1768

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م

المجلد الأول
العقائد



(4) البراهين والبينات في تحقيق البعث بعد الوفاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الكريم المنان، العزيز ذي السلطان، خلق الإنسان من عدم، ثم قال له: كن، فكان. كل يوم هو في شان. وكل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.

[توطئة]

أما بعد: فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، فأوجد لهم في الدنيا جميع ما يحتاجون إليه من المطاعم والمشارب، والفواكه والثمرات، وسائر أنواع الخيرات ومن كل ما يحتاجونه من الضروريات والكماليات، كلها كرامة من الله لعباده، يتنعمون بها في حياتهم، ويتمتعون بها إلى ما هو خير منها لآخرتهم، فقال سبحانه: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81].

فأمر الله عباده بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، وحذرهم من الطغيان: وهو مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، لكونهم محاسبين ومجزيين بما يفعلون، كما قال سبحانه: ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧ [العنكبوت: 17]، فذكرهم سبحانه رجوعهم إليه؛ للوقوف بين يديه، فيسألهم ماذا كنتم تعملون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وهو معنى ما يقول الصابرون: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦ [البقرة: 156].

فمن علم أنه مملوك لله، وأنه راجع إليه، فليعلم أنه موقوف بين يديه يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡ‍ُٔولُونَ ٢٤ مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ٢٦ [الصافات: 24-26].

ويقول: ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠ [المؤمن: 39-40].

فسمى الله الدنيا متاعًا، والمتاع: هو ما يتمتع به صاحبه برهة، ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر، قال تعالى: ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ [التوبة: 38].

وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ ١٨٥ [آل عمران: 185]، فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على زوالها، فتتبدل صحة الإنسان فيها بالسقم، ونعيمه بالبؤس، وحياته بالموت. ومآل عمارها بالخراب، واجتماع أهلها بفرقة الأحباب. وكل ما فوق التراب تراب. والله سبحانه كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، وهذا الموت الذي يفزع الناس منه، ليس هو فناء أبدي، لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ [النجم: 31]. فلا يجزع من الموت، ويهوله الفزع منه؛ إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، فهذا الذي يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت، وحسرة الفوت، وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم. يقول: ﴿يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24] وخير الناس من طال عمره وحسن عمله. وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
دع الذم للدنيا فكم من موفق
يقول وقد لاقى النعيم بجنة
حياتي لو امتدت لزادت سعادتي
فيا ليت أيامي أطيلت ومدتي
إن الناس في الدنيا بمثابة الغرباء، الذين يعلمون ويوقنون بأن لهم دارًا هي أبقى، وأرقى من حياتهم في دار الدنيا، فهم يجمعون لها، ويسعون سعيهم في تمهيد النقلة إليها، لأن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه، ولأن صنائع الإحسان تقي مصارع السوء، يقول الله في آخر آية نزلت من القرآن: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281].

فالمؤمن الذي له حظ ونصيب من العمل الصالح، والتزوّد من الدنيا لآخرته، فإنه لن يكره الموت إذا نزل به، لفرحه بلقاء ربه وثواب عمله، فنفسه مطمئنة بلقاء ربه، فيقال له عند الاحتضار: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠ [الفجر: 27-30]. وفي الدعاء المأثور: اللهم إني أسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك، وتقنع بعطائك، وترضى بقضائك. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله، كلنا نكره الموت. قال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير، بشر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر، بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» رواه أحمد والنسائي من حديث أنس. بل ورواه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت.

وقد جعل الله الدنيا مزرعة للآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة، والأعمال السيئة، فمن خرج من الدنيا فقيرًا من الحسنات، والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا، وساءت له مصيرًا.
تزوّد من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام وهن قلائل
فما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به والشيب للرأس شاعل

[الإيمان بالبعث بعد الوفاة]

إن الله سبحانه جعل الإيمان بالبعث بعد الموت للجزاء على الأعمال، بحيث يثاب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على عصيانه، وهو من أقوى أركان الإيمان، وقد أكثر سبحانه من ذكره في القرآن الكريم. يقول سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا تَسۡعَىٰ ١٥ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ ١٦ [طه: 15-16]؛ لأن هذا الاعتقاد: هو أقوى وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
وكان السلف الصالح يكتبون في صدور وصاياهم التصريح بعقائدهم، فيقولون: هذا ما أوصى به فلان بن فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. شهادة عليها أحيا، وعليها أموت وعليها أبعث إن شاء الله.

وفي الصحيحين: عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْوًا أَحَدٌ، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ، قَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ».

وقد أكد سبحانه الإيمان بالبعث في كثير من الآيات، كقوله سبحانه: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177]، فسمى الله يوم القيامة باليوم الآخر، لكونه متأخرًا عن الدنيا، وفي حديث جبريل الذي رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب، ورواه البخاري عن أبي هريرة، أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن الإيمان؟ فقال: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قال: صدقت. فجعل التصديق الجازم باليوم الآخر، الذي هو البعث بعد الموت، من أركان الإيمان. ومن كذب به فهو كافر بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، يقول الله تعالى: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧ [التغابن: 7].

أصناف الناس تجاه الإيمان بالبعث]

إن الناس في الإيمان بالبعث على صنفين، أحدهما:

الماديون الملحدون: الذين يكذبون بكل ما غاب عن مشاهدهم، فيكذبون بوجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار، ولا يؤمنون إلا بما يحسون ويلمسون ويشاهدون. ويقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ ٢٤ [الجاثية: 24]، وقد أكثر القرآن من إقامة الحجج والبراهين على هؤلاء، وأن أمثال هؤلاء لا يؤمنون، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 97].

يقول الله سبحانه: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ [الأعراف: 53]، أي حين تحق الحقائق ويتجلى الرب للخلائق يوم القيامة، وتبدو الجنة عيانًا، والنار عيانًا، وتظهر الملائكة

قال تعالى: ﴿يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٥٣ [الأعراف: 53]

ففي ذلك الوقت وفي تلك الحالة ﴿لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ١٥٨ [الأنعام: 158]

فهؤلاء الذين يكذبون بالبعث، هم الذين يعيشون في الدنيا عيشة البهائم، ويعتقدون بأنهم كالبهائم على حد سواء، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام. وقد قال الله فيهم: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]، وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44]. فجعلهم أضل سبيلاً من الأنعام، لكونهم لم يستعملوا مواهب عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، فيما خلقت له من عبادة ربهم.
عمي العيون عموا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
أما المؤمنون: فإنهم يعتقدون ويصدقون بكل ما أخبر الله به في كتابه، وعلى لسان نبيّه، سواء أدركوا ذلك بحواسهم ومشاهدهم أو لم يدركوا، ذلك لأنهم يؤمنون بالله، وما جاء عن الله، على مراد الله، إيمانًا جازمًا لا يخالطه شك، فهؤلاء هم المؤمنون بالغيب، الذين مدحهم الله تعالى بقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥ [البقرة: 3-5].

فالإيمان بالله ربًّا، وأنه يحيي الموتى هو إيمان بالغيب.

والإيمان بالملائكة، وأنهم خلق من خلق الله، خلقهم لعبادته وخدمته، وهم عقول بلا شهوات، إيمان بالغيب.

والإيمان بالبعث بعد الموت للجزاء على الأعمال هو إيمان بالغيب.

والإيمان بالجنة والنار هو إيمان بالغيب. وقد مدح الله المؤمنين الذين هم بالآخرة يوقنون، أي يصدقون بطريق اليقين الذي لا يخالطه الشك فقال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥ [البقرة: 5]، والفلاح: هو الفوز والنجاح بنعيم الدنيا والآخرة.

إن أكبر ما يحفز النفوس، وينشطها للعمل لآخرتها، هو إيمانها بالثواب على حسناتها، والعقاب على سيئاتها، فتنشط إلى فعل الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، وصلة الأرحام، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وتنشط إلى التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الله، وكونه لا يزكي النفس عند الله سوى عملها الصالح. ويقال للناس: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ [النحل: 32] لكون الموت ليس هو فناءً أبديًّا، لكنه خاتمة الحياة الدنيا، وبدء حياة الآخرة.

عقيدة أهل السنَّة والجماعة

إن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور. يقول الله سبحانه: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ [الأنبياء: 1-3]. فأخبر سبحانه باقتراب حساب الناس يوم القيامة، لأن كل ما هو آت قريب. والبعيد ما ليس آتيًا، وقد خطب النبي ﷺ بعد العصر، حتى إذا أتت الشمس علي أطراف الجريد، وأطراف الحيطان قال: «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا» [85]، وذلك بالنسبة إلى طول مدة ما مضى من الدنيا.

[85] أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري.

النوم أخو الموت، واليقظة منه بمثابة البعث بعد الوفاة

خلق الله النوم في الحياة، وجعله بمثابة النوم للوفاة، وهو آية من آيات الله تعالى. قال سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ [الروم: 23]. وهو نعمة من الله، يعود على البدن بالراحة والصحة، ويستعيد البدن نشاطه وقوته.

وإن البعث بعد الموت: هو بمثابة اليقظة بعد النوم على حد سواء، فلو بقي الإنسان في قبره ألف سنة، أو ألفي سنة، ثم استيقظ للبعث يوم القيامة، فكأنه لم يلبث إلا عشية أو ضحاها، يقول الله سبحانه: ﴿وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۢۚ [الأحقاف: 35]، وقد أخبر سبحانه عن كرامة أهل الكهف، وأنهم لبثوا في نومهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا ﴿وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ [الكهف: 19]، فشبّه سبحانه نومة أهل الكهف الطويلة، بنومة الموت مهما طالت، وشبه بعثهم -أي استيقاظهم من نومهم- ببعثة الموت عند قيام الساعة وقولهم: ﴿لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖ [المؤمنون: 113]، وكذلك الموتى متى بعثوا، كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ [الكهف: 21] وقد جعل الله النوم في الدنيا، بمثابة النموذج لموت الآخرة، فهو يحقق بصدق، قيام الساعة، وأحوال القيامة، وأهوالها.

[تسمية الله تعالى للنوم موتا]

وقد سمى الله النوم موتًا، في قوله سبحانه: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ [الزمر: 42]، فسمى الله النوم وفاة، لأنه شقيق وفاة الآخرة، ويسمى الوفاة الصغرى. نظيره قوله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٦٠ [الأنعام: 60]، فسمى الله النوم وفاة، لكونه يهجم على الحي في حال غفلته، بحيث لا يحس بهجومه إلا وهو في عالم الأموات، ثم يشاهد في منامه من الأحوال، والأهوال، ومخاطبة الموتى، وغير ذلك، مما لا يدركه في يقظته، ومتى رأى في منامه ما يسره فرح واستبشر، واستيقظ مسرورًا بما رأى.

والرؤيا الصالحة من المبشرات، وهي ما يراها المؤمن، أو تُرى له، كما أنه إذا رأى ما يسوءه، أصبح حزينًا كئيبًا من خوف وقوع ما رأى، وهكذا أحوال الآخرة، فإن الله خلق النوم، وسماه وفاة، وجعله بمثابة الشاهد الصادق لأحوال القيامة وأهوالها، وأن قيام الناس من قبورهم، هو بمثابة قيامهم من نومهم، قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ - أي القبور- ﴿إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ ٥١ قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٢ إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 51-54].

فلا ينبغي للعاقل أن يستبطئ قيام الساعة، وقد جاءت أماراتها، وهي لا تأتي إلا بغتة، فبعض الناس يراها بعيدة وهي قريبة، فلأجل طول أمله، تراه يندفع إلى المخالفات؛ من ترك الطاعات والصلوات، وارتكاب المنكرات لظنه أن الآخرة متأخرة، يقول الله تعالى: ﴿بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥ يَسۡ‍َٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦ [القيامة: 5-6]، يقول: سأعمل ثم أتوب، وسأعمل ثم أتوب، وربما تعاجله المنية قبل تحقيق هذه الأمنية، أي قبل التوبة فيندم، حيث لا ينفعه الندم ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24].

إن الأرواح بعد مفارقتها للأجسام لا يشملها الفناء، بل تبقى منعمة أو معذبة، فقد ثبت ذلك في القرآن الحكيم، حاكيًا عن آل فرعون، وأنهم يعرضون على النار غدوًّا وعشيًّا ﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ ٤٦ [المؤمن: 46].

وقال سبحانه في حق الشهداء: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠ [آل عمران: 196-197]، وهذه حياة أرواح برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى. وأخبر النبي ﷺ: أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها. وثبت لأرواح المؤمنين الصالحين مثل ذلك، فالأرواح بعد موتها باقية: إما أن تنعم، أو تعذب.

ومثله اجتماع النبي ﷺ ليلة الإسراء بالأنبياء في منازلهم من السماء، وصلاته بهم، وما ذاك إلا بأرواحهم. ولعلهم تشكلوا له بصورهم في الدنيا، حيث رأى نبي اللهِ يوسفَ، وقد أُعطي شطر الحسن، ومثله المراجعة الواقعة بينه وبين موسى عليه السلام، وما ذاك التخاطب إلا بالأرواح، وإلا فمن المعلوم أن الأنبياء كلهم قد ماتوا، ودفنوا بالأرض، ما عدا عيسى عليه الصلاة والسلام.

أما الإسراء بالنبي ﷺ، وكذا المعراج، فإنه بروحه وجسده على القول الصحيح، وحمل اللفظ على حقيقته، إذ المقام مقام معجزة، لأن الله تعالى افتتحها بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ [الإسراء: 1]. وكان من هدي النبي ﷺ أنه إذا استعظم شيئًا، إما سبح، أو كبر تأسيًا بالقرآن.

إنه ما بين أن يرى مقدمات الآخرة، والمجازاة على عمله، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

وثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «يؤتى بأنعم الناس في الدنيا -أي المنعمين المترفين، التاركين للطاعات، والمستحلين لفعل المنكرات- فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب. فينسى نعيم الدنيا ولذاتها عند أدنى مس من العذاب، ثم يقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: بئس ما اتجرت في يوم أو بعض يوم. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا -من المؤمنين المعذبين، ومن الفقراء والمساكين- فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا بؤسًا قط؟ وهل مرّ بك بؤس قط؟ فيقول: لا يا رب. فينسى بؤس الدنيا وعذابها، ويقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: نعم ما اتجرت في يوم أو بعض يوم».

[أثر الإيمان بالبعث على الإنسان]

إن بعض الملحدين المكذبين بالبعث، يستبعدون وقوعه وإمكانيته، حيث رسخ في قلوبهم عقيدة الدهريين، ويسمون بالطبيعيين، أي ينسبون الحياة والموت للطبيعة، ويقولون: ما هو إلا رحم يدفع، وأرض تبلع، ولا حياة بعدها. فهم لا يرجون لقاء ربهم، ولا يخافون عذابه، وقد أكد الله ذلك، وقرر الإنكار عليهم في كثير من الآيات، قال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧ أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٨ [يونس: 7-8]، وقال: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ١١٥ [المؤمنون: 115]، فبدأ الآية باستفهام الإنكار عليهم في فساد اعتقادهم، نظيره قوله سبحانه: ﴿أَوَ لَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٨٣ [يس: 81-83]، وقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ ٧٩ [يس: 78-79]، وإن الله سبحانه قد أكثر في كتابه من الإنكار على المكذبين بالبعث بفنون من التعبير، فقال: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ ٢ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣ [الماعون: 1-3]. فدلت هذه الآية دلالة واضحة على أنه متى فسد الاعتقاد، فسد العمل وساءت النتيجة. فهذا الكافر المكذب بالبعث، الذي لا يرجو ثوابًا على حسناته، ولا عقابًا على عصيانه، فنتج عن سوء اعتقاده فساد أعماله، فتراه يدعّ اليتيم -أي يدفعه بعنف وشدة- ليس في قلبه إحسان ولا حنان ولا شفقة، لأنه لا يؤمن بالثواب على إحسانه، ولا يخاف العقاب على إساءته، فكان جديرًا بكل شر، بعيدًا عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.
وللخير أهل يُعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشـر أهل يُعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابع
يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٧ ثُمَّ مَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٨ يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الإنفطار: 17-19]، فسمى الله القيامة بيوم الدين لأن كل إنسان يدان -أي يجازى- بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

إن عقيدة الإيمان بالبعث، والجزاء على الأعمال، هي أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأكبر رادع عن مواقعة المنكرات. فالمؤمن الذي يعتقد الجزاء على حسناته، تراه يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويؤدي الزكاة الواجبة في ماله، ويعتقدها مغنمًا عند ربه، وبركة في ماله. ويصوم رمضان بنيّة خالصة لله تعالى، حتى لو ضرب ليفطر لما أفطر أبدًا، أو عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ليفطر لما اعتاض بها، لكون إيمانه يحجزه، ثم هو يكثر من أفعال الطاعات والحسنات، وبسط اليد بالصدقات وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات، والتزوّد بنوافل العبادات، والإكثار من الذكر والتسبيح والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن. ثم السخاء بتضحية النفس في سبيل الله، لاعتقاده أن له حياة هي أسعد من حياته في الدنيا، فهو يسعى سعيه، ويعمل عمله في النقلة إليها، رجاء الفوز بها. وإن الذين يعتقدون الثواب على حسناتهم، ينجم عن حسن اعتقادهم، حسن أعمالهم؛ من الصفات الحميدة والأقوال السديدة، ومن الجرأة والإقدام والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الحق.

إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم، وتحمل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، يعلم أن ما عند الله خير وأبقى من الدنيا وما فيها، وما أنفقه فإن الله سيخلفه، ويدخر ثوابه له في آخرته.

لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في القرن الأول والثاني والثالث بشجاعة باسلة، وقلوب ثابتة، وإيمان راسخ إلى تحقيق الجزاء على أعمالهم، فاندفعوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، يفتحونها. وإن هذا الاعتقاد؛ هو الذي ثبت أقدامهم مع قلتهم، وضعفهم أمام جيوش أعدائهم، التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فتلاشت أمام المؤمنين بالله ولقائه، حيث كشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا بينهم التوحيد في سائر البلدان.

وقد أمر الله نبيه بأن يؤكد للناس البعث يوم القيامة للجزاء على الأعمال باليمين البارة، قال سبحانه: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧ [التغابن: 7]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ [سبأ: 3]. والآية الثالثة: ﴿۞وَيَسۡتَنۢبِ‍ُٔونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ ٥٣ [يونس: 53]، فهذه الآيات يحقق الله فيها البعث بعد الوفاة، كما أمر نبيه بتأكيد ذلك بالقسم الصادق، وقد أقسم رسول الله ﷺ في تأكيد الحق كهذا في بضعة وثمانين موضعًا من السنّة، وفيه دليل على أن الإنسان لا يأثم متى حلف بيمين بارة؛ ليتحصل بها ماله الثابت باليقين عنده، ولينقذ خصمه من ظلمه بمحاولة إخراجه منه بيمينه.

كفر مشركي العرب بإنكار البعث بعد الموت

إن القرآن الكريم قد أكثر من ذكر البعث بعد الموت، للجزاء على الأعمال، لكون مشركي العرب على طريقة وعقيدة الدهريين، بحيث ينكرون البعث بعد الوفاة، ويكذبون بالجنة والنار، فهم أغلظ كفرًا من اليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى يصدقون بالبعث بعد الموت. ويصدقون بالجنة والنار، فقال سبحانه عن المشركين: ﴿بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ ٢ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗاۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيدٞ ٣ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡۖ وَعِندَنَا كِتَٰبٌ حَفِيظُۢ ٤ [ق: 2-4]، أي يحفظ أعمالهم، وقال: ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]، فيقال لكل إنسان: ﴿ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا ١٤ [الإسراء: 14]، فعقيدة أهل السنة كلهم أن الله سبحانه ينشئ الناس خلقًا جديدًا، حتى الذي أكلته السباع، أو أكلته الحيتان في البحر، أو احترق بالنار حتى كان هباءً ورمادًا، فإن الله سبحانه يبعثهم خلقًا جديدًا، فيحاسبهم على أعمالهم ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]، وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قال لبنيه: إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي بالنار، وَذَرُوا نِصْفِي فِي الْبَرِّ، وَنِصْفِي فِي الْبَحْرِ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا شديدًا». قال: «ففعل به بنوه ما أوصاهم به، فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الله البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، فتمثل قائمًا بين يدي الله، فَقَالَ اللهُ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ». وقد أخبر سبحانه عن الملحدين المكذبين بالبعث، بأنهم يؤكدون للناس إنكارهم للبعث بعد الموت بأيمانهم الكاذبة، فقال سبحانه: ﴿وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٨ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰذِبِينَ ٣٩ إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٤٠ [النحل: 38-40] وقال سبحانه: ﴿وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٠ ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ١١ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ ١٢ [المطففين: 10-12]، فسمى الله يوم القيامة بيوم الدين، لأن كل إنسان يُدانُ -أي يجازى بعمله- إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

عقيدة أهل السنَّة في إنشاء الأجساد خلقًا جديدًا

إن الله سبحانه ينشئ أجسام الناس في الآخرة نشأةً مستأنفة، بحيث يدخل أهل الجنة الجنة في سن ثلاث وثلاثين سنة، حتى العجائز في الدنيا (الحمص والرمص)، وهن مسلمات، قانتات، فينشئهن الله نشأة مستأنفة، قال سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧ [الواقعة: 35-37]، فقوله: ﴿عُرُبًا، أي متحببات إلى أزواجهن، و ﴿أَتۡرَابٗا، أي في سن ثلاث وثلاثين سنة، وهن أفضل وأجمل من الحور العين، بفضل صلاتهن، وصيامهن، وقد قالت أم سلمة: يا رسول الله، المرأة منّا تتزوج بعدد أزواج، وتدخل هي وأزواجها الجنة، فمع من تكون؟ فقال: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، يَا أُمَّ سَلَمَةَ، ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»[86].

يقول الله: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٠ [العنكبوت: 20].

إن إعادة الأجسام أسهل من بدايتها، فالقادر على الشيء في بدايته من صنعة وغيرها، هو قادر على إعادتها من باب أولى، يقول الله تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ ١٥ [ق: 15]، ويقول: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣ بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤ [القيامة: 3-4]، يعني أطراف أصابعه التي هي أدق شيء في جسمه.
قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما

[86] رواه الطبراني في الكبير والأوسط .

وقوع التنازع بين موحِّدٍ وملحد في حقيقة البعث بعد الموت

أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن رجلين قرينين اصطحبا في الدنيا أحدهما مؤمن بالله، يصدق بالبعث بعد الموت، للجزاء على الأعمال، ويصدق بالجنة، والنار، ويعمل عمله على حساب هذه العقيدة الحسنة، فيصلي ويصوم ويتصدق ويعمل سائر أعمال الخير، رجاء أن يثاب عليها في الآخرة.

والثاني: ملحد دهري، يكذب بالبعث بعد الموت، ويكذب بالجنة والنار، ويعمل عمله على حساب فساد عقيدته، فتراه لا يصلي ولا يصوم، ويرتكب كل ما يشتهي من المنكرات، وترك الطاعات، ولم تزل المناظرة الجدلية بينهما في الدنيا، بحيث إن كل واحد منهما يحاول إرجاع صاحبه إلى عقيدته، حتى سارت بهما ركاب منيتهما إلى الآخرة.

فجوزي المؤمن: بالفوز بالجنة، بفضل ربه ورحمته، جزاء وكرامة له على حسن عمله.

وأدخل المكذب بالبعث النار، جزاء على كفره، وتكذيبه بلقاء ربه، فبعد دخول المؤمن الجنة تذكر صاحبه في الدنيا الذي لا زال يجادله في إنكار البعث بعد الموت، وتمنى أن يعرف كيف كانت حاله ومحله، وعاقبة مصيره. فقيل له: إن صاحبك أدخل النار جزاء على كفره بلقاء ربه، فإن أحببت أن تراه وتخاطبه فإنه سهل ميُسّر، قال الله تعالى: ﴿فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٥٠ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٞ ٥١ -أي صديق في الدنيا- ﴿يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِينَ ٥٢ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣ -أي لمجزيون- إن هذا من الأمر المحال الذي لا صحة له، فيقال للمؤمن: ﴿ قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ٥٤ أي هل تحب أن تنظر إلى صاحبك وتراه كيف يعذب في النار. فيقول: نعم. قال: ﴿فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ ٥٥، أي في وسط الجحيم يعذب فيها، فعند ذلك خاطبه المؤمن وقال له: ﴿تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِينِ ٥٦ معك في العذاب لو أطعتك ﴿وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّي ورحمته بي ﴿لَكُنتُ معك ﴿مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِينَ ٥٧ في النار ﴿أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨ إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩ ثم قال سبحانه: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٦٠ لِمِثۡلِ هَٰذَا فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ ٦١ [الصافات: 50-61].

وهنا يقع السؤال: وهو أن الله سبحانه قال في هذه الآية: ﴿فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٥٠ [الصافات: 50]، وفي موضع آخر قال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ ١٠١ [المؤمنون: 101]، فنفى التساؤل في هذه الآية بين الناس في الآخرة، وأثبته في الآية قبلها.

والجواب عن هذا: أن يوم القيامة عرصات، ومقامات، وللناس فيه حالات، فحالة لا يسأل فيها أحد أحدًا، وذلك حين تقوم الساعة، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ ٣٣ يَوۡمَ يَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِيهِ ٣٤ وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ ٣٥ وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ ٣٦ [عبس: 33-36]، وهذا أحد المواقف التي لا يسأل أحد فيها أحدًا.

والموقف الثاني: حين تتطاير الصحف، ولا يدري أيأخذ كتابه بيمينه، أو بشماله.

والثالث: عند الميزان، حينما توزن الأجسام بما اشتملت عليه من الأعمال ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٦ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ ٧ وَأَمَّا مَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٨ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ ٩ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا هِيَهۡ ١٠ نَارٌ حَامِيَةُۢ ١١ [القارعة: 6-11].

والموقف الرابع: عند الصراط، حين يعرض على متن جهنم، ويكلف الناس بالمرور عليه، وهو معروض على متن جهنم، أشبه الخشبة فوق القليب[87]، وهو أدق من الشعرة، وأحدُّ من السيف، تجري الناس بأعمالهم عليه، وهو معنى الورود الذي قال الله فيه: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا ٧٢ [مريم: 71-72].

فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، وعلى جوانبه كلاليب وحسك، تخدش الناس، وتخطف من أمرَت بخطفه، وتلقيه في جهنم، وهذه الكلاليب والحسك، هي المعاصي. والنبي ﷺ قائم على طرف الصراط يقول: «اللهم سلم سلم»[88]. ويعرف أمته من بين سائر الأمم بالغرّة والتحجيل من آثار الوضوء، فمتى خلصوا من الصراط، شربوا من الكوثر، فهذه المواطن لا يذكر فيها أحد أحدًا، ولا يسأل أحد عن أحد.

ومن بعد صدورهم عن الحوض يقفون للسؤال ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡ‍ُٔولُونَ ٢٤ مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ٢٦ [الصافات: 24-26]. وفي هذه المواقف يقتص بعضهم من بعض في الحقوق التي بينهم في الدنيا، ويتنازعون، ويقع بينهم الخصام فيها ﴿۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١١١ [النحل: 111]. فمن بعد التمحيص، والقصاص من بعضهم البعض؛ وبعدها، يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقول الله: ﴿وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَتۡلُونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ رَبِّكُمۡ وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنۡ حَقَّتۡ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧١ قِيلَ ٱدۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِينَ ٧٢ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ ٧٣ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَيۡثُ نَشَآءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ٧٤ [الزمر: 71-74].

ثم إنه بعد دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجري بينهما التخاطب، فيسأل أحدهما الآخر عن حاله، ومحله، وعاقبة مصيره، وقد قيل: إن بين الجنة والنار سورًا، فيه كُوًى ينظر بعضهم بعضًا، ويخاطب بعضهم بعضًا، وهذا معنى قوله: ﴿فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ١٣ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ -أي في الدنيا- ﴿قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ١٥ [الحديد: 13-15]. فأهل الجنة يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته، لكنهم يتقاسمون المنازل بالأعمال، حيث إن بعضهم أفضل من بعض بالأعمال الصالحة، يقول الله تعالى: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا ٢١ [الإسراء: 21]. فيكون منزلة الفاضل كالكوكب في السماء، بحيث يتراءونه ويقولون: هذه منزلة فلان بن فلان، حتى إن الرجل الصالح ينزل في المنزلة العالية، وينزل ابنه في منزلة دونه، فيقول: أين ابني؟ فيقال: إن منزلته دونك، قد قصرت به أعماله، فيقول: إني عملت لنفسي ولابني. فيأمر الله برفع ابنه إليه في منزلته لتقرّ عينه به، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]. فصاحب المنزلة العالية يستطيع أن يزور كل من تحته، أما صاحب المنزلة النازلة، فلا يستطيع أن يصعد إلى من فوقه، لأن أعماله قد قصرت به.

[87] أي فوق بئر أو حفرة. [88] أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري.

بيان سوق الجنة وتلاقي الناس فيه

إن هناك سوقًا في الجنة يجتمع فيه أهل المنزلة العالية، والمنزلة الدانية، فيسأل بعضهم بعضًا، كما ثبت في صحيح الترمذي أن سعيد بن المسيب لقي أبا هريرة في السوق فقال: يا سعيد أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال: أوفي الجنة سوق؟ قال: نعم إنه إذا كان يوم المزيد في الآخرة وهو يوم الجمعة في الدنيا؛ فيأذن الرب لأهل الجنة في زيارته، ويجلسون إليه، ويتجلى لهم، فما أعطوا نعيمًا أفضل من النظر إلى وجه الله الكريم، فما يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاوره الله، فيذكره ببعض أفعاله في الدنيا. فيقول: يا رب ألم تغفر لي، فيقول الله: بلى، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. ثم يقول الله: قوموا إلى ما أعددت لكم. ثم يقومون إلى سوق قد حفته الملائكة، فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيأخذون منه بلا عقد، ولا نقد ثمن، فهذا يوم المزيد.

وثبت في القرآن الكريم وقوع التخاطب بين أهل الجنة وأهل النار، وأن كل فريق منهما ينادي الفريق الثاني ويسأله عن حاله ومحله، وكيف مصيره، قال الله سبحانه: ﴿وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ قَالُواْ نَعَمۡۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُۢ بَيۡنَهُمۡ أَن لَّعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ٤٤ [الأعراف: 44] وقال: ﴿وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِيضُواْ عَلَيۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ أَوۡ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٥٠ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَهۡوٗا وَلَعِبٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ فَٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوۡمِهِمۡ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ ٥١ [الأعراف: 50-51].

حكم منكر البعث في الشرع الإسلامي

إن الحكم الشرعي في منكر البعث، وقيام الساعة، متى كان يجهر بإنكاره، فإنه كافر بإجماع علماء المسلمين، لأنه مكذب بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، فيترتب عليه حكم المرتد على السواء، يقول الله سبحانه: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا ١١ [الفرقان: 11]، وإن كان ممن يخفي ذلك ولا يجهر باعتقاده، فإنه المنافق، يعامل معاملة المسلمين.

إن الساعة آتية لا ريب فيها، فتأتي إلى الناس بغتة وهم غافلون، يقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13]، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ» قالوا: ما نقول؟ قال: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»[89].

وقال: «جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ»[90] فالراجفة هي نفخة الصعق، أي الموت، فينفخ إسرافيل في الصور والرجلان بينهما الرداء، فلا هذا يقبضه، ولا هذا يقبضه، ويرفع الرجل اللقمة فلا يوصلها إلى فمه، ولا يردها في القصعة ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ ٦٨ وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٦٩ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 68-70].

وقد قيل للنبي ﷺ: كم بين النفختين؟ قال: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» قيل: أربعون يومًا؟ قال: «أَبَيْتُ». قيل: أربعون شهرًا؟ قال: «أَبَيْتُ». قيل: أربعون سنة. فسكت[91] -أي نعم- ثم إن الله سبحانه يأمر السماء أن تدر عليهم بالمطر، فيمطرون ليلاً ونهارًا، فينبت الناس كنبات الطراثيث، فإذا أكمل نباتهم، أمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ﴿كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ ١٠٤ [الأنبياء: 104]، فتخرج الأرواح تتوهج، ويقول الله تعالى: فوعزتي لترجعن كل روح إلى الجسد التي كانت تعمره في الدنيا، فيقومون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، وقد قالت عائشة: واسوأتاه، ينظر بعضنا إلى سوأة بعض. فقال: «الأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ»[92] يقول الله سبحانه: ﴿يَوۡمَ يَسۡمَعُونَ ٱلصَّيۡحَةَ بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡخُرُوجِ ٤٢إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِۦ وَنُمِيتُ وَإِلَيۡنَا ٱلۡمَصِيرُ ٤٣ يَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلۡأَرۡضُ عَنۡهُمۡ سِرَاعٗاۚ ذَٰلِكَ حَشۡرٌ عَلَيۡنَا يَسِيرٞ ٤٤ [ق: 42-44].

فمتى انقضى عمار الدنيا، وأراد الله أن يجلي أهلها عنها، وأن ينقلهم منها إلى دار أخرى، ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فعند ذلك يأمر الله بقيام الساعة. وقد وصف الله القيامة بأسماء وأوصاف متعددة متنوعة، تدل بمعانيها على أنها شيء عظيم، فوصفها بالطامة الكبرى، وبالصاخة، وبالزلزلة، والقارعة، والواقعة، وقال: ﴿إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٣ [الواقعة: 1-3]، وقال: ﴿إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ١ يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ٢ [الحج: 1 -2].

وقال: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٣ [القارعة: 1-3] تعظيم لشأنها وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض، فترجها رجًّا، وتبسها بسًّا، ويكون الناس هباءً منبثًّا، وكالفراش المبثوث، فيكوّر بالشمس، ويخسف بالقمر، وتتناثر النجوم من إمساكها المقتضي لإثباتها، وقد بطل ذلك عند القضاء بفناء الدنيا، وخراب العالم، وعدم الاحتياج إلى شيء من ذلك.

وقال سبحانه: ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ٣ وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ ٤ [الإنشقاق: 1-4]. -أي ألقت جميع ما على ظهرها من جبال، وأناس، وتخلت عنهم- لكون الناس يحشرون على أرض بيضاء لم يُعصَ الله عليها.

والحكمة في هدم الأبنية، وتسيير الجبال، ودك الأرض، وشق السماء، ونثر النجوم، وتكوير الشمس، وخسوف القمر، وتخريب هذا العالم بأجمعه أن الله سبحانه لما بنى للناس دار الدنيا للسكنى بها، والتمتع بخيراتها، وجعل ما فيها زينة للأبصار، وعظة للاعتبار، والاستدلال على وحدانيته، وجميل صنعه بما يقتضي الإيمان به، وإخلاص العبادة له، فلما انقضت مدة السكنى بها، وحقت كلمة ربك على فنائها، أجلاهم سبحانه منها، وخرّبها؛ لانتقالهم منها إلى غيرها ﴿يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ [إبراهيم: 48]، أراد أن يعلمهم بأن في إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وتعريض ذلك الصنع العجيب للزوال، كله بيان لكمال قدرته، ودوام بقائه، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وأن عنده سبحانه لعباده دارًا هي أبقى وأرقى، وأجل وأجمل من دار الدنيا، ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه، إلا الذي لم يقدم لآخرته عملاً صالحًا يرجو ثوابه، ويقول: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ [الجاثية: 24]، فهذا الذي ينتقل من دار الدنيا إلى عذاب الآخرة، يقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13].
أما والله لو علم الأنام
لِما خُلقوا لَما غفلوا وناموا
لقد خُلقوا لأمر لو رأته
عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشـر
وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشـر قد عملت رجال
فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أُمرنا أو نهينا
كأهل الكهف أيقاظ نيام
والله أعلم.

[89] أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وأحمد من حديث ابن عباس. [90] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي بن كعب. [91] متفق عليه من حديث أبي هريرة دون قوله: فسكت ودون توجيه سؤال: كم بين النفختين. [92] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال.

الإيمان بالإسراء بنبينا محمد ﷺ

قال الله سبحانه: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ ٣ [يوسف: 3].

إن هذا القرآن الكريم يقص علينا خبر من كان قبلنا، ونبأ ما سيكون بعدنا، وهو الحكم العدل فيما بيننا؛ يذكر سبحانه بأنه أرسل رسله بالبينات وبالبراهين والمعجزات يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وليحكموا بين الناس بالقسط.

فمن الناس من استجاب لدعوتهم، وانقاد لطاعتهم، وصدق نبوتهم ومعجزات آياتهم، ومن الناس من بغى وطغى، فلم يستجب لداعي الهدى، وأصرّ على معصيتهم، ولم يؤثر معه ما يراه من معجزات نبوتهم ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 96-97].

فهؤلاء قد عوقبوا بما تسمعون من قوله سبحانه: ﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٤٠ [العنكبوت: 40].

إن الناس في المعجزات والأمور المغيبات على قسمين:

أحدهما: المؤمنون الذين آمنوا بالله تعالى، وصدقوا المرسلين، فهم يؤمنون ويصدقون بكل ما أخبر الله به في كتابه، من معجزات أنبيائه تصديقًا جازمًا، سواء أدركوا معرفته بعقولهم، أو لم يدركوه، لأن عدم علمهم بالشيء، ليس دليلاً على عدمه، فقد أتت الرسل بمجاراة العقول، فهم الذين يؤمنون بالغيب، على صفة ما أثبته القرآن، ويقولون: آمنا بالله، وما جاء من الله، على مراد الله.

لأن المسلم الحق، متى آمن بالله القادر على كل شيء، والذي إذا أراد أمرًا قال له: كن. فيكون، فإنه لن يعسر عليه التسليم لكل ما أخبر الله به في كتابه، من معجزات أنبيائه، فقد أجرى الله سبحانه خوارق العادات في خلقه، من معجزات أنبيائه التي تجري على خلاف السنن المطردة والمعروفة والمألوفة عند الناس، مما يدل على قدرة الرب الذي أوجدها، وصدق النبي الذي جاء بها. وإنما سميت معجزة؛ لكون الناس يعجزون عن الإتيان بمثلها، لكونها من صنع الله، لا من صنع الرسول، ولا البشر. ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [الرعد: 38]. وتسمّى الآية، والبينة، والبرهان. ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه ومجتمعهم.

فمن المعجزات: خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن. فكان، فصار بشرًا سويًّا. وكخلق حواء من ضلع آدم. وخلق عيسى من أم بلا أب ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٥٩ [آل عمران: 59]. ومثله عصا موسى، وهي عود من الشجر، يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وإنما صارت آية ومعجزة، حين أمره ربه أن يلقيها، فقال سبحانه: ﴿أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ ١٩ فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١ [طه: 19-21].

إنه حين ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا بإذن الله، ولمّا أمره ربه أن يأخذها صارت عصًا كعصا أحدنا في يده، وكمعجزة الريح لنبي الله سليمان عليه السلام حين قال الله تعالى: ﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٣٧ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٣٨ [ص: 36-38].

فكان يبسط البُسط، ويجلس عليها هو وجميع جنوده على كثرتهم، فتنقلهم غدوها مسيرة شهر ورواحها مسيرة شهر. وكمعجزة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام حين أنطقه الله في المهد، فقال: ﴿إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا٣٢ [مريم: 30-32]. فكان يبرئ الأكمة والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله تعالى.

وأنه لولا هذا القرآن النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام حين يقص علينا خبر معجزات الأنبياء، التي تعزز دينهم، وتستدعي قبول دعوتهم - لكذّب الناس بهم، وبالكتب النازلة عليهم.

﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].

فالتصديق بهذه المعجزات، هي عقيدة المؤمنين، ومن كذّب بها فقد كفر.

الصنف الثاني: الماديون الطبيعيون، الذين ينسبون كل شيء إلى الطبيعة، بمعنى أنها الموجدة لها دون الله، فهم ينكرون ويكذبون بكل ما لم يدركوه بحواسهم، فينكرون وجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار.

وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ [يونس: 39-40].

فهم يبادرون إلى إنكار كل ما سمعوه من الخوارق، والمعجزات، والأمور المغيبات، فهذا دأبهم في نظرياتهم العلمية، ومن لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه، فإنه يعتبر كافرًا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله.

[قبس من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم]

أما معجزات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنها كثيرة جدًّا، ولسنا بصدد إحصائها قي هذا المقام الضيق.

فمنها: نبع الماء من بين أصابعه، ومنها تكثير الطعام القليل حتى يشبع منه الخلق الكثير، ومنها قصة الأعرابية صاحبة السطيحتين، أي الراوِيَتَيْن، وحاصلها ما رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين، قال: كنا في سفر مع النبي ﷺ فاشتكى إليه الناس من العطش، فدعا عليًّا وفلانًا. فقال: «اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا المَاءَ» فانطلقا، فلقيا امرأة بين سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة. فقالا لها: انطلقي. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله ﷺ. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فجاؤوا بها إلى رسول الله ﷺ، ودعا النبي ﷺ وأطلق العُزال[93]، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا. فملؤوا قربهم وقدورهم، وأوانيهم، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، فقال: «اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ». وايم الله لقد أقلع عنها، وأنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأها. وقال لها رسول الله ﷺ: «تَعْلَمِينَ، مَا رَزِأْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا». فأتت أهلها، وقالوا: ما حبسك عنا؟ قالت: العجب؛ لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا. فوالله إنه لأسحر ما بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض، أو إنه رسول الله حقًّا. وبسبب هذه المعجزة أسلم قومها.

وكان العرب يسمون الرسول ﷺ: الصابئ، من أجل أن الناس يصبون إليه -أي يميلون إليه- ويدخلون في دينه، ومثله ما جرى له مع شاة أم معبد وكانت عجفاء هزيلة لا تطيق المشي مع الصحاح، فمسح ضرعها، وسمّى الله عليها، فتشافت، واجترت، ودرت، ثم انفجرت باللبن.
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
لكن المعجزة الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة هي معجزة القرآن الحكيم، الذي تحدى الله به جميع الأولين والآخرين، على أن يأتوا بسورة من مثله؛ فعجزوا مع بلاغتهم وشدة فصاحتهم ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ [الإسراء: 88]. فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الرذيلة.

وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أقوى وأقوم قيلا
إن معجزات سائر الأنبياء قد وقعت بوقتها، ومضت بمضي زمانها، بحيث لا يشاهدها الناس الآن، غير أن المسلمين يؤمنون بها دون أن يشاهدوها تبعًا لإيمانهم بسائر المغيبات التي أخبر الله بها.

وإنما المعجزة الخالدة الدائمة والمشاهدة بالأبصار إلى يوم القيامة، هي معجزة القرآن، الذي فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم. يقول الله سبحانه: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ [طه: 99-100].

إذ لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء السابقين، إلا عن طريق القرآن الكريم، النازل على محمد ﷺ، فمن هذه المعجزات معجزة الإسراء والمعراج، قال تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ [الإسراء: 1].

فاستفتح سبحانه خبر هذه المعجزة العظمى بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ [الإسراء: 1] وكان من هدي النبي ﷺ أنه إذا أعجبه شيء إما سبح، وإما كبر، آخذًا من القرآن، وقد استبدل الناس بهما التصفيق بالأيدي، والتسبيح والتكبير خير لهم لو كانوا يعلمون.

والصحيح من أقوال العلماء: أنه أُسري برسول الله ﷺ بروحه وجسده، لكون المقام، وفحوى المقال، ينبئ عن معجزته العظمى في خبر الإسراء.

فأثبت القرآن أن الله أسرى بنبيّه ورسوله محمد، ليلاً من المسجد الحرام. فقيل: أُسري به من الحجر. وهو الصحيح. وقيل: من بيت أم هانئ، إلى المسجد الأقصى الذي هو بيت المقدس. وهذا الإسراء معجزة عظمى، خارقة للعادة، والمعجزة كاسمها، بحيث يعجز الناس عن معارضتها، والإتيان بمثلها، وهي تدل على صدق نبوة من أتى بها.

وذكر أنه أوتي بالبراق، وهو دون الفرس، وفوق الحمار، وسمّيَ براقًا، لأنه مشتق من البرق في سرعته، ليريه من آياته وعجائب مخلوقاته في المسجد الأقصى، وفي السماء، وأنه من بعد وصوله إلى بيت المقدس صلى بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وصلاته بهم، إنما هي بأرواحهم، وإلا فإنهم قد دفنوا في الأرض.

ثم إنه عُرج به إلى السماء في صحبة جبريل عليه السلام، فاستفتح السماء الدنيا، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أأرسل إليه؟ قال: نعم. فقالوا: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء. ثم استفتح كل سماء مثل هذا، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وفرض الله عليه الصلوات الخمس مع فرض الوضوء على القول الصحيح. فقال: هي خمس، وهي خمسون -أي في مضاعفة الأجر- والصحيح من أقوال العلماء، ومن نصوص القرآن والسنة: أن الرسولﷺ لم ير ربه تلك الليلة، لكون رؤية الرب مستحيلة في الدنيا، كما حكى الله عن نبيّه موسى -عليه السلام- أنه قال: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي [الأعراف: 143].

يقول الله سبحانه: ﴿۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ ٥١ [الشورى: 51].

ولمّا سئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»[94]، أي حال دون رؤيته نور. قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله ﷺ رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه، ثم استدلت بقوله: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣ [الأنعام: 103].

وأما قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ ١٨ [النجم: 18] فإنه جبريل حين رآه في صورته التي خلقه الله عليها، بمنظر عظيم هائل.

وهذا الإسراء والمعراج، حصل في ابتداء نبوته، وليس عندنا دليل يثبت تعيين يومه أو شهره بطريق صحيح.

فالقول بأنه في شهر رجب، هو قول لا صحة له، ولا يستند إلى دليل، ولم يكن من عادة الصحابة، ولا التابعين، التجمّع للإسراء والمعراج، وليس له عندهم أي عمل أو اهتمام، وإنما يؤمنون بما قص الله في القرآن من خبره. وأما ما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، وفي بعض البلدان، من التجمعات للإسراء، والمولد، والنصف من شعبان، كله من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

والحكمة من ذكره لها في القرآن، هو الإيمان به، والعمل بما أوجب الله من المحافظة على الصلوات الخمس التي افترضها، فهي أول ما افترض من الشرائع، كما أنها آخر ما يفقد من دين كل إنسان. وإنما سميت البدعة بدعة؛ لكونها زيادة في الدين، ومن عادة البدعة، التمدد والزيادة كل عام.

فاقتصاد في سنّة خير من اجتهاد في بدعة، ومحبة الرسول ﷺ يظهر حقيقتها في طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. فقول بعضهم: إنها بدعة حسنة. خطأ؛ فليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة وكل بدعة سيئة. وقد وردت أحاديث في أمور رآها رسول الله ﷺ في الإسراء؛ منها قوله: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رجَالًا تقْرض شفاههم بمقاريض من النَّار فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ». رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زبد.

قال: «ورأيت رجالاً على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، ويأكلون الضريع، والزقوم، ورضف جهنم. فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين منعوا زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون»[95].

قال: «ورأيت قومًا يزرعون في يوم، ويحصدون في يوم، فإذا حصدوا، عاد كما كان، فقلت: يا جبريل. ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين». رواه البزار من حديث أبي هريرة وفي سنده ضعف.

فهذا ملخص حديث الإسراء برسول الله ﷺ يؤمن به المؤمنون، ويكذّب به الزنادقة الملحدون ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 41].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[93] العُزال: القربة. [94] رواه مسلم عن أبي ذر. [95] رواه الطبري في تهذيب الآثار والبيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي هريرة.