مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الأول
العقائد
(3) تثقيف الأذهان بعقيدة الإسلام والإيمان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، فانقادت للعمل به منه الجوارح والأركان، فأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج بيت الله الحرام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله، تم استقام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عليه أفضل الصلاة والسلام.
أما بعد: فإن الناس في قديم الزمان وحديثه، قد اشتغلوا بالخوض في موضوع الإسلام والإيمان، في حالة اجتماعهما وتفرّقهما. وقد اختلفت أفهامهم فيهما لاختلاف النصوص الواردة في شأنهما.
وأشهر ما ورد في حقيقة الإسلام هو: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن النبيﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
ثم ما رواه مسلم من حديث عمر، في سؤال جبريل حيث قال للنبي ﷺ: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الْإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإيمان. فقال: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإحسان. قال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». قال: صدقت. رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفي آخره قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
وفي حديث وفد عبد القيس عن ابن عباس، أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ»[58].
ففسر الإيمان بشرائع الإسلام، ويدل عليه ما في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً». وفي رواية: «بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ».[59]. وهذه الشعب هي أقوال وأفعال، فهي من عمل الإسلام. وقد سمّاها رسول الله ﷺ بالإيمان، لشمول الإيمان للأعمال، ولكون الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان. قال ابن أبي شيبة: لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام. حكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان ص 171.
وجاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧﴾ [البقرة: 177]. فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال له رسول الله ﷺ: «المؤمن إذا عمل حسنة سرّته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها» رواه ابن مردويه، وذكره ابن كثير في التفسير.
وقد قال العلماء: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا تفرقا، فيفسر الإيمان باعتقاد القلب بوجود الرب، ووجود ملائكته، والبعث بعد الموت، والجنة والنار.
ويُفسر الإسلام بعمل الجوارح، من النطق بالشهادتين، وبالصلوات الخمس المفروضة، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، والحج.
وهي أعمال ظاهرة، كما أن الإيمان من الأعمال الباطنة، وقد اجتمعا بهذا التفسير في حديث رواه الإمام أحمد عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». فلابد من اجتماع الإيمان والإسلام في الشخص. ومعنى كون الإسلام علانية، أن المسلم على الحقيقة لابد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، فيرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، فيشهدون له بموجبه. وهذا معنى العلانية.
ويدل عليه قول النبي ﷺ: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ»[60]. أي يعرف به صاحبه، فترك الواجبات الظاهرة دليل واضح على انتفاء الإيمان الباطن، إذ إن الإيمان الصحيح في القلب، مستلزم للعمل الصالح بحسبه، ويمتنع أن يكون في القلب إيمان تام بدون عمل.
والإيمان في إطلاقه بمثابة اسم الدين في شموله.
وهذا معنى قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»[61].
يشير بهذا إلى أنه متى صلح القلب بعقيدة الإيمان، نشطت الجوارح بأداء واجباتها، وإذا اختل صلاح القلب، اختل عمل الجوارح، وقد وصفوا القلب بالملك، والجوارح جنوده التابعة له، تسعد بسعادته وتشقى بشقاوته، أشبه بالروح مع الجسد.
وروى البخاري في تاريخه عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل». أخذها الحسن البصري، فقال: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. ولهذا قال أبو ثور: الإيمان تصديق وعمل.
ثم ليعلم أن هذه المباني الخمسة الواردة في حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ»[62].
فهذه أصل الإسلام لمن سأل عن الإسلام، كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، وكما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، وبها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا رسولاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان: إنه مما يسأل الناس عنه كثيرًا، قولهم: إذا كان مما أوجب الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمسة التي هي أركان الإسلام، فلماذا قال: الإسلام مبني على هذه الخمس: الشهادتين، والصلاة، وأداء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام؟
ثم قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
فأجاب: بأن هذه هي أظهر شرائع الإسلام وأعظمها، وبقيامها يتم استسلامه للإسلام، وبتركه لها يشعر بانحلاله عن قيد الإسلام.
قال: والتحقيق أن النبي ﷺ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقًا، والذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادرًا عليه، ليعبد الله بها، مخلصًا له الدين، وهذه هي الأركان الخمسة.
وما سوى ذلك، فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن تكون فرضًا على الكفاية كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة، وحكم، وفتيا، وتحديث، وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق الآدميين يختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه، وكذلك ما يجب من صلة الأرحام، وحقوق الزوجات، والأولاد، والجيران، والشركاء، والفقراء، وكذلك قضاء الديون، ورد الغصوب، والعواري، والودائع، والإنصاف من الظالم، ومن الدماء، والأموال، والأعراض.
فكل هذه، هي حقوق الآدميين، وإذا أُبرئوا منها سقطت، وتجب على شخص دون شخص، وفي حال دون حال، ولم تكن عبادة لله يختص بها كل أحد؛ ولهذا يشترك في أكثرها المسلمون واليهود والنصارى، بخلاف الأركان الخمسة، من الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج - مع استطاعته - فإن وجوبها خُص بكل أحد من المسلمين.
والزكاة، وإن كانت حقًّا ماليًّا فهي واجبة لله، و للأصناف الثمانية مصارفها، ولم تطلب من الكفار لكونها من شعائر الدين... انتهى.
فمن ادعى وجود مسلم بدون إيمان فقد غلط، إلا في حالة المنافقين، فقد عاملهم رسول الله ﷺ كمسلمين، بما ظهر له من أعمالهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
فقولهم: إن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا؛ هو خطأ، فلا إسلام بدون إيمان، إلا على رأي المرجئة، والجهمية، القائلين: بأن الإيمان مجرد التصديق، فلا يُدخِلون الأعمال في مسمى الإيمان.
وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد.
[58] أخرجه البخاري في الصحيح. [59] أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة. [60] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة. [61] رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير. [62] رواه البخاري ومسلم .
جرى في العقائد السلفية القول بالاستثناء في الإيمان دون الإسلام، بحيث يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. قال السفاريني في عقيدته:
ونحن في إيماننا نستثني
من غير شك فاستمع واسْتَبْنِ
وهذا الاستثناء في الإيمان ليس له أصل، غير أن العلماء أدخلوه في العقيدة، فأخذوا يتناقلونه بينهم، فمتى علم الرجل من نفسه أنه يؤمن بالله، ويصدق بوجود الرب وملائكته، وكتبه، ورسله، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وبالجنة، والنار، فلا مانع من إخباره بإيمانه على سبيل الجزم، لقوله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦﴾ [البقرة: 136].
ولم يقل: قولوا: آمنا بالله إن شاء الله. وقد قال النبي ﷺ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. فقال: «انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً». فقال: يا رسول الله، عَزَفتْ نفسي عن الشهوات، وأسهرت ليلي بالقيام، وأظمأت نهاري بالصيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ»[63]. قال ابن رجب: روي هذا الحديث متصلاً ومرسلاً، والمرسل أصح.
ولما قدم وفد الأزد على النبي ﷺ وقال لهم: «مَا أَنْتُمْ؟» قالوا: نحن مؤمنون. فقال: «إِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكُمْ؟» قالوا: خمس عشرة خصلة يا رسول الله.... فذكروا له شرائع الإسلام الخمس، وأركان الإيمان، وما تخلقوا به من فعل الخير، ذكره العلامة ابن القيم، في كتاب الوفود من زاد المعاد.
والشاهد: أن النبي ﷺ لم ينكر عليهم جزمهم بالإيمان، ولأن الاستثناء في الشيء الموجود، أو الماضي لا محل له، فلا يسوغ أن يقول: صمت أمس الماضي إن شاء الله، ولا تصدقت بصدقة في الأمس الماضي إن شاء الله، إذ لا محل للاستثناء هنا، وإنما يستثنى في الأمر المستقبل الذي قد يفعله، ويعان عليه، أو لا يفعله، ولا يعان عليه، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٢٣ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ﴾ [الكهف: 23-24] وقال: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: 27] والنبيﷺ قال: «وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» وفي الثالثة قال: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ»[64].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: للعلماء في الاستثناء في الإيمان ثلاثة أقوال: منهم من قال بوجوبه، ومنهم من قال بمنعه، ومنهم من قال بجواز الأمرين، إن شاء استثنى في الإيمان متى علم من نفسه صحة إيمانه، وإن شاء ترك. وهذا هو أعدل الأقوال.
[63] أخرجه البيهقي في الزهد. [64] أخرجه أبو داود من حديث عكرمة.
قد أشكل على بعض العلماء، توسط واو العطف بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل عليه السلام، وكما في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35]، فظنوا أن واو العطف في الحديث، وفي الآية، تقتضي المغايرة، وبنوا على ذلك أن المسلمين غير المؤمنين، وهذا غير صحيح، فإن هذه عطف صفات، يجوز أن تتفق وتجتمع في موصوف واحد لا يتجزأ.
أما رأيته كيف عطف الصائمين على المسلمين، ولا إسلام بدون صيام، ومن استباح ترك الصيام كفر؟
وقال البغوي في شرح السنة: قد جعل النبي ﷺ الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل للجملة، وأنهما كالشيء الواحد، وجماعهما الدين. فعطف المؤمنين على المسلمين في الآية، وكذا عطْف الإيمان على الإسلام في حديث جبريل، هو نظير عطف الأعمال الصالحات على الإيمان بالله في كثير من الآيات. كقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٞ ٩﴾ [المائدة: 9]، وقوله: ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ﴾ [البقرة: 25]، وقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧﴾ [البينة: 7]. وقوله: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣﴾ [سورة العصر]، لكون الإيمان: اعتقاد القلب. والأعمال الصالحة عمل الجوارح، ولا بد من اتفاقهما في صحة الإسلام والإيمان.
وقد قلت: إن الإسلام بمثابة رأس الإنسان؛ لأن رأس الأمر الإسلام، والإيمان بمثابة القلب، فهما في جسم لا يتجزأ، يمد أحدهما الآخر بالصحة، أو السقم، أشبه الروح مع الجسد. وإذا بطل عمل أحدهما بطل الآخر، فكما أنه لا يوجد جسد إنسان بلا روح، فكذلك لا يوجد إيمان بدون إسلام، فهما متلازمان، لا يفترقان. وأجمع كلمة تقال في التعريف بالإسلام وبالإيمان: أنهما قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، أخذها الناظم، فقال:
إيماننا قول وقصد وعمل
يزيد بالتقوى وينقص بالزلل
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان: إن اسم الإيمان المطلق، هو بمثابة اسم الدين، فهو يشمل فعل الأوامر وترك النواهي... انتهى.
وقد أشكل على بعض العلماء قوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيًۡٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤﴾ [الحجرات: 14]. فاستدل بهذه الآية من يرى أن الإسلام غير الإيمان، وأن المسلمين غير المؤمنين. وهذه الآية نزلت في أعراب الجزيرة، لما غشيهم جنود الصحابة، وخافوا أن يستأصلوهم بالقتل، أقبلوا وهم يقولون: آمنا آمنا. قبل أن يعرفوا الإيمان، وقبل أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وإنما قالوا: آمنا خوفًا من السيف؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ﴾ -إلى حد الآن- ﴿وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا﴾ - أي استسلمنا - ﴿وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ﴾ -أي إلى حد الآن- وعسى أن يدخل بعد حين، لأن (لمّا) تستعمل لنفي الحال فيما عسى أن يقع.
وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه. بما يقتضي تفسيره وتوضيحه، فقال:
(باب)
إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام، أو الخوف من القتل؛ لقول الله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾ [الحجرات: 14] وإذا كان على الحقيقة فهو مثل قوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19].
ثم ذكر حديث سعد، وهو أن النبي ﷺ أعطى رجالاً ولم يعطِ رجلاً، قال سعد، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؟ فوالله إني أراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا» قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت: يا رسول الله. مالك عن فلان. فوالله إني أراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا». ثم قال: «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ الْعَطَاءَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ».
فالنبي ﷺ أحب من سعد أن يقول: إني أراه مسلمًا. فيصف هذا الرجل بأعماله الظاهرة المشاهدة، بخلاف وصفه بالإيمان الذي هو من أعماله الباطنة، والذي لا يطلع عليه إلا الله.
وهذا من حسن الأدب في التعبير، والنهي عن الغلو، والإفراط في المدح. وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال في صفة الأمانة: «يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ، مَا أَظْرَفَهُ، مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ...» أو كما قال.
ونظير هؤلاء الأعراب قصة بني جذيمة، حين غشيهم خالد بن الوليد، بجنوده، فأقبلوا يقولون: صبأنا.. صبأنا. ولم يحسنوا قول: أسلمنا. فقتلهم خالد، فبلغ النبي ﷺ مقالتهم وقتلهم، فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ».
إن الأعراب الذين مردوا على الشرك، وعبادة الأوثان، وإنكار وجود الرب، والتكذيب بالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، فهم كما أخبر الله، بقوله سبحانه: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٩٧﴾ [التوبة: 97]. فهم يحتاجون في دخول الإيمان في قلوبهم إلى وقت يعرفون فيه حقيقة الإيمان، والعمل به، حتى تدخل محبته في قلوبهم، غير وقت الإكراه بالسيف.
ولهذا سرعان ما ارتدوا عن دين الإسلام بعد موت النبي ﷺ لعدم دخول الإيمان في قلوبهم، الذي ينجم عنه الثبات على الإسلام، والاستقامة على صالح الأعمال.
وكل من تأمل القرآن، فإنه يجده مملوءًا بقرن الإيمان بصالح الأعمال، لكونه لا ينفع إيمان بدون عمل، كما أنه لا ينفع عمل بدون إيمان. يقول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ﴾ [البقرة: 25].
وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٨٢﴾ [البقرة: 82]، وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧﴾ [البينة: 7] وقال: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣﴾ [سورة العصر] وقال: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦﴾ [التين: 6].
وهكذا في كثير من الآيات يشق إحصاؤها قُرن الإيمان بالعمل، فعطف الأعمال الصالحات على الإيمان، هو نظير عطف المؤمنين على المسلمين في قوله: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35].
ومثله حديث جبريل في صفة الإسلام، ثم صفة الإيمان، أشبه عطف الأعمال الصالحات على الإيمان في كثير من الآيات، لكون الإيمان هو اعتقاد وعمل، فلو أن رجلاً قال: أنا أؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وأن الجنة حق، وأن النار حق، ولكني لا أصلي، ولا أصوم، ولا أؤدي الزكاة... فإن هذا هو الكافر حقًّا، ولا ينفعه هذا التصديق بدون عمل بموجبه؛ لأنه يعتبر بأنه مكذب لإيمانه.
وبعكسه، لو رأينا إنسانًا يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان، ويفعل سائر شرائع الإسلام، ولكنه ينكر وجود الرب، وينكر وجود الملائكة، ويكذب بالبعث بعد الموت ويكذب بالجنة والنار، فإن هذا كافر قطعًا، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٨﴾ [إبراهيم: 18]. وقوله: ﴿وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا ٢٣﴾ [الفرقان: 23].
لكون الشرك محبطًا لسائر الأعمال الخيرية، لكن الكافر متى عمل حسنة أطعم بها في الدنيا من صحة حال، وتكثير مال وعيال، وليس له في الآخرة من نصيب. وأما المؤمن فيطعم بحسنته في الدنيا، ويدخر ثوابها في الآخرة، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين. والمنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، كانوا يعملون أعمال الإسلام الظاهرة، ولكنهم يبطنون الكفر والنفاق، فعاملهم الرسول كمعاملة المسلمين المؤمنين في النكاح، والتوارث، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
والمقصود أن الإسلام والإيمان أنهما في الشخص جزء لا يتجزأ، أشبه الروح والجسد، فلا إسلام لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا إسلام له. وقد قال أبو طالب المكي: مثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين، إحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم. فلو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أشهد أن محمدًا رسول الله؛ لم يصح إسلامه، ولو قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ولا أشهد أن لا إله إلا الله لم يصح إسلامه أيضًا. إذ إحداهما مرتبطة بالأخرى كشيء واحد.
وأما تفرقة النبي ﷺ في حديث جبريل بين الإسلام والإيمان، فإن ذلك تفصيل لوظائف أعمال الجوارح والقلوب، على ما توجبه هذه المعاني على كل شخص. فحرف الواو المتوسطة بين الإسلام والإيمان، هو حرف عطف صفات تتفق في موصوف واحد بدون اختلاف وتضاد، فليس فيها دليل على أن الإيمان والإسلام مختلفان في الحكم، إذ إن الإيمان بالقلب لا ينفع إلا بالإسلام بالجوارح، وإسلام الجوارح لا ينفع إلا بالإيمان بالقلب، أشبه الرأس والقلب، فلا يوجد شخص برأس دون قلب، ولا بقلب دون رأس. فهذه الواو المتوسطة بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35]، هي نظير الواو في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧﴾ [البينة: 7].
إن مسائل الإيمان والإسلام، والكفر والنفاق، هي مسائل عظيمة جدًّا، لأن الله سبحانه علق بهذه الأسماء مسمياتها من الأحكام ومتعلقاتها من السعادة والشقاوة، واستحقاق الفوز بالجنة، والنجاة من النار.
والاختلاف في مسمياتها هو أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث كانوا يكفرون بالذنب، وأخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في حظيرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار؛ من استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وتأوّلوا قوله سبحانه: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٩٣﴾ [النساء: 93].
وجماعة أهل السنة يقولون: هذا جزاؤه إن جازاه. ولكن قد يتخلف هذا الجزاء بمقتضى عفو الله عنه، أو بالتوبة المقبولة، أو الحسنات الماحية، أو المصائب المكفرة، ومن نوقش الحساب عذب.
ومثله حديث: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[65].
فهذا الحديث مما استدل به الخوارج، وهو من أحاديث الوعيد تمر كما جاءت، وهو نفي لكمال الإيمان، وليس بنفي لأصل الإيمان، لكون نفي البعض لا يستلزم نفي الكل. ولأن الناس متفاوتون في الأعمال، فمنهم كامل الإيمان، ومنهم ناقص الإيمان، ونحن إذا تكلمنا في الإسلام والإيمان، أو في المسلمين والمؤمنين، فإنما نتكلم على حالة الناس الظاهرة حسب القاعدة.
فمن يتسمى بالإسلام أو الإيمان، وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدي الزكاة الواجبة، ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، ما هو إلا إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنّة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. يقول الله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ﴾ [المائدة: 41].
ومثله قول النبي ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[66]، وكذلك قوله: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[67]، فكله نفي لكمال الإيمان وليس نفيًا للإيمان بالكلية.
ومثله قول النبي ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» رواه أهل السنن، من حديث ابن عمر وفضالة بن عبيد، فإنه يعني بذلك: كمال الإسلام والإيمان، وإلا فمن المعلوم أن السلامة من اليد واللسان، والأمن على الدماء والأموال، هو أمر يتصف به المسلم والكافر على السواء.
نظيره حديث: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ»[68] فهذا نفي لكمال الصلاة أيضًا، وليس بنفي للصلاة من أصلها. فقد قال الفقهاء بجواز صلاته، وكونها تؤدي فريضته.
فتشبث الخوارج بمثل هذه الآية السابقة، وبمثل هذه الأحاديث. ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين؛ يعني أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مسلم.
ثم حدث خلاف المرجئة، وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
﴿فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣﴾ [البقرة: 213] فقالوا: المسلم مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وربما قالوا: المسلم العاصي ناقص الإيمان.
[65] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [66] رواه البخاري عن أبي شريح الكعبي. [67] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [68] رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها.
النفاق في اللغة العربية: هو من جنس الخداع، والمكر، وإظهار الخير، وإبطان خلافه. وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك أو بعضه. وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله ﷺ ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم. وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.
الثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل: وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك.
وأصول هذا النفاق يرجع إلى هذه الخصال المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو، عن النبيﷺ قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» رواه البخاري ومسلم.
وكذا حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» رواه في الصحيحين.
فهذه هي من جملة كبائر الذنوب التي صاحبها تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه.
وكما أن الكفر نوعان: كفر أصغر لا يخرج عن الملة، كقوله ﷺ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»[69]، وقوله: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»[70]. أما الكفر المخرج عن الملة، فهو كفر الجحود، وكفر العناد، وكفر الإباء والاستكبار مثل كفر أبي طالب ونحوه فقد اعترف بصدق نبوة محمد ﷺ وصدق القرآن النازل عليه، ولكنه آثر عليه ملة أبيه عبد المطلب، فقال عند موته: أنا أموت على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله ﷺ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»[71]، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١١٣﴾ [التوبة: 113]. وأنزل الله في أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦﴾ [القصص: 56].
[69] رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود. [70] رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة الدوسي وغيره. [71] متفق عليه من حديث المسيب بن حزن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب الإيمان، ص 125: إن الخطاب بـ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ يدخل فيه كل من أظهر الإيمان من مؤمن، ومنافق في الباطن. قال: وحقيقة الأمر؛ أن من لم يكن من المؤمنين حقًّا، يقال إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه من الخلود في النار، وهذا أمر متفق عليه بين أهل السنة.
لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان؟. هذا هو الذي تنازعوا فيه، فقيل: يقال مسلم ولا يقال مؤمن، وقيل بل يقال مؤمن.
والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، فاسق بكبيرته، فلا يعطى اسم الإيمان المطلق كله، ولا يسلب عنه كله... انتهى. وقد قال السفاريني في عقيدته:
لا يخرج المرء من الإيمان
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جرّ عليه حوبا
ومن يمتْ ولم يتبْ من الخطا
فأمره مفوضٌ لذي العطا
فإن يشأْ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ﴾ - أي للإيمان، فيفرح به ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، وصلاته وزكاته وصيامه - ﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ﴾ [الأنعام: 125] أي ضيقًا بذكر الإسلام، حَرجًا من أمره ونهيه، وصلاته وزكاته، وصيامه ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ﴾ [الزمر: 22].
وإذا حلت الهداية قلبًا
نشطت في العبادة الأعضاءُ
وكان من دعاء النبي ﷺ على الجنازة أنه يقول: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ والسنة، - أي على العمل بشرائع الإسلام والسنّة - وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[72]. لكونه إذا مات انقطع عنه العمل، وبقي معه الإيمان.
يبقى معنا آية هي موضع إشكال عند بعض العلماء الذين يقولون بأن المسلمين غير المؤمنين، وهي قوله تعالى: ﴿فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٣٥ فَمَا وَجَدۡنَا فِيهَا غَيۡرَ بَيۡتٖ مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٦﴾ [الذاريات: 35-36].
فظنوا أن المسلمين غير المؤمنين، وأن المؤمنين غير المسلمين، والقرآن ينوّع التعبير عن المسلمين والمؤمنين، فأحيانًا يسميهم بالمسلمين في كثير من آيات القرآن المبين، كقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢﴾ [آل عمران: 102].
وقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64].
وقوله: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢﴾ [البقرة: 132]. وفي كثير من الآيات يشق إحصاؤها، وقالوا: الإسلام هو استسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، ومثله التعبير بالإسلام والإيمان، كقوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19] - أي الإيمان - وقوله: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85].
فالمسلمون هم المؤمنون، والمؤمنون هم المسلمون، لأن الاسمين صفة لأمة محمدﷺ التابعين لدينه، كما في الحديث في قصة وقوع التزاحم على الماء بين المهاجرين والأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فغضب رسول الله ﷺ وقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ اتركوها ذميمة، وادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»[73].
فهذه الكلمات هي التي تجمع شمل المسلمين، ويكونون بها عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، فقوله تعالى: ﴿فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٣٥ فَمَا وَجَدۡنَا فِيهَا غَيۡرَ بَيۡتٖ مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٦﴾ [الذاريات: 35-36]، فيحتمل أنه أراد بالمسلمين: المستسلمين بالخضوع، والطاعة للدعوة، وهو معنى ما فسره البخاري من قوله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ﴾ [الحجرات: 14] -أي استسلمنا- وقد سمى الله الإسلام سلمًا.
ويحتمل أنه من تنويع الاسم الذي كثر وروده في القرآن، كقوله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسۡلَٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٧﴾ [الحجرات: 17] فعبر عن الإسلام بالإيمان.
[72] أخرجه ابن ماجه وأبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة. [73] أخرجه الترمذي من حديث جابر.
وقد اتفق أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ أي يزيد بالطاعة، وبتدبر القرآن، وبالذكر، والموعظة، وينقص بالمعصية، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ﴾ [الأنفال: 2-4].
وقال: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥﴾ [التوبة: 124-125].
وقد وجد الصحابة هذا الأمر في أنفسهم حتى ظنوه نفاقًا، لكون النفاق مخالفة السر للعلانية، فروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهلنا، وشممنا أولادنا، أنكرنا أنفسنا؟! فقال رسول اللهﷺ: «لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم، لزارتكم الملائكة في مجالسكم وطرقكم، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم».
وجاء حنظلة إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، نافق حنظلة. قال: «وما ذاك»، فقال: نكون عندك، تذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، فآنسنا أهلنا، وشممنا أولادنا، نسينا كثيرًا مما تقول! فقال: «أما إنكم لو تكونون على الحال التي تقومون بها من عندي لزارتكم الملائكة في مجالسكم وطرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة» رواه مسلم في صحيحه.
ثم إن الناس يتفاوتون في الإيمان، وفي الثبات عليه، وحسن الاستقامة فيه، حتى يكون منهم من إيمانه كالجبل في الثبات والرسوخ، كما قيل:
تزول الجبال الراسيات وقلبه
على العهد لا يلوي ولا يتلعثم
﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧﴾ [إبراهيم: 27].
والقول الثابت هو الإيمان الراسخ المستلزم للعمل الصالح.
ومن الناس من إيمانه مثقال ذرة، ينقدح الشك في دينه بأول عارض من شبهة، فهم الذين عناهم القرآن بقوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١﴾ [الحج: 11]، نزلت في الأعراب، كان أحدهم إذا دخل في الإسلام، فإن ولد له ولد ونتجت إبله وخيله، ونزل به الغيث، قال: هذا دين طيب، واطمأن به، وإن أصيب بمرض، أو مات أحد من أهله، أو من إبله، أو أصيب الناس بالجدب، قال: هذا دين سيِّئ، وتشاءم به وارتد عنه، لكونه لم تدخل بشاشة الإيمان في قلبه، ولم يذق حلاوته، فسرعان ما ارتد عنه سخطة له.
وفي الحديث: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَمَعَهُ دِينُهُ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَمَا مَعَهُ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ»[74].
وأخبر النبي ﷺ بأنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[75]، ولن ننسى النص الثابت في كفر تارك الصلاة، فروى مسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ».
وعن بريدة، أن النبي ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه وقال: صحيح ولا نعلم له علة.
ويدل له ما رواه الترمذي عن معاذ أن النبي ﷺ قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ: الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ: الصَّلَاةُ».
وعمود الشيء هو: قوامه الذي يستقيم به، ويسقط بتركه، ولا ينبغي أن ننخدع بمن قال: كفر دون كفر، فإن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، إذ هذا من الأمر الصريح الذي لا يقبل التأويل، ومتى أجمع العلماء على كفر من استباح ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام بلا خلاف، فإن العارف بوجوبها، ثم يصر مستمرًّا على تركها، أشد كفرًا وعنادًا، إذ كفره من جنس كفر إبليس، وكفر اليهود.
مع العلم أنه لا يصر مستكبرًا عن فعلها، مؤمن بوجوبها أبدًا، ولهذا كان السلف الصالح يسمونها: الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه ذو حظ من المحافظة على الصلاة في الجماعات، علموا بأنه ذو دين، وشهدوا له بموجبه، وإن حدثوا بأنه لا حظ له من الصلاة، علموا بأنه لا دين له ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١﴾ [التوبة: 11].
خسـر الذي ترك الصلاة وخابا
وأبى معادًا صالحًا ومثابا
إن كان يجحدها فحسبك أنه
أضحى بربك كافرًا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل
غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له
إن لم يتب حد الحسام عقابا
قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ: «أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ».
وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.
وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا تركها حتى يخرج جميع وقتها.
منهم -أي من الصحابة- عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء.
ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عيينة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم. ذكره المنذري في الترهيب عن ترك الصلاة.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: لا يختلف المسلمون، أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس، وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأنه متعرّض لسخط الله وخزيه، وعقوبته في الدنيا والآخرة.
قال: وأفتى سفيان الثوري، وأبو عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وحماد بن زيد، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ابن راهويه، وأصحابهم: بأنه يقتل متى تركها عمدًا من غير عذر، ودُعي إليها وقال: لا أصلي.... انتهى من كتاب الصلاة.
وقد ترجم على معناه البخاري في صحيحه، وقال: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر. ثم ذكر النفاق، وكونه لا يخافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق.
[74] أخرجه النسائي والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [75] من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا» . وكذا الإمام أحمد في مسنده.
ثم إن هذا الإيمان ينقلب نورًا على أهله بحسبه يوم القيامة، فيكون نورًا على الصراط المعروض على متن جهنم - كالخشبة المعروضة فوق القليب - وهو دحض مزلة تجري بالناس أعمالهم عليه، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل. ومع كونه دحض مزلة وبجانبه كلاليب مثل الشوك تخطف الناس، ومع هذا: فإنه مظلم ويُعطى الناس نورهم كلٌّ حسب إيمانه، فمنهم من نوره كالجبل، ومنهم من نوره كالنخلة، ومنهم من نوره كالسراج، ومنهم من نوره على طرف إبهام قدمه، يتّقد مرة وينطفئ أخرى. يقول الله تعالى: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢﴾ [الحديد: 12].
﴿يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٨﴾ [التحريم: 8].
ويُعطى المنافقـون نـورًا يدخلـون به طرف الصراط، ثم ينطفئ عنهم، فعنـد ذلك يقولون للمؤمنين: ﴿ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ١٣ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ١٥﴾ [الحديد: 13-15].
فهذه حالة المنافقين، لما كان إيمانهم خداعًا، فلا صحة ولا أصل لحقيقته، فعند ذلك خانهم أحوج ما كانوا إليه، لأنه ليس معهم إيمان حقيقي حتى يكون لهم نورًا.
ومثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35].
وفي مثل حديث جبريل[76]، حين فسر رسول الله ﷺ فيه الإسلام، ثم فسر الإيمان، بتوسط واو العطف بينهما، هو نظير توسط واو العطف بين الإيمان وبين الأعمال الصالحات في كثير من الآيات، كقوله: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦﴾ [التين: 6].
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هو من أطول الناس باعًا، وأوسعهم اطلاعًا في هذه المسألة، وفي غيرها من سائر العلوم والفنون، وما معرفتنا بالنسبة إلى سعة علمه، إلا بمثابة الطفل الصغير بين يدي العالم الكبير.
غير أن العلماء قد اتفقوا على أنه لا يرد الحق الواضح لانفراد قائله، كما لا يقبل الباطل لكثرة ناقله، إذ إن الحق فوق قول كل أحد.
لهذا رأينا شيخ الإسلام ابن تيمية قد اختلفت أقواله في تفسير الإيمان، والإسلام. فأحيانًا يقول بوجود مسلم ليس بمؤمن، ويقول بالاستثناء في الإيمان دون الإسلام، ويقول على حديث «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ»[77]، بأنه يخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام، ويستشهد لذلك بقوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ﴾ [الحجرات: 14]، وبحديث سعد، حين قال للنبي ﷺ: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أوْ مُسْلِمًا»[78].
وبحديث جبريل، مما يدل بزعمه على انفراد الإسلام عن الإيمان، ويرجح هذا القول وهذا الاعتقاد، وينسبه إلى الإمام أحمد، وإلى كثير من العلماء، وهذا هو الذي اعتمد القول بصحته، واستقر عليه رأيه، وروايته.
وأحيانًا يرجح القول بأنه لا يوجد مسلم ولا إسلام إلا بإيمان، وأنه لا يوجد مسلم إلا ومعه شيء من الإيمان.
ويفسر حديث «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ» المار ذكره وسنده، أنه يعبر عنه بأنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. ويقول: إن الإيمان بمثابة اسم الدين، فيشمل جميع المأمورات، واجتناب المنهيات. ومرة قال: إن الإسلام والإيمان بمثابة الروح مع الجسد، ويستشهد لصحة ذلك بأقوال من يرى صحته، ووجوب اعتقاده من سائر العلماء القائلين به.
فمن ذلك ما نقله عن الإمام محمد بن نصر، في ص 187 من كتاب الإيمان حول الآية ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ [البقرة: 137].
فحكم سبحانه: بأن من أسلم، فقد آمن واهتدى، ومن آمن: فقد اهتدى فسوّى بينهما في الاهتداء. وأن التفرقة بين الإسلام والإيمان، لا دليل عليها، وقد بينّا خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار، في محاولتهم التفرقة بين الإسلام والإيمان. وكونه لا صحة للاستدلال بها على المعنى الذي أراده. والحق أن الإسلام والإيمان شيء واحد.
وقال البغوي في شرح السنة، على حديث جبريل، وفيه ذكر الإسلام والإيمان، فقال: إن النبي ﷺ جعل الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال. وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد. وليس ذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، وإنما ذلك تفصيل للجملة، وإلا فهي شيء واحد، وجماعها الدين. انتهى.
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان عن محمد بن نصر المروزي أنه قال: إن الإسلام هو الإيمان وإن المؤمنين هم المسلمون. وهذا نصه: قال محمد بن نصر المروزي: قالت طائفة من العلماء -وهم الجمهور الأعظم من أهل السنّة والجماعة، وأصحاب الحديث-: إن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه، وافترضه عليهم، وارتضاه لهم دينًا، هو الإسلام الذي جعله الله دينًا، وارتضاه لعباده، قال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: 3]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85]، وهو ضد الكفر الذي سخطه، وجعله محبطًا لسائر الأعمال الصالحات، فقال: ﴿وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ﴾ [الزمر: 7]. وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ﴾ [الأنعام: 125]، وقال: ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ﴾ [الزمر: 22]، فمدح الله الإسلام، بمثل ما مدح به الإيمان... ثم قال: ألا ترى أن أنبياء الله ورسله ترغبوا إليه وسألوه إياه.
فقال إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٢٨﴾ [البقرة: 128]. وقال يوسف: ﴿أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١﴾ [يوسف: 101].
وقال: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢﴾ [البقرة: 132].
وقال: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦﴾ [البقرة: 136].
وقال: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعقيبه على هذا الكلام، قلت: مقصود محمد بن نصر -رحمه الله- أن المسلم الممدوح، هو المؤمن الممدوح، وأن كل مؤمن فهو مسلم، فلا بد أن يكون معه إيمان. وهذا صحيح. وهو متفق عليه. انتهى ص 190 من كتاب الإيمان.
وقال أبو طالب المكي[79]: مباني الإسلام الخمسة، يعني: الشهادتين، والصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج. قال: وأركان الإيمان سبعة، يعني: الخمسة المذكورة في حديث جبريل، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار. وكلاهما قد رويت في حديث جبريل كما سنذكره إن شاء الله.
قال: وقد قال قائلون: إن الإيمان هو الإسلام. وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات.
وقال آخرون: إن الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين، إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول ﷺ غير شهادة الوحدانية. فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام، أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له. إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه. من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة: الإيمان، واشترط للإيمان: الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ ٩٤﴾ [الأنبياء: 94].
وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: ﴿وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ ٧٥﴾ [طه: 75].
فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقًا ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب، ولا يعمل بأحكام الإيمان، وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرًا لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمنًا بالغيب، مما أخبرت به الرسل عن الله تعالى، عاملاً بما أمر الله، فهو مؤمن مسلم.
وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، قال: ومثل الإيمان من الأعمال: كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى ينفصلان، ومثلهما أيضًا، مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهي واحدة لا يقال حبتان لتفاوت صفتهما.
قال ابن القيم في كتاب الفوائد - صفحة 84: الإيمان له ظاهر وباطن وظاهره: قول اللسان، وعمل الجوارح. وباطنه: تصديق القلب، وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء، وعصم به المال والذرية. ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز، أو إكراه وخوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان: قلب الإسلام ولبّه، واليقين: قلب الإيمان ولبّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة، فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.... انتهى.
فكذلك أعمال الإسلام، فالإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ»[80]. وفي لفظ: «والإيمان سر»[81]. فالإسلام: أعمال الإيمان، والإيمان: عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقيدة. انتهى.
ثم نقول للذين يتعصبون بجواز وجود مسلم ليس بمؤمن: أليس المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فسيقولون: نعم، لأن الشهادتين من أعمال الإسلام الظاهرة، فمتى ثبت الأمر بذلك، فإنهم مؤمنون بشهادة رسول الله ﷺ لهم في قوله: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[82].
ثم يقال: هل هؤلاء المسلمون يصلون لله، أو للصنم؟ فإن قالوا: بل يصلون لله. فيقال: هل يتوضؤون لصلاتهم؟ فإن قالوا: نعم، فهم كحالة المسلمين في سائر أعمالهم الظاهرة. فيقال: إن معهم من الإيمان بحسبهم وبشهادة رسول الله ﷺ لهم في قوله: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[83].
فمتى كان يفتتح صلاته بالتكبير، ويقول: الله أكبر، فهذا من الإيمان ثم يركع حانيًا ظهره لله رب العالمين، فهذا من الإيمان، ثم يسجد لله، ويضع وجهه الذي هو أعز شيء لديه في الأرض، فهذا من الإيمان بالله.
ثم إننا رأينا من يقول بوجود مسلم ليس بمؤمن، ويستدل بقوله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ ٣٣ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦﴾ [فاطر: 32-36].
وهذا الاستدلال واقع في غير موقعه الصحيح، فإن هؤلاء الأقسام كلهم في الجنة بفحوى القرآن، والدلائل من السنة.
ومن قال من العلماء، إن هؤلاء الأقسام الثلاثة، هم بمثابة الأقسام الثلاثة المذكورين في سورة الواقعة وهم: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة والسابقون السابقون، فقوله خطأ، إذ الآيات في سورة الواقعة صريحة، لأن أصحاب المشأمة: هم أهل النار بالنص الثابت بقوله سبحانه في آخر سورة الواقعة:
﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡحٞ وَرَيۡحَانٞ وَجَنَّتُ نَعِيمٖ ٨٩ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩٠ فَسَلَٰمٞ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩١ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ ٩٢ فَنُزُلٞ مِّنۡ حَمِيمٖ ٩٣ وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ ٩٤﴾ [الواقعة: 88-94].
فهذه الآية الصريحة في كون القسم الثالث، الذين هم أصحاب المشأمة، هم من الكافرين، المكذبين بالقرآن وبالرسول، بخلاف الآية التي نحن بصدد تفسيرها من سورة فاطر.
وأن الأقسام الثلاثة كلهم من أُمة محمد ﷺ ومن أهل الجنة، كما حقق ذلك ابن عباس في تفسيره، وعائشة أم المؤمنين، حين سئلت عن تفسير هذه الآية.
وقد حقق ذلك ابن كثير في تفسيره، حيث قال شارحًا هذه الآية: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب: الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمّة. ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع. فقال تعالى: ﴿فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ﴾: وهو المفرّط في فعل الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات ﴿وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ﴾: وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات ﴿وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾: وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات.
قال ابن عباس: هم أمة محمد ﷺ أورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وروي عن ابن عباس أيضًا، قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب. والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله. والظالم لنفسه، هم وأصحاب الأعراف، يدخلون الجنة بشفاعة محمد ﷺ.
وكذا روي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمّة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. انتهى.
والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، كما جاءت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ من طريق يشد بعضها بعضًا. من ذلك ما رواه الإمام أحمد، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢﴾ [فاطر: 32]. فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35].
وأيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار بن الأشعث، عن عقبة ابن صهبان الهنائي، قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا﴾ [فاطر: 32].. الآية. فقالت لي: يا بني، هؤلاء في الجنة. أما السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ وشهد له رسول الله بالجنة. وأما المقتصد، فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال: فجعلت نفسها -رضي الله عنها- معنا. وهذا منها -رضي الله عنها- من باب الهضم، والتواضع. وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات. لأن فضلها على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام.
هذا: وقد سيقت أحاديث أخرى، تدل على أن الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية كلهم في الجنة، كما رجح ذلك ابن جرير في التفسير.
وفحوى الآية، تدل على ذلك بالصراحة. وأنهم من هذه الأمّة، وكلهم في الجنة.
فذكر سبحانه وراثتهم للكتاب، وهو منزلة عالية، وصفة سامية. ثم ذكر أنه -جلَّ وعلا- اصطفاهم. والاصطفاء: هو الصفوة من الشيء. فهم من صفوة الناس. ثم قال: ﴿مِنۡ عِبَادِنَا﴾، فأضافهم إضافة تشريف إلى نفسه الكريمة. ثم ختم الآية بقوله تعالى: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا﴾، ولم يستثن منهم الظالم لنفسه، لأن الناس كلهم ظالم لنفسه، وفي الدعاء المأثور، أن النبي ﷺ كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»[84] وقد قال الصحابة للرسول ﷺ: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟!
ثم إن الله سبحانه أعقب هذه الآية بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦﴾ [فاطر: 36]. مما يدل على أن الأقسام الثلاثة المذكورة قبلهم، أنهم كلهم من أهل الجنة؛ لكون القرآن الكريم مثاني، إذا ذكر أهل الجنة، ثنّى بذكر أهل النار، ليكون المؤمن راجيًا خائفًا.
* * *
[76] من حديث عمر: «بينما نحن جلوس عند رسول الله..» رواه مسلم [77] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [78] من حديث رواه مسلم . [79] حكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ص 172 من كتاب الإيمان. [80] أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس. [81] ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب . [82] رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم، والترمذي، عن العباس بن عبد المطلب. [83] رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن ثوبان مولى المصطفىﷺ والبيهقي في السنن، والطبراني، عن ابن عمرو بن العاص. [84] رواه البخاري من حديث أبي بكر الصديق.