مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد السابع
الحكم الجامعة (2)
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال: ربي الله، ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام.
أما بعد:
فإن الله سبحانه جعل الشهور والأعوام، والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، يقلب عباده في فنون الخِدَم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم. فلما مضى شهر الصيام، أقبل شهر الحج إلى بيت الله الحرام. فكما أن «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[1]، فكذلك «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»[2].
وهذا التكفير إنما يقع في صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما الكبائر مثل القتل والربا والزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس فهذه لا يكفرها الحج، ولا الصلاة ولا الصيام، وإنما تكفر بالتوبة ورد المظالم.
ثم إن الله سبحانه قد بنى دين الإسلام على خمسة أركان؛ الخامس منها حج بيت الله الحرام. وخطب النبي ﷺ فقال: ««إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فقال: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ، الْحَجُّ مَرَّةٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ»» رواه الخمسة إلا الترمذي، وأصله في مسلم.
يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ﴾ [الحج: 27-28]. وهذه المنافع التي يشهدها الحج شاملة لمنافع الدنيا، ومنافع الآخرة.
فمن منافع الدنيا أن يلقى المسلمون بعضهم بعضًا في بلد من دخله كان آمنًا، فيتعارفون ويتعاشرون ويتواصلون ويتناصحون، فيتفكرون في علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، وإزالة الإحن والشحناء من بينهم.
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أمراء الأمصار وسائر العمال بأن يلقوه في موسم الحج فيسأل كل واحد عما تولاه من شؤون رعيته، وما تحتاجه من الإصلاح والتعديل.
وأما منافع الآخرة، فما يحصل لهم من المغفرة لمن أخلص نيته، وأصلح عمله، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الحجاج والعمار وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن أنفقوا أخلف الله عليهم» رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. يقول الله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗا﴾ [آلعمران: 97]. وعن أنس قال: «قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»». رواه الدارقطني وصححه الحاكم. والراجح إرساله.
وشَرَط الفقهاء الأمن على نفسه من خوف الهلاك.
[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [2] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
والحج من الشرائع القديمة؛ فكان الأنبياء وأممهم المطيعون لهم يحجون البيت الحرام، كما في الحديث: أن النبي ﷺ مر بوادي عسفان فقال: «يا أبا بكر، لقد مر بهذا الوادي هود وصالح على بكرات خطمهما الليف يحجون هذا البيت العتيق»[3].
وقال: «لقد مر بالروحاء سبعون نبيًّا فيهم نبي الله موسى يؤمّون هذا البيت العتيق»[4]، وكانت قريش تحجه قبل الإسلام، غير أنهم أدخلوا فيه عبادة الأصنام؛ فهذا البيت هو أول بيت أسس في الأرض لعبادة الله عز وجل، وللصلاة فيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٧﴾ [آلعمران: 96-97].
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر قال: «قلت: يا رسول الله، أخبرني عن أول بيت وضع في الأرض؟ قال: «المَسْجِدُ الحَرَامُ». قلت: ثم بعد هذا؟ قال: «المَسْجِدُ الأَقْصَى» قلت كم بينهما؟ قال: «أَرْبَعُوْنَ عَامًا»».
[3] أخرجه أحمد والبيهقي من حديث ابن عباس. [4] أخرجه أبو يعلى والطبراني من حديث أنس.
فتح النبي ﷺ مكة عام ثمانية من الهجرة. وفي السنة التاسعة أمر النبي ﷺ أبا بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس، وكان عدم مبادرته إلى الحج في هذه السنة، أن الناس قد اعتادوا أعمالاً منكرة يعملونها في الطواف؛ وذلك أنهم يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف بها. فأنزل الله سبحانه: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٢٨﴾ [الأعراف: 28]. ولهذا أرسل النبي ﷺ عليا بأن ينادي في الناس بسورة براءة، وألاّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد فأجله إلى مدته ﴿أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥ﴾ [التوبة: 3]. وروى مسلم في صحيحه عن جابر: «مَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ».
وفي السنة العاشرة: أُذن في الناس أن رسول الله ﷺ حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويحج معه، ويعمل مثل عمله، قال جابر: فخرج رسول الله ﷺ حتى أتى ذا الحليفة - وهي ميقات أهل المدينة- فنزل بها ﷺ وبات بها تلك الليلة، فولدت أسماء بنت عميس - زوجة أبي بكر - فأرسلت إلى رسول الله ﷺ. فقالت: كيف أصنع؟ فقال لها رسول الله ﷺ : «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي»[5]. فدل هذا الحديث على أن الحائض والنفساء تغتسل للإحرام وتحرم كما يحرم سائر الناس، وإحرامها صحيح. قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة[6]. ثم إن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل وتطيب. قالت عائشة رضي الله عنها: طيبت رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت[7]. فطيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه؛ كدهن الورد، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه.
[5] رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [6] رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [7] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
ثم إن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل؛ فأحرم في إزار ورداء، وصلى ركعتين بعد إحرامه؛ والإحرام هو نية الدخول في نسك الحج والعمرة متمتعًا، ولا يلزمه التلفظ بالنية، بل لو أحرم كما يحرم الناس صح، ويصير متمتعًا ولو لم يتلفظ بنية الحج، وهذا هو الظاهر من فعل الصحابة.
قال جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ ناقته القصواء، فلما استوت به على البيداء، نظرت إلى مد بصري من بين راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله ﷺ بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن. فما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»[8]. وأهل الناس بالذي يهلون به، ولزم رسول الله ﷺ تلبيته. ومعنى «لبيك» أي: ملازمًا لطاعتك، مجيبًا لدعوتك، وهي من ألطف التحيات التي يستجيب بها المدعو لمن دعاه، فإنك إذا دعوت شخصًا فأجابك بقوله: «لبيك » فإن محبته تتغلغل في قلبك. وأصل التلبية: أن الله سبحانه لما أمر نبيه إبراهيم عليه السلام ببناء البيت؛ فامتثل أمر ربه طائعًا، وساعده ابنه إسماعيل مسارعًا. فلما فرغا من بنائه، أمره بأن ينادي في الناس بالحج. فقال: يا رب صوتي ضعيف فمن ذا الذي يجيبني؟ فقال الله: عليك الصوت، وعلينا البلاغ. فصعد جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس، إن الله قد بنى لكم بيتًا فحجوا[9]. فالحاج في تلبيته يجيب نداء ربه لما دعاه إلى بيته، ويقول: لبيك اللهم لبيك.
فسار رسول الله ﷺ في طريقه حتى لقي ركبًا بالروحاء قال: ««من القوم؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أنا رسول الله» فرفعت امرأة إليه صبيا فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولكِ أجر»»[10]. فدل هذا الحديث على استحباب إحرام الصبي للحج بحيث يحرم عنه وليه، ويطوف به، ويسعى به، ويرمي عنه، ويفدي له، إن كان إحرامه بالتمتع، وإن إحرامه له هو من باب الاستحباب لا الوجوب، وإنما شرع للتمرين على العبادة، لكن هذا الحج لا يجزيه عن حجة الإسلام.
ثم سار رسول الله ﷺ في طريقه، فجاءت امرأة من خثعم، قالت: «يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»[11].
فدل هذا الحديث على جواز حج المرأة عن الرجل، وأن المرأة يجوز لها أن تحج عن أبيها أو عن أمها، كما يجوز للرجل أن يحج عن أبيه وعن أمه إذا كان قد حج عن نفسه.
كما دل الحديث على الرجل الكبير، والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان الطواف ولا السعي، ولا الزحام مع الناس أنه يجوز لهما أن يستنيبا من يحج عنهما، فيُحْرِم النائب عنهما بالعمرة ومتمتعًا بها إلى الحج، ويفعل سائر ما يفعله الحاج.
وسألته امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»[12]. فدل هذا الحديث على أن من نذر فعل طاعة من الطاعات، كمن نذر أن يحج، أو نذر أن يصوم عشرة أيام، أو أن يتصدق بكذا أو كذا، فإن هذا النذر نذر طاعة، قد أوجبه على نفسه، فلزمه الوفاء به. وقد مدح الله في كتابه الذين يوفون بالنذر. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ»[13]. والنذر على الإطلاق مكروه، وليس بمحبوب؛ لأن الناذر يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ». لكنه متى ألزم نفسه بنذر الطاعة، من الحج أو الصيام أو الصدقة، وجب عليه به الوفاء، فإن مات قبل وفائه قضاه عنه وليه؛ لما في الصحيحين عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، فهو الذي يُقضى عن الميت، لأنه بمثابة الدَّيْن الذي يتعين المبادرة بقضائه.
[8] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [9] ذكره الفاكهي في أخبار مكة بمثل معناه. [10] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [11] متفق عليه من حديث ابن عباس. [12] أخرجه البخاري وأصحاب السنن من حديث ابن عباس. [13] أخرجه البخاري وأصحاب السنن من حديث عائشة.
وسئل النبي ﷺ: ماذا يلبس المحرم؟ فقال: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافِ، إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»[14].
إن من سنة الإحرام؛ أن يتجرد الإنسان عن كل ما يعتاد لبسه، فلا يلبس القميص ولا العمائم ولا القلنسوة ولا السراويلات ولا الخفاف - وهي الزرابيل- بل يتجرد عن كل مخيط، فيحرم في إزار ورداء، يشبهان أكفان الموتى، بحيث يتساوى في هيئة الإحرام، الشريف والوضيع، والغني والفقير، والملك والمملوك، والوزير والصعلوك كما يتساوون في الصلاة وفي الطواف وفي سائر العبادات، «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»[15].
ومتى كان الإنسان يشتكي رأسه لعلة يجدها في نفسه إذا كشف رأسه؛ واحتاج إلى ستر رأسه؛ فإنه يجوز أن يستر رأسه، ويفدي بما يجزئ في الأضحية، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: ««لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ»». رواه البخاري. ولا يبطل بذلك إحرامه ولا حجه، بل يكفيه عن حلق رأسه، أو تقليم أظفاره، أو لبس المخيط من القميص والسراويل، بأن يفديه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام. وكل هذا على التخيير، وحجه صحيح.
أما المرأة فإن إحرامها في وجهها؛ فلا تلبس البرقع، ولا النقاب فتزيل عن وجهها النقاب الذي يستعمله نساء الأعراب، إلا عندما يراها أحد من الرجال؛ فإنها تسدل الخمار على وجهها.
تقول عائشة: كانت إحدانا تكشف وجهها في إحرامها، فمتى رأينا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها[16]. فإن انتقبت المحرمة - أي لبست النقاب على وجهها- وجب عليها أن تفدي عنه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، ولا يجب عليها أن تستعمل العصابة على جبهتها لتمنع بها مس الخمار لوجهها، فهذا لم يثبت فعله عن نساء الصحابة. ولو فرض أن الخمار مس وجهها من أجل هبوب الهواء، أو غير ذلك، فإن هذا لا يضرها ولا يقدح في صحة حجها. ثم إن رسول الله ﷺ سار في طريقه حتى أتى سرفًا وهو بطرف مكة مما يلي طريق جدة فنزل به.
[14] أخرجه البخاري والنسائي وابن حبان من حديث ابن عمر. [15] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [16] أخرجه أبو داود والبيهقي من حديث عائشة.
ثم دخل على عائشة وهي تبكي فقال: «ما يبكيك، لعلك نفست؟» أي حضت، فأشارت إليه أي نعم. فقال: «إِنَّ هَذَا أَمَرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[17] وفي رواية قال: ««ارفضى حجك واجعليها عمرة» أي قولي لبيك عمرة وحجًّا. وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيَكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»». فالحيض خلقة وجبلة في المرأة خلقه الله لحكمة غذاء الجنين في البطن، كما أن صفار البيضة يغذي الفرخ حتى يتم. ولهذا الحامل لا تحيض، ومتى خرج منها الدم فإنه نقص في الحمل، ويعتبر بأنه دم فساد لا تترك له الصلاة ولا الصيام، وهو من مكملات المرأة، لكون المرأة التي تحيض هي المستعدة للحمل.
فالمرأة متى ابتليت بخروج الحيض عند الإحرام، أو عند قرب دخولها مكة، فإنها تدخل العمرة على الحج وتقول: لبيك عمرة وحجًّا. فتصير قارنة ولا تطوف، ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، ويكفيها لحجها وعمرتها طواف واحد، وسعي واحد، ولو بعد الوقوف ورمي الجمار.
لكن إذا استمر الحيض عليها، وخافت من خروج الرفقة من مكة قبل أن تطهر، وقبل أن ينقطع عنها الدم ولا يمكنها التخلف عنهم، فقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم مثل هذه المرأة بأن تغتسل وتستثفر، ثم تطوف وتسعى وتفعل بقية حجها. ويكفيها ذلك، ويعتبر حجها صحيحًا؛ لأنها حالة ضرورة والضرورة تقدر بقدرها، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾ [البقرة: 286]. ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16]. فأشبه عادم الطهورين يصلي على حسب حاله. وكذا المرأة المبتلاة بجريان الدم بما يسمى الاستحاضة، وكذلك الرجل المبتلى بسلس البول الدائم، فكل واحد من هؤلاء يصلي على حسب حاله حتى ولو قطر الدم على الحصير، وكذلك طواف الحج فإنه يطوف على حسب حاله؛ إذ الطهارة للصلاة آكد من الطهارة لطواف الحج وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[18]. وهذا هو الذي نعتقده ونعتمد صحة الفتوى به.
وقد رخص الفقهاء للحائض والنفساء متى توضأت وضوء الصلاة بأن تمكث في المسجد الحرام وغيره من المساجد متى أمنت تلويثه، لكون الوضوء يخفف من حدث الحيض والنفاس، وكذا الجنابة. وقالوا: إن الصحابة كانوا يمكثون في المسجد بعد الوضوء وهم مجنبون، ولهذا قال ناظم المفردات:
وبوضوء جنب أو حائض
أو نُفَسَا بلا نجيع فائض
لهم يجوز اللبث كالعبور
في مسجد ذاك على المشهور
[17] متفق عليه من حديث عائشة. [18] متفق عليه من حديث أبى هريرة.
قال جابر: ثم سار رسول الله ﷺ حتى دخل مكة؛ فطاف بالبيت، فرمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة[19] -والرمل هو: العدو مع تقارب الخطى- واضطبع بردائه فجعله تحت إبطه الأيمن. وهذا الرمل والاضطباع [20]إنما يشرعان في طواف القدوم من السفر فقط. وما عدا ذلك فإنه يطوف ماشيًا بسكينة ووقار. ثم قرأ ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗى﴾ [البقرة: 125]. فصلى ركعتين، وشرب من ماء زمزم، ثم خرج إلى المسعى، فبدأ بالصفا وختم بالمروة. فعل ذلك سبعًا يذكر الله فيهما ويسبح ويدعو.
[19] أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنهما.[20] الاضطباع: كشف كتفه الأيمن بأن يجعل طرف ردائه تحت إبطه الأيمن وبعضه على عاتقه الأيسر.
فلما كان آخر سعيه بالمروة، قال لأصحابه: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً»[20]. وفي هذا دليل على تحديد نحر نسك التمتع والقرآن بيوم العيد وأيام التشريق، وأنه لا يجوز قبل ذلك، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[21]. فحل الناس كلهم، وقصروا من رؤوسهم، ولبسوا ثيابهم، ودارت مجامر الطيب بينهم، إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، فإنهم بقوا على إحرامهم، ولم يحلوا منه إلا يوم العيد بعدما رموا جمارهم، ونحروا هديهم.
[20] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [21] أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وفي اليوم الثامن أحرم الذين حلوا بالحج، وتوجهوا إلى منى، فنزلوا بها، وفي اليوم التاسع توجهوا إلى عرفات، وصلى بهم رسول الله ﷺ الظهر والعصر قصرًا وجمعًا حتى أهل مكة. فكانوا يقصرون معه الصلاة بنمرة ومزدلفة ومنى، وبعد الصلاة توجهوا إلى عرفات، وخطب بهم رسول الله ﷺ الخطبة العظيمة. وقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، - كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ قَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ -، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ: مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع رسول الله ﷺ أصبعه إلى السماء. وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[22]. وفي رواية قال: «لَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» فسميت حجة الوداع، من أجل أنه ودع الناس فيها.
[22] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
إن يوم عرفة أفضل أيام الدنيا كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل ما قلت والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». ويكثر من ذكر الله ويسبحه ويستغفره أو يسكت. إذ ليس لعرفة دعاء مخصوص، إذ المقصود الوقوف بها، لحديث «الْحَجُّ عَرَفَةُ»[23]. وأنزل الله عليه بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3].
وقد أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [النصر: 1-3].
ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ كما فسرها بذلك ابن عباس.
وفي موقف عرفة، سقط رجل عن راحلته فمات. فقال رسول الله ﷺ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَجَنِّبُوْهُ الطِّيْبَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[24].
ولما غربت الشمس، انصرف رسول الله ﷺ من عرفة وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحل رسول الله ﷺ وهو يقول: ««أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً[25]مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً، حَتَّى تَصْعَدَ»[26].
[23] أخرجه أهل السنن وأحمد من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. [24] متفق عليه من حديث ابن عباس. [25] حبلاً من الحبال: أي المستطيل من الرمل. [26] أخرجه مسلم من حديث جابر.
إن للمزدلفة ثلاثة أسماء هي: المزدلفة، وجمع، والمشعر الحرام. وحدها من عرفة إلى قرن محسِّر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب والجبال فهو منها. ففي أي موضع منها وقف الحاج أجزأه؛ لقول النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[27].
والأصل في ذلك قوله سبحانه: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ١٩٩﴾ [البقرة: 198-199].
والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل واجب في ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، وقال الإمام مالك: إن نزل بها ثم دفع، فلا شيء عليه، وإن لم ينزل بها فعليه دم. وقال في الإفصاح : أجمعوا على أنه يجب البيتوتة بمزدلفة جزءًا من الليل في الجملة إلا مالك فإنه قال: هو سنة مؤكدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. قال: واختلفوا فيمن ترك المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل، هل يجب عليه دم أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه في تركها مع كونها واجبة عنده. وقال مالك: يجب في تركها الدم، مع كونها سنة عنده. وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدم، مع كونها واجبة عندهما. فهذه الأقوال مع اختلافها خرجت من هؤلاء الأئمة مخرج الاجتهاد منهم لكونهم لم يجدوا عن رسول الله ﷺ نصًّا صحيحًا صريحًا في تحديد الواجب من المبيت، وهل هو الليل كله أو نصفه؟ فاجتهد كل واحد منهم في القول فيه على حسب الحالة والحاجة في زمنهم؛ من قلة الحاج، وسعة المكان، والطرق، والقدرة على تصرف الإنسان بما يريد.
وإن الأمر الذي لا نزاع فيه هو أن النبي ﷺ نزل بمزدلفة بعد انصرافه من عرفة، فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين. ثم رقد حتى طلع الفجر فصلى بعدما تبين الفجر. ثم وقف بالمشعر الحرام؛ فذكر الله وهلله، وأخذ يدعو حتى أسفر جدًّا ثم دفع من مزدلفة ومعه أصحابه حتى أتى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه، وحلق رأسه، ولبس ثيابه. وبعدما أكل من لحم هديه وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه. فطاف بالبيت طواف الحج. فهذا أفضل ما يفعله الحاج إذ إنه سنة رسول الله ﷺ الفعلية، وسيرة خلفائه وأصحابه، حتى في حالة الزمان وشدة الزحام؛ فإنه يكون أوفق وأرفق به، إذ إنه بعد انصرافه من مزدلفة يجد فجوة خالية من شدة الزحام بين المتعجلين والمتأخرين، فهو أفضل ما ننصح به، وندعو الناس إليه؛ لأنه لا يلزم أن يتيسر هذا التسهيل لكل أحد. فإن الحاج زمن النبي ﷺ وزمن الخلفاء وفي كل السنين السابقة يكونون قليلين، فلا يحج من أهل البلدان البعيدة أحد، ولا يحج من أهل البلدان القريبة إلا النادر.
أما الآن، وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات، وسهلت المواصلات بوسائل المراكب الهوائية، والبرية، ودكت عقبات التعويق، وقطع دابر قطاع الطريق، وشمل الناس الأمن المستتب في أنحاء الحرم، وسائر السبل المفضية إليه. فمن أجله توافد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون، وفي كل زمان يزيدون، فعظم الخطب، واشتد الزحام، وصار الناس بعد انصرافهم من عرفة يسيرون مقسورين غير مختارين، يتحكم فيهم قائد السيارة، وشرطة نظام المرور، بحيث يمنعون السائق من الوقوف والانصراف عن طريقه، لكون أرض مزدلفة مملوءة بالناس والسيارات، وربما تمادى بهم سيرهم حتى يصلوا إلى المسجد الحرام، فيطوفوا طواف الإفاضة وهم قد مروا بمزدلفة لكنهم لم يقفوا ولم ينزلوا بها.
ولأجله كثر السؤال عن حج هؤلاء، وهل هو صحيح أم لا؟
فالجواب: إننا على دين كفيل بحل مشكلات العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان. ولو فكرنا فيه بإمعان ونظر؛ لوجدنا فيه الفرج عن هذا الحرج. وقد قيل: إن الحاجات هي أم الاختراعات؛ لهذا يجب على العلماء الاجتهاد في تجديد النظر فيما يزيل عن أمتهم وقوع الخطر والضرر. والنبي ﷺ قد أرخص للظعن والضعفة بأن يدفعوا بالليل ويرموا الجمرة بالليل. كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة، وحديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس.
وكما ثبت الدفع إلى مكة من حديث عائشة قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة المزدلفة فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. وكل الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن، لم تثبت تحديد المبيت بجزء من الليل، ولا تقييده بنصفه كما قيده الفقهاء بذلك. وترجم له البخاري في صحيحه ما عدا أن أسماء بنت أبي بكر قالت للذي يُرحلها: هل غاب القمر؟ فقال: لا. فأخذت تصلي. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا. قال: فارتحلنا فمضت حتى رمت الجمرة، وقالت: يا بني، إن رسول الله ﷺ أذن للظعن. ومثله قاله ابن عمر حين دفع من مزدلفة بأهله من الليل. وكلها لا تدل على تحديد ولا تقييد.
ونتيجة الجواب عن هذا السؤال: أن حج هؤلاء يعتبر صحيحًا بدون دم، إذ هو نظير ما فعلته أم سلمة زوج النبي ﷺ كما في حديث عائشة. قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم، وهو جنس ما فعله هؤلاء من دفعهم من مزدلفة إلى الجمرة، ثم إلى مكة؛ لطواف الإفاضة بطريق القسر غير مختارين. وهو غاية وسعهم والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
ولأن الحاج بعد انصرافه من عرفة يمر بمزدلفة في طريقه. وقد قال الفقهاء: إن حكم من مر بعرفة حكم من وقف بها في تمام حجّه، ومثله من مر بمزدلفة ولم يقف بها، ثم إن بقية مناسك الحج التي تفعل بعد الوقوف بعرفة، مثل المبيت بمزدلفة، والرمي، وطواف الإفاضة، كلها من الأمور التي رفع رسول الله ﷺ فيها عن أمته الحرج في تقديم شيء على شيء منها. فإنه ما سئل يوم العيد عن شيء قُدم ولا أخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ»[28].
وبما أنها حصلت الرخصة من النبي ﷺ في الدفع بالليل للظعن والضعفة بدون تحديد ولا قيد، فإن أكثر الناس في حالة هذا الزحام الشديد قد صاروا بمثابة الظعن والضعفة، بل أشد في حالة استعمال هذه الرخصة التي قصد بها التسهيل، فيسروا ولا تعسروا. وقد قال الإمام مالك: إن المبيت بمزدلفة سنة مؤكدة. وقال الإمام الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. وقال الإمام أبو حنيفة: ليس عليه شيء في تركه، قاله في الإفصاح. وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة والشافعية المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة، قال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى، ولا مزدلفة، وقيل: أهل الأعذار كالمريض ومن له مال يخاف ضياعه، حكمه حكمهم في ترك البيتوتة. قال في الكشاف : جزم به الموفق، والشارح، وابن تميم. وهذا كله يرجع إلى كون الدين مبنيًّا على جلب المصالح ودفع المضار.
[27] أخرجه مسلم وأحمد من حديث جابر. [28] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.
قال الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ﴾ [البقرة: 196]. فأوجب سبحانه ذبح الهدي على المتمتع من أجل ترفهه باستعمال المباحات من الطيب والنساء، ولبس الثياب فيما بين الحج والعمرة. كما أوجب الدم على القارن من أجل أنه قرن بين الحج والعمرة بعمل واحد، واكتفى عنهما بطواف واحد، لدخول الحج في العمرة إلى يوم القيامة. فوجب عليه من أجله ذبح نسك، وهو ما يجزئ في الأضحية.
وهذا الدم هو دم نسك وليس بدم جبران، لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد أو أيام التشريق كالأضحية ويسمى أضحية.
والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد، فقال في خطبته: ««أي يوم هذا؟ أليس هو يوم النحر؟» قالوا: بلى[29]». ويسمى يوم النحر؛ لأن جميع المسلمين ينحرون فيه. فالحجاج ينحرون نسكهم، وأهل البلدان والأمصار ينحرون فيه أضاحيهم.
وذهب الإمام الشافعي: إلى أن دم المتعة والقران دم جبران، وبنى عليه القول بجواز ذبحه في اليوم السابع، أو الثامن أي قبل العيد وخالفه كافة العلماء في ذلك. وحققوا بأنه دم نسك. وأنه لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد وأيام التشريق. والنبي ﷺ لما أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوا سعيهم عن العمرة؛ أنه أبدى الأسف في سوقه الهدي معه؛ والذي امتنع بسببه عن أن يحل من إحرامه. فقال: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ ما سقت الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً». فقام سراقة بن مالك بن جعشم، قال: «يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟» فقال: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[30].
فالرسول قد تمنى التحلل من إحرامه بعد سعيه، كما فعل أصحابه. لكنه مأمور بأن لا يحل منه حتى ينحر هديه الذي ساقه معه. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۚ﴾ [البقرة: 196]. فمحله الزماني هو يوم العيد، وأيام التشريق. كما أن محله المكاني هو منى، وفجاج مكة كلها منحر. فمن نحر دم التمتع قبل العيد؛ فهو كمن ذبح أضحيته قبل العيد، والنبي ﷺ خطب الناس فقال: «إنا نريد أن نصلي، ثم ننحر، من فعل هذا قد أصاب سنتنا، ومن فعل غير ذلك؛ فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله»[31]. فمن ذبح دم نسكه في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع، فإنما هو دم لحم وليس من النسك في شيء. ويسقط دم المتعة والقران بإحداثه سفرًا مسافة قصر فيما بين الحج والعُمرة، كأن يسافر إلى المدينة، أو إلى الطائف، أو إلى جدة، فيسقط عنه دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة. قال ناظم المفردات:
مسافة القصر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقران
سقوطه فواضح البرهان
وقد استغل هذا القول المطوفون، وأخذوا يشغلون به أذهان الناس ليتعجلوا به أكل اللحم، وانخدع لقولهم أكثر الغرباء الذين يجهلون أحكام الشرع.
وبعض العلماء غير المحققين عندما يرى عظمة مصرع الحيوان بمنى وكونه يركم بعضه بعضًا ولا يأكلها الناس رأى أن يتوسط بالقول في إباحة ذبحه في اليوم السابع أو الثامن، كأنه بذلك يريد التخفيف من الذبح بمنى، وهذا من باب الاستشفاء عن الداء بالداء. إذ لو سُمح للناس بأن يذبحوا نسكهم في اليوم السابع أو الثامن فإن البيوت والشوارع والأزقة تكون منتنة مجيفة من إلقاء الجيف فيها، والفرث والدم في وقت هي مغلقة بكثرة الحجاج، بحيث لا يتمكن عمال البلدية من دخولها لتنظيفها، فينجم عن ذلك سوء النتائج، من تعفن الهواء الذي قد ينجم عنه الوباء، والوقاية خير من العلاج.
إذا استشفيت من داء بداء
فأكثر ما أعلك ما شفاك
[29] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [30] أخرجه مسلم من حديث جابر. [31] متفق عليه من حديث البراء بن عازب.
ثم ركب رسول الله ﷺ راحلته فجعلوا يسألونه فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ». فرفع الحرج عن الناس في جميع ما قدموه أو أخروه من بقية مناسك الحج، حتى سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت. فقال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ»[32]. وهذا الحديث في الصحيحين عن ابن عباس. وهو نص صريح في جواز تقديم رمي الجمار قبل الزوال، أو تأخيرها عن هذا الوقت، فيجوز رميها في أية ساعة شاء من ليل أو نهار أشبه النحر والحلق، وأشبه طواف الإفاضة - الذي هو ركن الحج - فقد طاف رسول الله ﷺ وأصحابه يوم العيد بعدما أكلوا من لحم هديهم، وشربوا من مرقه.
ثم قال العلماء بجواز التوسعة في فعله، وأنه يطوف في أية ساعة شاء من ليل أو نهار من يوم العيد، أو سائر أيام التشريق.
فلا أدري ما الذي جعلهم يشددون في عدم جواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق؛ وهو عمل يقع بعد التحلل الأول، وفيه حديث: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ». رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عائشة. وإذا طاف طواف الإفاضة فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث يباح له كل ما يفعله من سائر المباحات من الطيب والجماع وغير ذلك. ولو مات لحكم بتمام حجه، قاله في الإقناع. وقال أيضًا: إنه لو أخر رمي الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد ثم رماها كلها في اليوم الثالث أجزأه ذلك أداءً لاعتبار أن أيام منى كالوقت الواحد، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية؛ لكونه قد وقع التسهيل، والتيسير من النبي ﷺ في بقية واجبات الحج، التي تفعل يوم العيد، وأيام التشريق، حيث إنه لم يُسأل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ»[33]. وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
من ذلك: أن العباس استأذن النبي ﷺ أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقاية الحاج فأذن له في ذلك، ولم يأمره باستنابة من يرمي بدله، كما أنه رخص لرعاة الإبل في البيتوتة بعيدًا عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد وبعد الغد ليوم النفر، وقيس عليه كل من يخاف على نفسه وماله. والله أعلم.
[32] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [33] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.
إن الأصل في هذا هو قول النبي ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[34]. فكما أن واجبات الصلاة تسقط عمن لا يستطيعها؛ فكذلك واجبات الحج. فإنها تسقط عمن لا يستطيعها؛ لأن واجبات الصلاة آكد من واجبات الحج، بحيث إن واجبات الصلاة لو تعمد ترك واجب منها بدون عذر بطلت صلاته، بخلاف واجبات الحج، فإنه لو تعمد ترك واجب بدون عذر لم يبطل حجه وإنما عليه دم.
ومتى كان أصل فرض الحج يسقط عمن لا يستطيعه بنص القرآن، فما بالك بسقوط الواجب المعجوز عنه؛ إذ هو أولى بالسقوط بدون استنابة. وليس عندنا ما يثبت الاستنابة في واجبات الحج عند العجز عنها.
لهذا أفتينا ضعاف الأجسام، وكبار الأسنان، والمصابين بالمرض، من رجال ونساء - الذين لا يستطيعون الوصول إلى الجمار- بأن الرمي يسقط عنهم بدون استنابة ولا دم عليهم، كما أن أصل الحج يسقط عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بنص القرآن، فما بالك بسقوط الرمي عمن لا يستطيعه إذ هو من باب الأولى والأحرى.
وقد أسقط النبي ﷺ طواف الوداع عن الحائض بدون استنابة. وقد عده الفقهاء من واجبات الحج. وهذا واضح جلي لا مجال للجدل في مثله، إذ ليس عندنا ما يثبت صحة التوكيل في سائر واجبات الحج أو مستحباته.
[34] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
فلما أكل رسول الله ﷺ من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بها طواف الحج، ولم يثبت عنه أنه سعى بل اكتفى بسعي القدوم عن الحج والعمرة؛ لكون القارن يكفيه سعي واحد عن الحج والعُمرة. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم أن المتمتع يكفيه سعي واحد عن حجه وعمرته، كالقارن، إذ هما في الحكم سواء، وهذا معنى قول النبي ﷺ «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[35]. إذ الدخول هو أن يكتفى بسعي أحدهما عن الآخر، وهذا هو نفس ما فعله الصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، ثم طافوا مع النبي ﷺ طواف الإفاضة، ولم يعيدوا السعي اكتفاء بسعي العمرة. فاكتفاء الرسول ﷺ بسعي واحد عن حجه وعمرته، هو أمر مسلم لا خلاف فيه؛ لكونه قارنًا. والصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، لم يثبت تخلفهم عنه؛ لاستئناف سعي ثانٍ لحجهم. وبذلك تظهر فائدة دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وكونه يكتفى بطواف أحدهما وسعيه عن الآخر.
ونحن لا نشك في صحة حج من اكتفى بسعي واحد عن حجه وعمرته في حج التمتع كالقارن على حد سواء. كما هو فعل الصحابة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم. وبما أننا نخشى أن يلقى هذا الحاج أحدًا من أهل العلم الذين لم يفقهوا في المسألة حق الفقه، فيقول له: بطل حجك، فيعود باللائمة على نفسه وعلى من أفتاه؛ لهذا فإن الأحوط في حق هذا أن يسعى مع طواف الإفاضة حتى يكون مطمئنًّا من اللائمة مع العلم بأننا لا نشك في صحة حج من اقتصر على سعي واحد والله أعلم.
ثم أتى رسول الله ﷺ زمزم. وقال: «انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»[36] فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم. وصلى بالناس الظهر بالمسجد الحرام قصرًا، ولما فرغ من صلاته قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[37].
وفي اليوم الثاني جلس رسول الله ﷺ وجعلوا يسألونه فما سئل عن شيء قُدم ولا أُخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ»[38]، حتى إذا زالت الشمس، قام وقام الناس معه يتبعونه حتى أتى الجمرة الأولى فرماها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم أسهل في الوادي، وأخذ يرفع يديه يدعو ويتضرع طويلاً، والناس صفوف خلفه يدعون ويتضرعون، ثم أتى الجمرة الوسطى، ففعل ذلك، ثم أتى إلى جمرة العقبة فرماها ولم يقف عندها - قيل لضيق المكان - ثم انصرف بالناس وصلى بهم صلاة الظهر بمسجد الخيف من منى، فصلى بهم ركعتين قصرًا من غير جمع.
ومن هدي رسول الله ﷺ أنه كان يقصر الصلاة بمنى أيام منى ولا يجمع[39]
ولم يحفظ عن رسول الله ﷺ منذ دخل مكة إلى أن خرج منها أنه جمع بين الصلاتين إلا في عرفة؛ جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم؛ لاتصال الوقوف، وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وما عدا ذلك فإنه يقصر الصلاة ولا يجمع. قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ولعل السبب في تأخيره رمي الجمار إلى الزوال أنه يريد أن يخرج بالناس مخرجًا واحدًا للرمي وللصلاة في مسجد الخيف؛ ليكون أسمح وأيسر لهم.
ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال لا ترموا الجمرة حتى تزول الشمس حتى يكون فيه حجة لمن حدده. وأما قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[40] فإن مناسكه تشمل الأركان، والواجبات، والمستحبات، وأما تحديد الفقهاء للرمي أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب، فإنه تحديد خال من الدليل، وقد أوقع الناس فيه الحرج والضيق لكون الجمع كثير، وزمن الرمي قصير، وحوض المرمى صغير، وصار الناس يطأ بعضهم بعضًا عنده، والنبي ﷺ قد بين للناس ما يحتاجون إليه، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير فيما يفعلونه في يوم العيد وأيام التشريق إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ». فنفى وقوع الحرج عن كل شيء من التقديم والتأخير، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي عليه السلام، للناس بنص جلي؛ قطعي الرواية والدلالة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. والحالة الآن، وفي هذا الزمان، هي حالة حرج ومشقة وضرورة، توجب على العلماء إعادة النظر فيما يزيل عن أمتهم هذا الضرر، ويؤمن الناس من مخاوف الوقوع في هذا الخطر الحاصل من شدة الزحام، والسقوط تحت الأقدام، حتى صاروا يحصون وفيات الزحام كل عام، إذ هو من باب تكليف ما لا يستطاع، ولا يلزم بتركه مع العجز عنه دم، وصار الحكم بلزومه مستلزمًا للعجز عنه، والله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
[35] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [36] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [37] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر. [38] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو. [39] متفق عليه من حديث ابن عمر. [40] أخرجه مسلم والنسائي والبيهقي في الكبرى من حديث جابر.
وقد عد الفقهاء المبيت بمنى من واجبات الحج، وقد أنزل الله فيه: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ﴾ [البقرة: 203]. فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والنبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[41] وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد. فمن تعجل بالانصراف في اليوم الثاني فلا إثم عليه، وإنما وجب المبيت بمنى من أجل تكميل بقية الحج، الذي يفعل فيها من الرمي والنحر والحلق، ولكن متى ضاقت منى بالناس، فإنه من الجائز أن ينزلوا بما جاورها من أرض مزدلفة أو عرفة أو محسّر؛ لكونها ضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[42]. ولأن ما جاور الشيء يعطى حكمه، أشبه المسجد الحرام، حيث أدخل فيه كثير من البيوت بما اشتملت عليه من المرافق والمنافع، وصار حكمها حكم المسجد الحرام، ويلتحق الزائد بالمزيد في الفضيلة. ومثله الوقوف بعرفة. فقد قال النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَجَمْعٌ - أَيْ: مُزْدَلِفَةَ - كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[43]. فوسع النبي ﷺ للناس في مواقفهم. فمتى ضاق الموقف بالناس جاز الوقوف بما جاوره، كما جازت الصلاة في الطرق عند مضيق الناس وزحمتهم، كما أن في إحدى الروايتين عن أحمد أن المبيت بمنى سنة ولا دم في تركه، اختارها عبد العزيز صاحب الشافي ، وهي مذهب أبي حنيفة. قاله في الإفصاح.
ثم إن رسول الله ﷺ وأصحابه في اليوم الثالث دفعوا إلى مكة، ونزلوا بالأبطح حتى باتوا بها، فقال بعض الناس، إن النزول بالأبطح سنة، فقالت عائشة: إنما نزل بالأبطح ليكون أسمح لخروجه[44].
وفي آخر الليل دفع رسول الله ﷺ منه إلى المسجد الحرام، فطاف طواف الوداع وقيل له: إن صفية قد حاضت. فقال: ««أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ هَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟» قالوا: نعم. قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ»»[45]. فدل على أنه لا يجب على الحائض طواف الوداع، ولا الاستنابة فيه لسقوطه عنها.
ثم قيل له: «إن أم سلمة شاكية لا تستطيع الطواف. فقال: «لِتَطُفْ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ»[46] قالت: فطفت على بعير من وراء الناس، ورسول الله يصلي بالناس صلاة الفجر ويقرأ فيها بالطور، فما رأيت أحسن قراءة منه. ثم سافر رسول الله ﷺ إلى المدينة.
يسأل بعض الناس: هل الأفضل للحاج أن يبدأ بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة؟
والجواب: أنه لا مشاحة في ذلك، وبداءته بجعل المدينة هي طريقه إلى مكة أفضل من إنشائه السفر إلى القبر. ويجب عليه أن يحرم عندما يتوجه إلى مكة من موضع ما يحرم منه أهل المدينة، لكون المواقيت للبلدان هي لأهلها، ولمن مرّ عليها من غيرهم. فقول النبي ﷺ: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم»[47]. ثم قال: «هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة». متفق عليه من حديث ابن عباس.
وتعيينه المواقيت لأهل هذه البلدان قبل إسلام أهلها، هي من معجزات نبوته ﷺ كما قال الناظم:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
وقد قال النبي ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ»[48].
وإنما استحب العلماء زيارة المدينة لأجل الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ لحصول المضاعفة بالصلاة فيه، ومشاهدة آثاره، لكنه يستحب للحاج متى وصل إلى المدينة ودخل المسجد النبوي أن يزور قبر رسول الله ﷺ، وقبر صاحبيه ويسلم عليهم، مع العلم أنه لا علاقة لزيارة المدينة في الحج، بل الحج صحيح بدونها. وأما حديث «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي». فإنه حديث مكذوب على رسول الله بتحقيق علماء الحديث، بل الحديث الصحيح هو قول النبي ﷺ «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا - أي تعتادون مجيئه - وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، - أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها - وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ».
وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ. فيدخل فيها ويدعو فنهاه. فقال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[49] فلا معنى لهذا الزحام عند القبر ولا التمسح بجدار الحجرة والشبابيك فكل هذا يعد من الغلوّ الذي نهى عنه رسول الله، فالذي يصلي ويسلم على رسول الله في مشارق الأرض ومغاربها والذي يصلي ويسلم عليه عند حافة قبره هما في التبليغ سواء. وليس الذي يصلي ويسلم عليه عند جانب قبره بأفضل من الذي يصلي عليه في بيته، أو في مسجد قومه، أو في أي بقعة من مشارق الأرض أو مغاربها؛ لأن الله وكل ملائكته الكرام يبلغونه سلام أمته.
وقد أمرنا بأن نقول في صلاتنا - السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وعلم الرسول أصحابه كيفية الصلاة عليه فقال: قولوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[50]. وهذه هي أفضل صيغة في صفة الصلاة على النبي ﷺ. وكما أمرنا بعد إجابتنا لنداء الصلاة بأن نقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»[51] وهذا كله حماية منه لجناب التوحيد وسد لطرق الشرك؛ لأن الذي يدعى له لا يدعى من دون الله.
والصلاة على النبي ﷺ: هي من أفضل الطاعات، وأجل القربات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرًا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾ [الأحزاب: 56]. والنبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[52]. وقال: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[53] فمحبة الرسول الطبيعية لا تغني عن محبته الدينية. فالمحبة الصادقة توجب طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، لا بمجرد الهوى والبدع.
وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١﴾ [الأحزاب: 56]. فمعناه بالضبط: إن كنتم تحبوني فاتبعوني وأطيعوا أمري يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.
فمن البدع كون بعض الناس بالمدينة متى سلموا من صلاة الفرض، نفروا وقاموا إلى القبر يسلمون على رسول الله ﷺ وقد عده الإمام مالك بدعة! لأنه ليس من عادة الصحابة، ولا السلف الصالح أنهم يفعلون ذلك، وإنما يكتفون بتسليمهم عليه في صلاتهم، حيث يقولون: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ». وهذا السلام بهذه الصفة كافية، ولن يضيع عند الله ولا عند نبيه وحبيبه محمد ﷺ.
وأعظم من هذا دعاؤهم واستغاثتهم برسول الله ﷺ كأن يقولون: يا محمد اشفع لي، يا محمد أنقذني، يا محمد أنقذ أمتك من المهالك. ومثله قول بعضهم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العمم
فهذا كله يعد من الشرك الأكبر الذي لا يغفر، ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ [المائدة: 5]. ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ [المائدة: 72]. والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»[54]. وكل من دعا الرسول ﷺ واستغاث به فقد عبده لأن الدعاء مخ العبادة!
وأخبر سبحانه بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦﴾ [الأحقاف: 5-6]. فسمى الله دعاءهم عبادة؛ لأن من دعا مخلوقًا فقد عبده. وقال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠﴾ [يونس: 106]. فأخلصوا الدعاء لربكم، وأكثروا من الصلاة على نبيكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[41] أخرجه مسلم عن نبيشة الهذلي. [42] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [43] أخرجه مسلم وأحمد من حديث جابر. [44] متفق عليه من حديث عائشة. [45] متفق عليه من حديث عائشة بنحوه. [46] أخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة بنحوه. [47] رواه مسلم عن ابن عباس. [48] رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن الزبير. [49] رواية أبي داود «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا». [50] متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. [51] أخرجه البخاري عن جابر. [52] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أوس بن أوس. [53] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة. [54] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة دون لفظ: «يعبد».
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته؛ أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56]. ويقول أيضًا: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾ [الحجر: 99].
فهذه العبادة التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بالاستقامة عليها، واستدامة فعلها حتى يلاقوا ربهم - تنقسم إلى فرائض وإلى نوافل.
فالفرائض بمثابة رأس المال؛ لأن الله فرض الفرائض فلا تضيعوها. والنوافل بمثابة الربح، ولا ربح إذا لم يصح رأس المال. وحكمة النوافل أنها يُرقع بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها. كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يأتي بصوم مرقع فليفعل، ومن حكمة النوافل أنها من أسباب محبة الرب للعبد فتجعله من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣﴾ [يونس: 62-63]. كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[55].
فأفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، هو المحافظة على الفرائض الواجبات، ثم التزود بعدها بنوافل التطوعات. وهذه التطوعات بعضها آكد من بعض؛ لأن منها ما هو مقصور النفع على فاعله، مثل: نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فلا ينتفع الناس بعمل الشخص في مثل هذه التطوعات.
أما المتعدي نفعه إلى الغير فهو: مثل عمل الصدقة، والصلة، وسائر الأفعال الخيرية التي ينتفع بها الناس، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير أفضل من العمل المقصور على النفس، لهذا ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوعات ما هو أصلح لقلبه، وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، وكذا عكسه.
من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين، وعلى الفقراء والمضطرين، أفضل من حج التطوع، سواء كان حجه عن نفسه، أو عن والديه وأقاربه الميتين، لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة، وشدة فاقة، لا سيما عند قرب العيد وفي عشر ذي الحجة التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة. فتشتد حاجة الفقير لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولأهله وعياله، فتقع الصدقة بالموقع الذي يحبه الله من تفريج كربه وقضاء حاجته.
وكل من تأمل القرآن والحديث، فإنه يجد فيهما الحث والتحريض بفنون من التعبير، كلها تحفز الهمم، وتنشط الأمم إلى الكرم، وقد مدح الله الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتًا من أنفسهم، أي يطمئنون ويوقنون بأن ما أنفقوه يخلف عليهم، كقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ﴾ [البقرة: 245]. وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا يدرك المتصدق والمزكي سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة في ماله، حتى في يد وارثه ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف ومن حرم انحرف.
وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الصدقة والصلة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والقطيعة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.
إن أكثر الناس يكسلون عن النفقة فيما هو من واجبهم، وفي الأمر المرغب فيه في حقهم، فتراهم يكسلون عن أداء الزكاة الواجبة، وعن الصدقة على الأرحام، وعلى الفقراء والمضطرين، ولكنهم ينشطون على النفقة في سبيل حج التطوع، وهم قد حجوا ثم حجوا. فيتركون العمل الواجب عليهم، والفاضل في حقهم، ويعدلون عنه إلى العمل المفضول، والذي تركه أفضل من فعله.
وإنني أقول على سبيل النصيحة رجاء أن تعيها أذن واعية: أما الشخص الذي لم يقض فريضة حجة الإسلام، فإنه يجب عليه أن يبادر بقضائها ما دامت الفرصة ممكنة، فإن الفرص تمر كمر السحاب وبالحج يستكمل أركان الإسلام.
أما هؤلاء الذين قضوا فريضة الحج، وأرادوا أن يتزودوا بالنوافل، فإن الأفضل في حقهم صرف ما سينفقونه على الفقراء والمضطرين وسائر فقراء المسلمين في داخل البلاد وخارجها؛ لأن الصدقة على الفقراء والمضطرين لها موقع عظيم في مثل هذه الأيام الفاضلة، وخاصة عشر ذي الحجة التي العمل فيها أفضل من العمل في غيرها.
وإن كان أحدهم مدينًا وجب عليه أن يصرف نفقته إلى قضاء دينه ليعتق نفسه من ذل المطالبة بالدين؛ فإن الدين همٌّ بالليل وذل بالنهار، ولأن قضاء الدين واجب، والتطوع بالحج مستحب، أو أنه مكروه في حقه، فلا يقدم المستحب أو المكروه على الواجب.
إن من النساء في وقت الحج من تقلق راحة زوجها في مطالبته بالحج بها. فتلجئه بإلحاحها إلى الحرج والمشقة وتحمل الديون المرهقة، ثم تخليه عن العمل الذي هو كسبه، وفيه معيشة عياله، فيتحمل هذا كله في سبيل رضاها والحج بها. ولعلها قد قضت فرضها، ثم حجت مرة بعد أخرى، وهذه تعتبر مأزورة غير مأجورة، فإن الأفضل في حقها هو طاعة زوجها، ثم الإكثار من عبادة ربها في بيتها، فتصوم وتصلي وتتصدق. فإن النبي ﷺ لما حج نساؤه قال لهن: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ»[56]، أي الْزَمْنَ الجلوس في البيوت، فبعضهن لم تفارق بيتها، لا لحج ولا لعمرة، حتى توفاها الله. منهن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.
إن الصدقة بما سينفقه في حج التطوع هي أفضل من حج التطوع لكون الصدقة من العمل المتعدي نفعه إلى الغير فتصادف الصدقة من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فصدقته تقع بالموقع الذي يحبه الله، وتكون أفضل من تطوعه بحجه وعمرته.
ومثله الذين يضحون لوالديهم الميتين، فإن الصدقة عن والديهم أفضل من ذبح الأضحية، فإنه لا أضحية للميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحي شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وتأسيًا بأبينا إبراهيم، ونبينا محمد، عليهما الصلاة والسلام، وحتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهم في أعيادهم من القرابين، والله سبحانه أمر بالحج في آية واحدة؛ لكنه أمر بالصلاة والصدقة وسائر الأفعال الخيرية أكثر من ثلاثمائة مرة، وتكرار ذكرها هو مما يدل على فضل فعلها.
وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.
وما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة، فلو جربتم لعرفتم. وصدق الله العظيم ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
إن أكثر الناس قد غلب عليهم حب الشهرة، فجعلوا الحج والعُمرة بمثابة سفر النزهة كي يقال: حج فلان، وحجت فلانة. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحًا، وابتغي به وجهه؛ لهذا نرى خشوع العبادة قد غرب عن قلوب الناس في مشاعر الحج ومشاهده، فالركب كثير والحاج قليل.
وإنني أقول على سبيل النصيحة لهؤلاء الذين يتطوعون بالحج كل عام، أو عامًا بعد عام، وأخص أهل مكة، وأهل البلدان المجاورة للبلد الحرام من سائر بلدان المملكة العربية السعودية وأهل الخليج وما حولهم، وأن الأفضل في حق هؤلاء هو الإكثار من عبادة ربهم في بلدهم، فيكثرون من الصلاة والصيام والصدقة، ويصرفون ما سينفقونه في حجهم إلى الفقراء والمساكين والمضطرين وسائر أفعال الخير، فإن هذا أفضل من تطوعهم بحجهم وعمرتهم.
أضف إلى ذلك أن المجاورين بالبلد الحرام، والذين يترددون للحج عامًا بعد عام، بأنهم يتعرضون للأضرار ومواقع الأخطار، من تصادم السيارات وانقلابها، ويصيب الناس الضرر الشديد منهم بتضييقهم على الناس بسياراتهم وخيامهم ومسالك طرقهم ومشاعر حجهم. وفي الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، حتى لا يكاد يجد الإنسان مكانًا لموضع جبهته في المسجد الحرام، وكله من شدة زحمة المجاورين للبلد الحرام، والذين يترددون إلى الحج عامًا بعد عام.
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أهل مكة بأن يخلوا المطاف للحجاج الغرباء. فاحتساب التوسعة على الناس في هذا الزمان فيه فضل، ولفاعله أجر، ونيته تَبْلُغ مبلغ عمله.
وإنني أنصح كبار الأسنان وضعاف الأجسام من رجال ونساء الذين يشق عليهم الزحام ويخشى من سقوطهم تحت الأقدام، متى قضوا فرضهم بأن يلزموا أرضهم، ويكثروا من عبادة ربهم في بلدهم، فإن أبواب الخير كثيرة؛ وليس الحج من أفضلها، وليحافظوا على حياتهم وصحتهم، فلا يتعرضوا للبرد القارص، ولا للحر القاتل. فإن البرد سريع دخوله، بطيء خروجه، ويتزايد ضرره، ويعظم خطره في أوله. كما قال علي رضي الله عنه: اتقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يعمل في الأبدان كعمله في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق[57].
هذا وإن الوقاية خير من العلاج، ونية المؤمن تبلغ مبلغ عمله؛ والحمد لله الذي جعل الحج فرض في العمر مرة واحدة، ولم يفرضه على التكرار، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]. ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا﴾ [النساء: 29].
أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[55] رواه البخاري عن أبي هريرة. [56] أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي في الكبرى عن أبي واقد الليثي. [57] ذكره المناوي في فيض القدير.
الحمد لله رب العالمين. وبه نستعين. ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كلما أحرموا من الميقات، الله أكبر كلما لبّى الملبّون وزيد في الحسنات، الله أكبر كلما طافوا بالبيت وضجت الأصوات بالدعوات، الله أكبر كلما وقفوا خاضعين بعرفات. فسبحان سامع تلك الأصوات، وسبحان مجيب الدعوات، وسبحان العالم بما مضى من خلقه وما هو آت. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله الذي شرع لعباده أنواع العبادة ويسّر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصّر، وجعل لهم بكمال حجهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر.
أحمده سبحانه وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الخلق فقدّر، وشرع ويسّر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه. واعلموا رحمكم الله؛ أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام، وبلوغ عيد حج بيت الله الحرام. وأن يومكم هذا يعد من أكبر الأيام شعائر، ومن أعظمها مناسك ومشاعر، أطلعه الله عليكم سعيدًا، وجعله لكم نسكًا وعيدًا.
شرفت به أيام التشريق، وأفاض الحجاج فيه من المشعر الحرام إلى البيت العتيق، تهرق فيه دماء الأضاحي، ويطلع الرب فيه على عباده ويباهي فهو يوم الحج والمنحر، وعيد الله الأكبر. يجتمع فيه الحجاج بمنى لقضاء مناسك الحج، ويتقربون إلى الله فيه بالعج والثج. يُحيون سنة أبيهم إبراهيم بما يذبحونه من القرابين، فهو عيد لاستكمال مناسك حجهم، كما أن عيد الفطر عيد لاستكمال شهر صومهم. فهما عيدا أهل الإسلام، ولأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما؛ إكبارًا لأمرهما، وإشهارًا لشرفهما.
﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
والأضحية سنة في حق الحي. سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ونزل فيها قرآن يتلى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2].
وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسمنون الأضاحي في بيوتهم حرصًا على هذه الفضيلة. وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.
وعن زيد بن أرقم قال: «قلنا، أو قالوا: يا رسول الله. ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ» قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ». قالوا: فالصوف؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[58].
وأهدى رسول الله ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة. أي مائة ناقة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده عدد عمره الشريف، وكن يزدلفن بين يديه؛ أي تبرك الناقة قبل الأخرى.
وضحّى عام لم يحج بكبشين أملحين أقرنين، ذبح أحدهما بيده. وقال: ««بِاسْمِ اللهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَآلِ مُحَمَّدٍ» ثم ذبح الثاني، وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاَغِ»»[59]. فلا تحزن أيها العاجز الفقير، فقد ضحى عنك البشير النذير.
وقد قال قوم من أهل العلم بوجوب الأضحية على الغني المقتدر، لما روي أن النبي ﷺ قال في يوم العيد: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ فَلَمْ يُضَحِّ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا»[60].
والأضحية إنما شرعت في حق الحي الغني شكرًا لنعمة بلوغه العيد.
أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد، لم نجد لها دليلاً صحيحًا يأمر فيها - بالأضحية- عن الميت، أو يشير إلى وصول ثوابها إليه. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أنه أوصى أن يضحى عنه بعد موته، أو أنه وقف وقفًا في أضحية. فليس لها ذكر عندهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم لموتاهم. فلو كانت الأضحية عن الميت سنة، أو أنه يصل إلى موتاهم ثوابها بعد موته لسبقونا إلى فعلها.
وإنما أرشد النبي الأولاد إلى الصدقة عن والديهم إذ هي أفضل من الأضحية.
عباد الله: الصلاة الصلاة، فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فمنزلتها من الدين كمنزلة الرأس من الجسد، فلا دين لمن لا صلاة له، فهي الفارقة بين أهل الكفر والإسلام لقول النبي ﷺ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[61]. وكان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين أي إنسان سألوا عن محافظته على الصلاة، فإن حدثوا بأنه محافظ على الصلاة في الجماعة علموا أنه ذو دين، وإن حدثوا بأنه لا يشهد الصلاة علموا أنه لا دين له، وكل من لا دين له فإنه جدير بفعل كل شر، بعيد من كل خير، يستوجب البعد عن وظائف التعليم، لأنه يعدي بدائه، ولأن الخائن صلاته التي هي أمانة ربه، جدير بأن يخون أمته وأهل ملته ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ﴾ [التوبة: 11].
واستعينوا على تربية أولادكم بأخذهم إلى الصلاة في المساجد معكم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بمجاهدة الولد عليها والأخذ بيده إليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، فهي الوازع للفرد، تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتكون سببًا لانشراح صدره وسعة رزقه. وإنكم متى أهملتم تربية أولاكم، فلم تهذبوهم على حب الصلاة والصيام، وسائر شرائع الإيمان، فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦﴾ [الزحرف: 36]. يقول الله تعالى: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسَۡٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢﴾ [طه: 132].
وأدوا زكاة أموالكم، فإنها سبب لسعة أرزاقكم، وكأنها بمثابة محك التمحيص لصحة إيمانكم، أوما علمتم أنها إنما سميت زكاة من أجل أنها تزكي المال، بأن تكثره وتوفره وتطهره، كما تزكي إيمان مخرجها من درن الشح والبخل والهلع؟ ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
وأقسم النبي ﷺ بأنها ما نقصت الزكاة مالاً بل تزيده. فاتخذوها عند الله مغنمًا، ولا تجعلوها مغرمًا، وعليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، فواصلوهم بالتحف والهدايا وأنواع الإكرام، وزوروهم للسلام عليهم بالأقدام، فإن الأرحام متى تجالسوا وتزاوروا تعاطفوا، ومتى تباعدوا تقاطعوا. فمن وصل رحمه أوصل الله إليه بالخيرات، وبسط له في حاله وماله البركات، ومن قطع رحمه قطع الله عنه الخيرات، وحرمه أنواع البركات، وعاقبه بالوقوع في الأزمات والحاجات، «وَلَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الذي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»[62].
والرحم هم: أمك، وأبوك، وأختك، وأخوك، وعمك، وخالك، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ»[63]. أي تكثر المال وتنزل البركة في العمر.
واغتنموا في هذا اليوم إطفاء ثائرة العداوة والأحقاد فيما بينكم، فمن كان بينه وبين أخيه ورحمه أو جاره شيء من العداوة والبغضاء فليرض الرحمن ويغضب الشيطان، ويسعى في إزالة العداوة والهجران، ثم يلقه فيسلم عليه، ليحوز الأجر الجزيل، والفضل العظيم، حيث يأمرنا سبحانه بقوله: ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ﴾ [فصلت: 34]. وهجر رجل أخاه سَنَة، كسفك دمه، «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»[64].
وعليكم بأداء الأمانة، فإنها عنوان الديانة. ففي الحديث «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»[65]. ولأن المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب، فأيما رجل استؤمن على حفظ مال لتاجر أو حكومة أو شركة، ثم اختلس ما استؤمن عليه بطريق التلصص الخفي، والخيانة والغدر، فإنه يبتلى في الدنيا بالفاقة والفقر، ويبعث يوم القيامة غادرًا خائنًا. ﴿وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [آلعمران: 161]. والله لا يصلح كيد الخائنين.
وإياكم والربا فإن عاقبته نار وعار، والذين يأكلون الربا إنما يأكلون في بطونهم نارًا. والربا أنواع؛ أشده وأشره الذين يستدينون من البنوك النقود إلى أجل، ومتى حل الأجل أضافوا زيادة في الثمن، ومدوا في الأجل، وهذا هو عين ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، وأنزل الله في الزجر عنه القرآن، ولعن رسول الله ﷺ آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة: 275]. وقلب الدين على المعسر يعد من الربا، ومن أنواع الربا: الاتجار في الأعيان المحرمة، كبيع الخمر ولحم الخنزير، والصور المجسمة، فلا يقولن أحدكم إنما أبيعها على النصارى فإن الله إذا حرم شيئًا، حرم بيعه وشراؤه وثمنه. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»[66]، فـ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ»[67].
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، واجتنبوا ما حرم عليكم، واستقيموا على الجادة قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ ٥٦﴾ [الزمر: 56].
[58] رواه ابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم. [59] رواه أبو داود من حديث جابر. [60] أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي في الكبرى عن أبي هريرة. [61] رواه من حديث بريدة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم. [62] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو. [63] رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي والحاكم عن أبي هريرة وقال الحاكم: صحيح وأقروه. [64] متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري. [65] أخرجه أحمد، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، والبيهقي في الكبرى، والطبراني في الأوسط عن أنس. [66] أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل. [67] أخرجه الدارقطني، وابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده، والطبراني في الكبير عن ابن عباس.
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين. ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كلما أحرموا من الميقات، الله أكبر كلما لبّى الملبون وزيد في الحسنات. الله أكبر كلما طافوا بالبيت وضجت الأصوات بالدعوات، الله أكبر كلما وقفوا خاضعين بعرفات فسبحان سامع تلك الأصوات، وسبحان مجيب الدعوات، وسبحان العالم بما مضى من خلقه وما هو آت. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي شرع لعباده أنواع العبادة ويسر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصر، وجعل لهم بكمال حجهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر، أحمده سبحانه وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق فقدر، وشرع ويسر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وكل آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله؛ أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لقصد أداء صلاة العيد. تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام، وبلوغ عيد حج بيت الله الحرام، وأن يومكم هذا يعد من أكبر الأيام شعائر، ومن أعظمها مناسك ومشاعر، أطلعه الله عليكم سعيدًا، وجعله لكم نسكًا وعيدًا، شرفت به أيام التشريق، وأفاض الحجاج فيه من المشعر الحرام إلى البيت العتيق، تهرق فيه دماء الأضاحي، ويطلع الرب فيه على عباده ويباهي. فهو يوم الحج والمنحر، وعيد الله الأكبر، يجتمع فيه الحجاج بمنى لقضاء مناسك الحج، ويتقربون إلى الله فيه بالعج والثج، يحيون سنة أبيهم إبراهيم بما يذبحونه من القرابين، فهو عيد لاستكمال مناسك حجهم، كما أن عيد الفطر لاستكمال شهر صومهم، فهما عيدا أهل الإسلام، ولأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما، إكبارًا لأمرهما، وإشهارًا لشرفهما.
﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
والأضحية سنة في حق الحي، سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً ونزل فيه قرآن يتلى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2]. وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسمنون الأضاحي في بيوتهم حرصًا على هذه الفضيلة، وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.
وعن زيد بن أرقم قال: «قلنا -أو قالوا-: يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».قالوا وما لنا فيها؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» قالوا: فالصوف؟ قال: «وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[68].
وأهدى رسول الله ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة؛ أي مائة ناقة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده، عدد عمره الشريف. وكن يزدلفن بين يديه، أي تبرك الناقة قبل الأخرى.
وضحى عام لم يحج بكبشين أملحين، أقرنين، ذبح أحدهما بيده وقال: ««بِاسْمِ اللهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ» ثم ذبح الثاني، وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاَغِ»»[69] فلا تحزن أيها العاجز الفقير، فقد ضحى عنك البشير النذير، وقد قال قوم من أهل العلم بوجوب الأضحية على الغني المقتدر، لما روي أن النبي ﷺ قال في يوم العيد «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ فَلَمْ يُضَحِّ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا»[70] فذبحها أفضل من الصدقة بثمنها في حق الحي، ومن الخطأ كون الإنسان يضحي عن والديه الميتين، وينسى نفسه.
وتجزئ الذبيحة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، والجماعة إذا اجتمعوا في بيت كالعيال عشرة أو عشرين جاز أن يضحوا بذبيحة واحدة عنهم كلهم بمثابة أهل البيت. وأفضل الأضاحي الخروف، سليم العيوب. وتجزئ العنز والتيس، والناقة عن سبع أضاحي، والبقرة والعجل عن سبع إذا تم لهما سنتان، وتجب التسمية عند الذبح. ووقت الذبح يوم العيد، وثلاثة أيام من بعده على القول الصحيح.
فذبح الأضحية في مثل هذا اليوم هي من العبادة لرب العالمين، كما أن الذبح للجن، والذبح للزار، والذبح للقبر يعد من الشرك المبين، ومن الشرك بالله الذبح لغير الله، وفي البخاري عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» أي: مراسيمها.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وهنا حديث رواه مسلم عن أم سلمة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ فَلَا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا».
فهذا الحديث قد اختلف العلماء فيه. فمنهم من أنكر صحته؛ منهم عائشة أم المؤمنين. ومنهم من حمل النهي على الكراهية، كما هو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك ورواية عن الإمام أحمد. ورجحها في الإنصاف. وأبعد الأقوال عن الصواب من قال أنه حرام. ومتى قلنا أن النهي للكراهية، فإن الكراهية تزول بأدنى حاجة، وعلى كل الأقوال فإنه لو حلق الشخص رأسه، أو أخذ شيئًا من شعر لحيته، أو قلم أظافره في عشر ذي الحجة، ثم أراد أن يضحي فإن أضحيته صحيحة بإجماع أهل العلم، ومثله المرأة لو أنقضت شعر رأسها، أو نسلته بالمشط فتساقط منه شعر، وأرادت أن تضحي فإنها تضحي، وأضحيتها صحيحة. كما يباح مباشرة النساء والطيب وغيرهما.
وما شاع على السنة العامة من قولهم أن من أراد أن يضحي فإنه ينبغي له أن يحرم. فهذا لا صحة له، فإنه لا إحرام إلا لمن أراد أن يحج ويعتمر، وقد صار هذا الاعتقاد يمنع أكثر الناس عن الأضحية لظنهم أنها لا تصح منهم، مع قصهم لشيء من الشعر. والصحيح أن الأضحية صحيحة حتى مع تعمد قص الشعر كما نص على ذلك العلماء.
وقد أنكرت عائشة على أم سلمة هذا الحديث، وقالت: إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج وهذا هو المعقول. فإن من أحرم بالحج أو العمرة؛ فإنه يجب عليه أن يكف عن أخذ شعره وأظافره. فانقلب هذا الحديث على أم سلمة كما قالت عائشة.
وفي مثل هذه الأيام يسأل بعض الناس عن أفضل ما يفعلونه من إهداء ثواب الأعمال لموتاهم، فيظن بعضهم: أنه ذبح الأضحية، حيث استقر في نفوس أكثر العامة فعلها. وهذا ليس بصحيح، فإن الأضحية إنما شرعت في حق الحي تشريفًا لعيد الإسلام، وشكرًا لله على بلوغه. يقول الله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2]. فالمخاطبون بفعل صلاة العيد هم الأحياء المخاطبون بذبح الأضحية لا الموتى، فلم يثبت عن النبي ﷺ الأمر بذبح الأضحية عن الميت، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أوصى أن يضحي عنه بعد موته، ولا أوقف وقفًا له في أضحيته. ولو كانت من البر، أو أنه يصل إلى موتاهم ثوابها، لكانوا أحق بالسبق إليها. والنبي ﷺ قد أرشد الأولاد إلى الدعاء، وإلى الصدقة عن آبائهم؛ فإنها من أفضل ما يرجى ثوابها ونفعها إليهم، لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة، وشدة فاقة، لما يتطلبونه في مؤنة العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فتقع الصدقة بالموقع التي يحبها الله، من تفريج كربته، وتيسير عسرته، وقضاء حاجته، وهي أفضل من قطعة لحم تهدى إليه، لا تسمن ولا تغني من جوع.
فمن أراد أن يعمل عملاً يثاب على فعله، ويصل ثوابه إلى ميته، فليضح عن نفسه، أو يتصدق بثمن الأضحية عن ميته.
إن الأضحية التي قيمتها ستمائة ريالاً متى تصدق بثمنها على ستة بيوت من فقراء المسلمين لكل بيت مائة، فإن هذا أفضل وأعم نفعًا.
وفي الصحيحين أن سعد بن عبادة قال: «يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم، تصدق عن أمك»[71].
وجاء رجل من بني ساعدة قال: يا رسول الله، إن أبوي قد ماتا فهل بقي من برهما شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: «نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا »[72]، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[73]. وقال: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»[74]. فما أحسن من صدقة الشخص، تخرج منه في حالة الصحة بدون أن يتكل فيها على وصيته، فما نفع الإنسان مثل اكتسابه بنفسه لنفسه.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[68] رواه ابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم. [69] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [70] أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي في الكبرى عن أبي هريرة. [71] متفق عليه من حديث عائشة. [72] أخرجه مسلم من حديث أبي أسيد الساعدي. [73] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [74] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي شرع لعباده طريق العبادة ويسر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصر، وجعل لهم بكمال حجهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر. أحمده وهو المستحق لأن يحمد ويشكر. وأشهد أن لا إله إلا الله خلق فقدر، وشرع فيسر. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب اللواء والكوثر، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر، وسلم تسليمًا كثيرًا. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه. فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه. وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه. ثم اعلموا رحمكم الله: أنكم خرجتم إلى هذا المكان السعيد، لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام، وبلوغ عيد حج بيت الله الحرام. وأن يومكم هذا يعد من أكبر الأيام شعائر، ومن أعظمها مناسك ومشاعر أطلعه الله عليكم سعيدًا، وجعله لكم نسكًا وعيدًا، شُرِّفَت به أيام التشريق ، وأفاض الحجاج فيه من المشعر الحرام إلى البيت العتيق، تُهرق فيه دماء الأضاحي، ويطلع فيه الرب على عباده ويباهي. فهو يوم الحج والمنحر، وعيد الله الأكبر.
يجتمع الحاج فيه بمنى لقضاء مناسك الحج، ويتقربون إلى الله بالعج والثج، يحيون سنة أبيهم إبراهيم بما يذبحونه من القرابين. فهو عيد لاستكمال حجهم، كما أن عيد الفطر عيد لاستكمال شهر صومهم، فهما عيدا أهل الإسلام.
ولأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما، وعند الخروج إليهما، إشهارًا لشرفهما، وإكبارًا لأمرهما، ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. والأضحية سنة مؤكدة، سنّها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ونزل فيها قرآن يتلى، وهي من القرابين، التي تقربونها لرب العالمين، ويرتب عليها الأجر الكبير، والفضل الجزيل. فعن زيد بن أرقم قال: «قلنا -أو قالوا-: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قالوا: وما لنا فيها؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ». قالوا: فالصوف؟ قال: «وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[75].
لهذا لا ينبغي للمقتدر أن يبخل عن نفسه بأضحية أو ذبيحتين قربانًا إلى الله، يحتسب ثوابهما عند الله. فقد كان الصحابة يسمنون الأضاحي في بيوتهم، حرصًا على حصول هذه الفضيلة. وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه، لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.
والأضحية إنما شرعت في حق الحي شكرًا منه على بلوغ عيد الإسلام، وحتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه في أعيادهم من القرابين.
قال أبو أيوب الأنصاري: كان الرجل منا يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون، ويتصدقون[76].
فذبح الأضحية في يوم العيد وأيام التشريق هو من العبادة لله رب العالمين. يقول الله سبحانه: ﴿لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ ٢٨﴾ [الحج: 28]. كما أن الذبح للزار، والذبح للجن، والذبح للقبر يعد من الشرك الأكبر المبين. فمن الشرك بالله الذبح لغير الله.
وفي البخاري عن علي رضي الله عنه، قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات، فقال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» أي مراسيمها.
وأفضل الأضاحي الكبش: أي: الخروف - سواء أكان فحلاً أم خصيًّا- سليم العيوب. ويجزئ الجذع من الضأن؛ وهو ما تم له ستة أشهر، ومن المعز ما تم له سنة. وتجزئ الناقة والبعير عن سبع أضاحيَّ، والبقرة والعجل عن سبع أضاحيَّ إذا تم لهما سنتان. فذبح الأضاحي في مثل هذا اليوم هو من العبادة لرب العالمين ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣﴾ [الأنعام: 162-163]. ووقت الذبح يوم العيد وثلاثة أيام بعده.
عباد الله، إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله سبحانه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم. والله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والدين هو هذا السمح الحسن، الموصل بمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة؛ رأسه الإسلام؛ وعموده الصلاة، وبقية أركانه الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.
وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان. بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.
لأن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال. فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون عمل. ومن ترك الصلاة فقد كفر. «وَلِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ»[77] يعرف به صاحبه.
فالمسلم حقًّا هو: من يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان. فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء الله في أرضه.
فدين الإسلام، والعمل به على التمام؛ هو سياج وحدة الأمة، وحد نظامها، وبه مدار عزها، ودوام استقامتها؛ لأنه دين الحق، والصالح لكل زمان ومكان. قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آلعمران: 85].
أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم، ولا يؤدي زكاة ماله، فلا شك أن إسلامه باللسان يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه، ففضحته شواهد الامتحان.
فيا أهل الإسلام، لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بأركان الإسلام.
فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام، هو الذي يوحد المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله سبحانه قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم [78].
وهذه الشرائع التي أوجبها الله على عباده؛ مثل شريعة الصلاة، وشريعة الزكاة، وشريعة الصيام؛ هي: تنزيل الحكيم العليم. شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد، في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات مثل الصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا ويشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة.
فالشرائع هي أم الفرائض والفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل. تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق. أما عادم الدين فإنه جرثومة الفساد، وخراب البلاد. وإنما تنشأ الجرائم الشنيعة، والفواحش الفظيعة، من القتل وهتك الأعراض. ونهب الأموال إنما تنشأ من العادمين للدين، الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم. فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.
وكل من لا دين فيه، فإنه جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.
وليعتبر المعتبر بالبلدان التي، قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الكفر والفسوق والعصيان، ثم لينظر كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر، وفساد الأخلاق، والعقائد، والأعمال، وإثارة الفتن، وخراب العمران. حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا، ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق. ذلك بأن للمعاصي عقوبات، وللمنكرات ثمرات.
﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢﴾ [النحل: 112]. وإن من المشاهد بالاعتبار، أنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد، فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والزكاة والصيام الفرضية، واستباحوا شرب المسكرات، وفعل المنكرات الوبيَّة، إلا فُتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب. ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[75] أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. [76] أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب. [77] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [78] أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن طارق بن شهاب.
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي شرع صلاة الجمع والأعياد، وبين للناس طريق الهدى والرشاد. اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادًا يجمعكم الله فيه، فيحكم بينكم. وقد خاب وخسر عبد خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض. أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون إلى أجل مسمى محتوم؟ فمن استطاع منكم أن يقضي عمره وهو محافظ على واجباته من صلاته وزكاته وصيامه فليفعل.
إن قومًا صرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 18-19]. أين من تعرفون في مثل هذا العيد من الآباء والإخوان والأصدقاء؟ قَدِموا على ما قَدَّموا من عمل، وجوزوا بالسعادة أو الشقاوة، أين الذين بنوا القصور المشيدة، وحازوا فنون الأموال والقلاع؟ قد صاروا رميمًا تحت الصخر والتراب. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته، لتعملوا مثل عمله فقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله العفو الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاعلموا رحمكم الله أن الأمانة شأنها كبير، وموقعها عند الله عظيم، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٧﴾ [الأنفال: 27].
فدلت هذه الآية على أن من خان أمانته، فقد خان ربه وخان نبيه، ولن يضر الخائن إلا نفسه. قال أنس رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «إِنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»[79]. وجاء رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله، أخبرني بأشد شيء في هذا الدين. فقال: «الْأَمَانَةُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ، إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ لَهُ»[80].
والأمانة تارة تكون بين الخلق فيما يتعاملونه بينهم من التبايع والودائع والكيل والوزن، وتارة تكون بين العبد وببن ربه في الفرائض الواجبة المسماة بالتكاليف الشرعية. فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة. وهكذا سائر الأعمال، تجرى على هذا المنوال. فمن الناس المؤمن الأمين، الذي يؤدي واجب حق الله في ماله، ويبادر بأداء زكاته إلى مستحقها، طيبة بذلك نفسه، يعتقدها مغنمًا له عند ربه، وبركة في ماله. ومنهم الخائن المهين، الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ويأكل زكاته. ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [آلعمران: 180].
فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، وهكذا سائر الأعمال تجرى على هذا المنوال.
فمن الناس المؤمن الأمين الذي يؤدي واجب حق الله في واجباته، ويبادر بأداء زكاته، طيبة بذلك نفسه، يعتقدها مغنمًا له عند ربه وبركة في ماله، فيدفعها إلى مستحقها، ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.
ومنهم الخائن المهين، الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ويأكل زكاته، ويحتسبها مغرمًا في ماله، ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ﴾ [آلعمران: 180].
فالآكل لزكاته هو خائن لأمانته، خائن لفقراء بلده، فاسق عن أمر ربه، وما إسلامه الذي يدعيه إلا إسلام مزيف مغشوش؛ لكون الزكاة بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان. كما في الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»[81]. لكونها تبرهن عن إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله. كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق، فإن من صفة المنافقين، ما أخبر الله عنهم، ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡ﴾ - أي عن أداء زكاة أموالهم - ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾ [التوبة: 167].
فالوضوء أمانة؛ لأن مفتاح الصلاة الطهور. وفي الحديث: «اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[82]. ومن حكمته أنه ينشط الأعضاء عند القيام للصلاة، ويحط الخطايا.
وكذلك الصلاة أمانة الرب، وعمود دين العبد، وأول ما يفقد الإنسان من دينه الأمانة، وآخر ما يفقد من دينه الصلاة.
و لهذا كان السلف يسمونها الميزان. فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه يحافظ على الصلاة في الجماعات علموا بأنه ذو دين، وإن حُدثوا بأنه لا يشهد الصلاة، علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير.
ثم إن الصلاة لا تكون صلاة، حتى تقع على صفة ما شرعه الله على لسان نبيه، كما في الحديث: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[83]. فهذا ميزانها الفعلي، وأما ميزانها القولي ففي البخاري، أن رجلاً دخل المسجد، فصلى فقال له رسول الله ﷺ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فعل ذلك ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني. فقال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَاعِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا»[84].
فهذه هي الصلاة المشروعة التي تصعد ولها نور، فتشفع لصاحبها عند ربها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني. «وَأَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ»[85]، أي لا يتم ركوعها ولا سجودها.
وكذلك الزكاة: أمانة الرب، أوجبها الله في مال الغني لأخيه المعوز الفقير، وسميت زكاة، لكونها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
وكذلك تزكي المال - أي تكثره وتنميه وتنزل البركة فيه، فما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده. وكذلك الصيام فإنه سر بين العبد وبين ربه، فلو شاء لأبطله ولو بفساد نيته، لكن المؤمن لو ضرب على أن يستبيح الفطر، لما استباح الفطر أبدًا، لكون إيمانه وأمانته تمنعه عن إحباط عمله وإبطال صومه.
هذه الأركان، هي التي عناها القرآن بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٧٢﴾ [الأحزاب: 72]. فإن الراجح عند العلماء، أن هذه الأمانة هي الواجبات، المسماة بالتكاليف الشرعية. فإنها أمانة الله وعهده، في عنق كل إنسان ﴿وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [الفتح: 10].
ومن استؤمن على حفظ مال الحكومة أو المعارف أو الأوقاف، أو لأحد من الشركات، أو مال تاجر من التجار، فليعلم أن ما تحت يده مما تولاه أنه أمانة عنده، ومسؤول عنه ومحاسب عليه، فمن واجب إيمانه وأمانته أن يقوم بحفظ ما استؤمن عليه، وأن يذود أيدي العدوان والخونة عنه، حتى يؤديه كاملاً موفورًا، غير مبخوس ولا منقوص، فإن خالف وخان وأخذ يختلس ما استؤمن عليه بطريق التلصص الخفي والخيانة الغيبية، فقد خان أمانته، وخان ربه ودينه، وما اختلسه فإنه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء ويرجع إلى الوراء.
والنبي ﷺ: قال: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[86]. ﴿وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [آلعمران: 161]. ومن المشاهد المحسوس، أن الخائن يَفتْضح بخيانته في الدنيا عند الناس، ويوم القيامة ينصب لكل خائن لواء عند استه، يقال: هذه غدرة فلان. والمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب فلا يكون المؤمن خائنًا، ولا كذابًا. «وَآيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ»[87]. ومن دعاء النبي ﷺ. أنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَمِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[88].
ولهذا قال العلماء في الحكمة في قطع يد السارق: إن اليد لما كانت أمينة تبلغ ديتها - خمسين بعيرًا - قالوا: إن اليد لما كانت أمينة كانت عند الله، وعند خلقه ثمينة، فإذا خانت هانت. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ﴾ [الحج: 18].
إن الشركات الأجنبية التي تشتغل في البلدان العربية الإسلامية، قد دخلوا مع الحكومات الإسلامية في عقد، وفي عهد وأمانة، واشتغلوا على هذا الحساب. فمن الواجب احترام دمائهم وأموالهم؛ لأنهم يسمون مُعاهدين. وحرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم. لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. فمن خفر معاهدًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فلا يقل أحدكم: هؤلاء كفار يستبيح بذلك أخذ أموالهم. فإن حرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم.
والتعليم أمانة، والتعليم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ونعوذ بالله من شر الوسواس الذي يوسوس بالشر في صدور الناس. فمن واجب المعلم أن يخلص في تعليمه، فيلقن التلاميذ تعظيم الرب، وتعظيم حدوده وفرائضه. وأن صلاح المرء بصلاح دينه، وأن المحافظة على فرائض الرب هي من أكبر العون على حصول المطلوب، من العلم المرغوب؛ لأن الله يقول: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ﴾ [البقرة: 282].
ثم إن الأستاذ قدوة تلاميذه، وثقتهم به، يستدعي قبولهم لما يقوله ويفعله، فينشؤون غالبًا على طريقته وعقيدته. أشبه الأعضاء مع اللسان. تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فإذا ترك الأستاذ الصلاة في الجماعة، تركها التلاميذ. أو شرب الدخان والتنباك شربه التلاميذ. أو أطلق لسانه باللعن والشتم، تعلموا منه ذلك، لأن هذا نوع تعليم منه لهم. ومن المعلوم أن التعليم بالأفعال أبلغ منه بالأقوال وكل إناء ينضح بما فيه. وعادم الخير لا يعطيه.
وإذا المعلم لم يكن عدلا سرى
روح العدالة في الشباب ضئيلا
وكل من دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء، أو ثمن لم يؤده إليه، فليعلم أنه دخل مع صاحبه في عهد وأمانة، فمن الواجب على صاحب العقد أن يبين ما به من العيوب، كما أن من واجب المشتري أن يقابل صاحبه بحقه غير مبخوس ولا منقوص. وبدون تعليل ولا تمليل. فإن «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»[89]. يحل عرضه وعقوبته.
جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن لنا جيرانًا لا يتركون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فهل إذا قدرنا على شيء من مالهم نأخذه؟ قال: «لَا، أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»[90] فنهى رسول الله ﷺ عن مقابلة الخيانة بالخيانة؛ لأنها مهانة وعدم أمانة.
المجالس بالأمانات، إلا مجلس دم حرام، وفرج حرام. فإن جلس الرجل مع الآخر ثم التفت فهي أمانة، يجب المبالغة في كتمان السر بينهما. ومن الخيانة أن يفشي الرجل إلى امرأته سرًّا، أو تفشي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه. ويسمى هذا الإفشاء بالمجاهرة.
الوظائف الحكومية على اختلاف أنواعها أمانات في أعناق المتقلدين لها فمن واجب المتولي للوظيفة أن يقوم بأمانة ما تولاه، وما استؤمن عليه بإخلاص وصدق ونصح، وأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به من التسهيل والتيسير.
القضاء أمانة، وهو منصب شريف؛ منصب الأنبياء والخلفاء الراشدين. والأصل فيه قوله تعالى: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦﴾ [ص: 26]. وكان النبي ﷺ قاضيًا، وأبو بكر قاضيًا، وعمر قاضيًا، وعلي كذلك. والقضاء في مواطن الحق، هو مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذخر.
شُرع القضاء رحمة للناس وراحة لهم، لإزالة الشقاق بينهم، وقطع النزاع عنهم، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وردع الظالم، ونصر المظلوم.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
فمن واجب القاضي أن يحتسب راحة الناس ورحمتهم في قطع النزاع عنهم، وأن يحتسب التبكير في الجلوس للناس، ويفتح باب المحكمة على مصراعيه، ثم يبدأ بالأول، فالأول، كما نص على ذلك فقهاء الإسلام في كتبهم. ففي الحديث: «مَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُوْنَ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ»[91].
ولما بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ له بابًا وحجابًا يمنعون دخول الناس عليه، أرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرق باب سعد قبل أن يكلم أحدًا من الناس.
فهؤلاء القضاة الذين يغلقون أبواب المحاكم عليهم، ويتركون الناس خلف الأبواب، يغشاهم الذل والصغار، والقاضي غير مكترث بهم، ولا مهتم بأمرهم، ويمضي أكثر وقته في الحديث في مصالح نفسه الخاصة. وشهر للحج، وشهر للعُمرة، وشهر للمصيف في الطائف أو لبنان مثلاً. ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام، لا يجدون من يقطع النزاع عنهم، وهو مستأجر لحل مشاكلهم.. فهؤلاء بالحقيقة مخالفون لنصوص مذهبهم. فإن الفقه الإسلامي يمنع غلق الأبواب، ونصب الحجاب دون القاضي ودون الناس.
فافتحوا الأبواب، وسهلوا الحجاب، وبكروا في الجلوس، حتى يسهل عليكم معالجة الخصام، وتنظيم الأحكام. فإن جلوس القاضي في محل عمله لفصل القضاء بين الناس، أفضل من تطوعه بحجه وعمرته، وأفضل من صيامه بمكة؛ لأن جلوسه في محل القضاء واجب عليه، ومطلوب منه شرعًا وعرفًا، أما التطوع بالحج والعمرة فإنها ليست بواجبة عليه، ولا مستحبة في حقه. وقد لا تصح منه.
فلا ينبغي أن يهمل هذا الواجب المحتم عليه، في محاولة التنفل الذي هو ممنوع منه شرعًا وعرفًا. فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[79] رواه البزار عن علي رضي الله عنه. [80] رواه البزار عن علي رضي الله عنه. [81] أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. [82] رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والحاكم عن ثوبان. [83] أخرجه البخاري من حديث مالك بن حويرث. [84] رواه البخاري عن مالك بن حويرث. [85] أخرجه أحمد من حديث أبي قتادة. [86] أخرجه مسلم من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. [87] متفق عليه عن أبي هريرة وفيه زيادة «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ». [88] من حديث طويل رواه الحاكم عن ابن مسعود وقال: صحيح، وقال العراقي: ليس كما قال. [89] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [90] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [91] في رواية لأحمد في مسنده والترمذي عن عمرو بن مرة وإسناده حسن «مَا مِنْ إمَامٍ أَوْ وَالٍ يَغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ».
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونصلي ونسلم على رسول الله الصادق الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم-: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ٣﴾ [الأعلى: 1-3].
كان من هدي النبي ﷺ أنه يستحب قراءة المسبحات، وخاصة هذه السورة، فكان يقرأ بها في المجامع العظام، كيوم الجمعة، ويوم العيد، لفضل ما اشتملت عليه من الأحكام، والمواعظ العظام. ولما نزلت ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١﴾ [الأعلى: 1]. قال النبي ﷺ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ». ولما نزل قوله: ﴿فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ٧٤﴾ [الواقعة: 74]. قال: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ»[92].
بدأ هذه السورة بالأمر بالتسبيح. إذ معنى التسبيح: التنزيه والتقديس لله، وفيه فضل عظيم، وقد أعاد سبحانه وأبدى من ذكره، تارة بلفظ الأمر، كقوله: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١﴾ [الأعلى: 1]. ﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: 48]. وتارة بلفظ الماضي كقوله: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الحشر: 1، الصف: 1]. وتارة بلفظ المضارع كقوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الجمعة: 1 و التغابن: 1]. وتارة بلفظ المصدر كقوله: ﴿فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ ١٧﴾ [الروم: 17].
وأخبر النبي ﷺ: بأن التسبيح، والتحميد، يقوم مقام الصدقة بالمال؛ وخاصة الفقراء الذين لا مال لهم، فقال: «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً»[93].
ثم إن التسبيح والتحميد عند النوم يخفف الآلام، ويلطف المشاق العظام. كما أرشد النبي ﷺ عليًّا وابنته فاطمة، وقال: «هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»[94]. ثم قال: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢﴾ أي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. فلا تظنوا أن شيئًا أحسن من الإنسان، لا الظباء ولا الخيل ولا النعام.
﴿وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ٣﴾ أي خلقه. فخلق كل شيء بمقادير مضبوطة، فهدى إلى ما قدر من هذا التقدير، كون بعض الدواب، كالظباء وغيرها، تلد في البر ثم يقوم ولدها ويهتدي لرضاع ثديها.
﴿وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ ٤ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ ٥﴾ أي بينما العشب خضرًا نضرًا، فإذا هو هشيم يابس، وكذلك حالة الإنسان، بينما يكون شابًّا ثم كهلاً، فإذا هو شيخ كبير ضئيل. وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادًا بعد ما هو ساطع ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦﴾ وهذه معجزة عظمى، وذلك أن رسول الله ﷺ كان يتيمًا، أميًّا لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، كحاله أكثر قريش، كصفة الأعراب المتنقلة، ويسمون بالأميين، ووصف الله نبيه بالأمي، في قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧﴾ [الأعراف: 157].
فالأمية: هي معجزة خاصة للرسول ﷺ لئلا تتطرق إليه الظنون الكاذبة، فيقولون: كتبه من كتاب كذا، أو تعلمه من كتاب كذا، يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨﴾ [العنكبوت: 48]. فالأمية من معجزات نبوته، وليست من سنته، بل حاربها حيث نشر العلم، وتعلم الكتابة بين أصحابه، وكان أول ما أنزل الله عليه من القرآن سورة القلم.
نشأ النبي ﷺ يتيمًا في حجر عمه أبي طالب، كأحد أولاد قريش، ورعى الغنم في صغره كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: ««مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ». قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وَأَنَا رَعَيْتُهَا بِقَرَارِيطٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ»»[95].
وليس في مكة مدارس، ولا كتب. وبقي على حالته حتى بلغ أربعين سنة من عمره.
ثم فاجأه الحق، ونزل عليه الوحي بغار حراء. والله أعلم حيث يجعل رسالته، وأخذ القرآن ينزل عليه تدريجيًّا بدون أن ينسى شيئًا منه، وحتى نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة على طولها، وهي جزء كامل، بدون أن ينسى شيئًا منها؛ لأن الله يقول: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦﴾ [الأعلى: 6]. ونحن في حفظنا للقرآن، مكثنا مع سورة الأنعام فوق الشهر لإتقان حفظها، نتغالب معها، أحيانًا نذكر، وأحيانًا ننسى، وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبي ﷺ كان إذا نزل عليه الوحي، يحرك شفتيه، خشية أن ينساه. فأنزل الله عليه قوله: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩﴾ [القيامة: 16-19]. أي علينا أن نجمعه لك في صدرك، ثم تقرأه بدون أن تنسى شيئًا منه.
فكان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي سكت، وإذا أقلع عنه قرأه كما كان يقرؤه. وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ ٧﴾ فهذا الاستثناء قيل للمنسوخ من القرآن، وقيل للتأكيد.
﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨﴾ أي للشريعة السمحة السهلة، ليست بشاقة. من ذلك أن النبي ﷺ قال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً»[96] ورأى رجلاً يصلي على وسادة قد رفعت له فرمى بها، وقال: «صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً»[97]. وقال في الصيام ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185]. ورخص للشيخ الكبير في أن يفطر؛ ويطعم عن كل يوم مسكينًا. وهذا كله من التيسير وعدم التعسير ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: 78]. فقولهم: إن شرائع الإسلام تكاليف شاقة خطأ. فإنها قرة العين، ولذة للروح في حق من اعتادها وتمرن على فعلها، ورسخ في قلبه محبتها، وقد «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ اللَّهَ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا».
ثم قال: ﴿فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ ٩ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ ١٠﴾ فأمر الله نبيه بأن يذكر الناس، إن نفعت الذكرى أي ما دامت قلوبهم مقبلة على الاستماع، للاتباع والانتفاع، كما قال: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]. وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢﴾ [الغاشية: 21-22]. أي ليست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم ﴿إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾ [الشورى: 48]. وأفضل الأعمال: إيقاظ الراقدين، وتنبيه الغافلين، لأن الله يقول: ﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٥﴾ [الذاريات: 55]. فالتذكير بمثابة الصقال للقلوب عن الصدأ، ومن الصدقة: كلمة حكمة، تدل بها على الهدى، وتردع بها عن السفاه والردى.
وكانت عامة مجالس النبي ﷺ مع أصحابه، إنما هي مجالس وعظ وتذكير بالله. إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر الله في كتابه بأن يقص ويعظ ويذكر ويدعو إلى دينه وإلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. وسماه الله بشيرًا ونذيرًا.
ولهذا شرعت الخطبتان في الجمعة، لتذكير الناس بما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم. وحث النبي ﷺ على الإصغاء والاستماع لهما، وعدم الاشتغال بالكلام، وقال: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ومن قال لصاحبه أنصت، قد لغا، ومن لغا، فلا جمعة له»[98].
وأخبر النبي ﷺ عن تفاوت الناس في الاستماع والانتفاع. ففي الصحيحين عن أبي موسى، أن النبي ﷺ قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير - أي مطر وابل - أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فهذا مثل من استمع وانتفع بما سمع ودعا الناس إليه، فكان من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا - أي من هذا الماء، الذي أمسكته. فهذا مثل من يستمع الحكمة فيحفظها ويؤديها كما سمعها، لكنه مقصر في العمل بما سمع، فهو عليم اللسان - ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»[99]. فهذا يعد من شر المستمعين الذين إذا ذكروا لا يذكرون ولهذا قال: ﴿يَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ ١٠﴾ أي أن من يخشى الله ويتقيه، فإنه ينتفع بما سمع، ورأس العلم خشية الله. وكفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار به جهلاً.
﴿وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى ١١﴾ أي يتجنب سماع التذكير والانتفاع به. الشقي هو الذي استحكم الشقاء على قلبه، فهو قاسي القلب، وما ضرب الله عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وإن أبعد القلوب من الله، القلب القاسي.
وشكى رجل إلى الحسن البصري قساوة قلبه، فقال: ادْنُهْ من مجلس الذكر.
وفي البخاري عن طارق بن شهاب، أن النبي ﷺ كان جالسًا في حلقة من أصحابه، فدخل ثلاثة نفر، فأما أحدهم، فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الثاني فاستحيا وجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأعرض وخرج. فقال النبي ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ»[100].
فجعل المعرض عن التذكير، معرضًا عن الله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ ٣٨﴾ [الزخرف: 37-38].
ومعنى قوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى ١١ ٱلَّذِي يَصۡلَى ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ ١٢ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ ١٣﴾ [الأعلى: 11-13]. لأن أهل النار يتمنون الموت ليستريحوا به من العذاب ﴿وَنَادَوۡاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقۡضِ عَلَيۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ ٧٧ لَقَدۡ جِئۡنَٰكُم بِٱلۡحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَكُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ ٧٨﴾ [الزخرف: 77-78].
ثم قال: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤﴾.
والله يحقق الفلاح، وهو الفوز والنجاح لمن تزكى أي أدى زكاة ماله، طيبة بها نفسه، يغتنمها مغنمًا له عند ربه، يعلم بطريق اليقين أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه. وسميت زكاة، لكونها تزكي المال أي تنميه وتطهره، وتنزل البركة فيه، كما تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل وتطهره، يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
ومنها: التزكية بالمحافظة على الفرائض والفضائل، والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل، لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتشرفها، وتنشر في العالمين فخرها ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠﴾ [الشمس: 9-10].
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فكن طالبا للنفس أعلى المراتب
ثم قال: ﴿وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥﴾ [الأعلى: 15]. فدائمًا يقرن سبحانه الصلاة بالزكاة في كثير من الآيات، وقيل: نزلت هذه الآية في صلاة العيد، وفي زكاة الفطر.
﴿بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧﴾ [الأعلى: 16-17]. إن الله سبحانه أخبر عن الناس بأنهم يحبون الحياة، ويؤثرون العمل لها على العمل لآخرتهم، ويحبون المال حبًّا جمًّا، لكون النفوس، مولعة بحب العاجل، ﴿إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمۡ يَوۡمٗا ثَقِيلٗا ٢٧﴾ [الإنسان: 27]. فمحبة الحياة، ومحبة المال، هي من الأشياء التي جبل البشر عليها، وقد وصف الله الإنسان، بأنه لحب الخير لشديد، والخير هو المال الكثير، فلا عيب في محبة الإنسان للحياة أو المال، إذا لم تخرج به محبته عن حد الاعتدال، كما قيل:
دع الذم للدنيا فكم من موفق
يقول وقد لاقى النعيم بجنتي
حياتي لو امتدت لزادت سعادتي
فياليت أيامي أطيلت ومدتي
فمحبة الدنيا ليس مذمومًا على الإطلاق، وإنما يذم إذا خرج بصاحبه عن حد الاعتدال، بأن أشغل صاحبه عن عبادة ربه، أو بخل بما أتاه الله من فضلة؛ لأن البر وفعل الخير هو همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا، وقد مدح الله التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار. فهؤلاء يشتغلون في الدنيا بجوارحهم، وقلوبهم متعلقة بالعمل لآخرتهم، فحصلوا الحسنتين، وفازوا بالسعادتين، فكانت أعمالهم بارة، وأرزاق الله عليهم دارة.
ثم قال: ﴿وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧﴾ [الأعلى: 17].
لما بين سبحانه محبة الناس للعاجلة، استدعاهم إلى العمل للآخرة، فإنها خير من الدنيا وما فيها، ولأن العمل للآخرة، هو أكبر ما يستعان به على الدنيا وبركتها، والسعادة فيها، لكون الدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالهموم والغموم والأحزان، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين.
وفي الأثر: إن الله يقول: ابن آدم، أنت إلى نصيبك من الآخرة، أحوج منك إلى نصيبك من الدنيا، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا، فاتك نصيبك من الآخرة، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة، مر على نصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظامًا[101]. ويدل لذلك ما رواه ابن ماجه والترمذي، من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلأْتُ قَلْبَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[102].
ثم قال: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ ١٨ صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ١٩﴾ [الأعلى: 18-19]. يشير إلى أن هذه الموعظة من آخر السورة المبدوءة بقوله: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤﴾ [الأعلى: 14]. إنها في صحف إبراهيم وموسى سواء كانت مذكورة في صحف إبراهيم بلفظها أو بمعناها، وكلاهما محتمل.
اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة، ولا تجعلنا ممن اتبع القرآن فزج في قفاه إلى النار.
[92] أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عقبة بن عامر. [93] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [94] متفق عليه من حديث علي. [95] رواه البخاري عن أبي هريرة، ورواه أصحاب السير. [96] رواه البخاري من حديث عمران بن الحصين. [97] أخرجه أبو يعلى من حديث جابر. [98] متفق عليه عن أبي هريرة وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه ولكن بلفظ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ». [99] متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري. [100] متفق عليه من حديث أبي واقد الليثي. [101] أخرجه هناد بن السري في الزهد عن معاذ. [102] وفي رواية عن معقل بن يسار بلفظ قال: قال رسول الله ﷺ: «يَقُوْلُ رَبُّكُمْ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي؛ أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تُبَاعِدْ مِنِّي، أَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا، وَأَمْلَأ يَدَيْكَ شُغْلًا». رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١﴾ [النساء: 1]. فأمر الله سبحانه عباده بتقواه، التي هي امتثال أمره في الطاعة والإحسان، واجتناب نهيه في العقوق وقطيعة الأرحام: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٩٠﴾ [النحل: 90].
وكان من هدي النبي ﷺ أنه يدعو إلى صلة الأرحام في بداية دعوته، كما يدعو إلى عبادة الملك العلام، يقول عبد الله بن سلام: لما قدم النبي ﷺ المدينة، انجفل الناس عنه، فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»[103].
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن عَبَسة قال: «كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأصنام، إذ سمعت برجل يخبر أخبارًا بمكة، فقعدت على راحلتي حتى قدمت عليه، فرأيت رجلا جُرّاءً عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه، قلت له: ما أنت؟ قال: «أَنَا نَبِيٌّ». قلت: وما نبي؟ قال: «أَرْسَلَنِي اللهُ». قلت: وما أرسلك؟ قال: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ». قلت: ومن معك على هذا؟ قال: «مَعِي حُرٌّ، وَعَبْدٌ». ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. قلت: إني متبعك على هذا. قال: «إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَمَا تَرَى حَالَتِي وَحَالَةَ النَّاسِ؟ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ خَرَجْتُ فَأْتِنِي». وذكر بقية الحديث.
وفي قصة أبي سفيان بن حرب لما سافر إلى الشام وسأله هرقل عن صفة رسول الله ﷺ فقال له بعد سؤال طويل: ماذا يأمركم به؟ قلت: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. قال: إن كان ما تقول حقًّا، فسيملك موضع قدمي هاتين[104].
ولما بدئ بنزول الوحي على رسول الله ﷺ ولقي منه من الشدة ما هاله. قالت له خديجة: «كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ تَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ»[105].
فعلمت خديجة بفراستها الصادقة أن هذه الخلال من تحلى بها كان في كلاءة من الله، وحفظ ورعاية، وكان جديرًا بكل خير، بعيدًا عن كل شر؛ لأن صنائع الإحسان تقي مصارع السوء[106].
ولم أر كالمعروف أما مذاقه
فحلو وأما وجهه فجميل
وإن صلة الرحم هي عنوان الشرف والمجد والكرم، وينجم عنها العطف واللطف والحنان والإحسان.
وكان النبي ﷺ يخطب فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله، أخبرني عن أكرم الناس. فقال: «أكرم الناس أتقاهم للرب، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر»[107].
ثم إن صلة الرحم، هي من الأسباب التي ينزل الله بها البركة في المال وفي العيال وصالح الأعمال. كما في الصحيح من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُمِدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[108]. وهذا أمر مشهور يشهد به الواقع المحسوس، من ذاق منه عرف، ومن حرم انحرف. فصلة الرحم يدر الله بها الثمار، ويبارك بها في الأعمار، حتى ولو كان المتصف بها من الكفار؛ لأن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، من صحة حال، وكثرة مال أو عيال، وليس له في الآخرة من نصيب. أما المؤمن فإنه يُطعم بها في الدنيا، ويُدخر ثوابها له في الآخرة، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. إن الواصل لرحمه موصول من ربه بالبر والخير والبركة؛ لما في الحديث أن النبي ﷺ قال: قال الله عز وجل: «أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ»[109] فمعنى وصلته أي أوصلت إليه كل خير، ومعنى قطعته أي قطعت عنه كل خير. فالواصل موصول، والقاطع مقطوع.
ومُطعم الغُنم يوم الغُنم مطعمه
أنى توجه والمحروم محروم
وحسبك ما في القرآن: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ ٢٣ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ ٢٤﴾ [محمد: 22-24].
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة من زكاة وصلة رحم، إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل، والإسراف والتبذير. يقول الله: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء: 26-27].
إن الأرحام إذا توانسوا وتجالسوا، تعاطفوا وتلاطفوا، فتشملهم البركة والرحمة في حالهم ومآلهم وعيالهم، ويشتهرون عند الناس بالبر والصلة، وسائر الأعمال الحسنة، فيتحابون ويتعاطفون، على حد ما قيل:
فإن تدن مني تدن منك مودتي
وإن تنأ عني تلفني عنك نائيا
وبضدهم نجد بعض القبائل ينشأون على العقوق والقطيعة فيما بينهم، فيتباغضون ويتقاطعون، ويتوارثون العداوة والبغضاء فيما بينهم. ومنهم إلى أهلهم وأولادهم. فالرجل لا يسلم على أخيه، ولا على ابن عمه، ولا يجيب دعوته. وكذا النساء مع النساء، والأولاد، فيشملهم الشؤم والفساد في حالهم ومالهم وعيالهم، لأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة والزئبق.
وللخير أهل يعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشر أهل يعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابع
ثم لنعلم أنه «ليس الواصل بالمكافئ» ؛ لأن المكافأة يفعلها الأعداء مع الأعداء، والبعداء مع البعداء، «وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»[110]؛ لأن الواصل على الحقيقة يعامل ربه بصلته لرحمه، حتى لو جفاه قريبه أو لم يشكره على صلته وإحسانه، أو لم يكافئه على معروفه، فإنه لا ينبغي أن يقطع صلته وإحسانه؛ لأنه لو ضاع معروفه عنده، فإنه لن يضيع عند الله عز وجل.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أفضل الصلة صلة الرحم الكاشح»[111]. أي المضمر للعداوة؛ لأن صلتك له مع إضماره لعداوته تدل على حسن النية، وصلاح السيرة والسريرة؛ ولهذا كان من خلق النبي ﷺ أنه يعطي من حرمه، ويصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه. وقد أرشد القرآن الحكيم إلى ذلك بقوله: ﴿وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ ٣٤ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ ٣٥﴾ [فصلت: 34-35]. ويعدون من مكارم الشعر - وإن من الشعر لحكمة - قول معن بن أوس في رحم له قد جفاه فعامله بلطفه وإحسانه حتى أحبه واصطفاه وأنشد:
وذي رحم قَلمتُ أظفارَ ضغنه
بحلمي عنه وهو ليس له حلم
يحاول رغمي لا يحاول غيره
وكالموت عندي أن يحل به الرغم
صبرت على ما كان بيني وبينه
وما تستوي حرب الأقارب والسلم
لأستل منه الضغن حتى استللته
وقد كان ذا ضغن يضيق به الجرم
أتدرون من هم الأرحام الذين أوجب الله صلتهم، وحرم عقوقهم وقطيعتهم؟ هم آباؤكم وأمهاتكم، وإخوانكم وأخواتكم، وأعمامكم وعماتكم، وأخوالكم وخالاتكم، وأولاد العم والعمة، وأولاد الخالة والخال، «وَتَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ»[112].
وصلة الأرحام تكون بالسلام، وبالتحفي والإكرام، وبالزيارة بالأقدام، وبإرسال التحف والهدايا، وسائر وسائل الإكرام. ففي الحديث: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ، وَتُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ»[113].
وحاصل الكلام في صلة الأرحام؛ هو أن يوصل إلى أرحامه كل ما ينفعهم ويسرهم، لاعتقاده أنه بضعة منهم، وأنهم شركاؤه في سرائه وضرائه.
فآكد الحقوق بر الوالدين، فإن رضى الرب في رضى الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين فبروا آباءكم، تبركم أبناؤكم. وعفوا تعف نساؤكم. وما من ذنب أحرى من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم.
جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله، إن أبويّ قد ماتا، فهل بقي علي من برهما شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نَعَمْ، الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، يعني: الدعاء وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا - أَيْ: الوصية التي وصيا بها - وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا»»[114].
وأجمع العلماء على وصول ثواب الصدقة إليهما بعد موتهما من ولديهما كما أرشد النبي ﷺ إلى ذلك. وكذلك الدعاء: ففي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[115].
أما الأضحية فإنها إنما شرعت في حق الحي، ولم تشرع عن الميت، فلا يصل إليه ثواب ذبحها. والمشروع هو أن يتصدق عن والديه بقيمة هذه الأضحية على الفقراء والمساكين. لإجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة لا سيما في عشر ذي الحجة التي العمل الصالح فيها أفضل من العمل في سائر السنة، وتصادف من الفقير موضع حاجته، وشدة فاقته؛ لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فتقع بالموقع الذي يحبه الله تعالى.
والحاصل أن من وفقه الله لإحسانه، وأعانه على صلة أرحامه، فليعلم أنها هداية من الله خصه بها، ووفقه إليها. فحذار حذار أن يُبطل ثواب صلته وإحسانه، بامتنانه بلسانه، فإن الامتنان بالصلة والإحسان، يبطل ثوابه بالسنة والقرآن يقول الله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ﴾ [البقرة: 264]. فالمن: هو أن يمتن عليه بها، فيقول، فعلت فيك كذا وفعلت كذا. والأذى هو أن يكثر من ذكرها في المجالس على سبيل الامتنان، وتعداد الإحسان، والله يقول: ﴿قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ وَمَغۡفِرَةٌ خَيۡرٞ مِّن صَدَقَةٖ يَتۡبَعُهَآ أَذٗىۗ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٞ ٢٦٣﴾ [البقرة: 264]. والعلماء يعدون الامتنان بالإحسان أنه غاية في الدناءة والرذالة والهوان.
وإن المعروف يحتاج في تكميله إلى تعجيله، وتصغيره وستره، يخفي صنائعه، والله يظهرها. أما الامتنان بالصلة والإحسان، فإنه بمثابة الهدم للبنيان، فهم يمدحون الذي يواصل إحسانه مع ستره وكتمانه، كما قيل:
يرب الذي يأتي من الخير إنه
إذا فعل المعروف زاد وتمما
وليس كبان حين تم بناؤه
تتبعه بالنقض حتى تهدما
ومن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم: المسبل إزاره خيلاء، والمنان بعمله، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة. ولهذا قيل:
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى
فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا
نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته.
[103] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن سلام. [104] أخرجه البخاري من حديث أبي سفيان. [105] متفق عليه من حديث عائشة. [106] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أم سلمة. [107] رواه ابن حبان في كتاب الثواب والبيهقي في كتاب الزهد وغيره من حديث درة بنت أبي لهب. [108] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر. [109] رواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة. [110] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو. [111] رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم عن أم كلثوم بنت عقبة بلفظ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ». [112] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي هريرة. [113] رواه البخاري من حديث أبي هريرة ورواه البزار بإسناد ضعيف من حديث أنس. [114] رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. [115] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من أراد هدايته لمحاسن الأمور، ومكاسب الأجور، فعملوا بحياتهم أعمالاً صالحة لوفاتهم، يرجون بها تجارة لن تبور، وأشهد أن لا إله إلا الله بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، الداعي إلى كل عمل مبرور، اللهم صل على نبيك ورسولك، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله سبحانه خلق الناس، وخلق لهم الدنيا بما فيها من الخيرات، والفواكه والثمرات، ليتمتعوا بها إلى ما هو خير منها، ابتلاء وامتحانًا، ليبلوهم أيهم أحسن عملا. كلوا من رزق ربكم واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون.
كتب سبحانه على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠﴾ [غافر: 39-40].
فسمى الله الدنيا دار متاع. والمتاع ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر. ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]. وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
وقد جعل الله الدنيا مزرعة للآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة والأعمال السيئة، فمن زرع خيرًا حصد خيرًا، ومن زرع شرًّا حصد شرًّا، ولكل زارع ما زرع.
غدًا توفى النفوس ما عملت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على زوالها، فتتبدل صحة الإنسان فيها بالسقم، ونعيمه بالبؤس، وحياته بالموت، وعماره فيها بالخراب، والاجتماع فيها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب.
فلا تصفو لأحد بحال، محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، وبالهموم والغموم والأحزان، فلا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
إن المؤمنين يعلمون بطريق اليقين أنهم في الدنيا بمثابة الغرباء المسافرين، وأن لهم دارًا غير دار الدنيا، هي دار الآخرة دار البقاء، فهم يتزودون للنقلة إليها، لعلمهم أن الدنيا دار فناء، وأن الآخرة هي دار القرار، فهم يتزودون من الدنيا للفوز بالآخرة. ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰ﴾ [البقرة: 197].
قد نادت الدنيا على نفسها
لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته
وجامع بددت ما يجمع
لها في كل حين قتيل من الناس، فمنهم من يموت بالحرق، ومنهم من يموت بالغرق، ومنهم من يموت بالصدم، ومنهم من يموت بانقلاب السيارة، ومنهم من يموت فجأة بداء السكتة، تنوعت الأسباب والموت واحد. ومع هذا كله، قد انخدع أكثر الناس فيها بطول الأمل عن تصحيح العمل، والتأهب للأجل.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وَيَشِبُّ مَعَهُ اثْنَتاَنِ: الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا، وَطُولُ الأَمَلِ»[116]. فالحرص على الدنيا المذموم، كونه يتناول المال عن طريق الحرام، وكونه يشغله ماله عن عبادة ربه وعن أداء واجباته، من صلاته وزكاته، كما أن طول الأمل المذموم هو الذي يمنع صاحبه عن تصحيح عمله، وتحسين خاتمة عمره، فتراه يندفع إلى فعل الأمر المحظور عليه، ويقول: سأعمل ثم أتوب، وقد يفاجئه الأجل قبل التوبة.
فالمسلم العاقل؛ يجب عليه أن يأخذ بالحزم، وفعل أولي العزم، من التوثق في أمور حياته لما بعد وفاته؛ لما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ»[117]. وكان العقلاء من السلف الصالح يتأهبون بكتابة وصاياهم، وتخليدها في حالة صحتهم، عملاً بوصية رسول الله ﷺ لهم، وأخذًا بالحزم في حياتهم.
وتتأكد الوصية في حق من عليه حقوق الناس. وأحق شيء يوصي به الشخص هو الخروج من المظالم، وأداء الديون، وحقوق الناس؛ لأن هذه من الأمور التي لا يترك الله منها شيئًا.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»[118]. ولما ضمن أبو الدرداء دين الميت قال له رسول الله ﷺ: «هل أديت دين الميت؟» قال: نعم. قال: «الآن بردت عنه جلدته»[119]. فعلمنا من هذا الحديث أن الميت لا يبرأ بضمان الحي لدينه، وإنما يبرأ بأداء الدين إلى صاحبه.
ويجب أن يراعي العدل، ويجتنب الحيف في وصيته، فلا يفضل بعض ورثته على بعض، لا في العطية، ويكل أمرهم إلى ربهم ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا﴾ [النساء: 135].
فالمبرور بالطريق الجنف مضرور. كما أن المحروم من حقه مرحوم، أي تسبق له الرحمة من الله، ثم إنه قد شاع بين الناس من عوائدهم الوصية بالثلث، كأنه من الأمر الواجب على كل أحد، سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وهذا خطأ. فإن الوصية بالثلث ليست مستحبة لكل أحد. فالمقل من المال الذي ليس عنده مال كثير، وقد يكون له عيال صغار كثيرون فإن ترك الوصية في حقه أفضل من الوصية بالثلث؛ لأن ما يخلفه من المال لعياله وورثته فإنه بمثابة الصدقة منه عليهم، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا آجَرَكَ اللهُ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ»[120]. ولأن الوصية بالثلث، يحرج عياله ببيع بيتهم الذي يسكنون فيه في حياتهم لأن بيعه من لوازم تصفية الثلث، فترك الوصية للمقل من المال خير من الوصية.
ومثله الوصية بالأضحية؛ فإن الأضحية إنما شرعت في حق الحي شكرًا لبلوغ عيد الإسلام، أما الميت فلا أضحية له. فمن أراد أن يضحي عن والديه الميتين فإن الصدقة أفضل في حقهما.
أما الغني المكثر من المال، الذي له عقارات، وأسهم في الشركات وفي البنوك، له ديون عند الناس وقد يكون عليه حقوق للناس. فالوصية بالثلث جائزة في حقه. لكن فيها نوع حرج ومشقة على الوصي، وعلى الورثة لصعوبة التخلص من الثلث الذي يشمل كل شيء، والذي ننصح به وندعو إليه هو: أن يوصي بشيء معلوم من المال، ثم ينظر إلى أرحامه وجيرانه وفقراء بلده، فيوصي لكل واحد منهم بشيء معلوم، يأخذه قبل أن يأخذ الوارث حقه.
وإن أراد أن يوصي لبعض أرحامه بشراء بيت فعل، أو بناء مسجد وبيت يسكنه إمام المسجد فعل، فإن هذا طريق الوصية الصحيحة، وإن أوصى بوقف عقار في عمل البر والخير فحسن، وهي أسهل في حق الوصي والورثة. فما نفع الإنسان مثل اكتسابه لنفسه، دون أن يتكل في تنفيذ وصيته على غيره، ولا ينسى فعل الخير في حالة حياته وصحته.
ففي الصحيحين: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، أي الصدقات أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوْحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ كَذَا»[121]. وروى أبو داود عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ».
فالوصية بالمعروف مشروعة بالكتاب والسنة، وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[122].
والوصية الواقعة موقعها من الصحة، هي من قبيل الصدقة الجارية، التي يجري أجرها لصاحبها بعد موته. والنبي ﷺ قال: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»[123].
ثم إن هذا الموت الذي يفزع الناس منه، والذي أفسد على أهل النعيم نعيمهم في الدنيا، ليس هو فناء أبدًا. لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ليجزي فيها الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، فهو يكره الموت لكراهته لقاء ربه من أجل ما قدمه من سوء عمله، أما المؤمن الذي قدم لآخرته عملاً صالحًا، فإنه لا يكره الموت حين نزوله به، لفرحه بلقاء ربه وثواب عمله. فإن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه؛ ولأن «صنائع الإحسان تقي مصارع السوء». والنبي ﷺ قال في الحديث الصحيح: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
قال بعض من سمعه من الصحابة كلنا يكره الموت يا رسول الله. فقال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وأقبل على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بشر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه. وإن كان من أهل الشر بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[124].
لهذا يقال للمؤمن عند الاحتضار: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾ [الفجر: 27-30]. كما يقال للفاجر: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. وهكذا حال الناس لا يخرجون عن هذين الوصفين، فواجب العاقل أن ينظر في أي الفريقين هو.
وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ»[125]. يشير بهذا إلى أن عيش الإنسان في الدنيا زائل ومنقطع لا محالة وأن العيش الدائم الصافي هو ما يتحصل عليه المؤمن بعد موته، حين ينتقل من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، وإذا دخل أهل الجنة الجنة، وذاقوا حلاوة نعيمها وما أعد الله لهم فيها، فعند ذلك يتذكرون حالتهم في الدنيا وما أصابهم من الأنكاد والأكدار، والهموم والأحزان، فيقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35].
إنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت؛ فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[116] رواه مسلم من حديث أنس. [117] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [118] رواه أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة. [119] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث جابر. [120] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [121] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [122] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [123] رواه الشيرازي في كتاب الألقاب والكني، والحاكم في الرقائق، والبيهقي في الشعب، كلهم عن سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الساعدي. [124] متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت. [125] متفق عليه ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك.
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. وأشهد أن لا إله إلا الله، بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور. وأشهد أن نبينا محمدًا ﷺ، الداعي إلى كل عمل مبرور.
أما بعد:
فإن الله سبحانه كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء. فكل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وفي الحديث: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
>وكل نعيم لا محالة زائل
»[126]
﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠﴾ [غافر: 39-40]. فسمى الله الدنيا متاعًا، والمتاع ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر، وقال تعالى: ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]. وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [آلعمران: 185]. أي أن صاحب الدنيا يغتر بها، وينخدع فيها، إلى أن يزل عنها قدمه ثم يجازى بعمله.
غدًا توفى النفوس ما عملت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، فتتبدل حياتها بالموت، وعمارها بالخراب، واجتماع أهلها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب.
محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، وبالهموم والغموم والأحزان، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين، فلا تصفو لأحد بحال، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرًا، ولم يضرب لها مثلاً؛ لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله لها واعظ وعنها زاجر؟
قد نادت الدنيا على نفسها
لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته
وجامع بددت ما يجمع
ثم إن الموت ليس هو فناء أبدًا، لكنه انتقال من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، فالمؤمن يحتسب، ويرجو اجتماعه بأحبابه في حياة الآخرة التي لا موت فيها ولا حزن، والتي يقول أهلها حين يدخلونها ويجتمعون فيها ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35]. إن الناس قد انخدعوا بطول الأمل عن تصحيح العمل، والتأهب للأجل ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ﴾ [الأنبياء: 1-3].
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وَيَشِبُّ مَعَهُ اثْنَتاَنِ: الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا، وَطُولُ الأَمَلِ»[127]، فالحرص على الدنيا المذموم، كونه يتناول المال عن طريق الحرام، أو كونه يشغله ماله عن عبادة ربه، وعن أداء واجباته؛ من صلاته وزكاته، كما أن طول الأمل المذموم هو الذي يمنع صاحبه عن تصحيح عمله، وتحسين خاتمة عمره.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ، يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ». لكون الوصية لا تقرِّب أجلاً ولا تبعده. وإنما تعتبر من الأخذ بالحزم، وفعل أولي العزم، وأحق ما يوصي به الشخص هو الخروج من المظالم، وأداء الحقوق والديون إلى أهلها، لكونها من الحقوق التي لا يترك الله منها شيئًا. وفي الحديث: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»[128].
ثم إن هذا الموت الذي أفسد على أهل الدنيا نعيمهم في الدنيا ليس هو فناء أبدًا، لكنه خاتمة حياة الدنيا وبدء حياة الآخرة؛ ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. فلا يجزع من الموت متى نزل به إلا الذي لم يقدِّم عملاً صالحًا لآخرته ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، فهو يكره الموت، لكراهته لقاء ربه من أجل ما قدمه من سوء عمله.
أما المؤمن الذي قدم لآخرته عملاً صالحًا في حياته، فإنه لا يندم على الدنيا، ولا يجزع من الموت؛ لعلمه أن له حياة هي أرقى وأبقى من حياته في الدنيا. فنفسه مطمئنة بلقاء ربه، وثواب عمله. فإن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه، ولأن «صنائع الإحسان تقي مصارع السوء»[129]، فهذا يقال له عند الاحتضار: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾ [الفجر: 27-30].
وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَفْسًا بِكَ مُطْمَئِنَّةً؛ تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ، وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ»[130].
ولما قال النبي ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» ، فقال بعض من سمعه من الصحابة: كلنا يكره الموت يا رسول الله. فقال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان متى كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بشر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[131].
ونظير هذا ما وقع لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين احتضر، وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: أنه يحشر أمام العلماء برتوة، وقال: «أَعلَمُكُم بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ»[132]، ولما احتضر وكان صائمًا. فقال لجاريته: انظري هل غربت الشمس؟ فقالت: لم تغرب. ثم مكث ما شاء الله. ثم قال: انظري قالت: نعم قد غربت الشمس. فقال عند ذلك: مرحبًا بالموت. مرحبًا بطارق جاء على فاقة، لا أفلحَ والله من ندم على الدنيا، اللهم إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لجمع المال، وإنما أحببت البقاء في الدنيا لقيام الليل، وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، آهًا إلى ذلك. ثم قضى، وتوفي رضي الله عنه.
إنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.
ومن آداب المسلم الصبر عند المصيبة، وقد مدح الله الصابرين ﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ ١٥٧﴾ [البقرة: 156-157].
ثم إن التعجيل بتجهيزه سنة لقول النبي ﷺ: «أَسْرِعوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُنْ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ». متفق عليه[133].
وغسل الميت وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. فالصلاة على الميت فرض كفاية. «وَمَنْ صَلَّى عَلَى الجِنَازَةِ فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ، وَمَنْ شهدها حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ » - متفق عليه - وفي البخاري، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ»، والسنّة أن المشاة يمشون أمام الجنازة، والركبان خلفها. لما روى سالم عن ابن عمر أنه رأى النبي ﷺ، وأبا بكر، وعمر، يمشون أمام الجنازة - رواه الخمسة- وعن جابر أنه قال: انصبوا عليّ اللِبن نصبًا، واصنعوا بي كما صنع بقبر رسول الله ﷺ ، وكان قبره قد رفع عن الأرض قدر شبر. وعن أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»[134]. فلا يجوز رفع القبر ولا البناء عليه، لكونه مدعاة إلى الفتنة به، ثم إلى عبادته والتوسل به. والسنة أن القبر يعاد عليه ترابه بدون زيادة.
وروى مسلم في صحيحه قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، أَوْ يُبْنَى عَلَيْهِ»[135]. وقد ابتدع الناس في هذا الزمان بدعة التجصيص على القبر، ووضع الآجر فوقه. وهذه بدعة منكرة، تدعو إلى متابعة الناس عليها على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى. فمن الواجب إزالة البناء والتجصيص عن القبور حتى تبقى على حالة ما عليه قبور المسلمين، يردون تراب القبر عليه بدون زيادة، ثم يرشونه بالماء، ويضعون شيئًا من الحصاء فوقه ليحفظ التراب. ثم يقفون يدعون ويتضرعون إلى الله في قبول حسنته، وغفران سيئته، ثم ينصرفون إلى أهلهم لعلمهم. واعتقادهم أنه لا يزكيه سوى عمله الصالح. لما دفن عثمان بن مظعون قال رسول الله ﷺ : «أَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»[136].
وما يفعله بعض الناس في بعض البلدان من البناء على القبور، ثم العكوف عندها مدة من الزمان، فإنه من المنكر، ويؤول إلى الشرك الأكبر، كما أن أول شرك حدث في الأرض، هو الغلو في قبور الصالحين، بل الطريقة هي أن تدفنوا أمواتكم وترجعوا إلى دنياكم.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ لعن النائحة[137]. وهي التي تندب الميت، وتعدد محاسنه بصوت عال مع البكاء، كأن تقول: واكاسباه، وامُطعِمَاه، واحياتاه، وَازِينَتاه. وقال: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تَقُوْمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ»[138].
«وقد حرم رسول الله ﷺ ضرب الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعاء الجاهلية، قالت أم عطية: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْبَيْعَةِ: أَنْ لَا نَنُوحَ[139]. وقال ﷺ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»»[140] يعني أنه يتالم في قبره من بكاء أهله عليه. أما البكاء الذي هو مجرد دمع العين، وحزن القلب، بدون رفع صوت، فهذا لا بأس به. فقد قال النبي ﷺ حين مات ابنه إبراهيم: «الْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»[141].
ونهى رسول الله ﷺ أن يقبر الميت بالليل، إلا أن يضطروا إليه. رواه ابن ماجه، وأصله في مسلم: زجر النبي ﷺ أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه.
ونهى رسول الله ﷺ عن سبّ الأموات. قال: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا»[142]. - رواه البخاري - وفي رواية «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ»[143].
فهذه الآداب الشرعية في أدب تجهيز الموتى.
﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ [البقرة: 181].
[126] متفق عليه ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة. [127] رواه مسلم من حديث أنس. [128] رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة. [129] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أم سلمة. [130] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة. [131] رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس ورجاله رجال الصحيحين. [132] أخرجه الطبراني في الصغير من حديث جابر، وفيه: «...وَأَعْلَمُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ...». [133] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [134] أخرجه مسلم من حديث أبي هياج. [135] أخرجه مسلم من حديث جابر. [136] وأخرج الإمام أحمد من حديث عائشة أن رسول الله قبل عثمان بن مظعون وسالت دموعه على وجهه. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء. [137] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث ابن عمر. [138] أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. [139] متفق عليه. [140] رواه مسلم من حديث ابن عمر. [141] رواه البخاري من حديث أنس بن مالك. [142] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [143] أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر.
الحمد لله الذي عمت نعمه جميع مخلوقاته، فأبى أكثر الناس إلا كفورًا. أنزل الآيات المحكمات الدالة على فضل الصلاة وأداء الزكاة وبسط اليد بالصدقات، فعميت بصائر الأكثرين، فما زادتهم إلا نفورًا. وأشهد أن لا إله إلا الله، المتفضل بالإحسان والإنعام منًّا منه وتيسيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه. واعلموا رحمكم الله - أن من عرف الله معرفة صحيحة عبده عبادة صحيحة، ومن شرح الله صدره للإسلام، ونور قلبه بالإيمان، قبل الوعظ والنصيحة. ومن أَمِن مكر الله، وترك فرائض الله، وتجرأ على معاصي الله، أذاقه الله لباس الجوع والخوف والفضيحة، وعلى قدر جهل العبد بربه، وتقصيره بأداء واجب حقه، تصدر عنه أعماله القبيحة، وإن الله يقول: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧﴾ [النحل: 97]. فَوَعَد الله - ووَعْدُه حقٌّ وصدق- كل من عمل صالحًا من صلاة وزكاة وصيام وصدقة وإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام، فمن عمل هذه الأعمال وهو مؤمن وسعى سعيه لكسب المال الحلال، أحياه الله حياة سعيدة طيبة، يجد لذتها في قلبه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، ويكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته، ويكون من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين.
وإن من حكمة أحكم الحاكمين، أن الله خلق الناس متفاوتين، فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم السخي ومنهم البخيل، ومنهم العاصي ومنهم المطيع، فأوجب في مال الغني حقًّا واجبًا لأخيه المعْوِز الفقير، ليمتحن بذلك صحة إيمان المدعين، وَجُود الأسخياء المتصدقين، وشح البخلاء النذلاء الهلعين.
وليعلم الكل علم اليقين: أن الله خلق الدنيا فجعلها منحة لأقوام، ومحنة على آخرين؛ لأن كسب المال من حله ثم الجود بأداء واجب حقه، يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخر للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور، والدرجات العلى. فإنفاق المال في سبيل الصدقات، وسائر وجوه الخيرات، هو منجاة من الفقر، وتجارة رابحة في الأجر، وهو من أسباب الوفر والإكثار فما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حُرم انحرف، «وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يوم إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[144]. وفي الأثر: «إِنَّ اللهَ يَقُوْلُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»[145]. وقال النبي ﷺ لأسماء بنت أبي بكر «أَعْطِي وَلَا تُوْكِي فَيُوْكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»[146]، يقول الله: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ﴾ [الحديد: 7].
وقد ضرب الله لكم مثلاً فاستمعوه واتبعوه، يقول الله سبحانه: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٢٦١﴾ [البقرة: 261]. فهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم في طاعة الله، وإن الدرهم الواحد بسبعمائة درهم. وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة. ففى الدنيا يدرك المتصدق سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة فيه، حتى في يد ذريته من بعده ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦ﴾ [محمد: 38]. أي يبخل بالفضل والبركة في حياته، ويبخل بالأجر المدخر له في آخرته بسبب صدقته.
وصدق الله العظيم ﴿ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِ﴾ - أي البخل فسمى الله البخل فاحشة - ﴿وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ﴾ - لذنوبكم- أي بصدقتكم- ﴿وَفَضۡلٗا﴾ - أي سعة وبركة في أموالكم - ﴿وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 268]. وقال: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
إن الله سبحانه ذكر الإنفاق في كتابه المبين، بأساليب كلها تحفز الهمم، وتنشط الأمم، وتبسط الأكف بالكرم، كقوله: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ﴾ [البقرة: 245]. وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، بحيث يزداد ماله نموًا وبركة، وكقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦ﴾ [فاطر: 29-30]. أي يزيد من فضل الدنيا وسعتها، والبركة فيها ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠﴾ [المنافقون: 10]. فالقرآن مملوء بذكر الحث على الصدقة والإحسان.
فهذه الآيات وأمثالها، هي بمثابة الهزة والزلزال لقلوب الرجال، فقلب لا يلين لها، ولا يندفع للبذل في سبيلها، هو قلب خال من الإيمان، لم تمسه نفحة من نفحات الرحمن، قلب خال من الخير، فائض بالبخل والخبث والشر، جبار السماوات والأرض يتودد إلى عباده الموسرين، بأن يعطوا ويتصدقوا بفضل ما أوتوا على إخوانهم المعوزين من الفقراء والمساكين؛ لأن الله أوجب في أموال الأغنياء حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، يقول الله سبحانه: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦﴾ [الإسراء: 26]. والصحابة الكرام لما سمعوا داعي القرآن يدعوهم إلى الصدقة والإحسان ساحت أيديهم بالندى، كما سمحت نفوسهم بالفداء، حتى إنهم يحاملون على ظهورهم، ويتصدقون. كما في البخاري: عن أبي مسعود البدري، قال: حث النبي ﷺ على الصدقة، ولم يكن عندنا مال، فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق. لأنه ليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى. وأنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق؛ من زكاة وصدقة وصلة إلا عوضه الله عنها ما هو أكثر منها. وما بخل أحد بنفقة واجبة من زكاة وصدقة وصلة، إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته، وبالصدقة منه، سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم، ومال الوارث ما خلف. ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
إن الأمة أو القبيلة المتصفة بالسخاء بالمال، ويقومون بالتعاون على الأعمال فيكفل غنيها فقيرها، ويعول قويها ضعيفها، فإنه لا بد أن تتسع تجارتها، وأن تتوفر سعادتها، وأن يدوم على أفرادها النعمة إذا استقاموا على هذه الخلة.
ومن العار أن تنعم ورَحِمُك بائس، وأن تشبع وجارك جائع، وَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ[147]. وقد حذركم الله عن هذا الندم قبل الوقوع فيه فقال: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠﴾ [المنافقون: 10].
أما الأمة التي غمرها الله بنعمته، وفضلها بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب أحدهم على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته والصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق المال لأجله، إنه لرجل سوء وتاجر فاجر، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأحل بغناه دار البوار، فلا خير في مال بعده النار:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[144] أخرجه ابن حبان من حديث أبي الدرداء. [145] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة. [146] أخرجه الإمام أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر. [147] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
الحمد لله، ونستعين بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فإن من حكمة أحكم الحاكمين أن أوجب الله على عباده المؤمنين جهاد الكفار والمنافقين؛ ليمتحن بذلك صحة إيمان المدعين، وليعلم الكل علم اليقين أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والعاقبة للمتقين ﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4]. ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [محمد: 31]. والجهاد هو سنام الإسلام؛ لأن الدين رأسه الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، والجهاد يكون بالحجة والبيان، ويكون بالقوة والرجال، ويكون بالمال. ولكل مقام مقال؛ لأن الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق، ونصر الدين، والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرمانهم. والمسلم يجاهد بسيفه ولسانه وماله، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»[148].
وأخبر النبي ﷺ، بأنه «ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلًّا لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم»[149].
وفي القرآن والسنة تكرار فضل الجهاد والمجاهدين، وأخبر الله في كتابه الحكيم بأن الجهاد هو التجارة الرابحة في الأجر، كما أنه من أسباب العز والنصر، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ١٠ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١١ يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣﴾ [الصف: 10-13].
إن السلف الصالحين من الصحابة والتابعين، لما سمعوا آيات الجهاد تتلى عليهم قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]. فساحت أيديهم بالنداء، وسمحت نفوسهم بالفداء، فمنهم البائع لنفسه، ومنهم الباذل لماله حمية دينية، ونخوة عربية، لعلمهم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَ﴾ [التوبة: 111]. فمن أخبارهم الشهيرة، ومآثرهم المنيرة أن رجلاً من الصحابة جاء إلى رسول الله ﷺ قال: «أرأيت إن قاتلت فقتلت صابرًا محتسبًا ماذا أكون؟ فقال: «في الجنة». وكان في يده كسرة تمرة، فقال: والله لإن بقيت حتى آكل هذه الكسرة إنها لحياة طويلة. ثم رمى بها وهزَّ سيفه، وأقبل يرتجز ويقول:
ركضا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
إن التقى من أفضل المزاد
فقاتل حتى قتل»[150]، رضي الله عنه.
ثم إن النبي ﷺ حثهم على الجهاد في سبيل الله في غزوة العسرة، وكانت زمن جهد ومجاعة، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بصرة دنانير كادت كفّه تعجز عنها، فوضعها بين يدي رسول الله ﷺ، فجعل رسول الله يقلبها ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ»[151]، «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتَ» [152].
وقدمت عير من الشام لعبد الرحمن بن عوف تقدر بسبعمائة بعير، تحمل طعامًا وثيابًا وأدمًا، فتصدق بها كلها في سبيل الله.
فبالله قل لي: كيف عاقبة أمرهما بعد هذا الإنفاق الطائل؟ أجبك بأنهما توفيا وهما من أحسن الناس حالاً، وأكثر الناس مالاً، وتصدق عمر بشطر ماله.
إن الله سبحانه قد ضمن النصر للمؤمنين المجاهدين، فقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١﴾ [غافر: 51]. وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الروم: 47]. فهذا النصر المضمون للمؤمنين، هو مشروط بنصرهم لدين الله وحمايته، والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم، وأن يجاهدوا أنفسهم على القيام بواجبات دينهم قبل أن يجاهدوا عدوهم، حتى يكون الله وليهم وناصرهم، والمعين لهم على عدوهم. ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾ [محمد: 7]. ولا بد مع هذا من الأخذ بأسباب الوسائل من الحزم والحذر، والاستعداد بالقوة، كما أرشد إليه الكتاب العزيز في قوله: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء: 71]. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60]. والقوة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، ولكل زمان دولة وقوة ورجال تناسب حالة القتال.
أما إذا تخلف عملهم عن واجبات دينهم، أو لم يستعدوا بالحزم والقوة لجهاد عدوهم، فإنه يتخلف عنهم هذا النصر المضمون لهم؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، والاتكال على الإيمان بدون عمل يعتبر عجزًا ومخالفة لأمر الله ورسوله.
لهذا، يجب التفكير في سبب تخلف هذا النصر عن المؤمنين طيلة هذه السنين في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الروم: 47]. ولن يخلف الله وعده، وإن تخلف هذا النصر إنما هو من أجل تخلف إصلاح الأحوال والأعمال، فتسلط الأعداء عليهم في حال تقصيرهم في واجبات دينهم، وعدم استعدادهم بالقوة لمجابهة عدوهم ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَ﴾ [النساء: 79].
إن الشيء بالشيء يذكر، والدنيا كلها عبر.
إنه لمّا كانت واقعة بدر، وكان أصحاب رسول الله ﷺ قلة، وفي حالة ضعف وذلة، وأقبل المشركون بخيلهم وخيلائهم وهم محدقون بالسلاح التام؛ يريدون أن يستأصلوا شأفة رسول الله وأصحابه، وأن يبيدوا خضراءهم، فصف رسول الله ﷺ المقاتلة، ثم قام يدعو ويتضرع إلى ربه حتى سقط رداؤه من طول قيامه للدعاء، فلما التقى الجمعان، أنزل الله النصر على نبيه وأصحابه، فقتلوا سبعين من عظماء المشركين، وأسروا سبعين، وضربوا عليهم الفداء. وبعد هذا النصر والظفر، دخل في قلوب الصحابة شيء من قوة الإيمان بالله، والتوكل عليه، وظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا؛ من أجل إيمانهم، وكونهم حزب رسول الله ﷺ ويقاتلون في سبيل الله، مما جعلهم يكسلون عن الاحتفال بالأسباب وأخذ الحذر والاحتفاظ عن غوائل عدوهم.
وفي واقعة أحد، صف رسول الله ﷺ المقاتلة في مصافهم، وأمّر عبد الله بن جبير على سرية، وجعلهم في فم شعب، وقال: «احْمُوا ظُهُورَنَا، وَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ، حَتَّى لَوْ رَأَيْتُمُ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا فَلَا تَنْصُرُونَا، أَوْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا»[153]، وكانت الغلبة للنبي ﷺ وأصحابه أول النهار، حتى كسروا تسعة ألوية للمشركين، وانهزم المشركون، وجعل السلاح والمتاع يتساقط منهم، والناس يحوزونه، فقال أصحاب عبد الله بن جبير بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة. فذكرهم أميرهم قول رسول الله ﷺ فعصوه، وأخلوْا مركزهم، فدخلت خيل المشركين من جهته، فقتلوا سبعين من الصحابة، وشجوا رأس رسول الله ﷺ، وكسروا رباعيته، ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا، وصرخ الشيطان: قتل محمد.
وبعد هذه الهزيمة، أخذ الصحابة يتفكرون في سببها، وقد عرفوا أنها إنما حصلت عليهم بسبب ذنب اقترفوه في إخلاء مركزهم؛ الذي أمروا بحفظه، وأنزل الله، كالتأنيب والتأديب ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ﴾ [آلعمران: 165]. أي بسبب تقصيركم بواجبكم.
فهذه الكبوة، وما حصل على أثرها من النكبة، قد أورثت الصحابة شيئًا من الحزم، وفعل أُولي العزم، من أخذ الحذر، والاستعداد بالقوة، واستعمال وسائل الكيد لعدوهم، مما جعلهم يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه، من فتح مشارق الأرض ومغاربها.
ولمّا انتشرت فتوحهم الإسلامية، وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش، وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد المبطلين، ونشر الأحكام الشرعية، وتعميم اللغة العربية، فاختطوا المدن، وأنشؤوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، فكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ٤١﴾ [الحج: 40-41]. فمن قام بالله عز، ومن كان مع الله، كان الله معه.
إن المصارعة بين الحق والباطل، والمقاتلة بين المسلمين والكفار، لا تزال قائمة وموجودة من لدن خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة، وحتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦﴾ [البقرة: 216]. ويترتب على هذه الحروب حكم ومصالح لا يعلم غايتها إلا الله الذي قدر سببها ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو ظن أن الله يديل اليهود على المسلمين إدالة مستمرة، فقد ظن بالله ظن السوء، لكن الله سبحانه يؤدب عباده، فإذا عصاه من يعرفه، سلط عليه من لا يعرفه. والباطل لا تقوى شوكته، ولا تعظم صولته، إلا في حال رقدة الحق عنه، وغفلته منه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]. غير أن للباطل صولة، نعوذ بالله من شرها، لكن عاقبتها الذهاب والاضمحلال، وقد قال الله: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥﴾ [آلعمران: 175]. أي يخوفكم بأوليائه، ويعظمهم في نفوسكم، ومن هذا التخويف؛ ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود، وتعظيمهم في نفوسهم وألسنتهم، حتى ظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من شدة كيدهم ومكرهم، وتوفر وسائل القوة لديهم، وقد غزوا قلوب الناس بالرعب والرهب منهم، ونسوا أن الله سبحانه قد وعد عباده المؤمنين النصر عليهم، فقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١﴾ [آلعمران: 111]. ونسوا قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ﴾ [الأعراف: 167]. وصدق الله العظيم، فإن هذا العذاب الذي وعدهم الله بأن يساموا به، هو ضربة لازب في حقهم لا يفارقهم، ولا يزال ملازمًا لهم، كما هو الواقع بهم الآن بأيدي المسلمين، وما سيقع بهم إلي يوم القيامة أكثر وأعظم ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
إن هذا الطفور والطغيان، ومجاوزة الحد في الفتك والسفك والعدوان، الواقع من اليهود على العرب المسلمين طيلة هذه السنين، حتى أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم إلى الصحراء، واستولوا عليها قسرًا وقهرًا، وأخذوا يسومونهم سوء العذاب، من القتل والتضييق والإرهاق، حتى بلغ الأمر بهم إلى أشد الاختناق، وإلى حد ما لا يطاق، حتى لقد أنكر أمرهم وبغيهم وطغيانهم جميع دول العالم ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40].
وقد عرف العقلاء أن هذا التغلب والاستيلاء من اليهود؛ إنما حصل بسبب ذنب من المسلمين اقترفوه، وذلك حينما ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بفرضه ونفله، وعلى أثره حصل الاختلاف بين الحكام والزعماء نتيجة الاختلاف في النزعات والأهواء، فتقطعت وحدة جماعة المسلمين إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسبب هذا الاختلاف، حصل الاعتلال والاختلال.
وهي فرصة سنح للعدو فيها المواثبة، فقويت شوكته، وعظمت صولته، وتسلط على العرب المسلمين بجبروته وقوته، حتى أخذ الناس يقولون: ﴿مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ﴾ [البقرة: 214].
وبسبب هذه الحوادث، والنقمات، وما نجم عنها من الكبوات والنكبات حصل رجوع الكثير من الناس إلى ربهم، والقيام بواجبات دينهم، من صلاتهم وصيامهم، فعملوا أعمالهم في إصلاح أعمالهم، رجاء أن يصلح الله أحوالهم، لعلمهم أنه ما نزل بهم بلاء إلا بذنب.
كما حصل التقارب بين قلوب حكام المسلمين وزعمائهم، وإزالة الإحن والشحناء من بينهم، فتكاتفوا وتساعدوا وتعاضدوا على قتال عدوهم؛ لأن المؤمنين ﴿بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ﴾ [التوبة: 71]. ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ﴾ [المائدة: 54].
وهذا الرجوع إلى الله، وما يتبعه من التعاضد والتساعد في القتال في سبيل الله، هو مؤذن ومبشر بنصر من الله وفتح قريب إن شاء الله، كما أنه مؤذن ومبشر بانتهاء نصر اليهود، واقتراب مصرعهم بحول الله، وكل شيء فمرهون بوقته، ومربوط بقضاء الله وقدره ﴿إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦ﴾ [آلعمران: 160].
إن هذه الأمة الباغية الطاغية التي حلت بساحة العرب المسلمين، تقتل الأنام، وتحاول أن تجتث أصل الإسلام، ينسلون للتعاون من كل حدب، ويتواثبون على أهل الإسلام من كل جانب.
فإن جهاد هذا العدو الصائل واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن تعذر عليه ببدنه، تعين عليه بماله، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 111].
ولأن المال بمثابة الترس للإسلام، يستجلب به العدد والعتاد، وسائر وسائل الجهاد، ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد، فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب، ويستعان به في الطعن والضرب، والمسلم يجاهد بنفسه وماله، وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبًا مفروضة يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله، وفي المال حق سوى الزكاة فمن لم يكن عنده زكاة، وجب أن يساهم بقدر استطاعته، كل على حسب مقدرته، والدرهم بسبعمائة درهم، وعند الله أضعاف كثيرة.
ولست أقول إن مساعدة هؤلاء المجاهدين أنها مستحبة فحسب، وإنما أقول: إنها واجبة كوجوب الصلاة والصيام؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والنبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»[154].
إنه من بعد حروب الصحابة والتابعين، ثم حروب صلاح الدين مع التتر والصليبيين، حينما أجلاهم عن بلدان العرب المسلمين، لم نسمع بالجهاد في سبيل الله الصحيح الحقيقي، إلا في هذا القتال الواقع بين المسلمين مع اليهود، فهذا هو الجهاد في سبيل الله حقًّا، والذي يجب أن يضحى في سبيله بالنفس والنفيس.
لأن هؤلاء المجاهدين المباشرين للقتال؛ هم بمثابة المرابطين دون ثغور المسلمين، يحمون حدود المسلمين وحقوقهم، فهم يحاربون دون أديانكم وأبدانكم، يحاربون دون ذراريكم ونسائكم، يحاربون دون مجدكم وشرفكم وحسن سمعتكم. وقد طلبوا النجدة والمساعدة من إخوانهم المسلمين، وقد أوجب الله عليكم نصرتهم، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ﴾ [الأنفال: 72]. والنصر يكون بالقوة والرجال، ويكون بالمال ﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡ﴾ [النور: 33]. فمن العار أن تنعموا وهم بائسون، أو تشبعوا وهم جائعون، أو يضعفوا وأنتم مقتدرون، والمسلم كثير بإخوانه، قوي بأعوانه.
وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق، كالجهاد في سبيل الله، إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، والناس إنما يستحبون اقتناء المال لحوادث الزمان.
وهذا القتال هو أشد حادثة وقعت على الإسلام والمسلمين في هذه السنين، وله ما بعده من العز والذل، نعوذ بالله من الخذلان.
إن في العهد الذي عهده رسول الله ﷺ لأمته أن ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم، ومعنى كونهم يد على من سواهم، أنه متى بغى عدو على المسلمين كهؤلاء اليهود، فإن من الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره؛ لأن المسلم كالبنيان للمسلم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2].
لقد بلغكم من الأخبار المشهورة، والجرائد المنشورة، أن مدار قوة اليهود، تتركز على مساعدات قومهم لهم، أفلا يكون المسلمون أحق بالسبق إلى هذه الفضيلة التي أوجبها عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنتم تقاتلون على الحق وهم على الباطل.
إن الله سبحانه قد أوجب الجهاد، وأمر بالاستعداد له بالقوة، ومن المعلوم أنه لا قوة بعد الله إلا بالمال، وبدونه يقع الناس في الذل والضر ولا بد.
وكيف يصول في الأيام ليث
إذا وهت المخالب والنيوب
إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه نخوة دينية، أو غيرة عربية، فساهموا في الفضل، وتنافسوا في البذل، فمنهم من ضحى بالنفس، ومنهم من جاد بالنفيس، لأنه لا خبيئة بعد بؤس، ولا عطر بعد عروس، والمال لا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وناهيك بالحاجة إليه في أزمة القتال.
لا تذخروا المال للأعداء إنهمُ
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا
﴿هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ﴾ [محمد: 38]. ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جيوش المسلمين نصرًا عزيزًا، اللهم افتح لهم فتحًا مبينًا، اللهم ألّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبيل الحق والعدل والسداد.
اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، وثبت أقدامهم، وأنزل السكينة في قلوبهم، اللهم إنا نستعين بك، ونستنصرك على اليهود! الذين كذبوا رسلك، وآذوا عبادك، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم، وانصر المسلمين عليهم بحولك وقوتك إله الحق.
[148] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس وقال: صحيح، وأقروه. [149] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عمر. [150] أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك. [151] أخرجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة. [152] أخرجه الآجري في الشريعة والعقيلي في الضعفاء من حديث حسان بن عطية. [153] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث البراء بن عازب. [154] رواه أحمد من حديث أنس بن مالك.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها رفيع الدرجات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العاليات، والأعمال الصالحات.
أما بعد:
فإن الله سبحانه قد أوجب على عباده المؤمنين العمل بشرائع الدين، ومراعاة العدل في الأقوال والأعمال، وفي الحكم والقسم والشهادات، وفي الأهل والمال والبنين، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ - أي بالعدل - ﴿شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ﴾ [النساء: 135]. ويقول: ﴿وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ﴾ -أي ولا يحملنكم - ﴿شَنََٔانُ قَوۡمٍ﴾ - أي عداوة قوم - ﴿عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰ﴾ [المائدة: 8]. ويقول: ﴿وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ﴾ [الأنعام: 152].
العدل وما أدراك ما العدل: هو قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين وله وضعت الموازين، وهو الآلف المألوف المؤمِّن من كل مخوف، به تألفت القلوب، والتأمت الشعوب، وشمل الصلاح، واتصلت أسباب النجاح والفلاح، وشمل الناس التواصل والتناصف، والتعاطف والتلاطف.
والعدل مأخوذ من العدل والاستواء، المجانب للجنف والجور والالتواء. وحقيقته وضع الأمور في موضعها، وأخذ الأموال من حلها ووضعها في محلها، وأداء الحقوق إلى أهلها، وإيتاء كل ذي حق حقه، «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ - أي العادلون - عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا»[155].
والعدل: وهو ضد الجور، ونسمع من ألسنة الناس يقولون: فلان عدل، سيرته حسنة، يؤدي الحقوق ولا يظلم أحدًا. وبضده يقولون: فلان «مايل»، يأكل حقوق الناس ويتكبر عليهم. فهذه شهادة الناس عليهم، والناس شهداء الله في أرضه.
العدل واجب على كل أحد بحسبه، فعلى الحاكم من العدل: وجوب تنفيذ الحق والإلزام به، وردع الظالم، وكف طمعه، وإقناعه بحقه، وإيقافه على حده حتى لا يعتدي على غيره؛ لأن الحاكم ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]. وإذا اتصف الحاكم بالعدل، ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه، وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عَزْل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
وعلى القاضي الحكم بالعدل، والاجتهاد في إيصال الحق إلى مستحقه، والصبر على أذى الناس فيه، وفتح الأبواب وتسهيل الجناب وإزالة الحجاب والتبكير للجلوس للناس، واحتساب راحتهم بقطع النزاع عنهم؛ لأن ذلك من لوازم الحكم بالعدل.
وقد ذكر العلماء أن الذين يتوسطون بالإصلاح بين المتنازعين، والقسم بين المتشاركين بأنهم بمثابة القضاة، بحيث إنه يجب عليهم العدل والمساواة في حكمهم وقسمهم، لا سيما إذا كان في الورثة أيتام صغار، أو نساء ضعاف، فإنه يجب العطف عليهم واللطف بهم وإنصافهم في قسمهم، فالتوسط بالإصلاح والعدل ببن المتعادين، وإزالة الإحن والشحناء بين الأقارب المتباغضين هو من سنة الدين، يقول الله تعالى: ﴿لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ١١٤﴾ [النساء: 114]. والنبي ﷺ قال: ««أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»[156].
ومن لوازم القائم بالإصلاح بين المتنازعين بالعدل أن يردع الطامع في مجاوزة حده وطمعه في حق غيره، فيصرح له بخطئه واعتدائه، فإن الصديق الحر هو من يُجرع صديقه المر، ليقيه من الوقوع في الضر، والنبي ﷺ قال: ««انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: «تَرْدَعُهُ عَنِ الظُّلْمِ، فَذَلكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ»[157].
ومن العدل مراعاة الاعتدال في أداء الشهادة؛ لأنها من الدين والأمانة، والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [المائدة: 8]. أي بالعدل ويقول: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: 2]. أي أدوا الشهادة مقومة معدلة بدون جنف ولا جور، وبدون زيادة ولا نقص، كما قال النبي ﷺ للشاهد: ««ترى الشمس؟» قال: نعم. قال: «على مثلها فاشهد أو دع»[158]. ولأن أداء الشهادة كأداء فريضة الصلاة والصيام، لا تقبل الزيادة ولا النقصان، والكل لله عز وجل. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: ««عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى» مرتين. ثم قرأ: ﴿فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ ٣٠ حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦ﴾ [الحج: 30-31][159]. وقال «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وكان متكئًا فجلس. فقال: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ». فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت»[160].
وسميت شهادة الزور زورًا لكونها مزورة، أي مكذوبة مزورة، أو لكونها منحرفة عن طريق الحق والعدل، قد ظلم الشاهد بها نفسه، وظلم من شهد له وظلم من شهد عليه، وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيْءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»[161] فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث عن استخفاف الناس بالشهادة، إن قومًا في آخر الزمان يستخفون بأداء الشهادة، يجيء أحدهم بمثابة أنه شاهد، فيطيش به الهوى مع من يشهد له، فيقوم ويقعد مقام المخاصم المتحامل، فأحيانًا يشهد وأحيانًا يحلف بدون أن يستحلف، وهذا يسمى الشاهد المتحامل، وقد أسقط العلماء شهادته من أجل عدم عدالته، وأخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره.
ومن ذلك وجوب العدل بين الأهل، ولم يبح الله التعدد في الزوجات إلا بشرط التزام العدل. يقول الله تعالى: ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً﴾ [النساء: 3]. ويقول: ﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: 129]. فأخبر الله أن العدل بين الزوجات في المحبة وتوابعها متعذر؛ لأنه من غير المستطاع. وكان النبي ﷺ يقسم لنسائه ويعدل ويقول: «اللَّهُمَّ هَذِا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ»[162]. يعني القلب ودواعيه. ولهذا نهى الله المؤمنين أن يميلوا كل الميل إلى إحدى الزوجات ويذروا الأخرى كالمعلقة، لا هي ذات زوج ولا مطلقة، كما يوجد كثير في أخلاق الذوّاقين.
فواجب المسلم العادل أن يراعي العدل في القسم بين زوجاته في المبيت والمقيل، وفي الكسوة والنفقة، إلا أن تسقط إحداهن حقها باختيارها، فقد وهبت سودة نوبتها وليلتها لعائشة. وليس من واجب القسم المساواة بين الزوجات في النفقة، فيجوز أن يخصص إحدى الزوجات بزيادة نفقته على حساب زيادات مصرفها في بيتها، لكونها تقصد لالتماس الصدقة، أو لأن لها عيالاً، ونحو ذلك. فهذا جائز، وليس من الجور في شيء، حتى لو أعطاها عطية جزلة خارج النفقة فإن ذلك جائز.
ومن الجور وعدم العدل كون بعض الناس متى استجد له امرأة، ووقعت عنده بموقع المحبة والحظوة، هجر امرأته القديمة وقلاها وآذاها، وقطع صلته بها ومبيته عندها، وقطع نفقته عليها وكل عياله منها بدون سبب يوجبه منها، ولم يزل ذلك دأبه بها إلى أن يبلى شبابها. وهذا لا يجوز، فإن الله يأمر بالعدل والإحسان. وكان النبي ﷺ يقول في المجامع العظام: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»[163]. وكان يقول «اتَّقُوا اللهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ الْأَرْمَلَةِ وَالصَّبِيِّ الْيَتِيمِ»[164]. وكان يقول «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[165].
وأعظم من هذا وأظلم الذي من تزوج امرأة فوقع بغضها في نفسه، ولم تحظ بمودته، فأخذ يضارها أو يضربها، لتفتدي منه فترد عليه الذي دفعه لها. وهذا حرام، ولا يفعله إلا الأراذل اللئام، وما يأخذه من المال منها فإنه حرام وليس بحلال؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠ وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٢١﴾ [النساء: 20-21]. بل إن الكرام متى تصرمت حبال مودتهم، وعزموا على فراق زوجاتهم، متعوهن بشيء من المال، وتحف الإكرام والاحترام، ليجبروا بذلك صدع الفراق، ومرارة الطلاق﴿وَلِلۡمُطَلَّقَٰتِ مَتَٰعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٤١﴾ [البقرة: 241].
ومن العدل وجوب التسوية بين الأولاد في العطية والوصية، وكان السلف الصالح يراعون العدل بين الأولاد حتى في القبل.
وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير: «أن أباه نَحَله بعض ماله، فقالت أمه عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله ﷺ. فانطلق بي أبي إلى النبي ﷺ يشهده على صدقتي، فقال له رسول الله ﷺ: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟» قال: لا. قال: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ»»[166]. وفي رواية قال: «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ». قال: فرد أبي تلك العطية. يقول العلماء: إن من شؤم هذا التخصيص وقوع العداوة والبغضاء في قلوب الإخوة على أبيهم، وعلى أخيهم المخصص بالعطاء دونهم، ووقوع العداوة من بعضهم على بعض، فينشؤون متقاطعين متباغضين.
فمن أراد أن يخلف لأولاده مشكلة يتقاطعون عليها الأرحام، ويستمر فيها من بينهم النزاع والخصام، فليخصص أحدهم بالعطية أو يوقف الوقف على أحدهم، أو الأرض. ولم ينه الرسول الشارع الحكيم عن هذا التخصيص إلا من أجل شؤمه، وانتزاع بركته، وسوء عاقبته.
ومن الناس من يحابي بماله البنين دون البنات؛ ليحرمهن من حقهن، وهذا أيضًا يعد من الظلم، ومن الجنف والجور، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث. ولما قسم الله الميراث في سورة النساء، وبين ما يخص كل واحد من الورثة، قال بعد تقسيمه: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤﴾ [النساء: 13-14]. يفسره حديث: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوْهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوْهَا»[167]. ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ﴾ [النساء: 135]. ومن المشاهد بطريق الاعتبار أن المبرور بطريق الجور مضرور، وأن المحروم من حقه مرحوم، أي تسبق له الرحمة من الله تعالى ﴿ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ﴾ [النساء: 11].
وههنا قضية هي لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره؛ وذلك أن عبد الملك بن مروان خلف لعياله مالاً كثيرًا، يكفيهم لنفقتهم نهاية أعمارهم، وزادهم رضخًا في المال ليقيهم من الوقوع في الفقر. أما عمر بن عبد العزيز فإنه لم يخلف لعياله سوى سبعين دينارًا، وقيل له: أوصِ لعيالك. قال: لا. إن عيالي أحد رجلين: إما رجل تقي، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3]. وإما ولد فاجر، ولا أريد أن أعين الفاجر على فجوره بشيء من المال، فتوفي رحمه الله عن غير مال. فدار الدهر بدورته.
قال الراوي: فلقد رأيت عيال عمر بن عبد العزيز يتصدقون على عيال عبد الملك بن مروان، ولقد رأيت أحد عيال عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله.
فاحفظ الله يحفظك في دينك وأهلك وعيالك. وفي الحديث «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه، فليتق الله»[168].
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[155] رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص. [156] رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء بإسناد صحيح. [157] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. ولكن بلفظ: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَهِ». [158] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس. [159] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، ورواه الطبراني في الكبير موقوفًا على ابن مسعود بإسناد حسن. وهو في رواية خريم بن فاتك مرفوعًا. [160] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [161] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [162] رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة. [163] من خطبته ﷺ في حجة الوداع بعرفة. [164] رواه البيهقي في الشعب عن أنس بن مالك. [165] رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها. [166] رواه مسلم. [167] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني. [168] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، والله يجازي كل من شكره بالمزيد ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧﴾ [ابراهيم: 7]. فبالشكر تزيد النعم وتدوم، وبتركه تسلب وتزول، فالشكر قيد النعم، والمعاصي من أسباب حلول النقم، و «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»[169]، وليس الشكر مقصورًا على قول أحدكم: الشكر لله. فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان، ينطق به البر والفاجر، والجاحد والشاكر، والله تعالى يقول: ﴿وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]. وإنما حقيقة الشكر: الاعتراف بالنعمة باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها في مرضاة وليها ومسديها. فمن أنعم الله عليه بنعمة الغنى بالمال، فعنوان شكره هو القيام بواجب حق الله فيه، من أداء زكاته، ومن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير؛ الذي خلق لأجله فإن هذا هو حقيقة شكره المستلزم لنموه وبركته، مع النفقة منه على الأهل والعيال، والتجمل منه بأنواع الزينة المباحة والمسكن؛ لأن هذا من النفقة بالمعروف، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لأن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة.
إن الناس مستخلفون في الدنيا على أموالهم، والله ناظر كيف يعملون فمن أخذ هذا المال من حله، وأدى منه واجب حقه، فنعم المعونة هو، وكان له حسنات ورفع درجات في الجنات، ومن أخذه من غير حله، ومنع منه واجب حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عذابًا عليه في الدنيا، وعقابًا في الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٨٥﴾ [التوبة: 85].
إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الزكاة والصدقة والصلة وسائر الأفعال الخيرية، إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف. وما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق؛ من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.
فكسب المال من حله، ثم الجود بأداء واجب حقه، يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخرى للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فجميع ما أوجد الله في الدنيا من الذهب والفضة والمعادن الجامدة والسيالة والبترول والحيوانات والثمرات وسائر الفواكه والخيرات، كل هذه خلقها الله كرامة ونعمة للإنسان، ليتنعم بها في حياته، ويتمتع بها إلى ما هو خير منها لآخرته، يقول الله تعالى: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ﴾ [سبأ: 15]. وقال: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١﴾ [طه: 81]. فأمر الله عباده، بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، أي من الحلال، ولا يطغوا فيه، والطغيان: هو مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان، وذلك بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، فيحملهم الغنى بالمال على الوقوع في الطغيان، وصدق الله العظيم ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨﴾ [العلق: 6-8].
فكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث، من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يراد به ذمّ أفعال بني آدم السيئة في المال؛ لأن أفعال الناس تقع غالبًا على الأمر المكروه أو الحرام؛ من أكلهم الربا، وشربهم الخمور، وتوسعهم في أعمال الشرور والفجور، فالذم ينصرف إلى هذه الأعمال، لا إلى نفس المال. وإذا قال الإنسان: لعن الله الدنيا. قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه؛ لأن الله جعل الدنيا منحة لأقوام، ومحنة على آخرين، وسعادة لأقوام، وشقاوة على آخرين، وقد سمى الله المال خيرات.
فالمال هو من الزينة التي أخرجها الله لعباده كرامة لهم ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣٢﴾ [الأعراف: 32]. فسمى الله المال زينة؛ لأنه يزين صاحبه في العيان، ويجمله بين الأقران، ويحفظه عن السقوط في الذل والهوان، وهو ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وإن الكريم على الإخوان، ذو المال.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
ما أقبح الكفر والإفلاس في الرجل
مع العلم أنه لا غبطة بكثرة المال، وإنما الغبطة في استعمال المال فيما خلق له من صالح الأعمال، كما قيل.
فتى لا يعد المال رَبّا ولا يُرى
له جفوةٌ إن نال مالاً ولا كبرُ
إنه ما بخل أحد بالزكاة الواجبة، إلا عاجلته الحسرة والندامة قبل خروجه من الدنيا. وهنا قصة هي بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره:
عاد الحسن البصري رجلاً يدعى عبد الله بن الأهتم، وكان تاجرًا لكنه شديد البخل فرآه يضطرب ويحوقل، فقال: ما هذا الاضطراب معك، أمن وجع تشتكيه؟ فقال: لا والله، ولكنني أفكر في مائة دينار في زاوية هذه الدار لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحمًا، ولم أقم بواجب حق الله فيها، وقد عرفت أنني سأعذب بها، فقال له: ثكلتك أمك، ولمن كنت تجمعها وتمنعها قال: جمعتها لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. ثم إنه قدر أن يموت من مرضه فشهد الحسن جنازته، فلما أتى المقبرة ألقى الموعظة على حسب عادته في نشر الحكمة والموعظة الحسنة، فقال: انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، وجفوة سلطانه، انظروا إليه خرج من الدنيا مذؤوما مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، ثم التفت إلى الوارث. فقال: لا تخدعن كما خدع صاحبك بالأمس، إن هذا المال أتاك حلالاً، فلا يكونن عليك وبالاً، وأتاك عفوًا صفوًا ممن كان جموعًا منوعًا من باطل جمعه، وعن حق منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح لك فيه يمين، ولم تعرق لك جبين، واعلم أن يوم القيامة ذو حسرات، وأكبر الناس حسرة رجل رأى ماله في ميزان غيره، سعد به وارثه، وشقي به جامعه، فيا لها حسرة لا تزال، وعثرة لا تقال.
إن الناس عند استفادة الغنى على أقسام، منهم البخيل المقتر، ومنهم السفيه المبذر، ومنهم الوسط المقتصد الغني الشاكر، وخير الأمور أوسطها.
أما البخيل المقتر فهو التاجر الجموع المنوع فهو الذي غمره الله بنعمته، وفضله بالغناء على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته، وعن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله. قد التاط قلبه بحب الدنيا، فجعلها أكبر همه وغاية قصده، وصرف إليها جل عقله، وجل عمله، وجل اهتمامه، وترك لأجلها فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، ولم يزل ذاك دأبه، حتى يخرج من الدنيا مذؤومًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، فيندم حيث لا ينفعه الندم، ويقول: ياليتني قدمت لحياتي، وربما كان محدث نفسه في حال فقره، أن لو أغناه الله لأنفق وتصدق، وأدى زكاة ماله، فلما حقق الله آماله، وكثر ماله، فر ونفر، وبخل واستكبر، فهذا بالحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد أوقع نفسه في الفقر من مخافة الفقر، فكان جموعًا منوعًا، هلوعًا جزوعًا. فلا ينبغي أن يُغبط مثل هذا بكثرة ماله، مع العلم بفساد أعماله، إذ هو أخو قارون في كثرة ماله، وفساد أعماله.
خُلقوا وما خُلقوا لمكرمة
فكأنهم خُلقوا وما خُلقوا
رُزقوا وما رُزقوا سماح يد
فكأنهم رُزقوا وما رُزقوا
فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرا وعلنًا حتى يكون أسعد الناس بماله. فإن مال الإنسان ما قدم.
إن الله سبحانه قص علينا في كتابه الكريم خبر من أنعم عليه بالغنى فشكر، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، قال سبحانه في حق الغني الشاكر ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨﴾ [النور: 37-38]. أي من سعة الدنيا وبركتها. قال البخاري في صحيحه : كان أصحاب رسول الله ﷺ يتجرون ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله، بادروا بأدائها إلى الله[170] ، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فحصلوا الحسنتين، وفازوا بالسعادتين؛ سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، فكانت أعمالهم بارة، وأرزاق الله عليهم دارة. ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [الزمر: 18].
أما من أنعم الله عليه بالغنى، فطغى واستكبر، فقد قال الله تعالى في حقه: ﴿۞وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة: 75-77]. إن هؤلاء في حالة فقرهم، كانوا على جانب من الصلاح والاستقامة، ويحافظون على الصلوات في الجمع والجماعة، وكانوا في حالة فقرهم، يعاهدون ربهم أن لو أغناهم الله لأدوا زكاة أموالهم، وأنفقوا وتصدقوا، فلما حقق الله آمالهم وكثر مالهم، فروا واستكبروا، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله، فتركوا الصلوات، ومنعوا الزكاة، فأنزل الله فيهم ما تسمعون ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
فالمال لا يكون سعادة في الحياة، ولا حسنات بعد الوفاة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال؛ بأن يأخذه من حله، ويؤدي منه واجب حقه، فيكون نعم المال الصالح للرجل الصالح، والتاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
أما السفيه المبذر، فهو الذي أصاب من هذا المال جانبًا كبيرًا، وعددًا كثيرًا، ولكنه أساء التصرف في استعماله، حيث حمله على الطفور والطغيان، على مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان، لم يزل تاركًا للصلاة، عاكفًا على اللذات، وشرب المسكرات، ينفق المال جزافًا في سبيل البذخ والشهوات، والتفنن في المأكولات، والتأنق في المركوبات، ولم يزل ذلك دأبه، حتى يصبح صفر اليدين، مطوق العنق بالدين، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأحل بغناه دار البوار.
ومن المشاهد بالاعتبار أن المسرفين المبذرين يصابون بالفقر قبل أن يموتوا؛ لأن إنفاقهم المال في سبيل الإسراف والتبذير، وعدم حسن التدبير؛ مؤذن بزواله، ثم الوقوع في ضده - أي الفقر الذي استعاذ منه النبي ﷺ وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[171]، فما افتقر من اقتصد. فدين الإسلام هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعه التجارات من سبيل حلها، ومنع الإسراف والتبذير لها.
يقول الله: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5]. أي تقوم بها أبدانكم، وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم وشرفكم.
والسفه: خفة في الرأي، علامته كونه لا يحسن تثمير ماله ولا توفيره. وقال تعالى: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء: 26-27]. فجعل المبذرين من إخوان الشياطين، دليلاً على مهانته ومذلته، لأن الشياطين هم الذين يبطرون نعمة الله ولا يشكرونها ﴿وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا﴾ [النساء: 38].
فلا تكونوا مثل هذا السفيه المبذر، ولا مثل ذاك البخيل المقتر، ولكن مثل الوسط المقتصد الغني الشاكر، الذي آتاه الله النعمة فعادت عليه بالسعادة والرحمة، ساسها بالرأي والتدبير، وصانها من الإسراف والتبذير، وعاد بأداء زكاتها بالصدقة منها على الفقير والمسكين، وعلى الرحم واليتيم، فزكت نعمته، وزادت وثبتت ودامت، فكان عمله بارًّا، ورزق الله عليه دارًّا ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [الزمر: 18].
أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[169] أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد من حديث ثوبان. [170] أخرجه البخاري من حديث قتادة. [171] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، وضعفه بمحمد بن عجلان، وإنما خرج له مسلم في الشواهد.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.
أما بعد:
فاعلموا رحمكم الله أن نعم الله على العباد كثيرة وأعظمها وأجلها الهداية إلى الإسلام، والثبات عليه إلى الممات ففي الحديث: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه»[172]. وكان النبي ﷺ يدعو ويقول: «اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِدًا، وَلَا تُشَمِّتُ فِيَّ عَدُوًّا وَلَا حَاسِدًا»[173]. وكان يقول في دعاء القنوت: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ»[174]. ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ﴾ [الأنعام: 125]. فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله طيبة بذلك نفسه، منشرحًا به صدره.
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في مرادها الأجسام
﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا﴾ [الأنعام: 125]. أي ضيقًا بذكر الإسلام، حرجًا من أمره ونهيه، وفرائضه ونوافله، وحلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه، يتسمى بالإسلام بلسانه، ويناقضه بجوارحه وأركانه، حظه من الإسلام محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. وهذه حالة أكثر الناس في هذا الزمان، يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، أو ينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه.
وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠﴾ [البقرة: 8-10].
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الإسلام قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان؛ لأنه ليس الإسلام محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله، فإن النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ»[175]. يعرف به صاحبه وفي مسند الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، ويحب أهل الدين، ويبغض الملحدين، فيشهدون له بما ظهر لهم من عمله، والناس شهداء الله في أرضه، فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام على التمام، هو الذي يوحد المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم»[176].
إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل، وشرع شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة، والعدل والإحسان، وخطب الناس وقال: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[177]. وأخبر في الحديث الصحيح «أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»»[178].
فالمسلم العاقل لا يستغرب دين الإسلام لقلة المتمسكين ولا يستوحش طرق المساجد لقلة المصلين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]. فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا أفسد الناس.
وأخبر النبي ﷺ:أنها «سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ فِيْهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»[179]. وهذه الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ ليست كما تتوهمون، من أنها الضرب بالمدافع أو البنادق أو القنابل أو السيوف والخناجر، بل هي أشد وأشر من هذا كله، وهي الفتنة في الدين، لكون الفتنة في الدين أشد من القتل، وهي الفتنة التي تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل. يولد الرجل مؤمنًا بين أبوين مؤمنين، فيطرأ عليه الإلحاد، وفساد الاعتقاد، فينقلب على عقبيه، ويرتد عن دينه، ويصير فتنة على أهله وأقاربه وسائر من يجالسه ويقارنه، فيقذف من بينهم التشكيكات والشبهات التي تزيغهم عن معتقدهم الصحيح، فيكذب بالقرآن، ويكذب بالرسول، ويكذب بالبعث بعد الموت للحساب، ويكذب بالجنة والنار، ويقول: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا﴾ [الجاثية: 24]، ونحو ذلك من سموم الإلحاد، وجراثيم الفساد. وهؤلاء هم أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على المسلمين أشد من ضرر اليهود والنصارى، من أجل أن المسلمين يغترون بهم، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل التارك لدينه، المفارق لعقيدة جماعة المسلمين؛ إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه.
إن الفتنة التي خافها النبي ﷺ على أمته هي: الفتنة في الدين، وهي انتشار المذاهب الهدامة. وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من مضلات الفتن، ويقول في التحيات: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»[180]، لأن كل من فُتن في حياته فإنه لابد أن يفتن بعد وفاته.
إنه إذا ساء الاعتقاد ساء العمل، وإذا ساء العمل ساءت النتيجة. لقد رأينا هؤلاء الذين ارتدوا عن دينهم، وضيعوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، واعتنقوا المذاهب الهدامة من بعثية وشيوعية ولا دينية، رأيناهم من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢﴾ [النحل: 112]. لأن للمنكرات ثمرات، وللمعاصي عقوبات، ومن المشاهد المحسوس؛ أنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والصيام الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، واستباحوا الربا والزنا وشرب الخمور الوبيَّة؛ إلا فتح عليهم من الشر كل باب وصب عليهم ربك سوط عذاب، ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25]. لأن دين الإسلام بمثابة سفينة نوح، من لجأ إليه نجا، ومن تخلف عنه غرق.
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغوا السلامة من غناء
إذا انصرفت شعوب الأرض عنه
فبشر كل شعب بالشقاء
وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بالكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر، وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم لينظر العاقل إلى ضد هؤلاء من أهل البلدان الذين تمسك أهلها بالمحافظة على واجبات دينهم، من الصلاة والزكاة والصيام، وسائر شرائع الإسلام، يجدهم آخذين بنصيب وافر من السعادة والرضاء، والأمان والاطمئنان، سالمين من الزعازع والافتنان؛ لأن الله سبحانه قد وعد كل من اتبع هداه، وعمل بطاعته. بأن لا يضل ولا يشقى في الدنيا.
وقد توعد سبحانه كل من أعرض عن دينه وترك طاعة ربه، ونسى أمر آخرته، بأنه سَيبتلى بالمعيشة الضنك في حياته، ويحشر أعمى بعد وفاته، قال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ١٢٤﴾ [طه: 123-124]. فحشر هذا أعمى من أجل أنه كان في الدنيا أعمى عن عبادة ربه، وعن الصلاة وسائر الطاعات، والجزاء من جنس العمل. وكما تدين تدان.
إن الإلحاد إذا سطا على قلب الأولاد طاش بهم عن مستواه بحيث يحملهم على الطفور والطغيان، وعلى مجاوزة الحد، في الكفر والفسوق والعصيان، فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين. فمتى رأينا من هذه صفته، وجب علينا أن نسأل الله العافية من سوء حالته، وأن لا نتبع أنفسنا أسفًا وحسرة على سوء سيرته، وفساد عقيدته، بعد إقامة الحجة عليه، فقد أنزل الله في كتابه التعزية والتسلية عن أعماله وأمثاله، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦﴾ [آلعمران: 176]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥﴾ [محمد: 25].
إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان، حيث وصفوه بأنه أغلال، وأن شرائعه تكاليف شاقة، وأنه لا يتلاءم الحكم به مع القرن العشرين، ونحو ذلك من الأقوال الملفقة والناشئة عن الإلحاد والزندقة، ولا عجب فإنهم أعداء الإسلام، وقد تحاملوا عليه بالطعن فيه وصد الناس عنه، فهم كما قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
إن زنادقة العرب، قد تلقفوا هذه الكلمة من النصارى، وأخذوا يبثونها بين الناس، ليصدوا بها الناس عن الدين، كالشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فهم الدعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها كما أخبر النبي ﷺ عنهم.
إن أساطين المسلمين الفاتحين من الصحابة والتابعين، ومثل خلفاء بني أمية الفاتحين للأندلس، ومثل نور الدين وعماد الدين وصلاح الدين، إنما شاع لهم الذكر الجميل، والثناء الحسن، وكتب لهم العزة والتمكين في الأرض، كل ذلك من أجل تمسكهم بالإسلام، وعملهم به على التمام، حيث جعلوا الكتاب والسنة لهم بمثابة الإمام، فقادهم إلى الأمن والإيمان، والسعادة والاطمئنان، وعاشوا في ظله في عافية واسعة، ونعمة باسقة، ذاقوا حلاوته حين طعموا ثمرته، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف. وفي الحديث «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[181]. ذلك بأنها لما انتشرت الفتوح الإسلامية، وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش، وتزويق الأبنية، وجمع النقود، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، ونشر العلوم الإسلامية، وتعميم اللغة العربية، وفتح المحاكم الشرعية، فاستنبطوا الأحكام، وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن، وأنشأوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، ونشروا العلوم والمعارف، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت لهم بالأرزاق الدارة.
أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ٤١﴾ [الحج: 40-41]. فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، واستقيموا على الجادة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[172] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. [173] من حديث رواه الحاكم عن ابن مسعود وغيره وصححه. [174] من حديث رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. [175] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [176] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [177] بعضه من رواية مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. [178] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث أبي أمامة وأنس بن مالك. [179] أخرجه الترمذي من حديث أنس. [180] من حديث طويل رواه الحاكم عن ابن مسعود وقال: صحيح، قال العراقي: وليس كما قال. [181] رواه مسلم عن العباس.
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونصلي ونسلم على رسول الله سيد المرسلين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن نصوص الكتاب والسنة توجب على الأمة الإسلامية بأن يكون منهم أمة صالحة، يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ لأن هذا هو سبب صلاح الناس وفلاحهم، قال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾ [آلعمران: 104]. فعلق سبحانه فلاح الناس ونجاتهم ونجاحهم بوجود جماعة مؤمنة، يأمرون بالخير وينهون عن الفساد في الأرض. وأخبر سبحانه أن هذا هو سنة الله في خلقه من لدن القرون السابقة، وأنه ينجي الناس بوجود الرجال المصلحين الذين يأمرون بالخير وينهون عن الشر، ويسعون في البلاد بالإصلاح ومنع الفساد. فقال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ ١١٦﴾ [هود: 116]. فأخبر سبحانه بأنه لولا وجود رجال صالحين مصلحين ينهون عن الفساد في الأرض، لعم الناس الهلاك والبلاء، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]. فالأمر بالخير، والنهي عن المنكر، واجب على كل واحد بحسبه، كوجوب الصلاة والصيام؛ لأنه سنام الإسلام، وقوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين، وهو الآلف المألوف المؤمن من كل مخوف. به تألفت القلوب، والتأمت الشعوب، وشمل الصلاح، واتصلت أسباب النجاح والفلاح، وشمل الناس التعاطف والتلاطف، والتواصل والتناصح.
فمن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١﴾ [التوبة: 71].
فوصف الله المؤمنين بهذه الصفات الحميدة، والأفعال السديدة، وبدأ منها بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ لأن النهي عن المنكر هو مما يقلل فشوه وانتشاره. والشريعة الإسلامية جاءت بجلب الخير وتكثيره، ودرء الشر وتقليله، لكون المنكر إذا ترك بحاله، ولم يقم أحد من الناس بمنعه ودفعه، فإنه يستشري في العباد والبلاد، فيعم الفساد حتى يعمي ويصم، وإن العلماء والأمراء والرؤساء، هم بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه من دخول الفساد والإلحاد، وما يعود بخراب البلاد، وفساد أخلاق النساء والأولاد. ولا يتصف بالقيام بهذا العمل، وحماية الوطن؛ إلا الخيار النادر قولاً وعملاً. يقول الله: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ [آلعمران: 110]. فهذه الخيرية الجليلة، لا تدرك إلا بهذه الأعمال الجميلة التي من جملتها الأمر بالخير، والنهي عن الشر، فإذا لم يتصفوا بذلك، ولم يوجد منهم من يقوم بهذا الفرض، فإنهم يعدون من شر الخلق والخليقة؛ لأن من «بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»[182]. وإنما دخل النقص على بني إسرائيل بسببه.
فمتى قصر هؤلاء بواجبهم، ولم يقوموا بحماية دينهم ووطنهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم، والحوانيت تفتح لبيعها، وتركوا الأفلام الخليعة، والفواحش الشنيعة، تنتشر بينهم، بحيث تغزوهم في عقر دورهم بدون أن ينكروا منكرها، وبدون أن يتناصحوا في شأنها، ومنع ما يقبح منها، وصار جل أعمالهم هو التلاوم فيما بينهم، فإن هذا العمل والسكوت عليه، مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير. وهؤلاء الرؤساء يلامون على سكوتهم، إذ لا نجاة لهم ولا للناس إلا بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر.
ثم إن عرض الأفلام الخليعة التي فيها النساء العاريات، يسبحن في البحار، ويلاعبن الرجال، باللمس والتقبيل والاضطجاع جميعًا، وتشرب معه كأس الخمر، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق والأعمال والفواحش المكشوفة، وفنون الخلاعة التي يشاهدها الصغار والكبار، فإنها من الفواحش التي لا تبقي من الأخلاق ولا تذر.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وكل هذه تعتبر بمثابة التمرين على هذه الأعمال الشنيعة، بحيث يتعلمها النساء والأولاد للعمل بها. فهي بمثابة الدروس التي تنطبع محبتها في النفوس وتؤثر فيهم كتأثير خمر الكؤوس، وباستمرار إدمان رؤيتهم لها، يزول منهم الحياء والغيرة والخلق الحسن.
فلا يرونها منكرًا؛ لأن كثرة رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، لأن رؤية الفواحش والمنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها ذهب استعظام قباحتها في القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى أنها منكرات، ولا يمر بفكره أنها معاصٍ. وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
فنشر هذه الأفلام الخليعة هي جرثومة الفساد، وخراب البلاد، وفساد العباد، وخاصة النساء والأولاد. وهي أشد وأشر من الزنا وشرب الخمر، لكون الزاني لا يضر بفعله إلا نفسه، وزناه يقع في حالة الخفية، والمعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها. أما إذا ظهرت ولم تغير، ضرت العامة بسكوتهم عنها، كما ثبت بذلك الحديث، أما هذه الأفلام الخليعة فإنها تشتمل على تعميم نشر الفواحش الشنيعة، والأعمال الفظيعة، بين الخاص والعام، والصغار والكبار، وهي من الفتن التي تعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، حتى تجعل القلوب منكوسة سودًا، لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا. فإذا أردتم أن تعرفوا عظم مضارها، وتأثيرها في الأخلاق والعقيدة والدين، فانظروا إلى البلدان التي ضعف فيها الإسلام، واستباحوا الجهر بمنكرات الفواحش والعصيان، ثم انظروا إليهم كيف حالهم؟ وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى حق. قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وهذه من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ بأنه يرقق بعضها ببعض، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاة جماعة. قال: فاجتمعنا. فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا». ومعنى يرقق بعضها بعضًا أن الآخرة شر من الأولى.
وقد يظن بعض الناس أن هذه الفتن التي أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان، والتي حذر منها أمته، بأنها الحروب المشتملة على الضرب بالبنادق والمدافع، والقنابل والسيوف والخناجر. وليس الأمر كذلك، بل هي أشد وأشر من هذا كله، وهي الفتن التي تفسد الأخلاق والعقائد والأديان، وتوقعهم في الافتتان؛ لأن الفتنة أشد من القتل، ولا أشد ولا أشر من الفتن التي تغزو الناس في عقر دورهم، وتفسد ذراريهم ونساءهم، كفتنة الأفلام الخليعة التي هي مشهد زور، ومدرسة فجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق، والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخالي شجيًّا، تساوره الهموم والغموم، ويبلى بالسهر وطول التفكير، وحرمان لذة النوم، فهي بمثابة شَرَك الكيد، وحبائل الصيد، للقلوب الضعيفة من النساء اللاتي هن ناقصات عقل ودين، وقد وصفهن رسول الله ﷺ في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من الغناء والألحان المطربة، وما يفعلونه من التعاشق والتعانق، كل هذا مما يضعف الإيمان، ويستدعي الميول إلى الفسوق والعصيان، فيغرق الناس جميعًا في حضيض الذل والهوان، فتنقطع من بينهم روابط الزوجية الشرعية، وتدنيهم من الإباحية المطلقة، فمتى كان القائمون ببث أفلامها الخليعة ممن لاحظ لهم في الأخلاق والدين، ويحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين، فإنها تصير فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا. والدفع أيسر من الرفع، والوقاية أسهل من العلاج. وإني أنصح المراقبين عليها بتقوى الله في عرض ما ينفع ويجمل ويزين من الأخلاق الفاضلة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض منكرات الأخلاق الساقطة والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش. كما أنني أنصح الحكومة بنصب رقابة عدلية، تمنع نشر الفواحش الموحشة، وتمنع نشر ما يقبح منظره، وسوء مخبره، كرامة للدين والوطن، واستبقاء لحسن السمعة واتقاء الفتنة، وأن الحكومة إن لم تقم بمنع ما يتوجب منعه من الفواحش الموحشة والألحان الخليعة، فإن الناس سيغرقون جميعًا في فساد البلاد، وفساد أخلاق النساء والأولاد، ويصدق عليهم ما حذرهم منه نبيهم ﷺ. حيث قال «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يسعى في دفع المنكرات وإزالتها - والواقع فيها - أي الذي يفعل المنكرات - كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»[183].
وهذا مثل مطابق للواقع، فإن الناس متى سكتوا عن نشر مثل هذه الأفلام الخليعة، وتركوها تسطع في دورهم، بين نسائهم وأولادهم، فإن الفساد يعمهم، ويصير ما يشاهدونه خلقًا لهم، يشب عليه صغيرهم ويهرم عليه كبيرهم.
والرؤساء لا يعذرون أمام الله ولا أمام الناس عن السكوت على مثل هذا، لكن بعض الناس يعلل نفسه بالأعذار الباردة ويقول: هذا آخر زمن وهذا تيار جارف، ويفعل مثله في بلد كذا وكذا، وقد عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، فاتخذوا هذا الحديث بمثابة التخدير والتفسير، يحاولون أن يسقطوا به ما وجب عليهم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولعباده المؤمنين، ولأئمة المسلمين، كأن الرسول - بزعمهم - قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف والغربة للدين، بدون أن يسعى أحد بحوله وقوته، وبجده وجهاده لدفعه ورفعه، وهذا خطأ واضح لفهم الحديث، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إنما قصد به التمسك بالدين، وعدم الاغترار بضعفه وغربته، وإعراض الناس عنه. فقد قال: ««بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»[184] قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» - وفي رواية «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ». وفي رواية: «هم قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير»». فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار، ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم، من وسائل التعويض ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، فمعنى الحديث أنه يحث على التمسك بالدين عند ضعفه وغربته، والسعي في إصلاح ما أفسد الناس منه؛ لأن هذا الضعف وهذه الغربة وصف عارض يقع في مكان دون مكان، كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ وارتد العرب كلهم عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد بجواثى عبد القيس.
وعلى أثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره، وثبت في الصحيح: أنه «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[185]. فالعاقل لا يستوحش غربة الإسلام لقلة المتمسكين، ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿ وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103].
فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وتمسكوا بدينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[182] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [183] رواه البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير. [184] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [185] أخرجه مسلم من حديث جابر، وابن ماجه من حديث مرة بن إياس.
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد سيد المرسلين. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا؛ - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
وقال مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
إن هذا الحديث الشريف قد ورد من طرق متعددة، وبألفاظ متنوعة، وهو يعدُّ من جوامع الكلم؛ لأن رسول الله ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يجمع الحكم الكثيرة في الكلمات القليلة.
بدأ هذا الحديث بقوله: «إياكم والظن، فإن الظن أكذبُ الحديث»[186]. وهو بمعنى قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞ﴾ [الحجرات: 12]. فأخبر سبحانه أن بعض الظن إثم. ولما طاف النبي ﷺ بالكعبة قال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك، وإن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمتك، ماله، ودمه، وألا يظن به إلا خيرًا»[187]. وروى الطبراني من حديث حارثة بن النعمان، أن النبي ﷺ قال: ««ثَلَاثٌ لَازِمَاتٌ لِأُمَّتِي: الطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ، وَسُوءُ الظَّنِّ» فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله؟. فقال: «إِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تَحَقَّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ»».
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملاً، فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة. وقد قيل:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته
فأصبح في ليل من الشك مظلم
وفي القرآن الكريم ﴿إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞ﴾ [الحجرات: 12ولم يقل إن كل الظن إثم، قد يكون الظن صادقًا أو كاذبًا، ولا يلام عليه صاحبه، لكونه بفعله قد عرض نفسه للتهمة، قد قيل: من دخل مداخل التهم فلا يلومن من أساء به الظن. «ولما زارت صفية - زوجة رسول الله - ﷺ الرسول في معتكفه، وأرادت أن ترجع إلى بيتها. فقام معها رسول اللهﷺ يشيّعها، فأبصر رجلين قد أسرعا السير حياءً من رسول الله ﷺ. فقال لهما: «مَهْلًا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. تَكَلَّمِي يَا صَفِيَّةُ». فقالا: أتظن أن نظن بك شيئًا؟. فقال: «نَعَمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا»[188].
ثم قال: «وَلَا تَجَسَّسُوا» والتجسس هو بمعنى التحسس، وهو تتبع عورات الناس وعثراتهم، والحرص على العثور على ما ستروه من عوراتهم.
ولهذا خطب النبي ﷺ فقال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ»[189].
وقد قيل:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترًا من مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
ولا تعب أحدًا منهم بما فيك
ولما قيل لابن مسعود: إن فلانًا يوجد معه رائحة الخمر: فقال: إنا نهينا عن التجسس، وإن يظهر لنا شيء نأخذ به[190].
ثم قال: «وَلَا تَحَاسَدُوا» فالحسد المذموم، هو الحرص على زوال النعمة عن المحسود، بأن يسعى سعيه، ويعمل عمله في محاولة زوال النعمة عن هذا الرجل المسلم.
فهذا هو الحسد الذي يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب، ونعوذ بالله من شر حاسدٍ إذا حسد.
أما ما يجده الإنسان في نفسه من تمنيه زوال النعمة عن عدوه بدون أن يعمل عمله، أو يسعى سعيه فهذا عفو لكونه من حديث النفس.
وفي الحديث «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»[191]. ولهذا قال النبي ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تأكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ»[192].
والحسد هو داء دوي، وخلق رديء، يقدح في المروءة، ولا يزال صاحبه حليف هموم وأليف غموم؛ ولهذا قالوا: إن الحسد داء منصف يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود.
ولهذا قيل:
دع الحسود وما يلقاه من كمده
كفاك منه لهيب النار في كبده
إن لمت ذا حسد نفست كربته
وإن سكت فقد عذبته بيده
ثم قال: «وَلَا تَنَاجَشُوا» فالنجش المنهي عنه هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما نفع للبائع، أو إضرار بالمشتري، والناجش خائن، لكونه جمع بين ظلم نفسه، وظلم صاحب السلعة، وظلم المشتري.
«وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[193].
ثم قال: «وَلَا تَبَاغَضُوا» فنهى رسول الله ﷺ عن التباغض الذي ينجم عنه التدابر، أي الهجران، وأخبر أن التباغض هو داء الأمم قبلنا. فقال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ»[194]. ولهذا قيل: «ثَلَاثٌ يُصَفِّينَ لَكَ وُدَّ أَخِيكَ: أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَأَنْ تَدْعُوَهُ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ، وَأَنْ تُوَسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ»[195]. «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»[196]. وروي «هجر الإنسان أَخَاهُ سَنَةً كَسَفْكِ دَمِهِ»[197]. ولهذا حث النبي ﷺ على السعي بالإصلاح بين المتباغضين، والتقارب بين المتباعدين، فقال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ»[198]. يقول الله تعالى: ﴿لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ١١٤﴾ [النساء: 114]. وقد شرعت الجماعة في الصلاة لمصلحة التقارب بين القلوب.
ثم قال: «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» ومعنى هذا النهي كون الإنسان يتفق مع آخر في الثمن، ثم يقوم آخر ويقول: أنا أبيعك بأقل من هذا الثمن، وهذا حرام؛ لأن فيه إضرارًا بالبائع، ومثله النهي عن السوم على سوم أخيه، وذلك بأن يتفق البائع والمشتري على الثمن، ولم يبق سوى التسليم، فيقوم رجل فيقول: أزيدك على هذا الثمن، يريد أن يتخلى عن البيع، فهذا من السوم على السوم الذي هو حرام. أما إذا وضعت السلعة للمزايدة، وهذا يزيد، والآخر يزيد، فلا بأس بذلك. ومثله الخطبة على خطبة أخيه، فمتى خطب شخص امرأة من أهلها ووافقوا على قبوله، وهو يعلم بذلك، ثم يذهب فيخطب على خطبة الأول؛ فهذا حرام؛ لأن فيه إضرارًا بالخاطب، وقطعًا لسبيل خطبته.
ثم قال: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ» أي أن المسلم الحقيقي، هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، كما أن المؤمن، هو من أمنه الناس على دمائهم، وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، فلا يظلم المسلم أخاه المسلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ولا يخذله، ولا يحقره. ففي الحديث. أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ عِرْضِهِ، ويُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتُهُ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ أَحَدٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ يُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ»[199] لكون هذا الذل والاحتقار للمسلم، إنما ينشأ غالبًا عن الكبر والزهو بالنفس، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر يطأهم الناس بأقدامهم، لكونهم يتصورون الناس في أعينهم بمثابة الذر، فجوزوا على عملهم بمثله.
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في الناس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين
ولهذا قال: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»[200]. وكان النبي ﷺ ينادي بهذه الكلمات في المجامع العظام، كجمع يوم عرفة وغيره، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[201]. ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[202]. وكأنه في تحذيره يشاهد ما سيقع في آخر الزمان، من بدعة الاشتراكية الشيوعية، التي استباح بها الزعماء سلب أموال الأغنياء، ثم أجلسوهم على حصير الفقر والفاقة، بحجة الاشتراكية المبتدعة، التي ما أنزل الله بها من سلطان. وعلى أثرها وقع جميع الناس في أسوأ النتيجة، وسوء العاقبة، حتى صارت الدولة فقيرة، والناس فقراء، وانقطع سبيل التبادل بالتجارة، وضعف الحرث والنسل. ومن دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[203] فالجوع والفقر هما خسارة، والخيانة خسارة الآخرة. كما استعاذ بالله من المأثم والمغرم. وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ أَثِمَ، وَحَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[204]، ففي المأثم خسارة الآخرة، وفي المغرم خسارة الدنيا، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. فلا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيُقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[205] رواه مسلم، يقول الله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وانتهوا عما حرم عليكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[186] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [187] أخرجه عبد الرزاق من حديث عبد الله بن عمرو. [188] متفق عليه من حديث علي بن الحسين. [189] رواه الترمذي من حديث ابن عمر بلفظ: «يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ». [190] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود. [191] أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة. [192] رواه أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة. [193] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [194] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء المقدسي عن الزبير بإسناد قال المنذري: جيد. [195] أخرجه الطبراني من حديث عثمان بن طلحة. [196] أخرجه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري. [197] أخرجه أبو داود من حديث أبي خراش السلمي. [198] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء. [199] رواه أحمد في مسنده وأبو داود والضياء عن جابر وأبي طلحة بن سهل قال الهيثمي: إسناد حديث جابر حسن. [200] رواه مسلم عن أبي هريرة. [201] من خطبته ﷺ في حجة الوداع. [202] من خطبته ﷺ في حجة الوداع. [203] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأما حديث «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ...» فقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة. [204] أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة. [205] متفق عليه عن أم سلمه بلفظ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ....».
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها من فضله المزيد. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأحرار والعبيد. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٨٩﴾ [المائدة: 89].
شرع الله سبحانه اليمين التي هي عنوان تعظيم أمر الله، لحفظ حقوق عباده: دمائهم وأموالهم، ولقطع النزاع من بينهم. فمن حلف بالله، فليصدق، ومن حُلِف له بالله، فليرض، ومن لم يرض، فليس من الله.
ومن رحمته سبحانه، أنه عندما يحلف أحدهم على فعل الشيء أو تركه، كأن يقول لصاحبه على سبيل الإكرام: والله لتدخلن بيتي، أو والله لتأكلن ذبيحتي. فيقول له صاحبه: لا والله لا أدخل بيتك، أو لا والله لا آكل ذبيحتك. فإن هذا من لغو اليمين الذي لا كفارة فيها؛ لقول الله سبحانه: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ﴾ ومثله لو قال: والله إن شاء الله لأفعلن كذا، ثم لا يفعله، فإنها لا تنعقد يمينه.
أما اليمين التي يقتطع بها مال امرئ مسلم، أو يستحل بها دمه، فهي اليمين الغموس الفاجرة، سميت غموسًا، لكونها تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار، عياذًا بالله من ذلك.
وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال ««مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»» متفق عليه[206].
واليمين الغموس التي يحلف بها على مال أخيه المسلم، هي من أكبر الكبائر عند الله، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ»[207]. فقرن اليمين الغموس بالإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله قتلها.
فالذي يحلف على مال أخيه المسلم عامدًا متعمدًا، يعتبر بأنه قد باع نصيبه من الآخرة، بهذا القدر الزهيد الذي حلف عليه. يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٧٧﴾ [آلعمران: 77]. وأخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره. والنبي ﷺ خطب الناس فقال: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضٍ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، مِنْ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ»[208]. وقال «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيُقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ». متفق عليه من حديت أم سلمة.
فهذه اليمين التي يحلف بها على مال أخيه المسلم، لا تنحل بالكفارة أبدًا، فلا كفارة لها، وإنما تنحل بالتوبة إلى الله، والإقلاع عن الذنب، ورد المظلمة التي حلف عليها إلى صاحبها، لا كفارة لها إلا ذلك. أما كفارة اليمين فكما أخبر الله عنها؛ بأنها إطعام عشرة مساكين من قوت البلد، لكل مسكين مُد من البر أو الأرز. وإن عشى عشرة مساكين من طعامه الذي يأكله، أجزأه ذلك، فإن الله سبحانه ذكر الإطعام ولم يشترط التملك.
وقد أجاز الإمام أبو حنيفة إخراج القيمة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا كان أنفع للفقراء. وتقدر القيمة الكافية في الإطعام في هذا الزمان، بستة ريالات لكل مسكين[209]، أو يكسو عشرة فقراء، رجالاً ونساءً الكسوة المعتادة، بأن يكسو المرأة ما يجزيها لصلاتها، أو عتق رقبة. فمن لم يجد ما يكفر به عن يمينه، فإنه يصوم ثلاثة أيام متتابعة. فهذه كفارة أيمانكم إذا حلفتم.
﴿وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ﴾ فحفظ اليمين هو أن تكون محترمة في نفس المؤمن، معظمة في اعتقاده، لا يحلف بالله إلا وهو صادق. وإذا حلف وحنث، كفر عن يمينه، وليحذر الكذب في اليمين، فإنها تقطع الأصل والنسل، وتذر الدار خلاء من أهلها. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ»[210].
وكثرة الحلف الكاذب في البيع منفقة للسلعة، لكنها تمحق الكسب. نسمع من بعض الناس يقولون: الله يكره اليمين صادقة أو كاذبة. فإن الصادقة غير مكروهة ولا مذمومة، ولا يلام عليها من حلف بها. فإن اليمين شرعها الرب الحكيم لقطع النزاع والخصام، ولحفظ الدماء والأموال، كما شرع الله الصلاة والصيام. فالمؤمن يُخلص بها حقه من خصمه الجاحد لحقه، ويحق بها كلمة العذاب على الكاذب. وقد حلف عثمان بن عفان على مال له. وحلف ابن عمر، وحلف أشخاص من الصحابة على حقوق لهم مالية. ولما قيل لبعضهم، كيف تحلف على مال؟ قال: كيف لا أحلف على حقي والله سبحانه قد أمر نبيه في كتابه بأن يحلف على إثبات الحق؟ وقد حلف النبي ﷺ في بضعة وثمانين موضعًا. فمتى كان للإنسان حق في نفسه، وقد جحده خصمه فتوجهت اليمين عليه فيه، فإنه يحلف ليتحصل على ماله بيمينه، وينقذ خصمه من ظلمه. كما حكم النبي ﷺ بالبينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وحكم باليمين مع الشاهد.
أما اليمين المبتدعة، التي يجب اجتنابها فهي اليمين بالطلاق، الذي هو يمين الفُسّاق. تجد بعض الناس إذا حلف له خصمه بالله، قال له: ما أرضى حتى تحلف بالطلاق. واليمين بالله أعظم حرمة من اليمين بالطلاق؛ لأن اليمين بالطلاق معدودة من البدع، وحيث إنه كثر الوقوع من الناس فيه، فإنه لابد أن نتكلم عن الحكم فيه، فنقول: من حلف بالطلاق على إنسان أن يدخل بيته، أو أن يأكل ذبيحته، فأصر المحلوف عليه على الامتناع، فلم يدخل البيت، ولم يأكل الذبيحة، فإنه لا ينعقد يمينه، وليس عليه كفارة لاعتبار أنه من لغو اليمين الذي لا كفارة فيه؛ لأن من شرط وجوب الكفارة كونه يحنث مختارًا، وهذا قد حنث مكرهًا، فلا كفارة عليه.
ولو حلف إنسان بالطلاق على فعل شيء أو منعه، بأن قال: عليّ الطلاق أني لا آكل من طعامك. فأكل منه، أو قال: عليّ الطلاق أن لا آكل من ذبيحة تذبح لي فأكل منها، أو قال: عليّ الطلاق أن أعطيك هذا الشيء فلم يعطه، أو قال: علي الطلاق أن لا تخرج زوجتي من بيتي فخرجت بإذنه، ونحو ذلك من الكلام. فمتى حلف على ذلك فحنث في يمينه، فنحن نفتي بأنها لا تطلق امرأته، وإنما عليه كفارة يمين، لإلحاقها بالإيمان المكفرة.
كما حكى ابن القيم إجماع الصحابة على ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن هذا الحالف لم يقصد طلاق زوجته، وإنما أراد تأكيد ما حلف عليه من منع زوجته لا غير، أو لا يأكل من ذبيحة تذبح له رفقًا بصاحبه. فهو إنما يريد إكرام صاحبه وعدم تكليفه، فمتى ذبح الذبيحة وأكل منها، فإن عليه كفارة اليمين لا غير، وأكله من هذه الذبيحة أفضل من إصراره على الامتناع؛ لما فيه من إدخال السرور على أخيه المسلم. ولا تَطْلقُ زوجته.
أما اليمين المنعقدة التي يجب لها الكفارة؛ فهي اليمين التي يؤكدها صاحبها على نفسه، بأن يحلف بأن لا يدخل دار فلان ثم يدخلها، أو يحلف بأن لا يأكل طعام فلان ثم يأكله، أو يحلف بأن لا يأكل من ذبيحة تذبح له ثم يأكلها. فهذه هي اليمين المنعقدة. فمتى حلف عليها ثم حنث فيها لزمته الكفارة. على أن المؤمن لا ينبغي له أن تمنعه يمينه عن فعل البر والخير والصلة والأفعال الحسنة مع رحمه أو جاره، بأن يحلف أن لا يسلم على رحمه أو على جاره، أو لا يأكل من طعامه، أو لا يدخل داره، ونحو ذلك مما يمتنع من فعله بيمينه فلا ينبغي للمسلم أن يصر على هذه اليمين، حتى إذا قيل له: لِم لم تسلم على قريبك أو جارك؟ قال: علي يمين أن لا أكلمه، ولا أسلم عليه. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلُواْ ٱللَّهَ عُرۡضَةٗ لِّأَيۡمَٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصۡلِحُواْ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٢٤﴾ [البقرة: 224]. أي لا تجعلوا أيمانكم بمثابة العرضة التي تردكم عن فعل البر والخير والصلة.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال لعبد الرحمن بن سمرة: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ»[211].
وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: «أتينا معشر الأشعريين إلى رسول الله ﷺ نسأله رواحل نتحمل عليها إلى الجهاد في سبيل الله، فصادفنا عنده خلقًا من الناس يسألونه الحملان، فقال: «والله لا حملتكم، والله لا حملتكم» ثم انصرفنا إلى بيوتنا، ولم نشعر إلا بمنادي رسول الله ﷺ يدعونا، فآتيناه، فقال: «إني قد أمرت لكم برواحل» قلنا: يا رسول الله، لعلك نسيت أنك قد حلفت أن لا تحملنا. قال: «نعم إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني»».
إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكل من كان بينه وبين رحمه أو جاره شيء من الهجران والتقاطع، أو حلف بأن لا يكلمه، أو لا يسلم عليه، أو لا يأكل من طعامه، فإنه يجب عليه أن يعفو ويصفح احتسابًا للثواب، وخوفًا من العقاب، وأن يسلم عليه، ويجيب دعوته، ويأكل طعامه، ويكفر عن يمينه، حتى يسلم له دينه.
ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[212].
ومن الأيمان المبتدعة، الحلف بغير الله، كأن يحلف برأسه، أو برأس ولده، وحتى الحلف بالرسول لا يجوز، لحديث: «مَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»[213]. وقال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ أَشْرَكَ»[214]. وقال: «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا»[215]. لأن الحلف بالله داخل في عموم العبادة التي لا تنبغي إلا لله، ففي الحديث «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» ومثله قول بعضهم أنا يهودي إن فعلت كذا، أو أنا نصراني إن لم أفعل كذا، فهذه أيضًا من الأيمان المنكرة.
ففي البخاري أن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ»[216]. «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ»[217]، وفي الحديث الآخر قال: «من قال أنا يهودي أو أنا نصراني إن فعلت كذا، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالما»[218]. نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.
أما حكم النذر المشروع والممنوع: فلنعلم أن النذر ليس بمستحب، لكونه يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه. وقد قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»[219]. فمتى نذر نذرًا مباحًا لزمه ما التزمه.
وهو إما نذر طاعة أو نذر معصية. فنذر الطاعة هو: أن يقول لله علي نذر إن شفى الله مريضي أو تزوج ولدي، أو رجع فلان من سفره، أن أصوم لله كذا، أو أتصدق بكذا، أو أصلي كذا وكذا. فهذا نذر طاعة يجب الوفاء به، وقد مدح الله الذين يوفون بالنذر.
وفي الحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ»[220] ومثله من نذر أن يذبح ذبيحة أو ذبيحتين فإنه يجب الوفاء به. ومن عجز عن وفاء ما نذره من الصيام أو الحج وغيره، لكبر أو مرض ونحوه، أو عدم استطاعة، فإن عليه كفارة يمين، كما في الحديث: أن رجلاً يكنى أبا إسرائيل نذر أن يحج حافيًا، وأن لا يستظل، فأمره النبي ﷺ بأن يركب ويستظل، ويكفر عن يمينه.
ومن مات وعليه نذر من صلاة أو صيام أو صدقة استحب لوليه أن يقضي نذره عنه، فقد جاءت امرأة إلى النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت. أفأحج عنها؟. قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ». رواه البخاري من حديث ابن عباس. وقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». متفق عليه من حديث عائشة. وفسره الإمام أحمد بصوم النذر، فإنه الذي يجب قضاؤه. أما نذر المعصية فهو كمن نذر أن لا يكلم رحمه، أو لا يسلم عليه، ولا على جاره، أو لا يدخل بيته، أو لا يأكل طعامه، أو نذر أن لا يزوج ابنته إلا بشخص لا ترغب البنت نكاحه، فلا يجوز الوفاء به لحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ»[221].
ومثله ما يفعله أهل فارس، من كون أحدهم ينذر ماله لشخص معين، لقصد الفرار به من الوارث. فهذا نذر مبتدع غير مشروع، فلا يجوز الوفاء به؛ لأن فيه إبطالاً لفرائض الله. والله قد أعطى كل ذي حق حقه، والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[222].
فهذا نذر معصية وفي الحديث «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»[223] ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين.
والنذر هو بمثابة العهد الذي يعاهد الإنسان عليه ربه أن يفعله. وفي القرآن ما يدل على ذم عدم الوفاء به. قال سبحانه: ﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة: 75-77].
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، - لَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مرتين أو ثلاثة - ثم يجيء قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»[224].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنم مؤمنين.
[206] من حديث أبي أمامة. [207] متفق عليه من حديث أنس. [208] رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. [209] يتم تقدير قيمة الفطرة كل سنة بحسب قيمة مكوناتها في السوق عن طريق الجهة المختصة في كل بلد. [210] رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما، وله رواية من حديث بريدة رضي الله عنه. [211] متفق عليه عن عبد الرحمن بن سمرة. [212] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء. [213] متفق عليه من حديث ابن عمر. [214] رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. [215] رواه أبو داود من حديث بريدة بن الحصيب. [216] رواه البخاري من حديث ثابت بن الضحاك. [217] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك. [218] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك. [219] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك. [220] رواه البخاري عن عائشة. [221] رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن عائشة. [222] رواه مسلم من حديث عائشة. [223] رواه ابن ماجه وإسناده حسن من حديث عقبة بن عامر الجهني. [224] متفق عليه ورواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عمران بن حصين.
وكونه ينحصر في بَذل النّدَى وتحَمّل الأذى
الحمد لله الكريم الودود، ونشكره ونسأله من فضله الممدود، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إخلاصها للدين عمود، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المخصوص بالمقام المحمود.
أما بعد:
فإن من حقوق الإسلام الإحسان إلى المساكين والأيتام والجيران. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»[224]، وقال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»[225]. وفي حديث ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَلَا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُتَقَبَّلَ مِنْهُ، أو يَخْلُفُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ»[226]، وكان النبي ﷺ يحث النساء المسلمات على الإحسان إلى الجيران، ويقول: «يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»[227]. وقال لأبي ذر: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ»[228]. لأن جود الإنسان من موجوده، فإذا لم يقدر على الكثير، لم يبخل بالقليل، ولكل مقام مقال. وقد سبق درهم من فقير مائة درهم من غني.
وكان الصحابة يحملون على ظهورهم، ويتصدقون بأجرتهم، وأفضل الصدقة جهد المقل، وأخبر النبي ﷺ بأن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، وحسن الجوار يكون ببذل الندى، ويكون بتحمل الأذى. وكان العرب في جاهليتهم يفتخرون بحسن الجوار، والتفاني في حماية الجار، كما قيل: عَف الإزار ينال جارة بيته إرفادهُ ويجانب الأرْفَاثا فهذا الشاعر يخبر عن كرم هذا الشخص، وحسن أخلاقه، من إحسانه وإحصانه، واحترامه لحرمة جاره، وأنه ينيل جارة بيته أرفاده. أي كرمه ومعروفه.
والنبي ﷺ قال: ««وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ»،قيل: من يا رسول الله؟ قال: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»»[229]. ومعنى بوائقه غشمه، وشره، وخيانته. فالذي لا يطمئن منه جاره، ولا يأمنه على بيته وأهله، في حال غيبته وحضرته، ليس بمؤمن؛ لأن المؤمن هو من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ونسائهم، وخطب النبي ﷺ يومًا فقال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ»[230].
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترًا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا
ولا تَعِبْ أحدًا منهم بما فيكا
إن الناس متفاوتون في الأخلاق والأعمال، وفي حسن الجوار، والإضرار بالجار؛ لأن منهم التقي، ومنهم الفاسق، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسد، ولهذا يقال: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق. وأنشدوا:
يقولون قبل الدار جار موافق
وقبل الطريق النهج أنس رفيق
وكان النبي ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِي يَتَحَوَّلُ»[231]. وأخبر أن من سعادة الدنيا الجار الصالح، والمرأة الصالحة، والمسكن الواسع، ومن شقاوة الدنيا الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق.
«جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو جاره، فأمره أن يصبر على أذاه، ثم جاءه مرة ثانية. فأمره أن يصبر، ثم جاءه مرة ثالثة. فقال: «اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ»، فطرحه. فكان كل من مر به وسأل عنه، سبه ولعنه، فجاء إلى النبي ﷺ يعتذر من سوء فعله، فقال: «إِنَّ اللهَ قَدْ لَعَنَكَ قَبْلَ أَنْ يَلْعَنَكَ النَّاسُ»»[232].
وقيل للنبي ﷺ:«إِنَّ فُلَانَةَ تُذْكَرُ مِنْ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، إِلَّا أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»»[233]. ولهذا يقول الفقهاء: إن جار السوء عيب تُرَدُّ به الدار شرعًا، وقد اضطر كثير من الناس إلى بيع دورهم الغالية في نفوسهم، من أجل إضرار جيرانهم، وأنشد بعضهم:
يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي
وما علموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملامة إنها
بجيرانها تغلو الديار وترخص
نعم إنها بجيرانها تغلو الديار وترخص، فشر الجيران من يتتبع العثرات ويتطلع على العورات، إن رأى حسنة سترها، أو رأى سيئة نشرها، والقرآن والسنة يحثان على التوادد والتواصل بين الجيران، فبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم، فكانوا يتعاملون بالإساءة والقطيعة والهجران، فالرجل لا يسلم على جاره، والمرأة لا تسلم على جارتها، ولعل هذا التقاطع والهجران على أثر نزاع بين النساء والصبيان، ومن الجفاء وعدم الوفاء أن تهجر جارك من السلام، بسبب أمر ليس له شان، فلا يجوز لمسلم أن يهجر جاره فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. فمن حق الجار على الجار: إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا دعاه إلى طعام أجاب دعوته، ويعوده إذا مرض، ويقضي حاجته من السوق إذا لم يستطع قضاءها؛ كشيخ كبير، وكامرأة أرملة، ونحوها ليكتسب بذلك الثناء الجميل، والأجر الجزيل.
وكان أبو بكر يحلب غنم جيرانه، حتى إذا ولي الخلافة وجاء ليحلبها منعوه من حلبها، استبقاء له عن المشقة، ثم إن الجيران إذا تزاوروا وتقاربوا، تعاطفوا وتواصلوا، وإذا تباعدوا تنافروا وتقاطعوا، على حد ما قيل:
وإن تدن مني تدن منك مودتي
وإن تنأ عني تلقني عنك نائيًا
كلانا غني عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
وفي الحديث «تَهَادَوْا تَحَابُّوا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ، وَتُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ»[234]. والجيران ثلاثة، جار له حق، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق؛ فأما الجار الذي له حق، فهو الجار الكافر له حق الجوار، أن تحسن مجاورته، وأن تنيله من معروفك وإحسانك، ولا تقل هذا كافر ليس فيه صدقة، فإن في كل كبد رطبة صدقة، وإذا خرجت الصدقة بنية خالصة، فإنها تقع موقعها في الصحة، والإجزاء:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وقد سأل الصحابة النبي ﷺ عن الصدقة على أقاربهم المشركين، فأنزل الله ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272]. فأمروا بالصدقة عليهم؛ لأن دين الإسلام دين التسامح والتساهل، فهو يوجب للكفار حق الجوار. وكان ابن عمر يقول لأهله: هلا أهديتم إلى جارتنا اليهودية.
وأما الجار الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق الإسلام. وأما الجار الذي له ثلاثة حقوق: فالجار المسلم الرحم.
وإذا اجتمع داعيان من الجيران كل واحد منهما يدعوك إلى الطعام فأجب الذي سبق، وسألت عائشة النبي ﷺ وقالت: «إنه يكون عندي الطعام وأريد أن أهدي منه فعلى من أهدي؟ قال: «على من هو أقرب منك بابًا»»[235].
وورد أن الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ويقول: إن جاري ظلمني، فيقول: يا رب، إني لم أظلمه في أهل ولا مال، فيقول: نعم، صدق يا رب، ولكنه رآني أترك الطاعة فلم يأمرني، ورآني أرتكب المعصية، فلم ينهني.
فصار على الجار الساكت عن جاره بحيث لم يأمره بالخير، ولم ينهه عن الشر، جريمة من ذنب جاره؛ لأن المحسن شريك للمسيء إذا لم ينهه، فإذا رأيت الجار يترك الصلاة، وجب عليك أن تنصحه عن ترك الصلاة، وتقول: إن الصلاة عمود دين العبد، وأمانة الرب، وهي تكفر الخطايا، وتعين على الكسب، وعلى سعة الرزق، أو رأيته مصراًّ على شيء من المنكرات، وجب عليك أن تنصحه وتنهاه. ولا يقولن أحدكم: إنه لن يرضى بنصيحتي، أو إنه سينقمني على نصيحته، فإن من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، والمحب النافع، هو من يجرع صديقه المر ليقيه من الوقوع في الضر، ولا نجاة للإنسان من تبعة ذنب جاره أو ولده، إلا بأمره ونهيه، فإذا أمره ونهاه ولم يمتثل، فعند ذلك لا يضره ضلاله ولا معصيته، ويكون ذنبه على جنبه. وهذا معنى قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡ﴾ [المائدة: 105]. فالاهتداء المشروط للنجاة، هو أن تأمر بالخير، وتنهى عن الشر. وبعده لا يضرك من ضل، إن الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان نبيه، شرع الصلاة جماعة لمصلحة التعارف، والتآلف بين المسلمين، والتقارب بين قلوبهم، بحيث إذا صلى معك جارك في المسجد كل يوم وليلة خمس مرات بحيث تسلم عليه إذا لقيته، ويسلم عليك، وتسأل عنه إذا فقدته، ويسأل عنك، فإن هذا مدعاة للتوادد والتآخي، وإزالة الإحن والشحناء عن الجيران؛ لهذا رأينا الذين تركوا هذه الفريضة، فلم يصلوا مع الجماعة، رأيناهم يمكثون السنة والسنتين متجاورين ولا يعرف أحدهم الآخر، فمن الخطأ كون المسلم إذا وقع بينه وبين جاره شيء من النزاع أو الخلاف، هجر المسجد الذي يصلي فيه الجار، بغضًا للجار. وهذا لا ينبغي أن يفعله؛ لأن المسجد لله، وأفضل ما يصلي الإنسان في المسجد المجاور لبيته؛ لأن صلاته فيه بمثابة عمارته، وإنما يعمر مساجد الله من آمن بالله.
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[224] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [225] متفق عليه من حديث عائشة. [226] رواه الإمام أحمد وغيره. [227] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [228] رواه مسلم من حديث أبي ذر. [229] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [230] رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه بلفظ: «يفضحه ولو في جوف رحله». [231] رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص. [232] رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. [233] رواه الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة. [234] البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن وعن أنس ورد بمعناه بلفظ: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ» رواه البزار بإسناد ضعيف. [235] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عائشة.
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد كانت عامة مجالس النبي ﷺ مع أصحابه؛ إنما هي مجالس وعظ وتذكير بالله، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، كما أمره الله بأن يقص ويعظ ويذكر، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان يخطب أحيانًا بالسورة من القرآن، ويفسرها لهم، كما قالت أم هشام بنت حارثة: ما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله ﷺ كان يخطب الناس بها على المنبر؛ لأن الله يقول: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]. اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك.
وقد قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن[236]. وهذا هو الذي أنزل القرآن لأجله، وإننا الآن نطلب من المستمعين الإصغاء للتذكر بما اشتملت عليه سورة (النساء القصرى)، المسماة بسورة (الطلاق)؛ لأن كثيرًا من العوام قد جهلوا ما اشتملت عليه من الأحكام الزوجية، والحدود الشرعية، فكانوا يقرؤونها مع جهلهم ومخالفتهم لأمرها ونهيها، وحلالها وحرامها، وإنما نزل القرآن للعمل به. ومن المعلوم أن العلم أمانة، يجب إبلاغه وبيانه، ويحرم كتمانه.
يقول الله: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]. وقبل أن نتكلم في الطلاق، نبدأ بالكلام في النكاح، الذي ينجم عنه الفراق فنقول: إن النكاح من سنة الدين، وضرورة من ضروريات حياة الآدميين، وإنما سمي الإنسان إنسانًا من أجل أنسه بغيره، فهو اجتماعي بالطبع، وأحسن من يأنس به هي زوجته التي يحبها وتحبه، والتي خلقها الله كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم، والسيد المحشوم؛ لأنه متى كان للإنسان زوجة تكرمه، وبيت يملكه، وخادم يخدمه، وعنده كفاءة لمعيشته، فإنه معدود من الملوك.
وقد امتن الله على عباده بتذكيرهم بهذه الكرامة والنعمة، قال: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةً﴾ [الروم: 21]. وفي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»[237] التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله. وقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[238].
والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات.
فقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]. وجه الله النداء بهذا الخطاب لنبيه محمد ﷺ، وهو شامل لأمته؛ لأنه المبلغ عن الله وحيه أمره ونهيه.
فالشارع الحكيم يحث على الوفاق بين الزوجين ويكره الطلاق، ويقول الرسول ﷺ فيما رواه مسلم: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً - أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة -، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»[239] ، فما استقصى كريم قط، والكمال من رجل وامرأة متعذر، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص، ولكن الناس يتعاشرون بالشرف والمعروف. فكم من امرأة يوجد فيها شيء من النقص؛ إما في الجمال أو الحال أو عدم التدبير، لكن قد تكون ناصيتها ميمونة على زوجها، فتنجب له أولادًا كرامًا، يقومون بنفعه، وينشرون شرف ذكره، ﴿فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 19].
فمتى تيسر قران الشخص بامرأة ذات حسب ودين، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة عاجلة، وكرامة وافرة، فمن واجب شكر هذه النعمة، معاشرة هذه الزوجة بالإكرام والاحترام، وبحسن الأخلاق وطيب الوفاق. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ»[240]. وقال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[241].
غير أنه لا يخفى على عاقل، أنه قد يبتلى الرجل الفاضل بنكاح امرأة خرقاء، أو حمقاء، سيئة الطباع بذيئة اللسان، لا توافق طباعه وقد تفسد أوضاعه، كما قد تبتلى المرأة الحسيبة الأديبة، المهذبة العاقلة، فتبتلى بزواج رجل أحمق، سيء الطباع، فاسد الأوضاع، فيسوسها سياسة سيئة بوجه عابس، وكف يابس، فعند ذلك يقع بينهما الشقاق وعدم الوفاق.
لهذا شرع الله الطلاق، وما أحسن الفراق إذا لم تتلاءم الأخلاق، وهذا الطلاق بما أنه مباح ومشروع، لكنه بغيض عند الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللهِ الطَّلاَقُ»[242]. لأنه يحدث العداوة والبغضاء بين الأصهار، ويقطع النسل المطلوب في الشرع تكثيره، فمتى دعت الحاجة إليه، وجب أن يراعى فيه حسن الأدب بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه، لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]. فينبغي أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فهذه العدة التي أمر الله أن تطلق فيها النساء. أما جمع الثلاث بلفظ واحد، فهو بدعة. فقد طلق رجل امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام رسول الله ﷺ غضبان فقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»[243]. ومن وكل في طلاق امرأة، فإنه لا يملك - أي الوكيل- إلا واحدة، وكذلك الطلاق في طهر قد جامعها فيه، فإنه حرام أيضًا، فالطلاق الشرعي أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، أو وهي حامل، ثم هو مخير قبل طهرها من عدة الطلاق بين أن يراجعها بلا عقد ولا رضاها، وبين أن يمضي الطلاق. وما دامت في العدة؛ فإنها بمثابة الزوجة، يجب عليه نفقتها وسكناها. يقول الله: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ﴾ [الطلاق: 1]. فلو مات الزوج قبل أن تخرج من العدة ورثته، لكون الرجعية زوجية، أو ماتت هي في أثناء عدتها ورثها زوجها.
والعدة ثلاث حيض ممن تحيض، أو وضع الحمل إذا كانت حاملاً، وإن كانت آيسة قد انقطع عنها الحيض لكبرها فعدتها ثلاثة أشهر.
ثم قال سبحانه ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُ﴾ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرمات، وسمي حدًّا لأنه فصل ما بين الحلال والحرام، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوْهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوْهَا»[244].
إن المسلم متى عمل بأدب الشرع في الطلاق، فطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فإنه لا يندم. ويؤجر في عمله بحكم الله، وقد يزول عنه الغضب وسكرته، وتعاوده حسن الفكرة والندم، فيكون زمام امرأته بيده، بحيث يراجعها. وهذا معنى قوله: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا﴾ [الطلاق: 1].
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
إن أكثر ما أوقع العوام في الطلاق بالثلاث جميعًا، حتى كأنهم لا يعرفون غيره، عدم تنبيه العلماء لهم على إساءة فعلهم، وكذا الذين يكتبون صكوك الطلاق، أكثرهم من العوام، لا يعرفون سنة الله في الطلاق، والعامي مشتق من العمى، والله يقول: ﴿فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ﴾ [النحل: 43-44].
لهذا ذهب بعض العلماء المحققين إلى جعل الثلاث الواقعة بلفظ واحد عن طلقة واحدة، فيجوز للزوج مراجعتها في عدتها، وتبقى معه كحالته السابقة بدون عقد على ما بقي له من سنة الطلاق. وإذا خرجت من العدة قد بانت منه، وحلت لزوج تريده، ويجوز للزوج أن يتزوجها بعقد جديد.
ثم قال: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: 2]. فهذا من سنته سبحانه في أدب الوفاق والطلاق، وأنه متى كان للزوج رغبة ومحبة لزوجته، والتزم أن يعاشرها بالمعروف والإحسان، فإن الأمر بيده ما دامت في عدته. أما إذا كان قصده الإضرار بها، أو استدامة بقائها في عصمته، وهو منصرف عنها برغبته، وعدم محبته، وربما قطع عنها نفقته؛ فهذا حرام في شرع الله، وهو من انتهاك حدوده، ومحرماته، ومن ضار، ضار الله به، ومن شاق، شق الله عليه.
ولهذا قال سبحانه: ﴿ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].
ثم قال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَئَِّاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥﴾ [الطلاق: 4-5].
إنه لا أبلغ في الوعظ والزجر من هذه الآيات المحكمات، التي تحدد عدد النساء، كل امرأة بحسبها، الآيسة كبيرة السن بثلاثة أشهر، وكذا الصغيرة التي لم تحض، والحامل بوضع حملها ﴿ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡ﴾ [الطلاق: 5]. للعمل به، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
ثم قال سبحانه: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّ﴾ [الطلاق: 6]. فأوجب الله سبحانه سكنى المطلقة في البيت الذي تسكن فيه عند زوجها، ما دامت باقية في عدته، حتى لو طال مكثها. وحرام على المرأة أن تخرج من هذا البيت؛ لأن النبي ﷺ قال: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»[245] أي حتى تتم العدة، وما يقوله بعض العوام من أن المرأة متى طلقت، فإنه حرام أن تبقى عند زوجها في بيته؛ فهذا خطأ، بل يجب عليها أن تبقى في بيت مطلقها ما دامت في عدته، ويجوز لها أن تتزين له، ويجوز أن ينظر إلى وجهها لعل الله يحدث في قلبه محبتها، والرغبة في مراجعتها، إذ الرجعية زوجية، فما دامت في العدة، فحكمها حكم الزوجة، إلا في حالة الجماع، فإنه متى جامعها فقد راجعها على ما بقي له من سنة الطلاق، ومن واجبه أن يشهد على رجعتها، كما أشهد على طلاقها.
ثم قال سبحانه: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ﴾ [الطلاق: 6].
فهذا حكمه سبحانه في المرأة الحامل، متى طلقها زوجها، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها النفقة التامة، ومن لوازمها السكنى والكسوة، وكذا كل مطلقة، فمتى وضعت حملها انقطعت نفقة الزوجية، وابتدأت نفقة الرضاع، فيجب أن يبذل لها أجرة إرضاعها على قدر قدرته، وعلى حسب قلة ماله أو سعته، وهذا معنى قوله: ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦ﴾ - وهو الغني المكثر، يجب أن تكون نفقته أكثر - ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ﴾ - أي ضيق عليه في رزقه، وهو الفقير المقل - ﴿فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ﴾ [الطلاق: 7]. على قدر حالته ومعيشته، وفي آية البقرة ﴿لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦ﴾ [البقرة: 223]. يعني أنه متى طلقها، فلا يجوز له أن يضارها بانتزاع ولدها أو ابنتها منها، فإنها أحق بحضانته منه؛ لأنها أعطف وألطف، وأصبر على التربية، وقد جاءت امرأة إلى النبي ﷺ بابن لها فقالت: يا رسول الله: هذا ابني كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني. فقال رسول الله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو.
وبقي عدة المتوفى عنها زوجها، فقد ذكرها سبحانه في سورة البقرة قال: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗا﴾ [البقرة: 234]. فهذا عدة المرأة الخلية من الحمل، فإنها تعتد أربعة أشهر وعشرًا. أما إذا كانت حاملاً، فإن عدتها وضع حملها، حتى لو طال مكثها أو قصر، يقول الله: ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4].
ومن لوازم هذه العدة: التزام الإحداد على الزوج، وهو اجتناب الزينة من الطيب والحناء والكحل والثياب الجميلة المصبوغة للجمال أو الملونة بالنقش، لحديث أم عطية أن رسول الله ﷺ قال: «لَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، وَلَا تَخْتَضِبُ»[246] - أي بالطيب. فهذا هو الإحداد. والأحسن أن تحد في الثوب الأسود، أو الأخضر، ولا بأس أن تبدله بغيره من جنسه، ولا بأس أن تغتسل وتتنظف كل وقت، وإن اغتسلت بالسدر فإنه أحسن، ويعمل عمل الصابون. ويجوز أن تغتسل بالصابون الذي ليس له رائحة. ويجوز أن تخرج لنخلها أو حرثها، متى كان لها زرع أو نخل. كما يجوز أن تخرج إلى بيت جارتها لحاجتها لذلك، فقد أمر النبي ﷺ نساء الشهداء بأن يجتمعن في بيت امرأة منهن، فمتى آواهن المبيت ذهبت كل امرأة إلى بيتها. ويجوز أن تذهب للمستشفى لحاجة العلاج، وتكلم الطبيب ويكلمها. فما يفعله بعض النساء المسلمات من التشديد عليها، وكونها تمكث في دار لا تخرج منها، أو لا تكلم أحدًا ولا يكلمها أحد، أو لا تتنظف؛ فكل هذا التشديد خارج عن حدود الشرع، لم يثبت عن رسول الله ﷺ الأمر به، بل تفعل في إحدادها كما تفعل قبل وفاة زوجها، ما عدا أنها تجتنب الطيب والزينة من الحليّ وغيره، وتجتنب الخضاب والكحل، وتستعمل الثياب السود، أو الخضر التي ليس فيها نقش. فهذا هو الإحداد الشرعي لكل امرأة كبيرة السن، أو صغيرة، فهما في الحكم سواء.
[236] أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وعبد الرزاق في مصنفه من حديث عبد الله بن مسعود. [237] أخرجه أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو. [238] أخرجه الترمذي عن أبي هريرة. [239] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [240] أخرجه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة. [241] أخرجه الترمذي والدارمي عن عائشة رضي الله عنها. [242] رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر بن الخطاب وروي مرسلاً ورجح على المسند. [243] أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد. [244]أخرجه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني. [245] أخرجه أصحاب السنن من حديث فريعة بنت مالك. [246] أخرجه ابن ماجه من حديث أم عطية.
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه. الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وخذل أهل معصيته فاستحوذ عليهم الشيطان، وحبب إليهم الكفر والعصيان، وأنساهم ذكر الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة: 90-92].
قال بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ فأصغ لها سمعك، فإنها خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.
نادى الله عباده باسم "الإيمان" بعدما هاجروا إلى المدينة، ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم.
وهذه الآية نص في تحريم الخمر تحريمًا قطعيًّا؛ لأنها من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها.
والله سبحانه لا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة، كما أنه لا يوجب شيئًا من الواجبات؛ كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة. وقد حرم الله الخمر لفنون المضار المتفرعة عنها؛ لأنها أم الخبائث، وجماع الإثم، ومفتاح الشرور، والداعية إلى الفجور، تهتك الأسرار، وتقصر الأعمار، وتولد في الجسم أنواع الأمراض والأضرار، عواقبها ذميمة، وعقوبتها أليمة، والقلوب المحبة لها سقيمة، والبلية بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة، فكم سلبت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم خربت من دار، وكم أذهبت من عقار، فوصفها سبحانه بأنها رجس وهو النجس الخبيث.
وإذا تربى الجسم على هذا الرجس، صار نجسًا خبيثًا؛ لأن الغاذي شبيه بالمغتذي حتى إن أولاد السكير ينشؤون مخدجين لكونهم تخلقوا من نطفة نجسة ﴿ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗا﴾ [الأعراف: 58]. ثم وصفها بأنها ﴿مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ﴾ فلا يدمن شربها ولي للرحمن ثم قال: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ﴾ وهي أبلغ من قوله: دعوه، أو اتركوه. كأنه يقول: ابعدوا عنها كل البعد، كونوا في جانب وهي في جانب. ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ تشير هذه الآية إلى أن النزاهة عن شرب الخمر هو عنوان الفلاح، وأن الغرق في محبتها وإدمان شربها هو غاية في السفاه والفساد. ثم قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ﴾ أما العداوة في الخمر فمعروفة من قديم الزمان وحديثه، وذلك أنه متى شرب الخمر فسكر، هذى وافترى، وسب وضرب، فإن كان يسوق سيارة الحديد، فإنه ينجم عنه الضر، والبأس الشديد.
ومن جنس العداوة الناشئة عن الخمر؛ ما ثبت عن جماعة من الأنصار أنهم كانوا جلوسًا على شرب خمر قبل أن تحرم الخمر، فتناشدوا الأشعار، ثم سكروا، فعبث بعضهم ببعض بالضرب والتجريح، فلما زال عنهم السكر، كان أحدهم يقول: والله ما فعل بي فلان هذا إلا لحقد كامن في نفسه عليّ، فنشبت الحرب بينهم سنين، حتى أطفأها الله بالإسلام، وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنزل الله ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾ [آلعمران: 103]. وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «ما هذه الشجة التي أرى في وجهك؟» فقال: يا رسول الله، شرب رجل من قومي الخمر فسكر، فضربني بلحي جمل. فقال: «هكذا الخمر تفعل بشاربها، قاتل الله الخمر»[247].
ثم قال: ﴿وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ إنه من المعلوم أن شارب الخمر بعيد عن الصلاح والصلاة، فلو حافظ على الصلاة، لنهته عن فعل هذه المنكرات، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكنهم في غفلة ساهون، ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، قد﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩﴾ [المجادلة: 19]. ولما قال: ﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ قال عمر: قد انتهينا، قد انتهينا، قبحًا لها وسحقًا، قرنت بالأصنام والأزلام[248]. وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
وكان جماعة من الأنصار جلوسًا في بيت أبي طلحة على شرب، فسمعوا صوتًا عاليًا، فقال أبو طلحة: قم يا أنس، فانظر ما هذا الصوت. فنظر ثم رجع. فقال: هذا منادي رسول الله ﷺ ينادي بتحريم الخمر[249]، وكانت الكاسات بأيديهم، فجعلوا يضربون بها الحيطان ويقولون سمعًا وطاعة لله ورسوله. ثم خرجوا إلى السوق، وبها ظروف الخمر، فجعلوا يضربونها بالسكاكين حتى سالت بالأزقة، وجعلوا يقولون: والله إن كنا لنكرمك عن هذا المصرع قبل هذا اليوم.
يقول بعض الناس: إن الشخص متى شرب الخمر فتخمر حبها في رأسه، فإن من الصعب إقلاعه عنها وتوبته منها؛ لأنه كلما اشتكى رأسه من وجعها عاد إلى شربها، على حد ما قيل: فداوني بالتي كانت هي الداء، ونحن لا نسلم لهذا الاعتقاد لوقوع ما يكذبه، وذلك أن الصحابة تربوا على حبها، وإدمان شربها في جاهليتهم، وبعد أن أسلموا وبلغهم تحريمها؛ تعففوا عنها، وتابوا منها بدون مشقة؛ لأن الأمر في الإقلاع يرجع إلى صحة العزيمة، وصدق الإرادة، وقوة الإيمان، وهو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأقوى رادع عن مواقعة المنكرات:
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
ونفسك إن أشغلتها بالحق
وإلا أشغلتك بالباطل
وقد قيل:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وقد شرع الله الصيام لمغالبة النفس على الشهوة والهوى، ومراتع الغيّ والردى، كي تتحمل الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله، وهذا نوع من الجهاد في سبيل الله؛ لكون المجاهد هو من جاهد نفسه في طاعة الله.
وفي المشروبات المباحة على كثرتها التي تزيد في الصحة والعقل ما يغني ويكفي عن المشروبات المحرمة التي تذهب بالعقول، وتوقع في الفضول، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.
أتدرون ما هي الخمر المحرمة، هي كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، وكل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فهذه هي القاعدة في معرفة الخمر المحرم؛ لأن الخمر يكون من التمر ومن العنب ومن الذرة والشعير، ويكون من مشروبات مستحدثة، فلا تنسوا هذه القاعدة وهو أن «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»[250]. وهو خمر من أي شيء كان. حتى لو فرضنا وجود عين من شرب منها سكر، فإننا نحكم عليها بأنها خمر محرم.
حرمت الخمر، لفنون أضرارها المتعددة على الروح وعلى العقل وعلى الجسم وعلى النسل وعلى المال وعلى المجتمع، لكونها تطيش بالعقل عن مستواه، حتى يخيل للرجل السافل الساقط أنه ملك قادر، وجبار قاهر، فيندفع إلى تحقيق الخيالات الخمرية فيضرب ويسب، ويسوء خلقه على أهله وعياله، وعلى الناس، ثم تخيم الكآبة على وجهه، والوحشة على أهل بيته، فيخافون أشد الخوف من سطوته؛ لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله بها، فألحق نفسه بالمجانين، وكيف يرضى بجنون من عقل؟
ولأجله لعن النبي ﷺ الخمر: شاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبايعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه كل هؤلاء واقعون في اللعنة[251]. لأنهم يساعد بعضم بعضًا على فعل هذه المعصية المحرمة وقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِكَأْسِ الْخَمْرِ» رواه الطبراني من حديث ابن عباس. وعن جابر أن رسول الله ﷺ خطب عام الفتح فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ»[252] متفق عليه.
وأخبر النبي ﷺ أن الناس في آخر الزمان يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها[253]. والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها! وأخبر أن أناسًا من هذه الأمة يبيتون على لهو ولعب وشرب خمر، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير - وهذا المسخ والله أعلم: هو مسخ صوري - أي يصبحون في أخلاق القردة والخنازير. قد ذهبت منهم الغيرة والمروءة، والعفة والشرف، ويظهر أثر هذا المسخ على سيماهم، يعرفه المتفرسون من الناس. والله أكبر. كم في الخمر من آفات ومضرات؛ لأنها أم الخبائث، ومفتاح الشرور، والداعية إلى الفجور.
فضررها يتناول الروح والجسد والمال والولد والعرض والشرف، تهتك الأسرار، وتقصر الأعمار، وتولد في الجسم أنواع الأمراض والأضرار. فكم خربت من دار، وكم أذهبت من عقار، وكم أفقرت من تجار، وكم نقلت العقل الصحيح من حالة العدل والتفكير وحسن التدبير، إلى حالة الجنون والخبال والفساد الكبير. فبعض العرب في جاهليتهم قد حرموها على أنفسهم قبل أن يحرمها الإسلام، ويقول أحدهم: كيف أشرب ما يذهب عقلي ويلحقني بالمجانين.
كما أن النصارى في هذا الزمان على كفرهم وضلالهم أخذوا يعقدون الجمعيات على أثر الجمعيات في محاولة تحريم الخمر، لما رأوا شدة مضرتها في شبابهم ونسائهم؛ لهذا أخذوا في محاولة التقليل منها. والمحاكم على اختلاف أنواعها مملوءة بحوادث جرائمها؛ من التعدي على الناس، وعلى أعراض النساء، وأخلاق الأولاد.
فجميع الناس من مسلمهم وكافرهم وصالحهم وفاسقهم، أصبحوا يتحدثون عن مضار الخمر، وخطرها على الأفراد والمجتمع، حتى صارت حديث القوم في مجالسهم، ويتزايد ضررها، ويعظم خطرها في البلدان الحارة، كبلدان المملكة العربية السعودية، والخليج، والعراق. وإذا تعود الشاب شربها في صغره، فإنه ينقصم عمره في شرخ شبابه؛ لكونه يسرف على نفسه من شربها بما يعجل هلاكه.
ولا يزال الرجل يمشي مع الناس بعفاف وشرف، وحسن خلق إلى أن يشرب الخمر، ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل، ويتخلق بالرذائل، ويبغضه أهله وأقاربه.
ومما يجب أن ننصح بالابتعاد عنه من المشروبات الضارة، شرب الدخان المسمى بالتبغ؛ من نرجيلة أو من سيجارة، وإنه من العادات الضارة للصحة، ويحدث فنونًا من الأضرار والأمراض. وقد قام الطب الحديث على محاربته والتحذير منه، وإن كان قد اعتاد الشخص شربه؛ وجب عليه أن يتوب منه حفظًا لصحته وحماية لذريته الذين يقتدون بسيرته، وقد وصفه بعض الأطباء بالحية المنطوية على الجسم، فهو كما قيل:
مفتر الجسم لا نفع به أبدًا
بل يورث الفقر والأسقام في البدن
ولا يغرنك من في الناس يشربه
الناس في غفلة عن واضح السنن
يقضـي على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
وإن الذين يعرفون تحريم الخمر، وفنون الأضرار المتفرعة عنها، ثم يتسامحون في دخولها إلى بلدهم، والاتجار فيها، مع كونهم مسلمين، فهؤلاء ليس فيهم غيرة دينية، ولا حمية وطنية، وإنما يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فقد لعن رسول الله ﷺ الخمر: بائعها، ومشتريها، وإن بلد الإنسان بمثابة أمه التي ولدته وغذته بلبانها، فالذي يجلب الخمر إلى بلده، أو يبيعها، أو يرضى ببيعها، هو بمثابة الذي يقود السوء على أمه، وإن إدخال الخمر المحرمة إلى البلد؛ أضر على أهلها من إدخال المطاعم المسمومة. فهل أنتم منتهون؟
وقد شرع الله على لسان نبيه إقامة الحد بالجلد لشارب الخمر، كفارة عنها. وليكن بمثابة الزجر عن ارتكاب هذه الجريمة الأثيمة؛ لأن دين الإسلام قائم على محاربة الجرائم على اختلاف أنواعها، وعلى تقليلها، وتطهير المجتمع من الجهر بها. فشرع حد الخمر صيانة للعقول والأرواح والأجسام والمجتمع. وأنزل الله ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ﴾ [النور: 2]. لأن من لا يكرم نفسه لا يكرم. ومن يهن الله فما له من مكرم «وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»[254].
والنبي ﷺ جلد في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وقال: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ»[255]. وقال: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ»[256].
والتأديب بالسجن ولو طال فإنه لن يقوم مقام الجلد في النكاية والردع لكون الجلد تكفيرًا للجريمة، وزجرًا عن معاودة فعلها، وردعًا للناس عن أمثالها. والله يقول: ﴿وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [النور: 2].
ألا إن شرب الخمر ذنب معظم
يزيل صفات الآدمي المسدّد
ويلحق بالأنعام بل هو دونها
يخلّطُ في أفعاله غير مهتد
يزيل الحيا عنه ويذهب بالغنى
ويوقع في الفحشا وقتل التعمد
فكل صفات الذم فيها تجمعت
لذا سميت أم الفجور فأسند
إن شباب العصر قد صرفوا جل عقولهم واهتمامهم إلى تقليد النصارى في سوء أعمالهم، حتى في سفاسف أخلاقهم وعاداتهم، يظنون من رأيهم القصير، وعزمهم الحقير، أن الحضارة والمدنية والرقي والتقدم هو في معاقرة الخمور، ومجاراة النصارى في الخلاعة والسفور، وقد ضربهم من الجهل سرادق، ومن الغباوة أطباق، وغرهم بالله الغرور، تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة، وسقطوا في هوات المذلة، ورضوا بأخلاق المذمة التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه، ولم يعدلوا سيرتهم، ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم، صاروا مثالاً للمعايب، ورشقًا لنبال المثالب.
وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين، الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين، وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[247] أخرجه أبو يعلى في المسند من حديث سعد حول هذا المعنى. [248] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عمر بن الخطاب. [249] أخرجه أبو داود من حديث أنس. [250] أخرجه مسلم من حديث ابن عمر عن جابر أن رسول الله قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». [251] رواه أبو داود من حديث ابن عمر. [252] متفق عليه من حديث جابر. [253] أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة، والطيالسي في مسنده من حديث عن رجال من أصحاب رسول الله ﷺ. [254] أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. [255] أخرجه أبو داود من حديث قبيصة بن ذؤيب. [256] أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٣٠ نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١ نُزُلٗا مِّنۡ غَفُورٖ رَّحِيمٖ٣٢﴾ [فصلت: 30-32].
فوعد الله سبحانه، ووعده حق وصدق، كل من قال: ربي الله أي قال: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم استقام على تصديق ما قال، فحافظ على واجباته؛ من أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداء زكاة ماله طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه، وصام رمضان، وبر والديه، ووصل أرحامه، وأحسن إلى الفقراء والمساكين والأيتام، كما أحسن الله إليه، والتزم الصدق، والوفاء بالعهد والوعد، وأداء الأمانة، واجتناب الربا وشرب المسكرات، وسائر أعمال المنكرات. فمن استقام على هذه الأعمال، ثم سعى سعيه في كسب المال الحلال، فإنه يحيا حياة سعيدة طيبة، يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، حتى يكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته، ويفوز بهذه الخصال الحميدة. فمنها تتنزل عليه الملائكة بالرحمة والبركة والسكينة في حاله ومآله وعياله وصالح أعماله.
وإن من الناس من تتنزل عليهم الملائكة بالرحمة والبركة، ومنهم من تتنزل عليهم الشياطين بالشؤم والشر﴿هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ ٢٢١ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ ٢٢٢ يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ ٢٢٣﴾ [الشعراء: 221-223].
والثانية: تبشير الملائكة بأن لا تخافوا ولا تحزنوا، ومن ذهب عنه الخوف والحزن، فقد ذهب عنه جميع الشؤم والشر؛ لأن الإنسان متى كان يخاف وقوع شيء من الشر، فإنه يكون دائمًا خائفًا مهمومًا منه، ولا عيش لخائف. وإذا وقع به، فإنه لا يزال كئيبًا حزينًا منه. ومن المعلوم أن الهم والحزن عقوبات تتوالى، ونار في القلب تتلظى، ولا يزالان ينفخان في الجسم، حتى يجعلا السمين نحيفًا، والقوي ضعيفًا، كما قيل:
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وكان من دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ»[257].
وهؤلاء المستقيمون على طاعة ربّ العالمين، قد سلموا من المرهوب، وفازوا بالأمر المحبوب، إن أصابت أحدهم سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر، فكان خيرًا له.
والبشرى الثالثة: قول الملائكة لهم: ﴿وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]. وهذه البشرى هي أعلى وأجل؛ لأن فيها البشرى بالجنة التي يعمل لها العاملون، كما قال رجل للنبي ﷺ: «أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، أما أني أسأل الله الجنة، واستعيذ به من النار، قال رسول الله ﷺ: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»»[258].
والبشرى الرابعة والخامسة: قول الملائكة لهم: ﴿نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ﴾ فمن كانت الملائكة أولياءه في الدنيا، فإنها تذب عنه كل سوء، فتدفع عنه الأذى، وتحارب دونه الأعداء. ولما تصدى رجل لسب أبي بكر ورسول الله ﷺ جالس، وأبو بكر صامت لا يجاوبه، فلما طال سبه له، تصدى أبو بكر للرد عليه، فقام رسول الله ﷺ منصرفًا، وعلى وجهه أثر الكراهية. فجاء أبو بكر يعتذر إليه، قال: يا رسول الله، لقد سمعت قوله فيّ وأنا ساكت، فلما جاوبته قمت وعلى وجهك أثر الكراهية؟ فقال: «نعم، إنه لا يزال الملك ينافح عنك لما كنت ساكتًا، فلما انتصرت، انصرف الملك، وانصرفت لانصرافه»[259].
وأما ولاية الملائكة له في الآخرة عند الاحتضار: فإن المسلم المستقيم على الدين عند حضور أجله، فإن الملائكة تنزل عليه بالرحمة والرضوان، وتبشره بالذي يسره، وتقول له بعطف ولطف وحنان: يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح ورضوان، ورب غير غضبان، أبشر بالذي يسرك، فهذا يومك الذي كنت توعد. ويقول الله: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾ [الفجر: 27-30]. ولهذا ختم هذه البشارات بقوله: ﴿...وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصلت: 31-3]. أي لكم ما تتمنون وما لا يخطر ببال أحدكم من كل ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، نزلاً أي ضيافة وكرامة من غفور رحيم.
أتدرون ما هي الاستقامة التي ندب الله عباده إليها، وأبدى وأعاد بالثناء على أهلها؟ هي: الثبات والاستقامة على الدين؛ من فعل الواجبات، واجتناب المحرمات، وهي المراد بقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧﴾ [ابراهيم: 27]. فالثابت على الدين، وسلوك الصراط المستقيم؛ الذي سلكه رسول الله ﷺ وأصحابه، هو عين الاستقامة المنشودة. فمن ثبت على الدين، واستقام عليه، ولم يزغ عن أمر ربه، ثبته عند سؤال الملكين له في القبر، ويلقنه حجته، ثم يثبته على سلوك الصراط المعروض على متن جهنم، وهو أحر من الجمر، وأحد من السيف الأبتر، وهذا الصراط المعروض على متن جهنم بمثابة الخشبة المعروضة على القليب، وعلى جوانبه كلاليب، وحسك كالشوك، وهي المعاصي، وكبائر الذنوب، تخدش الناس، وتخطف من أمرت بخطفه، وتلقيه في جهنم، فيكلف الناس بالمرور على هذا الصراط، وهو المراد بقوله: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا ٧٢﴾ [مريم: 70-71].
فالمراد بالورود المرور، فتجري بالناس أعمالهم، حتى إن أحدهم يمر كالبرق، وتقول له النار: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي. ويمر أحدهم كالريح، وكأجاود الخيل والركاب. ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، فمخدوش ناج، ومكردس على وجهه في نار جهنم. والنبي ﷺ واقف على طرف الصراط ينظر إلى الناس، ويقول: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ» فمتى خلصوا من مرور الصراط، وردوا نهر الكوثر، فشربوا منه حتى لا يظمؤوا بعده أبدًا.
والمستقيم الثابت على الدين القويم، فإنه يثبت عند سلوك هذه المخاطر والمزالق، ويجري به عمله في أحسن سلوك منه، والنبي ﷺ يقول: «أنا ممسك بحجزكم عن النار، أقول: هلم عن النار، وأنتم تغلبونني، وتقاحمون فيها، كتقاحم الفراش والجنادب، وإنكم تردون علي معًا وأشتاتًا، فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريبة في إبله، وإنه يؤخذ بالناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعدًا وسحقًا لمن غيَّر بعدي»[260].
ثم إن الاستقامة أيضًا، الثبات على مصابرة الأعمال التي توكل إلى الشخص، ويعهد إليه فيها، من أعمال حكومية وغيرها. فالمستقيم على عمله، بحيث ينفذ ما عهد إليه فيه بدون بخس ولا نقص ولا خيانة وبدون تعليل ولا تمليل، فهذا ممدوح عند الله وعند خلقه، وينشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن على حسن وفائه، واستقامته في أداء عمله، وكل شخص فمسؤول عما تولاه - كما قيل:
مهما تستقم يقدر لك اللـ
ـه نجاحًا في غابر الأزمان
أما غير المستقيم، فهو الذي يتهرب عن عمله، ويتغيب عن دوام جلوسه، ويخون ويختلس ولا يفي بوعد ولا عهد، ليس له حظ من الاستقامة، ولا الصدق ولا الأمانة، فتنتشر عنه هذه الصفات الذميمة الناشئة عن سوء سيرته، وفساد سريرته.
ولهذا جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بأمر أتشبث به، ولا تكثر عليّ. فقال رسول الله ﷺ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»[261]. فدله على أمر جامع نافع - أي استقم على العمل بإسلامك، وليس من شرط الاستقامة كونه لا يذنب أبدًا، بل قد يذنب ثم يتوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١﴾ [الأعراف: 201]. أي يبصرون طريق المخرج من هذا الذنب، فيتوبون ويستغفرون.
إن الاستقامة شأنها عظيم، قد قرأ هذه الآية قوم ثم لم يستقيموا على العمل بها، فتركوا فرائض الطاعات، وانتهكوا الحدود والمحرمات، واستباحوا أكل الربا، وشرب المسكرات، وصرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم، وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم. ومع هذه المخالفات، يدعون بأنهم مسلمون، وهم لم يستقيموا على صحة ما يدعون، فإن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.
إن صراط الإسلام - أي طريق الإسلام - واحد، من استقام عليه نجا، ومن تخلف عنه غرق، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾ [الأنعام: 153]. وهذه السبل التي حذر عنها هي بنيات الطريق التي تفضي بسالكها إلى الهلاك والتعويق.
وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[262]. فهذه الفرقة الناجية هي التي وفقت للاستقامة، ففازت بالسلامة، بخلاف سائر الفرق الضالة، فإنها زاغت عن دينها، وتنكبت طريق نبيها، كما الكثيرون من المنتسبين للإسلام في خاصة الأمصار التي أفسد التفرنج تربيتها، وعقائد أهلها، فصاروا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.
وصار هؤلاء أضر على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى، من أجل أن الناس يغترون بهم، وينخدعون لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم، فهم مرتدون، والمرتد شر من الكافر الأصلي، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتنافل، والمرء على دين خليله وجليسه، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥﴾ [محمد: 25]. ولهذا نزلت التعزية من السماء عن أمثالهم بقوله: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦﴾ [آلعمران: 176].
إن الاستقامة شأنها عظيم، ولما قيل للنبي ﷺ أنه قد أسرع إليك الشيب. قال: ««شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» قالوا: فما شيبك منها؟ قال: «شَيَّبَنِي قَوْلُهُ: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]»[263]. وعن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[264].
إن بعض الناس يكون مسلمًا مستقيمًا في بداية عمره، ثم يصاب بالانحراف في آخر عمره بسبب ولد ملحد، أو جليس فاسق، يقذف إليه بالشبه المضلة، والتشكيكات التي تزيغه عن معتقده الصحيح، ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا». كله من أجل عدم استقامته في حياته، والعمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.
وقد أخبر النبي ﷺ بأنها تكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح منها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا. وهذه الفتن إنما يراد بها الفتن في الدين، والفتنة أشد من القتل، ونعوذ بالله من مضلات الفتن، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
وكان النبي ﷺ يستعيذ في أدبار الصلوات، من فتنة المحيا والممات، ويقول في دعائه على الجنازة: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ والسنة، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[265].
نسأل الله سبحانه، أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[257] رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. [258] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [259] أخرجه أبو داود من حديث سعيد بن المسيب. [260] أخرجه البزار في مسنده من حديث عمر بن الخطاب. [261] رواه مسلم عن سفيان بن عبد الله. [262] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث أبي أمامة وأنس. [263] أخرجه الترمذي في الشمائل، والطبراني في الكبير، وأبو يعلى في مسنده من حديث أبي جحيفة. [264] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث ثوبان. [265] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات.
أما بعد:
فإن الله سبحانه خلق الإنسان، وعلمه البيان، وجمله بالعقل، وشرفه بالإيمان، وأوجد له جميع ما يحتاجه من المآكل والمشارب المباحة على اختلاف الأنواع والألوان. وقال: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ﴾ [سبأ: 15]. وقال: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ﴾ [طه: 81]. فأمر الله عباده بأن يأكلوا من رزق ربهم من كل ما يشتهونه من الأكل الحلال، والمشروبات المباحة، وأن لا يطغوا فيه، بأن يتناولوه من طريق الحرام. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»[266].
وفي القرآن المنزل ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229]. ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ﴾ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرماته. فمن اكتسب المال من حله، بورك له فيه، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، ومن اكتسبه من غير حله، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. وهذا أمر محسوس يشهد به الواقع الملموس، فإن الذين يكتسبون المال من الطرق المحرمة كالخيانة والسرقة والرشوة والمعاملة في المشروبات المحرمة، أو يتحيل على الناس في شراء الشيء ولا يؤدي إليهم ثمنه، أو يستأجر الأجير فيستوفي عمله ولا يؤدي إليه أجرته، فمن فعل ذلك فقد عصى ربه، وأذل نفسه، ومحق نسله، وتسبب في نقص رزقه، وكان كسبه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء، ويرجع إلى الوراء. ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276].
فكل مال اكتسب من حرام فهو ربا، وعاقبته إلى قلته، كما في حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، أو يَخْلُفُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ»[267].
أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع الحلال هو بيع المسلم للمسلم، لا غش ولا تدليس، ولا خديعة ولا خيانة، ولا غرر ولا ربا. فهذا البيع بهذه الصفة من أفضل الكسب، كما في الحديث، أن النبي ﷺ سئل عن أفضل الكسب. قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[268].
فعمل الرجل بيده لسائر الحرف المباحة؛ كالزراعة والصناعة، محبوب عند الله، فإن الله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال. وفي الحديث: «مَنْ غَرَسَ غَرْسًا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ آدَمِىٌّ، وَلَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً»[269]. وحديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ - ينقصه أو يأخذ منه - أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ»[270].
والربا المحرم أنواع: أشده وأشره ربا النسيئة: وهو أن يستدين النقود من البنوك، أو من بعض التجار ومتى حل الدين ولم يجد وفاء مدّوا في الأجل، وزادوا ربحًا في الثمن، على حد ما يقول الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن ترابي. فيربو المال على المدين، حتى يصير كثيرًا. وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، ولعن رسول الله ﷺ آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه من بين الأنام[271].
لأن ضرر هذا النوع من الربا يقوض بالتجارات، ويوقع في الحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات. فكم سلب من نعمة!؟ وكم جلب من نقمة! وكم خرب من دار!؟ وكم أخلى دارًا من أهلها!؟ فما بقي منهم ديار.
فالمتعاطي للربا، يسرع إليه الفقر والفاقة، ويحيق به البؤس والمسكنة، ويلازمه الهم والغم، ويندم حيث لا ينفعه الندم. وحسب المرابي من الشر كونه محاربًا لربه في حياته وبعد وفاته. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾ [البقرة: 278-279].
وقد وصف الله المرابي في فساد تصرفاته بالمجنون فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ﴾ [البقرة: 275].
والنوع الثاني: ربا الفضل، وقد حرمه الله على لسان نبيه ﷺ لكونه يقود إلى ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، وهو ما يتعامل به الناس اليوم، بحيث يستدينون النقود من البنوك لتوسيع تجارتهم، فيحل الدين وليس عندهم وفاء فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فروشهم. فترابي بأصل الدين وبالربح حتى يكون القليل كثيرًا.
وشرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، قد حرم هذا العمل بدليل أنه حرّم بيع الذهب بالفضة إلى أجل. فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ». متفق عليه من حديث أبي سعيد.
فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ، وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة، وكونه ينطبق عليها ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة. في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»[272] وكما روى البخاري ومسلم عن عمر، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ - أي: الفضة - رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ»، يعني يدًا بيد، فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نَسَاءة.
وليس الحكم مخصوصًا بهما، ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما، ويعمل عملهما في القيمة والثمنية؛ فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره، وتسوي بينهما في الحكم، وتمنع التفريق بينهما؛ لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.
فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها.
فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الذهب بالفضة، ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة، رحمة منه بأمته؛ ولهذا نرى بعض الناس يتحيل إلى التوصل إلى هذا الأمر المحرم، وإباحة تعاطيه، بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم بأن حكم النظير حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العملات بعضها ببعض هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الذهب بالفضة نسيئة.
وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي وصف بقوله تعالى: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128]. ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة. وإن لم تظهر مضرته في الحال، فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
إن صاحب الدراهم كصاحب البنك وغيره، متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل، ثم يجري المراباة بها، فإنه يتحصل على الزيادات بطريق الربا بدون تعب ولا مشقة ولا رضى من المدين، فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٨٠﴾ [البقرة: 280].
لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود؛ فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل، ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ.
وإن المشاهدة في الحاضرين، هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين. فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي، فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة؛ لقصد التوسع في التجارات، أو شراء الأراضي، أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على أثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات، وعدم نفاقها في سائر الأوقات.
أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان، كقيام الحروب، أو الحريق، وغيرهما مما يؤذن بالكساد والركود، فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج، حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون، فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم.
لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة، الذي هو ربا الجاهلية، الذي حرمه الإسلام، ونزل فيه الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء زادوا في الربح، ومدوا في الأجل، فترابي بالدين وبربحه، حتى يصير القليل كثيرًا؛ ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.
وقد حَمَى النبي ﷺ هذا الحمى، وسد الطرق التي تفضي إليه، فحذّر أشد التحذير عن مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه، وكل امرئ بما كسب رهين.
ولقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر، والتحذير والوعيد الشديد عن جريمة الربا، ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات، فمنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٣٠ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيٓ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢﴾ [البقرة: 130-132]. ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة، هو أن يعامل به كل أحد، فيرابي بأصل الدين وبالربح.
فأمر الله المؤمنين بتقواه، وأن ينتهوا عما حرم الله، ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر، واجتناب النهي. ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥﴾ [البقرة: 275]. ففي هذه الآية بيان لفساد سيرة المرابين، وسوء سريرتهم، وأنهم كالمجانين في كسبهم الربا، وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم، والحرام هو ما حرموه. ثم هم يتحيلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا؛ فيرتكبون ما ارتكبت اليهود، فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.
ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح، ورأي رشد وسداد، وأنه متى جاءته دعوة هدى، تردعه عن هذا الردى، فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته، فإننا لا نقول له اخرج من مالك كله، وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 275].
فمتى أسلم شخص مرابٍ، وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص، وجب أن يتخلى عن الربا منها، أي الزيادة على رأس المال بإسقاطها، لاعتبار أنه ملك الغير.
ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم، فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها، التي هي الربا الزائد على رأس المال؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 279]. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»[273]، يعني بذلك، إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة.
ومثله صاحب البنك: متى كان يعامل الناس بالربا، وبالبيع المباح، ثم تاب عن تعاطي الربا، فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى صاحبه، وما جهله أو نسيه مما طال عليه الزمان، فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة، وله ما سلف، وأمره إلى الله، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ﴾ - من معاملته - ﴿وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 275]، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. وأما من عاد إلى معاملته بالربا، وأصر على معصيته ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة: 275].
ثم أخبر سبحانه بسوء عاقبة الربا، وأن مصيره إلى قلته، وإلى انتزاع بركته من يد صاحبه، أو من يد ورثته، مهما طال الزمان أو قصر، إذ أن الفشل، ومحق الرزق، مقرون به. فقال سبحانه: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. وكل مال اكتسب من حرام فهو ربا.
ثم أعلم سبحانه بإعلان الحرب على المرابين، فقال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ﴾ - أي ولم تنتهوا عن التعامل بالربا وعن أكله أضعافًا مضاعفة - ﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾ [البقرة: 279]. لاعتبار أنه عدو لله، ومن ذا الذي يطيق غضب الله ومحاربته!؟ لهذا قلنا: إنه لم يرد في جريمة من كبائر الذنوب أشد مما ورد في جريمة الربا.
لهذا أعده رسول الله ﷺ من الموبقات التي توبق صاحبها في الإثم. ثم توبقه في النار، ولعن آكل الربا وموكله، وحرم الله الربا رحمة منه بعباده، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة. فهو أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر، سواء فعله لضرورة أو لغير ضرورة، لكونه لو قيل بإباحته للضرورة، لسهل على الناس تعاطيه بحجة الضرورة، إذ كل أحد سيعرض له في حاله ومآله شيء من الضرورة.
والنبي ﷺ خطب الناس بعرفة في حجة الوداع قبل موته بثلاثة أشهر فقال في خطبته: «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا؛ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[274]. مع العلم أن الناس في ذلك الزمان في غاية من الحاجة والضرورة والفقر، ولم يبح تعاطيه لأحد ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].
﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا﴾ [الطلاق: 4]. فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
وإياك إياك الربا فلدرهم
أشد عقابًا من زناك بنُهد
وتُمْحَق أموال الرباء وإن نمت
ويربو قليل الحل في صدق موعد
نسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[266] أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة الباهلي. [267] من حديث رواه الإمام أحمد من طريق حسن عن عبد الله بن مسعود. [268] رواه أحمد والبزار عن رافع بن خديج ورجال إسناده رجال الصحيح. [269] أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي الدرداء وإسناده حسن. [270] أخرجه مسلم. [271] أخرجه مسلم من حديث جابر. [272] متفق عليه من حديث أبي سعيد. [273] من خطبته ﷺ بعرفة في حجة الوداع. [274] أخرجه مسلم من حديث جابر.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩﴾ [المنافقون: 9].
فنهى الله عباده المؤمنين عن أن تلهيهم تجارتهم وبيعهم وشراؤهم عن ذكر الله، أي عن طاعة الله؛ لأن كل طاعة يفعلها الإنسان، فإنها من ذكر الله. فالصدق والأمانة والبر وفعل الخير، كله من ذكر الله، وهو غاية همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا؛ لأن المؤمنين يشتغلون في دنياهم بجوارحهم، وقلوبهم متعلقة بالعمل لآخرتهم، فهم يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله. كفريضة الصلاة، وفريضة الزكاة، بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيحصلون الحسنتين، ويفوزون بالسعادتين؛ سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨﴾ [النور: 38]. أي من فضل الدنيا وسعتها والبركة فيها؛ لأن أفعال الطاعات، هي نعم العون على سعة الرزق في الحياة.
أما من شغله ماله عن ذكر ربه وشكره وعبادته، فإنه الخاسر في الحياة وبعد الوفاة، وما تجارته إلا حقيقة في عذابه بها في الدنيا، وعقابه بها في الآخرة. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ٨٥﴾ [التوبة: 85].
فمن أنعم الله عليه بنعمة الغنى بالمال، فصرف إليه جل عقله، وجل عمله، وجل اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه؛ من صلاته وزكاته، ونسي أمر آخرته، فهذا بالحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد أوقع نفسه في الفقر من مخافة الفقر، فكان جزوعًا هلوعًا جموعًا منوعًا ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ﴾ [الحج: 11].
إن الله سبحانه قد فاوت بين الناس، فمنهم من أنعم الله عليه بالغنى فشكر، ومنهم من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، وبخل بما أتاه الله من فضله، والله سبحانه خلق الإنسان، وخلق له المال ليتجمل به في حياته، ويقضي منه سائر حاجاته، ويستعين به على طاعة ربه، ويتمتع به إلى أن ينال ما هو خير منه في آخرته، كلوا من رزق ربكم واعبدوه واشكروا له، إليه ترجعون. يقول سبحانه: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ﴾ [سبأ: 15]. فكسب المال من حله، ثم الجود بأداء واجب حقه، يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخرى للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور، والدرجات العلى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، وفي الحديث: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[275] وقال: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ»[276]. فليس شيء يحفز الهمم، كما يحفزهم كسب المال، وتوفيره للعيال، حتى إنه ليحرم نفسه من لذته، وإنفاقه في سبيل حسنته، من أجل توفيره لذريته، على أن المال غاد ورائح، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر، فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم، كما في الحديث: «يَقُولُ الإنسان: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلْوَرَثَةِ»[277].
إن المال لا يكون زينة في الحياة، ولا سعادة بعد الوفاة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال؛ بأن يأخذه من حله، ويؤدي منه واجب حقه، ويعامل الناس بالصدق والأمانة، فإن الصدق نماء، والكذب شؤم، والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩﴾ [التوبة: 119]. فدعا سبحانه عباده المؤمنين إلى الاتصاف بالصدق، وأن يكونوا من حزبه الصادقين ﴿لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ﴾ [الأحزاب: 24]. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» رواه البخاري من حديث حكيم بن حزام. وهذا معنى ما يسميه العلماء بخيار المجلس، وهو أن كل إنسان من المتعاقدين له الحق في فسخ العقد ما داما في المجلس قبل أن يتفرقا.
ولا يحل للبائع أن يخفي عن المشتري ما في السلعة من العيوب، ولا أن يقول سيمت بكذا، وهو كاذب، ولا أن يقول: اشتريتها بكذا، وهو إنما اشتراها بأقل، فمتى فعل ذلك، فإن للمشتري الخيار في فسخ العقد؛ لوقوع الغدر والتدليس عليه.
إن البيع الصحيح: هو بيع المسلم للمسلم بلا غش ولا خيانة ولا خديعة ولا كذب. فهذا البيع هو البيع المبرور الذي قال فيه النبي ﷺ: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[278]. فالبيع المبرور مقرون به اليمن والبركة في السلعة وفي الثمن.
أما البيع المشوب بالخيانة والخداع والكذب، فإنه مقرون به الشؤم والفشل ومحق الرزق. وفي الحديث «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ»[279].
وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: ««ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». منهم «رجل حلف على سلعة بعد العصر، لقد أعطي بها كذا، وكذا، فصدقه المشتري وهو كاذب»» وفي صحيح مسلم عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المنان بعمله، والمسبل إزاره خيلاء، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة».
وإنما حشر أكثر التجار فجارًا؛ من أجل استباحتهم لأكل زكاة مالهم وللخيانة والخداع والتغرير والكذب، وخروجهم عن حدود العدل والصدق. وكفى بك إثمًا أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق وأنت به كاذب، يقول: سيمت مني هذه السلعة بكذا وهو كاذب في ذلك.
وقد عمل بعضهم شيئًا من الحيل المحرمة، والتغرير والخداع؛ يشتري أحدهم الأرض بسبعمائة ألف، ويكتبون ثمنها في صك الشراء بمليون خداعًا وتدليسًا، وهذا كله من الأمر الحرام.
ومثله ما يستبيحه بعض التجار؛ من أن أحدهم يشتري بضائع من الخارج، ثم يطلب من الشركة أن تكتب في قوائمها أكثر من قيمتها؛ لقصد عرضها على الحكومة أو على المشترين. فيأخذ قدرًا زائدًا بطريق الخيانة والغدر والتغرير والكذب. وقد حث النبي ﷺ على الصدق. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». وعن عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ»[280].
فالمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب، قيل للنبي ﷺ: «أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون بخيلاً؟ قال: «نَعَمْ». قيل: أيكون كذابًا؟ قال: «لَا»»[281]. لهذا تجد الصادق الأمين، يركن الناس إلى معاملته، وإيداع أموالهم عنده، وعرض السلع الرخيصة عليه، لمحبتهم له وثقتهم به، وحسن ظنهم بصدقه وأمانته. فتتوسع تجارته، وينتشر بين الناس فخره وشرفه.
وأما الكذاب الخائن، فإن الناس لا يزالون منه على حذر، بحيث يحذر بعضهم بعضًا من معاملته، وعدم الثقة به، فتكسد تجارته، ويسقط قدره، ويكون كذبه بمثابة الكلب يطرد الرزق عن بابه، ويمنعه من سلوك أسبابه، ولا يجني جان إلا على نفسه، وقد قال النبي ﷺ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مِمَّا فَاتَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ»[282]. فهذه الخلال هي التي تجمل التجارة وتنميها، وتنزل البركة فيها، وتحبب الناس للمتصف بها.
وكان النبي ﷺ إذا جرب على أحد شيئًا من الكذب سقط من عينه، واستهان عنده، فلا يقبل عليه بالرضا، حتى يجدد توبته عن تلك الكذبة، ويحث أصحابه على اعتياد الصدق في أقوالهم وأعمالهم ومعاملتهم، وحتى التخاطب مع الصغار من أولادهم. كما في حديث عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله ﷺ جالس في بيتنا. فقالت: تعال أعطك كذا - أي تمرة - فقال رسول الله ﷺ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُطِعْهُ لَكُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً»[283]. مراده بهذا تهذيب أمته صغارهم وكبارهم على اعتياد الصدق، وتربيتهم على التخلق به، واجتناب الكذب، وتقبيحه في نفوسهم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، وعلى التخلق به، حتى يصير نكتة راسخة في قلبه. والكذب مجانب الإيمان، وهو من خصال النفاق، كما في الصحيحين : أن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وفي رواية «إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[284].
لهذا يرى العقلاء من علماء النفس أن من فساد التربية للصبي، كونه يعود الكذب في التخاطب معه وكثرة تخويفه من الكلب، أو من الجن عند بكائه، فيتربى في نفسه هذا التخويف، فيتخلق بالرعب والخوف والاضطراب، فيخاف من كل شيء، ومن الجن، فيصورهم في نفسه، وهو لا خوف عليه منهم، ولا يزال دائمًا يخاف من هذا التخويف في نومه ويقظته، حتى يكبر معه في نفسه حالة كبره، ويصير طبيعة له.
ومن شؤم الكذب أنه ينفق السلعة؛ لكنه يمحق الكسب، ويؤذن بالفشل.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[275] رواه الترمذي والحاكم وقال الترمذي: حسن غريب وقال الحاكم: من مراسيل الحسن. [276] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث رفاعة. [277] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [278] رواه البزار وصححه الحاكم من حديث رفاعة بن رافع. [279] أخرجه الدارمي وابن حبان في صحيحه من حديث رفاعة بن رافع. [280] رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. [281] أخرجه مالك من حديث صفوان بن سليم. [282] رواه أحمد والطبراني بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمر. [283] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عامر. [284] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٢ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا ٣﴾ [الفتح: 1-3]. والمراد بالفتح هنا، هو صلح الحديبية، لكونه انفتح به ما هو مغلق بين الرسول ﷺ وأصحابه، وبين كفار قريش.
ولما نزلت هده الآية قال الصحابة: هنيئًا مريئًا، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى ﴿لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَئَِّاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٥﴾ [الفتح: 5][285].
وحاصلها: أنها لما اشتدت الحرب بين الرسول ﷺ وبين كفار قريش، وقد كثر أصحاب رسول الله ﷺ وقويت شوكتهم، بتوفر عددهم وعدتهم. ففي السنة السادسة من الهجرة، رأى رسول الله ﷺ في منامه أنه وأصحابه، يطوفون بالبيت، محلقين رؤوسهم ومقصرين، كما قال سبحانه: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا ٢٧﴾ [الفتح: 27]. أي صلح الحديبية.
وكانت الحديبية عينًا تقع على حدود الحرم، من جهة جدة. ونزل رسول الله ﷺ بأصحابه خارج الحرم، وإذا أراد أن يصلي، دخل حدود الحرم، لمضاعفة ثواب الصلاة فيه.
فعزم رسول الله ﷺ على العمرة، وأنه سيقاتل المشركين إن صدوه عن البيت، ودعا أصحابه إلى بيعة الرضوان، تحت الشجرة، فبايعوه على الموت؛ بأن لا يفروا، فأحرموا من ميقاتهم للعمرة، واستنفر من حوله من الأعراب، فاعتذروا قائلين: ﴿شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا﴾ [الفتح: 11]. وذلك لظنهم أن الرسول ﷺ وأصحابه لن يرجعوا. فخرج رسول الله ﷺ بمن معه من المهاجرين والأنصار، وعددهم ألف وخمسمائة، وكان مع رسول الله ﷺ زوجته أم سلمة، وقلّد الهدي معه، ليعلم الناس أنه لم يأت للقتال، وإنما جاء للاعتمار.
وبعد أن وصل إلى عسفان، جاءه عينه فأخبره بأن قريشًا جمعت رأيها على أن يصدوه عن دخول مكة، وأن لا يدخلوها عليهم عنوة أبدًا، وتجهزوا للحرب، فبعد المراجعة بينهم وبين رسول الله ﷺ اتفق رأيهم أن يرسلوا سهيل بن عمرو لإجراء عملية الصلح، فلما أقبل سهيل، قال رسول الله ﷺ: «قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ». فبرزوا لعقد الصلح، وكان الكاتب بينهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فقال سهيل: لا تكتب باسم الله، اكتب باسمك اللهم. ثم قال: «هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو». فقال: لا تكتب رسول الله، فلو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. قال: امح رسول الله، واكتب محمد بن عبد الله. والصلح على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءك مسلمًا رددته إلينا، ومن جاءنا مرتدًّا منكم لم نرده عليكم، وعلى أنكم ترجعون عامكم هذا فلا تدخلوا مكة، حتى لا يتحدث الناس أنكم أخذتمونا ضُغطة. وفي العام القابل تعتمرون بالسيوف في القرب.
وفي أثناء الكتابة، جاء أبو جندل فارًّا بدينه من مكة، فرمى بنفسه بين المسلمين. فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيكم على رده. فطلب رسول الله ﷺ أن يسمح له به، فأبى، فأمر رسول الله ﷺ برده إليه.
وبعدما تم عقد الصلح، أمر رسول الله ﷺ أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، وينحروا هديهم، فتلكؤوا. ووقع الاضطراب بينهم عندما رأوا أبا جندل مردودًا إلى الكفر. فقالوا: يا رسول الله كيف من جاءنا مسلمًا نرده إليهم، ومن جاءهم مرتدًّا منا لا يردونه إلينا؟ فقال رسول الله ﷺ: «إن من جاءنا مسلمًا، فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، ومن جاءهم مرتدًّا منا، فأبعده الله».
ثم جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ فقال: إنه رسول الله ﷺ، فاستمسك بغرزه.
ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فقال له مثل ذلك. وقال: الم تقل لنا أنكم ستأتون البيت، وتطوفون به، فلماذا نرجع عنه؟ فقال: ««هل قلت لكم هذه السنة؟» قال: لا. قال: «فإنكم ستأتونه وتطوفون به»»[286].
وفي الصلح: أن من دخل في عقد رسول الله ﷺ وعهده، فإنه منه، ومن دخل في عقد قريش وعهدهم فإنه منهم. فدخل في عقد رسول الله ﷺ خزاعة، ودخل في عقد قريش بكر وغطفان. فنحر رسول الله ﷺ هديه، وحلق رأسه، وتتابع الصحابة على ذلك، وحلوا من إحرامهم، ورجعوا إلى المدينة.
ثم إن قريشًا مع من أعانهم من عرب الحجاز ونجد، هجموا على خزاعة في حال غفلة منهم، فقتلوهم. وبذلك انتقض عهدهم. وعزم رسول الله ﷺ على غزوهم، وقال: «اللهم عم الأخبار عن قريش، حتى نبغتها في دارها»[287]. فلما عزم على الخروج، كتب حاطب بن أبي بلتعة إليهم يخبرهم بعزم رسول الله ﷺ على غزوهم، وقال في كتابه: يا معشر قريش، إن محمدًا قد عزم على غزوكم بجيش كالسيل، يختفي بالنهار، ويسير في الليل، والله لو جاءكم وحده، لنصره الله عليكم. فانظروا في أمركم، والسلام. وأرسل الكتاب مع امرأة. فنزل الوحي بخبرها، وأرسل رسول الله ﷺ عليًّا والمقداد لذلك وقال: «إنكم ستأتون امرأة ظعينة بروضة خاخ، ومعها كتاب، فخذاه منها». فوجداها كما وصفها رسول الله ﷺ في روضة خاخ. فقالا: هات الكتاب. فقالت: ليس معي كتاب. فقالا: والله لتخرجن الكتاب، أو لنجردنّ الثياب. فأخرجت لهما الكتاب من عقاص شعرها. فقال رسول الله ﷺ لحاطب: «ما حملك على ذلك؟» فقال: والله ما فعلته رِدة عن الإسلام، وما من أحد من قريش إلا وله قرابة يحمون ماله، وليس لي أحد، فأردت أن أجعلها يدًا عندهم، يحمون بها مالي. فقال رسول الله ﷺ: «قد صدقكم». فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[288]. فصار هذا الصلح في الحديبية، الذي كرهه أكثر المسلمين، ويرون أن فيه غضاضة وهضمًا للمسلمين، فصار عاقبته فتحًا ونصرًا مبينًا. وبه فتح الله مكة لرسوله ﷺ، فدخلها رسول الله ﷺ والمسلمون عنوَة، وسلاح أهلها بأيديهم مستعدون لحرب رسول الله ﷺ وأصحابه. فوسع نطاق الأمن للناس، وقال: «من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن»[289].
وكان رجل يصلح سلاحه لمحاربة رسول الله ﷺ وأصحابه، وعنده زوجته، فقالت له: ما أرى أحدًا يقوم لمحمد وأصحابه. فقال: إني أرجو أن أخِْدمَكِ أحدهم، ثم أخذ يرتجز ويقول:
إن يقبلوا اليوم فما لي علهْ
هذا سلاح كامل وإلّهْ
وذو غرارين سريع السلهْ
ثم أخذ سلاحه وخرج، ثم رجع سريعًا مذعورًا، وقال لزوجته: أغلقي علي الباب. فقالت له: ما أسرع ما رجعت. فأخذ ينشد:
إنك لو رأيت يوم الخندمه
إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتنا بالسيوف المسلمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ولما دخل النبي ﷺ مكة مؤيدًا منصورًا، ومحشودًا محفودًا، ورأى النساء يصرخن بالبكاء، ويرمين خمرهن في وجوه الخيل خوفًا على أولادهن وأزواجهن من القتل. لهذا التفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر فقال: «ما يقول حسان في مثل هذا؟» قال: يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كدَاء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسَلُ الظِّماءُ
تظل جيادنا متمطرات
يُلطِّمُهنّ بالخُمر النساء
ثم إن رسول الله وسع مجال الأمان للناس، فقال: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَوَضَعُوْا كُلُّهُمْ سِلَاحَهُمْ»[290]، وصدق عليهم قول الشاعر:
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَب
وقد لان منه جانب وخطاب
ولما دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا أو أنابوا
ثم إن رسول الله ﷺ جمع قريشًا فقال لهم: ««مَا تَظُنُّوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. فقال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»[291] وسموا الطلقاء من يومئذ، وهم مسلمة الفتح، ولم يُقتل منهم سوى أفراد يعرف أن بقاءهم يفسد بقيتهم. منهم: عقبة بن أبي معيط، الذي وضع سَلاء الجزور على رأس رسول الله ﷺ وهو ساجد. ومنهم النضر بن الحارث، الذي كان يهجو رسول الله ﷺ بشعره.
ولما أعلن لهم بالعفو الشامل، قام أبو سفيان بن الحارث - ابن عم رسول الله ﷺ - فأنشد أبياتًا منها:
لعمرك إني حين أحمل رايةً
لتغلب خيلُ اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسـي ودلني
على الله من طَرَّدْتُ كل مُطرّد
فضرب رسول الله ﷺ صدره، وقال له: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ».
ثم إن رسول الله ﷺ ترك أهل مكة على حالتهم وعلاتهم، ولم يثبت التاريخ أنه سأل واحدًا منهم عن إسلامه، بل تركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم، ورغبتهم تدريجيًّا، وصدق عليهم قوله سبحانه: ﴿۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧﴾ [الممتحنة: 7].
وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ١٠٨﴾ [يونس: 108].
ولو كان قتال الكفار مشروعًا حتى يسلموا، لوجب أن يميز النبي ﷺ بين من أسلم فيستبقيه، وبين من أصرّ على كفره فيقتله.
وبعد فتح مكة، أخذ الناس يدخلون في دين الإسلام أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، لكون عرب الحجاز ونجد، قد استأنوا بإسلامهم فتح مكة، وقالوا: إن كان محمد رسولاً، فسيظهر على قريش ويفتح مكة، وإن لم يكن رسولاً، فستظهر عليه قريش ويقتلونه. ولما فتح الله عليه مكة، أقبلت وفود العرب من كل فج عميق، يظهرون إسلامهم، وأنزل الله سبحانه في أوسط أيام التشريق ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [النصر: 1-3]. وفي هذه السورة، إشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر قال: خطبنا رسول الله ﷺ عام الفتح بمكة، فقال: ««إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ» ، فقيل: يا رسول الله. أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لَا، هُوَ حَرَامٌ» ثم قال: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ؛ إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ – أي: أذابوه -، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»[292].
[285] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أنس. [286] معنى حديث طويل أخرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. [287] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بمعناه من حديث ابن عباس. [288] متفق عليه من حديث علي. [289] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [290] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبو داود من حديث ابن عباس. [291] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أبي هريرة. [292] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو الحكيم الخبير، وتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡ﴾ [الأنبياء: 1-3]. فأخبر سبحانه باقتراب حساب الناس على أعمالهم، اللازم لقرب قيام الساعة؛ لأن كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس آت ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا ٨٧﴾ [النساء: 87].
فلا ينبغي للعاقل أن يستبطئ هذا الحساب، والعرض على الله، ورؤية ما وعد به من الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات، فما هو إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات.
يقول الله سبحانه: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ ٢ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣ فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥ ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦ وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ ٧﴾ [الماعون: 1-7].
يقول سبحانه: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١﴾ وهذا استفهام إنكار، ينكر سبحانه على من يكذب بيوم الدين، أي يوم البعث والحساب عند الله، يوم يجازي كل إنسان بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
وما يكذب بيوم الدين إلا كل معتد أثيم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٧ ثُمَّ مَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٨ يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩﴾ [الإنفطار: 17-19]. فمن كذب بالبعث بعد الموت فهو كافر. يقول الله تعالى: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧﴾ [التغابن: 7]. يعني أن البعث بعد الموت سهل يسير على الله ﴿مَّا خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسٖ وَٰحِدَةٍۚ﴾ [لقمان: 28]. ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَلَمۡ يَعۡيَ بِخَلۡقِهِنَّ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٣٣﴾ [الأحقاف: 33]. ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٨٣﴾ [يس: 82-83].
والنبي ﷺ يقول: ««كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ». قالوا: ما نقول؟ قال: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»»[293].
وذلك أن الله سبحانه إذا حكم على الدنيا بالفناء عند قيام الساعة، فيأمر الله إسرافيل بأن ينفخ النفخة الأولى، وهي نفخة الصعق، فيموت جميع الناس حالاً، حتى إن الرداء بين الرجلين، لا هذا يقبضه، ولا هذا يقبضه، وحتى اللقمة تكون بيد الرجل فلا يوصلها إلى فمه، ولا يردها في القصعة. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «جاءت الراجفَةُ تتبعها الرادفةُ، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه[294] فقيل له: كم بين النفختين؟ قال: «أربعون ». قيل: أربعون يومًا؟ قال: «أبيت» قيل: أربعون شهرًا؟ قال: «أبيت» قيل: أربعون سنة؟ فسكت»[295] فيموت جميع الناس، ويمكثون في قبورهم أربعين سنة.
ثم يأمر الله السماء أن تتواصل عليهم بالمطر، حتى ينبتون من قبورهم كنبات الطراثيث. وبعد كمال إنباتهم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج أرواحهم تتوهج، ويقول الله: فوعزتي لترجعن كل روح إلى الجسد التي كانت تعمره في الدنيا، فيقومون حفاة عراة غرلا. ولهذا قالت عائشة: واسوأتاه. ينظر أحدنا إلى سوأة بعض؟! فقال: «الأمر أعظم من أن يهمّهم ذلك». فيقومون من قبورهم، وهم يقولون: ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس: 53-54].
فينشئ الله الناس نشأة مستأنفة، حتى الذي احترق وصار رمادًا، أو الذي أكلته السباع أو أكلته الحيتان، فإن الله ينشئه خلقًا جديدًا، وحتى العجائز في الدنيا اللائي كن حمصًا رمصًا فإن الله ينشئهن نشأة مستأنفة، فيجعلهن أبكارًا، عربًا أترابًا في سن ثلاث وثلاثين سنة، ويكن أفضل وأجمل من الحور العين، بفضل صلاتهن، وصيامهن، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧﴾ [الواقعة: 35-37].
وقد قالت أم سلمة: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج عدة أزواج، وتدخل هي وأزواجها الجنة، فمع من تكون؟ فقال: «يا أم سلمة، إنها تخير، فتختار أحسنهم خلقًا. يا أم سلمة: ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة»[296]. إن العقائد عليها مدار الأعمال، فمتى حسن الاعتقاد حسن العمل وحسنت النتيجة، أو ساء الاعتقاد ساء العمل وساءت النتيجة.
فقد أخبر الله عن هذا الذي يكذب بيوم الدين، أي يكذب بالبعث للحساب أنه نتج عن سوء اعتقاده، وفساد عمله، فصار يدع اليتيم - أي يدفعه بعنف وشدة - ليس في قلبه له رحمة ولا حنان ولا إحسان؛ لأنه لا يرجو عند الله ثوابًا، ولا يخاف عقابًا.
ثم قال: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣﴾ لأن من ليس فيه خير لنفسه فإنه لن يكون فيه خير للناس، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة، والفواحش الشنيعة، من القتل والسرقة وشرب الخمر ونهب الأموال وانتهاك الأعراض من العادمين للدين، الذين لا يرجون عند الله ثوابًا، ولا يخافون عقابًا. فهم الذين يقال لهم يوم القيامة: ﴿مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ ٤٢ قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ ٤٣ وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِينَ ٤٤ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ ٤٥ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤٦ حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلۡيَقِينُ ٤٧﴾ [المدثر: 42-47].
فاعترفوا بذنبهم، وأنهم يكذبون بيوم الدين - أي بالبعث بعد الموت - فنجم عن تكذيبهم فساد أعمالهم؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه. ففساد أعمالهم إنما نشأ عن فساد اعتقادهم، بخلاف الذين يؤمنون بالغيب، ويصدقون بالبعث، وإنهم مجازون على حسناتهم. يقول الله فيهم: ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠ فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةٗ وَسُرُورٗا ١١ وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيرٗا ١٢﴾ [الإنسان: 8-12]. واليتيم: هو من توفي أبوه قبل أن يبلغ الحلم. ولا يتْمَ بعد احتلام. ولليتيم حق. وخير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه. وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يساء إليه. ومن مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله، فإن له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة، وكذلك المسكين، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَيسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِن المِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيْهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ»[297] يموت أحدهم وحاجته في صدره.
ثم قال: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥﴾ فتوعد بالويل هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون - أي لاهون، غافلون - قيل: كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقيل: إنهم أحيانًا يصلون وأحيانًا لا يصلون، فلا قيمة، ولا قدر للصلاة في نفوسهم. وقيل: إنهم يصلون صلاة منقوصة، فلا يتمون ركوعها ولا سجودها، ولا يخشعون فيها، حيث لم يستحضروا عظمة ربهم في صلاتهم، وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون. وروي أن الرجل يصلي ستين سنة، وما كتب له منها صلاة واحدة. قيل بماذا؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها. وأسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته[298]. وهذا كله يعد من إضاعة الصلاة، ومن السهو عن الصلاة. أما السهو في الصلاة، فإنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وسبحان من لا ينام ولا يسهو. فإذا سها أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كمْ صلى، ثلاثًا، أو أربعًا، فليبن على ما استيقن وهو الأقل. ثم يسجد سجدتي السهو، فإن صلى نقصًا، كانتا جبرًا لصلاته، وإن صلى تمامًا، كانتا ترغيمًا للشيطان.
ثم قال: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ ٦﴾ - أي بصلاتهم وبصدقتهم وبحجهم، فيعملون هذه الأعمال ليراهم الناس، ولم يفعلوها لله. ومن صلى يرائي، فقد أشرك. ومن تصدق يرائي، فقد أشرك؛ لأن الله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحًا، وابتُغي به وجهه.
ثم قال: ﴿وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ ٧﴾ إن من لم يكن فيه خير لنفسه، والعمل لآخرته، فأجدر به بأن لا يكون فيه خير للناس، فتراه يمنع إعارة القِدْر، والصحن والبساط، والسيارة، وغير ذلك مما ينتفع به الناس، وخير الناس أنفعهم للناس، وخير الناس من يرجى خيره ويؤمن شره، وأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى خلقه.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[293] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [294] أخرجه الترمذي من حديث أبي. [295] متفق عليه من حديث أبي هريرة وفيه لفظ أربعون سنة؟ قال: أبيت. [296] رواه الطبراني في الكبير والأوسط. [297] رواه الإمام مالك، وأحمد بن حنبل، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة [298] أخرجه أحمد والدارمي من حديث أبي قتادة الأنصاري..
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد روى الإمام أحمد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي يسمع في وجهه كدوي النحل، فنزل عليه الوحي يومًا، فرفع يديه إلى السماء وقال: ««اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ، مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٧ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ١١﴾ [المؤمنون: 1-11]»[299].
بدأ هذه السورة بقوله: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١﴾ أي قد فازوا ونجحوا وقد حرف تحقيق، يحقق الله الفلاح، وهو الفوز والنجاح للمؤمنين المتصفين بهذه الصفات.
والفلاح هو أجمع كلمة في فعل الخير؛ لأنه الفوز والنجاح بسعادة الدنيا والآخرة، و ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥﴾ [الأعلى: 14-15]. وجعلت هذه الكلمة في النداء إلى الصلاة، حيث يقول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وفي الحديث: «من دُعي إلى الفلاح فلم يجب، لم يَرِد خيرًا، ولم يُرد به خيرًا»[300].
ولما خلق الله الجنة بما فيها من النعيم المقيم، من كل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، قال لها: تكلمي. قالت: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١﴾ فقال: طوبى لك منزل الملوك
ثم وصف المؤمنين باتصافهم بهذه الأعمال الصالحات؛ لأن الله سبحانه كثيرًا ما يقرن الإيمان بالأعمال الصالحات، كقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧﴾ [البينة: 7].
ثم وصف المؤمنين بأنهم ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢﴾ أي خائفون خاضعون وجلون. فبدأ بذكر الخشوع في الصلاة قبل الأمر بالمحافظة على الصلوات؛ لأن الخشوع لبّ الصلاة، وصلاة بلا خشوع، كجسد بلا روح.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ، يرفعون أبصارهم إلى السماء وهم في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة قال: «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا، لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ»[301].
لكون مقام الصلاة موقفًا عظيمًا، يعتقد المسلم بقيامه أنه ذليل خاشع لرب العالمين، كما في الحديث: «آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[302]. ولهذا كان من أنواع الاستفتاح للصلاة أن يقول: ««وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «وَالإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»»[303]. ﴿ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩﴾ [الشعراء: 218-219].
ولهذا استفتحت بقول: الله أكبر، ليستحضر المصلي عظمة ربه، وأنه أكبر من كل شيء، فتصغر في عينه الدنيا بما فيها، ثم يرفع يديه عند التكبير إشارة إلى رفع حجاب الدنيا، ثم الدخول على الله، ومن السنة وضع كفه الأيمن على الأيسر على صدره، وورد تحت السرّة، وفوق السرّة، والأول أصح؛ ليكون بمثابة الأسير الذليل بين يدي ربّه، ينتظر رحمته ويخشى عذابه، حتى كأنة دخل على الله والتجأ بجنابة؛ ولهذا سميت صلاة لكونها صلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه، وموصول من بره وفضله وكرمه، كما أن تارك الصلاة منقطع عن ربه، فهذه الصلاة الشرعية هي قرة العين للمؤمنين في الحياة، كما روى أنس، أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[304].
وقيل لأبي حازم: كيف تصلي؟ فقال: إذا قرب وقت الصلاة أسبغت الوضوء بتمام، وأمثل الجنة عن يميني، والنار على شمالي، والصراط بين قدمي، والله المطلع علي، وأكبر بتعظيم، وأقرأ بتدبر، وأركع بتذلل، وأسجد بتواضع، وأسلم مع الوجل، ولا أدري أتقبلت مني صلاتي أم يضرب بها وجهي.
فهذا من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أي يعملون الأعمال الصالحة بإحسان وإتقان، ويخافون أن لا يتقبل منهم، لكون المؤمن هو من جمع إحسانًا في العمل، وخوفًا من الرد. والمنافق هو من جمع إساءة في العمل، وأمنًا من العقاب، ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩﴾ [الأعراف: 99].
ثم إن الخشوع في الصلاة قد جعلها الفقهاء ركنًا من أركانها، وهو الطمأنينة، والسكون في السجود والركوع؛ لأن للصلاة ميزانًا توزن به، وهو قول النبي ﷺ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[305]. وميزانها القولي، هو ما أرشد إليه النبي ﷺ الأعرابي المسيء في الصلاة، وهو ما روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ كان جالسًا في المسجد، فدخل أعرابي فصلى، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ : «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فعل ذلك ثلاث مرات. ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني. وإنه ينبغي لنا أن نفرغ الأذهان، وأن نصغي بالآذان إلى تعليم النبي ﷺ لهذا الأعرابي المسيء في صلاته. ثم نتخذ منه درسًا للصلاة المشروعة المقبولة عملاً وتعليمًا.
فقال له: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وكبر»[306]. وإسباغ الوضوء، هو إيصال الماء إلى مواضعه من الأعضاء، وإزالة ما يمنع من وصول الماء إلى البشرة من خاتم أو ساعة أو إسمنت أو عجين، كما في الحديث: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ تَغْسِلُ الْخَطَايَا غَسْلًا»[307].
والوضوء هو مفتاح الصلاة. فلا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وهو مأخوذ من الوضاءة، وهي النظافة؛ لأن دين الإسلام دين النظافة، ومن حكمته تنشيط الأعضاء.
وعن علي رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «مِفْتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»[308]. ثم قال: «وَاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَكَبِّرْ» ولم يقل: قل: نويت أن أصلي كذا، وكذا؛ لأن النية قلبية، والتلفظ بها بدعة، قيل للإمام أحمد: تقول قبل التكبير: نويت أن أصلي كذا؟ قال: لا. إذ لم ينقل ذلك عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه. ثم قال: «وَاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ» وهو شرط لمن قدر عليه لقوله: ﴿فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]. أما من كان في طائرة أو في سيارة أو في باخرة، فإنه يصلي حيث توجهت به، مستقبل القبلة، أو مستدبرها، ﴿فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 115]. ثم قال: «واقرأ ما تيسر معك من القرآن».
وقراءة الفاتحة ركن في الصلاة لمن عقلها، لقوله ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»[309]. ولكن الناس زمن البعثة حديثو عهد بالجاهلية، وليس كل الناس يحسنون قراءة الفاتحة، وخصوصًا كبار الأسنان، كهذا الأعرابي وأمثاله، فقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني لا أحسن شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي. فقال: ««قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» فقال: يا رسول الله. هذا لربي، فما لي؟ فقال: «تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي»[310].
قال: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» والاطمئنان: هو السكون، والركود في السجود والركوع، بحيث يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات. وهذا أدنى الكمال.
قال: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» أي حتى تسكن وتركد في قيامك، لقول النبي ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ»[311].
قال: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» لما في البخاري عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ - وأشار بيده إلى أنفه، وأنه لا بد من سجود الأنف مع الجبهة - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَأَلَّا أَكُفُّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا[312]. ثم يقول: سبحان ربي الأعلى؛ ثلاث مرات. وهي أدنى الكمال.
قال: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» أي حتى تسكن وتركد في قعودك بين الجلستين، ويقول: رب اغفر لي، وارحمني، واهدني وعافني وارزقني، ثم يسجد الثانية كالأولى، قال: «وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا».
فهذه هي الصلاة المشروعة، الجديرة بأن تصعد إلى ربها، فتشفع لصاحبها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني. أما الصلاة الناقصة، التي لا يتم صاحبها ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئن فيها، فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني. لأن الله سبحانه يحب من عباده تحسين العمل، لا كثرة العمل.
ثم قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣﴾ واللغو هو الباطل من الأقوال والأفعال، فمجلس القمار والزنا هو مجلس لغو وباطل، والمجلس الذي يشرب فيه الخمر، هو مجلس لغو وباطل، ومجلس اللعب بالكرة الذي يشغل الناس عن الصلاة الواجبة هو موضع لغو وباطل، وقد مدح الله المؤمنين الذين يجتنبون هذه المواضع السيئة. ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا﴾ [الفرقان: 72].
وجيء إلى عمر بن عبد العزيز بقوم قد شربوا الخمر، ومعهم رجل صائم لم يشرب الخمر، قال: ابدؤوا بتعزير هذا الصائم، فقد قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 68]. فكيف قعد مع القوم الظالمين؟
ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤﴾ فكثيرًا ما يقرن سبحانه ذكر الصلاة بأداء الزكاة؛ لأنها قرينة الصلاة، وهي قنطرة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وسميت زكاة لكونها تزكي المال أي تنميه وتكثره، وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه، كما أنها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]. فسمى الله الزكاة صدقة، من أجل أنها تصدق وتحقق إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله، فحاسب نفسه، ثم دفع زكاته إلى مستحقها، طيبة بذلك نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه، فصار مؤمنًا أمينًا ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
والناس في آخر الزمان يعدون الزكاة مغرمًا، أي يرونه بمثابة الغرم في أنفسهم، حتى لا يكاد يؤديها إلا القليل منهم، وهي بالحقيقة مغنم، وليست بمغرم، كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
ثم قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٦﴾ ففي هذه الآية فضل العفاف والإحصان عن الزنا، وكونه من كبائر الفواحش. يقول الله: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا ٣٢﴾ [الإسراء: 32]. فالزنا عواقبه ذميمة، وعقوباته أليمة والقلوب المحبة له سقيمة، والبلية به لا سيما بعد وقوع الشيب داهية عظيمة.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨﴾ قال أنس: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»[313]. وجاء رجل من أهل العالية، وقال يا رسول الله: «أخبرني بأشد شيء في هذا الدين؟ فقال: يَا أَخَا الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ»[314].
والأمانة تارة تكون بين العباد فيما يتعاملون فيه من التبايع والودائع والكيل والوزن وأداء الحقوق إلى ربها، وكل الوظائف الحكومية هي من الأمانات لدى المتولين لها، بحيث يسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله، وعن حفظه لأمانته، والله لا يصلح كيد الخائنين، فمن الواجب أن تحاط وتحفظ بالأمانة، وأن تذاد أيدي العدوان عن اختلاس شيء منها، فقد قال النبي ﷺ: «مَنْ وَلَّيْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِنْهُ مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، فَإِنَّهُ غُلُولٌ» ﴿وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [آلعمران: 161]. ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ [النساء: 58]. وتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربه، فالوضوء أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، وكذا سائر الحقوق والحدود، فمن حافظ على أداء أمانته، أثابه الله الجنة على حسن عمله، ومن بخس أو نقص، عوقب بما عمل.
ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩﴾
فبدأ هذه الآيات بالصلاة، وختمها بالصلاة، وهذه الآية تشبه قوله: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٢٢ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣﴾ [المعارج: 19-23].
فوصفهم باستدامة محافظتهم على الصلوات في أوقاتها، وأنهم ليسوا كمن يصلي وقتًا، ويتركها أوقاتًا، كفعل الملاحدة الجفاة، ويعتذر أحدهم بنجاسة ثوبه، وسراويله، لكون الصلاة لا قيمة لها في نفسه، ولا يهتم بأمرها، من فعل الطهارة لها: ﴿وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ﴾ [التوبة: 46].
والصلاة هي أمانة الرب، وعمود دين العبد، من تركها تهاونًا بها، واستخفافًا بأمرها، فإنه كافر بالنص الثابت عن رسول الله ﷺ ﴿وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ﴾ [طه: 61]. فروى مسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة». وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[315]. فلا دين لمن لا صلاة له. إن موضع الصلاة من الدين، كموضع الرأس من الجسد.
ولهذا كان السلف الصالح يسمونها الميزان؛ لأن آخر ما يفقده العبد من دينه الصلاة، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حدثوا بأنه محافظ على الصلاة في الجماعات، علموا بأنه ذو دين، وإن حدثوا بأنه لا يشهد الصلاة في الجماعات، علموا بأنه لا دين له. وكل من لا دين له، جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ﴾ [التوبة: 11].
ثم قال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ١١﴾ فليس هذا الإرث محض مال تذهب لذته، وتبقى تبعته، حلاله حساب، وحرامه عقاب، ولكنه فضل من الله، وهو الفوز بجنته، والنجاة من النار، فهو الذي يستحق أن يتنافس فيه الصالحون، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾ [المطففين: 26].
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
نسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[299] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث عمر بن الخطاب. [300] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة. [301] رواه الحكيم في نوادره عن أبي هريرة بإسناد ضعيف والمعروف أنه من قول ابن المسيب - في مصنف ابن أبي شيبة. [302] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [303] من حديث رواه مسلم عن عمر. [304] رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس وإسناده جيد. [305] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث مالك بن الحويرث. [306] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [307] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا». [308] رواه أبو داود والترمذي والدارمي. [309] متفق عليه ورواه الإمام أحمد في مسنده وأصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت. [310] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم. [311] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي سعيد. [312] متفق عليه من حديث ابن عباس. [313] من حديث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان عن أنس وإسناده قوي. [314] أخرجه البزار من حديث علي. [315] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
الحمد لله، معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وخذل أهل معصيته، فاستحوذ عليهم الشيطان، وحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأنساهم ذكر الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فإن الدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، وبالهموم والغموم والأحزان، ولا يهذبها ولا يصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين، ففي الحديث «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»[317].
تأتي المصائب حين تأتي جمعة
وأرى السرور يجيء في الفلتات
إنه ما أعطي أحد عطاء في الدنيا أفضل ولا أوسع من العافية، وإنه لا يعرف أحد قدر العافية إلا بعد الوقوع في ضدها من البلاء، والنبي ﷺ قال: «إنه ما أعطي أحد عطاء أفضل من العافية»[318]، وقال للعباس: «يَا عَمِّ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[319]، ومن دعاء القنوت «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ»[320]، وكان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ، وَالْعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وبدني وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي»[321] وكان يقول في سجوده: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ»[322]، ويقول: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»[323] وهذه الأدعية تدل على فضل نعمة العافية. وإن من زوال النعمة والابتلاء بفجأة النقمة، ما ابتلي به أهل لبنان من الفتنة التي عم ضررها، وتفاقم شرها وشررها، فشملتهم جميعهم، غنيهم وفقيرهم، ورجالهم ونساءهم، وصغارهم وكبارهم، وأرضهم وزرعهم ودورهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.
ومن المعلوم أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، وإن للمنكرات ثمرات، وللمعاصي عقوبات ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢﴾ [النحل: 112]. وقد قص الله علينا خبر الأمم المعذبين قبلنا، فقال: ﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٤٠﴾ [العنكبوت: 40]. وإنما قص الله علينا خبرهم ليكون لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره.
إن الناس في الدنيا بين مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
وهذا القتال الواقع في لبنان؛ هو قتال بين المسلمين والكفار، أو بين المسلمين والنصارى. هذا هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان، فهو من عداد الحروب الصليبية، ولا نقول: إن كل من يسمون مسلمين في لبنان أنهم مسلمون على الحقيقة، بل فيهم المسلم، وفيهم المنافق، كسائر البلدان المجاورة لهم، والنفاق لا يخلو منه زمان ولا مكان، حتى ولا مدينة رسول الله ﷺ في حياته، فقد كان فيها المنافقون.
يقول الله تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ﴾ [التوبة: 101]. ولما استؤذن رسول الله ﷺ في قتل رجل من المنافقين قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[324]. فعاملهم رسول الله ﷺ، بظاهر إسلامهم، مع علمه بنفاقهم؛ لأن الأحكام تدور على الظاهر، والمسلمون في لبنان يتسمَّوْن بالإسلام، وقد أظهر أعداؤهم خدعة خدعوا بها بعض الناس، وهي قولهم: إن المسلمين في لبنان شيوعيون يساريون، يريدون بهذه الكلمة تفتير عزائم حكام المسلمين عن نصرتهم، حتى لا يمدوا لهم يد المساعدة والعون، وأخذ أنصارهم من نصارى لندن، يدندون بهذه الكلمة، ويرددونها في أسماع الناس في إذاعتهم، ليروجوا بها في أذهانهم، وهي خدعة حرب، فإن الحرب خدعة، وإلا فإن الشيوعية لم تشهد المعركة، ولم ينشب القتال بسببها ولا على حسابها، وإنما ثارت الفتنة بسبب بغي الكتائب على المسلمين، ومحاولتها إزالة اسم الإسلام عن لبنان. وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ عند موته بأن «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»[325]، ومعنى كونهم يدًا على من سواهم، أنه متى بغى عدو على المسلمين، كهذه الطائفة المتعصبة، فإن من الواجب على المسلمين أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره، لكون المسلمين بعضهم أولياء بعض، والله يقول: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ﴾ [الأنفال: 72]. فأوجب الله على المؤمنين أن ينصر بعضهم بعضًا؛ وأن يساعد بعضهم بعضًا؛ لأن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والمسلمون كثيرون بإخوانهم، قويون بأعوانهم، والأخوة الإسلامية تستدعي العطف والحنان، والصدقة والإحسان، ومساعدة منكوب الزمان، فإن المسلم للمسلم أخوان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2].
والمساعدة إذا لم تكن بالقوة والرجال، فإنها تكون بالمال؛ لأن المال هو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب، ويستعان به في الطعن والضرب، وينقذ الناس عن الوقوع في الهلكة، والجوع الذي يمكّن عدوهم من استئصالهم، والقضاء عليهم جميعًا، ولا ينبغي أن يكون الكفار في تساعدهم وتناصرهم على باطلهم أقوى من المسلمين في حقهم. ومن الخطأ وفساد التصرف، كون حكام المسلمين يساعدون الكتائب من النصارى على المسلمين لروجان هذه الحجة الباطلة، بل يجب مساعدة المسلمين عليهم.
ونحن نحب أن يعيش المسلمون مع المسيحيين متجاورين متعاشرين، متساعدين كحالتهم السابقة ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦﴾ [الكافرون: 6]. فلا يتعدى بعضهم على بعض، ولا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يجعلون اختلاف دياناتهم سببًا لمثار النزاع، وسل السيوف من بينهم، وكان من حالتهم مع المسلمين في فتوحاتهم في قديم الزمان، أنه لما اتسعت الفتوح الإسلامية، وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، من بلدان الروم، صار النصارى مع المسلمين في أمن وأمان، وعزة واطمئنان، وسموا أهل الذمة من أجل أنهم في ذمة الله، وذمة المؤمنين. من رامهم بسوء غرم وأثم، فصار الجميع يتعاونون على الكسب والسعي والعمران، وفنون العلم والعرفان، يساعد بعضهم بعضًا في ذلك الزمان، وأخذ الخلفاء وحكام المسلمين ينشرون عليهم ظلًّا ظليلاً من الرعاية والاحترام والعدل. فيحترمون دماءهم وأموالهم، كما يحترمون دماء المسلمين وأموالهم، ويحترمون أيضًا معابدهم وكنائسهم، ويحمونها فلا يتعرض لها أحد بضرر، ولا يمنع أهلها من دخولها، فهذا صنيع المسلمين مع المخالفين لهم في الدين، وبسببها أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا، طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه، فإنه آمن على ماله ودمه، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في لبنان، وفي كثير من البلدان ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء المسيحيين. فإن من تعاليم المسيح الأمر بالهدوء، والعفو والصفح، وعدم الانبعاث إلى الشر، حتى ولو حصل الغلط والخطأ من بعض البشر.
وناهيك بحوادث هذا الزمان، فإنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيحية أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين، وسفك الدماء والتمثيل، وتشويه الأبرياء، وخطف الأولاد والنساء، وهدم المساجد المشيدة للعبادة، وإساءة الصنيع مع المسلمين، بل مع أهل ملتهم من النصارى، فقد قتلوا الرهبان في كنيستهم، ودين الإسلام وسائر الأديان تحرم قتل الرهبان، وهذه الأعمال لم تشهد لبنان، ولا غيرها من البلدان، أبشع ولا أشنع منها، حتى كأن لبنان نيران مستعرة، وأنقاض مستقذرة، وما هذا كله إلا حرصًا منهم على إزالة اسم الإسلام وأهله، وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب، وأسوأ النتائج عليهم، وعلى كافة الناس معهم ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔا﴾ [المائدة: 41]. ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ﴾ [الرعد: 11]. وصدق الله العظيم ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦﴾ [الإسراء: 16]. ﴿وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].
نسأل الله الثبات على الإسلام، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.
[316] نص الخطبة التي ألقاها المؤلف ضمن خطبة الجمعة بتاريخ 7 المحرم سنة 1396هـ بالجامع الكبير في الدوحة - قطر. [317] رواه أحمد في مسنده ومسلم عن صهيب بن سنان الرومي. [318] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر. [319] روى الترمذي بسند حسن صحيح بلفظ: «سَلُوْا اللهَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» عن أنس. [320] أخرجه الطبراني في الكبير وأبو يعلى في مسنده من حديث الحسن بن علي. [321] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث ابن عمر. [322] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [323] أخرجه مسلم عن ابن عمر. [324] متفق عليه من حديث جابر. [325] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث علي.
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا﴾ [التحريم: 6]. فأمر الله عباده بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من عذاب النار، فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نحل رجل أهله وأولاده أفضل من أن ينحلهم أدبًا حسنًا، يهذبهم به على الصلاح والتقى، ويردعهم به عن السفاه والفساد والردى، فالرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وبناتها ومسؤولة عن رعيتها، كما ثبت بذلك الحديث. فمتى كان الرجل راعيًا على أهله وعياله، فإن من واجبه أن يرعاهم بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وينهاهم عن منكرات الأخلاق والرذائل، ويأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه ليتربوا على محبة الصلاة بمداومتهم عليها، ومزاولتهم لفعلها، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكه راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، لأنها أم الفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل.
وكذلك المرأة، فبما أنها راعية على بيت زوجها وعلى بناتها، ومسؤولة عن رعيتها، فإن من واجبها أن تربي بناتها على الحياء والستر والصيانة، والنهي عن التكشف والخلاعة، وعلى الأمر بالطهارة، وبالصلاة في وقتها فإن الصلاة تقيم اعوجاجها، وتصلح فسادها، وتذكرها بالله الكريم الأكبر، وتصدها عن الفحشاء والمنكر.
إن الله سبحانه خلق الناس متفاوتين، ولا يزالون مختلفين، فمنهم المسلم، ومنهم الكافر، ومنهم البر، ومنهم الفاجر، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسق، فمتى تُرِك الفاجر يتظاهر بكفره وإلحاده، والفاسق يتظاهر بفسقه وفساده، بمرأى من الناس ومسمع، فإن هذا والله غاية الفساد للمجتمع، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، وإنما ينتشر الشر غالبًا بسبب فشوه، ثم الاقتداء من بعض الناس لبعض فيه، لأن رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، ولأن المنكرات متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، حتى يراها الناس، فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس، وغايتها أن يغرق الناس في الفساد على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى من بعضهم لبعض.
من ذلك أن النساء متى تركن يمشين في الأسواق بصورة خليعة كاشفة الرأس والرقبة والصدر، تبدي يدها إلى العضد أو إلى الإبط، ورجليها إلى نصف الساق بمرأى من الناس ومسمع، بدون أن تنهى وتمنع، فإنه بتكرار النظر إلى هذا المنكر، تزول وحشته عن القلوب، حتى يكون من المعروف المألوف، يشب على فعله الصغار، ويهرم عليه الكبار.
لهذا يجب على النساء المسلمات، تهذيب أنفسهن، وتمرين بناتهن على اللباس السابغ الساتر، حتى تشب إحداهن على محبته، ومن شب على شيء شاب على حبه. وقد أخبر النبي ﷺ أنه: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»[326] وصدق الله ورسوله، فقد رأينا اختلافًا كثيرًا في الأخلاق، واختلافًا كثيرًا في العقائد والأعمال.
من هذا الاختلاف أننا مكثنا زمنًا طويلاً ونحن نرى النساء يتمتعن بحالة مرضية، وأخلاق كريمة زكية، رأيناهن حتى الصغار منهن، يرفلن في حلل ساترة، وثياب واسعة سابغة، تغطي بها جميع جسمها، وتغطي بالخمار الساتر جميع رأسها ورقبتها وقلائدها، تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه من واجب دينها، وأنه شرط لصحة صلاتها، وأن إسباغ الستر عليها؛ هو عنوان لشرفها وفضلها، وعلامة مجدها وظرفها، فلو رأين من تبدي يديها إلى المرفقين أو الإبطين، ورجليها إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس، والوجه والرقبة بغير خمار، لابتدرنها بالضرب، فضلاً عن السب، ولحسبنها ساقطة شرف ومروءة، وعديمة خلق ودين، ليست من نساء المسلمين؛ لأنها لبسة منكرة، يمجها العقل، فضلاً عن الدين، وحتى النصارى على كفرهم، بدؤوا يتراجعون عن هذا اللباس الضيق القصير، ويدعون نساءهم إلى استعمال الثياب الواسعة السابغة، وينشرون فضلها في مجلاتهم وجرائدهم، ويصورونها في السينمات، ويرغبون نساءهم في استعمالها، وأنها من أسباب الصحة للجسم، وخصوصًا للحوامل، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.
وفي هذا الزمان لمّا كثر اختلاط النساء المسلمات بالنساء المتفرنجات من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، طفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة المزرية القبيحة، لبسة العري والعار، ولبسة الذل والصغار، ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وأخذت هذه اللبسة تسري في بيوت الأسر والعوائل الفاضلة، يتحلى بها الكبار، ويتربى عليها الصغار، على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، والرؤساء وأرباب البيوت ساكتون واجمون، لا يريدون أن يغيروا شيئًا من هذه الأزياء، من كل ما تشتهيه النساء، وساعد على ذلك كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة التي هي من الفتن التي تعرض على القلوب كالحصير، عودًا عودًا، فتعمي نور القلب، وتطفئ نور بصيرته، بحيث يرى المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا.
فيا معشر النساء المسلمات إن الله سبحانه شرفكن بالإسلام، وفضلكن به على سائر نساء الأنام، متى قمتن بالعمل به على التمام، وإن المرأة بدينها وأخلاقها، لا بزيها وجمالها. الزمن لباس الشرف والحشمة، لباس الظرف والفضيلة، لباس الحياء والستر، وهو اللباس الواسع السابغ، لباس الجلال والجمال، لباس الحياء والوقار، لباس الحرائر التقيّات الأطهار، ولا ينجرف بكن الهوى، والتقليد الأعمى إلى مشابهة نساء الكفار، ولا تنخدعن بالدعاة إلى النار، الذين يبغونكم الفتنة.
فحذار حذار أن تكن من نساء أهل النار، الذين وصفهن رسول الله ﷺ، بأنهن الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، لا يجدن عرف الجنة - يعني ريحها- فللمسلمة دينها وسترها، وللكافرة خلاعتها وكفرها، ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ﴾ [البقرة: 221].
إن في كتاب الله الأعظم مزدجر عن عمل كل منكر، يقول الله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ﴾ [الأحزاب: 59]. فأمر الله نساء نبيه، ونساء المؤمنين، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب يشبه الرداء أو العباءة، تغطي به جميع جسمها إلا ما تبصر به الطريق من فتح عينها ونحوه، وهو من شأن الحرائر، بحيث يعرفن بالتستر فيحترمن، وهذا نص قاطع في وجوب ستر المرأة الحرة جميع جسمها حتى وجهها. وفي الآية الأخرى: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]. فأمر الله نبيه بأن يبلغ نساءه والنساء المؤمنات، بما يجب عليهن شرعًا من آداب اللباس والتستر، بأن يغضضن من أبصارهن عن النظر إلى الرجال الأجانب، لكون النظر سهم مسموم من سهام إبليس، وما نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.
وهو معدود من مقدمات الزنا، سواء في ذلك الرجل أو المرأة، ولهذا قال بعده: ﴿وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ وفي البخاري، أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»[327]، ولما قال النبي ﷺ: «لَا تَلِجُوا عَلَى الْمُغِيبَاتِ». قال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ - يعني: أقارب الزوج - قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»[328]؛ لأنه ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، كما ثبت بذلك الحديث، ثم قال: ﴿وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ﴾ [النور: 31]. حتى ذكر المحارم. فنهى الله النساء المؤمنات، عن إبداء زينتهن للرجال الأجانب إلا المحارم، فهل يشتبه بعد هذا تحريم إبداء الزينة مع ما هو شر منها من الاختلاط بالشباب الأجانب، والخلوة بهم، أو سفرها لأقصى البقاع وحدها، لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه، والمساعدة لأهله، ولا في تحريم إقراره وعدم إنكاره.
ثم قال: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]. والخمار؛ هو ما يوضع على الرأس، ويدار على الرقبة والصدر، ومن شرطه أن يستر ما تحته، ويتأكد ذلك في الصلاة، بحيث يجب على المرأة المسلمة أن تستر جميع جسمها في الصلاة، ما عدا الوجه والكفين، حتى ولو كانت في غرفة مظلمة، أو في الليل، فالله أحق أن يستحيا منه، وهذا شرط لصحة الصلاة، لقول النبي ﷺ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ - أي: بالغ - إِلَّا بِخِمَارٍ»[329]، أما الخمار الشفاف الرقيق الذي لا يستر ما تحته، فإن وجوده كعدمه، فلا تصح الصلاة معه، ويرحم الله نساء الأنصار، لما نزل قوله: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ عمدن إلى مروط ثخينة فشققنها على رؤوسهن، فخرجن وهن لا يعرفهن أحد من التستر. ذكر معناه البخاري في صحيحه[330].
وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٣٤﴾ [الأحزاب: 33-34]. فهذا والله الخطاب اللطيف، والتهذيب الظريف، يأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بالتبع بأن يقرن في بيوتهن؛ لأن أشرف حالة للمرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، ملازمة لمهنتها، من خياطتها، أو كتابتها وقراءتها، أو خدمة بيتها وعيالها، لا يكثر خروجها واطلاعها.
لأن ثقل القدم من المرأة في بيتها فضيلة، وكثرة الدخول والخروج رذيلة. وقد حكم النبي ﷺ بين علي وفاطمة، أن على فاطمة الخدمة داخل البيت، وعلى علي جلب ما تحتاجه خارج البيت. وقد وصف الله نساء أهل الجنة بما تتصف به الحرائر العفائف في الدنيا، فوصفهن بالبيض المكنون، ووصفهن بالمقصورات في الخيام.
ثم قال: ﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ﴾ [الأحزاب: 33]. فنهى عن تبرج الجاهلية الأولى، وهو ما يفعله النساء في هذا الزمان في بعض البلدان، من كون المرأة تظهر مفاتن جسمها، فتبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس والوجه والرقبة، بغير خمار، وتلبس عند الناس الثوب الضيق القصير، الذي يميز أعضاء جسمها، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، ولم يكن معروفًا في نساء المسلمين، بل ولا في نساء العرب على شركهم، وإنما كان معروفًا من زي نساء النصارى والعجم، ولمّا قال رجل للحسن البصري: إني أرى نساء العجم بادية صدورهن ووجوههن فماذا أفعل! فقال له الحسن : اصرف بصرك عنهن.
وفي هذا الزمان لمّا ضعف من بعض النساء الإيمان زدن في الخلاعة والتبرج على تكشف العجم والنصارى، وعلى تبرج الجاهلية الأولى، وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها أوغلت في التبرج، وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، وقد ابتليت بهذا الشباب الطائش الذي يفتخر أحدهم بخلاعة زوجته، وتبرجها في الأسواق، بزيها المزري، لا يثنيها وجل، ولا يلويها خجل، وربما ذهب بها إلى أصدقائه من الأغيار، ليمتعهم بالنظر إليها، ونظرها إليهم، ويربط الصداقة بينها وبينهم، فيوقعها في الفتنة والافتتان بها، وهذا غاية في سقوط المروءة، وذهاب الحياء والغيرة، لا يصدر مثله إلا من شخص مهين، عديم المروءة والدين.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن التستر والصيانة، هما من أعظم العون على العفاف والحصانة، فإن من العصمة أن لا تقدر، وقد أبدى النصارى ببغيهم الحسد للمسلمين على سترهم لنسائهم، فبثوا من الأفلام الخليعة التي تغزو الناس في قعر دورهم من كل ما يدعو النساء إلى الافتتان، ويضعف منهن الإيمان، وقد قيل: حسبك من شر سماعه، فما بالك برؤيته.
إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها
أكلت بلا عوض ولا أثمان
ثم قال: ﴿...وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا٣٤﴾ [الأحزاب: 33-34].
فأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين، بأن يقمن الصلاة، أي يأتين بها في وقتها، مقومة معدلة، بخشوع وخضوع، في السجود والركوع؛ لأن لب الصلاة الخشوع في الركوع والسجود، ولأن الصلاة من آكد العبادات، وهي من أكبر ما يستعان بها على حسن تربية البنين والبنات، لأنها عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى فعل الفضائل، وتكف عن منكرات الأخلاق والرذائل، تنبت في القلب محبة الرب، والتقرّب إليه بطاعته، ولا إسلام ولا دين لمن ترك الصلاة، فكل امرأة يدعوها زوجها إلى الصلاة فتعصيه ولا تطيعه، وتصر على ترك الصلاة، فإنه يجب عليه فراقها، لاعتبار أن ترك الصلاة كفر، والله يقول: ﴿ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10]. ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].
ثم قال: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]. فهذه الآية وما قبلها وردت مورد الخصوص لأزواج النبي ﷺ، ومعناها العموم لسائر المؤمنات؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه كسائر نظائره.
وهذه الآية تعتبر من أقوى الدلائل على تعلم المرأة لأحكام الكتاب والسنة، وسائر العلوم الشرعية، إذ هي كالرجل في ذلك، ولأن العلم الصحيح النافع، يكسبها جميل الأخلاق والآداب، ويرقيها إلى الشرف والكمال﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ﴾ [المجادلة: 11].
وأما ما يذكر عن نهي النساء عن الكتابة، فإن الحديث مكذوب على رسول الله ﷺ ولفظه عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «لَا تُسْكِنُوهُنَّ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْمِغْزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ»[331] فهذا حديث لا يصح وقد حقق العلماء بطلانه، وأنه مكذوب على رسول الله ﷺ، فسقط الاحتجاج به، والقول الحق هو أن المرأة كالرجل في تعلم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق، وقوانين الصحة، وتدبير المنزل، وتربية العيال، ومبادئ العلوم، والفنون من العقائد الصحيحة، والتفاسير، والسير، والتاريخ، وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها، تخرج به عن حضيض جهلها، ولا يجادل في حسنه عاقل، مع التزام الحشمة والصيانة، وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب.
وقد كان لنساء الصحابة والتابعين من هذا العلم الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، فمنهن المحدثات، ومنهن الفقيهات، وللعلماء مؤلفات في أخبار علوم النساء، لا يمكن حصرها في هذا المختصر، وحتى المصاحف ذات الخط الجميل في الشام والعراق، تقع غالبًا بخط النساء، وكثير منهن يوصفن بالنبوغ والبلاغة غير المتكلفة، ونحن نشير إلى طرف يسير منها:
من ذلك، أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كان الصحابة يسألونها من وراء حجاب عما يشكل عليهم من الأحاديث وتفسير الآيات، وعن الأحكام وأمور الحلال والحرام، وكانت تستدرك على الصحابة كثيرًا من القضايا، وهي معدودة من حفاظ الصحابة الذين أكثروا من الأحاديث عن رسول الله ﷺ وهم سبعة: ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وعائشة، ولا يكون مكثرًا حتى يحفظ عن رسول الله ﷺ فوق ألف حديث، وهي كذلك. وقد اشتهرت بالبلاغة والنبوغ والحفظ.
روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، أنها قالت: إنه لمّا ألقى الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجًا، ومن كل فرقة أرسالاً وأشتاتًا، اختار الله لنبيه ما عنده، فلما قبض الله نبيه، نصب الشيطان رواقه، ومد طَنَبه، ونصب حبائله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم، ولات حين التي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم؟ فقام حاسرًا ومشمرًا، فجمع حاشيته، بنعشه فرد نشر الإسلام على غِره، ولم شعثه بطبه، وأقام أوَدَه بثقافته، فامذقر النفاق بوطئته، وانتاش الدين بنعشه، فلما أراح الحق على أهله، وقرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، أتته منيته، فسد ثلمه بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدّ له، ذاك ابن الخطاب، لله أم حملت به، ودَرت عليه، لقد أوحدت به، فقبح الكفر، وشرد الشرك، وبعج الأرض، فقاءت أكلها، ولفظت خبيئها ترأمه ويصد عنها، وتتصدى له، ويأباها، ثم ورع فيها، وودعها كما صحبها، فأروني ماذا تريبون؟ وأي يوْمَيْ أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم؟ أم يوم ظعنه عنكم! وقد نظم لكم أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. انتهى[332].
فهذه نبذه يسيرة، تدل الناظر على سعة علم نساء الصحابة، وما وفقن له من الفصاحة والإصابة، مع حسن سبك الكلام المتضمن لجميل البلاغة والبيان، وأن لهن العناية التامة بتعلم العلوم النافعة، وتعليمها مع العمل بها.
وقد ظهر أثر بركة علمهن على أخلاقهن وحسن آدابهن؛ لأنه متى صلح العلم والتعلم، صلح العمل، وإذا فسد العلم والتعلم، ساء العمل، وإذا ساء العمل، ساءت النتيجة؛ لأن من العلم ما يكون جهلاً، وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع. ولا يستعيذ إلا من الشر، فمن العلم الذي لا ينفع، والذي هو داخل في ضمن الجهل. تعلم المرأة للرقص والغناء، والتمثيليات السمجة، التي هي غاية في الكذب، وتصوير رسم الحيوانات الحية، ثم يندفع بها سوء علمها، وفساد عملها، إلى السفر للتعلم وحدها، فتخرج من بيت أهلها متهتكة متبرجة، تغشى دور الفجور، ومحلات الفسوق، ومسارح اللهو واللعب والخمور والسينمات، مع تركها للفرائض والواجبات من الصلوات؛ لأن هذا هو منتهى تعلم البنين والبنات في هذا الزمان.
إن الأصل في التعلم الصحيح؛ هو إصلاح النشء وتربية الأخلاق والآداب الدينية بما يجعل المرأة صالحة مصلحة، ثم تعلم العلوم النافعة؛ لأن الغرض من تعليم البنات؛ هو تربية أنفسهن، وتهذيب أخلاقهن على المحافظة على الفرائض، والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وهن أقبل الناس لتعليم الدين والأخلاق والخير، وفيهن أتم الاستعداد للاستماع والاتباع، لو وفقن للمعلمين والمعلمات، المرشدين الصالحين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
إن في تعاليم الإسلام ما يضمن السعادة والراحة للبنات، ولسائر البيوت والعائلات؛ لأن دين الإسلام يعلمهن فضيلة الستر والعفاف، وفضيلة التواضع في المأكل واللباس، وينهى عن المغالاة فيما يسمى بالكماليات، مما يعد خارجًا عن الضروريات، ويأمر بالاقتصاد في النكاح، وينهى عن المغالاة في المهور، ويقول: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[333]. ويأمر بالاقتصاد في النفقة بحسن التدبير، وينهى عن الإسراف والتبذير، حتى ولو كان على نهر جار، ويأمر بالتودد إلى الأرحام والجيران، وحسن معاشرة الناس بالإحسان، وبإفشاء السلام، وطيب الكلام، وينهى عن إطلاق اللسان باللعن والسب لاعتبار أن الأم مدرسة لأولادها في الخير والشر فمتى كانت بذيئة اللسان، تعلم ذلك أولادها منها، وصاروا يتقاذفون باللعن فيما بينهم، ثم تعليمهن النظافة في الجسم والثياب، والمنزل والعيال، وإن النظافة من الإيمان، ومن أسباب الصحة للأبدان.
والناس يعرفون ظرف المرأة بنظافة جسمها، ونظافة بيتها وعيالها، وإن أشرف حالات المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، ملازمة لمهنتها، من خياطتها، أو مغزلها، أو خدمة بيتها وعيالها، لا يكثر خروجها واطلاعها، لأن بقاء المرأة في بيتها فضيلة، وكثرة دخولها وخروجها رذيلة، ويأمرها برعاية حقوق زوجها، وحسن صحبته ومعاشرته، ولزوم طاعته بالمعروف، وأن لا تكلفه ما يشق عليه من متطلباته بالكماليات التي قد لا يستطيع الحصول عليها إلا بمشقة، وأن لا تأذن في دخول بيته لمن يكره دخوله من رجل أو امرأة، وأن لا تخلو مع رجل ليس بمحرم لها.
فهذه هي التعاليم الإسلامية، والأخلاق الدينية، التي تجعل المرأة صالحة مصلحة في بيتها وبيئتها، وحسن تربيتها لأولادها وبناتها، وتجعلها سعيدة في حياتها وبعد وفاتها، ولا يوفق للعمل بهذه المزايا الفاضلة، والوصايا النافعة، إلا خيار النساء علمًا وعقلاً، وأدبًا ودينًا.
وإنما نكب المسلمون وأصيبوا بالنقص من فساد الأخلاق، والأعمال كله من أجل إهمالهم لحسن تربية أولادهم وبناتهم التربية الدينية النافعة، التي تجعل المرأة سيدة بيت، وسيدة عشيرة.
إن نابتة التفرنج، وعشاق التبرج، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، يظنون من رأيهم القصير، وعزمهم الحقير، أن الحضارة والتمدن، والرقي والتقدم، أنه في تشييد القصور، ومعاقرة الخمور، ومجاراة النصارى في الحرية والخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق، ومن الغباوة أطباق، وغرهم بالله الغرور.
تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة، وسقطوا في هوات المذلة، ورضوا بأخلاق المذمة، الذي ساقهم إليها، ودلهم عليها، صريح الجهل، وسفالة الأخلاق، ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم، ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم، صاروا مثالاً للمعايب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين، الذين شرفوا عليهم، بتمسكهم بالدين، وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
نسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا هو، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[326] من حديث عن العرباض بن سارية رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [327] أخرجه البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة. [328] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر. [329] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث عائشة. [330] رواه ابن أبي حاتم عن أم سلمة بهذا المعنى كذلك. [331] أخرجه السيوطي في اللآلئ المصنوعة، والفتني في تذكرة الموضوعات من حديث عائشة. [332] رواه ابن عساكر في تاريخه عن جعفر بن عون عن أبيه عن عائشة. [333] أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله، الصادق الأمين. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١﴾ [الروم: 21].
إن الله سبحانه خلق آدم أبا البشر حين خلقه من تراب، ثم قال له كن فكان، فصار بشرًا سويا، فريدًا وحيدًا قبل أن يوجد في الدنيا أحد، فكان يهيم في الفلوات، ويستوحش في الخلوات، لا يقر له قرار، ولا يأوي إلى أهل ولا دار، فبينما هو كذلك إذ نام نومة فاستيقظ، فإذا حواء مخلوقة من ضلعه الأيسر، فسكن إليها، وأنس بها، وسمي إنسانًا من أجل أنسه بها؛ لأن الإنسان اجتماعي بالطبع.
وقد أشار النبي ﷺ إلى هذه المعجزة بقوله: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»[334].
ولهذا يقول الله: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا﴾ [الروم: 21]. فالمرأة سكن للرجل، وكرامة ونعمة له، تجلب إليه الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم، والسيد المحشوم، فمسكين مسكين رجل بلا امرأة.
والعزاب هم أراذل الأحياء، وشرار الأموات، كما أن الزوج كرامة ونعمة للمرأة، يرعى مستوى ضعفها، وينشر جناح وحدتها، يسعى عليها في كل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت، وسيدة عشيرة، وأم بنين وبنات.
إن أصفى السرور، هو اجتماع المودة والرحمة بين الزوجين؛ لأنها هي السعادة الزوجية، بحيث يحب أحدهما الآخر، ويكرم أحدهما صاحبه، ويعيشان عيشة هنية مرضية بأخلاق كريمة زكية، وهذا معنى قوله: ﴿وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةً﴾ [الروم: 21].
لكن قد يجعل المودة في الشخص، ولا تجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق بعض الأجلاف الجفاة يحب أحدهم زوجته، ولكنه يعاملها كمعاملة المبغض؛ من الضرب والسب واللعن وشتم الآباء والأمهات، وربما يكلفها الأعمال الشاقة، ويضيق عليها في النفقة والكسوة الواجبة، حتى تلجئها الحاجة وسوء الحالة، إلى الاستنفاق من أهلها، وقد يتزوج أخرى عليها، فيقطع صلته بها، ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى تكون عنده كالمعلقة، لا هي ذات زوج ولا مطلقة، فهؤلاء يعتبرون من أراذل الناس، وأشرار الناس، الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، فلا أخلاق ولا إنفاق، ولا كرم ولا وفاق.
وقد يجعل الله الرحمة، ولا يجعل المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء الكرماء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاملها معاملة المحب؛ بالعطف واللطف؛ لأن الناس يتفاوتون في الأخلاق، كما أنهم يتفاوتون في الأرزاق، فما أعطي أحد عطاء أفضل من خلق حسن.
إنه ما من أحد من الناس؛ إلا وفيه شيء من النقص، فقد يوجد في المرأة شيء من النقص أو التقصير، إما في الجمال أو في الحال أو عدم التدبير، لكون الكمال التام متعذرًا من كل رجل وامرأة، غير أن الكرماء يتعاشرون بالشرف، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً - أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة -، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»[335].
فالرجل الكريم، وصاحب الخلق القويم، يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فصارت ناصيتها ميمونة عليه وعلى عياله وأهل بيته، فأنجبت له أولادًا كرماء، قاموا بنفعه ونشروا فخر ذكره، ﴿فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 19].
وكم من رجل فتن بمحبة امرأة أو بجمالها، فأفسدت عليه دينه ودنياه، وخلقه وعياله ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ﴾ [البقرة: 216].
إنه متى تيسر قران الشخص بامرأة صالحة، ذات حسب ودين، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة عاجلة، وكرامة وافرة. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ الْمَتَاعِ الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ». التي: «إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا، وَمَالِهِ»[336].
فمن واجب شكر هذه النعمة، معاشرة هذه الزوجة بكرم الأخلاق، وجميل الوفاق، ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ»[337]. قال: «وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[338].
لا سيما المرأة ذات الخلق الحسن والدين، فإنها من خير ما يخزنه الإنسان في حياته وفي بيته، لكونها تربي بناتها وأهل بيتها على الخلق الحسن والدين. وإن النبي ﷺ قال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ»[339].
إنه متى كان النكاح الشرعي من سنن المرسلين، ومن ضرورات بقاء نوع الآدميين فإن من الواجب على العقلاء فتح أبوابه، وتسهيل طرقه وأسبابه، وذلك بالقضاء على المتطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة التي هي بمثابة العقبة الكؤود في طريق المعوزين والمتوسطين من أبناء المسلمين، بحيث تحول بينهم وبين الاتصال بمن يرغبون نكاحه من بنات عمّهم، وأهل بلدهم، فيجب أن يعقدوا الجمعيات على أثر الجمعيات، في تبادل الآراء النافعة في سبيل ما يختصر لهم الطريق، ويزيل عن شبابهم الحرج والضيق، وذلك بتخفيض مؤن تكاليف النكاح، الذي يذهب أكثرها في سبيل الإسراف والتبذير، والتوسع في العطايا والهدايا وسوء التدبير، فيكون خسارة على الزوج، وعلى أهل الزوجة، والمرأة حرة ليست بسلعة توضع للمزايدة، وإنما تقاطع الناس بالتكلف.
والنبي ﷺ قال: «خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ»[340]. وقال: «خير النكاح أقله كلفة». ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله ﷺ فإنه ما أصدق أحدًا من نسائه، ولا أصدقت أحد من بناته أكثر من خمسمائة درهم[341]. وهو قدر يقل عن مائة ريال؛ لأن الفضلاء من الكرماء، لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل قصدهم اتصال حبل الخاطب الكفء بالمخطوبة في حالة راحة ورفاهية، فهم يحاربون الإسراف الضار بالزوج وأهل الزوجة.
ولا يستنكفون عن خطبة الرجل الكفء لبنت أحدهم وموليته، كما عرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على عثمان بن عفان فاعتذر، لعدم رغبته في النكاح، ثم عرضها على أبي بكر الصديق، فسكت، ولم يجب بنفي ولا إثبات، ثم خطبها رسول الله ﷺ فتزوجها.
إن المتطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة، قد تركت البنات الأبكار العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن، وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة هي جريمة التكاليف الشاقة. يخطب الخاطب، فيقولون هذا ليس بتاجر، ويخطب الآخر، ويقولون هذا مرتبه ليس بكثير، ويخطب الآخر، ويقولون هذا لا يدفع لنا إلا القليل. فتذهب نضارة البنت في سبيل هذا الترديد، كأنه يضع ابنته للمزايدة، ولو ترك لها الخيار لقبلت الخاطب الكفء على ما تيسر، وقالت: رزقي ورزقه على الله.
والله يقول: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النور: 32].
والأيامى هم كل من لا زوج له؛ من رجل وامرأة، يأمر الله عباده بأن يسهلوا ويساعدوا على تزويج الأيامى. ومعنى الآية: أنه لا ينبغي لكم أن تمتنعوا عن إجابة الخاطب الكفء بما تحسونه من قلة ماله، وضعف حاله، فإن الزواج من أسباب الغنى، ولأن الفقر وصف عارض يقع فيزول، وكم من فقير عاد بعد الزواج غنيًّا.
والنبي ﷺ قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنْ لَا تَفْعَلُوْا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[342]. إن بعض الناس يعدون بناتهم بمثابة المتاجر، فمتى خطب أحد منهم ابنته، أو أخته، وأجاب خطبته، أخذ يسن له السكين، ليفصل ما بين لحمه وعظمه، بحيث يفضي إلى زوجته وهو عظم بلا لحم، وجسم بلا روح، كله من أجل التكاليف الشاقة التي تلجئه إلى تحمل الديون التي من لوازمها الهموم والغموم، ولم يشعروا أن راحة الزوج ورحمته، هو من راحة ابنتهم ورحمتها.
فمن رأي الحزم، وفعل أولي العزم، تكاتف العقلاء على مراعاة التسهيل والتيسير وعدم التعسير، فإن التيسير يمن وبركة، فيسروا ولا تعسروا، والله إنه ليبلغني عن الرجل الكريم، وصاحب الخلق القويم، معاملة صهره بالتسامح والتسهيل، حيث يأخذه باليد التي لا توجعه، ثم يسلم إليه زوجته في حالة راحة، وعدم كلفة، فيرتفع في نفوسنا قدره، وينتشر بين الناس شرفه وفخره؛ لأن هذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة. ومن نصيحتي للمرأة ذات الخلق والدين بأن تكون عونًا لزوجها على نوائب الدهر بما يستطيعه، فقد قيل: امرأة الصعلوك إحدى يديه، ولا ينبغي أن تطالبه بما يعجزه ويشق عليه؛ من نفقة زائدة على الحاجة، كساعة ثمينة، أو صيغة ذهب، أو غير ذلك من الكماليات التي قد يعجز عنها الموظف الصعلوك.
وحرام عليها أن تهجر فراش زوجها، أو تخرج من بيته في سبيل مطالبته بما يعجزه ويشق عليه، والنبي ﷺ قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُم، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم»[343].
فزوجة الموظف الصعلوك، لا ينبغي لها أن تنظر إلى زوجة التاجر، فإن جود الرجل من موجوده، وكل إناء ينضح بما فيه، وعادم المال لا يعطيه، بل ينبغي أن تصبر، فإن الصبر مفتاح الفرج، وعسى الله أن يجعل له بعد عسر يسرًا.
ومما ينبغي أن ننصح به مراعاة الاقتصاد والاقتصار في وليمة العرس، الذي وصفها رسول الله ﷺ: بأنها شر الطعام يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها، فيتجنبوا التوسع فيها، ويقتصروا على قدر الكفاية، عملاً بالسنة. حيث قال النبي ﷺ: «أَوْلِمْ، وَلَوْ بِشَاةٍ»[344]. و(لو) قيل: للتكثير، وقيل: للتقليل.
وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه بمديّن من شعير، وهو سيد الخلق أجمعين. فما يفعله بعض الناس، من كون أحدهم يذبح في وليمة العرس خمسين ذبيحة، أو أربعين ذبيحة، أو أقل أو أكثر، وربما ذبح معها بكرًا من الإبل، ويتبعها الأرز والفواكه، وغالب الناس يتعذرون من الحضور إليها، خصوصًا الفضلاء، فتبقى اللحوم والطعام بحالها، بحيث تحمل ويقذف بها في مواضع القمام، وبطون الأنعام، ونفوس الكثير من الفقراء تحن إلى القدر، ولا شك أن هذا مال ضائع على الزوج، وعلى أهل الزوجة كما قيل:
ولم يحفظ مضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المضاع
إن هذه التكاليف قد أفضت بالكثير من شباب المسلمين إلى التزوج بالوثنيات من الهنديات، أو بالنساء الشيوعيات اللاتي لا دين لهن ولا خلق، واللاتي يتظاهرن بترك الصلاة والصيام، وسائر شرائع الإسلام، ويجهرن بعدم وجوب ذلك عليهن.
ومن المعلوم أن نكاح مثلهن حرام على المسلم ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10].
كما أنه محرم على المسلم أن يزوج ابنته، أو موليته برجل ملحد، يعرف أنه لا يصلي ولا يصوم، أو يعرف عنه أنه يستحل فعل المنكرات، وشرب المسكرات؛ لأن تزويج مثل هذا خطر على المرأة في دينها وعقيدتها ونسلها ونفسها، فقد قيل: من زوج موليته بفاجر، فقد قطع رحمه منها.
وتزويج المسلمة بمن يستبيح ترك الصلاة والصيام لا ينعقد بذلك النكاح أصلاً بل تبقى معه كشبه الزانية، والله تعالى يقول: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ أُوْلَٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٢٦﴾ [النور: 26].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[334] متفق عليه من حديث أبي هريرة، وتمامه «فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». [335] رواه مسلم عن أبي هريرة. [336] رواه مسلم مختصرًا من حديث عبد الله بن عمر بلفظ: «الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ» ورواه ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه قال: «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا، وَمَالِهِ». [337] أخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي شيبة وأبو يعلى في مسنده، والطحاوي في مشكل الآثار من حديث أبي هريرة. [338] رواه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة بإسناد صحيح. [339] هذا الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [340] أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامر بإسناد حسن. [341] أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب. [342] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [343] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [344] متفق عليه من حديث أنس بن مالك.
الحمد لله ثم الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦﴾ [التحريم: 6]. يقول بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ فأصغ لها سمعك. فإنها خير تأمر به، أو شر تنهى عنه.
يأمر الله عباده بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار، فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نحل رجل أهله أفضل من أن ينحلهم أدبًا حسنًا يهذبهم به على الصلاح والصلاة والتقى، ويردعهم عن السفاه والفساد والردى. والرجل راع على أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وعلى أولادها وبناتها ومسؤولة عن رعيتها.
فمتى كان الرجل راعيًا على أهله، فمن واجبه أن يرعاهم بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وأن يجنبهم منكرات الأخلاق والرذائل، ويأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه، حتى يتربوا على محبة الصلاة؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه؛ ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح أمر دنياه وآخرته؛ وهذا يعد من الجهاد في سبيل الله.
وكذلك المرأة من واجبها أن تربي بناتها على الستر والصيانة، وعلى الأمر بالطهارة والصلاة والطاعة، وأن تجنبهن عوائد التكشف والخلاعة؛ وهذا كله يعد من واجب أمانة التربية.
إن الله سبحانه خلق الناس متفاوتين، فمنهم المسلم، ومنهم الكافر، ومنهم التقي، ومنهم الفاجر، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسق، فمتى ترك الفاجر يتظاهر بفجوره وإلحاده، والفاسق يتظاهر بفسقه وفساده، بمرأى من الناس ومسمع، فإن هذا والله غاية الفساد للمجتمع؛ لأن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل. يقول الله: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦﴾ [الإسراء: 16]. والمراد بالهلاك هنا، هلاك الأخلاق؛ لكون هلاك الأخلاق أضر من هلاك الأبدان؛ لأن بقاء الأمم ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهـم ذهبوا؛ أو لأن الناس متى تركوا المنكرات تظهر وتشتهر بدون مانع ولا رادع، فإنه مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير، وغايته أن يغرق الناس في الفساد بطريق العدوى، والتقليد الأعمى من بعضهم لبعض، فيزول بها الإحساس عن الناس، وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بفنون الكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق؛ لأن إدمان رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ ولأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
من ذلك: أن النساء متى تركن يمشين في الأسواق بصورة خليعة، عارية الرأس والصدر، تبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى نصف الساق، بمرأى من الناس ومسمع، فإنه بتكرار النظر إلى هذا المنكر تزول وحشته عن القلوب، حتى يكون من المعروف المألوف، بحيث يشب على حبه الصغار، ويهرم عليه الكبار، لهذا يجب تمرين البنات الصغار فضلاً عن الكبار على اللباس السابغ الساتر، حتى تشب إحداهن على محبته. ومن شب على شيء شاب على حبه.
وقد أخبر النبي ﷺ بأنه «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»[345]. وصدق الله ورسوله، فقد رأينا اختلافًا كثيرًا في الأخلاق واختلافًا كثيرًا في العقائد والأعمال. فمن هذا الاختلاف؛ أننا مكثنا أزمانًا طويلة ونحن نرى النساء في هذه البلدان يتمتعن بحالة مُرْضِية، وأخلاق كريمة زكية، رأيناهن حتى الصغار منهن يرفلن في حلل ساترة، وثياب واسعة سابغة، تغطي بها جميع جسمها، وتغطي بالخمار الساتر جميع رأسها ورقبتها، تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه من واجبات دينها،، وأنه شرط لصحة صلاتها، وأن إسباغ الستر عليها هو عنوان شرفها وفضلها، وعلامة مجدها وظرفها، فلو رأين من تبدي يديها إلى العضد أو الآباط، ورجليها إلى الركبة وإلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس بغير خمار. لابتدرنها بالضرب فضلاً عن السب، ولحسبنها ساقطة شرف ومروءة، عديمة خلق ودين، ليست من نساء المسلمين؛ لأنها لبسة منكرة، وفاحشة مشتهرة، مجها العقل فضلاً عن الدين.
وفي هذا الزمان؛ لما كثر اختلاط النساء المسلمات بالنساء المتفرنجات، من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، طفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة القبيحة، لبسة العراء والعار، ولبسة الذل والصغار، ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وأخذت هذه اللبسة المزرية تسري في بيوت الأسر والعوائل، على سبيل العدوى، والتقليد الأعمى، يتحلى بها الكبار، ويتربى عليها الصغار، وأرباب البيوت ساكتون واجمون لا يغيرون شيئًا من هذه الأزياء من كل ما تشتهيه النساء.
وساعدهم على هذا التكشف، كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة التي هي بمثابة الدروس للرؤوس، وتعمل في الأخلاق عمل الخمر للنفوس، وقد قيل: حسبك من شر سماعه. فما بالك برؤيته؟! وإن هذه الأفلام؛ صور خيالية تعبث بالعقول، وتوقع في الفضول، تنقش في نفوس النساء والشباب محبة العشق، والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخلي شجيًّا، تساوره الهموم والغموم، فيبتلى بشغل القلب بالتفكير الذي من لوازمه طول السهر، وحرمان لذة النوم الذي جعله الله راحة ورحمة، ومن أسباب الصحة، كما أن السهر من أسباب الغم والسقم، ومع هذا الابتلاء بها فإنني أنصح المراقبين عليها بعرض ما يجمل وينفع من الأخلاق الفاضلة، والأعمال العالية، واجتناب منكرات الأخلاق الساقطة، والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت.
فيا معشر النساء المسلمات؛ إن الله سبحانه شرفكن بالإسلام، وفضلكن به على سائر الأنام، متى قمتن بالعمل به على التمام، وإن المرأة بأخلاقها واعتدالها، لا بزيها وجمالها، فالزمن لباس الشرف، لباس الحشمة والفضيلة، وهو اللباس السابغ الساتر، لباس الجلال والجمال، لباس الحياء والوقار، لباس التقيات الأطهار، ولا ينجرف بكن الهوى، والتقليد الأعمى، إلى مشابهة نساء الكفار، فحذار حذار أن تكن من نساء أهل النار اللاتي وصفهن رسول الله ﷺ بأنهن الكاسيات العاريات، والمائلات المميلات، لا يجدن عرف الجنة - يعني ريحها - فللمسلمة دينها وسترها، وللكافرة خلاعتها وكفرها، ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ﴾ [البقرة: 221].
إن في كتاب الله لأعظم مزدجر عن هذا المنكر بقول الله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ﴾ [الأحزاب: 59]. ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]. فأمر الله نساء نبيه وبناته ونساء المؤمنين بالتبع، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملحفة الواسعة، تشبه الرداء، تغطي بها جميع جسمها حتى لا يبدو منه شيء.
ثم قال: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ والخمار من شرطه أن يستر ما تحته من الشعر والصدر والرقبة والقلائد، ويتأكد ذلك في الصلاة، بحيث يجب على المسلمة أن تستر جميع بدنها في الصلاة حتى ولو كانت في دار مظلمة أو بالليل، وتستعمل الخمار الثخين الذي يستر ما تحته من الشعر والرقبة، لقول النبي ﷺ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ - أي: امرأة بالغ - إِلَّا بِخِمَارٍ»[346].
والخمار الشفاف الرقيق الذي لا يستر ما تحته من الشعر والرقبة فإنها لا تصح الصلاة فيه. إلا أن تجعل فوقه ثوبًا أو رداء يستر ما تحته.
وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ﴾ [الأحزاب: 33]. فهذا والله الخطاب اللطيف، والتهذيب الظريف، يأمر الله نساء نبيه، ونساء المؤمنين، بأن يقرن في بيوتهن؛ لأن أشرف حالات المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمهنتها، من خياطها، أو خدمة بيتها، لا يكثر خروجها واطلاعها؛ لأن ثقل القدم من المرأة جلال، وكثرة الخروج والدخول مهانة؛ ويعرضها للتهمة والريبة، وقد وصف الله نساء أهل الجنة بما تتصف به العفائف الحرائر في الدنيا، فوصفهن بالبيض المكنون، وقاصرات الطرف، ومقصورات في الخيام، ثم قال: ﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ﴾ التي نهى عنها القرآن، هو ما يفعله النساء في بعض البلدان، من إظهار مفاتن جسمها، بحيث تبدي يديها إلى العضد والآباط، ورجليها إلى الركبة أو إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس بغير خمار، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، ولم يكن معروفًا في نساء المسلمين، وإنما هو من زي نساء النصارى والعجم.
وفي هذا الزمان: أخذ نساء العرب يزدن في الخلاعة والتكشف على نساء النصارى، وعلى تبرج الجاهلية الأولى.
وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها، أوغلت في التبرج، وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، وقد ابتليت بهذا الشباب الطائش الذي يفتخر أحدهم بخلاعة زوجته، وبتبرجها بالأسواق بزيها المزري المخزي، وربما ذهب بها إلى أصدقائه من الأغيار الأجانب، ليمتعهم بالنظر إليها، ونظرها إليهم، ويربط علاقة الصداقة بينها وبينهم، فيوقعها في الفتنة والافتتان بها، وهذا يعتبر غاية في سقوط المروءة والشرف، وذهاب الحياء والغيرة.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إنه ما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع، ومن العصمة أن لا تقدر، وكم نظرة أثارت فتنة، وأورثت حسرة، وأشعلت في القلب محنة.
إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها
أكلت بلا عوض ولا أثمان
إن نابتة التفرنج، وعشاق التبرج، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، يظنون من رأيهم القصير، وعزمهم الحقير، أن الحضارة والمدنية، والرقي والتقدم، هو في معاقرة الخمور، ومجارات النصارى في الخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق، ومن الغباوة أطباق، وغرهم بالله الغرور، تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة، وسقطوا في هوان المذلة، ورضوا بأخلاق المذمة الذي ساقهم إليها، ودلهم عليها، صريح الجهل، وسفالة الأخلاق، ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه، ولم يعدلوا سيرتهم، ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم، صاروا مثالاً للمعائب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين، الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين، وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟!
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[345] الحديث بكامله رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية. [346] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث عائشة.
لقد أفادت التجارب المشهود لها بعين الاعتبار والصحة، أن خروج المرأة من بيتها هو عنوان خراب البيت، وضياع العيال، وانقطاع وشائج الألفة والمحبة بينها وبين زوجها، مع فساد أخلاقها. وقد أخذ عقلاء النصارى يشكون الويلات على أثر الويلات من جراء فساد أخلاق البنين والبنات، وذلك أن البنت الغربية متى بلغت ست عشرة سنة، أو ثماني عشرة سنة، خرجت من بيت أهلها، وقد يخرجها أهلها حين تقبلها الأعمال، ثم تتفق مع شاب يشاكلها، وتعتزل معه، يعملان ويأكلان، وتمكث البنت بالسنة والسنتين لا تسأل عن أهلها، ولا يسألون عنها، ولا ترغب في الزواج الشرعي، فإن تزوجت فإنها لا ترغب في أن تحبل، لكون الحبل يعوقها عن الكسب، كما أن الرجل لا يرغب أن يحمل أعباء تكفل العيال، والمطالبة بمؤنتهم ومؤنة أمهم، وأكثرهم يتمتع بالمرأة عن طريق الزنا، وأخذوا يتحاشون عن النكاح الشرعي تباعدًا عن مسؤولية نفقة العيال لعلم أحدهم أن ولده ليس له بولد، وأن ابنته ليست له ببنت، لكون وشائج القرابة متقطعة فيما بينهم، وعلى أثر هذا، صاروا يرغبون في اقتناء الكلاب، يتسلون بها عن تربية الأولاد، ولنسائهم معها مآرب أخرى. وعلى أثر هذا انصرف الشباب والشابات عن التعلم في المدارس للصنائع وغيرها، الذي عليها مدار قوتهم ورُقيهم وثروتهم، حتى قل مالهم، وانقرض نسلهم، وتعطلت صنائعهم.
فهذه الحالة المزرية، هي نهاية المدنية والحرية التي يفتخر بها الغرب، حتى صاروا لا يعدون الزنا جريمة، لكونه بزعمهم من كمال الحرية التي تتمتع بها المرأة، إلا إذا زنى بها مكرهة، أو زنى بها على فراش الزوج، مع العلم أن الزنا محرم في شريعتهم، ولا نقول: إنهم كلهم بهذه الصفة، وإنما نقول: إن هذا هو الأمر الغالب على أخلاقهم، والعادة السائدة من بينهم، وإلا فقد توجد بيوت يلتزم أهلها بالعفاف والحشمة، والقيام بخدمة المنزل وحسن التربية، ورعاية حق الزوج واحترامه، لكن مثل هذا قليل عندهم جدًا، ولا يزال عقلاؤهم وكتابهم، والكاتبات المفكرات من نسائهم، ينحون بالملام، وتوجيه المذام، على سوء تربية نسائهم، وفساد أخلاقهن.
إن المرأة لن تبلغ كمالها الحقيقي إلا بالتربية الإسلامية، التي تطبع في قلبها ملكة محبة الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل.
وإن من عوائدهم السيئة السائدة فيما بينهم، كون الرجل إذا خطب امرأة سواء أكان صادقًا في رغبته أو مخادعًا، فإنه يمارس التجربة معها، ولا نقول في شيء دون شيء، بل في كل شيء، فيخلو بها، حتى في بيت أهلها، وهم ينظرون إليهما، وتسير معه مصاحبة له، وتنام معه كفعل الرجل مع زوجته على حد سواء.
ثم يظهر وسائل الإغراء، فيوهمها بغناه، ثم يُظهر لها حسن أخلاقه، وقد يذكر لها أن حسابه في البنك يبلغ كذا وكذا على سبيل الخداع. ولا يزال دأبه معها السنة والسنتين على سبيل التجربة، وباسم أنها خطيبته، حتى إذا التاط قلبها بحبه، وسال لعابها على حصول ما يعدها ويمنيها به، انصرف عنها، وفارقها لتعلقه بأخرى غيرها، فيفعل مع الثانية كما فعل مع الأولى، من تنقله في اللذات، وتنوع المشتهيات، ولعدم رغبته في الزواج الشرعي تهربًا من تبعاته ومسؤوليته.
إن قضية المرأة بمقتضى دخولها مع الزوج بالنكاح الشرعي تعتبر بأنها قد دخلت في العقد برضاها واختيارها على التزام رئاسة الزوج عليها، بدون هضم ولا ضيم، ولا إسقاط لها عن كرامتها، ولا عن إنسانيتها، وقد سمى الله الزوج سيدًا في كتابه الحكيم، فقال تعالى: ﴿وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِ﴾ [يوسف: 25]. كما سماها الله الصاحبة بالجنب، وقد أثبت الله سبحانه القوامية للرجال على النساء فقال: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ﴾ [النساء: 34]. وهذه القوامية، وهذه السيادة، هي المعنية بقوله: ﴿بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ﴾ من كون الرجل أقدر من المرأة على الحماية والرعاية والكسب، ﴿وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ﴾ أي بما بذل لها من المهر، والنفقة عليها، وهي المشار إليها بقوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞ﴾ [البقرة: 228]. إذ ليس الذكر كالأنثى؛ فبعض العلماء قال: إنه من أجل ضعفها، ونقص رأيها في تصرفاتها، كما هو الغالب على أكثر طبائع النساء. ولا ينفي هذا النساء الذكيات العاقلات، اللاتي لهن حظ من القوة والكياسة، وحسن التصرف والسياسة، فبعض النساء تَفْضُل إحداهن زوجها في العلم والعقل، والذكاء والفطنة، والقدرة على الكسب، وهذه تعد من النادر الذي لا يبنى عليه قاعدة؛ لأن النادر لا حكم له، وإنما الاعتبار بالأغلب، والعادة السائدة من طبائع النساء، والنساء عبر كل القرون الطويلة، وإلى حد الآن، مهما بلغت إحداهن من الذكاء والفطنة، فإنهن يعتقدن، ويعرفن شدة حاجتهن إلى الرجال في الرعاية والحماية والقيام بالكفالة والكفاية، حتى إن النساء في بعض الأمم يعطين الرجل المهور، ويشاطرنه النفقة، ليكنَّ تحت رئاسته ورعايته، للعلم بشدة حاجتهن إليه، وكون رعاية الرجل بالمرأة على قدر حظوتها عنده، وميله إليها، وقد قيل: مسكينة امرأة بلا زوج. وتدعى الأيم، والأرملة، بحيث تحيط بها الكآبة والمسكنة، فالمرأة التي يأخذها الحرص على العمل للكسب، أو على العلم والتعليم، إلى أن تفنى زهرة شبابها بدون زوج ولا أولاد، فإنها في الغالب تندم في آخر عمرها أشد الندم، وتبدي الحسرة والأسف على ما فات من دهرها بدون زوج يؤنسها، وبدون نسل يرثها، وتُذْكَر به بعد موتها.
لهذا يعد من الشطح والشطط، وقوع هذا الجدال والصخب، من أنصار المرأة بالباطل، حيث يطالبونها بالخروج من بيتها للعمل، ويحسنون لها ذلك مع معرفة كل عاقل بما ينجم عن هذا الشيوع من الأضرار والمفاسد الكبار، وإهمالها حقوق زوجها وتربية عيالها، وإصلاح شؤون بيتها، فهم يضرونها من حيث يريدون نفعها، ويريدون جعلها بمثابة الأنعام السائبة التي تسرح وترتع حيث شاءت، كحالة المرأة الغربية على حد سواء، تريد حياتها، ويريدون موتها.
أبتغي إصلاح سعدى بجهدي
وهي تسعى جهدها في فسادي
ولما تنبه أهل أوروبا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية، وترقية معيشتهم المدنية، وعرفوا فساد تربية نسائهم، وفساد تعلمهن، وأن الأدواء الاجتماعية، والأمراض المدنية، قد ظهر أثرها بشدة على حضارتهم، وصارت تهددهم بفساد أحوالهم، وقلة مالهم، وانقراض نسلهم وعيالهم، وتقويض دعائم صنائعهم وأعمالهم، وقد ظهر أثر ذلك جليًا في الغرب، بحيث دخل عليهم هذا الضعف، وقلة النسل تدريجيًّا، فلما عرف ذلك بعض كتابهم، وبعض الكاتبات الذكيات من النساء، أخذوا يصرخون بفضل دين الإسلام، ويتمنون الرجوع إلى تعاليمه، وتربية نسائهم عليه، ودونك الشاهد المشاهد للواقع، والحق ما شهدت به الأعداء، ونحن نسوق بعض أقوالهم؛ للاتعاظ بها، وأخذ الاعتبار منها، وخير الناس من وعظ بغيره.
قال العلامة الإنجليزي (سامويل سمايلس) وهو من أركان النهضة الإنجليزية: إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل، مهما نشأ عنه من الثروة، فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه يهاجم هيكل المنزل، ويقوض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية، ويسلب الزوجة من زوجها، والأولاد من أقاربهم، وصار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية، هي القيام بالواجبات المنزلية، مثل ترتيب مسكنها، وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام باحتياجاتهم البيتية.
ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وأضحت الأولاد تشب على عدم تربية، وتلقى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة، والمحبة اللطيفة، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وصارت معرضًا للتأثيرات التي تمحو غالبًا التواضع الفكري، والتودد الزوجي، والأخلاق التي عليها مدار حفظ الفضيلة[347].
ونشرت جريدة (لاغوس ويكلي ركورد) نقلاً عن جريدة (لندن ثروت) قائلة: إن البلاء كل البلاء في خروج المرأة عن بيتها إلى التماس أعمال الرجال، وعلى أثرها يكثر الشاردات عن أهلهن، واللقطاء من الأولاد غير الشرعيين، فيصبحون كلًّا، وعالة، وعارًا على المجتمع، فإن مزاحمة المرأة للرجال ستحل بنا الدمار؛ الم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل، وعليه ما ليس عليها؟[348].
ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس اني رود) في جريدة (الاسترن ميل): لأن يشتغل بناتنا في البيوت خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين؛ فيها الحشمة والعفاف والطهارة، تنعم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمل أولاد البيت، ولا تُمَسُّ الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية، من القيام في البيت، وترك أعمال الرجال، سلامة لشرفها[349].
ونشرت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة (الايكوما) وهذا نص المقالة: إن الاختلاط يألفه الرجال، وقد طمعت المرأة فيه بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط، تكون كثرة أولاد الزنا، وهنا البلاء العظيم على المرأة، فالرجل الذي علقت منه، يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء، وتذوق مرارة الذل والمهانة والاضطهاد من الحمل وثقله، والوحم ودواره، أما آن لنا أن نبحث عما يخفف إذا لم نقل عما يزيل هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟!.
يا أيها الوالدان، لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل، ومصيرهن إلى ما ذكرنا.
علموهن الابتعاد عن الرجال. أخبروهن بالكيد الكامن لهن بالمرصاد. لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنا أنه يعظم ويتفاقم، حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، الم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا هن المشتغلات في المعامل، والخادمات في البيوت، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية لإسقاط الحمل، لرأينا أضعاف ما نرى الآن.
لقد أدت بنا هذه الحالة إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان، حتى أصبح رجال مقاطعات بلادنا لا يقبلون المرأة زوجة شرعية، وهذا غاية الهبوط بالمدنية. انتهى[350].
وإنما سقنا هذه المقالات التي هي بمثابة الشهادات لإقناع الشباب والشابات المفتونين بتقليد أوروبا في عاداتها، وفساد أخلاقها، والسير على منهاج أعمالها في التساهل في الفسق، كدأب المتفرنجين في التسليم للأمم القوية والتقليد لها.
وقد قلنا في (رسالة الخليج في منع الاختلاط) : إن هذا الاختلاط الذي ننصح بمنعه وعدم إقراره أنه يفضي بأهله إلى أشر غاية، وأسوأ حالة، فلا ينبغي أن نغتر بمن ساء فهمه، وزل قدمه في الغرق في إثمه، فإنه لا قدوة في الشر، فإن غشيان النساء لهذه الجامعات والأعمال والمعامل، هو من أقوى الوسائل لتعرف الفساق بهن وإغوائهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء، فلا ينبغي أن نغش أنفسنا، ونتعامى عما يترتب عليه من فساد الأخلاق والآداب.
تدخل البنت العذراء المصونة المحصنة هذا المجتمع المختلط، وهي في غاية من النزاهة والعفة والحياء، فتقعد مقعد المرأة البرزة، بحيث تكون في متناول كل ساقط وفاسق، فيوجه السفهاء والفسقة إليها أنظارهم وأفكارهم، ويسترسلون معها في حديث الهزل والغزل، ويعملون لها وسائل الإغراء والإغواء، لا سيما إذا كانت ذات حسب وجمال، فلا تلبث قليلاً حتى تلقي عن نفسها جلباب الحياء والحشمة، وتزول عنها العفة، وتنحل منها رابطة العصمة، ثم تميل إلى الفاحشة المحرمة؛ لأنها ناقصة عقل ودين ومشبهة عقولهن بالقوارير، والشباب قطعة من الجنون. ومن العصمة أن لا تقدر، والمعصوم من عصمه الله. ومتى كثر الإمساس قل الإحساس.
قالت عهدتك مجنونًا فقلت لها
إن الشباب جنون برؤه الكبر
والمسؤولون عن هذا أمام الله والناس هم الأمراء والزعماء الذين يجب عليهم منع اختلاط الجنسين، اتقاء الفتنة، وقد قرر العلماء بأن المجموع الذي يتضمن المحظور يكن محظورًا. وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. فلأجله يجب النهي والانتهاء عن مثل هذا؛ لأنه يجر إلى فنون من المضار المتنوعة، متى اعتادها النساء أصبحن لا يرون بها بأسًا، وزال بها عنهن الأدب والحشمة، والعفة والدين.
إن أكبر أمر تخسره المسلمة الخفرة في هذا الاختلاط، هو خسرانها للحياء الذي هو بمثابة السياج لصيانتها وعصمتها. فالحياء يحسبه بعض الناس هينًا، وهو عند الله عظيم. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ»[351]. وقال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ»[352]؛ لأن الحياء ينحصر في فعل ما يجملها ويزينها، واجتناب ما يدنسها ويشينها، والحياء مقرون به البهاء والجلال والجمال كما أن عدم الحياء من لوازمه ذهاب البهاء والجمال والجلال، ترى المرأة الملقية لجلباب الحياء في صورة قبيحة وقحة مترجلة، لا تدري أهي رجل أو امرأة وقد قيل:
فلا وأبيك ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء
إن الحياء كله خير وحسن، لكنه في النساء أحسن.
وإذا أردت أن تعرف خسارة فقد الحياء، فانظر إلى بعض البلدان التي هجر نساؤها الحياء، وتجافين عن التخلق به، واعتقدن أن الإنسان حيوان، ترى فيهن العجب؛ من فساد الأخلاق والآداب، ونكوس الطباع، وفساد الأوضاع، والإخلاد إلى سفاسف الشرور والفجور، فلا يبالي بما فعلت أو فعل بها شبه الحيوان، فلا تستحيي من الله، ولا من خلقه، ولا ترغب في أن يبقى لها شرف أو ذكر جميل تذكر به في حياتها أو بعد وفاتها، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»[353].
نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير أزواجهن أو محارمهن، ومن المعلوم أن المرأة في حالة هذا الاختلاط، ستظهر محاسنها ومفاتن جسمها، فتبدي يديها إلى قرب العضد، وبها أسورة الذهب، وساعة الذهب، وتبدي رجليها إلى نصف الساق، وتكشف عن رأسها، ورقبتها وقلائدها، وحلق الآذان، ولن تذهب إلى هذا المجتمع إلا بعد تكلفها بتجميل نفسها من الأصباغ والأدهان العطرية، لعلمها أن الشباب سينظرون إليها، فهل يشتبه على عاقل بعد هذا تحريم إبداء هذه الزينة مع الرجال الأجانب، إذ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل وتحريم التعاون عليه، وتحريم المساعدة لأهله، بل ولا في تحريم إقرارهم عليه، والسكوت عن الإنكار عليهم، ولا حاجة إلى تطويل الكلام قي مفاسده، وما يؤول إليه، فإنها بديهة بطريق العقل والاختبار.
والمفتونون بالتقليد يعلمون من مضاره المتولدة عنه أكثر مما ذكرنا لكنهم يستحبون العمى على الهدى ﴿وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا﴾ [الأعراف: 146]. فهم يفضلون ترك هذه الآداب الإسلامية، والأخلاق العربية، ويهزؤون بمن يفعلها، وبمن يخالف رأيهم في ترك كل ما يسمونه تمدنًا وتجديدًا.
عُمْي القلوب عَرَوْا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدًا
إن الغيرة على المحارم تعد من شيم ذوي الفضائل والمكارم، فالغيور مهاب، ومن لا غيرة فيه مهان، والغيرة الواقعة في محلها، هي بمثابة السلاح لوقاية حياة الشخص، وحماية أهله، وكلما اشتد حفظ الإنسان لصيانة نفسه وأهله، قويت غيرته، واشتدت شكيمته، بحيث لا تمشي بواديه الأراجيل.
وكلما كثرت ملابسته للقبائح، وخاصة الزنا وتوابعه، فإنها تنطفئ من قلبه حرارة الغيرة، فلا يستنكر معها فعل القبيح، لا من نفسه ولا من أهله، بل ربما يلطف فعل الفاحشة ويزينها لغيره، كما يفعل الديوث الذي يقر السوء في أهله، ولهذا صارت الجنة عليه حرامًا، كما ثبت بذلك الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ»[354]. والديوث هو الذي يقر أهله على عمل السوء؛ لأن من يهن في نفسه وأخلاقه، فإنه يسهل عليه الهوان.
فالفاسدة أخلاقهم وبيوتهم، يحبون أن تفسد أخلاق الناس وبيوتهم، لينطفئ بذلك عارهم، ويختفي ذلهم وصغارهم، فمثل هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم. والغيرة من الدين، ومن لا غيرة له لا دين له؛ لأن من لوازم عدم الغيرة الرضاء بانتهاك حدود الله ومحرماته.
إن الرجل العاقل، والمفكر الحازم، يجب عليه أن يراقب العواقب، وأن يقابل بين المصالح والمفاسد، فإن لهذه القضية ما بعدها، إذ المنكرات يقود بعضها إلى بعض، وحتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى، فعند نجاح القائلين بإباحة الاختلاط، فإنه يقودهم إلى المطالبة بإباحة الرقص، ثم المطالبة بإعطاء المرأة كمال حريتها تتصرف بنفسها كيف شاءت، ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان، كفعل المرأة الأوروبية، وكأن هذا هو هدفهم الأكبر، وبعمله يعملون.
أيها العقلاء: اعتبروا وفكروا واعلموا بأن المسلمين إنما نكبوا في مجتمعهم، وأخلاقهم بعد ما نكبوا في نظام عائلتهم، وفساد تربيتهم لنسائهم، وأبنائهم التربية الدينية الصحيحة، المبنية على التحلي بالفضائل، والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل.
وبسبب إهمالهم لحسن تربيتهم، وفساد تعليمهم، ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، وأخذوا يتناسون التعاليم الإسلامية والأخلاق العربية؛ لأنه إذا ساء التعليم، ساء العمل، وإذا ساء العمل، ساءت النتيجة ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [المائدة: 41].
فهذه نصيحتي لكم، قصدت بها نفعكم، ودفع ما يضركم، والله خليفتي عليكم، واستودع الله دينكم وأمانتكم، واستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[347] من دائرة المعارف - فريد وجدي جـ 8 ص639. [348] ص481 مجلد 4 من (مجلة المنار). [349] نشرت في مقالة عنوانها: الرجال والنساء ص481 من (مجلة المنار) المجلد 4. [350] ص482 من (مجلة المنار) المجلد 4. [351] من حديث عبد الله بن عمر. [352] رواه مسلم من حديث عمران بن حصين. [353] من حديث رواه البخاري عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري. والحديث «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا ...». [354] رواه أحمد واللفظ له والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسنادك: «ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ».
الحمد لله، ونستعين بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تمسك بسنته، واتبع هداه.
أما بعد:
فإن هذا القرآن العظيم، والذكر الحكيم، قد نظم حياة الناس أحسن تنظيم، بالحكمة والمصلحة والعدل وحسن الإرشاد والتعليم، فهو كتاب دنيا ودين، ومنهج سياسة وسيادة، يهدي إلى كل فضيلة، وينهى عن كل رذيلة، لم يقتصر على الأمر بالصلاة والزكاة والصيام وسائر شرائع الإسلام فحسب، بل أبدى وأعاد من فنون الوصايا الصحيحة، والنصائح الفصيحة، فأوصى الإنسان بالصنائع والإحسان، في كل ما يتعلق بحسن معاشرته لأهله وعياله وأقاربه، وفيما يتعلق بشؤون تجارته، وسياستها بحسن التدبير، ووسائل التثمير، وحفظها عن الإسراف والتبذير، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا ٢٩﴾ [الإسراء: 29].
فنهى سبحانه عن غلّ اليد إلى العنق، وهو عبارة عن شدة البخل والامتناع عن الصدقة، وأداء الزكاة الواجبة، وعن سائر الأعمال الخيرية، كما يبتلى به الكثيرون من الأغنياء البخلاء المكثرين، يهم أحدهم بالصدقة أو أداء الزكاة الواجبة، ثم يمنعه شدة بخله وهلعه، فكان جموعًا منوعًا.
وقد جعل الله المال منحة لأقوام، ومحنة على آخرين، وسعادة على أقوام، وشقاء على آخرين. ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16]. ثم قال: ﴿وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ﴾ أي في التوسع في النفقات والكماليات التي تجحف بذهاب المال، وتوقع في سوء الحال.
﴿فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا﴾ أي يلومك الناس على فساد تصرفك، وتتحسر في نفسك على فساد تبذيرك، وسوء تدبيرك، وقد مدح الله المعتدلين. فقال: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا ٦٧﴾ [الفرقان: 67]. وقال: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء: 26-27]. فأمر سبحانه كل من أنعم عليه بالغنى بالمال، بأن لا يبخل بما آتاه الله من فضله، وأن يؤتي ذا القربى حقه، وهم أقارب الشخص من إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته، وأخواله وخالاته، وأولاد العم والعمة، وأولاد الخال والخالة، فهؤلاء قد أوجب الله لهم حق القرابة في مال قريبهم من زكاة وصدقة وصلة، إذ هم أحق من كل أحد، فمن وصل رحمه أوصل الله إليه الخيرات، وبسط له البركات، في حاله وماله وعياله.
كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُمِدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[355] فالواصل موصول، والقاطع مقطوع.
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه
أنى توجه والمحروم محروم
فالصلة هي من الأعمال الميمونة على كل من اتصف بها كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
ثم قال: ﴿وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا﴾ لما حث سبحانه على صلة الأرحام، وعلى الإحسان إلى المساكين وابن السبيل ولا صلة ولا صدقة إلا من مال؛ لأن عادم الشيء لا يعطيه - لهذا أمره الله بأن يحفظ ماله من الضياع، وأن يسوس تجارته بحسن التدبير، ومجانبة الإسراف والتبذير؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال.
ولهذا قال: ﴿وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا﴾ والتبذير هو أن ينفق المال جزافًا في سبيل البذخ والشهوات، والتفنن في المأكولات، والتأنق في المركوبات، والتغالي في المستعملات، وسائر الكماليات؛ لأن الاقتصاد خير كله. وفي الحديث: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»[356]. وقال: «الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْعَيْشِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّيْنِ»[357]. وقال: «الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ»[358]، لأن المال الحلال لا يحتمل الإسراف، ومن المشاهد المحسوس أن المسرفين المبذرين يصابون بالفقر قبل أن يموتوا؛ لأن إنفاقهم المال في سبيل الإسراف والتبذير، وعدم حسن التدبير، مؤذن بزواله وارتحاله، كما أن إنفاقه على النفس والأهل والعيال، والتجمل منه بأنواع الزينة المباحة، والصلة منه والصدقة هو عنوان شكره المستلزم لنموه وبركته، لكونه أنفق المال في سبيل ما خلق له.
فدين الإسلام هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من سبيل حلها، وفي الحديث: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»[359]. ويقول: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ»[360]. وقد ذهب أهل الدثور بالأجور -أي أهل الأموال- بالدرجات والنعيم المقيم، وحسبكم ما تسمعونه من كتاب ربكم يقول الله: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5]. والسفهاء هم الذين لا يحسنون حفظ المال ولا تثميره سواء كانوا من النساء أو من الرجال؛ لأن السفه خفة في العقل، علامته عدم حفظ المال. وقوله: ﴿ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا﴾ أي تقوم بها أبدانكم وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم، ويقوم بها شرفكم وقوتكم، وقد سأل النبي ﷺ ربه سعة الرزق، واستعاذ من الفقر. يقول ابن عقيل: أقسم بالله لو عبس الفقر في وجه أحدكم لعبس في وجهه أهله وعياله وأقاربه.
وفي الحديث: «الْحَسَبُ الْمَالُ»[361]. ثم قال: ﴿إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء: 27]. فجعل المبذرين إخوان الشياطين دليلاً على مهانته ومذلته؛ لأن الشياطين هم الذين يبطرون نعمة الله ولا يشكرونها، فما استديمت نعم الله بمثل شكره وحسن عبادته، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجأة نقمته، وجميع سخطه.
ومن أراد أن يعرف عناية الله بعباده في حفظ أموالهم، فليقرأ قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسَۡٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ﴾ [البقرة: 282].
وهذا من تمام عناية الله بعباده في حفظ أموالهم، حيث أمرهم بالحزم، وفعل أولي العزم، وأن يكتبوا ما لهم من الحقوق عند الناس من صغيرة وكبيرة؛ لأن القرآن تعليم دنيا ودين. وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِيْنِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيْهَا مَعَاشِي»[362]. والحكماء والعلماء والأدباء يمدحون الجود بالمال في سبيل الحق من الصلة والصدقة، ومساعدة المنكوبين والمضطرين، والجهاد به عند دعاء الحاجة إليه.
فيجب أن يكون رخيصًا في هذه السبل الخيرية، كما يجب أن يحفظ عن الضياع، وعن السفهاء المبذرين، كما قيل في صفة الرجل الحازم السخي: حسن التدبير والتقدير.
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
لأن البر وفعل الخير هو همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا؛ وقال آخر يمدح رجلاً حسن السياسة في العطاء والمنع:
وهُوب تلاد المال فيما ينوبه
منُوع إذا ما مَنْعُه كان أحزما
والنبي ﷺ قد سبق الشعراء والحكماء إلى كل قول سديد، وفعل حميد؛ ففي الحديث «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»[363]. وقال «الِاقْتِصَادُ بِالنَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ»[364].
وقال: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»[365]. وأكثر الناس يغرق في السرف والترف، ولا يحس بغلطه إلا بعد ذهاب المال عن يده، وتراكم الديون عليه، وقد استعاذ النبي ﷺ من المأثم والمغرم وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[366].
وفي الحديث: «أَقِلُّوا مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ، وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ»[367]. فمن فنون السرف، كون بعض الأثرياء يشتري خاتم الماس بعشرة آلاف، وعشرين ألفًا. وقد سمعت أن بعض الخواتم تبلغ قيمته مائة ألف وأكثر. وهذا يعد غاية في الإسراف والتبذير. فإن أفضل ما تحلى به الشخص العظيم، هو التواضع مع القدرة؛ فمن تواضع لله رفعه، كما أن من تعاظم في نفسه وفي زيه ولبسه، فإنه يصغر قدره في الناس.
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في الناس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين
ومن الإسراف شراء ساعة الذهب بعشرة آلاف، أو أقل أو أكثر، وهذا بما أنه غاية في السرف الذي يذمه الشرع، ويمجه العقل، وينافي الاقتصاد والعدل، فإنه من الأمر المحرم بنص الشرع، إذ لا يجوز للمسلم أن يتحلى بساعة الذهب، ولا خاتم الذهب، إذ هو حرام على ذكور الأمة حل لإناثها.
ومن الإسراف ما يفعله بعض النساء المثريات في بعض البلدان، من شراء ثوب بألف أو بألفين أو بأكثر من ذلك على حساب أن تحفل في عرس أو عيد، ويقوم مقامه في الجلال والجمال وستر الحال، ثوب قيمته مائة ريال، وقس عليه سائر المستعملات.
ومن الإسراف التوسع في الموائد التي تصنع لإكرام شخص، أو وليمة عرس، أو قدوم غائب، بحيث يذبح قدر عشرين ذبيحة، أو ثلاثين ذبيحة، وربما ذبح معها بكرًا من الإبل، ويتحف بها أشياء كثيرة من المأكولات الثمينة والفواكه، ويقوم المدعوون إليها وهم يمقتونها، لخروجها عن قانون العدل والاقتصاد، وحسن التدبير، إلى عمل الإسراف والتبذير، إذ يكفي في الإكرام والاحترام دون هذا التكلف الزائد؛ لأن من سقطت كلفته، دامت ألفته، وما خرج عن حد القصد والاعتدال، دخل في حدود الذم والاعتلال.
وقد مدح الله الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قوامًا، لهذا تجد هذه الموائد الموحشة تشمئز منها نفوس العقلاء؛ لاعتبار أنها من الأموال الضائعة، بحيث تحمل اللحوم والطعام، ويرمى بها في مواضع القمام، وبطون الأنعام، والكثير من الفقراء تحن بطونهم إليها.
وقد قيل:
ولم يحفظ مُضَاعَ المجد شيءٌ
من الأشياء كالمال المضاع
إنه ما توسع أحد في النفقات الزائدة على الحاجة، إلا ويقصر بأداء الحقوق الواجبة عليه، من قضاء ديون للناس لازمة وغيرها، فيقع من أجل توسعه في تحمل الدين الذي هو همّ بالليل، ومذلة بالنهار.
فدين الإسلام الذي نعتقده، هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من فنون حلها، ومراعاة القصد، والاعتدال في الأمور كلها.
ومن الإسراف الذميم، التطلبات المرهقة، والتكاليف الشاقة، في سبيل الأنكحة؛ لأن التسهيل يمن، كما أن التكاليف شؤم، فيسروا ولا تعسروا، وخير النكاح أيسره، وخير النكاح أقله كلفة.
وإنما تقاطع الناس بالتكلف. وإنما بقيت العذارى الأبكار عوانس في بيوت آبائهن من التكلف؛ لأن المقصود من النكاح الشرعي، هو اتصال حبل الخاطب الكفء بالمخطوبة ليتحمل أمانتها، والقيام بكلفة مؤنتها، ويقيم نفسه مقام الخادم لها، في جلب حوائجها، حتى تكون سعيدة بيت، وسيدة عشيرة، وأم بنين وبنات، والذين هم من زينة الحياة.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[355] متفق عليه من حديث أنس. [356] رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود، وضعفه الهيتمي، وله ما يقويه. [357] رواه الخطيب عن أنس بإسناد ضعيف. [358] رواه الطبراني في الكبير في مكارم الأخلاق، ورواه البهيقي في الشعب عن ابن عمر ابن الخطاب. [359] رواه الترمذي وقال: حسن. [360] أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري. [361] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث سمرة بن جندب. [362] رواه مسلم عن أبي هريرة. [363] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [364] رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر بن الخطاب. [365] من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة. [366] متفق عليه من حديث عائشة. [367] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس.
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وخاتم النبيين، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦﴾ [البقرة: 186]. فهذه الآية توجد متوسطة بين آيات الصيام من سورة البقرة، والحكمة في وضعها بين آيات الصيام، أن المؤمن الصائم يتوسع في أفعال الطاعات، ويكثر من الدعاء، والتضرع إلى الله، لعلمه أن للصائم دعوة ما ترد، وسبب نزولها أن أناسًا قالوا للنبي ﷺ يا رسول الله: أربنا قريب فنناجيه. أم بعيد فنناديه؟[368] فأنزل الله هذه الآية. وكان رسول الله ﷺ في سفر، وكان الصحابة إذا علوا الربى كبروا، وهللوا، وإذا هبطوا الأودية سبحوا، يرفعون بذلك أصواتهم. فنادى منادي رسول الله: «أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيْبًا، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ»[369].
فقوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ أي: عباد الإجابة والدعوة، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإلا فكل الناس عبيد لله بطريق القهر والخلق والتكوين، ولكن السائلين المتضرعين هم عباد الله الصالحون المخلصون، الذين يعبدون الله ويدعونه متضرعين إليه مخلصين له الدين.
فالدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة. كما روى النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: ««الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠﴾ [غافر: 60]»[370] أي: صاغرين حقيرين.
وفي رواية: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ»[371] ، ومخ الشيء خالصه، فليس شيء أكرم على الله من الدعاء؛ لأنه عماد الدين، ونور السموات والأرض، وسلاح المؤمن، وأنه لن يهلك مع الدعاء أحد، كما ثبت بذلك الحديث، والله سبحانه يحب أن يسأل، ويحب الملحين في الدعاء، ومن لم يسأل الله يغضب عليه.
الله يغضب إن تركت سؤاله
وبُنَيُّ آدم حين يسئل يغضب
والله يقول: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا٧٧﴾ [الفرقان: 77]. سواء قلنا إن المراد به دعاء العبادة، أو دعاء المسألة؛ لأن دعاء المسألة هو دعاء عبادة، ودعاء العبادة، هو دعاء مسألة. والدعاء بمثابة الأشجار المثمرة، والخزائن المدخرة، ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فهو يدفع البلاء قبل نزوله، ويرفعه بعد نزوله، لقول النبي ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيْدُ الْعُمُرَ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الصَّدَقَاتِ لَتَدْفَعُ مِيْتَةَ السُّوْءِ»[372]. فأخبر النبي ﷺ أن الدعاء يرد القدر والقضاء، فلا يقولن أحدكم: إن كان هذا الأمر مكتوب لي أو علي سيقع لا محالة، دعوت أو لم أدع. فإن من الأشياء ما لا تحصل إلا بالدعاء، والله يمحو ما يشاء ويثبت، وفي دعاء القنوت: «وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ»[373]. فلو لم يكن الدعاء سببًا في صرف شر القدر والقضاء، لما شرعه النبي ﷺ وأرشد إليه أمته، وفي مراسيل الحسن أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَاسْتَدْفِعُوْا أَمْوَاجَ البَلاَءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ»، وفي حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال له: «احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»[374].
إنه متى كان الإنسان له معاملة مع ربه بالدعاء في حالة رخائه وسرائه، ثم وقع في شدة من الشدات، أو في حاجة من الحاجات، فدعا الله عز وجل. قالت الملائكة: يا رب صوت معروف من عبد معروف، اللهم استجب دعاءه. ولهذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم إنك أمرت بالدعاء، ووعدت بالإجابة، وقد سألتك كما أمرتني، فاستجب لي كما وعدتني. إن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وتعتقد بأن دعاءك واقع بمسمع من الله، إنه ﴿ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٢٢٠﴾ [الشعراء: 218-220]. وكانت عائشة رضي الله عنها تقول[375]: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد أتت المجادلة -أي خولة بنت ثعلبة- إلى رسول الله ﷺ تشتكي زوجها -أي أوس بن الصامت- وتقول: إنه أفنى شبابي، وأكل مالي، وكان لي منه عيال، فلما كبر سني، ظاهر مني، أشكو إلى الله حالي والله إني لفي كسر البيت، أسمع بعض كلامها، ويخفى علي بعضه، فما برحت من مكانها، حتى سمع الله شكواها، وأنزل ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ١﴾ [المجادلة: 1][376].
ونظير هذا ما حكى الله عن نبيه يونس عليه السلام؛ وذلك أنه لما غاضبه قومه، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، خرج من البلد مغاضبًا، فركب في سفينة، ثم إن السفينة أشرفت على الغرق، فقذفوا في البحر جميع ما تحمله، فلم ترتفع، فاتفقوا على أن يعملوا قرعة، فمن وقعت عليه القرعة من الركاب، ألقي في البحر، فوقع سهم الإلقاء على نبي الله يونس بن متى، فرموا به في البحر، لكون الأنبياء أشد الناس بلاء قال الله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ١٤١﴾ [الصافات: 141]. أي الملقين ﴿فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ ١٤٢﴾ [الصافات: 142]. أي أن الله سبحانه قد لامه على شدة الغضب الذي خرج بسببه من البلد، وكان من واجبه أن يصبر على أذى قومه، فعند ذلك دعا ربه وهو في ظلمات ثلاث! ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. فكان من دعائه ﴿...لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ٨٧ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ٨٨﴾ [الأنبياء: 87-88]. ثم ذكر سبحانه سبب هذه الاستجابة، وهذا الإنجاء، وأن سببه كثرة دعائه لربه في حالة رخائه فقال تعالى: ﴿فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٤٤﴾ [الصافات: 143-144]. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ، مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، ﴿لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]»[377] فمن أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء، وإذا دعا المسلم بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، حصل له إحدى ثلاث خصال، ««إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخرها له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء مثلها»، قالوا: إذًا نكثر يا رسول الله؟ قال: «فضل الله أكثر»»[378]، ومن فتح له باب الدعاء وذاق حلاوته، فقد فتح له باب الخير والرحمة والإجابة، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء، فإني إذا أعْطيتُ الدعاء، وُفقت للإجابة.
إنه متى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، والإنسان مخلوق للعبادة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56]. فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسأم من الدعاء، ولا يعجز عنه، ففي الحديث «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»[379]. فإن أفضل العبادة انتظار الفرج، فالظوا بياذا الجلال والإكرام - أي الزموا وداوموا.
ثم إنه متى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإن صرف هذا الدعاء لغير الله شرك أكبر، ومن الذنوب التي لا تغفر، ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ﴾ [المائدة: 5]. وإنه ﴿مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ﴾ [المائدة: 72]. فكل من دعا مخلوقًا ميتًا من دون الله، وتضرع إليه في قضاء حاجته، وتفريج كرباته، سواء كان نبيًّا أو وليًّا أو عليًّا أو عبد القادر، أو العيدروس، أو سائر المقبورين، فقد أشرك بالله، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦﴾ [يونس: 106]. وأخبر سبحانه بأنه لا أضل ولا أظلم، ممن يدعو مخلوقًا مقبورًا مرهونًا بعمله، لا يستطيع زيادة في حسناته، ولا نقصًا من سيئاته، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦﴾ [الأحقاف: 5-6]. فأخلص دعاءك لربك، فإنه النافع الضار ﴿قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38].
إن الدعاء هو خالص حق الله، ولا يرضى أن يشرك معه في حقه أحد من خلقه، ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨﴾ [الجن: 18].
إن المشركين في هذه السنين هم أعظم شركًا من الأولين، لهذا تراهم يترددون رجالاً ونساءً إلى قبور من يسمونهم أولياء، ويزعمون أنهم يتصرفون في الكون، فهم يطلبون شفاعتهم بتفريج كربهم، واستجابة دعوتهم.
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
ونقول:
المستغيث بقبر عند كربته
كالمستغيث من الرمضاء بالنار
إنه متى ذكّرهم مذكّر، أو وعظهم واعظ بالآيات التي تحرم الشرك، وتحذر المشركين من العقاب الأليم، قالوا: هذه الآيات إنما نزلت في المشركين الأولين، وكيف تجعلوننا مثل المشركين ونحن مسلمون موحدون، نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ولم يشعروا بأن من شرط لا إله إلا الله كونها تحجز قائلها عن الشرك بالله، وإلا فيعتبر قائلها بأنه كاذب في شهادته، وكافر بربه. مع العلم بأنهم أغلظ شركًا وأشد كفرًا من المشركين الأولين، ولكنهم يريدون أن يجعلوا أنفسهم في منجاة من الشرك والعقاب عليه بمجرد الدعوى الكاذبة، فهم يجمعون بين الإساءة في العمل، والأمن من العقاب ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩﴾ [الأعراف: 99]. ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ﴾ [يونس: 18]. -أي يجعلونهم وسطاء ليقربوهم إلى الله زلفى وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا- يقول الله تعالى: ﴿...وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ١٣ إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ١٤﴾ [فاطر: 13-14]. - وهو الله سبحانه وتعالى.
فانتبهوا من غفلتكم، وأخلصوا دعاءكم لربكم، واستقيموا على الجادة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[368] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة من حديث عيينة بن عمران. [369] أخرجه البزار من حديث أبي موسى الأشعري. [370] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان وقال: صحيح الإسناد. [371] أخرجه الترمذي من حديث أنس. [372] رواه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان وقال: صحيح على شرطيهما. [373] متفق عليه من حديث الحسن بن علي. [374] من حديث رواه الترمذي بتمامه وقال: حديث حسن صحيح. [375] أخرجه البخاري، ورواه النسائي وابن ماجه. [376] أخرجه ابن ماجه من حديث عاشة. [377] أخرجه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص. [378] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث أبي هريرة. [379] حديث متفق عليه ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد ثبت في صحيح مسلم، أن النبي ﷺ قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ»[380]. فهذه من حقوق المسلم على المسلم، وكلها تستدعي المودة والانسجام بين الإخوان، يقول عبد الله بن سلام: لما قدم النبي ﷺ المدينة انجفل الناس عنه، فلما رأيت وجهه، علمت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ»[381]. وقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذْا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[382]. وسأل رجل النبي ﷺ فقال: أي السلام خير؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»[383] وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان، الإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار.
والسلام هو اسم من أسماء الله، فأفشوه فيما بينكم. وفي معناه الدعاء بالسلامة على كل من سلمت عليه، كما يدعو لك بمثل ذلك، وهو تحية أهل الإسلام من لدن خلق الله آدم إلى يوم القيامة، لما في البخاري ومسلم : «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، قال له: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفْرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - وَانْظُرْ مَا يُحَيُّونَكَ بِهِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَذَهَبَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ»[384].
كما أن السلام تحية أهل الجنة، ﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠﴾ [يونس: 10]. وأخبر النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ»[385]، فأخبر أن من خصال الإسلام؛ هو أن تسلم على من لقيت من المسلمين. فإذا أتيت أهل مجلس فسلم عليهم، وإذا أردت أن تقوم فسلم عليهم، فليست الأولى بأحق من الثانية.
ثم قال: «وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ»؛ لأنه إذا بدأ أهل بيته بالسلام، دخلت في البيت البركة والرحمة وحفت أهله الملائكة، وقد قال النبي ﷺ لأنس: «يَا بُنَيَّ، إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ»[386]. لأن الله وصف السلام بأنه تحية مباركة طيبة فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗ﴾ [النور: 61]. لأن من سلم على أهله فقد سلم على نفسه، وقال: «ثلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيْلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ»[387]، وقد أهمل الناس العمل بهذه السنة، وحرموا أنفسهم دخول البركة في بيوتهم، وأكثرهم إذا دخل بيته بدأ بالسب واللعن لكل من يلقاه من أهله وأولاده، ومن لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه، ولعن المؤمن كقتله.
وكان السلام في عهد الإسلام بمعنى الأمان والاطمئنان، بمعنى أنك إذا سلمت على إنسان فرد عليك السلام، فقد دخل في عهد وأمان من أن تناله بسوء، وفي بعض الغزوات قصد بعض الصحابة صاحب غُنيمة ظنوه من المشركين، فلما أقبلوا عليه بدأهم بالسلام وقال: السلام عليكم، فلم يردوا عليه السلام، وقالوا إنه لم يسلم علينا إلا ليحرز عنا غنمه، فأخذوا الغنم، واستاقوه معهم، وسبقهم القرآن بنزوله على رسول الله، وسبحان من وسع سمعه الأصوات، وسبحان المطلع على الأسرار والخفيات، علم الله ما وقع لصاحب هذه الغنيمة، فأنزل الله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ﴾ - أي تثبتوا - ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا﴾ - كما قلتم لصاحب هذه الغنيمة - ﴿تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ - أي لأجل طمعكم في أخذ الغنم - ﴿فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ﴾ [النساء: 94]. - أي كنتم كفارًا من قبل فمن الله عليكم بالإسلام وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام - ﴿فَتَبَيَّنُوٓاْ﴾ أي تثبتوا، وهذه الآية بمثابة التهذيب، والتأديب للعباد في الأمر بالتثبت في جميع أمورهم، لئلا يغلطوا مع أحد، فيأخذوه بغير حق، نظيره قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ ٦﴾ [الحجرات: 6].
فالقرآن قد نظم حياة الناس أحسن نظام، وهذبهم في حسن التعامل مع الناس في الأفراد والجماعات، وأخبر أن لكل داء دواء، وأن السلام هو الذي يثبت دعائم الإخاء، ويزيل الإحن والبغضاء، فقال الرسول ﷺ: ««دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ». قالوا: وما الحالقة؟ قال: «حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أُنْبِئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[388].
ثم حث على السعي بالإصلاح بين المتباغضين، والتقارب بين المتباعدين، خصوصًا إذا كانوا من ذوي الأرحام؛ لأن العداوة بينهم أشق، وإثم القطيعة بينهم أشد، وفي الحديث: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»[389]. فأخبر بأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال على أثر لجاج أو جدال أو شيء من محقرات الدنيا، وأن خير الناس هو الهين اللين السهل الذي يبدأ من لقيه بالسلام، ويسلم على من هجره ليزيل الإحن والشحناء عن قلبه، ومن تواضع لله رفعه، وما جازيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وأشقى الناس وأقساهم قلبًا؛ رجل قيل له: اتق الله على رحمك، أو على أخيك المسلم. فقال: اكتف بنفسك.
«وهجر المسلم أَخَاهُ سَنَةً كَسَفْكِ دَمِهِ»[390] فلا يجوز لرجل أن يهجر أخاه المسلم من السلام إلا أن يرتكب معصية فيهجره بسببها رجاء أن يتوب منها.
وهجران من أبدى المعاصي سنّة
وقد قيل إن يردعه أوْجب وآكدِ
لكن من هدي النبي ﷺ أنه لا يستعمل الهجر إلا في الحالات التي يرى أنه ينفع وينجع فيها، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد معه، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الصحابة، وكما هجر الرجل الذي بنى له عليّة تشرف على بيوت الناس، ولم يسلم عليه حتى هدمها. أو كما هجر الرجل المتضمخ بخلوق الزعفران، ولم يسلم عليه حتى غسله عنه؛ لأن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، كالزعفران والحناء. وكما هجر المتختم بالذهب فلم يرد عليه السلام، فقال لبعض من حضر من الصحابة: ما بال رسول الله ﷺ لم يرد علي السلام؟! فقالوا له: اذهب فاطرح عنك الذهب وأته، فسلم عليه، فإنه سيرد عليك السلام. فذهب، فنزع عنه الذهب، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فرد عليه السلام، وقال: «إِنَّكَ جِئْتَنِي وَعَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ»[391]، فهذا هو الأمر الثابت عن رسول الله ﷺ في استعمال الهجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الهجر بمثابة التعزير والتأديب، يستحب استعماله عند تحقق نفعه، أما إذا كان لا يزيد المهجور إلا عتوًّا ونفورًا، وإلا تمردًا وشرورًا، فإنه لا يستعمل والحالة هذه.
وقد كان النبي ﷺ يرد السلام على كل من سلم عليه من اليهود والنصارى والمنافقين، ويقول: «لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ»[392]. وفي رواية متفق عليها عن أنس: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ»[393]. ولما استأذن رجل على النبي ﷺ قيل - عيينة بن حصن الفزاري- وكان أحمق مطاعًا في قومه، قال النبي ﷺ: «ائْذَنُوْا لَهُ، فَبِئْسَ أَخُو العَشِيْرَةِ هُوَ»، فلما دخل ضحك النبي ﷺ في وجهه وانبسط عليه، فلما خرج، قال له بعض نسائه: إنك قلت بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل رأيناك ضحكت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال: «هل تجديني فحاشًا! إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه»[394] وفي رواية: «اتقاء شره». فهؤلاء من اليهود والنصارى والمنافقين، لم يستعمل الهجرة معهم لعلمه أنه لا ينفع فيهم، ومثله سائر أهل الملل والنحل المبتدعة، كالشيعة ونحوهم، فإن الهجر لا ينفع معهم، ولا يثنيهم عن عقيدتهم، فيجوز أن تسلم عليهم، وأن ترد عليهم السلام.
وقد قلنا: إن السلام اسم من أسماء الله سبحانه، وفي معناه الدعاء بالسلامة والأمان، وأولى الناس بالله من بدأهم بالسلام، والبخيل من بخل بالسلام، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ»، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا، نتحدث فيها. فقال: «إِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ».
فهذه تعاليم دين الإسلام في آداب السلام، وفائدة الاستماع الاتباع. فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[380] رواه مسلم عن أبي هريرة. [381] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [382] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء المقدسي عن الزبير بإسناد جيد. [383] رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو. [384] متفق عليه عن أبي هريرة. [385] أخرجه ابن بشران في الأمالي من حديث خالد بن معدان. [386] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [387] أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة. [388] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء المقدسي عن الزبير بإسناد جيد. [389] متفق عليه عن أبي أيوب رضي الله عنه. [390] أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن الأسلمي أنه سمع النبي ﷺ يقول: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه». [391] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث بريدة الأسلمي. [392] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [393] من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة. [394] أخرجه البخاري من حديث عائشة.
الحمد لله، ونستعين بالله، ونستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ»[395].
فنفى رسول الله ﷺ أن تفعل العدوى بنفسها دون قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ولما قال النبي ﷺ: ««لَا عَدْوَى». قال رجل: يا رسول الله. إن الإبل تكون في الفلاة كأنها الظباء، فيدخلها البعير الأجرب، فتجرب كلها؟ قال: «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟»»[396] أشار بهذا إلى البعير الأول قد أصيب بالجرب بقضاء الله وقدره بدون عدوى، وكذلك الإبل أصيبت بالجرب بطريق العدوى بقضاء الله وقدره، فالرسول ﷺ لا ينفي العدوى مطلقًا، لكونها من الأشياء التي يشهد بها الواقع المحسوس كما في قول الأعرابي.
فقد ثبت في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ». فنهى رسول الله ﷺ صاحب الإبل المصابة بالجرب، أو الهيام أن يوردها على الإبل الصحاح، وكذلك الغنم، ومثله الدجاج المصاب بمرض فيجلبه صاحبه ليغش به الناس، وفي الحديث «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»[397] فأمر رسول الله باتقاء أسباب البلاء، والمباعدة عن الوباء والعدوى، مع التوكل على الله، وقال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ»[398]. وجاء مجذوم مهاجرًا فمنعه رسول الله ﷺ من دخول البلد، وقال له: «ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ»[399]. ومثله المصاب بداء الجدري وغيره؛ لأن الله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، وجعل لكل شيء سببًا؛ ولأن الوقاية خير من العلاج، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إذا وقع الوباء بأرض، فلا تدخلوها»[400].
ولما سافر عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه عدد كثير من الصحابة، فلما قرب إلى البلد، تلقاه أبو عبيدة بن الجراح خارج البلد، وأخبره أن الطاعون قد وقع في البلد، فنزل خارج البلد، ثم قال: يا ابن عباس، ادع لي المهاجرين. فدعوتهم له، فاستشارهم في دخول البلد أو الرجوع، فمنهم من قال: توكل على الله وادخل البلد. ومنهم من قال: ترجع ولا تدخل. فقال: قوموا عني. ثم قال: يا ابن عباس، ادع لي الأنصار. فدعوتهم له فاتفقت كلمتهم على أن أشاروا عليه بالرجوع، وأن لا يقدم بالصحابة على موضع الهلاك، وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبًا، فجاء، وقال: إن عندي من هذا علمًا ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: ««إذا وقع الوباء بأرض فلا تدخلوها» فحمد الله عمر على إصابة الحق»[401]. وفي سنن أبي داود أن قومًا جاؤوا إلى النبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا بعدن هي ريفنا، ومصيفنا، فإذا نزلناها نحفت أجسامنا، وقل عددنا، فقال رسول الله ﷺ: «اتركوها ذميمة فإن من القَرَف[402] التلف»[403]، فأخبر رسول الله ﷺ أن مقاربة الإنسان للأشياء الوبيئة، وسكناه في البلد الوبيئة، كثيرة الأسقام، إنه عين الهلاك والتلف، فترك سكنى مثل هذه القرية الوبيئة ليس من التطير في شيء، كما أن منع المصاب بمرض معدٍ من دخول البلد ليس من التطير، وإنما هو من أمر الحزم وفعل أولي العزم، وقد سنه رسول الله ﷺ لأمته؛ لأنه من باب اتقاء أسباب البلاء، والمباعدة عن مواقع الوباء، ولما مرّ النبي ﷺ على حائط مائل أسرع السير، فقيل له في ذلك فقال: «أخشى موت الفجأة»[404].
ولما عزم عمر أن يرجعبالصحابة وأن لا يدخلهم الشام وهي وبيئة، فقال: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم. نفرّ من قدر الله إلى قدر الله[405].
فالرسل وأتباعهم يفرّون من القدر إلى القدر، ويحاربون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، مع توكلهم على ربهم، فالمرض الذي يصاب به الشخص هو من قضاء الله وقدره، والدواء الذي يعالج به ليشفيه هو من قضاء الله وقدره، فهو يحارب المرض بهذا الدواء ليشفيه، كما قيل: نعالج آفاتًا بآفات.
و لما قيل للنبي ﷺ: «أرأيت أدوية نتداوى بها، وعوذًا نتعوذ بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ»»[406].
فالقدر ليس بِغُلّ في العنق، ولا قيد في الرجل، بل هو عبارة عن سبق علم الله بالأشياء، فلا يجب الاتكال عليه، والنبي ﷺ قال: «تَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِلَّا الْمَوْت»[407].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الإعراض عن استعمال الأدوية المباحة المجربة قدح في الشرع، واعتقاد عدم نفعها نقص في العقل، والمؤمن كامل الإيمان يستعمل الدواء وقت حاجته إليه، مع توكله على ربه.
وبالحقيقة فإن العدوى الضارة هي مقارفة ومقاربة أهل السفه والفساد المتصفين بفعل المنكرات، وشرب المسكرات، فكم من سفيه أردى حكيمًا حين آخاه. لهذا فقد يوجد رجل يعيش في الدنيا بأدب وشرف وحسن خلق، ثم يدب إليه داء العدوى الناشئة عن مجالسة ومؤانسة أهل الفساد، فيتخلى عن الفضائل، ويتحلى بالرذائل، وتظهر سيما السوء على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، ويبغض أهله وأقاربه وجيرانه؛ لأنه قد شذ عنهم بطباعه، وفساد أوضاعه، وقد يتعدى ضرر فساده إلى إخوانه وأولاده، فيكون عضوًا فاسدًا في المجتمع، ومن يهن يسهل عليه الهوان.
وأما الطيرة فقد أخبر النبي ﷺ بأنها من أمر الجاهلية، وأنها لا ترد مسلمًا عن حاجته وسفره، فقال: ««مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ، فَقَدْ أَشْرَكَ». وقال: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»»[408]. وقال: ««ثلاثٌ لَمْ تَسْلَم مِنْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ: الْحَسَدُ، وَالظَّنُّ، وَالطِّيَرَةُ، أَلَا أُنْبِّئُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْهَا؟» قالوا: أنبئنا. فقال: «إِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ»[409].
فمن الطيرة المذمومة تشاؤهم بشهر صفر، فلا يتزوجون فيه ولا يسافرون، وهو شيء يجدونه في نفوسهم بدون أن يكون له أصل من الأمر الواقع، فإن شهر صفر هو كسائر الشهور، يحدث الله فيه الخير والنصر، وينزل فيه الوحي، ويستجيب فيه الدعاء، فالتشاؤم به هو من الشرك المنهي عنه، ومثله تشاؤمهم بيوم الأربعاء، ويقولون: إنه يوم نحس مستمر، وإنه اليوم الذي نزلت فيه الريح على عاد. فهم لا يسافرون فيه ولا يتزوجون، ويوم الأربعاء هو كسائر أيام الدنيا، لا شر فيه بذاته ولا خير، ومثله تشاؤمهم بما بين العيدين، فلا يتزوجون فيه، وأصل هذا التشاؤم أنه وقع طاعون زمن الجاهلية، فمات به عدد من العرائس، فكانوا يتشاءمون به، ولما سمعت عائشة ذلك قالت: إن رسول الله ﷺ تزوجني في شوال، وبنى بي في شوال، فأيّكن أحظى عنده مني[410]. تريد بهذا قطع دابر الطيرة والتشاؤم، بالأيام والشهور والأزمنة.
وأما تعليق التمائم، وتسمى التولة، وتسمى العزيمة، وتسمى العوذة، والحرز، ويسميها العوام بالجامعة، يعلقونها على الأولاد وعلى الأجساد، وعلى الدواب عن الجان، وعين الإنسان، وغالب من يعلقها بها ويتعلق هم الهمج السذج من العوام، وضعفة العقول والأديان، وينصرف قلبه عن ربه إليها، بحيث يعتقد أنها هي النافعة الضارة.
يذهبون إلى من يعرف بكتب الحرز والعزايم، فيطلبون منه حرزًا يتحرزون به، فيلف لهم قرطاسًا سوادًا في بياض، وينفث فيه من ريقه النجس، ثم يدفعه إليهم ويأمرهم بالتحفظ عليه كله، حرصًا منه على دريهمات يسحبها منهم، وهو يعلم من نفسه أنه خدعهم.
أراد إحراز قوت كيف أمكنه
فظل يكتب للنسوان أحرازًا
وما شَعَر هؤلاء الذين يعلقون الحروز على أجسادهم وعلى أولادهم أنهم قد استعجلوا وقوع البلاء والشر، وفنون الجنون والضر عليهم، ثم يصابون بدعوة رسول الله ﷺ عليهم حيث قال: ««مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ» -أي لا أتم الله له أمره- «وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ»[411]أي لا يجعله في دعة وسكون بل في قلق واضطراب، ولما رأى النبي ﷺ على رجل تعليقة فقال «مَا هَذَا؟» قال: علقتها من الواهنة. فقال: «انْزِعْهَا فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا، وَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا»[412]. ولهذا ورد: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة لكونه أعتقه من عبودية الشيطان إلى عبادة الرحمن.
وهذا التعليق للحروز، يوقع في الشرك، لقول النبي ﷺ: «من علق شيئًا فقد أشرك»[413]. والنهي يشمل تعليق القرآن وغير القرآن.
ولما رأى ابن مسعود على زوجته خيطًا فقال: « ما هذا» ، قالت: هذا خيط رقي لي فيه، إذا علقته سكنت عيني، وإذا حللته قذفت عيني. فقطعه ابن مسعود. ثم قال: إنكم يا آل مسعود لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ««من علق شيئًا فقد أشرك» إنما يكفيك أن تقولي: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ البَأسَ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»»[414] وقد ابتدع الناس في هذا الزمان تعليق آية الكرسي عليهم في صدورهم، بحيث يذهبّونها -أي يجعلون فيها ذهبًا وسلسلة من ذهب- ثم يعلقونها في رقابهم كتعليق المرأة للقلادة على حد سواء، وهو عمل محرم، من وجوه عديدة:
أحدها: التشبه بالنساء في لبس القلادة، وقد لعن رسول الله ﷺ المتشبهين من الرجال بالنساء[415].
والأمر الثاني: وضع الذهب فيها، والذهب محرم على الرجال، قليله وكثيره، سواء كان في الساعة، أو في الأزرة، أو في الخاتم.
ولما رأى النبي ﷺ خاتمًا من ذهب طرحه بالأرض بشدة، ثم قال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ». فلما انصرف رسول الله ﷺ وقيل لصاحب الخاتم: خذ خاتمك. فقال: والله لا أرفعه عن الأرض، وقد طرحه رسول الله ﷺ فيها[416]. من شدة استجابته للحق.
والأمر الثالث: الاستهانة بالقرآن، حيث يدخل بهذا التعليق في المراحيض، والمغتسلات، وسائر الأماكن القذرة، والله سبحانه قد أوجب تكريم القرآن واحترامه، غير أن بعض العلماء قد أجاز كشيخ الإسلام ابن تيمية الذهب في السلاح، كما أجازوا تركيب السن -أي الضرس- من ذهب، أو الأنف من ذهب، حتى لو أغنى عنه غيره، أما الفضة فموسع في إباحتها، قليلها وكثيرها.
فالمؤمنون بالله لا يعلقون على أجسادهم، ولا على أولادهم شيئًا من الحروز والعزايم والجامعات، وإنما يلجؤون إلى الأوراد والدعوات الشرعية فهي الحصن الحصين، والجانب المنيع، فيقولون: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»[417]، ويقولون: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ»[418] ويقولون: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ»[419]. «عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»[420]، ويقولون: تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء، واعتصمت بربي ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله. أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، وأعوذ بأسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شر كل ذي شر لا نطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي صراط مستقيم.
وقد أنزل الله المعوذتين، أي: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ١﴾ و﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ١﴾ للاستعاذة بهما من شر كل ذي شر.
وكان النبي ﷺ ينفث بهما في كفيه، ثم يمسح بكفيه ما استطاع من جسده.
فهذه هي الحصن الحصين، فاحفظ الله يحفظك، واحفظه تجده تجاهك.
نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته.
[395] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [396] رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة بتمامه. [397] رواه مسلم عن أبي هريرة. [398] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [399] أخرجه النسائي من حديث الشريد بن سويد الثقفي. [400] أخرجه البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف. [401] أخرجه البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس. [402] القَرَف: القرب من الوباء، والمعنى أن الدخول في أرض بها وباء من مداناة المرض. [403] أخرجه أبو داود من حديث من سمع فروة بن مُسَيْك. [404] أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: «مَوْت الْفَوَات». [405] الحديث بتمامه رواه مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. [406] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي خزامة. [407] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث أسامة بن شريك. [408] حديث صحيح عن عروة بن عامر رواه أبو داود بإسناد صحيح. [409] رواه عبد الرحمن بن عمر الأصفهاني عن الحسن البصري مرسلاً. [410] أخرجه أبو عوانة من حديث عائشة. [411] رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد، والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عقبة بن عامر. [412] رواه أحمد عن عمران بن حصين. [413] أخرجه الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «عَلَّقَ تَمِيمَةً». [414] متفق عليه من حديث عائشة، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود. [415] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عباس. [416] رواه مسلم بتمامه عن ابن عباس. [417] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [418] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [419] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن عمرو. [420] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن عباس.
هو أن يصلي ركعتين على صفة صلاة العيد؛ يكبر في الركعة الأولى ستة تكبيرات زوائد بعد تكبيرة الإحرام، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات زوائد، ثم يقول:
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، المؤمَّل لكشف كل كرب شديد، المرجو للإحسان والإفضال والمزيد، لا إله إلا الله، لا راحم سواه للعبيد، سبحان فارج الكربات، سبحان مجيب الدعوات، سبحان مغيث اللهفات، سبحان القائم بأرزاق جميع المخلوقات في البراري والبحار والفلوات، سبحان من عم بستره ورزقه حتى العصاة.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله، أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لطلب السقيا من الرب الكريم الحميد، وأن من حكمة أحكم الحاكمين، أنه سبحانه يبتلي عباده المؤمنين بالجدب، والجهد، والسنين ليستدعي بذلك إقبال قلوبهم إليه، فينطرحوا بين يديه، فيدعونه متضرعين مخلصين له الدين، ويعلمون علم اليقين أنهم فقراء إلى الله في كل حالاتهم، وأن الله هو الغني الحميد.
وقد ابتلي الناس بالجدب زمن النبي ﷺ، وزمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فكانوا يفزعون إلى ربهم، فيصلون له، ويدعونه متضرعين ليكشف ما بهم، لكون الدعاء والاستغفار يدفع البلاء ويرفعه، ﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى﴾ [هود: 3]. ﴿وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ﴾ [هود: 52]. ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا ١١﴾ [نوح: 10-11]. والله يحب أن يسأل، ويحب الملحين بالدعاء، ومن لم يسأل الله يغضب عليه، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ﴾ [غافر: 60]. فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
وصلاة الاستسقاء هي صلاة دعاء وتضرع، سنها رسول الله ﷺ وفعلها الأنبياء قبله، فروى الإمام أحمد، وصححه الحاكم، أن رسول الله ﷺ قال: «خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ سُلَيْمَانُ عليه السلام يَسْتَسْقِي، فَرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا، رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إِلَى السَّمَاءِ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاكَ وَرَحْمَتِكَ، فَقَالَ: ارْجِعُوْا فَقَدْ سُقِيْتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ»[421]. إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، قال علي رضي الله عنه: وايم الله ما كان قوم في رغد من العيش، فزال عنهم ذلك، إلا بخطيئة اجترحوها. ولو أن الناس حين تحل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربهم في رقة من قلوبهم، وصدق من نياتهم، لرد لهم كل ما كان شاردًا، وأصلح لهم ما كان فاسدًا ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٩٦﴾ [الأعراف: 96]. ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٤١﴾ [الروم: 41].
والاستسقاء هو طلب السقيا من الله، لكون السين والتاء للطلب، وقد جاء الصحابة إلى رسول الله ﷺ وقالوا يا رسول الله: «أجدبت الأرض، وقحط المطر، فاستسقي لنا ربك. فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فصلى بهم ركعتين، ثم خطب الناس فقال: « إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم» ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث والرحمة، ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، واحي بلدك الميت، اللهم إنا خلق من خلقك. ليس بنا غنى عن سقياك ورحمتك. اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين»[422].
ثم يقلب رداءه ويتوجه إلى جهة القبلة ويدعو.
[421] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي صديق الناجي. [422] أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها بلفظ مقارب.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وتنزل البركات.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦﴾ [آلعمران: 134-136].
فأمر الله عباده بأن يبادروا ويسارعوا إلى الأعمال التي تؤهلهم للمغفرة والرحمة، والفوز بالجنة، كما مضى قبلهم للأنبياء والأولياء أمثالها، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90].
وكما وصف الله عباده الصالحين، فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ ٦٠ أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ ٦١﴾ [المؤمنون: 60-61].
وقد سألت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يسرقون ويزنون. قال: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُوْنَ أَلَّا يقبل مِنْهُمْ»[423]. أولئك الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة؛ لأن المؤمن هو من جمع إحسانًا وإشفاقًا، والمنافق هو من جمع إساءة وأمنًا. ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩﴾ [الأعراف: 99].
فالمسارعة إلى وسائل المغفرة والرحمة، والفوز بالجنة، هي بمعنى المسابقة التي أمر الله بها بقوله: ﴿فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].
وقال: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١﴾ [الواقعة: 10-11]. أي السابقون إلى الخيرات، والأعمال الصالحات، هم السابقون إلى الجنات، والسابقون إلى الصلوات والجمعات، هم المقربون إلى الله في الجنات. ولهذا قال العلماء: إن الناس يكونون في القرب من الرب على قدر قربهم من الإمام يوم الجمعة.
وقال الحسن: إن الله سبحانه جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك، في اليوم الذي يفوز فيه العاملون، ويخسر في المبطلون: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾ [المطففين: 26].
وروى الحاكم في صحيحه عن جابر قال: سمعت النبي ﷺ وهو يعظ رجلاً ويقول له: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ». فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار، إلا الجنة أو النار.
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى
صريع الأماني عن قريب ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده
سوى جنة أو حر نار تضرم
فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة
وعدلك مقبول وصرفك قيم
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا
ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسـرعًا فالسيل خلفك مسـرع
وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته
وقوله: ﴿أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ﴾ يعني أن الله سبحانه خلق الجنة كرامة ونعمة لمن أطاعه واتقاه، كما خلق النار عقابًا وعذابًا لمن خالف أمره وعصاه، ولما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي. قالت: قد أفلح المؤمنون. فقال: طوبى لك منزل الملوك.
والجنة هي سلعة الله الغالية، لا تنال إلا بالأعمال الصالحة، وقد هيئت وأعدت للمتقين، الذين أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، واجتنبوا المحرمات، وأنفقوا في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس؛ لأن الله سبحانه يقول: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النحل: 32].
والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ [النساء: 131]. وحقيقتها تنحصر في فعل المأمورات، واجتناب المحرمات، خوفًا من عقاب الله، ورجاء ثوابه. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى بقيام الليل، وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى هي أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، وإن زدت على ذلك فهو خير إلى خير. فالمتقون يجعلون أعمالهم الصالحة بمثابة الوقاية دون عقاب الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «اتقوا النار». ثم أعرض وأشاح، ثم قال: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»[424]. وكان النبي ﷺ يخطب، فسأله رجل. فقال: يا رسول الله من أكرم الناس؟ فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ لِلرَّبِّ وَأَوْصَلِهِمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»[425]. وقد قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
﴿...وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3]. ﴿...وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَئَِّاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا٥﴾ [الطلاق: 4-5].
ثم شرع سبحانه في أوصاف المتقين ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ﴾ أي: ينفقون، ويتصدقون في حالة اليسر والعسر، لرغبتهم في الثواب، وخوفهم من العقاب ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠﴾ [الإنسان: 8-10].
إنهم لم يقولوا هذا الكلام حين أطعموا الطعام، ولكن الله علمه من قلوبهم، فنطق به على ألسنتهم، وأفضل الصدقة جهد المُقِلّ، وابدأ بمن تعول.
وروى البخاري عن أبي مسعود الأنصاري قال: «حث النبي ﷺ على الصدقة، ولم يكن عندنا مال. قال: فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق. وقد سبق درهم من فقير مئة درهم من غني. وفي البخاري قال رجل للنبي ﷺ: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَتَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»». وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ».
ثم قال: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ [آلعمران: 134].
وهذه أيضًا من صفات المتقين الذين أعد الله لهم جنات النعيم أنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، والله عفو، يحب العفو، فهم يحتسبون إسقاط حقهم عفوًا منهم عنه، مع قدرتهم على الانتصار. وفي كظم الغيظ فضل عظيم، وهو ينبئ عن رزانة العقل، والرغبة في الخير. ولهذا يقال: ليس الحلم في حال الرضاء إنما الحلم في حين الغضب. ولاسيما للصائم، فإنه يستحب له متى غاضبه أحد أو شتمه أن يلجم نفسه بلجام التقوى، ويستمسك من الورع بالعروة الوثقى، وليقل: إني صائم، كبحًا لنفسه من التشفي والانتقام، وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان؛ لأن الصوم جنة يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام، ورديء الكلام. ومن كان له الصوم جُنة في الدنيا، كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
وقد سأل رجل النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله أَوْصِنِي. قال: «لَا تَغْضَبْ» فردد مرارًا يقول: «لَا تَغْضَبْ»»[426]؛ لأن الغضب يتفرع عنه كل شر.
وقد قال النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: «لَا، لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»[427]. ولهذا يستحب للرجل إذا غضب أن يتوضأ، أو يغسل وجهه بالماء؛ لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء يطفئ النار. وهو مجرب لتسكين الغضب، ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ لأن الله سبحانه كتب الإحسان على كل شيء، على الناس فيما بينهم، وحتى الإحسان مع البهائم، ففي البخاري: «بينما كلب يلهث من العطش إذ نزعت له امرأة بغي موقها فسقته، فشكر الله لها ذلك، فغفر لها»[428] «قالوا يا رسول الله: أفلنا في البهائم أجر؟ قال: «نَعَمْ، فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» والنفوس مجبولة على محبة من أحسنإليها. وقال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا»». وفي رواية البخاري: «حَبَسَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ»[429].
ثم قال ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥﴾ [آلعمران: 135].
فهذه بعض أوصاف المتقين، وأنهم إذا أصاب أحدهم ذنبًا على حين غفلة، أو غلبته شهوة، أو غضب، فإنهم يفرون إلى الله، ويتوبوون إليه، ويستغفرونه من ذنبهم، ويندمون على ما وقع منهم، إذ ليس من شرط المتقين العصمة. والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب. وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ ٢٠٢﴾ [الأعراف: 201-202].
فأخبر الله عن الذين اتقوا أنه إن وقع من أحدهم ذنب أبصر الخروج منه، بالتوبة عنه، وقد قيل:
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألـمـا
وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على أن لا يعود، وإن كانت عن مظالم مالية فيردها إلى أربابها؛ لأنها من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئًا.
وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار على الذنوب، وعدم التوبة منها، كما في الحديث «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ». وما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة، كما ثبت بذلك الحديث[430]. لكنه من تاب من الذنب واستغفر منه، وقلبه متعلق بمحبته، وعازم على معاودته، فإن هذه توبة المستهزئ بربه، فهي توبة الكذابين. ﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ﴾ [النساء: 18].
ثم قال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦﴾ [آلعمران: 136]. إن الله سبحانه بدأ هذه الآيات بالمسارعة إلى المغفرة والفوز بالجنة، وختمها بالمغفرة والفوز بالجنة، وإن أعظم ما يهتم به العاقل هو سؤال المغفرة والفوز بالجنة، والعمل لينال ذلك، بأن يسعى لها سعيها وهو مؤمن. وقد قال رجل للنبي ﷺ: «إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ: أما إني أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار. قال رسول الله ﷺ: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»»[431].
وإذا أراد الله بعبده خيرًا وضع عليه كنفه وستره، فيقرره بذنوبه، ثم يقول: إني قد غفرتها لك.
وسيد الاستغفار هو أن تقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ»[432].
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[423] أخرجه أبو يعلى من حديث عائشة. [424] رواه مسلم عن عدي بن حاتم. [425] رواه أحمد والطبراني في الكبير عن درة بنت أبي لهب بإسناد حسن. [426] رواه البخاري عن أبي هريرة. [427] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [428] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [429] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [430] رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر الصديق. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بقوي. [431] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [432] أخرجه البخاري عن شداد بن أوس.
الحمد لله ونستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم، فكل يوم من الأيام قد أوجب الله فيه وظيفة من وظائف طاعاته، ويتقرب بها إليه. وفيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه. فالسعيد من اغتنم مرّ الليالي والساعات، وتقرب إلى الله بما فيها من وظائف الطاعات.
إن كل شهر يستهله الإنسان، فإنه يدنيه من أجله، ويقربه من آخرته، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله، وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات. وكل ما هو آت آت.
﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠﴾ [غافر: 39-40].
فسمى الله الدنيا متاعًا. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38].
يؤتى يوم القيامة بأطول الناس أعمارًا في الدنيا، من المترفين، التاركين للطاعات المرتكبين للمنكرات، فيُصبغ أحدهم في النار صبغة. ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب. فينسى نعيم الدنيا عند أول مس من العذاب. ويقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: بئس ما اتجرّت في يوم، أو بعض يوم.
فهؤلاء الذين صرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم. ولم يزل ذلك دأبهم، حتى يخرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، فيجتمع عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت، وهول المطلع. فيندم أحدهم على تفريطه حيت لا ينفعه الندم، ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦﴾ [الفجر: 24-26]. ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ﴾ [الحج: 11].
أما المؤمن الذي يربح عمره، ويتزود فيه من صالح عمله، فيتزود من دنياه لآخرته، فإنه لن يأسف على الدنيا عند ذهابه منها، ولن يجزع من الموت عند نزوله به، ولن يخاف ولن يحزن على إقباله على الآخرة؛ لأن أعماله تؤنسه، وصنائع الإحسان تقي مصارع السوء.
ولذا يقال له عند الاحتضار على سبيل العطف واللطف ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾ [الفجر: 27-30]. - ولهذا من الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ»[433]. وهذا معنى قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح ««مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قالوا: يا رسول الله كلنا يكره الموت. قال: «ليس الأمر كذلك. ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة -أي في حالة الاحتضار- فإن كان من أهل الخير بُشّر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بُشّر بالشر، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه»»[434].
ولما احتضر معاذ بن جبل، وكان صائمًا، قال لجاريته: انظري هل غربت الشمس؟ فلما أخبرته أنها قد غربت. تناول شيئًا، فأفطر عليه، ثم قال: مرحبًا بالموت، مرحبًا بطارق جاء على فاقة. لا أفلح والله من ندم على الدنيا. اللهم إنك تعلم أنني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، وإنما أحببت البقاء في الدنيا، لقيام الليل، وصيام النهار، ومزاحمة العلماء بالرُكب، عند حلق الذكر. آهًا إلى ذلك. ثم قضى، وتوفي رضي الله عنه.
إن هذا الموت الذي تخافونه، والذي تفزعون منه، ليس هو فناء أبدًا، ولكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، وإبدال حياة بحياة أخرى، هي أدوم وأبقى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى﴾ [النجم: 31].
إن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، ولم يخلق الله الإنسان إلا ليعمل ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين- أي الموت- يقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾ [الحجر: 99]. وخلقت الدنيا بما فيها من الفواكه والخيرات والبركات، كرامة للإنسان، ليستعين بها على طاعة ربه، ويتمتع بها في دنياه ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ﴾ [سبأ: 15]. ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١﴾ [طه: 81]. والطغيان هو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان. بأن يستعين بنعم الله على معاصيه، أو ينفقها فيما يسخطه ولا يرضيه.
فالدنيا دار ابتلاء وامتحان وتمحيص للأعمال، كما أنها محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين، وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها، فأعجبه، قال: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ»[435]. يشير بهذا إلى أن الدنيا عيشها نكد، وصفوها كدر، حلالها حساب وحرامها عقاب، وأن العيش الصافي هو ما يلقاه المؤمنون في الجنة حين يقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35].
خذوا أهبة في الزاد فالموت كامن
فما عنه من منج ولا عنه عُندد[436]
فما داركم هذي بدار إقامة
ولكنها دار ابتلاء وتزود
أما جاءكم من ربكم وتزودوا
فما عذر من وافاه غير مزود
ينادي لسان الحال جدوا لترحلوا
عن المنزل الغث الكثير التنكد
أتاك نذير الشيب بالسقم مخبرًا
بأنك تتلو القوم في اليوم أو غد
وفي صحيح الحاكم، عن جابر قال: سمعت النبي ﷺ وهو يعظ رجلاً ويقول: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[437] وفي رواية: «فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار».
فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[433] أخرجه النسائي من حديث عمار بن ياسر. [434] رواه مسلم عن عائشة وعن أبي هريرة. [435] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [436] ما لي عنه عندُد وعندَد. أي بد. [437] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث عمرو بن ميمون.
الحمد لله الذي علا فوق جميع مخلوقاته وارتفع، أعطى ومنع، وخفض ورفع، أحمده حمد من تاب إليه ورجع، وأشهد أن لا إله إلا الله يجيب المضطر ويسمع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الثقلين أجمع، اللهم صل على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، تنصروا وترزقوا وتجبروا، واعلموا أنكم في ممر الليل والنهار في أعمار منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، والدنيا مزرعة الآخرة، من زرع فيها خيرًا حصد خيرًا، ومن زرع فيها شرًّا حصد شرًّا. ولكل زارع ما زرع، وغدًا توفى النفوس ما عملت، ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ [البقرة: 281].
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا عل فرائض ربكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١﴾ [الأنفال: 1].
﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر: 10]. ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٨٢﴾ [الصافات: 180-182].
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، له ملك السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملك الحق المبين، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، أحمده سبحانه حمد أولي البصائر والنهى، وأشهد أن لا إله إلا الله عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى كافة التقوى، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى، وسلم تسيلمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى، فقد طال إعراضكم عن النبأ العظيم تغافلاً وجهلاً، وكثر اشتغالكم بالعرض الفاني الأدنى، فصار إقبالكم على ما يصد عن الصراط السوي والهدى، أما أيقظكم ما رأيتموه من حوادث القدر والقضاء؟! أما وعظكم ما سمعتموه من أخبار من كذب وعصى وترك عبادة ربه وبخل بما آتاه الله من فضله ولم يرد إلا الحياة الدنيا؟! كيف وجدوا عقوبات الذنوب؟ وكيف الحال بمن بغى وطغى؟ بلغتهم دعوة الرسل فلم يجيبوا، ورفعت إليهم المواعظ فلم يلتفتوا ولم ينيبوا، فجاءهم أمر الله بغتة، فأصيبوا. ﴿هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا﴾ [مريم: 9]. ﴿فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥٢﴾ [النمل: 52]. فاحذروا أن تكونوا أمثالهم فيصيبكم ما أصابهم فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا عل فرائض ربكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1].
﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
و﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢﴾ [الصافات: 180-182].
الحمد لله الذي هو بكل لسان محمود، وفي كل مكان معبود. وعند كل شأن مقصود، أحمده، منه بدأ الحمد وإليه يعود، وأشكره وأسأله من فضله الممدود، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إخلاصها للدين عمود، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أجل حامد من الخلق ومحمود، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه الركع السجود، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا جامعًا للدنيا وللأعمال الصالحة لم يجمع، ويا سامعًا للمواعظ وكأنه لم يسمع، إلى كم تتمادى في القبيح لا تبقي ولا تدع، إلى كم تتشاغل بدنياك عن الصلوات والمساجد والجمع، أما علموا أن من ترك الصلاة عامدًا كان بذلك كافرًا، وأن من ترك جمعة اسود ثلث قلبه، فكيف بمن ترك ثلاث جمع، ومن لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر فهو بعيد من الله، ولو سجد وركع، ومن شرب المسكرات قسا قلبه، وقل الحياء من وجهه وانتزع، ومن شهد شهادة لا يعلمها، أو كتم شهادة يعلمها، فكأن ما بينه وبين الله قد انقطع، ومن قتل مسلمًا، أو أعان على قتله، أعد الله له في جهنم أشر البقع، فما حيلتك أيها العاصي في ذلك المجمع، إذا تجلى الجبار واطلع، ونادى المنادي: يا أهل الموقف أجمع، أين من أغلق الباب وأسبل الحجاب وترك الصلوات، وشرب المسكرات، وارتكب الفواحش والبدع؟ أما علمت أن الله عليك قد اطلع؟
فبادروا عباد الله بفكاك أنفسكم بالتوبة والأعمال الصالحة قبل أن يأتي من الله ما لا يدفع، يوم لا مال ينفع، ولا ولد في والده يشفع، إلا من أتى الله بقلب سليم يخشع.
فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1].
﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٩٠﴾ [النحل: 90].
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.
الحمد لله اللطيف، الذي بلطفه تنكشف الشدائد، الرؤوف الذي بعطفه تتواصل النعم والفوائد، وبالقيام بأوامره ونواهيه تزكو النفوس وتطهر عن درن الرذائل.
وأشهد أن لا إله إلا الله الذي له في كل شيء آية تدل على أنه إله واحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله، قد غلب على النفوس الطمع فأهلكها، واستولت على القلوب كثرة الذنوب فسودتها، فأجلوا سوادها بالتوبة والاستغفار، والمحافظة على فرائض الليل والنهار، وأصلحوا فساد أعمالكم، يصلح الله أحوالكم، وصلوا أرحامكم يوسع الله في أرزاقكم، ويبارك لكم في أعماركم وأموالكم، وأحسنوا إلى ضعفائكم، يرفع الله في درجاتكم، فمن رحم رُحم، ومن وصل وُصل، ومن ظلم قصم، ومن أرخى عنان شهوته في المحرمات، وشرب المسكرات قد خسر وندم، ومن حافظ على الصلوات وأدى الزكاة، قد ربح وغنم، واجتنبوا البغي والعدوان، والحقد والحسد، واعلموا أن الحسود لا يسود، ولا يناله من حسده إلا الهم والغم، والكمد والنكد، وتيقنوا أن كل إناء ينضح بما فيه، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع لا شك فيه، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن ضار ضار الله به، ومن شق شق الله عليه، ومن قام لله فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو منصور، ومن سكت وداهن فهو مخذول، وكل امرئ مجازى بعمله يوم النشور.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.
الحمد لله الكريم المنّان، خلق الإنسان من عدم، ثم قال له كن فكان، كل يوم هو في شان، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله سبحانه كتب على الناس في الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء. ولا بقاء لما كتب عليه الفناء. ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩﴾ [غافر: 39]. فسمى الله الدنيا متاعًا. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه. مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]. وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [آلعمران: 185].
فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها. وهو أدل دليل على زوالها. فتتبدل صحتها بالسقم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، وعمارها بالخراب، واجتماع أهلها بفرقة الأحباب. وكل ما فوق التراب تراب، وهذا الموت الذي يفزع الناس منه ليس هو فناء أبدًا، ولكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا. فهذا الذي يكره الموت لكراهة لقاء ربه لسوء ما قدمه، ويجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت، وحسرة الفوت، وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم. ويقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦﴾ [الفجر: 24-26].
إن الناس في الدنيا بمثابة الغرباء الذين يعرفون بأن لهم دارًا غير دار الدنيا، فهم يجمعون لها، ويعملون عملهم في تمهيد النقلة إليها؛ لأن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه. فالمحسن في عمله يحب الموت لمحبته للقاء ربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. وقد قال الصحابة: يا رسول الله، كلنا يكره الموت. قال رسول الله ﷺ: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بُشر بالخير، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بُشر بالشر، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه»[438].
مكث النبي ﷺ أربعين سنة من عمره لم يوح إليه بشيء كما قال في معرض الاحتجاج على قومه ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يونس: 16]. حتى فاجأه الحق، ونزل عليه الوحي بعد الأربعين، وهو بغار حراء، فأنزل عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5]. وهذا هو زمن البعثة الذي امتن الله على عباده المؤمنين بها فقال: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ﴾ [آلعمران: 164]. ثم استمر الوحي وتتابع، فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة ظهر له أمارات اقتراب أجله وارتحاله من الدنيا إلى لقاء ربه. فحج بالناس تلك السنة، وعلمهم مناسك حجهم، ونادى في الناس أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويعمل مثل عمله.
وأنزل الله عليه وهو واقف بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]. وليس بعد التمام إلا النقص
إذا تم شيء بدا نقصه
توقّع زوالا إذا قيل تم
وفي يوم عرفة أشار في خطبته إلى اقتراب أجله فقال: «لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[439]. فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها، وخطبهم الخطبة العظيمة فقال فيها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»[440].
ثم ذكر تحريم الربا، وحثهم على الإحسان إلى النساء، وعلى التمسك بكتاب الله.
وفي أواسط أيام التشريق أنزل الله عليه ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [النصر: 1-3]. ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ كما فسرها بذلك ابن عباس. ومعناه إذا جاء نصر الله يا محمد، والفتح - يعني فتح مكة -، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، فإنه حينئذ قد اقترب أجلك، فتأهب للقائنا. وكان العرب قد تحينوا بإسلامهم فتح مكة، ويقولون إن كان نبيًّا، فسيفتح مكة، ويظهر على قريش، فلما فتحها عام ثمانية، أقبل الناس إلى الدخول في الإسلام طائعين مختارين؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ فكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه السورة لا يقوم ولا يقعد إلا قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي». ولما وصل إلى المدينة خطب الناس فقال في خطبته: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» فقام أبو بكر، فاعتنقه، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال بعض الصحابة: فعجبنا من أبي بكر كيف يخبر رسول الله ﷺ عن رجل خيره الله بين أن يعطيه من زهرة الدنيا وزينتها، وبين ما عند الله، وأبو بكر يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا؟! فكان رسول الله ﷺ هو المخيّر بين البقاء في زهرة الدنيا، وبين ما عند الله. وكان أبو بكر هو أعلمنا به[441].
كان رسول الله ﷺ يعتكف كل سنة في العشر الأخيرة من رمضان، فاعتكف تلك السنة عشرين يومًا. وكان يعرض القرآن على جبريل كل سنة مرة، فعرضه تلك السنة مرتين. وفي آخر شهر صفر في السنة العاشرة من الهجرة ابتدأ الوجع برسول الله ﷺ، فدخل على عائشة وهي مضطجعة على حصير، وهي تشتكي رأسها وتقول: وارأساه!! فقال لها: ««وَدِدْتُ أَنْ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ». فقالت كأني بك في ذلك اليوم وأنت عروس ببعض نسائك. فقال لها: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ!»»[442]. ثم أخذ يتزايد به وجعه، فدخلت عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها فسارّها، فبكت، ثم سارّها مرة أخرى، فضحكت، فقيل لها في ذلك. فقالت: أمّا إذْ سارّني فبكيت، فإنه قال: «ما أرى إلا أني سأموت من وجعي هذا، فاصبري، واحتسبي»، فبكيت عند ذلك. وأما إذْ سارِّني فضحكت، فإنه قال لي: «إنك أول أهلي لحوقًا بي، فضحكت»[443]. فتوفيت رضي الله عنها بعد أبيها بأربعة أشهر.
وكان رسول الله ﷺ يقول في مرضه: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»[444]. وقيل له: إن الناس ينتظرونك فقال: «مُرُوْا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلَّ بِالنَّاسِ، يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[445]. ولما كشف رسول الله ﷺ ستر الحجرة، ورأى الناس صفوفًا يصلون، اشتاق إلى الخروج إليهم ليصلي معهم. فدعا عليًّا والعباس، فأمرهما أن يحملاه. فخرجا به يحملانه ورجلاه تخطان بالأرض. فوضعاه جنب أبي بكر. حتى كاد الناس أن يفتتنوا في صلاتهم من الفرح برؤيته، ثم رجع إلى البيت فلم يخرج حتى توفي ﷺ.
ووصى رسول الله ﷺ في مرضه بثلاث فقال: «أَنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بَمَا كُنْتُ أُجِيزُهُ، وَأَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»[446]. وقال: «لَا تَبْقَى خَوْخَةٌ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ»[447]. والخوخة هي الفرجة التي يدخل إلى المسجد من جهتها. وكان رسول الله يقسم لنسائه في مرضه، فيأمر من يحمله إلى المرأة في يومها ونوبتها حرصًا منه على العدل والمساواة. وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟»[448] حرصًا على أن يكون عند عائشة.
ولما علم نساؤه أنه يحب أن يكون عند عائشة وقد اشتد به المرض أذنّ له في ذلك. فبقي في بيت عائشة، فكانت تقول: توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري[449]. وأخذ يعالج من شدة النزاع حتى قالت عائشة: ما كنت أغبط أحدًا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من رسول الله ﷺ. وكان يمسح العرق عن وجهه ويقول: «إن للموت لسكرات، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»[450]. فتوفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين سنة. وهذا هو معترك المنايا الذي قال فيه النبي ﷺ: «حَصَادُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّيْنَ إِلَى السَّبْعِيْنَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ»[451] فتوفي رسول الله ﷺ في هذا المعترك.
وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة. وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة. وتوفي عليّ وهو ابن ثلاث وستين سنة. رضي الله عنهم أجمعين. ولما توفي رسول الله ﷺ اضطرب الناس اضطرابًا شديدًا، فبعضهم يقول: توفي. وبعضهم يقول: لم يمت. وكان أبو بكر غائبًا في عوالي المدينة عند امرأة من نسائه، فلما علم بالخبر جاء فكشف عن وجه رسول الله ﷺ وقال: ما أطيبك حيًّا وميتًا! وقبله، ثم خرج إلى المسجد والناس فيه أوزاع متفرقين يبكون. فصعد المنبر، وأقبل الناس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت. ثم قرأ ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤﴾ [آلعمران: 144]. قال عمر: فلما تلا هذه الآية انقطع لها ظهري! حتى كأني لم أسمع بها قبل اليوم! وأيقنت أن رسول الله ﷺ قد مات، ولم يبق في المدينة رجل ولا امرأة إلا ويتلو هذه الآية. وكان رسول الله ﷺ قد جهز جيشًا وأمر عليهم أسامة بن زيد. وكان عمر بن الخطاب في جملة هذا الجيش. فنزلوا بالجرف بالقرب من المدينة، ينتظرون حالة رسول الله ﷺ، وهل يبرأ من مرضه.
فلما توفي ووقع الاضطراب في المدينة، حيث ارتدت العرب عن الدين وقالوا: إنه لو كان نبيًّا لم يمت. فجعل الصحابة على سكك المدينة رجالاً يحرسونها. فلما اشتد الأمر، جاء الصحابة إلى أبي بكر، وطلبوا منه أن يرد إليهم جيش أسامة، ليتقووا به على ردع المرتدين. فقال أبو بكر: والله لا أحل لواء عقده رسول الله ﷺ، حتى ولو رأيت نساء رسول الله ﷺ تخطف من بين أيدينا. فقالوا: أما إذا أبيت فأذن لعمر أن يرجع إلينا. فقال: أما عمر وحده فلا بأس. فمضى أسامة بجيشه في سبيله، فكان في جيشه البركة والعز للمسلمين. فكانوا لا يمرون بأحد من المرتدين إلا ردوهم إلى دين الإسلام.
قال أنس رضي الله عنه: لما مات رسول الله ﷺ كنا كالغنم المُطيرة، فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة.
ثم إن جماعة الصحابة اشتغلوا بعقد البيعة حرصًا على حفظ البيضة، وجمع شمل المسلمين، فبايعوا أبا بكر طائعين مختارين، وقالوا: رضيك رسول الله ﷺ لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟ وكان رسول الله ﷺ قد قال لهم: «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[452]. وفي اليوم الثالث من موته أخذوا يشتغلون في تجهيزه، فتولى تغسيله عليّ والعباس رضي الله عنهما، وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه[453]. لكون المرأة يجوز لها أن تغسل زوجها، كما يجوز للزوج أن يغسل امرأته، وقد غسلت أم سليم زوجها أبا بكر، كما غسل علي رضي الله عنه زوجته فاطمة.
وبعد الفراغ من تجهيزه قدموه للصلاة عليه، فصلى عليه الرجال. ثم صلى عليه الغلمان. ثم صلى عليه النساء، وكانوا يصلون عليه أفرادًا، وكان قد قال لهم: «إنه لم يمت نبي إلا دفن في المكان الذي توفي فيه»[454]. فدفن رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيت عائشة، ثم توفي أبو بكر بعده فدفن بجواره، ثم توفي عمر، فطلب من عائشة أن تسمح له، بأن يدفن مع صاحبيه، فسمحت له بذلك.
وكانت عائشة قد رأت في منامها أنه سقط في بيتها ثلاثة أقمار، فوقع تأويله بذلك، وجاءت التعزية: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. إن في الله عزاءً من كل فائت، وخلفًا من كل هالك. فبالله فثقوا، وإياه فارجو، فإنما المصاب من حرم الثواب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وقد قال النبي ﷺ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»[455].
فهذا ملخص وفاة رسول الله ﷺ، وقد أخبر أن أعمال أمته تعرض عليه، فيسر باستقامتهم، ومحافظتهم على طاعة ربهم، ويسوؤه مخالفتهم ومعصيتهم لربهم. ويقول: «إنكم تعرضون علي يوم القيامة فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجال الغريبة من الإبل في إبله، وإنه يؤخذ بأناس من أمتي ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول بعدًا وسحقًا لمن غير بعدي، أقول كما قال العبد الصالح: ﴿... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ١١٧ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ١١٨﴾ [المائدة: 117-118].»[456].
تم الكتاب بعون الله وتوفيقه والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
8/8/1399هـ
2/7/1979م
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
بدولة قطر
[438] رواه البخاري ومسلم. [439] من خطبته ﷺ في حجة الوداع. [440] متفق عليه من حديث جابر. [441] في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري. [442] أخرجه أحمد والنسائي من حديث عائشة. [443] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [444] أخرجه الإمام أحمد من حديث أم سلمة. [445] متفق عليه من حديث عائشة. [446] فتح الباري كتاب المغازي باب: مرض النبي ﷺ ووفاته. [447] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [448] متفق عليه من حديث عائشة. [449] رواه مسلم عن عائشة، وسحري: أي الرئة وما تعلق بها. [450] رواه مسلم. [451] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: «أَعْمَارُ». [452] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [453] أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة. [454] فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. [455] متفق عليه من حديث عائشة. [456] رواه مالك وأبو داود.
صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود
رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية
بدولة قطر
أحمد إليكم الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على رسوله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، وأحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
قد عدت من سفر لي، فوجدت كتابًا كريمًا من فضيلتكم، يتضمن ثناءً طيبًا على كتابي فتاوى معاصرة الذي قرأتم حوالي ربعه، ولا زلتم مستمرين في قراءته.
ولا ريب أني أعتز بشهادتكم للكتاب، وتقديركم له، وتنويهكم به، وإشادتكم بمؤلفه، فهي شهادة من عالم ثبت متمكن، يعرف ما يقول، ويعني ما يقول، كما لا أنسى شهادتكم من قبل لكتاب فقه الزكاة ومن قبله كتاب الحلال والحرام الذي سعدت برأيكم فيه منذ قدمت قطر من ثمانية عشر عامًا. وما سألتم عنه من حكم تارك الصلاة ستجدون جوابه - إن شاء الله - في موضعه من الكتاب.
وإذا كنت فضيلتك قد حسبتني من المتساهلين في أمر تارك الصلاة، فإن كثيرًا من قراء الكتاب صنفوني هنا في زمرة المتشددين، ولكني على أي حال أسير وراء الأدلة حيث لاحت لي أضواؤها.
وقد سعدت مع كتابك هذا بصورة من رسالتين جديدتين دبجهما قلمكم الكريم إحداهما عن جواز الإحرام من جدة للقادمين إليها بطريق الجو، مستندًا إلى أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية، كونها بطرق الناس، وأنها على مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز. وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق. إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء، أو في لجة البحر، الذي لا يمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب، والاغتسال للإحرام، والصلاة، وسائر ما يسنّ للإحرام. إذ هو مما تقتضيه الضرورة، وتوجبه المصلحة، ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسول ﷺ.
وقد أعجبني تعليقك على الحديث الشريف الذي ورد في المواقيت المعروفة «هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ»[457] بقولك:
ومن المعلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات - وهي محلقة في السماء - لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم لا لغة ولا عرفًا، لكون الإتيان هو الوصول إلى الشيء في محله... فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة.
وهذا تيسير عظيم على الناس في هذا الزمان، بدل تكليفهم الإحرام في الطائرة مع ما فيه من حرج، أو الإحرام من بيوتهم في بلادهم، ولم يلزمهم الله بذلك.
وقد كنت قرأت لبعض علماء المالكية أقوالاً لها اعتبارها، في جواز تأخير الإحرام في البحر لركاب السفن، حتى ينزلوا إلى البر في جدة، مستدلين بمثل الاعتبارات التي ركنتم إليها فضيلتكم، ولا ريب أن راكب الجو المعلق بين السماء والأرض، أولى بالتيسير من راكب البحر.
أما الرسالة الثانية، فهي تتضمن اقتراحات عملية في ضوء فقه الشريعة السمحة، للتخفيف من سفك دماء الهدايا والذبائح بمنى. وهي اقتراحات في نظري، يؤيدها الفقه، وتوجبها المصلحة، ويسندها النقل، ولا يرفضها العقل.
وأضيف إلى أربعتها خامسًا، وهو أن يكتفي الحجاج بالدماء الواجبة عليهم لزومًا، كهدي المتعة والقران، ودم الجبران، ونحوها. أما ما خير فيه بين الفدية وطعام المسكين، فليختر إطعام المساكين.. وأما دم التطوع، مثل الأضحية في أيام العيد، فلا معنى لها هناك، فإن الهدي الواجب يغني عنها.. ومن لم يكن عليه دم واجب، فلا مبرر لذبحه ما لا ينتفع به، وأفضل منه أن يوكِّل من يضحي عنه في بلده وبين أهله.
فضيلة الشيخ الكريم:
لقد كنت أتحدث مع بعض الزملاء عن رسائلكم وبحوثكم حديثًا لا أرى بأسًا من نقل مضمونه إلى فضيلتكم. ولا سيما أني كنت وعدت فضيلتكم من مدة بالكتابة، معبرًا عن رأيي في رسائلكم ومؤلفاتكم التي تتفضلون دائمًا بإهدائها إليّ أول ظهورها، وأحيانًا كثيرة قبل طباعتها.
وكان مما قلته: إن رسائل الشيخ نوعان:
1- رسائل عادية تتضمن توجيهات ونصائح أشبه بالخطب المنبرية، بل هي في الغالب من خطب الجمعة التي يحضرها الشيخ ويتعب عليها، ويغذيها بالنصوص والحكم والأشعار حتى تنضج.
وهذه ليست مقصودة بالحديث هنا.
2- والنوع الآخر: رسائل علمية فقهية، تهدف إلى تحقيق مسألة معينة، وإبداء الرأي فيها عن طريق الترجيح والاجتهاد المبني على النصوص النقلية، وفهم القواعد الكلية والمبادئ العامة للشريعة، ومراعاة مصالح الخلق، ومقاصد الشرع.
وهذه هي التي صال فيها قلم الشيخ وجال، وأتى فيها بالجديد والطريف، وجعلت له كثيرًا من المعجبين، كما هاجت عليه كثيرًا من المنكرين. وقلّ من الناس إلا من له مادح وقادح، إلا الخامل من الناس الذي يعيش بينهم حيًّا كميت، وموجودًا كمفقود، فهو لا ينفع ولا يضر، ولا يحزن ولا يسر، ولا أنكر أني قد اختلف مع الشيخ في بعض الجزئيات فيما يكتبه، مثل ذبائح الشيوعيين والملاحدة والمرتدين. وقد أتناقش معه في بعض القضايا ويحتد بيننا النقاش، ولكن اختلاف الرأي لا يفسد ما بيننا من ود. ولا عيب في اختلاف الآراء، ما دام رائد أصحابها الحق والخير. إنما العيب في اختلاف القلوب، وتحاسد النفوس.
وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة بعضهم مع بعض، ووجدوا في ذلك توسعة ورحمة للأمة. وحسبنا قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗا﴾ [الأنبياء: 79].
ولكن الذي لا ينكره إلا مكابر، أن رسائل الشيخ الفقهية التي أطال فيها البحث والفكر، تتمثل فيها عدة مزايا جديرة بالتنويه والتسجيل. المزية الأولى: هي الواقعية، فليست بحوثًا محلقة في أجواء الخيال، أو تعالج مشكلات صنعها الوهم، أو كانت مشكلات في عصر مضى ثم عفى عليها الزمن.
وإنما تعالج مشكلات واقعية يعيشها الناس ويطلبون لها حلًّا، وينشدون من حملة الشرع أن يقولوا فيها كلمتهم، ويحددوا موقفهم، ولا يكتفوا بالهرب من المشكلة بالسكوت عنها، أو إحالة بعضهم على بعض، أو انتظار الإجماع الذي قلما حدث، وقلما يحدث.
وجمهور الناس لا يكفيهم من علماء الشرع أن يقولوا: لا ندري. فإن هذا قد يقبل من واحد أو اثنين أو ثلاثة. أما أن يقول الجميع: لا أدري فتلك هي الطامة.
ومن المعلوم أن التصدي للإجابة عن تساؤلات الناس، وحلّ مشكلاتهم في حياتهم الاجتماعية - في ضوء فقه الشريعة - فرض كفاية على علماء الإسلام، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد، وقال الكل: لا أدري. فيما يعرض للناس من قضايا، فقد ركب الإثم الجميع، فجزى الله الشيخ خيرًا عن المسلمين وعلمائهم، فقد قام عنهم في كثير من المواقف بفرض الكفاية.
المزية الثانية: التيسير والتخفيف، ولا غرو، فالتيسير روح الشريعة، وبه بعث محمد ﷺ، كما قال : «بُعِثْتُ بِحَنِيْفِيَّةٍ سَمْحَةٍ»[458] فهي حنيفية في العقيدة، سمحة في الشريعة. قال: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»[459] وأوصى صاحبيه معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن فقال: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا»[460]. وقال لأصحابه، وهو خطاب للأمة كلها: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِيْنَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِيْنَ»[461]. ومن هنا نرى القرآن يعقب على أحكام الطهارة بقوله: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].
وعلى أحكام الصيام بقوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 85].
وعلى أحكام النكاح بقوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ٢٨﴾ [النساء: 28].
وعلى أحكام القصاص والعفو بقوله: ﴿ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞ﴾ [البقرة: 178].
وإذا كان التيسير والتخفيف مطلوبًا دائمًا لأنه مقتضى رحمة الله وضعف الإنسان، فهو ألزم ما يطلب في عصرنا هذا، الذي رقّ فيه الدين، وضعف اليقين، وتعرض فيه الإسلام لهجمات ضارية من أعدائه على اختلاف نحلهم ومشاربهم. وقد جعل فقهاؤنا القدامى عموم البلوى بالشيء من أسباب التخفيف فيه. وجعلوا من قواعدهم: المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
فلا عجب إن رأينا الشيخ يتجه وجهة التيسير على الناس، منذ رسالته الأولى في جواز رمي الجمار قبل الزوال، وإلى رسالته الأخيرة في جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات. وقد يختلف الكثيرون مع الشيخ في هذه القضية أو تلك، وقد يكون الصواب معهم، وقد يكون معه.
فكل مجتهد معرض لأن يصيب ويخطئ، وهو مأجور على كل حال، أخطأ أو أصاب.
ولكن منهج التيسير الذي سلكه الشيخ في رسائله لا يستطيع أحد لومه عليه، فهو يقول: والتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً، وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين الذي قال الله فيها: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨﴾ [الأعلى: 8].
وأحب أن أذكر هنا أني لا أريد بالتيسير ما يفعله بعض الناس من اعتساف التأويلات وليّ أعناق النصوص المحكمات لتبرير الأوضاع القائمة، وتسويغ المعاملات الجارية استسلامًا للتيارات السائدة، وانهزامًا أمام الحضارة الوافدة.
ولكن الذي أسجله هنا أن من العلماء من تبنى موقف التشدد في كل قضية، فأقرب شيء إلى قلمه ولسانه كلمة (حرام) مع ما ورد في القرآن والسنة وأقوال السلف من التحذير من ذلك، حتى كانوا يقولون: نكره هذا. ولا يعجبنا، أو لا نحبه. أو لا نراه.. إلخ. دون التصريح بالتحريم خوفًا من وعيد الله تعالى ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦﴾ [النحل: 116].
ولا ريب أن موقف المنع والتحريم والتزمت أمر سهل لا يحتاج من العالم إلى طول بحث وإعمال فكر، كما يحتاج موقف التيسير.
ورضي الله عن إمام الفقه والورع أمير المؤمنين في الحديث سفيان بن سعيد الثوري، فقد روى عنه النووي في مقدمة المجموع هذه الكلمة المشرقة: إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!
والحق أن عصرنا في حاجة إلى رخص ابن عباس أكثر منه إلى شدائد ابن عمر، رضي الله عن الجميع.
المزية الثالثة: التحرر من التقليد
فالشيخ -حفظه الله- وإن كان حنبلي النشأة والدراسة في أول الأمر قد سار على طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم في الاختيار من روايات المذهب وأقواله، وما أكثرها! ولا مانع عند اللزوم من الخروج على المذهب إلى غيره من المذاهب الأربعة أو مذاهب غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمة.
وهذا ما جعله يختار مذهب عطاء وطاوس في جواز الرمي قبل الزوال أيام التشريق، خارجًا عن الرأي السائد المألوف في مذهب أحمد وسائر مذاهب الأربعة المتبوعة.
وما جعله يخرج عما نصت عليه كتب المذهب المشهورة في الأضحية عن الميت، مبينًا أن هذه الكتب المتأخرة ينقل بعضها عن بعض، في حين أن المتقدمين لم ينصوا على هذا الأمر بوضوح.
إن عيب الكثيرين من المشتغلين بالعلم أنهم سجنوا أنفسهم في قمقم التقليد، والتعصب لمذهب معين، لا يخرج أحدهم عنه، وإن بدا له ضعف مأخذه، أو تهافت دليله، ولا يلتفت إلى غيره. وإن كان أرجح ميزانًا، وأنصع برهانًا.
هذا مع نهي الأئمة المتبوعين عن تقليدهم، وترغيبهم في العودة إلى المنابع، والأخذ من حيث أخذوا.
وهذا التقليد مما ابتلي به فقهنا في عصر الركود الفكري، والجمود العلمي، وإن لم يخل عصر من العصور، من شهب تسطع في دياجير العصبية المذهبية، داعية إلى الاجتهاد داخل المذهب أو خارجه، مثل ابن العربي المالكي، وابن الهمام الحنفي، والسبكي الشافعي، وابن تيمية الحنبلي، وبعدهم الدهلوي، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم في شتى الأعصار والأمصار.
والحق أن التقليد لا يسمى علمًا، فالعلم هو معرفة الحق بدليله، لا مجرد تلقّي اللاحق عن السابق، والخلف عن السلف، وإذا قبل التقليد من العوام، لم يقبل أبدًا من العلماء الذين وقفوا حياتهم على العلم والبحث، ورحم الله من قال: لا يقلد إلا عصبي أو غبي.
المزية الرابعة: الشجاعة في إبداء الرأي
فكم من عالم خلع ربقة التقليد من عنقه، وانتهى به البحث إلى رأي ارتضاه، ولكنه يكتمه أو يبوح به لخاصته والقريبين منه، ولا يجرؤ على إذاعته بين جمهور الناس، اتقاء لثورتهم التي لا تقف عند حد، وحرصًا على السلامة من ألسنة هي أحد من السيوف.
ولكن الشيخ إذا وصل باجتهاده إلى رأي في قضية أذاع به وأعلن عنه، ولم يبال في ذلك بهياج العامة ولا بسخط الخاصة، بل ربما أخذت عليه الشدة والحدة في الذود عن الرأي ومقارعة الخصوم، حتى يخيل إليك أنه مقاتل في معركة لا مناظر في مسألة.
ولا غرو، فقد أخذ من قبل على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية مثل هذه الحدة والصرامة، حتى قال بعض معاصريه: لولا حدة فيه لكان كلمة إجماع.
ومن يدري؟ لعل هذا الطبع الحاد في شيخ الإسلام ساعده على أن يخرج على مذهبه، بل على المذاهب الأربعة المتبوعة كلها باجتهاداته التي رحب بها العالم الإسلامي والفكر الإسلامي في عصرنا، ولم يعبأ بمخالفة المخالفين، ولا تذمر المتذمرين، وكيد الكائدين.
وكذلك سار الشيخ على نفس المنهاج، ونسج على نفس المنوال، فقد نشر رأيه في رسالته الأولى يسر الإسلام في مسألة رمي الجمار قبل الزوال، وأصر على رأيه، برغم مخالفته لعلماء العالم الإسلامي عامة، وعلماء المملكة خاصة، ولرأي المذاهب المعتمدة، وجمهور الفقهاء، ورغم أنه لم يكن له من الشهرة العلمية ما له اليوم.
ومع هذا يثبت على قوله، مصرًّا على التحدي، موجهًا رسالته إلى علماء الرياض، وفيهم المفتي الأكبر العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم الذي ألف رسالة في الردّ على رأي الشيخ في موضوع الجمار.
وهناك أكثر من رسالة من رسائل الشيخ عارضها من عارضها من العلماء مثل رسالة الأضحية عن الميت ، ورسالة النبي والرسول ورسالة الجهاد المشروع في الإسلام وغيرها.
ولكن هذا لم يثن عزم الشيخ عن نشر اجتهاداته في رسائل أخرى، قد تثير عليه معارضة أقوى وأوسع نطاقًا من سوابقها. كما فعل في رسالة فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب.
والذي أنصح به إخواني العلماء في المملكة العربية وفي الأزهر الشريف وفي معاهد الهند والباكستان وبلاد الشام والمغرب وغيرها أن يفسحوا صدورهم للرأي المخالف، ويفتحوا آذانهم وعقولهم للاجتهاد الجديد، وإن أخطأ صاحبه؛ لأن المجتهد ليس ملكًا ملهمًا، ولا نبيًّا معصومًا، ولكنه بشر يذهل كما يذهل البشر، ويخطئ كما يخطئ البشر. غير ناسين أن الله تعالى قد أثاب المجتهد المخطئ مكافأة على اجتهاده.
إن من أحوج ما نحتاج إليه في عصرنا هذا هو الاجتهاد، لإثبات صلاحية الشريعة، وقدرتها على مواجهة التطور وتوجيهه، وأن عندها لكل داء دواء، ولكل مشكلة حلًّا.
وهذا هو منهج الشيخ، جزاه الله خيرًا، وسدد خطاه على الحق، وهذه هي مميزات رسائله، نفع الله بها.
يا فضيلة الشيخ..
لا يسعني في ختام هذه السطور إلا أن أدعو الله لكم بتسديد الخُطا، والتوفيق في القول والعمل، نفع الله بكم، وأعزكم، وأعزّ بكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدوحة في 20-6-1399هـ
الموافق 16-5-1979م
يوسف القرضاوي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بجامعة قطر
[456] هذه رسالة تقريظ لرسائل المؤلف من العالم الفاضل الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، ودراسة هذه الرسالة تغني عن التنويه بحسن معناها، وجمال مبناها. [457] متفق عليه من حديث ابن عباس. [458] أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة. [459] أخرجه مسلم والإمام أحمد من حديث جابر. [460] متفق عليه من حديث أبي موسى. [461] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذا كتاب الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة
لفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية - بدولة قطر
بين يديك أخي القارئ، تُسَرِّحُ فيه النظر، وتقلب فيه الفِكَر، فتعيش في رياضه، وتقطف من ثماره، جمع فيه فضيلته عصارة السنين - حيث أشار في مقدمته لذلك.
ولست هنا بصدد تقريظه، فقد كفانا فضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، المؤونة في ذلك، مشكورًا، وأنا مع تقريظه إلى شوط بعيد.
لكن الذي أَوَدُّ بيانه هو أنك قد تقرؤه في أيام، مع أنه عصارة أعوام، وقد عشت فيه مع فضيلته ما يزيد على ستة أشهر ما بين التدقيق، والتخريج للآيات والأحاديث.
ولا بد من إعطائك صورة حية، قد لا تجدها في الكتاب الذي بين يديك، وقد تدرك بعضها، إذا أجلت النظر فيه بإمعان.
فمنها - أنه - مد الله في عمره - رغم كبر سنه - فهو دؤوب، لا يمل ولا يكل، فتراه يجلس للقضاء مبكرًا، وربما يسبق جميع الموظفين، ثم ينتقل ما بين حلّ لمشاكل المراجعين العضال، وبين القضايا الأخرى، إلى مد يد العون والمساعدة للمعوزين، وجبر خاطر المكروبين.
وبين القلم والقرطاس، يكتب بيده، ويملي على غيره. وفوق هذا وذاك، فإذا أشكلت علينا كلمة في الطباعة، فتراها تخرج من فيه على السليقة.
وقد تلاحظ أنه أعاد وأبدى، وأن طابع الكتاب السجع المسبوك ولكن كما أسلفت، فليس بالسجع المتكلف، وإنما هو طبعي فيه، وهذا مما يدل على تمكنه من لغته القوية، عدا عن تمكنه من علمه.
أضف إلى ذلك - قوة الحافظة - متعه الله بحواسه، ومده بالعافية من عنده، فقد ترانا نبحث عن حديث في بطون الكتب، فيكفينا المؤونة، وبهمة شابة تتحرك جوارحه، وما هي إلا دقائق، حق تكون البغية حاضرة.
والأهم مما مضى هو وقوفه على الحق، فإذا أيقن بالدليل والحديث، فإنه يضرب صفحًا عما كان يرد من كلامه، ويثبت ما صح لنا من الرواية.
وملاحظة أخرى فإنه يمحص القول، وربما يعدل عنه إلى ما هو خير، حتى يخرج المقال إلى الأحسن، وموضوع التمحيص والتكرير لا تخفى نتيجته.
فإن وجدت بغيتك أخي القارئ، فهذه أمنيته -والله قصده فيما نعلم ولا نزكي على الله أحدًا- وإن وجدت غيرها، فتذكر مقالة ذلك الإمام. يأبى الله أن يكون كتابٌ كاملاً إلا كتابه.
وإن وجدت خلاف اجتهادك واستنباطك، فأحسن الظن، واعلم أن الحق هو رائد الجميع؛ لأنه أحق بالاتباع، والكل ساع إليه.
فقد اقتضت حكمته تعالى أن يتفاوت الناس بالعلم والعقل وغيره. ثم ادع له ولنا وللمسلمين بالمغفرة.
وإن وجدت فيه حجتك ودليلك، ففضل من الله، ساقه الله إليك، وكفاك مؤونة البحث والتنقيب.
ومع كل هذا، ففضيلته يرحب بإبداء الرأي المستند إلى أصوله من أدلته التشريعية. والله من وراء القصد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ومن اتبع هداهم إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الدوحة في 14 شعبان 1399هـ
الموافق 8 تموز 1979م
محمود العواطلي الرفاعي
(دراسات عليا)
مدير أوقاف الزرقاء بالأردن
والمعار لرئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
بدولة قطر
[462] هذه الكلمة تقريظ لرسائل المؤلف لفضيلة الشيخ محمود العواطلي الرفاعي (دراسات عليا) مدير أوقاف الزرقاء بالأردن والمعار لرئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر.