بجدة من أرض الحجاز سنة 1242هـ. ثم تولى كاظم الرشتي الدعاية بعده إلى أن توفي سنة 1259هـ. البابية: ثم قام علي محمد بعد وفاة الرشتي 1260هـ مدعيًا أنه نائب عن الإمام المنتظر، وأنه بابه الذي يفتح به ظهور الإمام، فسُمّوا البابية من أجله، وهم فرع من البهائية. ثم أظهر أنه الإمام المنتظر المهدي فقام بثورة وأخذ يظهر للناس فنونًا من الكفر، وأن شريعته تنسخ شريعة القرآن، وأنها قد أنهت دور الشريعة المحمدية!! فلا صلاة ولا صيام، ويعمد إلى النصوص القرآنية فيتأولها تأويلات الباطنية ويقلب حقائقها ويصرفها عن المعنى المراد منها. ثم ادعى أنه باب الله وأنه سيد من عترة الرسول ﷺ. فأنكر علماء فارس على طائفة البهائية علمهم وعملهم وحكموا بكفرهم وردّتهم، وأصدرت محكمتهم الشرعية حكمها بقتل الباب علي محمد وإعدامه لكفره وردته، فقتل في تبريز سنة 1266هـ. وجعلوا يتتبعون أتباعه حتى قتلوهم في كل مكان، ثم انتشروا في البلدان يدعون إلى نحلتهم (مذهبهم) على سبيل التقية والتستر. ومن البهائية: امرأة تدعى قرة العين، وكانت من أبرز دعاة البابية، وهي فتاة إيرانية من قزوين، بنت حاجي ملا صالح، وزوجة ابن عمها الملا محمد بن الملا نقي. المسمّى عند الشيعة بالشهيد الثالث. وقد اجتمعت هذه بالرشتي في كربلاء، فانتسبت إليه، وكتبت رسالة بتأييد شيخه الأحسائي فأجابها برسالة افتتحها بقوله: يا قرة عيني، وفرح فؤادي. فاشتهرت من ذلك الحين بهذا اللقب، وكانت على جانب عظيم من الخبرة والطلاقة والجمال، وذاع خبر السوء عنها بما يُعد اشتهارًا وفجورًا، فأسماها أنصارها بالطاهرة. ولما قيل لكاظم الرشتي عن فجورها. قال: إني والله أعلم ذلك، ولكن ماذا أصنع بامرأة سمّاها الله الطاهرة من فوق سبع سموات!!! ولم تنتزع عن الدعوى رغم حنق علماء بلدها بما فيهم أبوها، وأخوها، وزوجها، حتى أصبحت بلدها قزوين مركز دعوة البابية. القاديانية: أما القاديانية فإن مبدأها من رجل يدعى ميرزا غلام أحمد من سكنة قاديان بالهند فنسبت طائفته القاديانية إليها. ولد غلام أحمد سنة 1252هـ ولما بلغ سن التعليم تعلم بعض الكتب الفارسية وتعلم اللغة العربية والنحو والمنطق والفلسفة، ثم تقلد وظيفة في إدارة نائب المندوب السامي، ثم استقال منها لما استدعاه أبوه إلى مساعدته في أعماله الخاصة، وكان بزازًا. ثم مرض أبوه فزعم غلام أحمد بأنه نزل عليه وحي من الله أن أباه سيموت بعد الغروب فمات تلك الساعة، وهذه بداية دعوته في ادعاء نبوّته سنة 1876 ميلادي وأخذ بعد هذا يصرح بآراء يزعم بأنه نزل عليه الوحي بها. وكان المسلمون في الهند يلاقون هذه المزاعم بالإنكار الشديد. ثم أظهر منشورًا أعلن فيه بأنه المسيح المنتظر، فقام في وجهه علماء الشريعة بالهند فأنكروا عليه أشد الإنكار وكادوا يقتلونه لكنه استجار بالإنكليز فبالغت في نصرته وحمايته، وكان يصب الثناء والمدح لهم في سائر خطبه ومنشوراته، ثم انتقل غلام أحمد إلى دلهي يدعو إلى نحلته (مذهبه) ويدعي الوحي والنبوة والرسالة، وأخذ يخطب وينشر المنشورات غير مبال بالقرآن ولا بالسنة ولا بإجماع الأمة ويقول: إن كل من لم يصدق نبوتي فهو كافر!!! ويقول: إن سائر الأمم من اليهود والنصارى والمجوس الذين كذبوا نبوة محمد فإنهم سيؤمنون برسالتي! ويقول: وإن تعدوا آيات نبوتي لا تحصوها!!! إلى غير ذلك من الهراء والغرور. وليس الوحي والرسالة عند القاديانية بمقصورة على غلام أحمد بزعم نحلتهم، بل يدعون أن أتباعه ينزل عليهم الوحي! ويقولون: إن طريق الوحي لا يمكن أن يسد في وجوه الناس! ويزعم غلام أحمد أنه نزل عليه الوحي بقوله: (إني جاعلك للناس إمامًا ينصرك رجال نوحي إليهم!!) فهم ينكرون كون النبي محمد خاتم النبيين، ويزعمون أن شريعتهم قد نسخت شريعة محمد!!. وبذلك انفصلوا عن المسلمين بعقيدتهم وطريقتهم ونبيهم فليسوا من المسلمين ولا المسلمون منهم. وقد نشطوا في دعوتهم بما يخدع بها الهمج السذج الذين هم أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح أقرب شبهًا بهم الأنعام السائمة، وليسوا ببدع من المدعين للرسالة، فقد مضى للكذابين مثلها دعاوى، فقد ادعاها مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار بن أبي عبيد ومن بعدهم أناس صالوا بدعوتهم وصار لهم أنصار وأتباع، ثم تمزقوا وتفرقوا واضمحلوا وزالوا، والله أعلم حيث يجعل رسالته ﴿هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ ٢٢١ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ ٢٢٢ يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ ٢٢٣﴾ [الشُّعَرَاء: 221-223].
ولقد ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الأمة أن محمدًا رسول الله هو خاتم النبيين والمرسلين فلا نبي ولا رسول بعده، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40] وفي صحيح البخاري عن النبيﷺ أنه قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أيضًا أن النبي ﷺ قال: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ».
وفي رواية لمسلم عن جابر قال: «أَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ» وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي الطفيل أن رسول الله قال: «لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ». قيل: وما المبشرات؟ قال: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ» وفي رواية: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ».
وروى البرقاني في صحيحه عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تُعْبَدَ فِئَاتٌ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».
قال العلامة ابن كثير رحمه الله في التفسير: قد أخبر الله سبحانه في كتابه والسنة المتواترة عن رسول الله أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فإنه كذاب أفاك دجال ضال مضل، حتى ولو أتى بما أتى فإنها محال وضلال... انتهى.
ثم إن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وهي تذكر الأنبياء دائمًا بدلاً من الرسل. ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. فاجتمعنا فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأمة جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ..» إلى آخر الحديث.
فأخبر النبي ﷺ أنه ما من نبي من الأنبياء إلا كان حقًّا واجبًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فأين هذا النبي الذي لا تجب عليه الدعوة ولا تبليغ الرسالة؟ لأن هذا هو مقتضى أمانة نبوتهم، لأنه إنما سمي نبيًّا لكونه ينبئ عن الله أمره ونهيه وحلاله وحرامه وسائر فرائضه وأحكامه، فهذه وظيفة جميع الأنبياء كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣﴾ [الأنبياء: 73]. أما نبي يوحى إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فهذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به.
ومثله قوله ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتقنها وجمّلها إلا موضع لبنة منها، تم صنع مأدبة ودعا الناس إليها فجعلوا يعجبون من حسنها إلا موضع تلك اللبنة. قال: فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» رواه مسلم عن جابر. وقال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»[99] وقال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ بَنُو عَلَّاتٍ»[100]. الدين واحد والشرائع متفرقة يعني أن لكل نبي شريعة من الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام تناسب حالة أمته وزمانه غير شريعة الآخر. قال تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا﴾ [المائدة: 48].
ثم جاءت شريعة محمد رسول الله مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع، لأن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وقد بعث رسول الله محمد إلى الناس كافة قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158] وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28] ولما رأى رسول الله مع عمر قطعة من التوراة قال: «يا عمر لقد جئتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»[101].
فبما أن رسول الله هو خاتم المرسلين فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع، فلا يجوز لأحد أن يتعبّد أو يعمل بشريعة غير شريعته، إذ هي المهيمنة على سائر الشرائع والحاكمة عليها.
يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨﴾ [الجاثية: 18].
واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي، وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة ومن بعدهم من الأئمة فضلاً عن غيرهم فيحكمون بخلافها، ثم يتبين لهم وجه الصواب فيها فيعودون إليه، لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.
وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها، لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم، لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر.
وإنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن والحديث والتفسير، وأعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق والتدقيق وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها بحيث يخرجها من حيّز الخفاء والغموض إلى حيّز التجلي والظهور بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه والحالة هذه سيجد سعة لعذرنا ومندوحة[102] عن عَذلنا[103] فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأصول بعضها ببعض، فيخصص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، وبربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب مما يدل على المعنى المراد به.
وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية بالأدلة القويمة القوية والمألوفة المعروفة، حيث تقبلها العقول ويتلقاها العلماء بالقبول لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول.
لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيما قلت مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيه إلى ما يأباه النقل أو ينفيه العقل، لكنني أعرف بأنني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، فعلى كل أخ مخلص منصف أن يعيد دراسته ويعجم عود فراسته ليتضح له معناه ويقف على حقيقة مغزاه ومبناه، فإن تبيّن له أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية، وجب عليه أن يكشف لي بكتاب عن وجه ما خفي علي من الصواب، فإن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع، والقصد واحد والغاية متساوية.
ثم إن العلماء من قديم الزمان وحديثه قد يبدو للمجتهدين منهم اليوم في فهم النصوص وتفسيرها وفهم القرآن واستنباط معانيه وأسرار أحكامه ما لا يبدو للفقهاء وللمفسرين المتقدمين في العصور السالفة، ولولا ذلك لم تتعدد التفاسير. وحسبك مخالفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للعلماء قبله في كثير من مسائل الفقه والتفسير والأصول والعقائد، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومن صفة القرآن أنه لا تنقضي عجائبه، وقد وصفوه بالبحر المملوء من الدرر، ولكل غائص على قدر نصيبه منه، كما قال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن[104]. «وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[105].
إنه كلما اتسع علم الشخص اتسع رحبه لتقبل المسائل المستغربة متى كانت مرفقة بالدليل الواضح، وإن لم تكن معروفة أو معمولاً بها في زمانه أو عند فقهاء مذهبه، ومن ثم يتسع مجاله في استنباط نصوص الفقهاء وتحريرها وتقييدها في ضوء المقاصد الشرعية الكلية، وبذلك قد يظهر للمتأخرين المتبحرين في فقه النصوص والأصول ما عسى أن يخفى على المتقدمين. فكم ترك أول لآخر، وكم استفاد عالم من عامي، والحكمة ضالة المؤمن أينما يجدها يلتقطها.
والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
15 ربيع الثاني سنة 1396هـ
* * *
[99] رواه الترمذي من حديث أبي بكر. [100] أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة. [101] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [102] مندوحة: أي سعة. [103] عذلِنا: لومِنا. [104] أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب. [105] متفق عليه من حديث معاوية بن أبي سفيان.