1763

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م



المجلد السادس
الحكم الجامعة (1)

مقدمة المؤلف

إنني أحمد الله على نعمه، وأستزيده من فضله وكرمه، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٣ [فصلت: 33]. إن لكل إنسان حاجة، ولكل حاجة غاية. وما حاجتي في مؤلفاتي إلا الدعوة إلى دين ربي، ونصيحة أمتي، بالحكمة والموعظة الحسنة، ابتغاء الثواب من ربي، والدعاء من إخواني، إذ هذه أمنيتي، وغاية بغيتي ورغبتي، «وَاللهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ»[1].

﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

لقد أعجبتني كلمة قالها الإمام ابن الجوزي حيث قال: إن مؤلَّف العالم هو ولده المخلد الصالح، إذ إن الإنسان إذا مات «انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»[2].

وإن من الخسران كون الإنسان يعلم علمًا مما علمه الله، ثم يموت علمه في صدره، بحيث لا يعلمه ولا يدعو الناس إليه، حتى يموت بموته ويدفن معه في قبره، فيكون علمه بمثابة الخسران على العباد والبلاد.

﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ [الزمر: 15].

والله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان، وجمله بالنطق، وشرفه بالإيمان، وفضله بالعلم والعقل على سائر الحيوان، وجعله بحسن مقاصده وشرف مميزاته أفضل من ملائكة الرحمن.

ولقد عملت عملي وبذلت جهدي وجهادي في هذا المجموع، الذي هو حصاد ما زرعته فوق الثلاثين من السنين، حتى صار من توفيق الله بمثابة الجنة العلمية فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين من العلوم النافعة، والبحوث المتنوعة، مما قل أن يوجد مثلها في غيره، ولا أقول بعصمته، فقد يخفى على قائله ما عسى أن يظهر لقارئه ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ [يوسف: 76].

ولم أصنعه بصفته لأن يكون ديوان خطب منبرية فحسب، بل هو في نفسي، وفي موضوعه أعلى وأجل وأكمل وأجمل، فاتصافه بالرسائل العلمية أشبه من تسميته بالخطب المنبرية، فأنا أتحاشى عن تسميته بالخطب وإن كان فيه بغية الخطيب، لكنني عملته لأن يكون موردًا عذبًا يرده أهل الإرادة، ويختلفون فيما يردون ويريدون ﴿قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ [البقرة: 60] فيأخذ منه المحاضر رغبته، والمناظر بغيته، ويستعين به المؤلف على تنظيم رسالته، والواعظ في موعظته، ويأخذ منه الناقد لدحض حجة خصمه قدر حاجته، إذ إنه كنز من كنوز العلوم النافعة، مملوء بالحكم والأحكام، ومحاسن الإسلام، وأمور الحلال والحرام، ومحاربة الشرك والبدع، وفنون الضلال والأوهام، يدعو إلى إصلاح الدنيا والدين، وإلى مصلحة الروح والجسد، والمال والولد، يهذب الأخلاق، ويحارب الكفر والشقاق والنفاق، ولن يستغني عنه عالم نحرير، ولا كاتب أديب، ولا عاقل أريب. فإن أردت تحقيق ذلك، فانظر إلى بديع أي رسالة منه؛ كرسالة مولد الرسول وبركة بعثته على أمته، ثم انظر إلى الإسراء والمعراج وحكمته، ثم إلى فضل الإسلام وبداية قوته في نشأته، ثم انظر إلى حقيقة الكلام في تفسير غربته، وهكذا سائر مذكراته. وقد سميته: الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة.

وما يوجد فيه من أساليب البلاغة والبيان، وانسجام الألفاظ، مما يعد من علم الجناس، فهو من نتيجة القريحة، والسجية السمحة غير المتكلفة. ولقد سمعت من بعض علمائنا من يصف كلامنا بأنه من السهل الممتنع، ونسأله سبحانه الهدى والسداد.

وقدوتي في ذلك كتاب الله؛ إذ إن فيه من البلاغة والبيان ما يعجز عن وصفه كل إنسان؛ يقول الله تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا [النساء: 63] أي يبلغ من أفهامهم، ويعلق بأذهانهم.

ويوجد فيه من العظات ما يظن بأنها من المكررات، وهذا لا يوجد فيه إلا من قبيل الندور، فإن كل ما يوجد فيه مما يظن أنه متفق في الرسم والعنوان؛ لكنه يفترق في العلم والبيان، ولنا الأسوة بكتاب ربنا حيث يذكر القصة مبسوطة في مكان، ومتوسطة ومختصرة في مكان، فمن ذلك: ذكريات الصيام، وذكريات الحج، وذكريات أعياد الإسلام، فإنها متنوعة في العلم والبيان، وقد جعلت لكل عيد ثلاث عظات متنوعة، لكون النفوس تمل وتسأم دائمًا من ترجيع ذكرى واحدة للعيد في كل زمان وتشتاق إلى التنقل في تنويع التذكير بالأحكام، وأمور الحلال والحرام لكونه أدعى إلى القبول والإقبال، ولأن لكل حادث حديثًا، ولكل مقام مقالاً.

وإنني عندما أطرق موضوعًا من مواضيع البحوث العلمية التي يحسن التذكير بها، وبمحاسنها ومساوئها، وحكمها وأحكامها، فإنني آخذ للبحث بغيتي، وغاية رغبتي، مما وصل إليه فهمي وعلمي، حتى ولو طال ذيل البحث، ولن أقتصر فيه على بلغة العجلان، ورغبة العاجز الكسلان، إذ إن الناس يتفاوتون في قوة الإيراد والتعبير، وفي حسن المنطق وجمال التحبير، والعلم شجون يستدعي بعضه بعضًا، ويأخذ بعضه برقاب بعض، وَعَدُّوا من عيوب الكلام وقوع النقص من القادر على التمام، ووقوع الانفصام والانفصال في مواقع الاتصال.

هذا: وإن جميع الناس من شتى الأقطار، وأكثر الأمصار، حينما يسمعون صوت التذكير الذي نلقيه في المسجد الجامع بقطر، والذي تنشره الإذاعة بين الناس مرتين، مرة عند صلاة الجمعة، والأخرى في المساء من ليلة السبت؛ فيودون ويتمنون لو جمعت لهم هذه المذكرات المتنوعة في شتى العلوم النافعة؛ من المصالح والنصائح العمومية، التي تعالج سائر المشاكل الاجتماعية. وعلى أثره صار أكثر العلماء، وبعض الأمراء والزعماء، يطالبوننا بضم ما يسمعون، ثم إخراجه للناس في مجموع ينتفعون به، فصاروا يطالبوننا في ذلك دائمًا، صباحًا ومساءً، ونحن نعدهم ونمنيهم بلعل وعسى، وهم يكررون علينا الطلب من شتى البقاع، ويحذرونني من عواقب سوء التأخير، وفي مفاجأة الأجل قبل تنجيز هذا العمل؛ لأن في الدنيا معوقات، وللتأخير آفات، وأنا أعرف حقيقة ما يقولون، وفضل ما يبتغون، لهذا أوجبت لهم الحق عليَّ في إنجاز ما يطلبون.

غير أنني أعرف أهل زماني، وخاصة إخواني وأقراني، وأنهم على اتباع زلاتي، وإحصاء سيئاتي، وستر حسناتي أحرص منهم على الانتفاع بعظاتي، لكنني أسلِّي نفسي بالتأسي بالعلماء الفضلاء قبلي الذين دب إليهم داء الحسد من أقرانهم، لكون الرجل الفاضل مهما هذب نفسه، وحاول كف ألسنة الناس عن عذله ولومه فإنه لن يسعه ذلك، لأن كل ذي نعمة محسود كما قيل:
ليس يخلو المرء من ضد ولو
حاول العزلة بأعلى الجبل
لهذا نرى أحد هؤلاء عندما يعرض عليه شيء من رسائلنا، ثم يرى فيها قولاً مما يخالف رأيه واعتقاده - وإن كان حقا في نفس الأمر والواقع - فتراه يبادر بالركض إلى مدير الجريدة، لينشر نقده الباطل، ليعلم به جميع الناس، العام منهم والخاص، كأنها زراية وهي صحيحة في الرواية والدراية.

وقد قال لي أحد هؤلاء الأقران الكرام عندما زرته للسلام، وكنت أحمل معي شيئًا من الرسائل العلمية فبادرني بقوله: إنني لم أقرأ شيئًا من رسائلك أبدًا. وسبق أن قال لي مثل هذه الكلمة من مدة تزيد على ثلاث سنين، وقد أعادها الآن. فقلت له: عسى ألا يكون فيها إلحاد وزندقة؟ فقال: لا، إلا أنني مشغول عنها. ثم قال: إن فلانًا يشتغل بكتابة رد عليك. فقلت له: أهلا بمن يرد الباطل في وجه قائله، وإنني مستعد لقبول الحق منه، ورد الباطل عليه. ثم تفرقنا من غير رضى مني.

هذا وإنني كنت جالسًا عند أحد الأمراء الكرام بالطائف، وبين أيدينا رسائل علمية، يسألني عن شيء من مشاكلها، إذ دخل علينا رجل من كبار العلماء، أعرفه ويعرفني. فسلم على الأمير، وسلمت عليه، ورحب بي. وبعد جلوسه واطمئنانه في مكانه قال له الأمير: يا شيخ، ما بالكم إذا جاءكم شيء من الرسائل العلمية من أحد العلماء - أو قال: من أحد إخوانكم - فما بالكم تقابلونها بالنفرة والكراهية؟ وكيف لا تقابلونها بالرحب، وسعة الصدر، ودراستها بالتدبر والتفكر، ثم عمل المناقشة مع مؤلفها؟ فما كان جوابه إلا السكوت.

إن مما يزيد في أملي، ويقوي رجائي على صواب علمي، وحسن عملي - ولا أزكي نفسي عند ربي - الثناء الحسن من العلماء الغرباء والبعداء عن بلداننا؛ حينما أسمعهم يلهجون بالدعاء والثناء على حسن ما يسمعونه ويرونه من كتب العلم والحكمة، والتي هي مبتكرات من مشكلات العلوم النافعة، فكان أبعد الناس منا هم أقربهم مودة إلينا، ووقع بنا ما قيل من أن أزهد الناس في عالم هم: أهله وجيرانه، ومن يعيش بين ظهرانيهم. كما حكى الله سبحانه في كتابه المبين عن فرعون، لما جاءه نبي الله موسى برسالة من ربه. فكان جوابه له أن قال: ﴿قَالَ أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدٗا وَلَبِثۡتَ فِينَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِينَ ١٨ [الشعراء: 18] فكانت تربيته فيهم، وبداءة نشأته عندهم، هو من أسباب عدم قبولهم لدعوته، والاحتقار منهم للحق الذي جاء به. ولن ننسى عداوة قريش لرسول الله ﷺ، وتكبرهم عن قبول دعوته، من أجل نشأته بينهم، حتى سعد بالسبق إليه الأنصار، وهم أبعد من قريش في النسب والبلد.

ولا ينبغي أن ننسى فتنة شيخ الإسلام ابن تيمية مع العلماء المعاصرين له في زمانه ومكانه، وكيف تألبوا عليه بالعداوة بداعية الحقد والحسد على ما آتاه الله من فضله، من سعة العلوم؛ في شتى الفنون التي بهرت العقول والتي يعجزون عن الإتيان بمثلها. فهم يحاولون إطفاء نور هذا العلم عنه؛ بكثرة الطعن فيه ويأبي الله إلا أن يتم نوره. فكانوا يترددون على الحاكم في زمانهم ويطلبون منه قتله، أو اعتقاله بدعوى أنه غيّر الإسلام، وأنه يبيح للناس الفرج الحرام، وأنه يبغض الرسول ويمنع من زيارته، وأنه مشبه يصف الرب بما يوصف به الخلق، وحتى كفره بعضهم ورموه بخفة الرأي، والاستخفاف بالأحكام الشرعية، فابتلي هذا الحاكم بسماع حجتهم وتنفيذ رغبتهم حيث إنهم علماء البلد، فكان يدخله السجن ثم يخرجه، ثم يدخله ثم يخرجه، وفي الثالثة توفي في السجن رحمه الله.

ثم إنه حصحص الحق حقيقته، وعقيدته، وحسن طريقته بعد موته، فسمِّي شيخ الإسلام وتقي الدين تسمية أنطق الله بها ألسنة الناس، ولم يكن اخترعها أو اختارها لنفسه، واتفق جميع العلماء بعد موته على أن باعث الطعن فيه من أضداده هو محض الحسد منهم له على ما آتاه الله من فضله.

كما قال عمر بن الوردي:
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
تقي الدين أحمد خير حبر
خروق المعضلات به تخاط
همُ حسدوه لما لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
هذا وإنني لم أخرج رسالة علمية ذات أهمية إلا وأنا متحقق من حاجة المجتمع إليها، وإلى التنبيه على مدلولها، وكونها من المبتكرات التي لم نُسبق إليها، وكم ترك أول لآخر، وإن أردت تحقيق ذلك؛ فانظر إلى رسالة يسر الإسلام في حج بيت الله الحرام، ثم انظر إلى الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الأضحية، وكيف أسقطت عن الناس الآصار والأغلال فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات. ثم انظر إلى أحكام عقد التأمين ومكانها من شريعة الدين، وما فيه من التفصيل.

وهكذا سائر رسائلنا على كثرتها. ونحن نسير في تذكير الناس يوم الجمعة إلى شيء منها.

وإن مما ندرك على بعض الإخوان، وبعض العلماء الكرام كون أحدهم متى ظفر برسالة منا تبحث عن حقيقة عقيدة أو طريقة أو مقالة مشكلة، مما عسى أن يقع فيها الجدال، وكثرة القيل والقال، فهذه الرسالة تكشف لهم الإشكالات، وتزيل الشكوك والشبهات، فيكون حظ أحدهم منها هو: محض النظر في عنوانها مع شدة كراهيته لها، وعسى أن ينشط للنظر في الوجه الأول منها، ثم يصفق بأجنحتها ويودعها في سلة المهملات وهو آخر عهده بها، ثم يستمع ما يقوله الناس فيها. فيقول بقولهم بدون تفكر، ولا حسن تدبر؛ لأنه بزعمه يعيش في زمان السرعة فكل شيء يراه ثقيلاً في نفسه.

نسأل الله سبحانه علمًا نافعًا مبرورًا، وعملاً صالحًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا، أو نغشى فجورًا.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

الدوحة في21 ذي القعدة 1398هـ

* * *

[1] رواه الحكيم الترمذي من حديث ابن عباس وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر. [2] رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

(1) مَولد الرّسول ﷺ وعموم بركة بعثته

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على رسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ [الجمعة: 2].

فأخبر سبحانه بامتنانه على عباده المؤمنين، ببعثة هذا النبي الكريم: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. وكما قال في الآية الأخرى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل‌عمران: 164]. فبعثة الرسول ﷺ هي ابتداء نزول الوحي عليه بنبوته حين أنزل الله عليه وهو بغار حراء ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ [العلق: 1] فهذا هو ابتداء البعثة، وبينها وبين المولد أربعون سنة.

بعث الله نبيه محمدًا ﷺ على حين فترة من الرسل، بدين كامل، وشرع شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، في زمان قد فشت فيه بين الناس الجهالة، وخيمت عليهم الضلالة، وصار لكل قوم آلهة يعبدونها من دون الله. فبصّر الناس من العمى، وأنقذهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غلفًا، فدخل الناس ببركة بعثته في دين الله أفواجًا أفواجًا، طائعين مختارين.

والأميون هم العرب، سموا بالأميين، لكون الأمية - أي عدم المعرفة للقراءة والكتابة - سائدة بينهم، ليس عندهم مدارس، ولا كتب، أشبه بالأعراب المتنقلة، وإنما تعلموا العلم بعد نزول القرآن وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

وكان أول ما أنزل الله عليه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. ففي هذه السورة: الإشعار بتعلم القلم أي: الكتابة المستلزم لمحو الأمية وتخفيفها عن الناس. فالفضل كل الفضل هو في بعثته؛ أي ابتداء نزول الوحي بنبوته، وذلك من بعد ولادته بأربعين سنة.

وسمى الله نبيه محمدًا أميًّا في قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 156-157]. فسمى الله نبيه أميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ، صيانة للوحي النازل عليه؛ حتى لا تتطرق إليه الظنون الكاذبة، والأوهام الخاطئة، فيقولون: تعلمه من كذا، ومن كتاب كذا.

يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ [العنكبوت: 48]. وأمية الرسول ﷺ هي معجزة من معجزات نبوته، وليست من سنته.

ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ القرآنية، ويفسرها لهم، ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات، لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن [3]. فهم يتعلمون القراءة والعلم والعمل معًا.

ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ .أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل، والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل، لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتشرفها، وتنشر في العالمين فخرها. ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10]. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن طالبًا للنفس أعلى المراتب ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة فكان الصحابة يتعلمون السنة من النبي ﷺ كما يتعلمون القرآن.

والنبي ﷺ قال: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كمَا حَرَّمَ اللَّهُ»[4].

﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ أي إن العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا في شر وشقاء، وضلالة عمياء: يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم نساء بعض، يعبدون الأشجار والأحجار، والقبور والطواغيت.

وكانوا مضطهدين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم وتخضع لهم، وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد عاد كثير من الناس إلى حالة الجاهلية الأولى، حتى عبدوا المقبورين من الأولياء والصالحين، وتوسلوا بهم في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم؛ نفس ما فعله المشركون الأولون، وذلك حين ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار منهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بفرائضه، وحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا، وشرب الخمور.

فلأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم، ففشى بينهم الفوضى والشقاء، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية الشيوعية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولن يرتفع عنهم هذا التطاحن والتلاحم الواقع بينهم، إلا بالرجوع إلى دينهم، الكفيل بعلاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، والذي اعتز به سلفهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فالإسلام، أو العمل بالقرآن أنشأ العرب نشأة مستأنفة، فخرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يتلونه، ويدعون الناس إليه، ويفتحون ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقساوة إلى اللين والرحمة، ومن الهمجية والأمية إلى الحضارة والعلم والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صيرتهم إلى ما صاروا إليه، من عز ومنعة، ومجد وعرفان.

وقد أنجز لهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ [النور: 55]. وصدق الله وعده، فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يشق على أحدهم ستر عورته، وشبع جوعته، كما في صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه قال: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله ﷺ ما لنا طعام نأكله إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، وإني التقطت بردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وعند الله حقيرًا.

ومثله قال قتادة: إن العرب قبل الإسلام، وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا أذل الناس ذلًّا، وأشقاهم عيشًا، وأجوعهم بطونًا، وأعراهم ظهورًا، وأبينهم ضلالاً، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر.[5]

ولد النبي ﷺ في ربيع الأول على القول الصحيح، فقيل: لثمان، وقيل: لاثنتي عشرة ليلة خلت، وهو الشهر الذي توفي فيه على القول الصحيح، ولم يشرع الرسول ﷺ لأمته تعظيم مولده، ولا مثل هذا الاحتفال، والتجمع فيه، بل ثبت ما يدل على النهي عنه. فقال في الحديث الصحيح: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[6]. وقال: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ»[7]. ولم يثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا عن الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة سائر المذاهب ولا عن سائر سلف العلماء الصالحين، أنهم يعظمون مولد الرسول ﷺ، أو يتجمعون فيه، أو يلقون الخطب والشعر في الإشادة بمولده، كما تفعل بعض البلدان في هذا الزمان، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

وكان النبي ﷺ يقول في خطبته: «إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا»[8] فتعظيم المولد هو من محدثات الأمور، وتعظيم الإسراء والمعراج في رجب هو من محدثات الأمور، وتعظيم النصف من شعبان هو من محدثات الأمور، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فاتبعوا ولا تبتدعوا.

وذكر صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع: إن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح ويجعلونه عيدًا لهم، بحيث يعطلون فيه الأعمال والمتاجر، أرادوا أن يضاهوهم على بدعتهم بتعظيم مولد الرسول ﷺ وتعطيل الأعمال والمتاجر فيه. قابلوا بدعة ببدعة، ومنكرًا بمنكر، فعلى من سنَّها وزرُ من عمل بها إلى يوم الحشر والنشور. فتعظيم المولد هو من تقليد النصارى والتشبه بهم، وليس من الإسلام ولا من عمل السلف الصالح الكرام في شيء. وقد قيل:
ثلاث تشقى بهن الدار
المولد والمأتم والزار
ولما أراد الصحابة الكرام أن يضيفوا تاريخًا للإسلام يعرفون به حوادث الزمان عدلوا عن التاريخ بمولد الرسول ﷺ؛ لكونه من صنيع النصارى والتشبه بهم، وأجمعوا على بداية التاريخ بهجرة الرسول ﷺ؛ لأنه الزمان الذي أعز الله به الإسلام ونصر، وأذل به الباطل وكسر.

وقد يحسنه للناس بعض المنتسبين إلى العلم، بحيث يقولون: إنه بدعة حسنة تبرهن عن محبة الرسول ﷺ وتعظيمه في قلوب العوام. وهذا القول باطل قطعًا، فإن كل بدعة ضلالة، وبالاستمرار على فعله في كل عام يصير عند العوام بمثابة السنة، ومتى غُيِّر قيل: غُيِّرت السنة. وقد عملوا فيه ما يستدعي إقبال الناس إليه، فكانوا يقولون: إن من يحضر المولد فإنه يحصل له من الربح كذا، أو يعافى في جسمه وأهله وعياله، أو من تغيّب عنه فإنه يخسر كذا، أو يصاب بالمرض وموت أولاده. ونحو ذلك من الإرهاصات الناشئة عن هذه البدعة، وهكذا البدعة تجر إلى ما هو أكبر منها، ونحمد الله أن كنا في عافية من هذه البدعة، فلا نسمع بها عندنا، ولا تعمل في بلداننا، لأنها من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله ﷺ.

وسميت البدعة بدعة لكونها زيادة في الدين لم يشرعها الله ولا رسوله. ومثله ما يفعله الناس في رجب باسم الإسراء والمعراج. وكذا ليلة النصف من شعبان. وكل هذه من البدع التي تقود إلى الأعمال السيئة لكون البدع بريد الشرك، والعبادات الشرعية مبنية على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ [الحشر: 7]. فليس كل ما يستحسنه الناس يكون صحيحًا في نفس الأمر والواقع، ولهذا يقول بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ﷺ ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. وقالوا: إنه ما ظهر في الناس بدعة إلا رفع مقابلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة.

ولقد علمنا أن هؤلاء الذين يحتفلون بالمولد ويتجمعون فيه، وينفقون النفقات في سبيله، أن قصدهم محبة الرسول ﷺ وتعظيم أمره، بإحياء ذكرى مولده كل عام، لكن حسن المقاصد لا يبيح فعل البدع، والمحبة الطبيعية لا تغني عن المحبة الدينية شيئًا.

فهذا أبو طالب عم الرسول ﷺ كان يحب رسول الله أشد الحب، وقد تربى رسول الله ﷺ في حجره وبالغ في حمايته ونصرته، وشهد بصدق نبوته، لكنه لما لم يطع رسول الله ﷺ في أمره، ولم يجتنب نهيه، ولم يدخل في دينه، حشر يوم القيامة في ضحضاح من نار يغلي منها دماغه جزاء على كفره. وقد نُهي رسول الله ﷺ أن يستغفر له.

ولما ادعى الناس محبة الله ورسوله أنزل الله عليهم آية المحبة ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ [آل‌عمران: 31] ومن المشاهد بالاعتبار والتجربة، أن البدع ينبوع كل شر، يقود بعضها إلى بعض، حتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى.

فهذه الموالد في الأمصار، يُفعل فيها أشياء: من اجتماع الرجال بالنساء، والضرب بالمعازف والدفوف وشرب الخمور وغير ذلك من المفاسد والفجور، ويسندون هذه الأفعال إلى محبة الرسول ﷺ!!! وهي تنافي محبته وطاعته، وقد قيل:
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إن الذي يحب الرسول ﷺ محبة حقيقية يجب عليه أن يطيعه في أمره، فيحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان، ويجتنب الربا والزنا وشرب الخمر، وسائر الرذائل المحرمة.

إذ إن حق الرسول ﷺ على أمته طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وأن يكثروا من الصلاة والتسليم عليه في كل حالاتهم وسائر أوقاتهم؛ فإن كثرة الصلاة عليه من أفضل الطاعات، وأجل القربات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرًا، وأخبر أن صلاة أمته تعرض عليه، وقد أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده.

فالرسول ﷺ حمى حمى التوحيد، وسد طرق الشرك. فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[3] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبدالله بن مسعود. [4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب. [5] أخرجه ابن جرير في تفسيره، وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة. [6] رواه البخاري من حديث عمر. [7] رواه أحمد في مسنده، والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس، وإسناده صحيح. [8] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.

(2) الإسراء والمعراج وبيَان مُعْجزات الأنبيَاء

الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الصادق المأمون. اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله سبحانه: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ ٣ [يوسف: 3].

إن هذا القرآن الكريم يقص علينا خبر من كان قبلنا، ونبأ ما سيكون بعدنا، وهو الحكم العدل فيما بيننا.

يذكر سبحانه بأنه أرسل رسله بالبينات، وبالبراهين والمعجزات، يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وليحكموا بين الناس بالقسط. فمن الناس من استجاب لدعوتهم، وانقاد لطاعتهم، وصدق نبوتهم ومعجزات آياتهم. ومن الناس من بغى وطغى، فلم يستجب لداعي الهدى، وأصر على عصيانهم ولم يتعظ بما يراه من معجزات نبوتهم ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 96-97] فهؤلاء لما عصوا رسله، وكذبوا بآياته، واستكبروا عن عبادته ﴿وَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ [هود: 59] عوقبوا بما تسمعون من قوله سبحانه: ﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٤٠ [العنكبوت: 40].

إن الناس في المعجزات والأمور المغيبات على قسمين:

أحدهما: المؤمنون الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، فهم يؤمنون ويصدقون بكل ما أخبر الله به في كتابه، من معجزات أنبيائه، تصديقًا جازمًا، سواء أدركوا سر معرفته بعقولهم أو لم يدركوه؛ لأن عدم علمهم بالشيء ليس دليلاً على عدمه، فقد أتت الرسل بمحارات العقول، فهم الذين يؤمنون بالغيب على صفة ما أثبته القرآن ويقولون: آمنا بالله وما جاء من الله على مراد الله.

لأن المسلم الحق متى آمن بالله القادر على كل شيء، والذي إذا أراد أمرًا قال له: كن. فيكون، فإنه لن يعسر عليه التسليم لكل ما أخبر الله به في كتابه من معجزات أنبيائه، فقد أجرى الله سبحانه خوارق العادات في خلقه؛ من معجزات أنبيائه التي تجري على خلاف السنن المطردة والمعروفة المألوفة عند الناس، مما يدل على قدرة الرب الذي أوجدها، وصدق النبي الذي جاء بها. وإنما سميت معجزة لكون الناس يعجزون عن الإتيان بمثلها، لكونها من صنع الله لا من صنع الرسول ولا البشر. ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ [الرعد: 38] وتسمى الآية والبينة والبرهان. ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه ومجتمعهم.

والحكمة في المعجزات أنها تعزيز دين الأنبياء، وتستدعي قبول دعوتهم والإيمان بهم.

فمن المعجزات: خلق آدم من تراب ثم قال له: كن. فكان فصار بشرًا سويًّا. وكخلق حواء من ضلع آدم، وخلق عيسى من أم بلا أب. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٥٩ [آل‌عمران: 59]

ومثله عصا موسى؛ وهي عود من الشجر يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وإنما صارت آية ومعجزة حين أمره ربه أن يلقيها، فقال سبحانه: ﴿فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١ [طه: 20-21] فإنه حين ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا بإذن الله، ولما أمره ربه أن يأخذها صارت عصًا كعصا أحدنا في يده.

وكمعجزة الريح لنبي الله سليمان عليه السلام حين قال الله: ﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٣٧ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٣٨ هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٩ [ص: 36-39] فكان يبسط البسط، ويجلس عليها هو وجميع جنوده على كثرتهم، فتنقلهم غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر.

وكمعجزة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام حين أنطقه الله في المهد: ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢ [مريم: 30-32]. وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.

وأنه لولا هذا القرآن المنزل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام - يقص علينا خبر معجزات الأنبياء التي تعزز دينهم، وتستدعي قبول دعوتهم - لكَذَّب الناس بهم، وبالكتب النازلة عليهم.

﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].

فالتصديق بهذه المعجزات هي عقيدة المؤمنين، ومن كذب بها فقد كفر.

الصنف الثاني: الماديون الطبيعيون الذين ينسبون كل شيء إلى الطبيعة؛ بمعنى أنها المُوجِدة لها من دون الله - حاشا لله - فهم ينكرون ويكذبون بكل ما لم يدركوه بحواسهم، فينكرون وجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار.

وفيهم أنزل الله: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ [يونس: 39-40].

فهم يبادرون إلى إنكار كل ما سمعوه من الخوارق والمعجزات، والأمور المغيبات، فهذا دأبهم في نظرياتهم العلمية. ومن لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه، فإنه يعتبر كافرًا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله.

أما معجزات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإنها كثيرة جدًّا. ولسنا بصدد إحصائها في هذا المقام الضيق، فمنها: نبع الماء من بين أصابعه، ومنها تكثير الطعام القليل حتى يشبع منه الخلق الكثير، ومنها قصة الأعرابية صاحبة السطيحتين- أي الراويتين- وحاصلها ما رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين قال: «كنا في سفر مع النبي فاشتكى إليه الناس من العطش، فدعا عليًّا وفلانًا، فقال: «اذهبا، فابتغيا الماء» فانطلقا فلقيا امرأة بين سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أَمْسِ هذه الساعة. فقالا لها: انطلقي. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فجاءا بها إلى رسول الله، ودعا النبي وأطلق العزالي[9]ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا. فملؤوا قربهم وقدورهم وأوانيهم، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: «اذهب فأفرغه عليك». وايم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءة منها حين ابتدأها. وقال لها رسول الله: «تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا[10] مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا». فأتت أهلها، وقالوا: ما حبسك عنا؟ قالت: العجب؛ لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ. ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر ما بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض، أو إنهلرسول الله حقًّا. وبسبب هذه المعجزة أسلم قومها».

وكان العرب يسمون الرسول الصابئ؛ من أجل أن الناس يصبون إليه؛ أي يميلون إليه ويدخلون في دينه. ومثله ما جرى له مع شاة أم معبد وكانت عجفاء هزيلة لا تطيق المشي مع الصحاح، فمسح ضرعها، وسمى الله عليها؛ فتفاجت، واجترت، ودرت، ثم انفجرت باللبن[11].
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
لكن المعجزة الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة هي معجزة القرآن الحكيم، الذي تحدى الله به جميع الأولين والآخرين، على أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا مع بلاغتهم، وشدة فصاحتهم ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ [الإسراء: 88].

فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي من الرذيلة. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوْتِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ بِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[12].
الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أقوى وأقوم قيلا
إن معجزات سائر الأنبياء قد وقعت بوقتها، ومضت بمُضِيِّ زمنها، بحيث لا يشاهدها الناس الآن، غير أن المسلمين يؤمنون بها بدون أن يشاهدوها، تبعًا لإيمانهم بسائر المغيبات التي أخبر الله بها.

وإنما المعجزة الخالدة الدائمة، والمشاهدة بالأبصار إلى يوم القيامة، هي معجزة القرآن الذي فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم. يقول الله سبحانه: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ [طه: 99-100]. إذ لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء السابقين إلا عن طريق القرآن الكريم النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. فمن هذه المعجزات معجزة الإسراء والمعراج، قال تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ [الإسراء: 1].

فاستفتح سبحانه خبر هذه المعجزة العظمى بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ . وكان من هدي النبي ﷺ أنه إذا أعجبه شيء إما سبح، وإما كبر آخذًا من القرآن. وقد استبدل الناس بهما التصفيق بالأيدي! والتسبيح والتكبير خير لهم لو كانوا يعلمون. والصحيح من أقوال العلماء أنه أُسرِيَ برسول الله ﷺ بروحه وجسده، لكون المقام، وفحوى المقال، ينبئ عن معجزته العظمى في خبر الإسراء.

فأثبت القرآن أن الله أسرى بعبده ورسوله محمد ﷺ ليلاً من المسجد الحرام. فقيل: أُسرِيَ به من الحجر، وهو الصحيح. وقيل: من بيت أم هانئ. إلى المسجد الأقصى الذي هو بيت المقدس. وهذا الإسراء معجزة عظمى خارقة للعادة، والمعجزة كاسمها بحيث يعجز الناس عن معارضتها والإتيان بمثلها وهي تدل على صدق نبوة من أتى بها.

وذكر أنه أُتي بالبراق - وهو دون الفرس وفوق الحمار - وسمي براقًا لأنه مشتق من البرق في سرعته، ليريه من آياته، وعجائب مخلوقاته في المسجد الأقصى، وفي السماء. وأنه من بعد وصوله إلى بيت المقدس صلى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وصلاته بهم إنما هي بأرواحهم وإلا فإنهم قد دُفِنوا في الأرض، ويحتمل أنهم تشكلوا له بصورهم في الدنيا كما أخبر عن بعض أوصافهم، ومنه قوله في يوسف وأنه قد: «أعطي شطر الحسن» [13]. أي الجمال، كما كان جبريل يتشكل بصورة بعض الرجال.

ثم إنه عُرِجَ به إلى السماء في صحبة جبريل عليه السلام، فاستفتح السماء الدنيا، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أأرسل إليه؟ قال: نعم. فقالوا: مرحبًا به فنعم المجيء جاء. ثم استفتح كل سماء مثل هذا، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. وأخبر أنه رأى الأنبياء في صورهم ومنازلهم من السماء. وفرض الله عليه الصلوات الخمس، مع فرض الوضوء على القول الصحيح. فقال: «هِيَ خَمْس، وَهِيَ خَمْسُونَ»[14] أي في مضاعفة الأجر.

والصحيح من أقوال العلماء، ومن نصوص القرآن والسنة، أن الرسول لم ير ربه تلك الليلة، لكون رؤية الرب مستحيلة في الدنيا كما حكى الله عن نبيه موسى. ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي [الأعراف: 143].

يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ ٥١ [الشورى: 51].

ولما سئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟»[15] أي حال دون رؤيته نور. قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه. ثم استدلت بقوله: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣ [الأنعام: 103]. [16]. وأما قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ ١٨ [النجم: 18]. فإنه جبريل حين رآه في صورته التي خلقه الله عليها بمنظر عظيم هائل.

وهذا الإسراء والمعراج حصلا في ابتداء نبوته، وليس عندنا دليل يثبت تعيين يومه أو شهره بطريق صحيح.

فالقول بأنه في شهر رجب، هو قول لا صحة له، ولا يستند إلى دليل، ولم يكن من عادة الصحابة ولا التابعين التجمع للإسراء والمعراج، وليس له عندهم أي عمل أو اهتمام، وإنما يؤمنون بما قص الله في القرآن من خبره. وما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، وفي بعض البلدان، من التجمعات للإسراء، والمولد، وليلة النصف من شعبان، كله من البدع المحدثة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما سميت البدعة بدعة لكونها زيادة في الدين، ومن عادة البدعة التمدد والزيادة كل عام.

والحكمة من ذكر الإسراء في القرآن، هو الإيمان به، والعمل بما أوجب الله من المحافظة على الصلوات الخمس التي افترضها، فهي أول ما افترض من الشرائع، كما أنها آخر ما يفقد من دين كل إنسان. فاقتصاد في سُنة خير من اجتهاد في بدعة، ومحبة الرسول ﷺ تظهر حقيقتها في طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

فقول بعضهم: إنها بدعة حسنة. خطأ، فليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة وكل بدعة سيئة.

وقد وردت أحاديث في أمور رآها رسول الله ﷺ في الإسراء، منها قوله: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتك الذين يقولون ما لا يفعلون». رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد.

قال: «ورأيت رجالاً على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم. فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين منعوا زكاة أموالهم وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون».

قال: «ورأيت قومًا يزرعون في يوم، ويحصدون في يوم. فإذا حصدوا عاد كما كان. فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين». رواه البزار من حديث أبي هريرة، وفي سنده ضعف.

فهذا ملخص حديث الإسراء برسول الله ﷺ يؤمن به المؤمنون، ويكذب به الزنادقة الملحدون ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 41].

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

[9] العزالي جمع عزلاء، وهو مصب الماء من القربة ونحوها. [10] ما رزئنا: أي ما أنقصنا. [11] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث حبيش بن خويلد. [12] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [13] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس. [14] حديث الإسراء والمعراج حديث متفق عليه من حديث أبي ذر. [15] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر. [16] رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.

(3) المحَافظة على الصّلوات الخَمْس وكوْنها العُنوان عَلى صحّة الإيمَان

الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور الذي وفق من أراد هدايته لمحاسن الأمور، ومكاسب الأجور. فعملوا في حياتهم أعمالاً صالحة لوفاتهم، يرجون بها تجارة لن تبور. وأشهد أن لا إله إلا الله بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته وأوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78]. فالطاعة قيد النعم والمعاصي من أسباب حلول النقم. ورأس الطاعة بعد الشهادتين: الصلاة التي هي عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل. تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، يقول الله سبحانه: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥ [العنكبوت: 45]. تفتح باب الرزق، وتيسر الأمر، وتشرح الصدر، وتزيل الهم والغم، وهي من أكبر ما يستعان به على أمور الحياة وعلى جلب الرزق، وكثرة الخيرات، ونزول البركات، وقضاء الحاجات.

وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة، أو وقعوا في شدة من الشدائد، فزعوا إلى الصلاة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ [البقرة: 45] فهي قرة العين للمؤمنين في الحياة، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «حُبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة». رواه الإمام أحمد، والنسائي من حديث أنس. وهي خمس صلوات مفرقة بين سائر الأوقات؛ لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه. من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد.

فـ«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» كما ثبت ذلك بالحديث[17] وقد وصفها رسول الله ﷺ ««بنهرٍ غمرٍ - أي كثير - يَغْتَسِلُ مِنْهُ المُسلم كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَىْءٌ؟» قَالُوا لاَ. قَالَ: «فَکذَلِكَ الصَّلَوَات الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»»[18].

وإنما سميت صلاة؛ من أجل أنها تشتمل على الدعاء أو من أجل أنها صلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه، موصول من فضل الله وبره وكرمه. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[19]. فالمحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات هي العنوان على صحة الإيمان، لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ ١٨ [التوبة: 18]. وعمارتها تحصل بالصلاة فيها، ومن بنى مسجدًا يحتسب ثوابه عند الله بنى الله له قصرًا في الجنة، أما من بنى مسجدًا ثم هجره من الصلاة فيه، فإنه آثم في عمله وهجرانه لمسجد ربه، وفي الحديث أن الناس في آخر الزمان يعمرون المساجد، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً.

وكان الصحابة يرون التارك للصلاة في الجماعة منافقًا، يقولون ذلك ولا يأثمون، كما في صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق.

لأن من صفة المنافق ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨ [المائدة: 58]. فنفى الله عنهم العقل الصحيح؛ من أجل عدم إجابتهم لنداء الصلاة؛ الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح.

وإنما سُمي العقل عقلاً من أجل أنه يعقل عن الله مراده، أمره ونهيه. أو من أجل أنه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل. لن ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر إنه لو كان عند هؤلاء التاركين للصلاة في الجماعة عقل صحيح، لما أهملوا حظهم من هذا الفلاح. والمنادي ينادي فيهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح. والنبي ﷺ يقول: «من دُعِيَ إلى الفلاح فلم يجب لم يرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[20] ويقول: «إن الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق فيمن سمع داعي الله بالصلاة ثم لا يجيب»[21] وقد همَّ رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة، لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة. لاسيما إذا كان هذا التارك للصلاة في الجماعة من المنتسبين للعلم أو من الأساتذة المعلمين، فيسمع النداء، ثم يصر مستكبرًا عن الحضور إلى المسجد، فإنه يكون فتنة للعامة، لأن تخلفه بمثابة الدعاية السافرة، وبمثابة التعليم منه بهجران المساجد، بحيث يتوهم العامة بنظرهم إليه أن صلاة الجماعة ليست بواجبة.

والنبي ﷺ قد حذر من الاغترار بمثله فقال: «ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة في الجماعة فيتخلف بتخلفهم آخرون، أولئكم شراركم أولئكم شراركم»[22] لأن الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر. وقال: «مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيةٍ، وَلاَ بَدْوٍ، لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إلاَّ قَد اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِم الشَّيْطَانُ . فَعَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، فَإنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَة». رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح.

ومن المشاهد بالتجربة والاعتبار أن الذين لا يشهدون الصلاة في الجماعة أنهم غالبًا لا يصلون وحدهم؛ لأن التهاون بالشيء مدعاة إلى تركه.

إن رأس العلم خشية الله. فلو كان عند هؤلاء المنتسبين للعلم نصيب من خشية الله لما أهملوا حظهم من حضور الصلاة في الجماعة التي من حافظ عليها كان في ذمة الله وعهده ورعايته؛ لما في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يصبح، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي». وقال: «مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيْامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ»[23].

والمتخلف عن الجماعة قد خسر هذا الخير كله.

إن أعظم الناس بركة، وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس وعنده جلساؤه، وأصحابه، وأولاده، وخدمه، فيسمع النداء بالصلاة، فيقوم إليها فزعًا وفرحًا، ويأمر من عنده بالقيام إلى الصلاة معه، فيؤُمُّون مسجدًا من مساجد الله لأداء فريضة من فرائض الله، يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم، أولئك الميامين على أنفسهم، والميامين على جلسائهم وأولادهم ﴿ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18].

وبضد هؤلاء: قوم يجلسون في المجالس، وفي المقاهي وفي النوادي، وفي ملاعب الكرة، فيسمعون النداء بالصلاة ثم لا يجيبون. ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19] فهؤلاء هم المشائيم على أنفسهم، والمشائيم على جلسائهم وأولادهم.
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم
ويسعد الله أقواما بأقوام
أما التارك للصلاة بالكلية؛ بحيث يمر عليه اليوم واليومان، والشهر والشهران وهو لا يصلي، وربما يتعذر بعدم طهارة ثوبه وسراويله فهذا كافر قطعًا، بشهادة رسول الله عليه ﴿وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ [طه: 61]. ففي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ». وقال: «الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[24]. وروي: «لا دِينَ لِمَنْ لا صَلَاةَ لَهُ»[25].

إن موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد؛ لأن الصلاة عمود الإسلام، وهي آخر ما يفقد من دين كل إنسان. ولهذا كان العلماء يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حُدِّثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين، وأنه مؤمن. وإن حُدِّثوا بأنه لا حظ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11].

وقد حكى بعض العلماء إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة عمدًا، كما أن أئمة المذاهب الأربعة قد أجمعوا على كفر من استباح ترك الصلاة؛ إذ لا يصر على ترك الصلاة مؤمن بوجوبها.

فحافظوا على فرائض ربكم، وخذوا بأيدي أولادكم إلى الصلاة في المساجد معكم، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها يعود بها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، ولأنها بمثابة الدواء الفرد، تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر.

وإنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على الصلاح وفعل الصلاة في المساجد معكم؛ فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَمَن يَعۡشُ أي يعرض ﴿عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ [الزخرف: 36-37].

أما إذا ترك الوالد الصلاة فإن الولد يتأسى به في تركها؛ لأن الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر. وإذا صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية، فمتى ترك الوالد الصلاة تركها الولد، وتركتها الزوجة والبنات، أو شرب المسكرات شربها الولد، أو شرب الدخان - التنباك - شربه الولد، أو أطلق لسانه باللعن والشتم عند أدنى مناسبة، أطلق أولاده ألسنتهم به؛ لأن هذا بمثابة التعليم الذي ينطبع في أخلاقهم، والجريمة جريمة المربي الذي لم يؤسس فعل الخير في أولاده.

كما يجب على المرأة المحافظة على واجبات دينها؛ من طهارتها وصلاتها، وأن تأمر أولادها وبناتها بذلك، فإنها مسؤولة عن حسن تربيتهم. وفي الحديث: «المَرْأةُ رَاعِيَةٌ في بيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا»[26].

فيا معشر المسلمين. إن الله سبحانه قد شرفكم بالإسلام، وفضلكم به على سائر الأنام، متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن دين الإسلام هو بمثابة الروح لكل إنسان، فضياعه من أكبر الخسران.

وإن الإسلام ليس بمحض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.

إن للإسلام صُوًى ومنارًا كمنار الطريق يُعرف به صاحبه. فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون العمل. وقد وصف الله المؤمنين بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ [التوبة: 71]. فمتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم، أو لحاجة العلاج، أو لحاجة التجارة؛ فمن واجبه أن يظهر إسلامه في أي بلد يحل به، فيدعو إلى دينه، وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلوات وجب عليه أن يبادر بأدائها في وقتها، فيأمر من عنده من جلسائه وزملائه بأن يصلوا جماعة، حتى يكون مباركًا على نفسه، ومباركًا على جلسائه وزملائه.

أما إذا أهملتم تربية أنفسكم وأولادكم، وضيعتم فرائض ربكم، ونسيتم أمر آخرتكم، وصرفتم جل عقولكم وجل أعمالكم، واهتمامكم للعمل في دنياكم واتباع شهوات بطونكم وفروجكم صرتم مثالاً للمعايب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم السيئة التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالحين الذين شرفوا عليكم بتمسكهم بالدين، وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون! فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [الأنفال: 1].

[17] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [18] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [19] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [20] رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث جندب بن عبد الله. [21] أخرجه أحمد من حديث معاذ بن أنس. [22] روي هذا الأثر بمعناه في مصنف عبد الرزاق موقوفًا على عمر بن الخطاب. [23] رواه مالك ومسلم وأبو داود من حديث عثمان بن عفان ولفظه: قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ». [24] رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث بريدة وقال: حسن صحيح. وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. والحاكم. [25] أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر. [26] متفق عليه من حديث ابن عمر.

(4) الجمعة وفرضها وبيَان فضْلها والتحْذير من دُخول البدَع فيها

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين. ونصلي ونسلم على رسول الله سيد المرسلين. وأشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وافترض عليهم توحيده وطاعته، أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليها أهلهم وأولادهم، وآكد العبادة الصلوات الخمس المفروضة؛ التي هي عمود الديانة ورأس الأمانة، وآكدها صلاة الجمعة التي هي عيد الأسبوع، وهي أفضل من عيد الأضحى وعيد الفطر؛ لأن الله سبحانه اختار لهذه الأمة يوم الجمعة عيدًا يتفرغون فيه لعبادة ربهم، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا، فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ»[27] افترضت الجمعة على النبي ﷺ بمكة كسائر الصلوات الخمس، لكنه لم يتمكن من إقامتها بمكة، من أجل أن المشركين يمنعونه من ذلك. ولما هاجر بعض الصحابة إلى المدينة، أمر النبي ﷺ مصعب بن عمير بأن يصلي بهم الجمعة. قال عبد الرحمن ابن كعب - وكان قائد أبيه بعدما عمي - قال: كان أبي إذا سمع أذان الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت: يا أبت إنك إذا سمعت أذان الجمعة ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: نعم يا بني، إنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات في حرة بني بياضة، وذبح لنا شاة، فتغدينا عنده. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون[28].

أخذ بهذا الحديث من اشترط لصحة الجمعة حضور أربعين من أهل وجوبها. ولا دليل في الحديث على اشتراط هذا العدد؛ لأنها قضية حال صادفت كونهم أربعين بدون تحديد من الشارع. والصحيح أن الجمعة تصح ولو بدون أربعين، فكل قوم في قرية فإنه يجب عليهم أن يقيموا صلاة الجمعة، ولو كانوا عشرة، أو أقل أو أكثر.

أما النبي ﷺ فإن أول جمعة صلاها في مسجد بني عبد الأشهل بالمدينة حين قدم إليها مهاجرًا، ونزل على أبي أيوب الأنصاري، فوافق قدومه يوم الجمعة، فصلى بالناس، وحُفِظَ من خطبته في ذلك اليوم بعد حمد الله والثناء عليه أنه قال: «أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، وصِلُوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية؛ تُنصروا، وتُرزقوا، وتُجبروا، واعلموا أن الله افترض عليكم صلاة الجمعة في يومي هذا، في مقامي هذا، من تركها تهاونًا بها، واستخفافًا بقدرها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا صيام له»[29] وفي هذا الحديث دليل على عقوبة التارك للجمعة بدون عذر؛ فإنه متعرض لإحباط عمله من صلاته وصيامه، ثم هو متعرض لوقوع دعاء النبي ﷺ عليه، حيث قال: «فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره». ومن لا يجمع الله شمله يكون مشتت الحال، كثير الهم والغم والبلبال، كما أن من لا يبارك في أمره يكون دائمًا هلوعًا جزوعًا، جموعًا منوعًا؛ كشارب البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا. فهو فقير، لكنه لا يؤجر على فقره، بل الفقير أحسن حالاً منه. ومن دعاء النبي ﷺ أنه قال: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ وَأَخْلِفْ عَلَيَّ كُلَّ فائتة بِخَيْرٍ»[30].

إن بعض الناس يثقل عليهم حضور الجمعة، ويتهربون إلى الصحراء عنها، ويتركونها بدون أن يصلوا في طريقهم في أحد المساجد التي تقام فيها الجُمَع. وهذا إنما ينشأ عن ضعف الإيمان، وعدم الرغبة في الثواب المترتب عليها، وإذا خرج الرجل إلى الصحراء وتعمد ترك الجمعة؛ دعت عليه الملائكة بأن لا يُصحَب في سفره، ولا تُقضَى حاجته. ذكره العلامة ابن القيم في كتاب الهدي النبوي وقد قال النبي ﷺ على أعواد منبره: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ»[31]. والختم هو أن يقفل على القلب فلا يدخله هدى، ولا يتخلص منه الردى. وقال: «مَنْ تَرَكَ ثَلاَثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ»[32] وقد همَّ رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الجمعة لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا يجب عليهم حضورها[33]. إن حضور الجمعة واجب على كل مسلم إلا على أربعة: مملوك وامرأة وصبي ومريض، كما ثبت بذلك الحديث[34]. فالمريض الذي لا يستطيع حضور الجمعة، يصليها ظهرًا؛ أربع ركعات، وله ثواب الجمعة على قدر نيته. وكذا المرأة تصليها في بيتها أربع ركعات، كصلاة الظهر؛ لأنه لا جمعة عليها وتدرك ثواب الجمعة وفضلها على حسب نيتها، إلا إذا حضرت المسجد مع الناس، في أحد المساجد الذي يصلي فيه النساء بمعزل عن الرجال، كمسجد مكة والمدينة، فإنها تصليها ركعتين كما يصلي الرجال.

وينبغي للمسلم أن يغتنم التبكير للجمعة، ويغتنم ثوابها وفضلها؛ لأن حضور الجمعة خير من الدنيا وما فيها، وإن الملائكة يكتبون الأول فالأول، كما أن الشياطين تغدو براياتها إلى الأسواق، يثبطون الناس عن الصلاة. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنًى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت قلبك شغلاً ولم أسد فقرك»[35].

إنه يوجد من الناس في بعض الأمصار من يحافظ على حضور الجمعة لكنه يهمل فرائض الصلاة في سائر الأوقات؛ لزعمه أن حضور الجمعة يكفر عنه عدم حضوره الصلوات الخمس، ويتأولون حديث: «الْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». وحديث: «مَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَفَضْلَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ»[36].

وهؤلاء ممن قال الله فيهم: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١ [النساء: 151] فإن تكفير ما بين الجمعة إلى الجمعة مشروط بالمحافظة على سائر الصلوات الخمس، وصيام رمضان، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[37] فشرط التكفير كونه يجتنب الكبائر. وترك الصلاة هو من أكبر الكبائر، بل إن تعمد ترك الصلاة كفر بالله؛ لأنها عمود الإسلام، والناهية عن الفحشاء والآثام. من تركها فقد كفر كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» وفي رواية: «من تركها فقد أشرك»[38] وقد أجمع العلماء على كفر من استباح ترك الصلاة.

ثم إن للجمعة آدابًا ينبغي للمسلم المحتسب أن يحافظ على آدابها رجاء ثوابها، فمنها: الاغتسال لها، ولبس أحسن الثياب، ومس الطيب، وإذا دخل المسجد صلى ما يتيسر له، فمن الصحابة من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل، ومنهم من يصلي أكثر، والنبي ﷺ قد حث على هذا كله، فقال: «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس أحسن ثيابه، ومس من طيب أهله، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا؛ ومن لغا فلا جمعة له» رواه مسلم. وقال: «من تكلم والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا. ومن قال لصاحبه: أنصت. والإمام يخطب فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له»[39]

فمن فوائد هذه الأحاديث، أن خروج الإمام، وشروعه في الخطبة، أنه يمنع من فعل التطوع بالصلاة، ويمنع من الكلام. فلا يجوز لأحد أن يقوم ثم يصلي؛ لأن هذا وقت نهي، إلا إذا دخل المسجد والإمام يخطب، أو المؤذن يؤذن، فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس؛ لما في صحيح مسلم عن جابر: أن النبي ﷺ كان يخطب، فدخل رجل - يقال له: سليك الغطفاني - فجلس قبل أن يصلي ركعتين. فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ، أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ».

ومن آداب الجمعة: الاستماع للخطبة، وألا يتكلم بشيء؛ فإن الكلام يبطل ثواب الجمعة. وألا يتخطى رقاب الناس إلى بقعة يريد أن يصلي فيها، وقد نهى رسول الله ﷺ عن تخطي رقاب الناس في المسجد، ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يتخطى رقاب الناس قال له: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ»[40] فواجب المسلم أن يجلس حيث ينتهي به الجلوس من المسجد بدون أن يتخطى رقاب الناس، وبدون أن يحتجز له بقعة يضع فيها عصا أو مصلى، ثم يتخطى رقاب الناس إليها فقد عد بعض العلماء هذا ظلمًا، كما أنه بدعة لكونه يحجز هذه البقعة عن المبكرين السابقين إلى المسجد، والسابق إلى المسجد أحق بالتقدم إليها؛ لأن الله يقول: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١ [الواقعة: 10-11] وقد قال بعض العلماء بعدم صحة الصلاة في ذلك المكان المحجوز؛ لأنها بمثابة البقعة المغصوبة. حيث إن مَن مَنعَ المستوجبين للتقدم في الروضة والصف المتقدم فقد ظلمهم حقهم. وقد قيل:
ووضع المصلى في المساجد بدعة
وليس من الهدي القويم المحمدي
وتقديمه في الصف حجر لروضة
ومنع لها عن سابق متعبد
ومما ينبغي أن ننصح به أن المسلم إذا دخل المسجد فإنه يجب عليه أن يوطن نفسه، وأن يعتقد اعتقادًا جازمًا لصحة جمعته التي يصليها مع الإمام، ومع جماعة المسلمين، وأنها جمعة صحيحة تامة، يرجو ثوابها وأجرها عند الله، ولا يختلج في قلبه الشك في صحتها بناء على ما يسمعه من بعض الفقهاء الذين يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد. فقد سمعنا عن بعض البلدان أن بعضهم يصلي الجمعة بنية فاسدة؛ حيث يدخل فيها وفي نيته أن يعيدها ظهرًا لاعتقاده بطلانها. ولا شك أن الداخل في صلاة الجمعة بنية فاسدة فإن جمعته فاسدة «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»[41]. ونحمد الله أننا في عافية من هذه البدعة فلا تفعل عندنا، وإنما ننصح عنها من ابتلي بها من إخواننا المسلمين الذين جعلوا هذه البدعة بمثابة الزيادة في الدين، وهي من وساوس الشياطين، ونعوذ بالله ﴿مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ ٤ ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ ٥ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ ٦ [الناس: 4-6] فهؤلاء الذين يفعلون ذلك، يعتبرون بأنهم خاسرون لفضل جمعتهم وفرضها، فينصرفون عن الجمعة بخفي حنين حيث خسروا الجمعة حين دخلوها بنية فاسدة. والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا. كما أنهم يخسرون صلاة الظهر، فلا تصح منهم، فينصرفون وقد خسروا الجمعة، وخسروا صلاة الظهر ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٣ [محمد: 33].

وهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الجمعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة تامة. فإذا دخل الإنسان المسجد وأدرك مع الإمام الركعة الثانية من الجمعة فإنه يعتبر مدركًا للجمعة. بحيث يأتي بالركعة الثانية فقط، وتصح جمعته؛ لأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. أما إذا دخل المسجد ووجد الإمام قد رفع رأسه من الركعة الثانية فإنه يعتبر بأن الجمعة قد فاتته. فلا جمعة له. فمن واجبه أن يصليها ظهرًا؛ أربع ركعات. سواء كان وحده أو مع جماعة. لما روى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وإن أدرك أقل من ذلك فليصل ظهرًا»[42].

إن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بالمبادرة بالسعي إلى الجمعة وترك البيع والشراء، والأخذ والعطاء بعد النداء للتفرغ لعبادتها. وأخبر أن حضور الجمعة خير لهم من الدنيا وما فيها. فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٩ [الجمعة: 9]. ثم إنه سبحانه أذن لهم بعد الفراغ منها بأن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضل الله فقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٠ [الجمعة: 10] أي بيعوا واشتروا وابنوا واغرسوا، وسافروا للتجارة في البر والبحر، لأنكم قد أديتم واجبكم. وحافظتم على فريضة ربكم. والمحافظة على الواجبات هي من أكبر العون على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وسعة الرزق في الحياة ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا [الطلاق: 4]. ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ [الطلاق: 2-3].

وكان عراك بن مالك أحد التابعين إذا فرغ من صلاة الجمعة، أمسك بعضادة باب المسجد وقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وأديت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك كما وعدتني، إنك خير الرازقين. فأثرى ماله، وكثر خيره.

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[27] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [28] رواه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وصححه. [29] رواه ابن ماجه والطبراني في الأوسط، من حديث جابر ومن حديث أبي سعيد الخدري. [30] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي الجعد الضمري. [31] رواه مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر، وكذا رواه ابن ماجه من حديثيهما. [32] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي الجعد الضمري. [33] رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. [34] رواه أبو داود عن طارق بن شهاب، وقال: لا يسمع طارق من النبي ﷺ. ورواه الحاكم من حديث أبي موسى. [35] أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة. [36] أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة. [37] أخرجه مسلم من حديث هريرة. [38] أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بن مالك. [39] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس. [40] أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله. [41] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [42] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.

(5) التذكير بالخطبَة الأخيرة من يوم الجمعَة

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي شرع صلاة الجُمَع والأعياد. وبيَّن للناس طريق الهدى والرشاد. اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس، إنكم لن تُخلقوا عبثًا، ولن تُتركوا سدى، وإن لكم معادًا يجمعكم الله فيه، فيحكم بينكم. وقد خاب وخسر عبد خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء. وحُرِم جنة عرضها السماوات والأرض. أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون إلى أجل مسمًّى محتوم. فمن استطاع منكم أن يقضي عمره وهو محافظ على واجباته؛ من صلاته وزكاته وصيامه فليفعل.

إن قومًا صرفوا جل عقلوهم، وجل أعمالهم، وجل اهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم. فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم. فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 18-19] أين من تعرفون في مثل هذا اليوم من الآباء والإخوان، والأصدقاء والجيران قدموا على ما قدموا من عمل، وجوزوا بالسعادة والشقاوة، أين الذين بنوا القصور المشيدة، وحازوا فنون الأموال والقلاع؟ قد صاروا رميمًا تحت الصخر والتراب. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته. لتعملوا مثل عمله. فقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ [الأنبياء: 90].

﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ [آل‌عمران: 147] وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

* * *

(6) فضل الإسلام ومَا يشتمل عَليه من المحَاسن والمصَالح العظام

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه بفضله ورحمته، قد أنعم على عباده بنعم كثيرة، وأجلها وأعظمها الهداية إلى الإسلام، والثبات عليه حتى يلقوا ربهم. كما في الحديث: «قد أفلح من هُدِيَ للإسلام، ورُزِقَ كفافًا، وقنعه الله بما آتاه»[43]. ومن دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ والسنة، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[44]. ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ [الأنعام: 125]. فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، طيبة بذلك نفسه، منشرحًا به صدره ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ [الزمر: 22].

﴿ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا [الأنعام: 125] بذكر الإسلام،﴿ حَرَجٗا من أمره ونهيه وصلاته وصيامه، وحلاله وحرامه. يراه بمثابة التكاليف الشاقة عليه، ينفر عن الطاعة، ويألف البطالة، يبغض أهل الإيمان، ويميل بطبعه ومحبته إلى أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه، والمرء على دين خليله وجليسه.
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا
تقييده بأوامر ونواهي
إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، فترى الكثير منهم لا يصلون الصلوات المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ﴿ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ [التوبة: 29]، من الربا وشرب الخمر،﴿ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ [التوبة: 29]، ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام، فهؤلاء هم العادمون للدين، والمعادون لأهله، فهم جديرون بكل شر، بعيدون عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه؛ لأن دين الإسلام يهذب الأخلاق، ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، وسوء الأخلاق، وإنما تنجم الأفعال الفظيعة، والأعمال الشنيعة، من العادمين للدين.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها؟! وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر، وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض؛ لأن للمنكرات ثمرات، ولترك الطاعات عقوبات ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢ [النحل: 112].
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغوا السلامة من غناء
إذا انـصرفت شعوب الأرض عنه
فَـبَشِّرْ كل شعب بالشقاء
نظام العدل يمنع كل شر
وطب الشـرع ينزع كل داء
وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك؛ يقول: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ»[45].

والدين - هو هذا السمح السهل الموصل بمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة - ليس بحرج ولا شاق، ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة، ولا التوسع في التجارة المباحة، بل هو سلم النجاح، وسبب الفلاح. رأسه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وعموده: الصلاة، وبقية أركانه: الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.

وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، بدون اختبار لهم بالأعمال التي تصدق إسلامهم أو تكذبه، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2] أي لا يُختبَرون ولا يُمتحَنون على صحة ما يدعون ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع من فعل الواجبات وترك المحرمات ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ أي في دعوى إيمانهم حيث قاموا بواجبات دينهم فصدق قولهم فعلهم ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ [العنكبوت: 3] أي الذين قالوا: آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه.

يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9] فاعملوا بإسلامكم تُعرَفوا به، وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله، فإن للإسلام صُوًى ومنارًا كمنار الطريق يُعرَف به صاحبه، وأنه لا إسلام بدون عمل.

وقد روى الإمام أحمد رحمه الله - من حديث أنس - أن النبي ﷺ قال: «الإِسْلاَمُ عَلاَنِيَةٌ وَالإِيمَانُ فِى الْقَلْبِ». ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان، فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء الله في أرضه. وهذا معنى قول العلماء: إن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة.

أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي، ولا يؤدي الزكاة الواجبة، ولا يصوم رمضان، ولا يصدق بالبعث بعد الموت للجزاء على الأعمال، ولا يصدق بالجنة والنار، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. فمثل إسلامه كمثل البيت الخرب المتساقطة غرفه وعمدانه. وأكثر الناس لا يعرفون الإسلام على حقيقته، وإنما يعرفونه باسمه فقط. فالإسلام قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

إن دين الإسلام هو دين الفطرة السليمة، والطريقة المستقيمة، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وبين مصالح الروح والجسد، فهو دين سعادة وسيادة. فمن ادعى عزل الدين عن الدولة فقد كذب.

فهو الدين الذي شرعه الله لعباده، وارتضاه دينًا للبشر كلهم: عربهم وعجمهم. لا دين لهم سواه، يقول الله سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وقد «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[46]. ثبت بذلك الحديث. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل‌عمران: 19] وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل‌عمران: 85]. إن دين الإسلام هو دين السلام والأمان،، دين العزة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام. دين من قام به ساد، وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

دين يحترم الدماء والأموال ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ»[47] فدين الإسلام صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء لأنه يهدي للتي هي أقوم.

إن أكثر الأمم في هذا الزمان لما خسروا الإسلام، ولم يكن لهم حظ ولا نصيب من العمل بالسنة والقرآن، أصبحوا فوضى حيارى، ليس لهم دين يعصمهم، ولا شريعة تنظمهم، فصاروا في أخلاق البهائم، يعتذرون بأنه ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44].

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، ومن التدليس والكتمان، حيث وصفوه بأن فرائضه تكاليف شاقة، وأن حدوده آصار وأغلال، وأنه لا يتلاءم الحكم به مع القرن العشرين. ونحو ذلك مما يقولون: ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5].

فهذه الأقوال الكاذبة الخاطئة إنما خرجت من المستشرقين، أعداء الإسلام والمسلمين، قصدوا بها صد الناس عن الدين، لأنهم لم يعرفوا الإسلام، ولم يذوقوا حلاوته. من ذاق منه عرف، ومن حُرِم انحرف، فمن جهل الإسلام عابه وعاداه، وقد قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا يحكمون بالشريعة الإسلامية الكفيلة بحل مشاكلهم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان. عملاً بقوله سبحانه: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَ [المائدة: 49].

فكان الحكام المسلمون يحكمون بالقصاص، وقطع يد السارق، ويجلدون الزاني والقاذف وشارب الخمر، ولا تأخذهم في الله لومة لائم. فكانت لهم العزة والقوة والتمكين في الأرض، وهذه الحدود، وإن استوحش الناس منها واستشنعوها، لكنها بمثابة العلاج الوحيد لتقليل الجرائم، فهي العلاج الشافي النافع لعللهم، وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44]؛ لأن من لا يكرم نفسه لا يكرم. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18]. والمضار الجزئية الفردية تُغتفَر في ضمن المصالح العمومية.

خرج الصحابة رضي الله عنهم من جزيرتهم والقرآن بأيديهم، يدعون الناس إليه، ويفتحون به ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي نهضوا به، وفتحوا وسادوا وشادوا، وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف، إلى الوحدة والإتلاف، ومن الجفاء والبداوة والهمجية، إلى الحضارة والعلم والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صَيَّرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ومجد وعلم وعرفان. وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ [النور: 55]. وصدق الله وعده، فكانوا هم ملوك الأمصار، بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم شبع جوعته، وستر عورته. ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص، أن أَخْبِرونا بالذي تريدون منا، وما الغرض الذي أقدمكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: نريد أن نُخرِج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأن نخرجهم من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، وأن نخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها.

فهذا صنيع سلف المسلمين الكرام، من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان، والسنة والقرآن، حتى اتسعت حضارة الإسلام اتساعًا عظيمًا، لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام. ذلك بأنها لما اتسعت فتوحهم الإسلامية، وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش، وتزويق الأبنية وخزن النقود فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، ونشر العلوم الإسلامية، والأحكام الشرعية، وتعميم اللغة العربية، فاختطوا المدن، وأنشؤوا المساجد، ونشروا المكارم والمفاخر وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا. أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت لهم بالأرزاق الدارة. أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.

وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، كل ذلك من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون، يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية بدله، ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم؛ لأن الله سبحانه قال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ [الرعد: 11].

واقتضت حكمة الله المشاهدة بطريق الاعتبار والتجربة، أنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والزكاة والصيام، والتكاليف الشرعية، واستباحوا المنكرات، وشرب المسكرات الوبيئة، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[43] رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص بلفظ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا». [44] رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة. [45] رواه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود. [46] أخرجه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب. [47] رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.

(7) نظَام شَرع الإسلام وكونه صَالحًا لكلّ زَمانٍ ومَكان

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مُبَرَّأة من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله الملك العلام، والتزموا ما أوجبه عليكم من حقوق الإسلام، واعلموا أن نعم الله على العباد كثيرة وأجلها وأفضلها الهداية للإسلام، كما في الحديث: «قد أفلح من هُدِيَ للإسلام ورُزِقَ كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه»[48] ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ [الأنعام: 125] فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، منشرحًا بذلك صدره، طيبة به نفسه، وإذا حلت هداية الإسلام في قلب إنسان نشطت في مرادها الأجسام ﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا [الأنعام: 125] أي ضيقًا بذكر الإسلام، وحرجًا من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وصلاته وصيامه، فهو ممن قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9] فتجد مَن هذه صفته يألف البطالة، وينفر عن الطاعة، ويبغض أهل الإيمان، ويميل بمحبته إلى مصاحبة أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه، والمرء على دين خليله.

إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه. فتجد أكثرهم يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدًا رسول الله، ويصلون عليه عند ذكره، ويشهدون أن دينه هو الحق، وهم يتوسلون بالمقبورين ويسألونهم قضاء حوائجهم، وتفريج كربهم، وما شعروا أن هذا هو الشرك الأكبر؛ المحبط لصلاتهم وصيامهم وصالح أعمالهم. وقد أخبر الله بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[49].

إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابع التابعين، وكذا نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وعماد الدين، وأمثالهم من سلاطين المسلمين، إنما شاع لهم الثناء العاطر، والذكر الجميل، وصاروا في الفتوح والتاريخ هم الصدر المقدم، والسيد المرهوب، كله من أجل تمسكهم بالإسلام، وعملهم بشرائعه على التمام. حيث جعلوا القرآن لهم بمثابة الإمام؛ فقادهم إلى الأمن والإيمان، والسعادة والاطمئنان، فعاشوا في ظله في نعمة باسقة، وعافية واسعة، عرفوا حلاوته حين ذاقوا ثمرته، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حُرِم انحرف. وفي الحديث: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً»[50].

فالتكاتف على التمسك بالإسلام والعمل بشرائعه على التمام؛ هو الذي يوحد المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم.[51] وقد ذكر عباده المؤمنين في كتابه المبين بهذه الوحدة فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ [آل‌عمران: 102-103] فحبل الله الإسلام والعمل بالقرآن، فهو حبله المتين، ودينه القويم، وصراطه المستقيم.

الإسلام دين السلام والأمان، دين العزة والقوة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والضلالة والأوهام، دين العدل والمساواة بين الشريف والوضيع، والخاص والعام، في الحدود والحقوق والأحكام. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالطاعة والإيمان.

دين يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف كالإخوان، وفي التعاضد والتساعد كالبنيان ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ [المائدة: 54]. ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ [التوبة: 71].

دين يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[52]. ويقول: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ منه»[53] أي بموجب الرضا التام.

دين من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بطريق العدل والإنصاف والإتقان ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١١٥ [الأنعام: 115] أي صدقًا في الأقوال، وعدلاً في الأحكام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه ﴿يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا [الإسراء: 9].

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا من بعثة النبي ﷺ ودينهم الإسلام، ودستورهم السنة والقرآن؛ لأن الله نصبهما حكمًا عدلاً يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان خلافهم إلى مواقع الإجماع. ولأنه لم يمت رسول الله ﷺ حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المسلمين؛ باع واشترى، وأجر واستأجر، ونكح وطلق، وحارب وسالم. وأنزل الله عليه في حجة الوداع وهو واقف بعرفة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وخطب الناس فقال: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ»[54].

فشريعته كاملة شاملة صالحة لحل جميع مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع في الزمان القابل، ولا يأتي صاحب باطل بحجة ولا مشكلة من مشكلات العصر إلا وفي القرآن والسنة بيان حلها وطريق الهدى من الضلال فيها.

غير أن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوا شريعته أثوابًا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان، فصاروا يعيبونه بالقدم، وأنه لا يتلاءم الحكم به في القرن العشرين، وأنه ينبغي عزل الدين عن الدولة. وأن شريعته تكاليف شاقة. ونحو ذلك مما يقولون ويفترون ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5]. وغير ذلك من الألفاظ المقتضية لصد الناس عنه، وتنفيرهم منه وهم أعداؤه، فلا عجب إذا أكثروا من الحمل عليه والطعن فيه. وقد قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالهم، وانتقص الأعداء كثيرًا من بلدانهم من أجل انتشار هذه الأفكار بينهم، ومن أجل ضعف عملهم بالإسلام، فساء اعتقادهم فيه، ومن أجل أنه صار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية بدله، ومن أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا وشرب الخمور، وتبيح لهم الرقص والخلاعة والسفور، وقد رضوا بها حكمًا بديلاً عن حكم الله عز وجل ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50] فصاروا بهذه الأعمال من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم، وصدق عليهم قول النبي ﷺ: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ»[55] وقد وعد الله - ووعده حق وصدق - كل من اتبع هداه وتمسك بدينه وشرعه بألا يضل ولا يشقى في الدنيا، ومن أعرض عن ذكره وترك طاعة ربه وشرعه فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى. والمشاهدة في الحاضرين تكفي لتصديق قواعد الدين.

إنه من الجائز إبدال قاض بدل قاض، وأمير بدل أمير، أما إبدال شرع الله الحكيم بالقوانين فإن هذا يعد من الضلال المبين. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ [المائدة: 44]. ويرحم الله الإمام مالك حيث يقول: والله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

ذلك بأنه لما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية؛ لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش، وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، وترقية العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية.

فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم خرافات الضلال والأوهام فرَقَتْ حضارة الإسلام رقيًّا لا يماثَل ولا يضاهَى ولا يضام. فاختطوا المدن، وأنشؤوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، فأوجدوا حضارة جديدة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا. أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت بقوة الاستطاعة. وغرسوا فيها الأعمال البارّة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة. أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
ثم دخل النقص حين ضعف عملهم بشرائع الإسلام، وحين أعرضوا عن هداية القرآن. وإنه ما من بلد يكفر أهلها بالشرائع الإسلامية، ويتركون الصلاة الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، إلا فتح عليها من الشر كل باب، وصب عليها ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

* * *

[48] أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص بلفظ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا». [49] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عبد الله بن عمرو. [50] رواه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب. [51] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [52] متفق عليه من حديث جابر. [53] أخرجه الدارقطني من حديث أنس بن مالك. [54] أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث العرباض بن سارية.. [55] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس.

(8) دَعـوة النّصَارى وسَائر الأمَم إلى دين الإسلام[56]

الحمد لله والصلاة والسلام على سائر أنبيائه، ومن آمن بهم واتبع هديهم ولم يفرق بين أحد منهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون وأيها المستمعون: إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وإن الله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي دين الإسلام إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.

وإن الدين - هو هذا السمح، سهل الاكتناه[57] والعمل- ليس بشاق ولا حرج. عموده: الصلاة، وبقية أركانه: الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام مرة واحدة عند الاستطاعة. وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.

لكون الإسلام ليس هو محض التسمي باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فاعملوا بإسلامكم تُعرَفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون العمل.

إن دين الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لجميع الخلق، فقال سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وقال تعالى: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل‌عمران: 85]. وقال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ [الأنعام: 125]. فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفروضه ونوافله، طيبة بذلك نفسه، منشرحًا به صدره ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ [الزمر: 22].

الإسلام يهذب الأخلاق، ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق. يأمر بالمحافظة عل الفرائض والفضائل، وينهى عن منكرات الأخلاق والرذائل.

الإسلام دين السلام والأمان، يحب السلم ويكره الحرب، إلا في حالة الاضطرار. وقد سماه الله سلمًا فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ [البقرة: 208]. أي في الإسلام.

الإسلام دين العزة والقوة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والشرك والضلال والأوهام.

الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالطاعة والإيمان.

الإسلام يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[58] ويقول: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ منه»[59]. أي بموجب الرضا التام. وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188].

الإسلام دين السعادة والسيادة، من قام به ساد، وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ [الحج: 18].

الإسلام شريعة الله في أرضه، شرعه لعباده لمصالحهم الدينية والدنيوية، فقد نظم حياة الناس أحسن نظام. ولولا الإسلام وما فيه من الشرائع والأحكام، وأمور الحلال والحرام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق.

الإسلام كافل لحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان. صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة، والعدل والإحسان والإتقان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم.

إننا في دعوتنا إلى دين الإسلام، لسنا ندعو إلى قومية عربية، ولا إلى أحزاب شعبية، ولا إلى مذاهب فقهية، وإنما ندعو إلى الدين الحق، دين الله الذي ارتضاه لجميع الخلق، دين عيسى وموسى وسائر الأنبياء، وخاتمهم محمد ﷺ. يقول الله سبحانه: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣ [الشورى: 13].

فأمر الله سبحانه بإقامة الدين والاجتماع على كلمته، ونهى عن التفرق فيه، بأن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفروا ببعض، أو يؤمنوا ببعض الكتب ويكفروا ببعضها ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا [النساء: 150].

وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يقولوا: ﴿ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ [البقرة: 136].

إنه من يكذب نبيًّا من الأنبياء فإنه يعتبر مكذبًا لسائر الأنبياء، وكافرًا بالله عز وجل. فالذين يكذبون بنبوة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أو يكذبون بمعجزاته التي أثبتها القرآن، فإنهم يعتبرون مكذبين لسائر الأنبياء، وكافرين بالله عز وجل. ومثلهم الذين يكذبون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، أو يكذبون بالقرآن النازل عليه من الله، أو يزعمون بأنه شيء فاض على نفس محمد بدون أن يوحي به الله إليه، أو ينزل به جبريل عليه السلام.

فإنهم يُعتبَرون بأنهم مكذبون بنبوة عيسى ابن مريم، ونبوة موسى وسائر الأنبياء؛ لأن من كذب نبيًّا واحدًا كذب سائر الأنبياء. ولأن التكذيب بمحمد أو التكذيب بالقرآن النازل عليه يستلزم التكذيب بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، والتكذيب بمعجزاته التي أثبتها القرآن الحكيم. وإنني أعجب أشد العجب من عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم، والذين برعوا في الذكاء والفطنة، وعرفوا اللغة العربية، وقد كثر في هذه الأزمنة اختلاطهم بالعرب المسلمين، وتعلموا لغة العرب التي يتمكنون بها من معرفة أحكام الإسلام، وبلاغة القرآن، وشمول نفعه ومحاسن أحكامه وحكمته، وعموم دعوته، وكونه رسالة رحمة وهداية من الله لجميع خلقه، وأنه المعجزة الخالدة لنبوة محمد ﷺ، والمصدق لسائر الأنبياء قبله، ومع هذا كله نراهم يصرون ويستكبرون على التكذيب بمحمد عليه الصلاة والسلام، وعلى التكذيب بالقرآن النازل عليه، تقليدًا منهم للمكذبين من القسيسين والمبشرين. والله تعالى يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ [آل‌عمران: 144]. وقال: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40] نظير قوله: ﴿مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَ [المائدة: 75].

على أن الكثيرين من عقلائهم يعترفون بدين الإسلام، ويصدقون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن ما جاء به هو الدين الحق الذي لا سعادة للبشر إلا باعتناقه واعتقاده، وأخذ بعضهم ينادي بعضًا بالرجوع إليه واتباع أحكامه. وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ [الأنعام: 89].

يا معشر النصارى لقد تعصبتم وما أنصفتم، وإن موضع العجب منكم هو أن القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام كله نضال وجهاد وجدال عن نبوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، يحقق صدق نبوته وكرامة نشأته، وطهارة مولده، وبراءة أمه مريم البتول عليها السلام.

وإن الله سبحانه خلقه بيد القدرة من أم بلا أب، كما خلق آدم من تراب ثم قال له: كن. فكان. وإن الله أيده بالمعجزات الباهرات، الدالة على صدق رسالته، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرونه في بيوتهم، مع تكليمه الناس في المهد وقوله: ﴿إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا٣٢ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا٣٣ ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ٣٤ [مريم: 30-34].

كل هذه المزايا من الصفات والمعجزات قد أثبتها القرآن، وآمن بها المسلمون، ومن كذب بها فقد كفر. ولا توجد هذه الصفات وهذه المعجزات بالإنجيل الذي بأيديكم؛ لأن الله ذكرها في كتابه المبين: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ [النمل: 76].

على أن الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن ليس هو الإنجيل النازل على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وإنما هو مبدل منه، وفيه التحريف الكثير، والكذب على الله وعلى الأنبياء، كما يعترف العقلاء من علمائهم بذلك، يقول الله تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩ [البقرة: 79].

لأن النصارى يجيزون للقسيسين بأن يُغيِّروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، فيجعلون الحرام حلالاً؛ لأنهم ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ [التوبة: 31] فجعلوا المسيح هو الله، وجعلوه ثالث ثلاثة. والقرآن والإنجيل بريئان من ذلك: ﴿لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢ [المائدة: 72].

﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فَ‍َٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ١٧١ [النساء: 171]

وهذا القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام هو معجزة الدهور، وآية العصور، محفوظ في المصاحف وفي الصدور، منذ نزل إلى يوم القيامة. لا يستطيع أحد أن يقحم فيه حرفًا أو يحذف منه حرفًا؛ لأن الله سبحانه تولى حفظه، فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩ [الحجر: 9]

والقرآن هو أساس دين الإسلام، مع سنة محمد عليه الصلاة والسلام. ولولا هذا القرآن لكذب الناس بنبوة عيسى ابن مريم وبمعجزاته، كما كذب بها اليهود وغيرهم، ورموا أمه بالمفتريات والعظائم، طهرها الله وأعلى قدرها عما يقولون علوًّا كبيرًا. أفيجازى محمد رسول الله ﷺ الذي جاهد أشد الجهاد في الدفاع والنضال عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، بأن تقابلوه بتكذيبه، والتكذيب بالقرآن النازل عليه والذي هو المعجزة العظمى له؟! وقد تحدى الله جميع الخلق - وأنتم منهم - على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا. يقول الله سبحانه: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ [الإسراء: 88] أي معينًا.

مع العلم أنه كان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وليس في بلده ولا زمنه مدارس ولا كتب، يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49]. فعلم منه أن هذا القرآن وحي من الله أوحاه إليه بعد أن بلغ الأربعين من عمره، لا يقال: إن هذا القرآن شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي الله به إليه، وبدون أن ينزل به جبريل عليه؛ فإن القول بهذا حقيقة في التكذيب به، ومن قال به كفر وأصلاه الله سقر.

إن الله سبحانه ختم الرسل بنبوة محمد ﷺ، يقول الله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40]. كما ختم الشرائع بشريعته الشاملة الكاملة، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بغير شريعته؛ لأن الله سبحانه أرسله إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فكما أنه رسول للمسلمين فإنه رسول للمسلمين واليهود، ولسائر الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فهو رحمة الله المهداة لجميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء: 107]. وقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28].

وأنزل الله عليه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158].

وقد أثنى الله سبحانه على ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 157]. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»[60] فهو رحمة من الله مهداة لجميع الناس، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28].

فلو كان موسى أو عيسى موجودين بالأرض لما وسعهما إلا اتباع محمد والعمل بشريعته. ولما رأى النبي ﷺ مع عمر قطعة من التوراة قال له: «يَا عُمَرُ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَلَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي»[61]. إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق دين الإسلام واعتقاده، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وبالقرآن النازل عليه الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ ٤٢ [فصلت: 42] هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بقولهم بأنه رجل عاقل، وأنه عبقري، وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه، أو ينزل به جبريل عليه، تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.

فهم يتلقون هذا الكذب من القسيسين والمبشرين مما جعلهم يتأثرون به، ويتربون في حال صغرهم على اعتقاده. فهذا التأثر والتأثير قد أُشرِبت به قلوبهم حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

والأمر الثاني: هو أن تكذيب أذكيائهم، والمفكرين منهم، إنما نشأ عن عدم معرفتهم باللغة العربية، التي هي لغة الإسلام، والتي يعرف بها بلاغة القرآن، لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين.

فبلاغة القرآن بلغته، ومعرفة أحكامه وحكمته، وعموم هدايته ومنفعته، وذوق حلاوته، كل هذا إنما يدرك عن طريق لغته كقوله سبحانه: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤ [فصلت: 3-4].

إن عدم معرفة الأمم للغة العربية التي هي لغة القرآن هو أكثف حجاب يحول بينهم وبين اعتناق الإسلام واعتقاده، والتصديق بالرسول وبالقرآن النازل عليه.

أما ترجمة القرآن الموجودة بأيدي النصارى الآن - وقد تُرجم عدة تراجم - كلها ليست بالقرآن، وتبعد جدًّا عن بلاغة القرآن، وفيها الشيء الكثير من الخبط والخلط، الخارج عن معاني القرآن فلا تسمى قرآنًا. وإنني أنصح عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم، بأن يوجهوا عنايتهم ورغبتهم إلى تعلم اللغة العربية، فإن تعلمها يعد من الأمر الواجب على كل أحد، وخاصة من يرغب في الدخول في الإسلام، وبها يعرف أحكام العبادات من الصلاة والزكاة والصيام، ويتبين له بطريق الوضوح أن دين الإسلام هو الدين القويم، ﴿يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٖ مُّسۡتَقِيمٖ [الأحقاف: 30]. لأنه دين سعادة وسيادة وسياسة، صالح لكل زمان ومكان. قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم.

إن كثيرًا من أذكياء النصارى قد تغيرت أفكارهم بعدما تعلموا اللغة العربية، فظهر لهم من فضل الإسلام وصدق القرآن ما خفي على سلفهم. لهذا أخذوا يدعون قومهم إلى الرجوع إلى الإسلام، وإلى العمل بما شرعه من الأحكام، لكونهم أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم، ولا شريعة تنظمهم، وقد كثر الداخلون في الإسلام في هذا الزمان وأخذوا يزدادون في الدخول عامًا بعد عام.

إن تعلم اللغة العربية أصبحت ضرورة من ضروريات النصارى الاجتماعية. وفيها لهم مصلحة مفيدة فيما يتعلق بالكسب ووسائل الحياة، لكثرة اختلاطهم بالعرب المسلمين في بلادهم، وشدة حاجتهم إلى التخاطب معهم. كما أن العرب المسلمين لما احتاجوا إلى التعامل معهم فيما يتعلق بالتجارة والصناعة والطب أخذوا يعلمون أولادهم لغتهم لداعي الضرورة والحاجة إلى ذلك، كما علم النبي ﷺ زيد ابن ثابت اللغة العبرانية لحاجته للتخاطب مع اليهود.

ولقد انتشر الإسلام في بداية نشأته لانتشار اللغة العربية في البلدان الأجنبية، فعرفوا بها حقيقة أحكام الإسلام، وبلاغة القرآن، وأنه دين الحق القويم، الذي نظم حياة الناس أحسن تنظيم. وبذلك دخل الناس في دين الله أفواجًا أفواجًا، طائعين مختارين. وسيكثر الداخلون فيه من شتى الأمم ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.

إن النجاشي ملك الحبشة وأحد ملوك النصارى القدماء كان عارفًا باللغة العربية من أجل مجاورته لبلدان العرب، فقرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فجعلت عيناه تذرفان من البكاء خشوعًا وخشية لله، لحسن ما سمعه من كلام الله. فلما فرغ من قراءتها أخذ عودًا فرفعه ثم قال: إنه لم يزد على ما جاء به عيسى ولا مثل هذا العود. فأخذت بطارقته ينخرون استنكارًا واستكبارًا لقوله، فقال: وإن نخرتم وإن نخرتم، اذهبوا فأنتم سيوم[62] بأرضي، من رامكم بسوء غرم. وأنزل الله في فضله وتصديقه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ ٨٣ وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٤ [المائدة: 83-84].

قرآنًا يتلوه المسلمون في صلاتهم وخارج الصلاة، يشيد بفضل النجاشي وسبقه إلى الإسلام، وإيمانه بالقرآن، ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

وإن هذا التأثر والتأثير من النجاشي بسماع القرآن قد حمله على الدخول في الإسلام، حتى صلى عليه النبي ﷺ وأصحابه بعد موته.

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، ومن التدليس والكتمان، حيث وصفوا الإسلام بأنه دين تكاليف شاقة وأغلال، وبأنه دين حرب وقتال، وأنه إنما انتشر بالسيف والإكراه، وأن أهله يعرضون الشخص على السيف، ويقولون له: إما أن تسلم وإلا قتلناك. ونحو ذلك من الأقوال البعيدة عن مواقع الصدق في المقال، وقصدوا بها صد الناس عن الدين. ﴿وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنۡ‍َٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٢٦ [الأنعام: 26] ولا عجب فهم أعداؤه وقد تحاملوا عليه بالطعن فيه لصد الناس عنه، وقد قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
والحق أن الإسلام إنما انتشر بالقرآن، وأنه فتح من البلدان أكثر مما فتح بالسيف والسنان، وأن السيف بمثابة الناصر له في كف الأذى عنه والعدوان. وفي محكم القرآن ما يدل على منع الإكراه في الدين، يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦ [البقرة: 256] وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99] وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢ [الغاشية: 21-22]. أي لست بمسلط على إدخال الهداية في قلوبهم ﴿إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48]. وقد سن رسول الله ﷺ طريقة الفتح للبلدان بفتحه لمكة عنوة. ولما فتحها قال لأهلها: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[63]. وسموا في ذلك اليوم الطلقاء ولم يوقف واحدًا منهم لإلزامه بالدخول في الإسلام، بل أبقاهم على حالهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم، لكون القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، وإظهار دينه، وقد حصل ذلك. والإسلام هداية اختيارية، قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ [الأنعام: 125] وقال: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦ [القصص: 56].

* * *

[56] هذه الكلمة ألقاها المؤلف في المركز الإسلامي في لندن حين صلى بالناس صلاة عيد الأضحى في سفره للعلاج سنة 1394هـ، وقد نشرتها إذاعة لندن في البلاد العربية. [57] كُنْهُ الشيء: غايته وقدره ونهايته. [58] رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، ومن رواية ابن هشام: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ». [59] أخرجه الدارقطني من حديث أنس بن مالك. [60] أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله. [61] أخرجه أحمد من حديث عمر بن الخطاب. [62] سيوم: آمنون. [63] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي هريرة.

(9) القوانين وسُوء عواقبها على الدّين

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاعلموا رحمكم الله، أن نعم الله على العباد كثيرة وأجلها وأعظمها الهداية إلى الإسلام، وتحكيم شريعته وحدوده وحقوقه بين سائر الأنام، فقد أفلح من هدي إلى الإسلام.

إن الله سبحانه أنزل كتابه الحكيم، وبعث نبيه محمدًا الصادق الأمين ﷺ رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، فقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣ [الشورى: 13]. فجاء رسول الله ﷺ بشريعة سمحة سهلة، مهيمنة على جميع الشرائع قبلها، فهي خاتمة الشرائع، كما أن محمدًا رسول الله ﷺ هو خاتم النبيين، ورسول الله إلى الخلق أجمعين، وقد جاء بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإصلاح والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوَم. وقد سماه الله شفاءً لعلاج أسقام العقائد، وإزالة الشُّبه والشكوك، وسوء الطرائق، قال تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

ففي نظام شريعة الإسلام حل مشاكل سائر الناس، وكل ما يتنازعون فيه؛ لأن الله سبحانه قد نصب الشريعة لعباده في الدنيا بمثابة الحكم العدل تقطع عن الناس النزاع، وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء: 59].

واتفق العلماء على أن الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول ﷺ هو الرد إلى سنته، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36]. وقال: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

ففي شريعة الإسلام حل جميع ما يحتاج إليه الناس، يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83].

ففي الشريعة أحكام البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والوقف والوصية، وقسمة التركات. وفيها العهد والأمان، والحرب والسلم، والنكاح والطلاق، والقصاص وأحكام الجروح والشجاج. وفيها تحريم الربا والزنا وشرب الخمر، وإقامة الحدود التي هي من أسباب تقليل فشو الجرائم، وفي الشريعة الحث على كسب المال من حله، ثم الجود بواجب حقه؛ من أداء زكاته، والصدقة منه. وفيه بيان فضل حفظه بنمائه، وتحريم تبذيره، وفضل التجارة المباحة.

وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية كفيلة بحل مشاكل العالم، بحيث يسود العاملين بها سربالُ الأمن والإيمان، والسعادة والاطمئنان، وهذا هو حقيقة ما وصى به النبي ﷺ أمته، حيث قال: «تَركتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِى وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ»[64].

وقال: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيْدًا»[65] وهذا أمر واضح يشهد به الواقع المحسوس.

هذا وإن لسلطان الدين السيطرة الفعالة على قلوب الناس، وخاصة المؤمنين، بحيث يزعهم إلى الفرائض والفضائل، ويردعهم عن منكرات الأخلاق والرذائل، فهم يخضعون لسلطان شريعة الدين، سامعين مطيعين، فمتى قيل للخصم اللجوج: هذا حكم الله؛ وقف على حده وقنع بحقه، وعرف حينئذ أنه لا مجال للجدل بعد حكم الله. فلا يجادلون فيه بعد وضوح صبحه، وبراهين صحته، فالمحكمة الشرعية المبنية على أساس العلم والعدل، والسياسة الحكيمة، هي أكبر معين للحاكم وللرئيس، على سيادة رعيته، وسياسة مملكته، لكون حكم الشرع يوقف الخصم اللدود على حده، ويقنعه بحقه، وإنما سمي دينًا، من أجل أن الناس يدينون به، أي يخضعون لحكمه، كما سميت شريعة، لكون الناس يشرعونها ويشربون منها، ثم ينصرفون راضين بها، ولأنها مقتبسة من شرع الله ورسوله، ولهذا نرى البلدان التي يُحكم فيها بشريعة الإسلام، والتي تُقام فيها الحدود، ويُستوفى فيها الحقوق، نجدها آخذة بنصيب وافر من الإيمان، والسعادة والاطمئنان، آمنة من الزعازع والافتتان، والضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، بخلاف البلدان التي تحكم بالقوانين التي هي شريعة الكافرين نرى أهلها من أسوأ الناس حالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، قد ابتلوا بفنون من الفتن والاضطراب، وعدم أمن الجناب، إلى حالة كثرة القتل والنهب، وحرق الحوانيت المملوءة بالأموال، واختطاف النساء والغلمان، وهذه الأعمال تزداد عامًا بعد عام، كلها نتيجة أو عقوبة عزل شريعة الدين، والرضا بحكم القوانين، التي هي آراء شرعها قوم ﴿لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ [التوبة: 29] وهي مبنية على عزل الدين عن الدولة، تبيح للناس ما حرم الله عليهم من الربا والزنا وشرب الخمر، أي أنها لا تعاقب على هذه الأعمال، وتحكم بصحة ما يترتب عليها من المال الربوي، والمكتسب من القمار، لكون الرضا بهذه الأعمال المحرمة، هي شريعة المتعاقدين، حتى ولو خالفت شرع الله ورسوله، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ [الشورى: 21] ترفع سلطان الولي عن موليته، وتبيح لها أن تتصرف بنفسها كيف شاءت، غير محجور عليها في نفسها، تبيح لكل ملحد كافر أن يجهر بعقيدته وكفره، غير محجور عليه في أمره ولا رأيه.

والشريعة الإسلامية مبنية على حماية الدين والأنفس، والأموال والعقول والأعراض، فهي تهذب الأخلاق وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. وقد قال رجل من حكماء النصارى اسمه هربرت سبنسر قال: إن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستمدة كلها من الدين، وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين، وجعلها على أساس العلم والعقل، وإن الأمة التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في فوضى أدبية لا يعرف عاقبتها ولا يحد ضررها.

ومن عادة محاكم القوانين تمديد الخصومة بالنقض والإبرام، للحصول على ما يترتب عليها من المدعي والمدعى عليه، فمن أجل كثرة الترديد والتلديد يحدث بين الناس القلق والاضطراب.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي أُغلِقت فيها محاكم شريعة الدين، وفُتِحت فيها محاكم القوانين، كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق، لهذا صار المحبون لها هم أشد الناس سخطًا عليها وبغضًا لها؛ لأنهم ذاقوا مرارتها، وعرفوا مضرتها، ولن تجد شخصًا مسلمًا يحبها، أو يرضى بها إلا أن يكون مجبورًا عليها، أو أن له غرضًا بإضرار خصمه.

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا يتحاكمون إلى الشريعة الإسلامية، ويعتزون بها، وحكام المسلمين وسلاطينهم يسمون أنفسهم عبيد الشرع، كما قال صلاح الدين الأيوبي لرجل شكى إليه: لقد نصبت قضاة الشرع ليحكموا لك، أو عليك، وما أنا إلا عبد للشريعة أنفذ حكمها.

وقد فتحت محاكم القوانين في البلدان الإسلامية والعربية رغمًا عن أهلها، وذلك أن النصارى لما كانت لهم السلطة والسيطرة على بلدان المسلمين العربية، وكانوا يحبون كون الناس على دينهم، ففتحوا محاكم القوانين بالرغم من المسلمين. ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

وعلى أثر فتح محاكم القوانين في بلدان المسلمين، واستمرار التحاكم إليها، قد وقع بالناس ما حذرهم منه نبيهم ﷺ حيث قال: «وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شديدًا»[66] وصدق الله ورسوله، وهذا الحديث بمثابة الصبح الساطع، والبرهان القاطع، وخير الناس من وعظ بغيره، فقد رأينا الذين استبدلوا القوانين الوضعية بدلاً عن المحاكم الشرعية، رأيناهم من أسوأ الناس حالاً وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم؛ لأن دين الإسلام منجاة عن الغرق في الفوضى والشقاق، وبمثابة سفينة نوح، من لجأ إليها نجا، ومن تخلف عنها غرق.

وقد عُرِف بالتجربة أن القوانين الوضعية منصوبة لسلب أموال الناس، وإماتة حقوقهم وحدودهم، فهم معها دائمًا بين إبرام ونقض، وحكم واستئناف، والله تعالى يقول: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ [المائدة: 44].

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان، فوصفوه بالقِدم، وكونه لا يتلاءم الحكم به مع القرن العشرين، وأن شرائعه تكاليف شاقة، وأنه ينبغي عزل الدين عن الدولة، ونحو ذلك، مما يقولون ويأفكون، ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5].

ولا عجب فإن القائلين بهذا هم أعداء الإسلام، الذين يحاولون هدمه، ودعوة الناس إلى الخروج عليه ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨ [الصف: 8].
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
إن أكبر ما ينقم أعداء الإسلام على الإسلام، كونه يحكم بالقصاص بقتل القاتل، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، وينسبون هذه الحدود إلى الوحشية، وهي شكاة قد ذهب عنا عارها، ما هي إلا بمثابة التجريح والتقطيع لبعض أجزاء الجسم في سبيل إصلاح بقيته، لكون المضار الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، وإقامة هذه الحدود، هي الدواء الوحيد في تقليل الجرائم التي تغص بها السجون، فهي تغني عن الكثير من الحرس والجنود ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النور: 2] لكن هؤلاء نسوا ما صنعوا من القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين، ما بين شيوخ ونساء وحوامل وبهائم، وتفسد الحرث والنسل، فهذه - والله - هي الأخلاق الوحشية، لا الحدود الدينية.

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا ودستورهم القرآن والسنة التي هي سفر السعادة، وقانون العدالة. قد فتحوا المحاكم الشرعية في سائر مشارق الأرض ومغاربها، يتحاكم جميع الناس من المسلمين والكفار إليها؛ لأن شريعة الإسلام كافلة لحل جميع مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان. فلا تقع مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما يدحضها، ويبين بطلانها، لكنه لما ضعف الإسلام في هذا الزمان، وضعف عمل الناس به، وساء اعتقادهم فيه، صار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ [المائدة: 41].

وفات على هؤلاء أن أساطين حكام المسلمين من الصحابة والتابعين، وكذا خلفاء بني أمية، وبني العباس، ونور الدين، وصلاح الدين، وغيرهم من حكام المسلمين الفاتحين، إنما شاع لهم الذكر الجميل والثناء الحسن، والتمكين في الأرض، واتساع الفتوح، كله من أجل تمسكهم بالدين، وتحكيم شرائعه بين الناس أجمعين، وصدق عليهم قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 41].

وإنه من الجائز شرعًا والواقع عرفًا، إبدال قاض بقاض أحسن منه، أما إبدال شرع الله الحكيم بشريعة القوانين، فإنه حرام بإجماع علماء المسلمين. وإن حكام المسلمين والزعماء العاقلين، في هذا الزمان لما عرفوا مضار القوانين، وكونها تبعدهم عن الدين وتوقعهم في الفتن والاضطراب، وفي الفوضى والشقاق وفساد الأخلاق، وكونها فرقت شملهم وفلت حدهم وأفسدت مجتمعهم، لهذا أخذوا يتداعون إلى الرجوع إلى أخلاق دينهم، وتحكيم شريعة الإسلام فيما بينهم، يتداعون بهذه عند مناسبة اجتماعهم، وتبادل آرائهم في علاج عللهم، فيما يصلح مجتمعهم، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين، ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ [الأنعام: 89] ولن أنسى في هذا المقام، مقالة ذلك الإمام - أي مالك بن أنس - عليه الرحمة والرضوان حيث قال: والله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

فهذه نصيحتي لكم، والله خليفتي عليكم ﴿فَسَتَذۡكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤ [غافر: 44].

فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [الأنفال: 1].

* * *

[64] رواه الحاكم من حديث أبي هريرة قال: خطب المصطفى ﷺ الناس في حجة الوداع... فذكره. [65] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس. [66] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس.

(10) غُربة الإسلام وفسَاد النّاس في آخر الزّمَان

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان؛ فأقام الصلوات، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج بيت الله الحرام. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإنه من المعلوم بمقتضى النصوص وبالواقع المحسوس، أن الناس يزدادون إسرافًا في الرذائل وفي ترك الفرائض والفضائل عامًا بعد عام، وأن للدين إقبالاً وإدبارًا، وقوة وضعفًا.

فمن إقبال الدين أن تتفقهه القبيلة بأسرها، وتتمسك بعزائم دينها، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلما قُمِعا.

وإن من إدبار الدين أن تجفوا القبيلة بأسرها، وتنحل عن عزائم دينها، وتفسق عن أمر ربها، حتى لا يكون فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران ذليلان.

وإن صفوة الأمة هم أصحاب النبي ﷺ الذين هم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، ثم التابعون لهم بإحسان الذين تلقوا العلم عنهم فهم من خير الناس بعدهم؛ لما في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - لا أدري أذكرهم مرتين أو ثلاثة - ثم يجيء قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، ينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن»؛ أي من أجل غرقهم في الترف وسائر الأكل المسمن للجسم. وفي رواية: «تَسْبِق شَهَادَة أَحَدهمْ يَمِينه. وَيَمِينه شَهَادَته»[67] وهذا مما يدل على فساد الناس في آخر الزمان، كما يشهد به الواقع المحسوس.

ويدل له ما روى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، ثُمَّ تَبْقَى حُفَالَةٌ» وفي رواية: «حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً»[68].

ومن المعلوم أنه متى ذهب الصالحون المصلحون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ فإنه يخلو الجو للفاسدين الفاسقين، فيبيضون ويصفرون. ومن أشراط الساعة أن يذهب العلم ويفيض الجهل، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». ولهذا حث النبي ﷺ على التمسك بسنته أي بدينه عند فساد أمته. وقال في حديث العرباض بن سارية: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان. وقال الترمذي: حسن صحيح. ويدل له ما رواه ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ». رواه البيهقي والطبراني.

وقد سماه النبي ﷺ بأيام الصبر وقال: ««إن من ورائكم أيام الصبر، القابض فيهن على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم» قالوا: كيف يكون له أجر خمسين منا؟ قال: «إنكم تجدون على الحق أعوانًا، وهم لا يجدون»». رواه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني.

إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون بأنهم من أهله وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه. لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. فترى أكثرهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ويستحلون الربا وشرب الخمر، فهم في جانب والإسلام الصحيح في جانب آخر، فهؤلاء أكثر الناس، والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103] وقد قيل: الركب كثير، والحاج قليل.
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
والله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
يقول بعض الناس: إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاط، ونحن نقول: إنه متى فسد العمل بالدين فلا دين، كما أنها متى فسدت الصلاة فلا صلاة. ومتى فسد الصيام فلا صيام، لكون الدين عند الإطلاق ينصرف إلى الدين الصحيح.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
فمتى أفسد الناس الدين بترك أوامره، وارتكاب نواهيه، فقد خرجوا عن حده، واستبدلوا ضده، وكانوا بهذا الانقلاب جديرين بالضعف والانحطاط؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ [الرعد: 11].

فكل ضعف حصل بالمسلمين فبسبب ما ضيعوا من تعاليم الدين حتى التنازع والاختلاف والقتال بين حكام المسلمين، فكلها ذنوب تورث الضعف والذل وحلول الفشل.

ولضعف الدين عوامل عديدة تساعد على ضعف الناس منها: قول عمر بن الخطاب: إنه يفسد الإسلام ثلاثة أشياء: الأئمة المضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن[69]. وروى مسلم عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ».

والخطر المخوف من زلة العالم هو الاغترار به فيها ومتابعته عليها؛ إذ لولا التقليد والاتباع لما خيف على الإسلام وأهله من زلته، وكان ابن عباس يقول: ويل للأتباع من عثرات العالم[70]. وقد شبهوا زلته بغرق السفينة يغرق بغرقها الخلق الكثير. كما أن الأئمة المضلين هم أمراء الناس الذين تنكبوا الطريق المستقيم، وتركوا شريعة القرآن الحكيم وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، واستبدلوا بها شريعة القوانين فتبعهم الناس على ضلالهم، ووافقوهم على فسادهم واستبدادهم. والناس غالبًا على طرائق ملوكهم في الخير والشر، ومتى فسد الراعي فسدت الرعية.

ومنها دنيا تقطع أعناق الناس، حتى تجعلهم كالميتين عن مصالحهم الدينية، وعما يوجب قوتهم واستقامتهم، والاستعداد للجهاد في سبيل الله؛ لأن شغفهم بلذاتهم المادية قد شغلهم عن الأمور الدينية فلأجل حبها صارت هي الجيش الغازي بلاد الإسلام في هذا العصر، وكأنها الكافلة لأعداء الإسلام بالفتح والنصر بغير جموع ولا جنود، وبغير دفاع ولا امتناع، طبق ما روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: ««يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ». قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ قَالَ «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»». وكل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا لدخول الضعف منه على العباد.
وكل كسـر فإن الدين يجبره
وما لكسـر قناة الدين جبران
فهذا الضعف الحاصل بالمسلمين ليس من الدين وإنما حصل بسبب ما ضيعوه من تعاليم الدين.

ثم إن الضعف والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم، بل قد تقع ثم تزول، إذ هي وصف عارض، كالأمراض الطبيعية. وربما صحت الأبدان بالعلل.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلى الله بعض القوم بالنعم
فقد يعود الإسلام إلى قوته ويفيء من غربته، كما اشتد ضعفه وغربته زمن وفاة النبي ﷺ حتى ارتدت العرب عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى أي الأحساء، ولهذا يقول شاعرهم:
والمسجد الثالث الشـرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول والخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وعلى أثر هذا الضعف، وهذه الغرب جاهد الصحابة في الله حق جهاده حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه.

فقول النبي ﷺ: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كما بدأ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن مسعود، وفيه: قالوا: «يا رسول الله مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»». وفي رواية قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ». وفي رواية قال: «هم الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي».

وقد اتخذ الناس هذا الحديث بمثابة التخدير للهمم، والتخذيل للأمم، بحيث يتخذونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم، حتى كأن الرسول - بزعمهم - قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف المفاجئ للمسلمين ولهذه الغربة في الدين.

وإن هذه الغربة تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان. فمثل الرسول ﷺ في الإخبار بها كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار، ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم من وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفاع لقطاع الطريق، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: «كنا مع النبي في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. قال: فاجتمعنا، فقال النبي : «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِى أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِىءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا»». يعني الآخرة شر من الأولى.

فالعاقل لا يستوحش طرق الهدى من قلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103] وقد ثبت في الصحيح أنه: «لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»[71]. وإن الله سبحانه «لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته[72]، ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[73]. و: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[74].

ومنها ما روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ».

فكل هذه الآثار تدل دلالة واضحة على تقلب الأحوال، وأن الدين محفوظ عن الزوال، لا يزال باقيًا دائمًا حتى تقوم الساعة، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة فقد ظن بالله السوء، ولكن المصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، والعاقبة للمتقين.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمن
﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ [محمد: 4]. ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١ [محمد: 31]. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

* * *

[67] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [68] رواه البخاري من حديث مرداس الأسلمي. وأحمد في مسنده. [69] أخرجه ابن بطة في الإبانة عن عمر بن الخطاب. [70] أخرجه البيهقي في المدخل عن ابن عباس. [71] متفق عليه من حديث معاوية. [72] رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، جميعًا من حديث أبي عنبة الخولاني. [73] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، والحاكم في المستدرك. [74] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة.

(11) فضل العِلم وتعَلّمه وتعليمه

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. اللهم صل على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان، وجمله بالنطق، وشرفه بالإيمان، وفضله بالعلم والعقل على سائر الحيوان، أوجد الإنسان من العدم لا يعرف شيئًا، فيسر له أسباب العلم والعرفان، فقال سبحانه: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨ [النحل: 78].

وقد بالغ الإسلام في الحث على العلم وتعلمه وتعليمه وتوجيهه إليه، لكون الإنسان مهما كان فإنه لا يقوى ولا يرقى إلا بالعلم، وكما قيل:
العلم يرفع بيتًا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشـرف
فإن شرف العلم وفضله هو بشرف مدلوله وما يؤول إليه، فالعلم الممدوح في القرآن هو علم الدين: كالعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ثم العلم بالأحكام وأمور الحلال والحرام، ثم العمل به. فمن عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم.

أما من لم يعمل بعلمه؛ فقد قالوا: إنه يعذب مع عبدة الأوثان، وأنشدوا:
وعالم بعلمه لم يعملن
معذب من قبل عباد الوثن
ورأس العلم: خشية الله. أما المعارف بأمور الدنيا فليست من العلم الممدوح في القرآن؛ لدخولها في قوله تعالى: ﴿يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ ٧ [الروم: 7].

لكن يمدح منها تعلم ما لا بد منه للمسلمين من حاجة، كتعلم السلاح، وسائر وسائل القوة مما ينكى به العدو. فقد ورد أنه «يُدْخِلُ الْجَنَّةَ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةً: صَانِعَهُ مُحْتَسِبًا بِصَنْعَتِهِ، والممد به، وَالرَّامِيَ بِهِ»[75].

وقد أوجب العلماء تعلم ما يحتاج إليه الناس في حياتهم من سائر الصناعات المباحة، كالحدادة والنجارة والحياكة والزراعة. وإن الناس متى تركوا تعلم هذه الأشياء أثموا.

وعدوا من الصدقة أن تعلم جاهلاً، أو تصنع لأخرق. ومثله الممدوح في القرآن فإنه ينصرف إلى العقل الديني الذي يعقل صاحبه على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، أو لكونه يعقل عن الله مراده وأمره ونهيه، كما قيل.
والعقل في معنى العقال ولفظه
فالخير يعقل والسفاه يحمله
أما العقل المقصود على الحذق في الدنيا، ومعرفة أسبابها وطرقها، فليس له من ذكر عند الله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨ [المائدة: 58] فنفى الله عنهم العقل الصحيح؛ لعدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء إلى الفلاح والفوز والنجاح بخير الدنيا والآخرة. وقد حث النبي ﷺ على تعلم العلم النافع مما يتعلق بأمور الدنيا والدين. فقال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»[76] وهذا الثواب والأجر يحصل لمن سلك طريقًا إلى جامعة أو مدرسة بنية خالصة لله، لتعلم مبادئ العلوم والكتابة، فيتعلم ويعلم غيره، لأن العلم بالتعلم.

قال تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ [الزمر: 9]. وقال سبحانه: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ [المجادلة: 11].

ولا يزال القرآن يطالب أهله المؤمنين به بأن يتلقوا العلم مِنْ كل مَنْ جاء به ممن هو دونهم أو فوقهم؛ إذ قد يخفى على العالم الفاضل ما عسى أن يظهر للمفضول ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ [يوسف: 76]. ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا [طه: 114]. لكون العلم دليل الحجة والبرهان. فطلب العلم عبادة، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة. ومن أنواع الصدقة: أن تعلم جاهلاً، أو تصنع لأخرق.

ومن كلام علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن من العلم. وهذه الكلمة غاية في البلاغة وفي الحث على العلم، وأن من لا علم عنده فإنه كاسد لا قيمة له ويوصف بالجاهل وبالساذج. وقد أخذ هذه الكلمة بعض الشعراء فأنشد:
حسود مريض القلب يخفي أنينه
ويضحى كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت للعلم طالبًا
أجمع من عند الرواة فنونه
فأعرف أبكار الكلام وعونه
وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يكسب الغنى
ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي
فقيمة كل الناس ما يحسنونه
إن أول ما أنزل الله في كتابه الامتنان بتعليم الكتابة؛ التي هي مفتاح العلوم والمعارف. فقال سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5].

فهذه الآية تمهد للتوسع في العلم، والاستعانة عليه بالكتابة؛ لأن العلم صيد والكتابة قيده. وتشير إلى محو الأمية أو تقليلها. وإنه لمن المعلوم أن رسول الله ﷺ نشأ أميًّا لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وقد سماه الله بذلك. فقال سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 157].

وأمية الرسول ﷺ هي معجزة من معجزات نبوته؛ لئلا يتطرق إليه، ولا إلى القرآن النازل عليه شيء من الظنون الكاذبة، والأوهام الخاطئة، بحيث يقولون: تعلمه من كذا، أو كتبه من كتاب كذا وكذا. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49].

ومع أمية الرسول ﷺ فإنها كانت تنزل عليه السورة الطويلة كسورة الأنعام، فإنها نزلت عليه جملة واحدة فقام حافظًا لها من ساعته بدون أن ينسى حرفًا منها. وهذه الأمية هي من معجزات نبوته ولم تكن من سنته، حيث لم يأمر بها أحدًا من أمته. وكان الغالب على قريش زمن بعثته الاتصاف بالأمية، أشبه بالأعراب المتنقلة. وقد سماهم الله بذلك فقال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ [الجمعة: 2].

فالقرآن وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام أنشأت العرب نشأة مستأنفة جديدة، فاستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، جمعت بين الحضارة والمدنية، وبين العلوم والمعارف الدينية، صيَّرتهم إلى ما صاروا إليه من العز والمجد والعلم والعرفان، فجمعوا بين التدين وبين الإبداع في الحياة من الحضارة والعمران. فكانوا هم العلماء والبلغاء والخطباء. ومن صفة الرسول ﷺ أنه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بما يهذب أخلاقهم.

وفي وقعة بدر لما أمر النبي ﷺ بالأسرى من بعد الفراغ من القتلى؛ وكان القتلى سبعين، والأسرى سبعين؛ ضرب على كل واحد منهم فداء من نقود الذهب يلزمه أداؤه. فقابل الأغنياء بأداء ما عليهم ومنهم العباس وغيره، وبقي بقيتهم الذين لا يستطيعون الأداء. فأمرهم النبي ﷺ بأن يعلموا الصحابة القراءة والكتابة في مقابلة ما عليهم من الفداء[77]. مما يدل على مجاهدة الرسول ﷺ على محو الأمية، وتعميم التعليم لأصحابه، لكون الأمية نقص في الشخص ما عدا رسول الله ﷺ، فإنها من معجزات نبوته وليست من سنته، حيث لم يأمر بها أحدًا من أصحابه. وضد الأمية العلم، ومن شرف العلم أن كل أحد يدعيه، ومن قبح الجهل أن كل أحد يتبرأ منه، وإن كان قد رسخ فيه. ثم إن الله سبحانه أمر في كتابه بالكتابة، وجعلها من مكملات الشخص وضرورياته، بحيث يحفظ بها حقوقه وماله وما عليه، وتكون كسبًا له في حال عسرته كما قيل:
تعلم قوام الخط يا ذا التأدب
وما الخط إلا زينة المتأدب
فإن كنت ذا مال فخطك زينة
ولم تك ذا مال فأفضل مكسب
يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡ‍ٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡ‍َٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٨٢ [البقرة: 282].

فهذه الآية المحكمة تحث على الكتابة، وتبين حاجة الشخص والمجتمع إليها، وكل ما أمر الله به في كتابه من مثل هذه الآية فإنها من أحكام ديننا. فإهمال الشهادة على الديون الغائبة، والتفريط في عدم الكتابة، يعتبرها القرآن فسوقًا عن أمر الله، وخروجًا عن طاعته.

وبما أن الحكومة المكرمة قد عملت عملها وبذلت أسبابها، وفتحت أبوابها لتعميم التعليم للقراءة والكتابة لكل الكبار الذين يشتغلون بالنهار ولا يفرغون إلا في أوقات العطل من طرفي النهار أو بالليل. فعملت الحكومة هذا العمل، حرصًا منها على العلم، ومحاولة محو الأمية. لهذا ينبغي للعاقل أن يواثب هذه الفرصة في الحصول على العلم ما دامت الفرصة ممكنة وبابها مفتوح؛ لكون الكتابة من الكمال والفضيلة، كما أن الجهل بها يعد نقصًا ورذيلة. وبعض الناس من كبار الأسنان يستحيي من دخول دار التعليم؛ كأنه يصوّر نفسه بصورة القاصر وهذا خطأ، فإن العلم لا يناله مستح ولا متكبر، وإنما يوفق له المتذللون المتواضعون، وقد تعلم أصحاب رسول الله ﷺ العلم والكتابة مع كبر أسنانهم.

ومتى حضر وقت الصلاة وهم في دوام الدراسة وجب عليهم أن يبادروا بأداء هذه الفريضة، فإنها نعم العون على ما يزاولونه من العلم والتعلم، ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ [البقرة: 282].

فهذه نصيحتي لكم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم.

* * *

[75] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والطبراني في الكبير، وابن خزيمة في صحيحه، جميعًا من حديث عقبة بن عامر الجهني. [76] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [77] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس.

(12) فضْل القرآن وتفسير قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ [فاطر: 29]

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ غَفُورٞ شَكُورٞ ٣٠ [فاطر: 29-30].

وقال تعالى عن هذا القرآن: ﴿هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ وَلِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٥٢ [ابراهيم: 52] وقال: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤ [فصلت: 3-4]. فهو حبل الله المتين، ودينه القويم، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يمل سماعه، فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الوقوع في الرذيلة، يقول الله تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ١٦ [المائدة: 15-16]. فلو تدبر أحدكم كتاب الله وعمل بما فيه من الوصايا الفصيحة، والنصائح الصحيحة، لصار سعيدًا في نفسه، سعيدًا في أهله، سعيدًا في مجتمع قومه.

فتلاوة القرآن بالتدبر، وتوطين النفس للعمل به عبادة، وللقارئ بكل حرف عشر حسنات، مع ما يكتسبه من رفيع الدرجات في الجنات، فإنه يقال للقارئ: اقرأ وارق في درج الجنة.

وإنما نزل القرآن للعمل به لا لمجرد التغني بتلاوته، والذي يقرأ القرآن ولا يعمل به قد ضرب الله به مثل السوء، أي كمثل الحمار يحمل أسفارًا أي كتبًا لا يدري ما فيها. وكما قيل:
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥ [الجمعة: 5].

وهذه الآية وإن نزلت في اليهود الذين كُلِّفوا العمل بالتوراة ثم لم يعملوا بها، فإنها منطبقة بالدلالة والمعنى على الذين كُلِّفوا العمل بالقرآن ثم لم يعملوا به؛ لأن الاعتبار في القرآن يكون لعموم لفظه لا بخصوص سببه، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ [المائدة: 68]. هو بمعنى قوله: يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن.
تدبر كتاب الله ينفعك وعظه
فإن كتاب الله أبلغ واعظ
وبالقلب ثم العين لاحظه واعتبر
معانيه فهو الهدى للملاحظ
وما تلا أحد كتاب الله في بيته إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وينبسط الرزق ويكثر الخير في ذلك البيت الذي تصلى فيه النوافل ويتلى فيه القرآن، لقول النبي ﷺ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قُبُورًا»[78] أي تهجروها من فعل نوافل الصلاة فيها، وتلاوة القرآن.

ثم إن القرآن يبعث يوم القيامة شافعًا مشفعًا، وماحلاً مصدقًا، من جعله إمامه وعمل بأوامره، واجتنب نواهيه، صار خصمًا دونه يقول: يا رب حَمَّلْتَه إياي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بطاعتي، واجتنب معصيتي. ولا يزال يلقي إليه بالححج، حتى يدخله الجنة. وإن كان غير ذلك صار القرآن خصمًا له يحاجه عند ربه، فيقول: يا رب حَمَّلْتَه إياي فبئس حاملاً ضيع حدودي، وترك طاعتي، وارتكب معصيتي. ولا يزال يلقي إليه بالحجج، حتى يقال: شأنك به. فيأخذه ويكربسه على وجهه في نار جهنم.

يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا ٣٠ [الفرقان: 30] وهذا الهجران يُحمَل على هجر التلاوة، وهجران العمل به، نزلت حيث أصرت قريش على معصية الرسول، وعدم الإصغاء إلى القرآن الذي جاء به. وهو ينطبق على كل من هجر تلاوة القرآن، وهجر العمل به. ورب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه. يتلو قوله: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ [البقرة: 238] وهو مضيع لها، ويتلو قوله: ﴿وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ [البقرة: 277] وهو يأكلها، ويتلو قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ [الملك: 90] وهو يدمن شرب الخمر صباحًا ومساءً.

إنه يُستحَب تحسين الصوت بالقرآن، لحديث: «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْناً»[79]. وقال: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا»[80] والتغني تحسين الصوت، لكون تحسين الصوت به مدعاة إلى الإصغاء والاتعاظ والاعتبار. وقال: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ -أي ما استمع الله لشيء- كإذنه -أي كاستماعه- لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ»[81].

كثيرًا ما يقرن سبحانه بين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، كما في هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ [فاطر: 29]؛ لأن القرآن يذكر بإقامة الصلاة لله. يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥ [العنكبوت: 45].

وقال: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٤ [الأنفال: 2-4].

فقد أوجب الله على أهل الإسلام المؤمنين بالقرآن بأن يقيموا الصلاة المفروضة على التمام، ثم إن التعبير بإقامة الصلاة: هو أكمل وأشمل من التعبير بالإتيان للصلاة، لأن معنى إقامة الصلاة: هي أن تأتي بالصلاة مقومة معدلة بخشوع وخضوع في السجود والركوع، على صفة ما شرعه رسول الله ﷺ بقوله: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[82] وكثير من الناس يأتي بصورة الصلاة على سبيل العادة لا العبادة، ولا صلاة له لكونه لم يطمئن في ركوعه ولا سجوده، ولم يتم إحكام صلاته. فهذه الصلاة قد أماتها صاحبها ولم يقمها، فجديرة بأن تلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وتقول: «ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي»[83].

إن للصلاة ميزانًا توزن به. ولا تسمى صلاة حتى تكون على وفق ما شرعه رسول الله ﷺ في الأقوال والأفعال.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
وميزان الصلاة الشرعي: هو ما بينه النبي ﷺ لذلك الأعرابي المسيء في صلاته حين ساقه الله لتعليم الناس كيفية الصلاة المشروعة. وحاصله ما ثبت في البخاري ومسلم، أن النبي ﷺ كان جالسًا في المسجد فدخل رجل أعرابي فصلى، ثم جاء إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فعل ذلك ثلاث مرات. فقال: والذي بعثك بالحق لا أُحسن غير هذا، فعلمني. فشرع النبي ﷺ في تعليمه الصلاة المشروعة.

وإنه يجب علينا الآن بأن نصغي إلى هذا التعليم بالآذان، وأن نفرغ له الأذهان، ثم نوطن أنفسنا على العمل به على التمام. فإن فائدة الاستماع الاتباع. وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

لهذا شرع النبي ﷺ في تعليم هذا الجاهل فقال: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ». فأمره بإسباغ الوضوء وهو إيصال الماء إلى مواضع الأعضاء؛ لأن مفتاح الصلاة الطهور، ولا يقبل الله صلاة من أحد حتى يتوضأ. وفي حديث ثوبان: أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»[84] والوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة؛ لأن دين الإسلام دين النظافة؛ ثم إن الوضوء يكسب الأعضاء نشاطًا وقوة عند القيام للصلاة، كما أنه سبب في تكفير السيئات.

ثم قال: «ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ». فأمره باستقبال القبلة عند الشروع في الصلاة، لأنها شرط في حق من قدر على ذلك، أما إذا كان في طائرة، أو في سيارة فإنه يصلي حيث توجهت به الطائرة أو السيارة، مستقبل القبلة أو مستدبرها، إذ لا يمكنه إلا ذلك. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ﴿فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِ [البقرة: 115]. قال: «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَكَبَّرَ» وهذا يفيد عدم مشروعيته الجهر بالنية للدخول في الصلاة؛ لأن النية قلبية، كان النبي ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله. كما ثبت ذلك من حديث عائشة أي أنه لا يتلفظ بالنية عند التكبير، ولم تثبت عند أحد من الصحابة ولا التابعين. قيل للإمام أحمد: تقول قبل التكبير: نويت أن أصلي كذا؟ قال: لا. إذ لم ينقل عن النبي ولا عن أحد من أصحابه، ولقد كان لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة.

ومن السنة أن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإنه يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، حتى يكون كالأسير الذليل عند ربه، ولأن هذا أعون على حضور قلبه وخشوعه في صلاته: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ [المؤمنون: 1-2].

قال: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» ولم يذكر فاتحة الكتاب، لأن الناس حديثو عهد بجاهلية. وأكثر الأعراب لا يحفظون فاتحة الكتاب، وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني لا أحسن شيئًا من القرآن في الصلاة، فعلمني. قال: ««قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا لِى قَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَارْحَمْنِى وَعَافِنِى وَاهْدِنِى وَارْزُقْنِى»»[85].

وأما من يحفظ الفاتحة فإن قراءتها ركن في الصلاة، لقول النبي ﷺ: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»[86].

قال: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا». ومعنى تطمئن أي تسكن وتركد في ركوعك، لأن لُبَّ الصلاة الخشوع. وأدنى الكمال هو أن يقول الإنسان في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، والسنة أن يساوي رأسه بظهره فلا يرفع رأسه ولا يخفضه. قال: «ثم ارفع» أي من الركوع: «حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا» أي يعتدل جسمك. ففي الحديث: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ»[87] قال: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا». ويجب أن يسجد على سبعة أعضاء: الوجه ومنه الأنف، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين. قال: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» فهذه هي الصلاة المشروعة الجديرة بأن تصعد إلى الله، فتشفع لصاحبها، وتقول: «حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي»[88] وما نقص من الصلاة الموصوفة منها، فإنه بمثابة الاختلاس. وأسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، فلا يتم ركوعها ولا سجودها.

أما ترك الصلاة بالكلية، فإنه حقيقة في الكفر بمقتضى الدليل والبرهان والسنة والقرآن، فقد قال علماء الإسلام: إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ».

أما قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ [فاطر: 29-30]. فكثيرًا ما يقرن القرآن بين إقامة الصلاة وبين النفقات في الزكاة والصدقات؛ لأن المسلم بما أنه متعبد بالصيام والصلاة، فإنه متعبد أيضًا بالزكاة والصدقات؛ لأن المال مال الله والله مستخلفه عليه، وناظر كيف يعمل فيه.

يقول الله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ [الحديد: 7] وقال: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠ [المنافقون: 10] وفي الحديث: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يوم إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم.

فأثر هذا واقع محسوس، وإن المتصدقين هم أسعد الناس في الدنيا والآخرة، فإنها ما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده ﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩ [سبأ: 39].

فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإنما للإنسان ما قدم ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[78] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [79] رواه الدارمي ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، والحاكم من حديث البراء ابن عازب. [80] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [81] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [82] رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث. [83] رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند ضعيف، والطيالسي والبيهقي في الشعب من حديث عبادة بن الصامت بسند ضعيف، ونحوه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء. [84] رواه الإمام أحمد وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه من حديث ثوبان. [85] رواه أبو داود والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والدارقطني من حديث عبد الله بن أبي أوفى. [86] متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت. [87] رواه النسائي وابن ماجه والترمذي والدارمي وابن حبان والدارقطني من حديث أبي مسعود الأنصاري. [88] رواه الطيالسي والبزار من حديث عبادة بن الصامت.

(13) هِجرة النّبي عليه الصّلاة والسّلام من مَكة إلى المدينة

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، الذي وفق أهل طاعته بما يرضاه، وخذل أهل معصيته، فاستحوذ عليهم الشيطان، وحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأنساهم ذكر الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ.

أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ على حين فترة من الرسل، وقد استحكمت في الناس الضلالة، وخيمت عليهم الجهالة، وسادت من بينهم عبادة الأصنام والأوثان والقبور. فأنقذهم الله ببعثته، وبركة رسالته، فجاء بدين كامل، وشرع شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام؛ يهذب أخلاقهم، ويطهر عقائدهم، ويزيل كفرهم وشقاقهم، ويهديهم للتي هي أقوم. وقد لقي رسول الله ﷺ الشيء العظيم من المشاق والمتاعب في سبيل دعوته إلى دين ربه كحالة الأنبياء من قبله، يقول الله سبحانه: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤ [البقرة: 214].

إن المكارم منوطة بالمكاره، وإن السعادة لا يُعبَر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، وأخبر النبي ﷺ أن الأنبياء هم أشد الناس بلاء، فقال: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَىَّ ثَلاثون من بين يوم وليلة، وَمَا لِىَ وَلِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ مَا وَارَى إِبِطُ بِلاَلٍ»[89].

إن الله سبحانه لما اصطفى نبيه محمدًا ﷺ برسالته وامتن على عباده المؤمنين ببعثته، أي بداية نبوته، أنزل الله عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. فهذا هو ابتداء بعثته، وذلك بعد ولادته بأربعين سنة، فالفضل كل الفضل في بعثته التي قال الله فيها: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل‌عمران: 164]. أي أن العرب قبل بعثة محمد ﷺ كانوا في شر وشقاء وضلالة عمياء.

ولما أنزل الله عليه ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ٣ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ ٤ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ٥ [المدثر: 1-5]. شمر رسول الله ﷺ عن ساعد الجد، وأعلن دعوته، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو بين القبائل وفي المواسم، ويقول: «أَنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. مَنْ يُئْوِينِى؟ مَنْ يَنْصُرُنِى؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّى وَلَهُ الْجَنَّةُ؟»[90]. فيلقى من قومه أشد الأذى، ويعذبون كل من آمن به، غير أن من قبيلته وخاصة عمه - أبا طالب - كانوا يحمونه ويذبون عنه العدوان، وقد دخلوا معه في الشعب حين تمالأت قريش على مقاطعتهم حتى يسلموا لهم محمدًا، وكتبوا بذلك صحيفة القطيعة والمقاطعة، وعلقوها على الكعبة، وفيها يقول أبو طالب في قصيدته الشهيرة:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجل غير آجل
وقد أخبره ورقة بن نوفل بمقتضى فراسته بأنه سيُؤذى ويُمتحن، ويخرج من بلده، فقال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ مِنْ بَلَدِي؟» قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عُودي وأُوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي[91].

ثم توفيت خديجة، وكانت تنفق على رسول الله ﷺ من مالها، ثم توفي أبو طالب، شيخ قريش وسيدهم، وكان يحب رسول الله ﷺ أشد الحب ويحميه وينصره، وكانت قريش تتحاشى من أذى الرسول ﷺ خشية أن يغضب أبو طالب فيُسلِم.

ولما توفي أبو طالب اشتد الأذى برسول الله ﷺ وبمن آمن به، وخاصة المستضعفين من أصحابه كبلال وصهيب وسمية. فأمر رسول الله ﷺ أصحابه بأن يهاجروا إلى الحبشة. وقال: «إن فيها ملكًا لا يُظلَم أحد بجواره»[92].

فهاجر إلى الحبشة جماعة من الصحابة، رجال ونساء، فرارًا بدينهم من الفتنة، وبأبدانهم من التعذيب، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، ومنهم الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وجعفر بن أبي طالب، فخرجوا من مكة يمشون على أرجلهم حتى وصلوا إلى سِيف البحر[93]، فاستأجروا سفينة وركبوا فيها حتى انتهوا إلى الحبشة، وهذه هي الهجرة الأولى. فآواهم النجاشي وأكرمهم، وقال لهم: أنتم سيُومٌ[94] بأرضي، اذهبوا حيت شئتم، من رامكم بسوء غرم وأثم[95]. ثم تتابعوا إلى الهجرة، وكان عددهم يزيد على الثمانين من بين رجال ونساء.

وكان المسلمون في ابتداء الإسلام مأمورين بالصلاة، والعفو والصفح، والصبر على أذى المشركين، وكانوا يحبون أن يؤمروا بالقتال لينتصروا. وأتى عبد الرحمن ابن عوف وأصحاب له إلى النبي ﷺ وهو بمكة، فقالوا: يا رسول الله، كنا أعزاء ونحن مشركون، فلما أسلمنا صرنا أذلة؟ فقال رسول الله ﷺ: «إِنِّى أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلاَ تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ»[96].

فلما أمروا بالقتال كرهه بعضهم، وودوا لو تأخر فرضه عليهم، وأنزل الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧ أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ [النساء: 77-78].

فلما اشتد الأذى برسول الله ﷺ وعظم به البلاء، خرج إلى الطائف يطلب من ثقيف النصرة والتأييد والحماية، فلم يجد عندهم قبولاً لدعوته، وأشْلَوا[97] عليه سفهاءهم. فكانوا يرمونه بالحجارة ويقولون: ساحر كذاب، حتى أدموا عقبه، فرجع عنهم حزينًا كئيبًا حتى أتى وادي نخلة - وهي موضع ميقات أهل نجد - فتوضأ وصلى، ودعا بدعائه المشهور وقال:

«اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكريم الَّذِي أَضَاءَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَأَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يُحِلَّ عَلَيَّ غَضَبَكَ، أَوْ تُنْزِلَ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»[98].

ثم إن رسول الله ﷺ أراد دخول مكة بعد رجوعه من الطائف، فمنعته قريش من الدخول، فأرسل إلى المطعم بن عدي، وقال: «إن قريشًا منعتني من دخول بلدي، وإني أريد أن أدخل في جوارك» فلبَّى دعوته، وأمر بنيه وإخوته أن يلبسوا سلاحهم، فخرج إليه إلى المكان الذي وعده فيه، فدخل مكة، وطاف بالبيت وهم محدقون به؛ ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول في قتلى بدر: «وَالله لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا فَسألَتني هَؤُلاَءِ القتلی لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»[99]

وكان جميع عرب الحجاز ونجد مع قريش على حرب رسول الله ﷺ، فلما استجاب الأنصار لدعوته على أن يمنعوه، ويمنعوا كل من هاجر إليهم من أصحابه، مما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، وتواثقوا معه على ذلك ليلة العقبة، فعند ذلك أمر رسول الله ﷺ كل من أسلم بأن يهاجروا إلى المدينة، فكانوا يخرجون أرسالاً، ويهاجرون على سبيل الاختفاء من قريش. وكانت قريش يصادرون أموال كل من هاجر منهم، وأنزل الله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39-40]. وهذه هي أول آية نزلت في الإذن بالقتال، لهذا كان قتال رسول الله ﷺ لقريش ولسائر العرب، كله دفاعًا عن الدين، وعن أذى المعتدين.

ولما اشتد الأذى برسول الله ﷺ وتألبت قريش بالعداوة له ولأصحابه، ثم اتفقوا في أن يختاروا من كل قبيلة رجلاً فيضربوه جميعًا بسيوفهم في وقت واحد، حتى يضيع دمه من بينهم. فأطلع الله نبيه ﷺ على كيدهم ومكرهم، وأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠ [الأنفال: 30].

وعلى أثر هذه الممالأة على قتله، حصل مع رسول الله ﷺ تلك الليلة شيء من الخوف من هجومهم عليه، إذ سمع حركة سلاح، فاطلع فقال: ««من هذا؟» فقال: أنا ربيعة بن كعب الأسلمي، أحرسك يا رسول الله لتنام. فَقَالَ له «سَلْ». فَقال: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. فقَالَ: «أَوَغَيْرَ ذَلِكَ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»». رواه مسلم.

ثم إن الله سبحانه أمر رسول الله ﷺ بالهجرة في شهر ربيع الأول على القول الصحيح، وكان رسول الله ﷺ لا يخطئه يوم إلا ويأتي بيت أبي بكر، إما بكرة أو عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه بالهجرة والخروج من مكة؛ أتى إلى أبي بكر للهجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: «والله ما جاء رسول الله في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله ، فقال رسول الله : «أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ» فقال: إنما عندي ابنتاي: عائشة وأسماء، وما ذلك فداك أمي وأبي؟ فقال: «إن الله قد أذن لي في الهجرة» فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. فقال: «نَعَمْ» فبكى أبو بكر فرحًا، فقال: يا نبي الله، إن عندي راحلتين أعددتهما لهذا الشأن»[100].

وأخذت أسماء بنت أبي بكر تجهز لهما جهاز السفر، فصنعتْ سُفرة في جراب، وشقت نطاقها نصفين، فربطت لهم الجراب بنصفه، وربطت أسفل الجراب بالنصف الثاني، فسميت ذات النطاقين من ذلك اليوم.

ثم إنهما استأجرا عبد الله بن أريقط هاديًا خريتًا وكان مشركًا على دين قومه، فخرج رسول الله ﷺ على حين غفلة من قومه ولم يعلم بخروجه أحد إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن رسول الله ﷺ أمره أن يتخلف حتى يؤدي الودائع التي عند رسول الله ﷺ للناس، وكان رسول الله ﷺ يدعى الأمين، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه، إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته. فخرج رسول الله ﷺ خائفًا مختفيًا في صحبة أبي بكر، وعمدا إلى غار ثور - وهو جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة بأن يرعى غنمه بالنهار، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار؛ لتخفي أثرهما، ويشربان من لبنها، ففعل ذلك.

وخرجت قريش في طلب رسول الله ﷺ وهم يمرون بالغار ويقول أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى شراك نعله لأبصرنا. ورسول الله ﷺ يقول: «لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟»[101].

يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ٤٠ [التوبة: 40].

فمكثا في الغار ثلاثة أيام، ثم خرجا منه لسفرهما إلى المدينة، ونظر رسول الله ﷺ إلى مكة وقال: «والله إنك لأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت»[102] ثم إن المشركين من قريش ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما، أو رأو أحدهما مائة من الإبل عن كل واحد منهما، فجاء رجل إلى قوم جُلوس فيهم سراقة بن مالك بن جعشم. فقال: يا سراقة، إني رأيت أسودة[103] بالساحل، ولا أراها إلا محمدًا وأصحابه، فقال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا. أريد أن أُعَمِّي خبرهما، حتى أفوز بالجُعْل، ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وأخذت رمحي، وركبت فرسي، فدفعتها حتى قربت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، حتى إذا قربت منهما، إذ سمعت قراءة رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات.

ويقول أبو بكر: يا رسول الله، لقد لَحِقَنا الطلب. ورسول الله ﷺ يقول: «لا تحزن إن الله معنا». فأرسل رسول الله عليه سهمًا من سهام الدعاء؛ فساخت قوائم فرسه بالأرض حق بلغت الركبتين، فخررت عنهما. قال: فناديتهم بالأمان، فوقفوا وعرفت حينئذ أنه سيظهر أمر رسول الله ﷺ، فقلت له: لله عليَّ أن أرد كل مَن جاء في طلبك، فادع الله لي أن يخرج فرسي. فدعا الله وخرجَتْ فرسه، وصدق في ذلك؛ فكان لا يجيء أحد من الطلب إلا رده، ويقول: قد كفيتم ما هنالك[104].

ولما سمع أبو جهل بخبر سراقة بن مالك، أخذ يعنفه ويلومه، حيث لم يردهما. قال سراقة بن مالك مجيبًا له:
أباحَكَمٍ والله لو كنتَ شاهدًا
لأَمْر جوادي حين ساخت قوائمُهْ
علمتَ ولم تشكك بأن محمدًا
رسول ببرهان فمَن ذا يقاومُهْ
ثم إن رسول الله ﷺ مر بخيمة أم معبد الخزاعية وكانت امرأة بَرْزَة جَلْدة،[105] تحتبي وتجلس بفناء الخيمة، فتطعم وتسقي الناس. فجاء رسول الله ﷺ فسأل: «هل عندك من لحم أو لبن نشتريه؟» فلم يجدوا عندها شيئًا من ذلك، وقالت: لو كان عندنا من ذلك شيء ما أعوزكم القِرَى[106] وكان القوم مُرْمِلِين مُسْنِتِين[107] فنظر رسول الله ﷺ إلى شاة عجفاء في كسر خيمتها، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» فقالت: هذه شاة خلَفها الجهد عن الغنم. فقال: «هل فيها من لبن؟» فقالت: هي أجهد من ذلك. قال: «أتأذنين لي أن أحلبها؟» فقالت: إن كان بها حليب فاحلبها. فدعا رسول الله ﷺ للشاة ومسحها، وذكر اسم الله عليها، فدرت واجترت وتفاجت، ودعا بإناء لها يُربِض الرهطَ[108] فحلب فيه حتى ملأه، فشربوا عللاً بعد نهل[109] ثم حلب فيه ثانيًا، فغادره عندها، ثم ارتحل. فجاء زوجها أبو معبد، فسألها عن هذا اللبن، فأخذت تخبره خبره وتستقص صفته. فقال: هذا صاحب قريش الذي كانت تطلبه.

وقد قيل في ذلك:
جزى الله ربُّ الناس خير جزائه
رفيقين حلاَّ خيمتَيْ أم معبدِ
هما نزلا بالبر وارتحلا به
فأفلح مَن أمسى رفيق محمدِ
فيالقصـي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجارى وسؤددِ
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهدِ[110]
ودخل المدينة بعد الزوال، فتنازعه القوم كلهم يريد أن ينزل عنده، فقال: «سأنزل على بني النجار» أخوال جده عبد المطلب ليكرمهم بنزوله عندهم، فنزل على أبي أيوب الأنصاري. وكان قد أقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وصلى بالناس الجمعة وهي أول جمعة صلاها بالمدينة، وأسس مسجد قباء، ثم ركب ناقته، فجعلت قبائل الأنصار يعترضونه في طريقه، كل منهم يطلب نزوله عنده، ويقولون: هَلُمَّ إلينا، فعندنا العدد والمنعة. ورسول الله ﷺ يقول: «خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»[111]. حتى أتت موضع مسجده الآن، فبرَكَتْ به ناقته ﷺ. وحُفِظ من قوله: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا ٨٠ [الإسراء: 80].

ومن جميل شعر الأنصاري في هجرة الرسول ﷺ قول قيس بن صِرْمة، وكان ابن عباس يتردد عليه ليحفظها.
ثوى في قريش بضع عشـرة حجة
يذكر لو يلقى حبيبًا مواتيًا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيًا
فلما أتانا واستقرت به النوى
وأصبح مسـرورًا بطيبة راضيًا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيًا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره
وأن كتاب الله أصبح هاديًا

* * *

[89] رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي و ابن ماجه و ابن حبان من حديث أنس بإسناد صحيح. [90] أخرجه أحمد من حديث جابر. [91] رواه البخاري من حديث عائشة. [92] انظر: زاد المعاد جـ1 ص24، [93] سيف البحر: أي ساحله. [94] سُيُوم: أي آمِنون. [95] رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث جعفر بن أبي طالب. [96] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث ابن عباس. [97] أشْلَوْا: أي أغرَوْا ودعَوْا. [98] رواه الطبراني من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. [99] أخرجه البخاري من حديث جبير بن مطعم. [100] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [101] رواه الإمام أحمد من حديث أنس. [102] أخرجه أبو يعلى الموصلي من حديث ابن عباس. [103] أَسودة جمع قلة لسواد، وهو الشخص. [104] متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق. [105] امرأة بَرْزَة: عفيفة تبرز للرجال وتتحدث معهم، وهي المرأة التي أسنَّت وخرجت عن حد المحجوبات... ومعنى جَلْدة: صلبة. [106] القِرى: الضيافة. [107] مرملين: أي نَفَدَ زادُهم وافتقروا... مُسْنِتين: أي مُجدِبين أصابهم القحط والجدب. [108] معناه أنه يرويهم حتى يُثقِلهم فيربضوا فيناموا لكثرة اللبن الذي شربوه، ويمتدوا على الأرض، مِن ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وأقام ملازمًا له. [109] أي صبوا اللبن على اللبن، وشربوا وشربوا تباعًا حتى رووا، فالعلل: الشربة الثانية، والنهل: الشربة الأولى. [110] هذا الحديث بتمامه في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم من حديث أم معبد وأخرجه الحاكم في المستدرك دون ذكر ما قيل من شعر حسان بن ثابت. [111] ذكره ابن هشام في السيرة جـ2 ص101 طبعة دار الجيل.

(14) وجُوب الإيمان بما أخبَرَ به القرآن من مُعجزات الأنبيَاء عليهم الصّلاة والسّلام

الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ.

أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنَ نَبِى إِلاَّ قَدْ أُوتي مِنَ الآيَاتِ به الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

والآيات والمعجزات تعم كل خارق للعادات، وتسمى البراهين. وهي كاسمها معجزة لعجز الناس عن معارضتها والإتيان بمثلها. فمعجزات الأنبياء هي آياتهم وبراهينهم الدالة على صدق نبوتهم، نصبها الله علامة على صدق رسله، والاستدعاء إلى الإيمان بهم وقبول دعوتهم. وأنها من صنع الله القادر على كل شيء، والفعال لما يريد. ليست من صنع النبي ولا من كسبه. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [الرعد: 38] فالعصا التي بيد نبي الله موسى هي عصًا مقطوعة من الشجر كعصا أحدنا في يده، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ ١٧ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَ‍َٔارِبُ أُخۡرَىٰ ١٨ [طه: 17-18]. وإنما صارت آية ومعجزة حين أمره ربه أن يلقيها، ولهذا قال: ﴿قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ ١٩ فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١ [طه: 19-21] أي عصًا معتادة كحالتها السابقة.

وإن المسلم متى آمن بالله القادر على كل شيء لم يعسر عليه التسليم والقبول بكل ما أخبر الله به من عجائب رسله، ومعجزات خلقه، كخلق آدم من تراب، ثم قال له: كن. فكان، فصار بشرًا سويًّا. ثم خلق حواء من ضلع آدم. ثم خلق المسيح من أم بلا أب. وكذا سائر معجزات الأنبياء والأولياء، كأهل الكهف الذين قص الله علينا خبرهم. إذ لا بد للرسل من المعجزات التي تعزز دينهم، وتستدعي تصديق دعوتهم، فقد أتت الرسل بما تحار فيه العقول.

ولولا حكاية القرآن للمعجزات التي أيد الله بها موسى وعيسى وسليمان وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكذب الناس بهم وبمعجزاتهم، وبالكتب النازلة عليهم. وأنه لا يمكن إثبات آيات الأنبياء السابقين، إلا بثبوت نبوة محمد ﷺ، والإيمان بالقرآن النازل عليه الذي أخبر الله فيه: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77] وقال: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ ٣ [يوسف: 3]. وقال: ﴿لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ١١١ [يوسف: 111]. وقال: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ [طه: 99-100] وقال: ﴿تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهَآ إِلَيۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ فَٱصۡبِرۡۖ إِنَّ ٱلۡعَٰقِبَةَ لِلۡمُتَّقِينَ ٤٩ [هود: 49]

إن من آيات الله ما يجري على حسب السنن المطردة في الخلق والتكوين.

ومنها ما يجري على خلاف السنن المعروفة للبشر، مما يدل على قدرة الباري. وإن لله سبحانه خرق العادات في خلقه ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ [يس: 82]. فقد أتت الرسل بما تحار فيه العقول.

إن الناس في المعجزات وفي الأمور المغيبات على قسمين:

أحدهما: الماديون الطبيعيون الذين ينكرون ويكذبون بكل ما لم يدركوه بحواسهم، فهم ينكرون وجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار، ويبادرون إلى إنكار ما سمعوه من الخوارق والمعجزات التي لم يصلوا إلى حقيقة العلم بها، وفيهم أنزل الله: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 39-41].

فهذا دأبهم في جميع نظرياتهم العلمية، يكفرون بآيات الله، ويكفرون ويكذبون بمعجزات الأنبياء، ولا يؤمنون بشيء منها. فهؤلاء يعتبرون مرتدين عن دين الإسلام إذا كانوا يتسمون بأنهم مسلمون. والمرتد شر من الكافر الأصلي، وقد كثر هذا الصنف في الأمصار التي أفسد التفرنج تربية أهلها بما يسمون بالمثقفين. عُمْيُ القلوب عموا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا أما الصنف الثاني: فهم المؤمنون الذين يصدقون بكل ما أخبر الله به تصديقًا جازمًا ليس مشوبًا بشك ولا ريب، سواء أدركوا سر معرفة ذلك بعقولهم أو لم يدركوه. فهؤلاء هم المؤمنون حقًّا، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. وفيهم أنزل الله: ﴿الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥ [البقرة: 1-5].

والمعجزة، إنما كانت آية ومعجزة لوقوعها من فعل الله ليس للنبي ولا لغيره تصرُّف في صنعها أو كسبها. والحكمة في ذلك أن مجرد قول الرسول ﷺ لأمته: إن الله أرسلني إليكم. بدون أن يأتي بآية تصدق ما يقول، فإن ذلك مما يقتضي عدم تصديقه ولا الإيمان به، لكنه متى أتى بآية ومعجزة ليست من صنعه ولا من كسبه ولا من الشيء المعتاد لغيره، ويمتنع أن يأتي من يعارضه بمثلها دل هذا على صدقه وصحة نبوته. وسميت معجزة، لكون الناس يعجزون عن معارضتها والإتيان بمثلها. وآيات الأنبياء هي علامات وبراهين من الله تتضمن إعلام الله لعباده بصدق رسله، وما جاؤوا به من الحق.

وقد سماه الله برهانًا في قوله تعالى: ﴿فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ [القصص: 32] يعني العصا واليد. ومن المعجزات إخبار القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام بقصص الأنبياء مع أممهم، وبمعجزاتهم وخوارق العادات التي أيدهم الله بها، وتكرار القرآن لأخبارهم، تارة بطريق البسط، وتارة بطريق الاختصار غير المخل.

ولأن اليهود والنصارى قد بدلوا الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل، وغيَّروها، وأدخلوا فيها الشيء الكثير من الكذب على الله وعلى أنبيائه ورسله، يقول الله سبحانه: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩ [البقرة: 79] وكانوا يجيزون لعلمائهم القسيسين بأن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، لأنهم: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ [التوبة: 31].

ولما كان هذا القرآن هو المهيمن على الكتب السابقة، وبمثابة المصحح المصفي لما ذُكِرَ فيها؛ فيحق الحق ويبطل الباطل؛ لهذا أعاد سبحانه وأبدى من ذكر قصص الأنبياء ومعجزاتهم، ليكون هذا القرآن هو المرجع الوحيد لكل ما يذكر من قصصهم ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77] ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩ [المائدة: 19]. ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 15-16] لأن الله سبحانه أرسل نبيه محمدًا إلى كافة الناس عربهم وعجمهم. يقول الله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٨ [سبأ: 28] وقال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 157-158]. فكل قصة نجدها تخالف القرآن يجب علينا أن نضرب بها عرض الجدار، إذ ليس لنا حاجة في كل ما يخالف القرآن؛ لعدم الثقة بصحته وكثرة دخول الكذب فيه.

ثم إن الإخبار بالآيات والمعجزات والمغيبات؛ لا يجوز معارضتها بالعقل والرأي لأنها من صنع الله القادر على كل شيء؛ وليس من صنع النبي ولا من كسبه. فالاستدلال بها والتحدي بمثلها مع عجز الناس عن معارضتها دليل واضح على صحتها، وصدق مَنْ جاء بها.

من ذلك معجزة القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام، والذي هو الحجة البالغة العظمى على خلقه. فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، والواقي عن الرذيلة. مأدبة الله في أرضه، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يَخْلَقُ على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، فيه خبر الأمم السابقة مع أنبيائهم، وما جرى منهم، وما جرى عليهم ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].
فيا لها من آيات حق لو اهتدى
بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة
فليست وإن أصغت تجيب المناديا
وهذا القرآن المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة؛ منها السور الطوال والقصار، مع ما اشتمل عليه من البلاغة؛ أنزله الله على هذا النبي العربي الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوبات، وكما قيل: كفاك بالأمي معجزة. يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49]. وقد تحدى الله جميع الخلق على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ [الإسراء: 88] وهذا التحدي لجميع الخلق؛ هو أعظم معجزة لنبوة محمد ﷺ، وصِدْق رسالته والقرآن النازل عليه. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ [الحاقة: 44-46] لا يقال: إن هذا القرآن فاض على نفس محمد ﷺ بدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه السلام! فإن هذا صريح في التكذيب به. وهي مقالة الوحيد العنيد القائل: ﴿إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ٢٥ [المدثر: 25] ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٥ قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦ [الفرقان: 5-6] ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ١٠٢ [النحل: 102].

وللنبي ﷺ معجزات غيره: كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل، وغير ذلك. والمعجزة العظمى هي القرآن فهو معجزة الدهور وآيات العصور. ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه. وقد أيد الله موسى بمعجزات عديدة من أجل أَنه أُرسِل إلى شعب عنيد: فرعون وهامان وقارون. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ ٢٣ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَقَٰرُونَ فَقَالُواْ سَٰحِرٞ كَذَّابٞ ٢٤ [غافر: 23-24] وقال: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖ [الإسراء: 101]. وهي: اليد، والعصا، والحجر الذي يحمله ثم يضربه بالعصا فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم على قدر عدد الأسباط. وكذلك انفلاق البحر حينما لحقهم فرعون وجنوده ﴿قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ٦١ قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ٦٢ فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ٦٣ [الشعراء: 61-63] أي كالجبل الشامخ.

ومثله معجزات نبي الله سليمان، حيث سخر الله له الريح تجري بأمره رُخاء حيث أصاب. فكان يبسط البسط، فيركب هو وجميع جنوده ومَن معه فتُقِلُّهم الريح ﴿غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞ [سبأ: 12].

ومثله معجزة نبي الله صالح، حيث أخرج الله له ناقة من صخرة صماء، ﴿لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ [الشعراء: 155]. ﴿هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ[111] [الأعراف: 73].

ومثله نبي الله عيسى، حيث كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويبين للناس ما يدخرون في بيوتهم.

وهذه المعجزات، يصدق بها أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكونها مذكورة في كتبهم، ومشهورة مشهود بها فيما بينهم. ولما قيل للنبي ﷺ: إن اليهود يصومون يوم عاشوراء ويقولون: إنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه. قال: «نحن أحق وأولى بموسى، صُومُوا يَوْمًا قَبْله، أَوْ يَوْمًا بَعْده، خَالِفُوا الْيَهُود»[112].

فالعلم بهذه المعجزات والبراهين البينات، يوجب علمًا ضروريًّا بأن الله جعلها آية لصدق أنبيائه ورسله الذين جاؤوا بها من الله، واستدلوا بها على قومهم. وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة، وأنه لا يمكن معارضتها، ولا الإتيان بمثلها؛ لكونها غير مصنوعة ولا من كسبهم ولا معتادة لغيرهم، ولهذا كانوا يعارضون معجزة كل نبي بدعوى أنه ساحر كما قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ ٥٢ أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ٥٣ [الذاريات: 52-53]. أي كان بعضهم يوصي بعضًا بهذه المقالة. وإنما هي من الله عز وجل أعلم الله بها عباده بصدق رسله وكتبه. ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [غافر: 78].

فخوارق السحرة والكهان المشعوذين، هي من الأمور المعتادة المشتركة التي يفعلها الكثير من الناس. وبالتحقيق فيها سرعان ما يتبين بطلانها. وما ابتلي الناس به من الشرك والكفر وعبادة الأصنام، إلا من أجل إعراضهم عن هداية الأنبياء، وعدم الإيمان بهم، واعتمادهم على آرائهم وعقولهم.

إن المسلم متى آمن بالله القادر على كل شيء، فإنه لن يعسر عليه التسليم بكل ما أخبر الله في كتابه من العجائب كعجيبة خلْق آدم من تراب، ثم خلْق حواء من ضلع آدم، وخلْق المسيح من أم بلا أب. إذ لابد للرسل من العجائب؛ لتعزيز دينهم، وتصديق دعوتهم. ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد الله بها موسى وعيسى لكذب الناس بهما وبمعجزاتهما وبالكتب النازلة عليهما. إنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوة محمد ﷺ، والتصديق بهذا القرآن النازل عليه، الذي: ﴿يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].

فإن من آيات الله ما يجري على سنته العامة المطردة في الخلق والتكوين، ومنها ما يجري على خلاف السنن المعروفة للبشر. مما يدل على قدرته على كل شيء، وأنه فعال لما يريد. وأن لله سبحانه خْرق العادات. فالماديون الملحدون المنكرون لوجود الخالق وقدرته التامة يبادرون بإنكار ما يسمعونه من الخوارق والمعجزات الذين لم يصلوا إلى حقيقة العلم بها، أو يتكلفون التأويلات البعيدة لكل ما يرونه مخالفًا لسنته المعروفة. كما قال تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ [يونس: 39] وهذا دأبهم في جميع نظرياتهم العلمية. فهم يكفرون بآيات الله، ويكذبون بها كلها، ولا يؤمنون بشيء منها. فتراهم يكذبون بكل ما غاب عن أبصارهم، وبكل ما لم يحيطوا بعلمه. فيكذبون بوجود الرب وبالملائكة وبالجنة والنار. فإفساد هؤلاء الفلاسفة الملاحدة للبشر في أمر دينهم ودنياهم أشد من إفساد النار لهشيم الحطب؛ لزعمهم أن الأنبياء يكذبون على الناس، ويحدثون الناس بما لا حقيقة له، وأنهم يتصرفون بما يخالف السنن والنواميس ﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٢٧ [ص: 27]. فكذبوا بالدين من أساسه، وكذبوا بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله. وهذا يعد من أشد أنواع الكفر بالله؛ لأن ضرره يتعدى بما فيه من إضلال الناس باعتقاد هذا الباطل الذي يتبعه خروج الناس عن الدين، ويبقون فوضى حيارى لا دين لهم. فمتى جهر هؤلاء باعتقادهم في بلادهم، فإنها لَفتنةٌ في الأرض وفساد كبير، فإن الجهر بالكفر والإلحاد، هو جرثومة الفساد، وخراب البلاد، وفساد أخلاق العباد.

أما وظائف الرسل: فإنهم بشر، اختصهم الله بالحق؛ لتبليغ عباده ما ارتضاه لهم من الدين بالقول والعمل، وبالتعليم والإرشاد، تبشيرًا وإنذارًا، وتنفيذ أحكام شرعه فيهم بالعدل والمساواة، ولم يؤتهم التصرف في خلقه بهداية أقرب الناس إليهم، وأحبهم إليهم من والد وولد والناس أجمعين. فوالد إبراهيم عاش كافرًا، ومات كافرًا، وولد نوح أول رسل الله إلى خلقه مات كافرًا، ولم يأذن الله لنوح بحمله معه في السفينة، فكان من المغرقين. وكان أبو لهب عم رسول الله ﷺ من أشد أعدائه المؤذين له، والصادين عن دينه، وأنزل الله في ذمه ووعيده سورة من القرآن يتعبد المؤمنون بقراءتها إلى يوم القيامة. وعمه أبو طالب الذي كفله ورباه، وكف عنه أذى المشركين، واعترف بصدق نبوته ولما قال له عند الاحتضار: «أَىْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»[113] فامتنع ومات على ملة عبد المطلب فأنزل الله ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ [القصص: 56] ونهي أن يستغفر له فقال: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١١٣ [التوبة: 113] لأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. والمقصود أن معجزات الأنبياء كلها من الله لا من كسب الأنبياء ولا من تصرفهم، كما نطق به القرآن الكريم في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [الرعد: 38].

وأن الله سبحانه لم يؤيد رسله بما أيدهم به من المعجزات إلا لتكون حجة لهم على قومهم، بحيث يهتدي بها المستعد للهداية منهم، وتحق بها كلمة العذاب على الجاحدين ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 96-97].

إن الثابت من معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء كأهل الكهف وغيرهم فما كانت دلالته من النصوص القرآنية، فإنها تعتبر قطعية لا مجال للرأي في إنكارها، ولا صرفها بمجرد التحكم والتأويل عن المعنى المراد منها. فقد أتت الرسل بمحارات العقول، فالتكذيب بها يعتبر نقضًا لقواعد الشريعة المعتبرة القطعية، ويعتبر ارتدادًا عن الإسلام ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ [يونس: 39].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي أو الخبر. فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله إذا أخبر في القرآن بشيء، أو أن الرسول إذا أخبر بشيء فإنه يجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم بعقولنا حكمته. ومن لم يقر بما جاء عن الله ورسوله حتى يعلم بعقله فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ [الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل، فليس بالحقيقة مؤمنًا بالقرآن ولا بالرسول، ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول، ولا فرق عنده بين أن يخبر القرآن أو الرسول بشيء أو لا يخبر به. فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه. وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، ولا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود القرآن والرسول، وبين عدم وجودهما. ويصير ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده. انتهى.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

* * *

[111] وأما الآيتان؛ 155-156 من سورة الشعراء فهي: ﴿قَالَ هَٰذِهِۦ نَاقَةٞ لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ١٥٥ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابُ يَوۡمٍ عَظِيمٖ١٥٦. [112] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ بلفظ: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاء - وَخَالِفُوا الْيَهُود فَصُومُوا قَبْله يَوْمًا وَبَعْده يَوْمًا» وجاء في رواية: «أو بعده». [113] متفق عليه من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن.

(15) التذكير بحديث «المؤمن القويّ أحَبّ إلى الله مِن المؤمن الضّعيف» وفيه بيَان القضَاء والقدَر عَلَى الوَجه الصّحيح

الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ ٢ [الملك: 2]. وأشهد أن لا إله إلا الله بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف، وَفِي كُلّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَز. وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَح عَمَل الشَّيْطَان»[114].

وأقول: إن هذا الحديث هو من جوامع الكلم، ومهمات الحكم. فهو بمثابة الموعظة الفصيحة، والنصيحة الصحيحة التي حث النبي ﷺ عليها أمته، وأحب منهم أن يتخلقوا بمدلوله الذي فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

بدأه بقوله: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف». لكون القوي يزيد على الضعيف بقوته، والقوة في سبيل الحق والعدل مطلوبة شرعًا، ومحبوبة طبعًا.

ولهذا يستحبون الغزو مع الأمير القوي الفاجر، ويفضلونه على الغزو مع الأمير المؤمن الضعيف. ويقولون: إن إيمان الضعيف لنفسه، وضعفه يضر الناس. وإن فجور الأمير القوي على نفسه، وقوته تنفع الناس. ولهذا كان من سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يفضل الأمير القوي ويقدمه في الولاية على الضعيف. كما ولى زياد بن أبيه وأمثاله وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة. ويستحبون في القاضي أن يكون قويًّا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، حليمًا ذا أناة وفطنة. وقد قيل: ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب فالقوة الممدوحة هنا شاملة للقوة في الدين والدنيا؛ لكونه يقوم في أعماله بجد وعزم، ويأخذ بأسباب الحزم. ولهذا قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ».

فهذه من أجمع الكلمات، وأفصح العظات ترشد الإنسان إلى الحرص فيما ينفعه في أمر دينه ودنياه وبدنه. فمتى احتاج إلى علاج يزيل به ضرره، ويدفع به مرضه، فإنه يبادر إلى الأخذ به. لأن دين الإسلام يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والآخرة.

ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا نزلَ مِنْ دَاءٍ إِلاَّ ولَهُ دَواء عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[115] وقال: «تَدَاوَوْا يا عباد الله، وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[116] فيستعمل الدواء الكريه المر خوفًا من الوقوع في الضر كما قيل:
نحن في دار بليات
نعالج آفات بآفات
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل.

فقول النبي ﷺ: «اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعك». يشمل هذا كله، كما يشمل الحرص على أمر دينه من المحافظة عل فرائض ربه التي ينتظم بها أمر حياته، فإنها نعم العون على ما يزاوله من أمر الدنيا. وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِى وَأَصْلِحْ لِى دُنْيَاىَ الَّتِى فِيهَا مَعَاشِى»[117] وقد مدح الله الذين يقولون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ [البقرة: 201].

فلا ينبغي للإنسان أن يعجز عن ما يعود عليه نفعه من أمر دينه ودنياه. فإن العجز نتيجته الحرمان. وقد قيل:
دع التكاسل في الخيرات تطلبها
فليس يسعد بالخيرات كسلان
ومن دعاء النبي ﷺ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ»[118].

إن أضر ما ابتلي به الشخص هو العجز والكسل، وأكثر الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاءً وقدرًا.

فمتى صارحت الشخص ونصحته عن ترك الصلاة مثلاً، أو نهيته عن شيء من المنكرات، كشرب المسكرات، اعتذر إليك قائلاً: إنه أمر مكتوب علي! فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب المنكرات جبري. نظير ما حكى الله عن المشركين حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ [النحل: 35]. فالمحتج بالقدر حجته داحضة عند ربه؛ لأنه باحتجاجه بالقدر يريد أن يبطل الأمر والنهي اللذين عليهما مدار العبادات والأحكام، وأمور الحلال والحرام.

والله سبحانه خلق الإنسان، وركَّب فيه السمع والبصر والعقل؛ ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه، واستعمالها في سبيل قوته، ووقاية صحته، وحفظ بنيته. وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه. وكل ما شرعه رسول الله ﷺ لأمته، وأمر به، فإنه من الدين الذي يجب اتباعه واستعماله، ويدخل في عموم قوله: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ». فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، وعليه مدار العمل مع إيمانهم بالقضاء والقدر. فهم يقدمون الأمر على القدر، ويحاربون القدر بالقدر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما بلغه أنه قد وقع الطاعون بالشام، فامتنع عن دخول البلد من أجله، وعزم على الرجوع بأصحابه. ولما قال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم. وقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله[119].

ويقولون: القدر لا يمنع العمل، ولا يجب الاتكال عليه، ولا الاحتجاج به، إلا في حالة بذله للأسباب التي تقيه وترقيه وتحفظه. فمتى غلبه الأمر بعد ذلك، فإنه لا يلوم نفسه على تقصيره أو تفريطه ولن يلومه الناس؛ إذ قد ينزل بالشخص من البلايا والمحن ما لا طاقة له به. ولهذا قال: «وَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا» لأن هذا من اللوم المذموم.

فالعاقل يأخذ في أموره بالحذر والحزم وفعل أولي العزم. فمتى غلبه أمر لا يطيق دفعه ولا رفعه فعند ذلك يلتجئ إلى قوله: هذا قدر الله وما شاء فعل، ليسلي بذلك نفسه.

أما إذا غلبه أمر بسبب ضعفه وعجزه وتقصيره بأخذ الحيطة، ووسائل الولاية والحفظ، فإنه ملام على عجزه. ولا معنى لاحتجاجه بقضاء الله وقدره ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٧٩ [النساء: 79].

ولما قصر الصحابة يوم أحد في حمايتهم، وأهملوا الشِّعب حتى دخلت عليهم خيل المشركين من جهته، فقتلوا سبعين من الصحابة. وكانوا يظنون أنهم لن يغلبوا من أجل أنهم جند الله، والمجاهدون في سبيله مع نبيه، وأنهم لن يغلبوا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ [آل‌عمران: 165]. أي بسبب تقصيركم بحفظ بيضتكم وحماية ثغركم. وعاجز الرأي مِضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع، أو فساد في العقل. فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح والحركة. والإنسان مأمور بالأسباب. فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥ [الملك: 15].

يسأل بعضهم: هل الإنسان مخير أم مسير؟

فالجواب: إن الإنسان مخير أي فاعل مختار لعمله؛ سواء كان خيرًا أو شرًّا. فلا يقع فعل مقصود إلا من فاعل مختار. يقول الله تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ [الأنعام: 104] وقال: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ [الكهف: 29] أما من قال: إن الإنسان مسير فإن هذه طريقة الجبرية القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله وتصرفاته. ويصفونه في تصرفه بالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح اضطرارًا لا اختيارًا.

وينشدون في ذلك:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
وأقول: إن هذا الشعر هو من الكذب المفترى على الله وعلى رسوله ﷺ، فهو بعيد عن الحق والعدل. فإن الله سبحانه لم يخلق الإنسان في الدنيا مكتوفًا عن العمل والسعي، والأخذ بأسباب الحول والقوة، وسائر ما يؤهله من السعادة والوصول إلى الغاية والنعيم في الدنيا وفي الآخرة. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3] ويقول: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨ [النحل: 78] فهذه هي الوسائل والأسباب التي تنجيه من عذاب الدنيا وعقاب الآخرة؛ فسيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته. أما إذا عطل الإنسان هذه المنافع، ولم يستعملها في سبيل ما خلقت له من عبادة ربه، واستعمالها في مصالحه ومنافعه المباحة، فسيكون بمثابة الأعمى والأصم، أو كالميت المكتوف. كما قال سبحانه: ﴿وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡ‍ِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡ‍ِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ [الأحقاف: 26] وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44].

وحكى سبحانه عن أهل النار: ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١١ [الملك: 10-11] فقد خلق الله الإنسان، وخلق له السمع والبصر والعقل، وخلق له أيضًا جميع ما يحتاج إليه في الدنيا من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية، فكل العقاقير التي يستعملها الأطباء لعلاج الأمراض، والوقاية من البلاء والوباء، فهي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه، رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بمرض يزاوله ويشفيه. فهي من قدر الله التي يقدر الله بها دفع البلاء ورفعه؛ لكون الدواء أمانًا للصحة وقت المهلة.

فالقائلون: ألقاه في اليم مكتوفًا: هم الجبرية الذين يحتجون بالقدر يحاولون أن ينزهوا أنفسهم عن سوء ما فعلوا من المنكرات وترك الطاعات. ويحيلون جورهم وفجورهم، من تركهم الطاعات، وارتكابهم المنكرات، وشرب المسكرات، إلى القضاء والقدر، وما أذنب القضاء والقدر، ولكنهم هم المذنبون. فلو تعدى ظالم على أحد هؤلاء بضربه، أو أخذ ماله، أو انتهاك محارمه، ثم احتج على سوء فعله بالقضاء والقدر، فإنه لن يقبل منه هذا الاحتجاج؛ لعلمه أنه احتجاج باطل حاول به التوصل إلى باطل ببديهة العقل. فكيف يقبل على الله في ترك طاعاته، وارتكاب محرماته؟!!.

ولهذا يدعو بعض العلماء أن يجاوب الجبرية بالصفع على الوجه، ويقال: هذا قضاء الله وقدره. كما كنت تحتج به.

ولما جيء إلى عمر بن الخطاب بسارق قد سرق، واعترف. فقال له عمر: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره!! فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. ثم أمر به فقطعت يده[120].

ومثله احتجاج بعضهم بقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
وهذا أيضًا يعد من أفسد الشعر، يتمشى على عقيدة الجبر كما ذكرنا فيما سبق. وهذا القول وهذا الاعتقاد باطل بمقتضى النقل والعقل. فهم يصورون القضاء والقدر في نفوسهم، بمثابة الغُلِّ في العنق، والقيد في الأرجل، بحيث لا يتفصى[121] أحد عنه، ولا محيص للناس منه. وهو مدفوع بقول النبي ﷺ في هذا الحديث: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ»[122].

والله سبحانه لم يخلق الخلق في الدنيا سدى مهملين، مضيعين مكتوفين. بل خلقهم عاملين متحركين مختارين. ونحن نؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد جعل الله لكل شيء سببًا ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105] ومن بطأ به عمله، لم يسرع به اتكاله على قضاء الله وقدره.

وحقيقة القدر: هو الإخبار عن سبق علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنه يعلم ما كان، وما سيكون كيف يكون؛ لأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال عباده. فعلمه بالأشياء قبل وقوعها شيء، والجبر منه عليها شيء آخر. فقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ». وهذه الكتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل أن تقع وتكون.

قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا، فأنزل: ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠ [الحج: 70] ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان ص199.

وثبت أن الله يدفع القدر بالقدر، وأن الله يمحو القدر بالقدر. وسمع من دعاء عمر أنه يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا فامحني وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت[123]. والله يقول: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩ [الرعد: 39] مما يدل على أن هذا المحو قد أزيل به قدر كتاب سابق.

وفي حديث ثوبان أن النبي ﷺ قال: «وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَلاَ يَزِيدُ فِى الْعُمُرِ إِلاَّ الْبِرُّ، وإن الصدقة لتدفع مِيتَةَ السُّوءِ»[124] وفي دعاء القنوت: «وقنا واصرف عنا شر ما قضيت»[125] فأثبت في هذا الحديث كون الدعاء يرد القدر والقضاء. كما أن الصدقة تدفع ميتة السوء. وكذا قوله: «وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلا الْبِرُّ»[126] سواء حملناه على زيادة الأيام والليالي، أو على البركة في العمر، والكل واقع بقضاء الله وقدره.

فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، ويقدمونه على القدر. فقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
هو قول باطل قطعًا، فلا يكون التحرك مثل السكون، إذ إن مدار الشرع على الأمر والنهي، وأصدق الأسماء: حارث وهمام، فالهمام: هو الذي يهم بقلبه: سأفعل كذا. والحارث: هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى تحقيق آماله والسعي في أعماله. وقد قيل:
المسلم الحق يصلي فرضَهُ
ويأخذ الفأس ويسقي أرضَهُ
يجمع بين الشغل والعبادَهْ
ليكفل الله له السعادَهْ
وقد قلنا بأن المرض الذي يصاب به الشخص؛ هو من قضاء الله وقدره، وأن الدواء الذي يعالج به ليشفيه، هو من قضاء الله وقدره أيضًا. فهم يشربون الدواء الكريه المر؛ ليقيهم من الوقوع في الضر. كما قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـرُّ
فإن المر حين يسـر حلو
وإن الحلو حين يضـر مرُّ
وقد ثبت في الحديث: «بادِرُوا بالصدقة، فإنَ البلاء لا يتخطَّاها»[127] وفي مراسيل الحسن أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع»[128] والدعاء يتعالج مع البلاء بين السماء والأرض. فلا يعجز أحدكم عن الدعاء ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي فسوف يأتيني، دعوت أو لم أدع. فإن هذه طريقة الملاحدة الذين يحاولون إبطال عبودية الدعاء، وقد قدر الله بعض الأشياء، ولا يحصلها الإنسان إلا عن طريق الدعاء. وإن لم يدع لم تحصل له ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ [محمد: 38].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[114] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [115] رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، كلهم من حديث ابن مسعود. [116] رواه ابن ماجه وأحمد من حديث أسامة بن شريك. [117] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [118] رواه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. [119] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [120] أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل من حديث عمر. [121] أي لا يتخلص. [122] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [123] ذكره ابن بطة في الإبانة الكبرى. [124] رواه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. [125] متفق عليه من حديث الحسن بن علي. [126] أخرجه أحمد من حديث ثوبان. [127] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: «باكروا». [128] رواه أبو داود في مراسيله عن الحسن البصري.

(16) حديث «الطهُور شَطر الإيمان...» إلخ

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري أن النبي ﷺ قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».

وأقول: إن هذا الحديث عظيم الشأن جليل القدر، جمع مهمات من الحكم والفرائض والفضائل، فهو من جوامع الكلم؛ لأن النبي ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يجمع الحكم الكثيرة في الكلمات اليسيرة.

بدأ هذا الحديث بقوله: «الطهور شطر الإيمان». يعني بالطهور: التطهر بالماء من حدث أصغر أو جنابة، وجعله شطر الإيمان أي نصفه، لاعتبار أن للإنسان حالتين: حالة يكون متطهرًا، وحالة يكون محدثًا، ثم إن الطهور مفتاح الصلاة، فلا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ. وفُرِضَ ليلة الإسراء مع فرض الصلاة على القول الراجح. وعن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»[129].

وعن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»[130] وقد قيل: إنه من خصائص هذه الأمة لا يشاركهم فيه أحد من الأمم لقول النبي ﷺ: «إني أعرف أمتي من بين سائر الأمم بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء»[131] وسمي وضوءًا: لكونه يكسب الوضاءة والنضرة في سائر الأعضاء، مع تكفيره للخطايا، ثم إنه يكسب الأعضاء نشاطًا، ويطرد النوم والكسل عند القيام للصلاة.

ويشترط طهورية الماء وإباحته؛ بحيث لا يكون مغصوبًا، وإزالة ما يمنع وصول الماء إلى مواضعه من الأعضاء، فيزال الخاتم بتحريكه حتى يصل الماء إلى موضعه، وكذلك الساعة والسوار حتى يصل الماء إلى موضعهما من الأعضاء. وكذلك المرأة، إذا لبدت شيئًا فوق شعر رأسها، فإنه يجب أن تزيله حتى يصل الماء إلى موضعه من رأسها.

وقد جعل الله التيمم طهورًا يقوم مقام الماء عند عدم الماء. يقول الله سبحانه: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [المائدة: 6] فسماه الله طهورًا وليس من لوازم التيمم السفر، بل يجوز في البلد. فمتى انقطع الماء عن أهل بيت ولم يجدوا ما يتوضؤون به، أو يغتسلون إلا عن طريق سؤال الجيران أعطوهم أو منعوهم، فإنه يجوز لهم أن يتيمموا بضرب التراب مرتين، مرة للوجه ومرة لليدين. ثم يصلون فروضهم ونوافلهم، وصلاتهم صحيحة. فإذا وجدوا الماء، اغتسلوا به عن الجنابة، ولم يعيدوا صلاتهم، لكونها وقعت موقعها في الصحة والإجزاء. فلا إعادة.

ومثله من كان في البلد، والتمس الماء عند حضور وقت الصلاة، فلم يجده فإنه يتيمم. ومثله الطلاب أو الطالبات في المدرسة؛ وقد عدموا الماء، وخافوا فوت الصلاة فإنهم يصلون بالتيمم، وصلاتهم صحيحة لحديث: «الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ»[132].

ثم قال: «والحمد لله تملأ الميزان» فإن الله سبحانه كرر في كتابه نصبه للميزان. والوزن إنما يكون على حسب الأعمال لا على كثافة الأجسام أو نحافتها. قال سبحانه: ﴿فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٢ وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فِي جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ ١٠٣ [المؤمنون: 102-103].

فقد ورد أنه يأتي السمين البطين، الأكول الشروب، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ١٠٣ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ١٠٤ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ١٠٥ [الكهف: 103-105]. وكان ابن مسعود قصير القامة جدًّا حتى إذا رئِي قائمًا، ظنوه جالسًا. فجلس يومًا مع بعض الصحابة، وبدت ساقه، فضحكوا عجبًا من دقتها. فقال النبي ﷺ: «أتعجبون من دقة ساق ابن مسعود! والله لساق ابن مسعود في الميزان أثقل عند الله من جبل أحد»[133]

وأخبر النبي ﷺ بأن التسبيح والتحميد والتكبير من أثقل ما يُجعل في ميزان العبد، وإن لهن دويًّا حول العرش. وفي البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَن خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَان، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَان: سُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ سُبْحَان اللَّه الْعَظِيم»[134]

ولهذا قال:«وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ -أَوْ تَمْلأُ- مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ». لكون التسبيح والتهليل والتكبير، تجعل أجسامنا يوم القيامة على حسب قوة إيمان صاحبها أو ضعفه.

ثم قال: «والصلاة نور» ولا يخفى أن الصلاة عمود الديانة، ورأس الإيمان، وتهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل. تذكر بالله العظيم الأكبر، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، تفتح باب الرزق، وتيسر الأمر، وتزيل الهم والغم، وهي من أكبر ما يستعان بها على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وسعة الرزق في الحياة.

وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة، أو وقعوا في شدة من الشدات، فزعوا إلى الصلاة.

فهي نور المؤمنين في الحياة، كما أنها نور في القبر وعلى الصراط. وقد وصفها رسول الله ﷺ بالنور. كما في قوله: «بَشِّرِ لْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[135] وقال: «خمس صلوات كتبهن الله عليكم ؤ ونجاةً يوم القيامة، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلاَ بُرْهَانٌ وَلاَ نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَىِّ بْنِ خَلَفٍ بئس قرناء السوء»[136].

ولما مر النبي ﷺ على قبر حديث عهد بدفن. فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا قبر فلان التاجر. فقال: «والله لصلاة ركعتين أحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها»[137].

ثم قال: «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ». والبرهان هو الضياء المشرق. وسميت برهانًا لكونها تبرهن عن إيمان مُخرِجِها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩ [الحشر: 9]. كما سميت صدقة من أجل أنها تصدق وتحقق إيمان مُخرِجِها. والصدقة تطلق على الصدقة المستحبة، وعلى الزكاة الواجبة. كما في قوله سبحانه: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] فسميت الصدقة الواجبة زكاة من أجل أنها تزكي إيمان مُخرِجِها من الشح والبخل، وتطهره، كما تزكي المال أي تنميه وتُكثِّره وتنزل البركة فيه، حتى في يد وارثه. فما نقصت صدقة مالاً بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ [سبأ: 39] ﴿وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16]. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ إِلاَّ وبِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً وَأَعْطِ مُمْسِكاً مَالاً تَلَفاً»[138]

ثم قال: «والصبر ضياء». وأقول: إن الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عما حرم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.

فأعلاه الصبر على طاعة الله؛ لأن ملازمة الطاعات، ومواصلة الأعمال الصالحات؛ يحتاج إلى صبر ومصابرة، يقول الله تعالى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ [البقرة: 45]. وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٢٠٠ [آل‌عمران: 200]. وقد سمى رسول الله ﷺ انتظار الصلاة بعد الصلاة بالمرابطة. كما سمى شهر رمضان بشهر الصبر، لأن فيه صبرًا على طاعة الله من الصيام والصلاة وصبرًا عما حرم الله من الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان.

وكل الشرائع المفترضة على العباد فإنها تحتاج في أدائها إلى صبر ومصابرة. فالمحافظة على الصلاة في الجماعات بطريق الاستمرار تحتاج إلى صبر، وأداء الزكاة طيبة بها نفسُه، وافدة عليه كل عام تحتاج إلى صبر، وكذا صيام رمضان ونوافله، وبالخصوص في شدة الحر يحتاج إلى صبر، وكذا سائر نوافل العبادات يحتاج إلى صبر ومصابرة. والثاني: الصبر عما حرم الله؛ من الربا والزنا وشرب الخمور، وأكل أموال الناس بالباطل، وقتل النفس بغير حق. فالكف عن كل هذه يعد من الصبر عما حرم الله. وقد قيل: لا تنظر إلى ازدحامهم عند المساجد، ولكن انظر إلى وقوفهم عند الحدود والمحرمات؛ لأن أفعال الطاعات يفعلها البر والفاجر، وأما ترك المحرمات، فلا يتركها إلا صِدِّيق.

وأما الصبر على أقدار الله المؤلمة، فمثل المصائب في الأهل والأولاد، وانتقاص المال أو ذهابه بنزول جائحة فيه. فكل هذه من الصبر على أقدار الله «وإِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصَّدْمَة الْأُولَى»[139].

وأما قوله: «والقرآن حجة لك أوعليك» فهذا عدل الله في عباده، فإن الله سبحانه أنزل كتبه، وأرسل رسله ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ [النساء: 165]. فالقرآن صادق مصدق، وشافع مشفع، من جعله إمامه فحافظ على فرائضه، واجتنب محارمه، فإنه يقوده إلى الجنة. ومن ترك طاعاته، وارتكب محرماته، فإنه يسوقه إلى النار. لأنه يبعث يوم القيامة كالرجل الشاحب يخاصم أقوامًا ويخاصم دون آخرين، فيقول في حق من حفظ فرائضه، واجتنب حدوده ومحرماته: يا رب حمَّلْتَه إياي، فخير حامل: حفظ حدودي، وحافظ على طاعتي، واجتنب معصيتي. ولم يزل يلقي دونه بالحجج حتى يقال: شأنك به. فيأخذه بيده، ويدخله الجنة. وأما الثاني فيقول: يا رب حمَّلْتَه إياي، فبئس حامل، ضيع فرائضي، وارتكب معصيتي. فلا يزال يلقي عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به. فيكبه على وجهه في نار جهنم.

ولهذا قالوا: ما جالس القرآن أحد قام سالما، بل إمَّا له، وإمَّا عليه.

وإنما نزل القرآن للاعتبار والتدبر، وتوطين النفس على العمل، وهو رسالة من رب العالمين موجهة إلى عباده المؤمنين، فيها الأمر والنهي، والتبشير والتحذير، ومن قرأ القرآن ولم يعمل به، فقد ضرب الله به مثل السوء أي: ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢا [الجمعة: 5]. أي كتبًا لا يدري ما فيها، كما قيل:
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدى
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
ورُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.

ثم قال: «كل الناس يغدو فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها». إن الناس كلهم لا يخرجون عن هذين الوصفين منهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٢٠٧ [البقرة: 207]. وبضده قوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٢٠٦ [البقرة: 204-206]. لأن سعْيَ الناس شتَّى، منهم من يعمل بعمل أهل الجنة، ومنهم من يعمل بعمل أهل النار.
وللخير أهل يُعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشـر أهل يُعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابع
وعند نشر صحائف الأعمال يوم القيامة يقول الله تعالى: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[140].

فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[129] رواه أبو داود والترمذي والدارمي. ورواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد. [130] رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث حديث ثوبان مولى المصطفى ﷺ، والبيهقي في الشعب والطبراني في الكبير من حديث ابن عمرو بن العاص. والطبراني في الكبير من حديث سلمة بن الأكوع. قال المنذري: إسناد ابن ماجه صحيح. وقال الرافعي: حديث ثابت. [131] أخرجه مسلم وابن حبان من حديث أبي هريرة. [132] رواه البزار من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح. [133] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [134] واللفظ للبخاري. [135] رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث غريب. [136] رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمرو. [137] رواه المنذري عن الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وقال: إسناده حسن. [138] رواه الطيالسي والإمام أحمد من حديث أبي الدرداء، ورواه ابن حبان والحاكم. [139] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [140] رواه مسلم من حديث أبي ذر عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه.

(17) تفسير قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ [الحج: 77]

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ونحمده ونشكره أنْ جعلنا مسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧ وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 77-78].

قال بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فأَصْغِ لها سمعك. فإنها خير تُؤمَر به، أو شر تُنهَى عنه.

نادى الله عباده المؤمنين باسم الإيمان. فبعدما هاجروا إلى المدينة رسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم. ولهذا لا توجد هذه الصيغة أي: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إلا في السور المدنيات. ثم إن هذه الآية هي إحدى سجدات القرآن؛ كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ» وفي رواية: «فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهَا»[141].

استدل بهذا الحديث من يرى أن سجدة التلاوة واجبة. والصحيح أنها مستحبة وليست بواجبة لما في البخاري عن عمر أنه قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ». وقد مدح الله الذين إذا تُلِيَتْ عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًّا. وثبت أن النبي ﷺ كان يخطب فقرأ سجدة فنزل عن المنبر، فسجد، وسجد الناس معه، وفعل عمر مثله.

وروي أن الإنسان إذا سجد اعتزله الشيطان، يبكي يقول: «أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِىَ النَّارُ».

أما الدعاء في سجود التلاوة: فليس محصورًا في صفة. بل لو سجد ولم يقل شيئًا، أو قال: سبحان ربي الأعلى كفى.

واختلف العلماء: هل سجود التلاوة صلاة يشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والتسليم، أم هو سجود مجرد؟

فعند بعض الفقهاء: إنه صلاة، يشترط له ما يشترط للصلاة، من الطهارة، واستقبال القبلة. واستأنسوا لهذا بحديث ابن عمر قال: «كَانَ النَّبِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَه». رواه أبو داود بسند فيه لين.

ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن سجود التلاوة هو سجود مجرد يشبه سجود الدعاء، فلا يشترط له طهارة ولا تكبير ولا تسليم، لأنه ليس بصلاة، وإنما شُرِعَ للخضوع والدعاء. فيسجد ولو في وقت النهي؛ كبعد العصر والفجر، ومثله سجود الشكر، فإنه يستحب عند حصول نعمة واندفاع نقمة. لأن النبي ﷺ كان إذا جاءه أمر يسره خر ساجدًا شكرًا لله.

فسجود تلاوة القرآن، وسجود الشكر، لا يشترط لهما الطهارة من الحدث على القول الصحيح، لأنهما بمثابة الدعاء، وبمثابة تلاوة القرآن والتسبيح، وسائر العبادات التي يجوز فعلها بدون وضوء.

فقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ [الحج: 77] ولأن يسجد المؤمن سجدة يبتغي بها وجه الله إلا آجره الله عليها، ولأنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحة أو صلاة ركعة أو سجدة أو صدقة.

والموتى في قبورهم يتحسرون ويتأسفون على زيادة في أعمالهم، ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة. يقول المفرط منهم: ﴿...رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٠٠ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا وقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون، فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.

إن بعض الناس يتقرب إلى الله بهذه العبادات، لكنهم يتوسلون ويستشفعون بالأولياء والصالحين والمقبورين يرجون شفاعتهم، وهذا شرك محبط لسائر أعمالهم من صلاتهم وصيامهم ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ [المائدة: 5] وإذا دخل أهل الجنة الجنة ورأوا ثواب أعمالهم سألوا ربهم أن يأذن لهم بأن يعبدوه بالركوع والسجود. فيقول الله لهم: إن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل. وإنما يلهمون التسبيح والتحميد، كما تلهمون النفس. وقوله: ﴿وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وهذا أمر من الله لعباده بأن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا.

إن الله سبحانه إنما خلق الخلق للعبادة، وخلق لهم جميع ما في الدنيا من الخيرات ليستعينوا به على عبادة ربهم، ويتمتعوا به إلى آخرتهم. كما خلق لهم الجنة ثوابًا وجزاء على حسن أعمالهم.

وأما قوله: ﴿وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧ [الحج: 77].

فالعبادة اسم جامع لفعل ما يحبه الله ويرضاه، فالصلوات فرضها ونفلها عبادة. والصدقة فرضها ونفلها عبادة. والصوم فرضه ونفله عبادة. وبر الوالدين عبادة. وصلة الأرحام عبادة. والإحسان إلى المساكين والأيتام عبادة. والتسبيح والتحميد عبادة. والاستغفار وتلاوة القرآن بالتدبر، وتوطين النفس على العمل به عبادة. والدعاء والتضرع عبادة؛ بل الدعاء مخ العبادة، ومخ الشيء خالصه. والله تعالى يقول: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا ٧٧ [الفرقان: 77]. سواء قلنا: المراد به دعاء العبادة، أو دعاء المسألة، فإنه عبادة.

والعبادة هي التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أوليائه المقربين وحزبه المفلحين، كما في البخاري: أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ...» الحديث.[142]

خصوصًا الصلاة، فإنها الصلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه وموصول من فضل ربه وكرمه، كما في الحديث: «آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[143] وهي من أكبر العون على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وسعة الرزق في الحياة. يذنب الشخص الذنب ثم يندم، ويقوم يتوضأ، ويصلي ركعتين يتوب فيهما إلى الله، ويتوب الله عليه. أو يصاب بمصيبة، مِن فقْد حبيب، أو خسارة مال، أو شيء من مصائب الدنيا، فيقوم فيتوضأ، ويصلي ركعتين فتخف عليه عظم مصيبته. ويرى أن الله أكبر من كل شيء، وأن فيه العوض من كل هالك، والخلف من كل فائت.

أو يصاب بهَمٍّ وغمٍّ شديدين، فيقوم يتوضأ، ويصلي ركعتين، فيزول عنه همه وغمه، ويبدل مكانه فرح وسرور. أو يصاب بغضب شديد، فيتوضأ ويصلي. فيبرد غضبه، ويسكن جأشه. وهذا معنى قوله: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ [البقرة: 45] لأنها قرة العين للمؤمنين في الحياة.

ثم قال سبحانه: ﴿وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧ [الحج: 77]

فأرشدت هذه الآية الكريمة إلى أن فعل الخير على اختلاف أنواعه أنه من أسباب الفلاح، وهو الفوز والنجاح بخير الدنيا والآخرة.

وهذا الخير الذي أمر الله عباده بفعله يشمل كل ما ينفع الشخص والناس في أمر دينهم ودنياهم؛ لأن خير الناس أنفعهم للناس، والخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله مَنْ أحسن إلى عياله. وخير الناس من يُرجَى خيره، ويُؤْمَن شره، وشر الناس من لا يُرجَى خيره، ولا يؤمَن شره.
الخير أبقى وإن طال الزمان به
والشـر أخبث ما أوعيت من زاد
والله سبحانه خلق الناس على طبقات شتى: فمنهم أهل الخير المعروفون بالخير والإحسان ونفع الناس، ومنهم أهل الشر والمنكر والعصيان.
وللخير أهل يعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشـر أهل يعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابع
وصفة رسول الله ﷺ، أنه يصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويُكسِب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. فهؤلاء هم الأبرار الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤ [الإنفطار: 13-14]. فالأبرار: المتوسعون في أعمال البر والخير، من صلاة وصلة وصدقة وإحسان إلى الناس. والخير خزائن والناس مفاتيح، فمن الناس من يكون مِفتاحًا للخير، مِغلاقًا للشر، ومن الناس من يكون مِفتاحًا للشر، مِغلاقًا للخير، فهم في نعيم في الدنيا وفي القبر، وفي الآخرة، ومن الناس من يكون مفتاحًا للشر، وهم المتوسعون في أعمال الشرور والفجور؛ من تركهم الصلاة، وشربهم المسكرات، واستباحة أفعال المنكرات من الزنا والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل. وحسب المتصف بفعل الخير أنه يحبه الله، ويحبه أهل الأرض، ويحبه أهل السماء، ويدعو له المسلمون في صلاتهم، ويقولون: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين». وهذا هو الغاية في الفلاح، والفوز بالنجاح، وهو معنى قوله: ﴿وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩﴾.

ثم قال: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ [الحج: 78].

إنه قد يسوء فهم كثير من الناس حينما يسمعون بآيات الجهاد في القرآن، فيظنون كل الظن أن المراد بالجهاد هو الغزو لقتال الكفار، وهذا نوع من الجهاد وليس الجهاد محصورًا فيه. بل الجهاد أعم وأشمل؛ لأن الجهاد هو: بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق، ونفع الخلق، والجهاد قولي وفعلي. يكون باللسان وبالحجة والبيان. ويكون بالسيف والسنان. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[144]

فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو نوع من الجهاد في سبيل الله، وهو واجب على كل واحد بحسبه. فعلى العالم من وجوب الجهاد في نشر العلم وتعليمه، وتذكير الناس به، والنصيحة بنشر ما ينفعهم، والتحذير عما يضرهم. ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من وجوب الجهاد في تنفيذ الحق والحكم بالعدل، ونصر المظلوم، واستيفاء حقه، وقمع الظالم وإيقافه على حده، وإقناعه بحقه. ما ليس على غيره. ولن تقدَّس أمة لا يؤخذ الحق من قويهم لضعيفهم.

فالجهاد واجب على كل أحد بحسبه، وواجب على كل أحد مع أهله وعياله بحيث يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر، ويأمرهم بالصلاة في المسجد معه عملاً بقوله: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَا [طه: 132]. فالجهاد بالحجة والبيان، والأمر بالخير، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: هو جهاد أنبياء الله ورسله. وإنما شرع القتال لتأييده واستقامته، لأنه قوام الدين، ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا [الفرقان: 31].

يقول الله تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا [النساء: 63] ﴿وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا [الفرقان: 52] وقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ٧٣ [التوبة: 73] ورسول الله ﷺ لم يؤمر بقتال المنافقين، ولما استؤذن في قتل رجل منافق قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحمَّدًا يَقْتُلُ أصْحَابَهُ»[145] من أجل أنهم ينتسبون إلى صحبته وإلى الإسلام في الظاهر، فترك قتالهم.

ومعنى قوله: ﴿هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ أي اصطفاكم وجعلكم من خيار الناس، ومن أنفع الناس للناس ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل‌عمران: 110] فمتى زالت هذه الصفات الجليلة، فقد زالت عنهم الخيرية.

ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78] فنفى سبحانه وقوع الحرج في الدين، لأن شرائع الإسلام كلها سهلة سمحة ميسرة، كما في البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي ﷺ عن الصلاة فقال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يصلي وقد رفع له وسادة يسجد عليها فرمى بها، وقال: «صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إنْ اسْتَطَعْت، وَإِلَّا فَأَوْمِ إيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِك»[146] فما من شيء من العبادات يشق مشقة زائدة على المعتاد إلا كان لها بدل من التيسير حاضر عتيد؛ لأن الشرائع منزلة على جلب المصالح، ودرء المضار.

أما ما يصيب الناس من مشقة الصيام في نهاية طول الأيام، وشدة الحر فيصفون الإسلام من أجله بأن شرائعه تكاليف شاقة. فهذا لا يقوله سوى ضعفة الأديان، الذين ينظرون إلى الأشياء بعين شهواتهم لا بعين عقولهم. وقد خفي عليهم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن السعادة والصحة والعافية لا يُعبَر إليها إلا على جسر المشقة والتعب. والله سبحانه لم يوجب الصيام على عباده إلا لمصلحة تعود عليهم في دينهم وأبدانهم، لأنه بمثابة الرياضة للبدن، وبمثابة الحمية التي تعقب البدن الصحة. والصوم زكاة البدن يزكو به ويصح به، كما في الحديث: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[147] لأن في البدن فضولاً سيالة إذا بقيت في الجسم أفسدته. وبالصوم تنشف وتقوى العضلات، فيشتهي الطعام باشتياق. أشبه تضمير الخيل للسباق. وبطريق الاعتبار نرى أن المتنفلين بالصيام الذين يصومون مثلاً الاثنين والخميس، ويصومون عشر ذي الحجة، ويصومون يوم عاشوراء، ويوم عرفة، مع صيام رمضان نراهم من أحسن الناس حالاً، وأصح الناس أجسامًا. لأن الله يمدهم بالقوة على أثر الطاعة، حتى يمتعون بالصحة وطول العمر.

ومثله يقال في الصلاة حيث سماها بعضهم بالرياضة من أجل أنها تروض الجسم. وهي رأس العبادة، وتكسب البدن الصحة لأن الله لم يوجب الصوم والصلاة إلا لمصلحة راجحة، ومنفعة واضحة في الدين والبدن. ولم يحرم المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا لمضرة واضحة ومفسدة راجحة، وأهل الصوم في صومهم، هم أنعم وأسعد وأقوى من أهل البطالة في أكلهم وشربهم وبطالتهم، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٢٨ [ص: 28].

* * *

[141] رواه أبو داود في مراسيله عن خالد بن معدان، ورواه الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر. [142] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [143] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [144] أخرجه أحمد من حديث فضالة بن عبيد. [145] رواه البخاري من حديث جابر بن عبد الله. [146] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر. [147] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة.

(18) فضل الدّعاء وكونه يَدفع شَر القدَر والقضَاء

الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدًا رسول الله، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد. وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركَّب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ ٥٨ [الذاريات: 56-58].

والعبادة أنواع: فالصلاة فرضها ونفلها عبادة، والصوم عبادة، والزكاة عبادة، والحج عبادة، والصدقة عبادة، والتسبيح والتحميد عبادة، وتلاوة القرآن بالتدبر وتوطين النفس على العمل به عبادة، والدعاء عبادة، بل الدعاء مخ العبادة سواء في ذلك دعاء العبادة ودعاء المسألة. يقول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦ [البقرة: 186].

وقد ذكر العلماء الحكمة في وضع هذه الآية بين آيات الصيام. ذلك أن الصائم يتوسع في أفعال العبادة ويكثر من الدعاء، والتضرع إلى الله في كل أوقاته، وعند فطره وسحوره؛ لعلمه أن للصائم دعوة لا تُرد، فهي إرشاد من الله إلى الدعاء عند كل فطر، إذ الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60] فسماه عبادة وتوعد سبحانه كل من استكبر عن عبادة ربه، وأعرض عن دعائه، بأنهم ﴿سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ أي صغيرين حقيرين ذليلين.

فالدعاء عماد الدين، ونور السماوات والأرض، وسلاح المؤمن كما ثبت ذلك في الحديث. وهو بمثابة الكنز المدخر لحالة الأزمات، والوقوع في الشدات، لأن من عرف الله في الرخاء، عرفه في الشدة «إِذَا سَأَلْتَ فَسَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»[148]. فليس شيء أكرم على الله من الدعاء، والله يحب الملحين بالدعاء. فـ «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ»[149] أي الزموا وداوموا. ومن لم يسأل الله يغضب عليه.

ومتى كان الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة والمسلم مخلوق للعبادة، فلا ينبغي له أن يستبطئ الإجابة ويقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فيكسل عند ذلك وييأس فيترك الدعاء. لأن هذا من باب القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، فإن الله سبحانه هو أعلم بمصالح عباده، فقد يدعو الإنسان بشيء من حظوظ الدنيا وسعة الرزق، وكثرة المال والعيال ولو استجيب له، وعجلت له دعوته لكان فيه محض مضرته وهلاكه؛ لأن الله سبحانه يحمي عبده المؤمن من بعض الأشياء التي يتمناها ويشتهيها رحمة منه؛ لأنها لو حصلت له لأفسدت عليه دينه ودنياه ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ [البقرة: 216] ومن دعاء بعض السلف: اللهم أعطيتني مما أحب، فاجعله عونًا لي على ما تحب. اللهم ما زويت عني مما أحب، فاجعله فراغًا لي فيما تحب. فالداعي لربه لن يخيب أبدًا: «إما أن يستجيب الله له دعوته، وإما أن يدخر ثوابها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها». - كما ثبت بذلك الحديث - فقالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر من الدعاء. فقال: «فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ»[150] فواجب المسلم والمسلمة أن يكثر من الدعاء في كل الحالات، وفي سائر الأوقات ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٥٥ [الأعراف: 55] ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡ [الفرقان: 77].

فالدعاء سلاح المؤمن يستدفع به البلاء حتى المنعقد بطريق القدر والقضاء، فإنه يدفع شره. كما ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: «لاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَلاَ يَزِيدُ فِى الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»[151] فأخبر الصادق المصدوق أن الدعاء يرد القدر والقضاء. مثال ذلك أنه يكتب على الإنسان أنه يعيش فقيرًا، أو أنه يصاب بقتل، أو بصدم سيارة أو غرق أو حرق أو غير ذلك مما يتحدث الناس أنه مكتوب عليه في الأزل، ثم لا يزال يدعو ويتضرع إلى الله سبحانه، فيستجيب الله دعوته، ويمحو ما كتب عليه بطريق القضاء والقدر، لأن الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت، فيعيش في الدنيا معافى، غنيًّا سعيدًا.

ولهذا كان من دعاء القنوت أنه يقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ»[152] ولولا أن الدعاء يدفع شر القدر ولقضاء لما دعا به النبي ﷺ. ولما علمه أمته. فصرْفُ القدر والقضاء بالدعاء هو أمر واقع من الله، وثابت في شرع الله. فحذار حذار أن يعجز أحدكم عن الدعاء ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي فإنه سيحصل لي، دعوت أو لم أدع. فإن هذه حجة الملاحدة الذين أبطلوا مشروعية الدعاء وتأثير ثوابه، اتكالاً منهم على القدر المكتوب. والله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، وجعل الدعاء سببًا للإجابة. وأنزل الله في كتابه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦ [البقرة: 186] وقد استعاذ النبي ﷺ من أربع فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ»[153] أي لا يستجاب له. والمؤمن في الدنيا بمثابة الغريق في لُجَّة البحر، يقول: يا رب يا رب، حتى يصل إلى ساحل السلامة والنجاة، لأن البلايا والرزايا والأحداث والأخطار والأوجاع المزعجة تفاجئ الإنسان من حيث لا يحتسب، ولا ملجأ ولا منجى له من هده البلايا والرزايا إلا بالالتجاء إلى الله بالدعاء والتضرع، لأنه نعم الملتجأ ونعم المولى ونعم النصير.

ولهذا كان النبي ﷺ يكثر من الدعاء بسؤال العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ويقول إذا أصبح: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأَهْلِى وَمَالِى اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِى ». وَقَالَ عُثْمَانُ « عَوْرَاتِى وَآمِنْ رَوْعَاتِى اللَّهُمَّ احْفَظْنِى مِنْ بَيْنِ يَدَىَّ وَمِنْ خَلْفِى وَعَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى وَمِنْ فَوْقِى وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى»[154] وكان[155] يستعيذ بالله من نقمته، وتحُّول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه، ويقول في سجوده: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»[156]. وبالجملة: فإن الدعاء جُنَّة حصينة، ومِفتاح كل خير، وهو من لذائذ الدنيا من ذاق منه عرف، ومن حرم انحرف، فمن فُتِح له باب الدعاء وحُبِّب إليه فقد فُتِح له باب الخير والرحمة والبركة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإنني إذا أُعطِيت الدعاء وفقت للإجابة.

وقد قال بعض السلف: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فيفتح لي من لذائذ مناجاته ما لا أحب معها أن يعجل قضاء حاجتي باستجابة دعوتي. لا سيما الدعاء في السجود، فإن له سرًّا بديعًا، كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»[157] وقال: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»[158] ففضل الدعاء وتأثيره سببه هو أمر معلوم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، غير أن للدعاء بابًا يدخل إلى الله منه، وآدابًا ينبغي أن يتأدب بها الداعي، فإن من حرم الأدب حرم الإجابة.

من ذلك أنه ينبغي للداعي أن يطيب مطعمه عن أكل الحرام، لأن العلائق عن الخير عوائق. وقد قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص: «يَا سَعْدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ»[159] لكون الوسائل مطلوب تقديمها أمام المسائل؛ لأنها من العمل الصالح الذي يرفع الدعاء إلى الله.

وعن فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي رَجُلاً يَدْعُو وَلَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ النَّبِىُّ «عَجِلَ هَذَا».ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.

ومنها أن يمد يديه إلى الله في الدعاء؛ لما روى سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إن ربكم حيِيٌّ ستير يستحيي من عبده إذا مد إليه يديه أن يردهما صفرًا» أي خائبتين. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم.

ومنها: أن يدعو بقلب حاضر وهو موقن بالإجابة، فإنه لا يستجاب الدعاء من قلب ساهٍ لاهٍ.

«وإذا سألت فاسأل الله». لا تسأل غيره إلا فيما لابد منه. أما سؤال المخلوق، فإنه حرام إلا في حالة الضرورة. ومن دعاء بعض السلف: اللهم كما صُنْتَ وجهي عن السجود لغيرك، فصُنْ لساني عن السؤال لغيرك. لأن سؤال المخلوق للمخلوق ذُل ومهانة ومذمة. والله تعالى يقول: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ [الشمس: 9] أي زكى نفسه بالفضائل ﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 10] أي دسَّاها ودنسها بالرذائل، ولا رذيلة أعظم من سؤال الناس؛ لأن السؤال يذهب بماء الوجه. وأخبر النبي ﷺ أن «الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ»[160] وأ خبر أن الذي يسأل الناس تكثرًا يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مزعة لحم. وقال: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِىَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ»[161] وقد أقسم النبي ﷺ على ثلاث خصال فقال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وما فتح عبد باب مسألة للناس إلا فتح الله عليه باب فقر»[162] وهذا أمر واقع ما له من دافع. ولهذا يقال: شر الكسب السؤال. ويقال: آخر الكسب السؤال. فواجب المسلم أن يصون ماء وجهه عن سؤال الناس: «مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ»[163] وما جاءك من هذا المال وأنت غير مُشرِف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك.

فهؤلاء الذين يسألون الناس حيث اتخذوا مسألة الناس لهم مهنة ومكسبًا، وعندهم نقود مودعة عند التجار أو في البنوك، فهؤلاء يعتبرون مخطئين ضالين؛ لأن مسألة الناس حرام إلا في حالة الضرورة، لأن «مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[164] أما إذا كان مضطرًّا وليس عنده شيء فإن للسائل حقًّا ولو جاء على فرس، ولو صدق السائل ما أفلح مَن رده. وقد أوجب الله للسائل حقًّا في كتابه المبين فقال: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ [البقرة: 177] وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِى لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ». بقية الحديث: «وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ»[165]

فانتبهوا من غفلتكم، وحافظوا على فرائض ربكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [الأنفال: 1].

* * *

[148] رواه الترمذي من حديث أبي العباس عبد الله بن عباس. [149] رواه أحمد، والطبراني في الدعاء من حديث ربيعة بن عامر [150] رواه البخاري في الأدب المفرد، والطبراني في الدعاء، والإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في الدعوات الكبير، جميعًا من حديث أبي سعيد الخدري. [151] رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه، والطبراني في الدعاء، جميعًا من حديث ثوبان. [152] رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الدعاء، جميعًا من حديث الحسن بن علي. [153] رواه الحاكم من حديث ابن مسعود وقال: صحيح، وقال العراقي: ليس كما قال. [154] رواه أبو داود من حديث ابن عمر. [155] رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر بن الخطاب. [156] رواه مسلم وأصحاب السنن: أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [157] رواه مسلم من حديث أبي هريرة ولكن قال: «فأكثروا الدعاء». [158] رواه مسلم من حديث ابن عباس. [159] رواه الطبراني في الأوسط. [160] رواه أبو داود والنسائي والترمذي والإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، جميعًا من حديث سمرة بن جندب. [161] متفق عليه من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري أيضًا من حديث الزبير بن العوام. [162] رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عوف. [163] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [164] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [165] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(19) آية الحُقوق العشرَة المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا [النساء: 36]

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة نرجو بها رفيع الدرجات، والفوز بالجنات. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أولي الهمم العاليات، والأعمال الصالحات، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا ٣٦ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٣٧ [النساء: 36-37]، هذه الآية تسمى آية الحقوق العشرة.

إن هذا القرآن بمثابة الرسالة الموجهة من رب العالمين إلى عباده المؤمنين، بلسان عربي مبين، بواسطة نبيهم الصادق الأمين.

والقرآن هو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، والداعي إلى الفضيلة، والرادع عن الرذيلة. فأمر الله بأن يعبدوه أي يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا.

والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال. فالصلاة فرضها ونفلها عبادة. بل هي رأس العبادة، والصوم عبادة، والزكاة عبادة، والصدقة عبادة، وبر الوالدين عبادة، وصلة الرحم عبادة، والإحسان إلى المساكين والأيتام والجيران عبادة، والذكر والتسبيح والتحميد عبادة، وتلاوة القرآن بالتدبر عبادة، والدعاء والاستغفار عبادة، بل الدعاء مخ العبادة. والله سبحانه إنما خلق الخلق للعبادة. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56] فالعبادة هي أكبر ما يستعان بها على أمر الدنيا والسعادة فيها، والفوز بثواب الآخرة.

إن الدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين وعبادة رب العالمين. فهي التي تجعل للمسلم من كل همّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلوى عافية، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «يقول الله عز وجل: ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِى أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[166] ومعنى التفرغ لعبادته أي العبادة التي أوجب الله عليك، فلا ينبغي أن تشتغل عنها بأهل ولا مال. ثم تتزود بما تستطيع من النوافل؛ فإنها نعم العون على ما تزاوله من أمور الحياة. كما أنها من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد فتجعله من حزبه المفلحين، وأوليائه المقربين لحديث: «مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْتُهُ» إلى أن يقول: «وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ»[167] وإليكم الآن آية الحقوق العشرة:

1 - يقول سبحانه: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا [النساء: 36] لما أمر بالعبادة نهى أشد النهي عما يبطلها؛ فقال: ﴿وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا [النساء: 36] فالشرك يحبط الأعمال، ومن يشرك بالله فقد حبط عمله، و﴿مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ [المائدة: 72]. وأخبر سبحانه بأنه لا أضل ممن يدعو مخلوقًا حيًّا أو ميتًا ويتوسل به ليشفع له عند ربه في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6] وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ ١٣ إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ ١٤ [فاطر: 13-14] وهو الله. وقال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106]. إنه لا أبلغ في الزجر من الشرك من القرآن الكريم.

والعجب أن عبدة القبور والأوثان في هذا الزمان، ينكرون تطبيق هذه الآيات على شركهم ويقولون: إنما نزلت هذه الآيات في المشركين الأولين، كأن الشرك والمشركين كانوا فانقضوا، وأنهم - بزعمهم - مغفور لهم في شركهم ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ [يونس: 18]. فشرك المتأخرين أكبر وأنكر من شرك الأولين. والنبي ﷺ قد بُعِث إلى الناس وهم متفرقون في عباداتهم، منهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، فقاتلهم جميعًا، ولم يفرق بينهم. فالذين يدعون الرسول ﷺ عند قبره، أو يدعون عليًّا، أو يدعون عبد القادر كلهم يعتبرون مشركين ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨ [الجن: 18].

2- ثم قال: ﴿وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا فقرن سبحانه حق الوالدين بحق نفسه الكريمة ولم يكل الإنسان إلى ما يجده في نفسه من الحنان. وفي الحديث: «رِضَا الرَّبِّ في رَضَا الوَالِدَيْنِ، وسَخَطُ الرَّبِّ في سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ»[168] فيجب أن يعاملهما بالحنان والإحسان والعطف واللطف ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ٢٣ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا ٢٤ [الإسراء: 23-24]. إن من ينسى إحسان الوالدين، وخاصة الأم التي حملته كرهًا، ووضعته كرهًا والتي أخذت تعاني المشاق في رضاعه وتمريضه وتنظيفه، وتسهر الليل كله أو بعضه في سبيل حياته وصحته، حتى يبلغ سن الرشد من عمره، وحتى قيل: إنه لن ينبت عمر إلا وقد أكل عمرًا.

إن من ينسى هذا كله، ثم يعامل والديه بالشدة والقسوة، إنه لرجل سوء، قد كفر نعمة تربية أبويه، وأبدل شكرهما كفرًا. وقد قيل: إن العقوق هو أحد الثكلين، ولرب عقم أقر للعين. «فبرُّوا آباءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ»[169].

3- ثم قال: ﴿وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ أي: وأحسنوا إلى أقاربكم وأرحامكم. والأقارب هم الإخوان والأخوات، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات، وأولاد العم والعمة، وأولاد الخال والخالة، وكل مَن يمتُّ إليك بنسب، وفي الحديث: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَثْرَاةٌ فِى الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِى الأَثَرِ»[170] فهـي من الأعمال الميمونة التي تدر على صاحبها بالبركة، وسعة الرزق، والبركة في العمر. وفي الصحيحين، من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُمَدَّ له في عمره، فليصل رحمه». وقد أوجب الله لهم حقًّا في كتابه المبين، فقال سبحانه: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ [الإسراء: 26]. وحسبك أن الله يقول: «أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِى فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ»[171]. ومعنى «وصلته» أي: أوصلت إليه الخيرات، وأنواع البركات، في نفسه ونسله وماله. ومعنى «قطعته» أي: قطعت عنه أسباب الخير والبركة. فالواصل موصول، والقاطع مقطوع.
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه
أنى توجه والمحروم محروم
وصلة الأرحام تكون بإفشاء السلام، والتحفي والإكرام، وبالزيارة بالأقدام، وبإهداء التحف وأنواع الإكرام، كما في الحديث: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا»[172]، «فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ»[173]، «تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ»[174] «وَلَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمَهُ وَصَلَهَا»[175] لكونه يعامل ربه بصلته، ولن يذهب العرف بين الله والناس. 4- ثم قال: ﴿وَٱلۡيَتَٰمَىٰ أي وأحسنوا إلى اليتامى وهم: من مات أبوهم قبل أن يبلغوا سن الرشد، ولا يُتْمَ بعد البلوغ. فحث سبحانه على الإحسان إلى اليتامى؛ لكون الحاجة والمسكنة تحيط بهم بعد موت أبيهم ومربيهم. و «خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ»[176] و «مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لا يَمْسَحُهُ إِلا لِلَّهِ؛ فإن له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة»[177].

5- ثم قال: ﴿وَٱلۡمَسَٰكِينِ وهم من أسكنهم الفقر. وفي الصحيح: أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِى لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»[178] وللسائل حق ولو جاء على فرس، ولو صدق السائل ما أفلح مَن رده.

6- ثم قال: ﴿وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ أي: الجار الرحم. فإن له حق الإسلام، وحق الجوار، وحق الرحم.

7- ثم قال: ﴿وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وهو الجار الغريب. فإن كان مسلمًا فإن له حق الجوار وحق الإسلام. وإن كان كافرًا فإن له حق الجوار بأن تحسن مجاورته. والنبي ﷺ قال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»[179] وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»[180] وقيل: خير الجيران عند الله خيرهم لجاره. وخير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه. والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَ يَتَحَوَّلُ»[181] وقد باع قوم عقارهم الغالي في نفوسهم من مضرة جيرانهم، وأنشد:
يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي
وما علموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملامة إنها
بجيرانها تغلو الديار وترخص
8- ثم قال: ﴿وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وهي الزوجة، فحث على الإحسان إليها، والعطف عليها، واللطف بها، وقال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى»[182] وقد قالوا: النساء يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام. كما سمعت من بعض العوام أنهن ودائع الشجعان، وفرايس الذلان. وقد خطب النبي ﷺ يوم عرفة فقال: «اتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. فلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَن تَكْرَهُونَ، ولا وَلاَ يَأْذَنَّ فِى بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»[183] ولما قيل للنبي ﷺ: ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: «أن تُطْعِمُهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، ولا تقبح - أي لا تقول: قبحكِ الله - وَلا تُقَبِّحْهُ، وَلا تَهْجُرْ إِلا فِي الْبَيْتِ»[184] فحرام أن يلعن زوجته، أو يلعن أباها وأمها، أو يقطع نفقته عنها بلا سبب يوجبه منها.

9- ثم قال: ﴿وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وهو المسافر الذي نفدت نفقته، واحتاج من الصدقة ما يوصله إلى بلده؛ فيعطى من الزكاة الواجبة، والصدقة المستحبة. 10- ثم قال: ﴿وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ أي: وأحسنوا إلى من ملكت أيمانكم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ [البقرة: 195].

إن هذه هي الحقوق العشرة وهي الغاية في الاتصاف بمكارم الأخلاق. فمن وفقه الله لفعلها فليعلم أنها توفيق من الله له وهداية سيقت إليه، فمن واجبه أن يحافظ على إحسانه بكتمانه، ولا يحبط ثواب عمله بامتنانه؛ فإن الامتنان يبطل ثواب الإحسان، بحيث يقول: فعلت وفعلت. يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ [البقرة: 264]. فالمن هو أن يمتن عليه بها، والأذى هو أن يكثر من ذكرها في المجالس، مما يدل على الدناءة وعدم الكرم. وقد جعلوا الامتنان بالإحسان بمثابة الهدم للبنيان، وأنشدوا:
يرب الذي يأتي من الخير إنه
إذا فعل المعروف زاد وتمما
وليس كبان حين تم بناؤه
تتبعه بالنقض حتى تهدما
ولهذا قالوا: يحتاج الإحسان إلى ثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره؛ أي: بعدم ذكره، كما قيل:
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى
فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيًا
ثم ختمها بقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا [النساء: 36]. أي مختالاً في مِشْيَته، فخورًا على رَحِمِه وعلى الناس بصدقته، متكبرًا على اليتامى والجيران والمساكين، متكبرًا على أهله وزوجته.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [الأنفال: 1].

* * *

[166] رواه الحاكم من حديث معقل بن يسار وقال: صحيح الإسناد. [167] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [168] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عبد الله بن عمرو. [169] رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر بإسناد صحيح. [170] أخرجه أحمد في مسنده والترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: صحيح وأقروه. [171] أخرجه الطبراني من حديث جرير وقد ضُعِّف لضعف أبي مطيع. [172] أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة. [173] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس. [174] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [175] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [176] رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه من حديث أبي هريرة. [177] رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث حديث أبي أمامة. [178] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [179] رواه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عائشة وإسناده صحيح وفيه زيادة. [180] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [181] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [182] رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، والترمذي من حديث عائشة وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس ومن حديث عائشة. [183] رواه مسلم من حديث جابر. [184] رواه الحاكم من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح وأقروه.

(20) الحياة الطيّبَة وكونها لا تُدرَك إلا بالأعمال الصّالحة

الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من أراد هدايته لمحاسن الأمور، ومكاسب الأجور، فعملوا في حياتهم أعمالاً صالحة لوفاتهم، يرجون بها تجارة لن تبور. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧ [النحل: 97]. فوعد الله - ووعْدُه حق وصِدْق - كل من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى، بأن يحيا في الدنيا حياة سعيدة طيبة، يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، فيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. ثم إن هذه الحياة الطيبة لا تُدرَك إلا بالأعمال الصالحة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر الثبات والاستقامة على الدين.

والحياة الطيبة: هي السعادة المنشودة في الدنيا وقد تكون طريقًا إلى سعادة الآخرة، فيكون ممن أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، فقد يحسب كثير ممن لا علم عنده أن الحياة الطيبة مقصورة على التنعم بالمآكل الشهية الملونة، والملابس المنوعة، والمراكب الفاخرة المرفهة، والقصور المشيدة المزخرفة، والنقود المخزونة المدخرة، وسائر ما يعد من وسائل الرفاهية والسعة، فيظن أن هذا هو الغاية في السعادة والحياة الطيبة. ولا شك أن هذا الظن والحسبان لا يصدر إلا عن جهل عريق بفهم القرآن، وجفاء عميق بمعرفة سعادة الإنسان.

فإن التوسع في أمور الحياة، والتمتع بأنواع المشتهيات، هو أمر مشترك بين المسلمين والكفار، لأن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر. والله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب. بل إن التمتع بأنواع المشتهيات هو أمر مشترك بين الإنسان وبين بهائم الحيوان، فقد يكون حظ بعض الكلاب من الأكل المستطاب، أعظم من حظ بعض الناس، فمن فهم هذا وزال عنه الالتباس، فليعلم أن الحياة الطيبة لا تُدرَك ولا تُنال إلا بالأعمال الصالحات، كما أنه لا يُعبَر إليها إلا على جسر الثبات والاستقامة على الدين، كالمحافظة على فرائض الصلوات، وكأداء فريضة الزكاة، وبسط اليد بالصدقات وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات، والتفريج على المكروبين والمنكوبين من ذوي الهيئات، ثم التزود بنوافل العبادات. فمَن لازَم هذه الأعمال، وسعى سعيه في كسب المال الحلال، أحياه الله حياة سعيدة طيبة، يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، لأن هذه الأعمال هي من أسباب انشراح الصدر، وتيسير الأمر، وسعة الرزق، وزوال الهم والغم. والدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
أما مجرد كثرة المال الخالي عن صالح الأعمال، فإنه لا يعَد من سعادة الحياة، بل هو على الضد من ذلك، وقد سماه الله عذابًا، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٨٥ [التوبة: 85] فتجد صاحبه دائمًا هَلوعًا جَزوعًا جَموعًا مَنوعًا، يُبتلَى بالهموم والغموم والأنكاد والأكدار حتى لا يكاد يمر السرور له بدار. ومن المعلوم أن الهموم والغموم والأنكاد والأكدار، أنها عقوبات تتوالى، ونار في القلب تتلظى، لا تزال تنفخ في الجسم حتى تجعل القوي ضعيفًا، والسمين نحيفًا كما قيل:
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ثم إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا مَن بَرَّ وصَدقَ، وأدى حق الله الواجب عليه في ماله.

ومعلوم أنه لا بد للناس من تجارة، ولا بد لهم من تُجَّار، والمال هو ترس المؤمن في آخر الزمان. ولا يستغنى عن المال في حال من الأحوال. فمن أخذ المال من حِلِّه، وأدى منه واجب حقه، فنعم المعونة هو، ويكون له حسنات ورفع درجات في الجنات، لأن الأعمال الصالحات هي التي تصفي الحياة، ولها أثرها المترتب عليها، من سعة الرزق، وصحة الجسم ﴿...وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ [الطلاق: 2-3] ﴿...وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ [الطلاق: 4] وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: يا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأْتُ صَدْرَكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[185]

وليس معنى التفرغ للعبادة أنه التخلي عن الدنيا، بترك البيع والشراء والأخذ والعطاء، والحرث والبناء، فإن هذا مذموم شرعًا؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكسب، وكد وكدح، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة يحب المؤمن القوي، والغني التقي، ويحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال «إنَّك إنْ تَذَرْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»[186] وقد استأذن أناس من الصحابة النبي ﷺ في أن يبيعوا عقارهم وأموالهم، ويشتروا بها خيلاً وسلاحًا يجاهدون عليها في سبيل الله. فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[187] واستأذنه بعضهم في أن يتصدق بماله كله فنهاهم عن ذلك[188].

واستأذنه عثمان بن مظعون في التبتل في العبادة، واعتزال الدنيا والنساء فنهاه عن ذلك، وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص: ««الم أُخْبَرْ بأنك تقوم الليل، وتصوم النهار؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «فلا تفعل، فَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقّاً، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»[189]

إذا ثبت هذا فإن معنى «تفرغ لعبادتي» أي: أَدِّ العبادة التي أوجب الله عليك فلا ينبغي أن تشتغل عنها بأهل ولا مال، فمتى دخل وقت فريضة الصلاة وجب عليك أن تبادر بأدائها في وقتها في الجماعة، وأن تترك لأجلها البيع والشراء والأخذ والعطاء. وإذا حضرت فريضة الزكاة، وجب عليك أن تبادر بأدائها إلى مستحقها تقول: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.

فينبغي أن تكون الدنيا رخيصة في نفسك، عند حضور واجب حق الله عليك. وما استجلبت نعم الله واستدفعت بمثل المحافظة على طاعته.

وفي البخاري عن قتادة: كان أصحاب رسول الله ﷺ يتَّجِرون، أي يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله، لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، حتى يؤدوه إلى الله، وفيهم وفي أمثالهم أنزل الله تعالى: ﴿رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٧ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨ [النور: 37-38] أي من فضل الدنيا وسعتها، بسبب محافظتهم على واجباتهم.

فالعمل الصالح هو همة التقي، ولا يضره مع ذلك لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا، لأن الدنيا متاع يتمتع بها المؤمن إلى ما هو خير منها، فهو يحترف فيها بجوارحه، وقلبه متعلق بالعمل لآخرته يعمل في دنياه عملاً لا يضر بآخرته، ويعمل لآخرته عملاً لا يضر بدنياه، فمتى أدى واجب حق الله عليه، من صلاته وزكاته، وتزود من نوافل عباداته، فتح الله له أبواب الرزق، وسهل له أسباب الكسب، وسلك في قلبه القناعة والرضا، التي هي غاية في الغنى، فإن الغِنَى ليس بكثرة المال، ولكن الغِنَى غِنَى القلب. وهذا معنى قوله: «تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنًى، وأسد فقرك» لأنه متى دخل الغنى والقناعة في القلب، فقد دخله الفرح والسرور والغبطة والحبور، فيعيش في نفسه وأهله عيشة راضية مرضية، وحياة سعيدة طيبة زكية، قد قنَّعه الله بما آتاه، ومتعه متاعًا حسنًا في دنياه، وهذا هو حقيقة الحياة الطيبة، والغِنَى المطلوب. وسُمِع من دعاء النبي ﷺ وهو يطوف بالبيت أنه يقول: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي وَبَارِكْ لِي فِيهِ وَأَخْلِفْ عَلَيَّ كُلَّ فائت بخير»[190] وليس معنى الدعاء بالقناعة كونه يترك السعي في سعة رزقه، وتوسيع تجارته، فإنه لا غنى للمؤمن عن بركة ربه والسعي في سعة رزقه، ومن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى وَوَسِّعْ لِى فِى دَارِى وَبَارِكْ لِى فِيمَا أعطيتني»[191] وهذا كله يعد من الحياة الطيبة، التي وعد الله بها كل من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. ولن يخلف الله وعده، ومن ذاق منها عرف، ومن حرم انحرف.

وأما قوله: «وإن لم تَفْعَلْ مَلأْتُ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» فإن هذه ضربة لازب[192] في حق كل من أعرض عن عبادة ربه وصرف جُلَّ عقله، وجُلَّ عمله، وجُلَّ اهتمامه للعمل في دنياه، واتبع شهوات بطنه وفرجه، وترك فرائض ربه، من صلاته وزكاته، ونسي أمر آخرته، فإنه يُبتلَى بفقر النفس، وشغل القلب. فتجده دائمًا مهمومًا مغمومًا، جَموعًا مَنوعًا، سيِّئ الحال، لا يكاد يمر السرور له ببال، فيحيا حياة نكدة مكدرة، من أجل إعراضه عن عبادة ربه. يقول الله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ [طه 123] أي لا يضل في سعيه، ولا يشقى في حياته ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا - أي في حياته - ﴿وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ [طه: 124] أي بعد وفاته. وهذه المعيشة الضنك، يُبتلَى بها كل من أعرض عن عبادة ربه، ونسي أمر آخرته، حتى ولو كان عنده ما عنده من العقارات الثمينة، والتجارات العظيمة، والنقود المودعة في البنوك، فإنه يُبتلَى بهذه المعيشة الضنك كأنه فقير ذاتٍ، فقير حياة، فقير من الحسنات، فهو لا يؤجر على فقره، فلا تغتروا بما ترونه من حسن بِزَّتِه،[193] وجمال ثيابه. فإن الأنكاد والأكدار والشرور والأضرار محيطة به من جميع جهاته، فتنكد عليه حياته، وتكدر صفو لذاته.
خُلِقوا وما خُلِقوا لـمَكْرُمة
فكأنهم خُلِقوا وما خُلِقوا
ورُزِقوا وما رُزِقوا سماح يد
فكأنهم رُزِقوا وما رُزِقوا
ولو سألت عمن هذا صفته لوجدتهم كثيرين في شتى البلدان، من التجار المكثرين، الذين غمرهم الله بنعمته، وفضَّلهم بالغنى على كثير من خلقه ثم يجمد قلب أحدهم على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته وعن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير، الذي خُلِقَ لأجله. أتاه شيطانه فخوَّفه، روعة زمانه وقلة ماله، فغَلَّ يده، ومنع ما عنده. ولم يزل ذلك دأبه حتى يخرج من الدنيا مذؤومًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، فيندم حين لا ينفعه الندم ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦ [الفجر: 24-26]
وكم من مالك مالاً كثيرًا
ولكن حظه منه قليل
ولسنا - بمدحنا للقناعة - نذم السعي والكسب والغنى، أو أننا نمدح الخمول والقعود والفقر. كلا والله، وإنما نمدح الغَنِيّ التَّقِيّ، والمؤمن القوي، ذا الحول والقوة، الذي يسعى بجده واجتهاده إلى توسيع تجارته، ثم التزود منها لآخرته، فيكون غنيًّا بماله، غنيًّا بصالح أعماله. آتاه الله الثروة والنعمة، فعادت عليه بالسعادة والرحمة بالرأي والتدبير، وصانها عن الإسراف والتبذير، وعاد بأداء زكاتها، وبالصدقة منها على الفقير والمسكين، وعلى الرحم واليتيم، فزكت نعمته وزادت، وثبتت ودامت، فكان عمله بارًّا، ورزق الله عليه دارًّا. ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ [الزمر: 18].

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[185] رواه الحاكم من حديث معقل بن يسار وقال: صحيح الإسناد. [186] رواه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص. [187] رواه مسلم من حديث جابر. [188] هو سعد رضي الله عنه. [189] متفق عليه. [190] رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان، جميعًا من حديث ابن عباس، ورواه البخاري موقوفًا على ابن عباس في الأدب المفرد. [191] رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي هريرة، وابن أبي شيبة، والنسائي في الكبرى، من حديث أبي موسى. [192] أي: ثابتة ولازمة. [193] بِزَّته: هيئته.

(21) تهذيب الأولاد على المحافظة على الفَرائض والفضَائل والتّنزه عَن مُنكرات الأخلاق والرذائل

الحمد الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركَّب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي أوصى أمته بأن يخافوا ربهم ويتقوه. اللهم صل على عبدك، ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، الذين آزروه ونصروه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وتدبروا ما أنزل إليكم من حِكَمِه وآياته، واعلموا أن الله تعالى لم يخلقكم عبثًا، ولم يضرب عنكم الذكر صفحًا، بل خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليكم في خاصة أنفسكم وأن تجاهدوا عليه أهلكم، وأولادكم ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ [الحج: 78]. وأنزل عليكم في كتابه المبين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا [التحريم: 6] فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله.

كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، وتحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نحل والد ولده أفضل من أن ينحله أدبًا حسنًا، يدله به على الصلاح والهدى، ويردعه به عن السفاه والردى.

والأدب الحسن ليس مقصورًا على الضرب بالعصا، ولكنه تدريب الولد على العلم والهدى، وعلى الطاعة والتقوى، ومباعدته عن مواقع الفساد والردى ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132] فمن أحب أن يُحفَظ في عقبه وعقب عقبه فليطع ربه، وليأمر بذلك من يحبه، فاحفظ الله يحفظك.

إنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على أفعال الطاعات، والحضور بهم معكم في مساجد الجمع والجماعات للصلاة، فإنه لابد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ [الزخرف: 36-37] إن الداء الضار بالولد والوالد هو إهمال الولد، وإلقاء حبله على الغارب، فلا يتفقده بالليل، ولا عند الصلاة، ولا يسأل عنه أين دخل، ولا أين خرج، وهذا غاية في الإهمال إذ إنه يلتقي بأهل السفاه والفساد، وهم أكابر مفسد لأخلاق الأولاد، فيكتسب منهم فنونًا من الضلال والخبال. فكم من رجل حسن الخلق نزيه العرض، عفيف الشرف، سليم العقيدة، اصطحب مع سفهاء الأحلام، وضعفاء العقول والأديان، فأفسدوا فضائله، وأوقعوه في الرذائل، وغيروا عقيدته، فساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، وانتشر عنه الذكر الخامل، والسمعة السيئة.

إن الدواء الكريه المر النافع لن يستعمله الولد إلا بإيعاز من الوالد، وإن الله لَيَزعُ بالسلطان أعظم مما يَزعُ بالقرآن، والرجل سلطان على أهل بيته «وكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتهِ»[194] فالمحب الصادق، هو من يجرع صديقه المر ليقيه من الوقوع في الضر، اسق ولدك مرًّا يصادف منه نفعًا، ولا تعدل عنه إلى حلو يضر.
فإن المرَّ حين يَسُـرُّ حُلْو
وإن الحلو حين يضـر مُر
فالبطالة وترك الطاعة كلها شهية في نفس الشاب. فتراه يضحي بنفيس وقته في سبيل لهوه ولعبه، بدون أن يحرص على تعلم ما ينفعه، فيكون لسانه لاغيًا، وقلبه لاهيًا.

وللتعليم الحسن أثره الحسن في نفس الصبي؛ لأن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، والتعليم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وصلاح التعليم ينجم عن صلاح الرأس والرئيس، ومن تَسَلَّم منصات التدريس، والصبيان مع الأساتذة بمنزلة الأعضاء مع اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.

والمعلم داعية بأفعاله مثل أقواله، لكون الدعاية بالأفعال أبلغ منها بالأقوال. فمتى كان المعلم يترك الصلاة أو يشرب الدخان، فإن هذا تعليم منه بفعله، لأن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين أستاذه وخليله، فلينظر أحدكم من يخالل. فكل تعلم وتعليم لا يظهر أثره على صاحبه من محافظته على الفضائل والفرائض، واجتنابه لمنكرات الأخلاق فإنه لا يرتفع به عند الله درجات، وإنما يسقط به في الجهل والضلال دركات، وغايته أن يكون صنعة من الصناعات.

غير أن المدارس مهما صلحت ونصحت؛ فإنها تحتاج - نمط مهمة نجاح الولد - إلى مساعدة الوالد، بحيث يراقب ولده في كل حالاته، فيحثه على تعلم ما ينفعه، ويباعده عن النوادي، وسائر ما يضره، ويدخله معه البيت بعد صلاة العشاء، ويأخذ بيده إلى المسجد معه ليؤدي فريضة ربه.

فالصلاة في المساجد وإن كانت ثقيلة في نفس الصبي، لكنه بمزاولته لها، والأخذ بيده إليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه من ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته؛ لأنها صلة بين العبد وبين ربه، وصلة بين العبد وبين إخوانه، فهي الدواء الناجح النافع تقيم أَوْدَ[195] الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكِّره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥ [العنكبوت: 45] ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ [البقرة: 45] فمجاهدة الولد عليها هو من الجهاد في سبيل الله ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ [الحج: 78]

والله إننا لنسمع بالشاب يحافظ على أداء فريضة الصلاة في المساجد والجماعات، فتقبل قلوبنا على محبته، ويرتفع في نفوسنا جلاله وهيبته، لأن الله إذا أحب عبدًا أنزل محبته في قلوب عباده، وبضد ذلك، نسمع بالشاب معرضًا عن الطاعة، منهمكًا في البطالة، تبدر منه بوادر السوء، في الطعن في الدين، وبغض المتصفين به؛ فيسكن القلوب بغضه، والنفرة منه، لعلمنا أنه فاسق في نفسه، وسيعود ضرره على مجتمع شبابنا.

فالوالد مدرسة لأولاده، وداعية إلى الاقتداء بأفعاله. فإن ترك الوالد الصلاة تركها أولاده. وإن شرب المسكرات شربها أولاده، أو شرب الدخان شربه أولاده. والتجربة المشاهدة في الحاضرين أعظم تصديق لوصايا الدين. فقد رأينا الأولاد الذين أهمل آباؤهم تربيتهم، رأيناهم من أسوأ الناس سيرة، وأفسدهم سريرة، رأيناهم يتقلبون فيما يعود بالضرر عليهم في حالهم ومالهم ومآلهم قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

أما الذين تولى آباؤهم تربيتهم، وزاولوهم على الحضور إلى المساجد للصلاة معهم، رأيناهم من أحسن الناس سيرة، وأصلحهم سريرة، رأينا أعمالهم بارة وأرزاق الله عليهم دارة ﴿ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا إلى ربكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ [الأنفال: 1].

[194] متفق عليه من حديث ابن عمر. [195] اعوجاج.

(22) قوله سبحانه: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا الآیة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٤٦ [الكهف: 46] فأخبر الله سبحانه أن المال والبنين زينة الدنيا.

فالمال يُجِلَّ صاحبه في العيان، ويُجمِّله بين الأقران، ويحفظه عن السقوط في الذل والهوان. وهو ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يُستغنَى عنه في حال من الأحوال. وإن الكريم على الإخوان ذو المال.

كما أن البنين هم الريحان وسلوة الزمان. فليس شيء يحفز الهمم، ويضحي بأرواح الأمم، كما يحفز بهم كسب المال، وتوفيره للعيال، فترى الشخص يتحمل المشاق المتعبة، ويخوض الأخطار الموحشة في سبيل كسب المال، وتوفيره للعيال، حتى إن بعض الناس ليحرم نفسه من لذته وإنفاقه في سبيل حسنته، حرصًا على جمعه وتوفيره لذريته.

والمال مطلوب شرعًا، ومحبوب طبعًا، غير أن المقصود من المال هو أن يكون زينة في الحياة، وسعادة بعد الوفاة، فمتى سلك صاحبه به مسلك الاعتدال، بأن أخذه من حِلّه، وأدى منه واجب حقه، كان له حسنات ورُفِع درجات في الجنات، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور، ورفيع الدرجات. ونعم المال الصالح للرجل الصالح. وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ[196]فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ - وفي رواية: فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ - بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى»[197] فالمال غاد ورائح، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر.

وكذلك البنون، فإنهم لن يكونوا زينة في الحياة، إلا إذا اتصفوا بالمحافظة على الفرائض والفضائل، واجتنبوا منكرات الأخلاق والرذائل، لأن من اتصف بذلك، كان جديرًا بأن يطيع ربه ويبر والديه ويصل رحمه، ويخالق الناس بالخلق الحسن، فيكون بطانة حسنة لوالده، إن نسي شيئًا من الخير ذكَّره، وإن ذكَر أعانه، وعلى أثر ذلك، ينتشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن، الذي يذكر به في حياته، وبعد وفاته، كما قيل:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
لأن الدين يهذب أخلاق الأولاد، ويزيل عنهم الكفر والشقاق والنفاق وعوامل الفساد، فما كان الدين في شخص إلا زانه، وما نُزِعَ من شخص إلا شانه. وقد أمرنا الله أن نقول: ﴿وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ [الأحقاف: 15]:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله
ويعديهم داء الفساد إذا فسد
ويشـرف في الدنيا بفضل صلاحه
ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
أما إذا اتصف الولد بالسفاه والفساد، وترك واجباته، من صلاته وصيامه، وفسق عن أمر ربه، فإنه يكون غُصَّة على والديه، يُكدِّر عليهما حياتهما، وصفو لذاتهما. ويكون فتنة على أهله وأقاربه، وسائر من يقاربه، كما حكى الله في كتابه بقوله: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١ [الكهف: 80-81]. فكم من ولد في هذا الزمان أرهق أبويه طغيانًا وكفرًا.
فكم سليل رجاه للجمال أب
فأصبح خزيًا بأعلى هضبة رفعا
وأكثر النسل يشقى الوالدان به
فليته كان عن آبائه دفعا
أضاع داريك من دنيا وآخرة
لا الحي أغنى ولا في هالك شفعا
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡ [التغابن: 14]. و ﴿مِنۡ للتبعيض، فالزوجة التي هي عدو لك هي التي تأمرك بعقوق والديك، وقطيعة أرحامك، والإساءة إلى جيرانك، فتطيعها في ذلك كله، فتكون بمثابة الصنم الذي تعبده في بيتك، لأن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، فقد عبده، ويوشك أن يتسلط عليه بما يقتضي إفساد دينه ودنياه. وكذلك الولد الذي هو عدو لك، فإنه الولد التارك للصلاة، العاكف على شرب المسكرات وارتكاب المنكرات، وعلى أثر هذا تسوء طباعه، وتفسد أوضاعه، ويتعدى ضرره في فساد أخلاقه إلى إخوانه، وأخواته وأهل بيته.

وقد يكون فساد الولد بسب من إهمال الوالد، لعدم عنايته بحسن تربيته، حيث أهمل أمره ونهيه، وألقى حبله على غاربه، فلا يسأل عنه أين دخل ولا أين خرج؟ ولا أين جاء ولا أين ذهب؟ وربما كان الوالد سيِّئ الطباع فاسد الأوضاع في نفسه، تاركًا للصلاة، شاربًا للدخان والمسكرات فيكون سوء فعله بمثابة التعليم السيئ لولده، فينشأ على فساد عقيدته، وسوء طريقته، لأن الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر، وإذا صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية، فعند فعل الولد لسائر الأفعال الفاسدة، يعود الوالد على نفسه باللائمة فيكون كما قيل:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
فأول راضٍ سيرة من يسيرها
لقد كان من الواجب على الوالد أن يهذب نفسه بتحسين أخلاقه ومحافظته على واجباته، حتى يكون قدوة حسنة، ومدرسة صالحة لأولاده فيقتدوا به في حسن أعماله، ثم يضع الرقابة الصادقة على أولاده فيتفقدهم بالليل عند دخول بيته، ويأخذ بأيديهم إلى المسجد للصلاة معه، لأن من شبَّ على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته على فعلها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته؛ لأن الصلاة بمثابة الدواء للفرد، تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، فينطبع في قلبه محبة الفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥ [العنكبوت: 45].

وإنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على الصلاح والصلاة، وعلى اجتناب المنكرات، فإنه لابد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ [الزخرف: 36-37].

فقوله: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا [الكهف: 46]. هذه الزينة مطلوبة شرعًا ومحبوبة طبعًا، فإن الله يحب الغني التقي، ويحب التاجر الصدوق، والله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، والله إذا أنعم على عبده نعمة، أحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وهذه كلها من زينة الدنيا المحبوبة، وهذه الزينة تفنى وتبلى.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
والباقيات الصالحات هي روح الحياة النافعة الشافعة بعد الوفاة، فلا يضحي بالروح في سبيل إصلاح الزينة الفانية سوى الحمقى، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فهم يهتمون بزينة الحياة، ولا يبالون بالأعمال الصالحات، التي هي روح الحياة، والتي هي خير ثوابًا أي خير ما يثاب عليه الإنسان، وخير ما يرجوه ويدخره عند ربه بعد موته.

أتدرون ما هي الباقيات الصالحات؟

هي: المحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات، وأداء الزكاة، وبسط اليد بالصدقات، وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وذوي الحاجات، ثم التطوع بنوافل الصلاة، وسائر العبادات، فمن لازم هذه الأعمال، وسعى سعيه في كسب المال الحلال، فقد فاز بزينة الحياة، والسعادة بعد الوفاة.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
إن من الناس من يوسع الله عليه الغنى بالمال، لكنه لا يكتسب به زينة الحياة، ولا السعادة بعد الوفاة ﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٥٥ [التوبة: 55].
خلقوا وما خلقوا لـمكرمة
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
ولو سألت عمن هذه حاله، لوجدتهم كثيرين في شتى البلدان، من التجار المكثرين الذين غمرهم الله بنعمته، وفضلهم بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب أحدهم على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته، وعن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير، الذي خلق لأجله، ولم يزل هذا دأبه حتى يخرج من الدنيا مذؤومًا مدحورًا، قد خلف ماله كله، فلا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، فيصير ماله عذابًا عليه في الدنيا، وعقابًا عليه في الآخرة.

إن الله سبحانه قص علينا في كتابه خبر من أنعم الله عليه بالغنى فشكر، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، قال في صفة التجار الأتقياء: ﴿رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٧ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨ [النور: 37-38]، أي من سعة الرزق وبركته، وقال في ضده: ﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧ [التوبة: 75-77].

فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، وحتى يكون ماله زينة له في الحياة؛ ومن الباقيات الصالحات بعد الوفاة، ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمنا وإياكم بعفوه. وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[196] أنَّث الخبر، لأن المراد الدنيا. قاله ابن حجر. وذكر الزركشي أن سبب التأنيث كون المراد: إن صورة هذا المال خَضِرَة حُلْوة. [197] متفق عليه من حديث حكيم بن حزام.

(23) وصيّة لقمان لابنِه

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة مبرأة من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.

أما بعد:

فيا أيها المستمعون الكرام، إنما فُضِّلتْ هذه الأمة على سائر الأمم بتمسكها بالإسلام، وعملها به على التمام، من اتباعهم لأوامر القرآن الذي هو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، والداعي إلى الفضيلة، والرادع عن الرذيلة. فلو تدبر أحدكم كتاب الله، وعمل بما فيه من المواعظ الفصيحة، والوصايا الصحيحة، لصار سعيدًا في نفسه، سعيدًا في أهله، سعيدًا في مجتمع قومه، ولصار ودودًا محمودًا، ولما صار جبارًا متكبرًا عنيدًا.

إن الله سبحانه قص علينا وصية لقمان لابنه للعظة بها والعمل بموجبها، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه. فهو يتمشى على حد:
إياك أعني واسمعي يا جاره

وخير الناس من وعظ بغيره.

يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ ١٣ [لقمان: 13]. فنهاه عن الشرك وحذره منه لأنه محبط للأعمال كلها ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ [المائدة: 72].

والشرك نوعان: أكبر وأصغر.

فالشرك الأكبر: هو أن يدعو قبرًا أو وليًّا أو نبيًّا أو ملكًا أو شجرًا أو حجرًا أو غير ذلك. فيتوسل بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته. فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يُغفَر لأن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، من صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله. فهؤلاء الذين يدعون الأموات، ويتوسلون بهم، ويزدحمون رجالاً ونساءً على قبورهم، يعتبرون مشركين بربهم، لأن الشرك اعتقاد وقول وعمل.

وقد أخبر الله عنهم فقال: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6].

ثم قال: ﴿يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ ١٦ [لقمان: 16]. ففي هذه الآية الإخبار بإحاطة علم الله بعباده، وأنه لا تخفى عليه خافية من أحوالهم وأعمالهم، لأنه سبحانه يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية ﴿وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ١٣ أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ [الملك: 13-14] «والإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[198] ﴿ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٢٢٠ [الشعراء: 118-120].

اجتمع في المسجد الحرام ثلاثة نفر؛ قريشيَّان وثقفي - أو ثقفيَّان وقُرَشي - كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم. فقال بعضهم لبعض: أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال بعضهم: يسمعنا إذا جهرنا ولا يسمعنا إذا أخفينا. فقال الآخر: إن كان يسمعنا إذا جهرنا فإنه يسمعنا إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ [الملك: 14].
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما يخفى لديه يغيب
كانت عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد أتت المجادلة - أي خولة بنت ثعلبة - تشتكي إلى رسول الله من زوجها، وإنني لفي كسر البيت أسمع بعض كلامها، ويخفى عليَّ بعضُه. فما بَرِحَتْ من مكانها حتى سمع الله شكواها، وأنزل الله تعالى: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ١ [المجادلة: 1]. [199].

ثم قال: ﴿يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ١٧ [لقمان: 17] فأمره سبحانه بإقام الصلاة، وذلك بأن يأتي بالصلاة مقوّمة معدلة بخشوع وخضوع في القيام والسجود والركوع، لأن لُبَّ الصلاة الخشوع، وصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح. و﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ [المؤمنون: 1-2] لأن للصلاة ميزانًا توزن به، من وفّاها وَفَّى له الله الأجر، وصَعِدت صلاته ولها نور، تقول: حفظك الله كما حفظتني. وفي هذا دليل على أن الصلاة من الشرائع القديمة، وأنها كُتِبت على مَن كان قبلنا، كما فرضت علينا.

وثبت عنه ﷺ أنه قال: ««أشَد الناس سَرِقَةً الَّذِى يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ؟ قَالَ: «لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا»»[200] ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يصلي ولم يطمئن في الركوع، ولا في السجود، قال له: ««ما صليت، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فعل ذلك ثلاثًا»[201] أما إذا ترك الإنسان الصلاة عمدًا، فإنه عين الكفر بالله لقول النبي ﷺ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ، من تركها فقد كفر»[202]، وقال: «الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[203] وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ»[204].

وروي بأنه: «لا دِينَ لِمَنْ لا صَلاةَ لَهُ، إِنَّمَا مَوْضِعُ الصَّلاةِ مِنَ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ»[205] ولهذا كان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حُدِّثوا بأنه يحافظ على أداء الصلوات في الجماعات علموا بأنه ذو دين. وإن حُدِّثوا بأنه لا حظ له في الصلاة، علموا بأنه لا دين له. ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه. ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11].

فالصلاة هي أم الفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل. تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر. تفتح باب الرزق وتيسر الأمر، وتزيل الهم والغم. يقول الله سبحانه: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦ [البقرة: 45-46].

فالإيمان بالبعث والجزاء والأعمال هو الذي يقوي القلوب، وينشط الأجساد على أداء فرائض الصلوات وسائر العبادات، ويجعلها سهلة في نفوسهم، غير ثقيلة عليهم.

ثم قال: ﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ [لقمان: 17]. فأمَره بأن يأمر بالمعروف، وهو ما عرفت العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة حُسْنَه، من سائر أفعال الخيرات والطاعات. وأن ينهى عن المنكر وهو ما تنكره العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة، لأن الأمر بالمعروف من واجبات الدين، وطاعة رب العالمين. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، الذي هو سنام الإسلام، ولأن المحسن شريك المسيء إذا لم ينهه. كما أن النهي عن المنكر هو مما يسبب قلة فعل المنكر، وعدم فشوه وانتشاره. والمعصية إذا أُخفِيَت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تُغَيَّر ضرت العامة لسكوتهم عن إنكارها.

﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ [التوبة: 71] وقد لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل من أجل أنهم ﴿كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٧٩ [المائدة: 79] ولهذا قال النبي ﷺ: «لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد السفيه ولتأطُرُنَّه على الحق أَطْرًا - أي تلزمونه بالحق إلزامًا - أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم»[206].

وقد ضرب النبي ﷺ مثلاً فاستمعوا له.. فقال: «مثل القائم في حدود الله - أي الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر - ومثل الواقع فيها - أي الفاعل للمنكرات - كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان بعضهم في أعلاها - أي في السطح - وبعضهم في أسفلها - أي في الخن - فقال الذين في أسفلها: لو خرقنا خرقًا نتناول منه الماء من عندنا، ولا نمر على من فوقنا» ومعلوم أنه إذا تمَّ لهم فِعْل هذا الأمر، فإنه الغرق للسفينة ومَن فيها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم - أي بالقوة - نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يفعلون، هلكوا وأهلكوا جميعًا»[207] فهذا المثل مطابق للواقع، وهو أن المنكرات إذا ظهرت فلم تُغَيَّر، عمَّ عقابُها الصالحَ والطالح. فليعتبر المعتبر بالبلدان التي قُوِّضَتْ منها خيام الإسلام، وتظاهر الناس فيها بالكفر والفسوق والعصيان، وتُرِك فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات. كيف حال أهلها؟ وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق.

ذلك بأن المنكرات متى كثر على القلب ورودُها، وتكرر في العين شهودُها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى بقلبه أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ. وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس. وهذا هو عين الهلاك للأخلاق، فإن بقاء الأمم في استقامة أخلاقها، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا، يقول الله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل‌عمران: 110]. فمتى زال من الناس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد زال عنهم الخير، وصاروا من أشر الناس.

ثم قال: ﴿وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ [لقمان: 17] لأن من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فإنه لابد أن يُؤذَى ويُمتحَن، كما قال النبي ﷺ «لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ»[208] ولما ذهب إلى الطائف يريد من ثقيف أن يُؤْوُوه، وينصروه، حتى يبلغ رسالة ربه، فأشْلَوْا عليه سفهاءهم، فأخذوا يضربونه بالحجارة، حتى أدموا عقبه، وهم يقولون: ساحر مجنون. فرجع عنهم كئيبًا حزينًا، حتى أتى وادي نخلة فصلى بها، وأخذ يدعو بهذا الدعاء:

«اللهم إني أشكوا إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني؟ إلى قريب يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع من ذنوبي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي عقابك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»[209].

ثم قال: ﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان: 18] أي لا تتكبر عليهم، فإن من تكبر على الناس وضعه الله، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذين يطؤهم الناس بأقدامهم، من أجل أنهم يتصورون الناس في أعينهم بمثابة الذر من أجل الكِبْر.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: ««ألا أنبئكم بخياركم؟» قالوا: بلى. قال: «أحاسنكم أخلاقًا، الموَطَّؤُون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤْلفون». «ألا أنبئكم بشراركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «هم المشَّاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العثرات»[210].
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في الناس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين
ثم قال: ﴿وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ ١٨ وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ ١٩ [لقمان: 18-19]. فأمره بالاقتصاد في المشي وذلك باستعمال التأني، وتوقي المحذور. وبالخصوص عندما أصبح السير على سيارات الحديد التي ينجم عنها البأس الشديد. وقد تزايد ضررها، وتفاقم خطرها. والغالب في الضرر من الانقلاب والصدم.. إنما يقع من سبيل الاستعجال وعدم التأني، لأنها بسرعتها قد أثرت في القلوب شيئًا من السرعة الزائدة وما أحسن ما قيل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
والناس يدركون أن كمال عقل الرجل ورزانته في اعتدال سيره، وعدم استعجاله، كما أنهم يدركون خفة عقل الرجل وطيشان حلمه في سرعة سيره. فهذا دائم التعرض للبلاء على نفسه وعلى الناس. وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: ««إِنَّ فِيك لَخَلَّتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللَّه: الْحِلْم، وَالْأَنَاة». فقال: الحمد الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ».[211]

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ.

* * *

[198] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [199] أخرجه النسائي وابن ماجه والبخاري تعليقًا. [200] رواه أحمد والحاكم، وصحح إسناده من حديث أبي قتادة، قاله العراقي، وكذا رواه أحمد وابن خزيمة والطبراني بلفظ: «أسوأ الناس...» إلخ، أفاده المنذري. [201] ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة. [202] رواه مسلم وأبو داود والترمذى وابن ماجه، كلهم من حديث جابر. [203] رواه من حديث بريدة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح ولم تعرف له علة. [204] رواه أحمد والطبراني في الكبير، وإسناد أحمد صحيح لو سلم من الانقطاع، فإن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ، وفى الأوسط للطبراني بإسناد لا بأس به في المتابعات، وهو حديث طويل في النهي عن الشرك وعقوق الوالدين وترك الخمر والفواحش. [205] رواه الطبراني في المعجم الأوسط والصغير من حديث ابن عمر. [206] رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود. [207] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [208] رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أنس بإسناد صحيح. [209] رواه الطبراني في الكبير وفي الدعاء من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. [210] رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي سعيد الخدري. [211] رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.

(24) في حقوق الزوجَة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وتنزل البركات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص له في الأقوال والأعمال والنيات. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه المتصفين بالفضائل والكمالات، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١ [النساء: 1].

خلق الله آدم أبا البشر حين خلقه فريدًا وحيدًا ليس له جليس ولا أنيس، فكان يهيم في الفلوات، ويستوحش في الخلوات، لا يقر له قرار، ولا يأوي إلى أهل ولا دار، فبينما هو كذلك في حالة اضطراب، وفي حال هَمٍّ وغم واكتئاب، فنام نومة ولم يشعر إلا وقد خلق الله له من ضلعه الأعلى امرأته حواء بشرًا سويًّا. فسكن إليها، وآنس بها، واطمأن معها، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ [الروم: 21]. وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيْهَا عِوَجٌ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»[212].

التزوج من سُنن المرسلين، وهو ضرورة من ضروريات حياة الآدميين لأنه سبب لإيجاد البنات والبنين، والعُزَّاب هم أراذل الأحياء، وشرار الأموات. جاء ثلاثة نفر إلى باب رسول الله ﷺ يسألون عن عبادة رسول الله ﷺ، فلما أُخبِروا بها، كأنهم تقالُّوها. فقالوا: أين نحن من عبادة رسول الله! فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد أبدًا. وقال الآخر: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر أبدًا. وقال الآخر: أما أنا فأتبتل في العبادة وأعتزل النساء. فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: «أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لَكِنْ أُصَلِّى وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى»[213]

فأخبر النبي ﷺ أن التبتل في العبادة، والانقطاع عن الأهل، وعدم التزوج، بأنه ليس من هديه ولا شرعه. وقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[214] ورُوِيَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ تُؤَخِّرْهَا الصَّلاَةُ إِذَا أَتَتْ وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ كُفُؤًا»[215] فمتى تيسر قران الشخص بزوجة دينية صالحة، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة وافرة، فإن الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله.

فمن واجب هذه النعمة أن يعاشر هذه الزوجة بالمعروف وبالإكرام، والاحترام وحسن الخلق، وطيب الكلام. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا»[216] وقال: «اتَّقُوا اللهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ، وَالْيَتِيمِ»[217] وسأل معاوية بن حيدة النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» وطاف ببيت رسول الله ﷺ نساء يشتكين أزواجهن. فقام رسول الله ﷺ خطيبًا فقال: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن، ليس أولئك بخياركم»[218] يقول الحكماء: إن النساء يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام. وما استقص كريم قط. والنبي ﷺ يقول: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ»[219]

فهؤلاء الأقوام الذين يعاملون نساءهم باللعن والسب، وشتم الآباء والأمهات، والحط من أقدارهن بقذفهن، هم يعتبرون من شرار الناس الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، ويتأسى بهم أولادهم في إساءة أخلاقهم.

أما خيار الناس فهم ينزهون أنفسهم وألسنتهم، ويصونون أحسابهم وأحساب أنسابهم عن هذه المعاملة الفاسدة، والأقوال السافلة، ويعاشرون أهلهم بالإكرام والاحترام وطيب الكلام، ويتمتع بأهله في عيشة هنية، ومعاشرة مرضية، يعامل أهله بالوفاق وبحسن الأخلاق. إذا دخل بيته سلم على أهله، والسلام من أسباب المحبة والألفة، وينشر في البيت البركة والرحمة. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ»[220].

أما الرجل فمتى أبغض زوجته، وأخذ يضارها ويضربها لتفتدي منه بمالها، ويقطع نفقته عنها، وربما كان معها منه ولد ترضعه، أو عيال يعولهم، فيهجرهم. ويقطع إحسانه عنهم. فهذا ظلم وحرام، ولا يفعله سوى الأراذل اللئام. يقول الله تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [البقرة: 231] وفي الحديث: «كَفَى بالرجل إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[221].

أما المرأة فمن واجبها إكرام زوجها واحترامه، وألا تُسمِعه من الأقوال إلا ما يحب، وأن تجتنب السب واللعن له، أو لعيالها منه، وأن تجتنب معاشرة الأغيار من الأجانب الذين يسعون بإفسادها وهدم شرفها وشرف بناتها. لأن المرأة مدرسة لأهل بيتها، فإما أن تكون مدرسة صالحة لنَبْتِ الخير والصلاح في البنين والبنات، أو أنها مدرسة فاسدة، تفسد تربية من تتولاه من البنين والبنات. فالمرأة تأمر عيالها بالوضوء، وبالصلاة عند دخول وقتها، وتربي بناتها تربية حسنة، فتلبسهم الثياب السابغة الساترة التي تستر بها جميع بدنها، وتجنبهم الثياب القصار التي هي لباس الذل والصغار، لباس الخزي والعار، لباس المتشبهات بالكفار، وهو اللباس الذي يبدو منه يد المرأة إلى حد الآباط، ورجلها إلى نصف الساق، ويبدو منه الرأس والرقبة والنحر، فهذا لباس التبرج الذي نهى الله عنه في كتابه المبين، وقد صار محبوبًا لدى عشاق التفرنج الذين ضعف تمسكهم بالدين، فكانت المرأة منهم تتزين بالثوب القصير الضيق الذي يصف كل شيء من جسمها، حتى تكون شبه العارية، كما أخبر النبي ﷺ عن نساء أهل النار بأنهن: «كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلاتٌ مُمِيلاتٌ، لا يجدن عرف الجنة» [222] يعني ريحها. ويرحم الله نساء الصحابة من المهاجرين والأنصار، لما نزل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ [الأحزاب: 59] عمدن إلى مروط كثيفة، فشققنها على رؤوسهن وأبدانهن، فخرجن لا يعرفهن من التستر أحد[223].

* * *

[212] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [213] متفق عليه من حديث أنس. [214] رواه الترمذي من حديث أبي هريرة. [215] رواه الترمذي والحاكم من حديث علي، قال الترمذي: ليس بمتصل. وجزم غيره بضعفه. [216] رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح. [217] وفي رواية البيهقي في الشعب زيادة: «المرأة الأرملة والصبي اليتيم» من حديث أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله ﷺ حين حضرته الوفاة... فذكره. [218] رواه أبو داود من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب. [219] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [220] أخرجه الترمذي وصححه من حديث أنس. [221] رواه أبو داود والنسائي والحاكم إلا أنه قال: «من يعول» وقال: صحيح الإسناد. [222] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [223] رواه البخاري من حديث عائشة بلفظ: شققن مروطهن فاختمرن بها.

(25) الصلاة في الجماعة وصِفَة الصّلاة المشروعة

الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم.

فرأس الطاعة بعد الشهادتين: الصلاة التي هي عمود الديانة ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، تفتح باب الرزق، وتيسر الأمر، وتشرح الصدر، وتزيل الهم والغم. وهي من أكبر ما يستعان بها على أمور الحياة، وبسط الخير، وكثرة البركات، وقضاء الحاجات.

وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة، أو وقعوا في شدة من الشدات فزعوا إلى الصلاة، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ٤٥ [البقرة: 45]. فهي قرة العين للمؤمنين في الحياة. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَىَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِىَ فِى الصَّلاَةِ»[224]

وهي خمس صلوات مفرقة بين سائر الأوقات؛ لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة.

وهي أول ما فُرِض من العبادات، كما أنها آخر ما يُفقَد من دين كل إنسان، فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين.

وقد وصفها رسول الله ﷺ في تكفيرها للخطايا، بمثابة نهر غمر - أي كثير - يغتسل منه المسلم كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ فكذلك مثل الصلاة. وقال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[225] سميت صلاة من أجل أنها صلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه، موصول من بِرِّه وفضله وكرمه، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[226].

ولهذا من نوع الاستفتاح في الصلاة أن يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين. فالمصلي موصول من بِرِّه وكرمه وفضله. كما أن التارك للصلاة منقطع عن ربه، ليس من أولياء الله، ولا من حزبه. والواصل موصول، والقاطع مقطوع.

و «مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يصبح، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي»[227]، وقال: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ كله»[228]

أما التارك للصلاة عمدًا فإنه قد وقع في الكفر وهو لا يشعر، لما في الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» وفي حديث بريدة أنه ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[229] وكان السلف يسمون الصلاة الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته. فإن حُدِّثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين، وإن حُدِّثوا بأنه لا حظ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له. ومن لا دين له كان جديرًا بكل شر، بعيدًا عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.

فالصلاة بما أنها نعيم المؤمنين، فإنها ثقيلة على المنافقين الذين لا يرجون بفعلها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨ [المائدة: 58]. فنفى الله عنهم العقل الصحيح؛ لعدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح، والفوز والنجاح. وفي الحديث: «من دُعِي إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[230] وكان الصحابة يعدون المتخلف عن الصلاة في الجماعة منافقًا، يقولون ذلك ولا يتأثمون، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هذه الصلوات الخمس في الجماعة، فإنهن من سنن الهدى. وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة عن الجماعة إلا منافق معلوم النفاق.

إن أعظم الناس بركة، وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس، وعنده جلساؤه وأصحابه وأولاده، فيسمعون النداء بالصلاة، فيقوم إليها فرحًا، ويأمر من عنده بالقيام إلى الصلاة معه، فيَؤُمُّون مسجدًا من مساجد الله لأداء فريضة من فرائض الله، يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم، أولئك الميامين على أنفسهم، والميامين على جلسائهم وأولادهم، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ [الزمر: 18].

وبضد هؤلاء قوم يجلسون في المجالس وفي المقاهي، وفي النوادي وفي ملاعب الكرة. فيسمعون النداء بالصلاة ثم لا يقومون. ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، قد ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19].
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم
ويُسعِد الله أقوامًا بأقوام
فجاهدوا أنفسكم على فرائض ربكم، وخذوا بيد أولادكم إلى الصلاة في المساجد معكم، فإن من شبَّ على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته؛ لأنها تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، فإنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على فعل الصلاة في المساجد معكم، فإنه لابد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ [الزخرف: 36-37].

إن المصلي ينبغي له أن يستحضر بقلبه بأنه واقف بين يدي ربه، فيخشع له ويخضع، ويضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، أو فوق سرته.

إن الصلاة لا تكون صلاة شرعية ولا مقبولة، حتى تقع على نهج ما سنه رسول الله ﷺ في الصلاة. ففي الصحيحين أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: «وعليك السلام، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» فعل ذلك ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني.

وإنه ينبغي لنا أن نصغي بالآذان، ونفرغ الأذهان، لنستفيد من تعليم رسول الله ﷺ لهذا الأعرابي الجاهل. فقال: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ» لأن مفتاح الصلاة الطهور. ولا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وقد فُرِض الوضوء مع فرض الصلاة. قال: «ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ» فاستقبال القبلة للصلاة شرط إلا أن يكون في السيارة، أو في طائرة؛ فإنه يصلي حيث توجهَتْ به، مستقبل القبلة أو مستدبرها. ولم يأمره رسول الله ﷺ بأن يقول: نويت أن أصلي كذا، أو كذا؛ لأن النية قلبية، والتلفظ بها بدعة. ثم قال: «وَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» والاطمئنان هو السكون والركود، ويقول: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، أدنى الكمال. ثم قال: «وَارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» أي حتى يصلب رأسك وجسمك بعد الرفع من الركوع كما في الحديث: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ». ثم قال: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» أي حتى تسكن وتركد في سجودك وتقول: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، ثم ارفع حتى ترتفع جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا. ثم قال: «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» فهذه هي الصلاة المشروعة، التي تصعد إلى الله ولها نور فتقول: حفظك الله كما حفظتني.

أما الذي يصلي ولا يطمئن في الركوع، ولا في السجود، ولا في سائر أفعال الصلاة، فإن صلاته تُلَف كما يُلَف الثوب الخلق، فيُضرَب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[224] رواه أحمد في مسنده، والنسائي والحاكم والبيهقي في السنن من حديث أنس، وإسناده جيد. [225] رواه أحمد في مسنده ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة. [226] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [227] رواه ابن ماجه بسند صحيح من حديث سمرة. [228] رواه مسلم وأبو داود من حديث عثمان بن عفان. [229] رواه الترمذي عن بريدة وقال: حديث حسن صحيح. [230] رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث جندب بن عبد الله.

(26) فرض الزكاة وفضلها وبركة المال المُزكى وحُسن عاقبَته

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[231] فهذه هي أركان الإسلام لمن يسأل عن الإسلام، وهي الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يُعرَف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وكل من تأمل القرآن، يجده مملوءًا بالأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الصلاة عمود دين الإسلام، كما أن الزكاة أمانة الله في مال كل إنسان؛ لأن الله سبحانه قد افترض في أموال الأغنياء بقدر الذي يسع الفقراء، ولن يجهد الفقراء، أو يجوعوا، إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الواجب لهم في مالهم. «وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ بِأَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ»[232].

ولهذا استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، وعدُّوهم مرتدين بمنعها. ولما بلغ عمر بن الخطاب أن قومًا يفضلونه على أبي بكر. قال: أما أني سأخبركم عني وعن أبي بكر: إنه لما مات رسول الله ﷺ ارتدت العرب فمنعت زكاتها؛ شاءها وبعيرها. فاتفق رأْيُنا أصحاب محمد ﷺ أن أتينا إلى أبي بكر الصديق. فقلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله ﷺ كان يقاتل الناس بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب كلهم. قال: أوكلكم على رأي هذا؟ قلنا: نعم. قال: والله لَأَنْ أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير، أحب إلي من أن يكون هذا رأيي! فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. أيها الناس أَإِن قل عددكم وكثر عدوكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون. قوله الحق، ووعده الصدق ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ [الأنبياء: 18] ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ [البقرة: 249] والله - أيها الناس - لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لجاهدتهم عليه، واستعنت الله عليهم، وهو خير معين. والله - أيها الناس - لو أفردت من جمعكم لسللت سيفي حتى أبلى في سبيل الله بلوى، أو أقتل في سبيل الله قتلاً.

قال عمر: فعلمنا أنه الحق ما تبعناه حتى ضرب الناس له بعطن.

وإنما استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، من أجل أن الفقراء شركاء للأغنياء في القدر المفترض لهم في أموال الأغنياء. فمتى أصر الأغنياء على منعه، وجب على الحاكم جهادهم بانتزاعه منهم، ودفعه إلى فقرائهم، وهذه هي عدالة الإسلام الذي نزل بها الكتاب والسنة، على أن في المال حقًّا سوى الزكاة؛ أنه عند حلول حول الزكاة، وطلب الفقراء من الأغنياء حقهم منها، وقالوا: آتونا من مال الله الذي آتاكم؛ فعند ذلك يتبين التاجر الأمين من التاجر الخائن المهين. فالتاجر المؤمن الأمين يحاسب نفسه، ويبادر بأداء زكاته، طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.

فهو يعلم من واجبات دينه أن هذا المال فضل من الله ساقه إليه، واستخلفه عليه؛ ليمتحن بذلك صحة إيمانه وأمانته ﴿لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ [النمل: 40]. فهو يشكر الله على نعمه، والذي فضله بالغناء على كثير من خلقه.

وأداء الزكاة إنما هو العنوان على شكر نعمة الغنى بالمال، لهذا ترى الفقراء يلهجون له بالثناء والدعاء بألسنتهم أو بقلوبهم، ويقولون: تقبل الله منك ما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا وأجرًا.

أما التاجر الخائن المهين؛ فإنه يؤثر محبة ماله على طاعة ربه، ويستبيح أكل زكاته وحرمان فقراء بلده منها، فهو يعُدُّها مغرمًا؛ أي يجعلها بمثابة الغرم الثقيل، وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، ولهذا يستحب للمؤمن عند دفع زكاته أن يقول: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.

سميت الزكاة زكاة من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه وتطهره وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه، كما أنها تزكي إيمان مُخرِجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره.يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم [التوبة: 103]. وقد أقسم رسول الله ﷺ، أنها ما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ [سبأ: 39]. فلو جربتم لعرفتم، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].
فبادروا بزكاة المال إن بها
للنفس والمال تطهيرًا وتحصينًا
أتحسبون بأن الله أورثكم
مالاً لتشقوا به جمعًا وتخزينًا
وتصرفوه على مرضاة أنفسكم
وتحرموا منه معترًّا ومسكينًا
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة، إلا سلَّطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل. ثم نعود ونقول: إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة، إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ [البقرة: 245] فحصنوا أموالكم بالزكاة، فإنها ما بقيت الزكاة في مال لم تُخرَج منه إلا أفسدته وأذهبت بركته. جاء رجل إلى النبي ﷺ «فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وحَاضِرَةٍ فَأَخْبِرْنِى كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ « تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ وَتَصِلُ أَقَرِبَاءَكَ وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ»[233] فأرشده النبي ﷺ إلى ما ينبغي أن يفعله.

فالمال غاد ورائح، وموروث عن صاحبه، ويبقى من المال شرف الذكر، وعظيم الأجر، فأيما رجل غمره الله بنعمته وفضله بالغناء على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده من أداء زكاته ومن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خُلِق لأجله؛ إنه لرجل سوء، وتاجر فاجر، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأحل بغناه دار البوار ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥ [التوبة: 35]. فحذار حذار أن يقول أحدكم: هذا مالي أوتيته على حذق مني بكسبه حتى كثر ووفر. ولكن ليقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ [النمل: 40]. فأداء الزكاة هي العنوان على أداء شكر نعمة الغنى بالمال، كما أنها الدليل والبرهان على أداء الأمانة، وصحة الإيمان. وفي الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»[234] أي تبرهن عن إيمان مُخرِجها وكونه آثر طاعة ربه على محبته ماله. وسميت الزكاة صدقة؛ لكونها تصدق وتحقق إيمان مُخرِجها، كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق. يقول الله سبحانه: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡ [التوبة: 67] أي عن أداء زكاة أموالهم. وقال: ﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُ [التوبة: 76-77].

والزكاة قدْر يسير، يترتب عليها أجر كبير، وخلف من الله كثير، وهي في النقود، وفي مال التجارة، ففي كل ألف ريال حال عليها الحول خمسة وعشرون ريالاً.

وهكذا الحساب يجري عليها على هذا المنوال. والأوراق المتعامل بها عند الناس، المسماة بالشيكات، والدولارات، والجنيهات الإسترلينية، هي بمثابة نقود الذهب والفضة، يجب فيها الزكاة على حسب أثمانها في البلد. ومن له وديعة نقود في البنك، أو عند تاجر، وجب عليه أن يخرج زكاتها عند رأس الحول. فالذين يودعون النقود، ثم لا يؤدون زكاتها، فهم آثمون وعاصون. وجدير بهذه النقود التي لا تؤدَّى زكاتها أن تُنتزَع منها البركة، وأن يحل بها الشؤم والفشل، ويُحرَم صاحبها من الانتفاع بها، لأنها ما بقيت الزكاة في مال محبوسة فيه إلا أهلكته. وما هلك مال في بر ولا بحر ولا جحود ولا غصب إلا بحبس الزكاة عنه.

والمال المجعول أسهمًا في شركة الأسمنت، أو شركة الكهرباء، أو شركة الأسمدة، أو الملاحة، أو شركة الأسماك، أو أي شركة من الشركات، فإنه يجب فيه على صاحبه الزكاة عند رأس الحول، بحيث يخرج زكاة أصل المال، أشبه عروض التجارة؛ لأنه لو أراد بيع رأس ماله لباعه من ساعته. وإذا تحصل صاحبه على ربح فإنه يخرج زكاة ربحه عندما يقبضه، لأن ربح التجارة ملحق برأس مال التجارة. وكذلك العقار المعد للإيجار، فقد صار في هذا الزمان من أنفَسِ أموال التجار، حتى إن أحدهم ليؤجر العمارة الواحدة بمائة ألف، أو بخمسين ألفًا، أو أقل أو أكثر في السنة الواحدة.

وما كان شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام ليهمل هذا المال الكثير بدون إيجاب حق فيه للفقير. والنبي ﷺ أمر أن تُخَرج الصدقة، أي الزكاة من الذي نعدُّه للبيع، وما أُعد للكرى، فهو بمثابة ما أُعد للبيع والشراء، أشبه الحلي المعد للكرى، فإن فيه الزكاة بإجماع العلماء، ولسنا نقول بإيجاب تثمين العقار وإخراج زكاة قيمته، لأن فيه إجحافًا للملاك، وإنما القول القصد في هذا المقام الهام؛ أنه يجب إخراج الزكاة من غلة العقارات، فمن تحصل على أربعة آلاف أخرج زكاتها مائة ريال، أو تحصل على أربعين ألفًا أخرج زكاتها ألفًا واحدًا.

وكذلك الأراضي المشتراة للتجارة، فإن حكمها حكم عروض التجارة، بحيث يُوقع التثمين عليها عند الحول، ويخرج زكاتها، وليس على المسلم زكاة في البيت الذي يسكنه، ولا في السيارة التي يركبها، ولا في السيارة التي يعيش عياله من كسبها، قياسًا على العوامل التي أسقط النبي ﷺ الزكاة فيها.

وتجب الزكاة في حلي النساء - أي المصاغاة - من الذهب الموجود عند النساء المثريات، اللائي يتخذْنَه خزينة لا زينة، فيجب أن تخرج زكاته مصوغًا على حسب قيمته، فمتى كان المصاغات تبلغ أربعة آلاف أخرجت زكاته مائة ريال، أو أربعين ألفًا أخرجت زكاته ألفًا واحدًا، ويجري الحساب في الزائد والناقص على حسب ذلك.

أما المصاغات التي تستعملها المرأة في الزينة، وتعيره غيرها، فقد رجح الفقهاء سقوط الزكاة عنها، وكونه لا زكاة في الحلي الذي تتجمل به المرأة، أو تعيره، لأن زكاته لبسه، وإعارته.

والزكاة في النقود وفي التجارة وفي الإبل وفي الغنم هي من أسباب بركة المال ونموه، وحفظه من الآفات، وأكثر ما يجني على المال بالهلاك والتلف، والشؤم والفشل، ونزول الآفات كل هذا من أسباب منع الزكاة، أضف إلى ذلك كونه يعذب به صاحبه ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥ [التوبة: 35].

نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[231] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. [232] متفق عليه من حديث ابن عمر. [233] رواه أحمد من حديث أنس ورجاله رجال الصحيح. [234] رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري.

(27) عقابُ المانِعين للزكاة وكونه يجب على الإمام أن ينتزعها منهم طوعًا أو كرهًا

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونصلي ونسلم على رسول الله سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه قد افترض على عباده المؤمنين وجوب العمل بشرائع الدين الذي من جملتها؛ إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وسائر شرائع الإسلام، فإن هذه الأركان هي بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وأنه عند وجوب حول الزكاة يتبين حقيقة من يطيع ربه في سرائه وضرائه فيما يحب وفيما يكره، فيبادر بأداء زكاته، يحتسبها مغنمًا له عند ربه، فيدفعها إلى مستحقها، قائلاً: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا. فهو ينفق زكاة ما آتاه الله من فضله، وبه يتبين الفرق بينه وبين من يطيع شهوته وهواه، ودرهمه وديناره، فيبخل بما آتاه الله من فضله، ويستحل زكاته. وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»[235] فسماه «عبد الدرهم»؛ لكونه يؤثر محبة دراهمه على طاعة ربه، ويصرف جُل عقله، وجُل عمله واهتمامه، لجمع ماله ومنعه، حتى ترك لأجله فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، والله سبحانه قد شرع الزكاة وأوجبها لمصلحة الأغنياء، والإحسان إلى الفقراء.

أما الغني، فيكتسب بأداء الزكاة طُهرة ماله، والزيادة في بركته ونمائه، كما أنها زيادة في إيمانه. يقول الله سبحانه: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] فسمى الله الزكاة صدقة، لتصديق إيمان مُخرِجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله، كما سماها الله زكاة، من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه، وتنزل البركة فيه، حتى في يد وارثه، وكذلك تزكي إيمان مُخرِجها من مسمى الشحّ والبخل، وتطهره، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [الحشر: 9].

إن كل من يتسمى بالإسلام على الحقيقة؛ فإنه لابد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويرونه يصوم مع الصائمين، ويرونه يؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.

أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم، ولا يؤدي زكاة ماله، أو يصلي لكنه لا يؤدي زكاة ماله، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، إنما هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه فَضَحَتْه شواهد الامتحان. يقول الله سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9].

إن الله سبحانه افترض الزكاة في أموال الأغنياء لإخوانهم الفقراء؛ ليمتحن بذلك صحةَ إيمان المدعين، وَجُودَ الأغنياء الكرماء المحسنين، وبخلَ الأشحاء النذلاء الهلعين، وليعلم الكل علم اليقين أن الله خلق الدنيا فجعلها منحة لأقوام، ومحنة على آخرين، وجعل المال سعادة لأقوام، وشقاوة على آخرين، وقد سمى الله المال خيرًا لمن أراد به الخير، وهذا الخير كالخيل: لرجل أجر، وعلى رجل وزر، وقد قال النبي ﷺ: «إن هذا المال حلوة خضرة، مَن أخذه من حِلِّه وأدى منه واجب حقه، فنعم المعونة هو، ويكون له حسنات يوم القيامة. ومن أخذه من غير حِلِّه، ومنع منه واجب حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة»[236].

إن الزكاة قنطرة الإسلام، وهي الدليل والبرهان على صحة الإيمان، لأن من صفة المؤمنين؛ ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ [التوبة: 71]. ومن صفة المنافقين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡ [التوبة: 67]. ومعنى ﴿وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ أي عن أداء زكاة أموالهم، ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ أي نسوا حق الله الواجب في أموالهم، ﴿فَنَسِيَهُمۡ ونهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 19]. أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية التي من جملتها أداء الزكاة الواجبة، والتي هي من أسباب الزيادة والنمو، والبركة في مال الشخص وإيمانه، ولهذا يقول العلماء: إن أداء الزكاة هو العنوان على صحة الإيمان، كما أن أكل الزكاة هو العنوان على الخيانة والنفاق، كما ثبت في الحديث؛ أن الناس في آخر الزمان «يَتَّخِذُونَ الْأَمَانَةَ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةَ مَغْرَمًا»[237] يتبايعون ولا يكاد أحدهم يؤدي أمانة ربه، أي الزكاة الواجبة في ماله، والزكاة هي بمثابة الأمانة في مال الغني لإخوانه من الفقراء والمساكين. وعند وجوبها في رأس الحول يتبين التاجر المؤمن الأمين من التاجر الخائن المهين، والله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وفي الحديث: «لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ»؛[238] لأن الله سبحانه قد أوجب في مال الأغنياء بقدر الذي يسع الفقراء، ولن يجوع الفقراء، أو يجهدوا، إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الذي أوجبه الله عليهم.

إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه بما هو أكثر منها أضعافًا مضاعفة ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ [البقرة: 245]. وقد أقسم رسول الله ﷺ - وقَسَمُه حق وصِدْق - أنها ما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده.

والزكاة تسمى صدقة، وقد جعل الله الزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ ٥ [البينة: 5]. أي هذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، الموصل بصاحبه إلى جنات النعيم. «وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ بِأَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ»[239].

وإنه لما مات رسول الله ﷺ ارتد أكثر العرب عن الإسلام، قائلين: إنه لو كان نبيًّا لم يمت. وعلى أثر هذه الردة منعوا زكاة أموالهم. يقول بعضهم: إننا لم نؤمر أن نؤدي الزكاة إلا إلى الرسول في حالة حياته، لأجل أن يستغفر لنا، وبعد موته فلا زكاة علينا. فعمَّت الردة جميع العرب، من أقصاهم إلى أدناهم، إلى حالة أن الصحابة جعلوا لهم حرسًا على أفواه السكك خوفًا من تَوَثُّب الأعراب عليهم. فاشتد الأمر بالصحابة، حتى قال أنس بن مالك: إنه لما مات رسول الله ﷺ كنا كالغنم المنطورة، فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة. وإن الردة عمَّت جميع الناس؛ من عرب الحجاز ونجد واليمن والبحرين وعمان، حتى إنه لم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى - أي بلد الأحساء المعروفة - وفي ذلك يقول الشاعر:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول والخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وقد حاصر المرتدون قبيلة عبد القيس في بلدهم من أجل تمسكهم بدينهم حتى أرسلوا لهم رسولاً إلى أبي بكر يستنجدونه، ويستمدون منه العون على عدوهم، وقد أنشدوا في كتابهم:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا
وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام
قعود في جؤاثا محصـرينا
كأن دماءهم في كل فج
دماء البدن تغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا
وجدنا النصـر للمتوكلينا
فعند ذلك تجرد الصحابة لقتال المرتدين، ليردوهم إلى الدين. فأرسلهم أبو بكر فِرَقًا، وقد اتسعت الفتنة، وعظم الخطب، فكان مع مسيلمة الكذاب جنود كأمثال الجبال، وادعت سجَاح النبوة، فكان معها من الجنود مثل ذلك. وكان أكبر من تولى قتالهم هو سيف الله خالد بن الوليد، فبالغ في قتال مسيلمة الكذاب وجنوده، حتى قتل جمع كثير من أصحاب رسول الله ﷺ في هذه المعركة، ومن جملتهم سبعون رجلاً من القراء الذين يحفظون القرآن، فقتلوا في المعركة في مكان يسمى العيينة - بالقرب من الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية - ففزع الصحابة من قتل القراء، فخافوا أن يذهب القرآن، أو يذهب شيء منه، فأمر أبو بكر بجمعه بعد مشاورة بينه وبين عمر وبين الصحابة، فاتفق رأيهم على أن جمعه هو عين الصواب والمصلحة، فولوا رئاسة جمعه زيد بن ثابت رضي الله عنه.

ثم إن الصحابة رضي الله عنهم أنجزوا قتالهم مع المرتدين حتى ردوهم إلى الدين، وألزموهم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم ساروا إلى بلاد عبد القيس - بهجر وعمان - ومنهم قوم ساروا إلى اليمن لمناجزة الأسود العنسي - وهو نظير مسيلمة في الكفر والردة، وكثرة الجنود - فنصرهم الله عليهم، وعاد للدين جدته ونشاطه.

والأصل في هذا كله أن العرب من أهل الحجاز ونجد ومَن حولهم لم يدخلوا في الإسلام إلا عام تسعة من الهجرة، أي قبل موت رسول الله ﷺ بسنة واحدة، فلم يتمكن الإسلام من قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، بل كانوا فيه على طرف، كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١ [الحج: 11]. فهذا هو السبب الذي جعل هذه الفتنة تتمكن منهم وتنتشر بينهم. والإسلام بمثابة البيت المحكم بالبناء والإتقان، فمتى هُدِم منه جانب تداعى بقيته بالهدم والانهيار.

وهكذا تدارك الصحابة لقتال المانعين للزكاة؛ لكونهم يعتقدون عدم وجوبها عليهم. ولا شك أن هذا الاعتقاد كُفْر يخرج صاحبه عن ملة الإسلام.

ثم إن الزكاة حق للفقراء والمساكين، أوجبه الله في مال الأغنياء المكثرين، فمتى أصر الأغنياء على منعه وجب على الحاكم جهادهم حتى ينتزعه منهم، ويؤديه إلى المستحقين له؛ ممن سماهم الله في كتابه، وذلك بدون هوادة ولا مودة. ولهذا قال أبو بكر: «وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ»[240].

إن كسب المال من حله، ثم الجود بأداء واجب حقه، يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخرى للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور - أي الأغنياء - بالأجور والدرجات العلى بفضل ما أنفقوا من أموالهم، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

وقد سمى الله المال خيرًا لمن أراد به الخير، وهذا الخير كالخيل: لرجل أجر، وعلى رجل وزر، فهو سعادة لأقوام، وشقاء على آخرين. فبعض الناس يكون ماله عليه عذابًا في الدنيا، وعقابًا في الآخرة، يقول الله سبحانه: ﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٥٥ [التوبة: 55]. فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بزكاة ماله، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم لآخرته، ومال الوارث ما خلف.

إن من واجب المسلم عند حلول وقت الزكاة؛ أن يحاسب نفسه، ويراقب ربه، ويبادر بأداء زكاة ماله طيبة بها نفسُه، فإنه من المعلوم عند الخاص والعام، أن المال قد فاض في هذا الزمان، بصفة لا يعهد نظيرها في سالف الأزمان، حيث فتح الله لهم كنوز الأرض وخيراتها، ومع كثرة الجمع قد اشتد الناس في المنع، حتى صار الناس يتبايعون بالملايين التي يملكها الكثيرون، ومع كثرة هذا المال؛ لا نكاد نسمع بمن يؤدي الزكاة، مع كونها من الأعمال الظاهرة التي لا تخفى على الناس، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات، غير أنها ظهرت الصلاة ففعلوها، وبطنت الزكاة فأكلوها.

وإن المال غاد ورائح، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر، أو سوء الذكر وعظيم الوزر، وقد جعل الله الإنسان مستخلفًا على هذا المال، ومسؤولاً عنه: من أين أخذه؟ وفيم أنفقه؟ والله تعالى يقول: ﴿ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ ٧ [الحديد: 7] ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16].

* * *

[235] رواه البخاري والترمذي وابن ماجه، والطبراني في الأوسط، وابن حبان في صحيحه، جميعًا من حديث أبي هريرة. [236] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، بلفظ مقارب. [237] رواه البزار من حديث علي بن أبي طالب، وفي رواية بلفظ: «الإمامة مغنمًا...». [238] رواه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أنس، وإسناده قوي. وكذا الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [239] متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [240] متفق عليه، ورواه أبو داود والنسائي والترمذي والإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه.

(28) قوله سُبحانه: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡ [القصص: 76]

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركَّب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين آزروه ونصروه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧ [القصص: 76-77].

إن هذا القرآن بلاغ للناس ولينذروا به، ففيه نبأُ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.

وهذه القصة سيقت مساق العظة والعبرة لينذر بها من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، سيقت في بيان سيرة قارون وفساد سريرته، وبيان كثرة ماله وفساد أعماله، وكيف حقت عليه كلمة العذاب ببغيه وطغيانه.

فأخبر الله سبحانه ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ قيل: إنه ابن عمه، وقيل: إنه ابن خالته. وكان - فيما زعموا - صالحًا في بداية عمره، ويسمى المنور لجمال وجهه، فلما كثر ماله نافق وطغى، وارتد وبغى ﴿فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡ.

وصدق الله العظيم: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨ [العلق: 6-8].

جاءه نبي الله موسى برسالة من ربه يدعوه إلى دينه بالحكمة وبالموعظة الحسنة ففر ونفر، وعصى واستكبر، وكان له جنود وأتباع، وصاحب المال مطاع، فحاول قارون الفتك بنبي الله موسى، وأظهر البغي عليه ليقطع دابره حسدًا له على نعمة رسالة ربه.

والبغي مصرعه وخيم، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع فيه.
قضـى الله أن البغي يصـرع أهله
وأن على الباغي تدور الدوائر
يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٣ [يونس: 23] يعني أن بغي الباغي تعود سوء عاقبته عليه في الدنيا قبل الآخرة، بمعنى أنها تعتريه العقوبة، ويسلط عليه من ينتقم منه عقوبة له. حتى لو بغى جبل على جبل لتدكدك الباغي.

وفي الحديث: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَوْ أَحَقُّ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مثل الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»[241] والبغي أحيانًا يكون بالأقوال؛ كأن يستطيل عليه بسبه وذمه ليذله بين الناس، وأحيانًا يكون بالأفعال؛ كأن يستطيل عليه بضربه أو قتله، أو أخذ ماله، أو إفساد زوجته عليه، ونحو ذلك من فنون الأذى والعدوان.

وفي الصحيح[242] أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».

ثم قال: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ فأخبر الله سبحانه عن قارون بأَنه مع كفره وعصيانه وبغيه وطغيانه، أن الله قد أرخى له العنان في فنون البغي والعدوان، وأعطاه من كنوز الأموال على اختلاف الأنواع والألوان، ما يعجز العصبة الأقوياء عن حمل مفاتيحه سواء قلنا: إن المفاتيح من حديد أو من خشب أو من جلود، وحسبنا تنويه القرآن بعظمتها مما يدل على عظمة المخزون بها، وهو استدراج من الله له في سعة الرزق وبسطته، لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.

وإذا رأيت الله يسدي نعمة على الشخص؛ والشخص مُصِرٌّ على معصية ربه، فاعلم أنما هو استدراج من الله له. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٥ [الأنعام: 44-45].

ولما رأى الناصحون الصالحون من قوم موسى ما فعله قارون من الطفور والطغيان، ومجاوزة الحد في البغي والعدوان، أخنوا في وعظه ونصحه، لأن بقاء الأمم من قديم الزمان وحديثه، ببقاء الناصحين المصلحين الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولأن إنكار المنكرات هو مما يقلل فشوه وانتشاره.

يقول الله تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ ١١٦ [هود: 116].

ولهذا قالوا في نصيحتهم وإرشادهم: ﴿لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ [القصص: 76] فالفرح المذموم هو الذي يفضي بصاحبه إلى الأشر والبطر، والفجور والغرور، وغالبًا ما ينشأ عن الزهو بالدنيا وزينتها.

وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشَ الآخِرَهْ»[243] وقال: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ»[244] وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ ثم قالوا: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ [القصص: 77] يعني أن من وسع الله عليه بالغنى بالمال، فإن من واجبه أن يتزود من دنياه لآخرته، فإن مال الإنسان ما قدم، وفي الحديث: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِى مَالِى وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»[245] وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للورثة، والدنيا مزرعة الآخرة، تُزرع فيها الأعمال الصالحة. من خرج منها فقيرًا من الحسنات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.

أما من وسع الله عليه بالغنى بالمال، فجعله أكبر همه، وصرف إليه جُلَّ عقله، وجُلَّ عمله، وجُلَّ اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه، ونسي أمر آخرته؛ فهذا بالحقيقة فقير لا يُؤجر على فقره، قد خسر دنياه وآخرته، أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، وقلة ماله، فغَلَّ يده، ومنع ما عنده، ولم يزل ذلك دأبه، حتى يخرج من الدنيا مذؤوما مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، فهو عبد درهمه وديناره، وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ [246]. وسيندم حيث لا ينفعه الندم حين يقول: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩ [الحاقة: 28-29]. وحين يقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦ [الفجر: 24-26] وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات. وكل ما هو آت آت.

ثم قالوا في تمام نصحهم وإرشادهم: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا لما وعظوه ونصحوه بما ينفعه في أمر آخرته، عادوا فنصحوه بما ينفعه في أمر دنياه فقالوا: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا قيل: معناه تزود من دنياك لآخرتك. وقيل: لا تنس نصيبك أي من الكسب والسعي وسائر أسباب الغنى، لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكسب، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الروح والجسد، يمدح القائلين: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ [البقرة: 201] ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

فالإسلام يأَمر بكسب الأموال وحفظها، والتوسع في فنون التجارات من وجوه حلها. وفي الحديث: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[247] ولما سئل النبي ﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[248] وروي: «طَلَبُ الْحَلالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ [249] والله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال.

وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء كإبراهيم ويوسف وسليمان عليهم السلام، وبعض الأنبياء يتكسبون بالحرف والصنائع، والنبي ﷺ كان قبل النبوة يسافر بالمال إلى الشام.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتِّجِرُون يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله، كفريضة الصلاة، وفريضة الزكاة بادروا بأدائها إلى الله ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، حتى يؤدوه إلى الله.

فليس من الدين أن يتخلى الإنسان عن المال، وعن السعي والكسب للعيال، ويلزم زاوية من زوايا المسجد الحرام، أو مسجد المدينة يتبتل فيه للعبادة، وينقطع عن البيع والشراء، والأخذ والعطاء. كما يفعله الرهبان وبعض الدراويش، فقد جاء أناس من الصحابة إلى النبي ﷺ يستأذنونه في أن يبيعوا عقارهم ومالهم، ويشتروا بثمنها سلاحًا وخيلاً يجاهدون عليها في سبيل الله. فنهاهم رسول الله ﷺ عن ذلك وقال: ««أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا» [250] وأراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله فرد رسول الله ﷺ صدقته؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال. وكل ما تسمعونه في القرآن، أو في الحديث من ذم الدنيا، أو ذم المال؛ فإنما يقصد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال لا المال نفسه، لأن الطاعة هي همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا؛ لكون المسلم يشتغل في الدنيا بجوارحه، وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين، فتكون أعماله بارة، وأرزاق الله عليه دارة. ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ [الزمر: 18].

إن قارون قد مضى وانقضى، وعوقب بما تسمعون، فما كان جوابه لهؤلاء الناصحين الصالحين إلا أن قال: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ [القصص: 78] أي على حذق ومعرفة بجمع المال وكسبه، حتى كثر ووفر، ولم يقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ [النمل: 40] وجحود النعمة مؤذن بزوالها. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧ [ابراهيم: 7] ولهذا ذمه الله بقوله: ﴿أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨ [القصص: 78].

إن كل ما ورد في ذم قارون وعقابه على كثرة ماله، وفساد أعماله، فإنه منطبق بالدلالة والمعنى على كل من اتصف بصفاته، وعمل بمثل أعماله، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد:
إياك أعني واسمعي يا جاره

وخير الناس من وعظ بغيره.

فهذا الوصف ينطبق على كل تاجر وسع الله عليه من صنوف نعمه، وفضله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده من أداء زكاته، ومن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خُلِقَ لأجله، فمن كانت هذه صفته فإنه أخو قارون في كثرة ماله وفساد أعماله.

فبالله قل لي: كيف كان عاقبة أمره؟ أجيبك بأن الله سبحانه أمر الأرض أن تخسف به وبماله، قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢ [القصص: 81-82] خسف الله الأرض بقارون وبماله، وما الخسف ببعيد عن أمثاله من التجار الذين جحدوا نعمة الله عليهم، ومنعوا زكاة أموالهم، ونسوا أمر آخرتهم، تسمع بعشرات الملايين، أو مئات الملايين، أو ألوف الملايين عند أحدهم، ولكنك لا تسمع بمن يؤدي الزكاة منهم.

ثم سرت عدوى منع الزكاة من بعضهم إلى بعض، فهؤلاء إن لم يخسف بهم بالأبدان، فإنه قد يخسف منهم بنور الإيمان، ومن المعلوم أن الخسف بالإيمان أضر من الخسف بالأبدان، فيبقى سيئ الحال، جَمُوعًا مَنُوعًا، يبغض الناس ويبغضونه، ولهذا ختم الله هذه الآيات بقوله: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣ [القصص: 83]

نسأَل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[241] رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم وقال: صحيح الإسناد؛ من حديث أبي بكرة. [242] في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار. [243] متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك. [244] متفق عليه، ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، زاد مسلم في رواية: «وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِى الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ». [245] أخرجه الطيالسي من حديث عبد الله بن الشخير. [246] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [247] رواه الترمذي والدارمي والدراقطني من حديث أبي سعيد الخدري. [248] رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط من حديث رافع بن خديج. [249] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [250] أخرجه مسلم من حديث جابر.

(29) الخلق الحَسن وكونه ينحصِر في فِعل ما يجمّله ويزينه واجتناب ما يدَنسُه ويشينه

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.

أما بعد:

فقد ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ»[251]

فأخبر النبي ﷺ أن الناس متفاوتون في الأخلاق، كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، فما أعطي أحد عطاء أفضل من خلق حسن يدله على الصلاح والتقى، ويردعه عن السفه والفساد والردى. والمتحلون بمحاسن الأخلاق؛ هم أفضل الناس على الإطلاق، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال ««ألا أنبئكم بخياركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون. ألا أنبئكم بشراركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العثرات»[252] فحسن الخلق يمن يحببه للناس، وسوء الخلق شؤم يبغضه الناس، وقد قالت أم سلمة: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج بعدد أزواج، وتدخل هي وأزواجها الجنة، فمع من تكون يا رسول الله؟ فقال: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ،إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا. يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»[253] وأوصى النبي ﷺ معاذًا فقال: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»[254].

والخلق الحسن ينحصر في فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه، أو يقال: إنه ينحصر في فعل الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وأكثر الناس حينما يسمع أحدهم بحسن الخلق يظنه مقصورًا، أو مقصودًا ببشاشة الوجه، وطيب الكلام. وهذا نوع من مكارم الأخلاق بلا شك، لكن الخلق الحسن هو أعم وأشمل من هذا كله. والله يقول لنبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤ [القلم 4] ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول اللهﷺ قالت: كان خلقه القرآن، يتأدب بآدابه، ويأَتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ثم قرأت ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ ١٩٩ [الأعراف: 199] فأَمره ربه بأَن يعطي من حرمه، وأن يصل من قطعه، وأن يعفو عمن ظلمه. ومن حسن خلقه أنه يصل الرحم، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر. فمن حسن الخلق بر الوالدين، وصلة الأرحام، والتودد إليهم بوسائل الإكرام والاحترام، وأن يصاحبهم في الدنيا بالمعروف والإحسان، حتى يودع في قلوبهم محبته، والدعاء له، والثناء عليه.

وقد سئل النبي ﷺ عن أكرم الناس فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ لِلرَّبِّ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»[255]. فصلة الأرحام كما أنها من محاسن الأخلاق، فإنها أيضًا من الأسباب التي يوسع الله بها في الأرزاق، ويبارك بها في الأعمار، كما في الصحيح: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[256] فالواصل موصول، والقاطع مقطوع، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها.

ومن حسن الخلق الإحسان إلى الجيران بإيصال النفع إليهم، والعطف عليهم، وقضاء حوائجهم، ومعاشرتهم بطيب الوفاق، وكرم الأخلاق ففي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»[257]. ومن حسن الخلق إفشاء السلام، على الخاص والعام، بأن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف؛ لأن من محاسن الإسلام إفشاء السلام وإطعام الطعام، فمن حقوق المسلم على المسلم: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ»[258]. «ولاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ»[259].

ومن حسن الخلق أن تسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم. وهذه سنة مشهورة، وقد أصبحت بين الناس مهجورة. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «ثلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ خَرَجَ مجاهدا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ورجل دخل المسجد للصلاة، ورجل دخل بيته بسلام»[260] وقال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ»[261] إلى آخر ما ذكر، وقد قال النبي ﷺ لأنس: «يَا أنَس، إِذَا دَخَلْتَ بَيتِك فَسَلِّمْ عَلی أهلك تَكُن بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ»[262] فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن السلام على أهل البيت من الأسباب التي ينزل الله بها البركة على أهله. وهذا السلام يقضي بالمحبة والانسجام بين صاحب البيت وأهله، كما تقضي بسعة الرزق، ونزول البركة في البيت.

وإن ثمرة الاستماع الاتباع، وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإن مما أنصح به كون المسلم المستمع يوطن نفسه عل العمل بخير ما يسمعه من الحسنة، فيرمي بالسلام على أهله إذا دخل بيته، حتى يرى أثر بركتها عليه وعلى أهل بيته، وحتى يتعلمها منه أهله وأولاده.

أما الرجل الذي إذا دخل بيته أخذ يسب ويلعن كل من لقيه من أهله وعياله، فهذا البيت جدير بأَن يحل به الشؤم، وتنتزع منه البركة، وتغشاه الشياطين.

ومن حسن الخلق معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام، وبشاشة الوجه وطيب الكلام، ففي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى»[263] وأما ما يفعله بعض الذواقين إذا استجد أحدهم نكاح امرأة فوقعت منه بموقع الحظوة والمحبة، هجر المرأة القديمة، وقطع صلته بها، ونفقته عليها، وعلى عياله منها، وتركها مذبذبة معلقة، لا هي ذات زوج ولا مطلقة، ونسي ما وصى الله به بقوله: ﴿وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡ [البقرة: 237] أي: المعاشرة السابقة، وهذا ينافي مكارم الأخلاق، ومعالي الشيم.

ومن حسن الخلق، معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء، وبالصدق والأمانة، فيفي بوعده إذا وعد، ويصدق في حديثه إذا حدث، ويؤدي الأمانة إذا ائتمن، وإذا دخل مع أخيه المسلم في عقد بيع وشراء ولم يؤد ثمنه فليعلم أنه قد دخل معه في عقد وفي عهد وأمانة، فمن واجبه أن يؤدي الحق الذي عليه بدون تعليل ولا تمليل، وفاء بوعده، وأداء لأمانته، فإن مطل الغني ظلم. يحل عرضه وعقوبته، والتعفف عن حقوق الناس يعد غاية في الشرف وحسن الخلق. أما ظلم الناس وانتهاك حدودهم، وأكل حقوقهم، فإنه غاية في مساوئ الأخلاق.

ومن حسن الخلق، استعمال النظافة في الجسم وفي الثياب وفي المنزل؛ لأن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة والله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه، وللنظافة أثرها المترتب عليها من صحة الجسم ونموه، واستقامة بنيته. والناس يعرفون الرجل النظيف بحسن بزته، وجمال هيئته وثيابه، كما يعرفون المرأة الظريفة بنظافة منزلها وعيالها، ولما رأى النبي ﷺ رجلاً عليه ثياب وسخة أعرض عنه كالكاره له وقال: «هلا يجد هذا من يغسل له ثوبه»[264] ومن كلام الإمام الشافعي رحمه الله: من نقى ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله. ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
حسن ثيابك ما استطعت فإنها
زين الرجال بها تعز وتكرم
ودع التخشن في الثياب تواضعًا
فالله يعلم ما تكن وتكتم
ومن حسن الخلق لمن يسير في الطريق أن يستعمل التأَني والتؤدة، وعدم السرعة والعجلة؛ لينقذ نفسه من الهلاك، ويسلم الناس من شره. يقول الله تعالى: ﴿وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ ١٩ [لقمان: 19]. فأَمر الله بالقصد في السير، أي الاعتدال وعدم الاستعجال. خصوصًا في حالة استعمال الناس لمراكب الحديد، التي ينجم عنها الضر والبأس الشديد. فكم أزالت السرعة من نعمة، وكم جلبت من نقمة؟ ولا يجني جان إلا على نفسه، وكل امرئ بما كسب رهين. إن العقلاء يدركون خفة عقل الشخص بخفة سيره، ويدركون رزانة عقله في اعتدال سيره، ويقولون: إن خفة الشخص على قدر عقله. وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ». فقال: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله[265].
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
ومن حسن الخلق مصاحبة الأخيار، والتباعد عن مجالسة السفهاء وأهل الفساد والأشرار؛ لأن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل. والمرء على دين خليله وجليسه. واعتبروا الناس بأخدانهم. وشبه الشيء منجذب إليه، فكم من رجل حسن الخلق، نزيه العرض، نقي الشرف، سليم العقيدة، اصطحب مع سفهاء الأحلام، وضعفاء العقول والأديان، فأفسدوا فضائله، وأوقعوه في الرذائل، وغيروا عقيدته، فساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، وانتشر عنه الذكر الشائن والسمعة السيئة. ومن لا يكرم نفسه لا يكرم. ومن يهن الله فما له من مكرم.

إن الأجسام أشباح، وإن الأخلاق هي الأرواح؛ لأن الله سبحانه لا ينظر إلى صور الناس وأموالهم، وإنما ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم، الناشئة عن أخلاقهم. وبقاء الأمم ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا. وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال والأقوال ويقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ اصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ»[266].

ومن مساوئ الأخلاق التي استعاذ النبي ﷺ منها أن يترك الإنسان فرائض الطاعات، كالصلاة في المساجد والجماعات، ويشذ منفردًا بالصلاة في بيته، وقد لا يصلي كما هو الغالب على تارك الجماعة.

ومن منكرات الأخلاق الإصرار على الزنا واللواط، وشرب المسكرات، لاسيما الخمر التي هي أم الخبائث، ومفتاح الشرور، والداعية إلى أعمال الفجور. تقصر الأعمار، وتولد في الجسم أنواع المضار. ولا يزال الشخص يمشي مع الناس بعفاف وشرف وحسن خلق، إلى أن يشرب الخمر، ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل، ويسقط في الرذائل وتحل الكآبة والمسخ على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، لكونه قد أزال عنه نعمة العقل الذي شرفه الله بها، وألحق نفسه بالمجانين. وكيف يرضى بجنون من عقل. ولهذا سميت أم الخبائث.

ومن منكرات الأخلاق، كون الإنسان يطلق لسانه بالشتم وباللعن دائمًا، فيلعن الناس عند أدنى غضب، وربما لعن زوجته وولده، فينشر شؤم اللعنة في بيته، ويتعلمها منه أولاده وبناته، فيتقاذفون باللعن فيما بينهم، لكون الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر، ولعن المؤمن كقتله، ومن لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه.

ومن منكرات الأخلاق، كون المرأة المسلمة تمشي بين الرجال متكشفة، تبدي يديها إلى العضد، ورجليها إلى نصف الساق، قد ألقت عن نفسها جلباب الحياء والستر والشرف، وحسن الخلق، وتخلقت بأخلاق التفرنج والتبرج، وفسقت عن أمر ربها.

ومن منكرات الأخلاق، كون المسلم يتحلى بساعة الذهب، وبخاتم الذهب وأزرار الذهب. ومن المعلوم في شرع الإسلام أن الذهب حرام على الذكور، وحلال للنساء، لحاجتهن للتجمل به. أما الرجل فجماله في رجولته.

ومن منكرات الأخلاق، كون بعض المتغطرسين يرخي ثوبه وعباءته المسماة بالبشت، بحيث يسحب في الأرض عن يمينه وشماله ومن خلفه، تعاظمًا في نفسه. والنبي ﷺ قال: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ لباسه خيلاء»[267] فرفع اللباس من الثوب والبشت إلى حد الكعب هو أتقى للرب، وأبقى للبشت والثوب، مع العلم أن اللباس الطويل هو بمثابة الحمل الثقيل. ومن تعاظم في نفسه، واختال في مشيته، ألقى الله في قلوب الناس مذلته. كما أن من تواضع لله مع قدرته، رفع الله منزلته وأوقع في قلوب الناس محبته.
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في الناس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين
نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته.

* * *

[251] رواه أحمد من حديث ابن مسعود. [252] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة بلفظ: «إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ، الْعَيْبَ». [253] رواه الطبراني في الكبير والأوسط. [254] رواه الترمذي من حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل وقال: حديث حسن. [255] رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب والبيهقي في الزهد الكبير وغيره من حديث درة بنت أبي لهب. [256] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [257] أخرجه البخاري من حديث أبي شريح العدوي. [258] رواه الترمذي من أبي هريرة. [259] متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري. [260] رواه أبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي أمامة وقال الحاكم: صحيح وأقروه. [261] أخرجه البزار في مسنده من حديث ابن عمر. [262] رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك وقال: حديث صحيح. [263] رواه الترمذي من حديث عائشة بإسناد صحيح. [264] رواه أبو داود من حديث جابر. [265] رواه مسلم من حديث ابن عباس. [266] رواه مسلم، والبيهقي في شعب الإيمان والسنن الصغرى، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وأبو داود والترمذي والنسائي، وأحمد في مسنده، والدارقطني، رووه من حديث علي بن أبي طالب. [267] رواه مالك والبخاري من حديث ابن عمر بلفظ: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر إليه الله يوم القيامة».

(30) فضل النظافة وكونها من الإيمان

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. اللهم صل على نبيك ورسولك، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله بعث نبيه محمدًا بدين كامل، وشرع شامل، يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والدين. لا خير إلا دل عليه، وهدى الناس إليه، ولا شر إلا نهى عنه، وحذرهم منه، فيما يتعلق بخاصة الإنسان في نفسه، وفيما يتعلق بمجتمع الناس؛ لأن الدين مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، يهدي الناس إلى التي هي أصلح لهم وأصح لأبدانهم وبلدهم. من ذلك النظافة، فقد يتسامح الناس بأمرها، ويتساهلون في شأنها، وهي من أمر دينهم، بل هي خصلة من خصال الإيمان، فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والنبي ﷺ قال: «إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صدقة»[268] وقال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ» يعني طرقكم[269].

إن الإسلام دين الكمال والنظام، دين النزاهة والنظافة للبيوت والطرق والأجسام. ولم يشرع الرسول ﷺ لأمته النظافة إلا من أجل ما يترتب عليها من المصلحة الراجحة، والمنفعة الواضحة. ولهذا شدد النبي ﷺ القول فيمن آذى المسلمين في طرقهم، وقال: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ»[270].

إن الناس متكافلون ومتكاتفون في الأمر بالنظافة، في خاصة طرقهم ومجتمعهم، ودوائر أعمالهم. وفي الصحيح: أن النبي ﷺ قال: «إن رجلاً قطع غصن شجرة يؤذي الناس في الطريق، فشكر الله له ذلك، فغفر له»[271].

ومن الصدقة أن تنحي الأذى عن الطريق، إن الأمم المتمدنة وغيرهم قد اعتنوا كل الاعتناء بالنظافة في أجسامهم وثيابهم وطرقهم، لا لأجل أنها سنة، لكن من أجل أنها صحة لأبدانهم وصحة لبلدانهم، لكون القمام والقذى والأذى متى ألقي في الطريق فإنه يحدث أضرارًا وأمراضًا وبيئة، بسبب ما يحمله الهواء ثم يوزعه على الناس، فيعم ضرره، والوقاية خير من العلاج. وغالب ما تقع العدوى عن مثل هذا. كما أن النظافة تبعد العدوى عن البدن والبلد. إننا متى عملنا بتعاليم دين الإسلام في النظافة، فإنه يصير عملنا سنة في ديننا، وصحة في أبداننا وبلدنا، فنؤجر على ذلك بالحسنتين: حسنة الدنيا، وحسنة الآخرة.

إن الطرق ليست بملك لشخص أو أشخاص، بحيث يتصرف فيها بما يؤذي الناس، فيلقي فيها القمام والأذى، ويستبقي فيها الطين والحصى، ويتصرف فيها كيف يشاء، على حسب رغبته وحاجته الشخصية بما يؤذي الناس ويضرهم. وربما انتقص من الطريق فأدخل في ملكه ما لا حق له فيه. وقد لعن رسول الله ﷺ من غير منار الأرض، أي مراسيمها ولو حدث شيء من الأضرار في الأنفس أو الأموال، بسبب ما يضعه هذا الشخص في الطريق، فإن ضمانها يتوجه عليه بالغة ما بلغت، لاعتبار أنه متعد بتصرفه في الطريق، أشبه الغاصب.

إن النظافة لم تكن واجبة على أمة من الأمم إلا على أمة الإسلام! فإن النظافة واجبة علينا في مواضع من عبادتنا، من ذلك: الوضوء المشروع الذي يتضمن غسل أعضائه الظاهرة عند كل صلاة. وسمي وضوءًا من أجل الوضاءة والنظافة. فهو عبادة دينية ونظافة بدنية، ويترتب عليه تساقط الخطايا مع تساقط قطر الماء، كما أوجب سبحانه غسل الجنابة من أجل ذلك. وكما أمر بأخذ الزينة عند كل صلاة فقال: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ [الأعراف: 31] أي عند كل صلاة. وبذلك نعرف أن هذه النظافة واجبة علينا في ديننا لمصلحة وصحة تعود على أبداننا.

إن أهل الإسلام قد قصروا بواجبهم في عدم عملهم بأمر دينهم، حيث سعد بمحاسن النظافة غيرهم، و «اللَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»[272] طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة. إن النظافة كما أنها من الشرف والظرف فإنها أيضًا من المحاسن والفضائل، فاستعمال النظافة في الجسم وفي الثياب وفي المنزل وفي الطرق يحبها الله، فإن الله جميل يحب الجمال، نظيف يحب النظافة، طيب يحب الطيب. وللنظافة أثرها المترتب عليها من صحة الجسم ونموه واستقامة بنيته، والناس يعرفون الرجل النظيف الظريف بحسن بزته وجمال هيئته وثيابه، وهذا أمر ملموس ومحسوس في النفوس، حتى إن الإنسان إذا استجد ثوبًا جديدًا، أو لبس ثوبًا غسيلاً نظيفًا، فإنه يجد السرور في نفسه، كما أن الناس يعرفون المرأة النظيفة الظريفة بنظافة منزلها وعيالها، وابتعاد القمامة والأذى عن وجه بيتها.

وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من الأوساخ عرف أثر الكراهة على وجهه، كما روى أبو داود عن جابر أن النبي ﷺ رأى رجلاً وعليه ثياب وسخة فأعرض عنه، كالكاره له، فقال: «هلا يجد هذا من يغسل له ثوبه؟»[273]. إن بعض الناس يتساهلون ويتسامحون بالنظافة في أنفسهم وفي منازلهم وطرقهم، اعتمادًا بزعمهم على التواضع في أنفسهم. وهذا لا يدخل في مسمى التواضع، فإن التواضع محله القلب، وألا يتكبر على الناس بفعل المخالفة المذمومة، من سحب الثوب أو العباءة بالأرض تكبرًا، وازدراء بالناس، فهذا هو المذموم شرعًا. «وقد قال رجل للنبي : إني أحب أن يكون ثوبي حسنًا، ونعلي حسنًا، فهل هذا من الكبر؟ قال: «لا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاس»»[274] ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: من نقى ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. وقد قيل:
حسن ثيابك ما استطعت فإنها
زين الرجال بها تعز وتكرم
ودع التخشن في الثياب تواضعًا
فالله يعلم ما تكن وتكتم
إن النظافة في المنازل وفي الطرق والأجسام، لها مكانة عالية من دين الإسلام. وحسبك أنها معدودة من خصال الإيمان، وأن إزالة الأذى عن الطريق صدقة، وأن من آذى المسلمين في طرقهم فقد استوجب لعنتهم. كل هذه نصوص صحيحة صريحة في المعنى، وهي على كل أحد بحسبه.

ومن السنة التي هي من النظافة؛ تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط. فما يفعله بعض النساء من كون إحداهن توفر أظافرها ولا تقصها، حتى تكون مشوهة كأظافر السبع، فهذا مكروه. وما تحت الظفر الزائد فإنه يكون مجتمعًا للأوساخ الضارة، وعلى الأولياء ألا يرضوا بذلك، لكون المصلحة مشتركة، والناس متكافلون ومتكاتفون، وهي تدخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ [المائدة: 2] وكان النبي ﷺ يستعمل الجميل من الثياب، ويحب الطيب، حتى إذا سلك طريقًا عرف أنه سلك هذا الطريق ببقاء أثر الرائحة فيه وقال: «حُبِّبَ إِلَىَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِىَ فِى الصَّلاَةِ»[275] إن النظافة قد فرضت فرضًا محتمًا في دين الإسلام، فأوجب الله سبحانه الوضوء في كل يوم خمس مرات. والوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة، فهو يكسب الأعضاء النظافة، كما يكسبها النشاط والقوة، ويبعد عنها الكسل والنوم عند أداء هذا الفرض. وكما في الحديث: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»[276] وأن يمس من طيب أهله، فبعض العلماء حمله على الوجوب، وبعضهم على الاستحباب المتأكد، وعلى كلا القولين، فإنه ينبغي للمؤمن أن يحتسب للجمعة بالاغتسال والنظافة والطيب، لكون الجمعة عيد الأسبوع. إن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي ﷺ نزل عليه في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه من القوم أحد. فسأل النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»[277] ومن تعليم الدين تعليم أدب اللباس والنظافة واستعمال الثياب الجديدة.

وقد اعتنت البلدان المتحضرة بهذا العمل أشد الاعتناء، وعقدت يومًا في السنة للتذكير بفضل النظافة والقيام بواجبها، وعرض فضائلها، للحث والتحريض على العمل بها، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٥ [الذاريات: 55].

* * *

[268] متفق عليه من حديث أبي هريرة ولكن بلفظ: «وتميط الأذى». [269] أخرجه مسلم بلفظ: «إن الله جميل يحب الجمال» من حديث عبد الله بن مسعود. [270] رواه الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وإسناده حسن. [271] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [272] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود [273] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث جابر بن عبد الله. [274] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. [275] رواه أحمد في مسنده والنسائي والحاكم والبيهقي من حديث أنس وإسناده جيد. [276] رواه مالك وأحمد في مسنده وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري. [277] رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه.

(31) جواز الأدوية المباحة والتطعيم

الحمد لله الكريم المنان، ذي الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد:

فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف، وَفِي كُلّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَز. وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَح عَمَل الشَّيْطَان». فهذا الحديث يعد من النصيحة الصحيحة، والموعظة الصريحة؛ لأن النبي ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يجمع الحكم الكثيرة في الكلمات القليلة.

فقوله: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف»؛ لأن المؤمن القوي هو الذي يأخذ بوسائل الحزم، وفعل أولي العزم؛ فيستعمل من الأمور أقواها، ويسلك من الطرق أتقاها، فينفع نفسه، وينفع أهله، وينفع سائر الناس. ولهذا قال: «واستعن بالله ولا تعجز». فأمره بأن يستعين بالله في أموره كلها، وأن يحارب العجز؛ لأن العجز أضر ما ابتلي به الشخص. وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الهم والحزن، ومن العجز والكسل. وإذا اقترن العجز بالتواني نتج من بينهما الخيبة والحرمان.
العجز ضر وما بالحزم من ضرر
وأحزم الحزم سوء الظن بالناس
لا تترك الحزم في أمر تحاذره
فإن أمنت فما بالحزم من باس
فمن أنواع العجز: الإعراض عن استعمال الأدوية المجربة؛ لرفع البلاء، ودفع الوباء. وإن الله سبحانه خلق الناس، وخلق لهم جميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس والأدوية، وغير ذلك. فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية أو لرفع البلاء أو دفعه؛ هي في الحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه؛ رحمة منه بعباده، وإحسانًا منه لهم، بإيصال نفعها. وخص كل نوع منها بنوع من المرض يزاوله ويشفيه. وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه، واستعمالها في وقاية صحته، وحفظ بنيته.

وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه؛ لأنه من دينه وشرعه. ويقول: «تَدَاوَوْا يا عباد الله، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْهَرَمُ»[278].

وفي رواية أخرى: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً - أي ما أصاب أحدًا بداء إلا قدر له دواء - عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ».

وقيل للنبي ﷺ: «يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقيها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: «لَا، بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ»».[279] «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»[280] فتضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإن الله بحكمته ورحمته جعل لكل داء يحل بالناس دواء يبرئه، بحيث يرفعه ويدفعه. وإن هذا لا ينافي التوكل على الله.

كما أن الإنسان إذا اشتد عطشه دفع داء العطش بالماء، ودفع داء الجوع بالأكل، ودفع داء البرد بالثياب والملاحف والخفاف، فهذا مثله. والوقاية خير من العلاج. والدفع أيسر من الرفع. والشفاء قبل الإشفاء.

فاستعمال الأدوية المباحة والوقاية النافعة هي من تمام تحقيق التوحيد؛ لأن كل ما شرعه رسول الله ﷺ وأمر به فإنه من الدين الذي يجب اتباعه، والعمل به، كيف والرسول ﷺ يقول: «يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ مَا أنزَل مِنْ دَاءً إِلَّا أنزَلَ لَهُ شِفَاءً»[281] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الدواء قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
مثال ذلك كون الإنسان يصاب بالتخمة فمن الحزم إزالتها بالأدوية الكريهة، أو المسهلة لإخراج الفضلات؛ لأن الإنسان في الدنيا كما قيل:
نحن في دار بليات
ندفع آفات بآفات
ولأن الدواء الكريه المر في حالة نفعه وحسن عاقبته يعتبر حلوًا، كما أن الأكل الحلو الضار، يعتبر مرًّا في مضرته وسوء عاقبته. وقد قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـر
فإن المر حين يسـر حلو
وإن الحلو حين يضـر مر
فهذا التطعيم عن الأمراض الوبيئة قد جربته الأمم على اختلاف أديانهم وأوطانهم، ووجدوا له من التأثير في الوقاية من الأمراض القتالة، وفي الشفاء به ما يشهد الواقع بصحته، ولا طبيب إلا ذو تجربة. لهذا نجد بعض الناس يتقاعس - توكلاً منه بزعمه - عن استعمال هذه الأدوية التي هي التطعيم ونحوه، توكلاً منهم بزعمهم على الله، ولم يشعروا بأن تركهم للأسباب عجز ينافي التوكل على الله، وإنما المتوكل الصحيح، هو الذي يستعمل أسباب الوقاية، ثم يتوكل على ربه، كما في الحديث: أن رجلاً قال: «يا رسول الله ناقتي أعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل؟ فقال: «بَلْ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»»[282].

قول النبي ﷺ: «تَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[283] «وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءٌ»[284] فكل هذا فيه شحذ للهمم، وتنشيط للأمم في طلب الدواء، والتفتيش عليه في مظانه عند الأطباء. ولما عاد النبي ﷺ سعد بن أبي وقاص بمكة وقد اشتد به المرض. قال: «ادعوا له الحارث بن كلدة»[285] فصنع له دواء فاستعمله فبرئ بإذن الله؛ لأن الدواء أمان للصحة وقت المهلة. فقول بعض العوام من الجهال إن كان الله قدر علي المرض فإن العلاج لن يدفعه، هو قول باطل، وحجة داحضة، نظير حجة المشركين في قولهم: ﴿لوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا [الأنعام: 148] فإن المرض يقع بقدر الله، والدواء الذي يرفعه ويعالج به هو من قدر الله، والمؤمن يدفع قدر الله بقدر الله. ويفر من قدر الله إلى قدر الله، وهذا رسول رب العالمين ﷺ الذي هو كما وصفه ربه ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] يأمر باتقاء اسباب البلاء والمباعدة عن مواقع الوباء، مع قوة توكله على الله، ويقول في الحديث الصحيح: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»[286] ويقول: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ»[287] ولما قدم رجل مجذوم يريد أن يهاجر منعه رسول الله ﷺ من دخول البلد. وقال: «ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ»[288]. وجاء قوم إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا هي ريفنا ومصيفنا، ولكننا إذا نزلناها ضعفت أجسامنا، وقل عددنا. فقال رسول الله ﷺ: «اتركوها ذميمة فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ»[289]. فنهى رسول الله ﷺ عن سكنى هذه القرية الوبيئة، وأخبر أن مقاربة الوباء عين الهلاك والتلف. وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتقون أسباب البلاء، ويتباعدون عن مواقع الوباء، مع قوة توكلهم على الله.

ولما سافروا صحبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الشام، واقتربوا من البلد، تلقاهم أبو عبيدة بن الجراح وأخبرهم أن الوباء وقع بالبلد، فنزل عمر بالناس، وقال: يا ابن عباس ادع لي المهاجرين قال: فدعوتهم له؛ فاستشارهم. أيقدم البلد أم يرجع بأصحاب رسول الله ﷺ فاختلفوا عليه: فمنهم من قال توكل على الله واقدم البلد. ومنهم من قال: ارجع بأصحاب رسول الله ﷺ. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له. فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: نرى أن ترجع بأصحاب رسول الله ﷺ ولا تقدم بهم على الوباء. فأمر مناديًا ينادي: إني مصبح على ظهر فتأهبوا للرجوع. فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم؛ نفر من قدر الله إلى قدر الله[290]. فهذا دليل على أن الصحابة كانوا يستعملون الأسباب والوسائل التي تحفظ صحتهم، وتقيهم من الوقوع في الوباء، مع قوة توكلهم على ربهم، واعتقادهم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لهذا صار من الواجب علينا أن ننصح المسلمين في استحباب استعمال الأدوية، والتطعيم عند دعاء الحاجة إليها؛ لأنها من أسباب حفظ صحتهم، وصحة أهلهم وعيالهم، كما جربوا التطعيم في دفع الجدري عن أولادهم. وإن المعرض عن استعمال هذه الأدوية المجربة يعتبر ناقص العقل، ضعيف الرأي، مضياعًا لفرصته، تاركًا للعمل بآداب دينه، ونصائح نبيه؛ لأن الدين والدعوة إليه ليس مقصورًا على الصلاة والصيام؛ ولكنه شامل لكل ما ثبت عن الله ورسوله ﷺ من الأمر والنهي، والحكمة.

ومتى استعمل الإنسان ما يلزمه من وسائل الحزم، والأسباب اللازمة، فمتى غلبه أمر فلن يعود على نفسه باللائمة؛ لأن نجاح الأمور بيد الله. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «اسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَز، وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ»[291].

لكن هنا أشياء تعلقت بها قلوب بعض الضعفة وهي تضر ولا تنفع، مثل تشاؤمهم بشهر صفر، أو تشاؤمهم بيوم الأربعاء، فلا يسافرون فيه، ويزعمون أنه يوم نحس مستمر، أو يتشاؤمون بما بين العيدين، فلا يتزوجون فيه، فهذا التشاؤم والاعتقاد إنما نشأ من الجاهلية الأولى، وهو من الطيرة التي هي من الشرك، والطيرة على من تطير وإلا فإن هذه الأيام لا تفعل شيئًا من الشر في أنفسها! بل هي كسائر أيام السنة التي ينزل فيها الخير والنصر ويستجاب فيها الدعاء. وكذلك ما يفعله بعض سخفة العقول من تعليق الجوامع على أجسامهم، وعلى أولادهم ودوابهم، يزعمون أنها تدفع عنهم الجان وعين الإنسان، وهذا يدخل في الشرك. فإن من علق شيئًا فقد أشرك. وفي الحديث: «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»[292] وقد دعا عليه رسول الله ﷺ فقال: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ»[293] لهذا يقع التسلط من الشياطين على الذين يعلقون الجوامع، وتسمى الحروز والعزائم والتمائم. ولهذا ورد في الحديث: ««مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً - أي جامعة من إنسان - كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ» لكونه أنقذه من عبودية الشيطان».[294] والمؤمن يلتجئ إلى ربه، ويتوكل عليه، ويكفيه أن يقول: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ»[295] ونحو ذلك من الأوراد الشرعية.

وأما الرقية بالآيات القرآنية، والأوراد النبوية، فإنه لا بأس بها. وقد رقى النبي ﷺ ورقي، وكان إذا جاءه المريض قال: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُؤْذِيكَ، مِنْ كُلِّ عَينٍ حَاسِدٍ، وَمِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، اللهُ يَشْفِيْكَ»[296].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[278] رواه أحمد في مسنده وأصحاب السن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث ابن مسعود وإسناده صحيح. [279] رواه الحاكم في المستدرك من حديث حكيم بن حزام، وابن ماجه من حديث أبي خزامة. [280] رواه مسلم، والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن وشعب الإيمان، والنسائي في الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير. [281] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن. [282] رواه البيهقي في شعب الإيمان، والترمذي من حديث أنس بن مالك، وابن حبان في صحيحه من حديث عمرو بن أمية. [283] رواه أبو داود والبيهقي من حديث أبي الدرداء. [284] رواه البخاري وابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة. [285] رواه أبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص. [286] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة. [287] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [288] رواه مسلم من حديث الشريد بن سويد. [289] رواه أبو داود من حديث فروة بن مسيك. [290] متفق عليه من حديث ابن عباس. [291] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [292] رواه النسائي من حديث أبي هريرة. [293] رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد، والحاكم من حديث عقبة بن عامر، وقال: صحيح الإسناد. [294] رواه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير. [295] رواه البخاري من حديث ابن عباس. [296] رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ».

(32) تفسير سُورة الجمعة

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه. وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه ليشكروه. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة مخلص يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله. اللهم صل عليه، وعلى آله وأصحابه الذين آزروه ونصروه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه قد افترض على عباده المؤمنين وجوب العمل بشرائع الدين، ومن آكدها الصلوات الخمس المفروضة؛ التي هي عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر. وآكدها الجمعة التي هي عيد الأسبوع، والتي هي أفضل من عيد الأضحى وعيد الفطر. والجمعة هي أفضل يوم طلعت عليه الشمس.

وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: « أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ». وقد قال النبي ﷺ على أعواد منبره: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ»[297] رواه مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة، والختم: هو: الغلق على القلب بحيث لا يدخله الهدى ولا يتخلص منه الشقاء.

وكان من هدي النبي ﷺ أنه يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين، وربما قرأ فيهما بسبح والغاشية، وكان على الإجمال يحب قراءة المسبحات؛ لفضل ما اشتملت عليه من الأحكام والمواعظ العظام. والله تعالى يقول: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ ١ [الجمعة: 1] إن معنى التسبيح هو التنزيه والتقديس لله سبحانه. ولهذا أكثر سبحانه من ذكره.

والتسبيح، هو أثقل ما يجعل في ميزان العبد يوم القيامة؛ لحديث: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَن خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَان، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَان: سُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ سُبْحَان اللَّه الْعَظِيم»[298] وصلت إليكم معشر الأمة رسالة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد ﷺ، فروى الترمذي من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «لقيت إبراهيم ﷺ ليلة أسري بي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِأْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَغِرَاسُهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ»[299].

ثم قال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ [الجمعة: 2].

الأميون هم العرب أطلق عليهم اسم الأمية من أجل أنهم لا يكتبون ولا يقرؤون، وليس عندهم بمكة مدارس، ولا كتب، أشبهوا الأعراب المتنقلة. وقد سمى الله نبيه أميًّا من أجل أنه لا يكتب، ولا يقرأ المكتوب. فقال سبحانه: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ [الأعراف: 156-157].

وأمية الرسول هي معجزة من معجزات نبوته، وليست من سنته. وإنما خص الله نبيه بالأمية، صيانة وحماية للوحي الذي جاء به، لئلا تحتف به الظنون الخاطئة، والأوهام الكاذبة، فيقولوا: تعلمه من كذا، أو كتبه من كتاب كذا، يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49]. وقد قيل: كفاك بالعلم في الأمي معجزة. وهذه الأمية بما أنها معجزة من معجزات نبوته، فقد جاء بمحاربة الأمية وتقليلها.

ولهذا أول ما أنزل الله من وحيه قوله سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ [العلق: 1-4].

فقوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ أي يعرفون نسبه وصدقه وأمانته. ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ ويفسرها لهم، ويسألونه عما أشكل عليهم منها، يقول ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن[300].

وقوله: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتطهرها، وتنشر في العالمين فخرها وشرف ذكرها.

و﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10]. أي قد أفلح من زكى نفسه بالطاعات، والمحافظة على الصلوات، في الجمع والجماعات، وقد أفلح من زكى نفسه بأداء الزكاة، وقد أفلح من زكى نفسه بصلة القرابات، وبسط اليد بالصدقات، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وذوي الحاجات، والتفريج على المكروبين والمنكوبين من ذوي الهيئات، وقد أفلح من زكى نفسه بالصدق والأمانة، وأداء الحقوق إلى أهلها، والتعفف عن الظلم، وعن المال الحرام؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي الإنسان، وتنشر في العالمين فخره وشرف ذكره. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن طالبًا للنفس أعلى المراتب كما أن المنكرات وشرب المسكرات، وترك فرائض الطاعات، والتخلق بالكذب والخيانة، ومنع الحقوق الواجبة، وأكل المال الحرام؛ كل هذه تدنس النفوس وتدسيها، وتنشر في العالمين أشنع ذكرها، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ فالكتاب؛ القرآن، والحكمة؛ السنة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ أي أن الناس قبل الإسلام، وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا في جهالة جهلاء، وضلالة عمياء، يقتلون أولادهم خشية الفقر، ويقتلون بناتهم خشية العار، يعبدون الأشجار والأحجار والقبور؛ كاللات والعزى، وكانوا مستذلين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم، وتتحدث بصولتهم، وتخشى دولتهم إلا بالإسلام. وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

فالإسلام أنشأ العرب نشأة مستأنفة؛ خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا، وفتحوا وسادوا وشادوا، وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من البداوة إلى الحضارة، ومن الجفاء والغلظة إلى اللين والرحمة، ومن العداوة والقسوة إلى الأخوة والمودة، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والجهل والأمية إلى العلم والحضارة والمدنية واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا كريمة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز وعلم، ومنعة وعرفان.

وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٥٦ [النور: 55-56].

وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم شبع جوعته، وستر عورته، كما في صحيح مسلم عن عتبة ابن غزوان أنه قال: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة من أصحاب النبي ﷺ، مالنا طعام نأكله إلا ورق الشجر، وإني التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وعند الله حقيرًا.

وقال قتادة - وهو الشاهد المشاهد لحالهم - قال: إن العرب قبل الإسلام، وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا أذل الناس ذلًّا، وأشقاهم عيشًا، وأجوعهم بطونًا، وأعراهم ظهورًا، وأبينهم ضلالاً، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر.

وقد بشرهم النبي ﷺ بهذا الفتح قبل وقوعه كما في صحيح البخاري أن النبي ﷺ كان في بيت أم حرام بنت ملحان وقال: ««لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». قالت أم حرام: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: «أَنْتِ مِنْهُمْ». فغزت مع زوجها عبادة بن الصامت. فسقطت عن دابتها، فماتت رضي الله عنها».

ثم أخبر أن هذا الخير الذي فضلهم به، وهذا الهدى والنور الذي جاء به رسول الله ﷺ، ليس هو مخصوصًا بالأول دون الآخر، فقال سبحانه: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣ [الجمعة: 3]. ﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٤ [الجمعة: 4]. فهذا الفضل، وهذا الخير هو مشترك بين الصحابة وبين من بعدهم؛ كل على حسب عمله، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. مع العلم أن الفضل للمتقدم، وللصحابة مزية بصحبتهم لرسول الله ﷺ وجهادهم معه، لا يساميهم فيها أحد، كما في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثًا - ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن». وفي صحيح الترمذي أن النبي ﷺ قال: «ومثل هذه الأمة؛ مثل المطر، كما يوجد الخير في أول المطر؛ فإنه قد يوجد في آخره». وأخبر سبحانه: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡ هم الغرباء في زمانهم، النزاع من القبائل، قوم صالحون، قليل في قوم سوء كثير، يَصلحون إذا فسد الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس من السنة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مائة شَهِيدٍ »[301].

ثم قال: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥ [الجمعة: 5]. فمعنى ﴿حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ: أي كلفوا العمل بها فلم يعملوا بها. وهذا الخطاب ليس مختصًا باليهود، وإنما هو عام لجميع الناس. فمعناه بالضبط: مثل الذين حملوا القرآن؛ أي كلفوا العمل به فلم يعملوا به؛ كمثل الحمار يحمل أسفارًا أي يحمل كتبًا فوق ظهره، لا يدري ما فيها، ولا ينتفع بها؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه، لا بخصوص سببه، فهو يتمشى في خطابه على حد:
إياك أعني واسمعي يا جاره

نظيره قوله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ [المائدة: 68] فمعناه بالضبط: يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن. وقد قال بعض السلف: إذا قال الله يا بني إسرائيل؛ فإن بني إسرائيل قد مضوا! وإنما يعني أنتم.

إن الذي يستمع للخطبة ولا ينتفع بها، ولا يعمل بها؛ فإن مثله كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره كتبًا لا يدري ما فيها. وفي حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً، من تكلم والإمام يخطب؛ فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ومن قال لصاحبه: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا، ومن لغا فلا جمعة له»[302] إن من يستمع إلى الخطيب وهو يقول: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ [البقرة: 238] وهو يتركها أو يسمعه يقول: ﴿وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ [البقرة: 277] وهو يأكلها، أو يسمعه يقول: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ [البقرة: 183] وهو يأكل ويشرب في نهار رمضان، أو يسمع قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗ [آل‌عمران: 130] وهو يرابي بكل ماله، ويرى أن الحلال ما حل بيده، أو يسمع الخطيب يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ [المائدة: 90] وهو يدمن على شربها صباحًا ومساءً إنه بمثابة من يقول: ﴿سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ [النساء: 46]. ومعلوم أن فائدة الاستماع الاتباع. وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ومتى كان يستمع هذه المواعظ من القرآن والسنة من الخطيب ولا يتبعها؛ فإن مثله كمثل الحمار الذي يحمل كتبًا فوق ظهره ﴿مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ [الجمعة: 5].
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
ثم قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٩ [الجمعة: 9].

إن الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض. كما ثبت بذلك الحديث، وسميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس لها؛ لأنها عيد الأسبوع. وهي أفضل من عيد الفطر والأضحى ولهذا حرم الفقهاء تعداد الجمع إلا لضرورة تقدر بقدرها. فأمر الله بالسعي إليها، وأخبرهم بأن حضورها والمحافظة عليها خير لهم من الدنيا وما فيها؛ لأن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما. فيجب السعي إليها على من بينه وبين المسجد قدر فرسخ، وهو ما يقدر بمسير ساعة بالأقدام، ودبيب الأجمال بالأحمال.

ثم قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٠ [الجمعة: 10] أي متى فرغتم من صلاة الجمعة التي تركتم لها البيع والشراء، فانتشروا في الأرض، وبيعوا واشتروا، وابنوا واغرسوا، واشتغلوا في سائر الحرف المباحة.

ولهذا كان عراك بن مالك - أحد التابعين - إذا فرغ من صلاة الجمعة، أمسك بعضادة باب المسجد فقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك كما وعدتني، إنك خير الرازقين.

نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره، وحسن عبادته.

* * *

[297] رواه مسلم عن الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعاه من رسول الله ﷺ. [298] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [299] رواه الترمذي من حديث ابن مسعود، وقال: حديث حسن. والقيعان جمع قاع وهو المكان الواسع المستوي من الأرض. [300] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من حديث عبد الله بن مسعود. [301] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير من حديث ابن عباس والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة بلفظ «فلة أجر شهيد». [302] رواه الإمام أحمد في مسنده، والهيثمي في مجمع الزوائد من حديث ابن عباس.

(33) فضل رَجب وشعبَان

الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من أراد هدايته لمحاسن الأمور، ومكاسب الأجور، فعملوا في حياتهم أعمالاً صالحة لوفاتهم، يرجون بها تجارة لن تبور، وأشهد أن لا إله إلا الله، بيده مواقيت الأعمار ومقادير الأمور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى كل عمل مبرور، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام؛ كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، وهو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

فما يبدو يوم من الأيام، ولا شهر من الشهور، إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته؛ يصيب به من يشاء من عباده، فالسعيد من اغتنم ممر الأيام والليالي والساعات، وتقرب إلى الله فيها بوظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات وفي الحديث «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا نَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»[303]. والله سبحانه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت يقول الله سبحانه: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99] وقال: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56]. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال، كالصلاة والزكاة والصدقات والصيام، وسائر أفعال البر والإحسان؛ لأن كل عمر يخليه المرء من طاعة الله فقد خسره، وكل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه حسرة وترة، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت قلبك شغلاً، ولم أسد فقرك»[304] ومعنى تفرغ لعبادتي أي العبادة التي أوجب الله عليك. فلا تشتغل عنها بأهل ولا مال، وفي القرآن المنزل ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ [البقرة: 197] وكان من دعاء بعض السلف: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان.

ويسأل بعض الناس عن صيام رجب هل هو مشروع أو مكروه؟ فالجواب: أنه مهما فعل الإنسان من الطاعة والإحسان فإنه يجده مدخرًا له عند ربه في كفة حسناته، والتعبد بالصيام فيه فضل كبير، ورجب هو من الأشهر الحرم المحترمة عند الله، ولم يثبت عن رسول الله ﷺ النهي عن صيامه، بل ثبت عن رسول الله ﷺ أنه كان يكثر من صيام شعبان، ويقول: «إنه شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ»[305] فدل الحديث على أن الناس يصومون من رجب بعضه، ولم ينكر النبي ﷺ عليهم. وأما قول الفقهاء ويكره إفراد رجب بالصوم، فيعنون بذلك كونه يفرد رجب بصومه كله؛ لأنه ليس من هدي النبي ﷺ أنه يصوم شهرًا كاملاً غير رمضان. وقالوا: إنه من عادة الجاهلية. أما الذي له عادة أنه يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، أو يصوم من رجب شيئًا من الأيام، فإنه لا بأس بذلك، ويؤجر على صيامه في رجب، كما يؤجر على صيامه في غيره من سائر الشهور، ومهما صام الإنسان بنية لله، فإن الله يأجره على صيامه بالأجر الجزيل، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال:«الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ»[306] أيضًا تقول أم سلمة: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ. وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ. وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِى شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِى شَعْبَانَ»[307] ويقول: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَغْفُلُ النَّاسُ فِيْهِ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ».

والصيام بما أنه طاعة للرحمن، وعلامة على صحة الإيمان، فإنه من أسباب الصحة للأبدان كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[308] وروي: «أَنَّ لِكُلِّ شَىْءٍ زَكَاةٌ وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[309] ومن المشاهد المحسوس أن الذين يتطوعون بالصيام، أنهم من أنعم الناس بالاً وأصحهم أجسامًا، وأطولهم أعمارًا، وأقدرهم على معاناة الأشغال الشاقة؛ لأن الله يعطيهم على الطاعة قوة ونشاطًا ولأن للطاعة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في الجسم، ومحبة في قلوب الناس. يقول الله تعالى: ﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى [هود: 3].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث خصال: أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام.

فمن وفقه الله للعمل بهذه الخصال الثلاث؛ التي من جملتها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء كان من أوله، أو من وسطه، كالأيام البيض، أو من آخره؛ لأن اليوم بعشرة أيام بموجب التضعيف. فصوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا في ظلمة الليل لظلمة القبور، وتصدقوا بصدقة السر لشر يوم عسير.

ولأن النوافل من الصلاة والصيام يكمل بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها؛ لأن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته، فإن كملت فقد أفلح ونجح، وإن نقصت قال الله: «انظروا ما كان لعبدي من تطوع فكملوا به فريضته»[310] وكذلك سائر الأعمال تجري على هذا المنوال. ولأنها من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد لحديث: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ»[311]

ولهذا قال: أن أصلي ركعتي الضحى، وهما خير من الدنيا وما فيها، وفي الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً مطلوب منه أن يتصدق عن كل مفصل بصدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، وتأتي الرجل فتحمله على دابته أو سيارته صدقة، أو ترفع له متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، فهي بمثابة الصدقة عن سائر هذه الأعضاء وقد صلى النبي ﷺ في بيت أم هانئ يوم الفتح ثماني ركعات وذلك ضحى، ولهذا يستحب فعلها في البيت؛ لأنها من الأسباب التي تدخل في البيت البركة وسعة الرزق، وتحف أهل البيت الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِى بُيُوتِكُمْ، فإن الله جاعل في بيوتكم من صلاتكم خيرًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ قُبُورًا»[312] أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها، وعلى كل حال فإنه لا أفضل من مسلم يعمر في الإسلام لتسبيحة أو تهليلة أو صدقة أو صلاة ركعة أو صيام يوم... وهنا حديث يسمعه بعض الناس وهو قوله: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» رواه أهل السنن. لكن الأئمة ضعفوا هذا الحديث، وحكموا ببطلانه، وأنه يجوز للإنسان أن يصوم ما شاء بعد منتصف الشهر إلا أنه لا يجوز أن يصوم يوم الشك لقول النبي ﷺ: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ»[313] ومثله الحديث الوارد في فضل النصف من شعبان، وأنه يكتب فيه الآجال، ويغفر فيه لأكثر من شعر غنم كلب؛ فإنه حديث باطل لا صحة له، والتجمع في هذا اليوم لقصد فضله بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ومثله التجمع في سبع وعشرين من رجب؛ لزعمهم أنه وقت الإسراء والمعراج؛ فإن هذا غير صحيح ولا ثابت، فإنه لم يحفظ بطريق النقل الصحيح الشهر الذي أسري برسول الله ﷺ، فيه فهذا التجمع في وقته يعتبر من البدع، أشبه التجمع للمولد، فكلها من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان فاتبعوا ولا تبتدعوا.

وإن الموتى في قبورهم يتمنون الزيادة في أعمالهم، ويتمنون أنهم أحياء مثلكم ليعملوا أعمالاً صالحة، وقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون. يقول أحدهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ١٠٠ [المؤمنون: 99-100] فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون، وأنتم الآن في شهر شعبان، فمن كان عليه شيء من رمضان فليبادر بقضائه ثم يبيت العزم لصيام رمضان، فإن الإنسان بخيرٍ ما نوى الخير. كما أن من أتى فراشه ومن نيته أن يقوم من الليل، فغلبه النوم، فإنه يكتب له قيام ليله، ويكون نومه عليه صدقة. وكان النبي ﷺ إذا غلبه النوم عن قيام ليله، صلى من النهار ثماني ركعات.

أسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره، وشكره وحسن عبادته.

* * *

[303] رواه ابن أبي الدنيا أبو بكر في كتاب الفرج بعد الشدة والحكيم في نوادره والبيهقي وأبو نعيم في الحلية كلهم من حديث أنس بن مالك. [304] رواه الحاكم من حديث معقل بن يسار وقال: صحيح الإسناد. [305] من حديث رواه أحمد والطبراني من حديث أنس بن مالك. ورواه النسائي من حديث أسامة ابن زيد. [306] من حديث رواه الترمذي من حديث معاذ وقال: حديث حسن صحيح. [307] متفق عليه من حديث عائشة. [308] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة. [309] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [310] رواه أهل السنن أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، والإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط، وأبو يعلى في مسنده، جميعًا من حديث أبي هريرة. [311] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [312] متفق عليه عن ابن عمر بدون لفظ: «فإن الله جاعل في بيوتكم من صلاتكم خيرًا». [313] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

(34) الذكرى لآخر شعبان والاستعداد بالعمل لدخول شهر رمضان

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد: فيا أيها المستمعون الكرام، إنكم الآن في آخر شهر شعبان وعما قليل يستهل عليكم شهر رمضان الذي هو غرة الزمان، ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام.

فمن جحد وجوبه فهو كافر بإجماع علماء الإسلام. ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان، قال ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: ثلاث أسس عليهن الإسلام: الشهادتان، والصلاة، والصيام.

ومن خصائص شهر شعبان هو أن رسول الله ﷺ كان يكثر الصيام فيه فيقول: «إنه شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ»[314] أما ما ورد في فضله، وأنه تكتب فيه الآجال، وكذا ما ورد في ليلة النصف منه، وأنه يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم كلب، وأن النبي ﷺ أحيا ليلة النصف بالصلاة، فكل هذا من الكذب على الرسول باتفاق علماء الحديث. وأما حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا إلا فيما افترض عليكم فقد صح عن علماء الحديث عدم صحة هذا الحديث، وأنه يجوز أن يصوم من آخر شعبان كما يصوم من أوله لا فرق في ذلك؛ غير أنه لا يتقدم رمضان بصوم يوم قبله أو يومين، فإن هذا يوم الشك الذي نهى رسول الله ﷺ عن صومه.

أقبل شهر رمضان فرحب به المؤمنون، وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون في رمضان في صلاة وصيام، وتلاوة قرآن، وبسط يد بالصدقة والإحسان، فهم في نهارهم صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم المتقون. أما الملحدون فإنهم يستحلون فيه الإفطار، وتمد لهم الموائد بالنهار، قد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3] إنه ينبغي لنا قبل استهلال رمضان أن نحاسب أنفسنا، وأن نتوب إلى الله من سيئات أعمالنا، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، والتائب من ذنبه، المحافظ على فرائض ربه؛ ينتظر الرحمة والفوز بالجنة. والمصر على معصيته، المتكبر عن طاعة ربه، ينتظر حلول العقاب والنقمة. وكل عامل سيقدم على عمله ولن يخرج من الدنيا حتى يبشر بحسن عمله، أو سوء عمله، وإنما الأعمال بخواتيمها. وخير الناس من طال عمره وحسن عمله. وشر الناس من طال عمره وساء عمله.

إن صيام رمضان عبادة دينية، ورياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية، أوجبه وشرعه من يعلم ما في ضمنه من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنه من أسباب سعادتهم الدينية والبدنية؛ لأن شرائع الإسلام منزلة على جلب المصالح، ودفع المضار، فلا يوجب الله شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة.

ومن حكمة الصوم أن الله شرعه لتظهر به عبودية العبد للرب، في سرائه وضرائه، فيطيع ربه فيما يحب، وفيما يكره، فيمسك صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه، في سبيل رضا ربه ومحبوبه، والله يقول: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[315]. فالمسلم لو ضرب على أن يستبيح الفطر في نهار رمضان، لما استباح الفطر أبدًا؛ لكون إيمانه يمنعه عن إحباط أعماله وهذا هو العنوان على صحة الإيمان؛ لأن الإيمان الصحيح هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
ومن حكمة الصيام أن الله جعله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، فهو بمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، به يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ [الأنعام: 125] فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله؛ من صلاته وصيامه وزكاته، وسائر واجباته، منشرحًا بذلك صدره طيبة به نفسه.
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في مرادها الأجسام
يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2] فحكمة الرب تأبى أن يدع الناس على حسب ما يدعون بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا أله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، بدون أن يختبر صحة دعواهم بالأعمال التي افترضها الله عليهم، فإن قاموا بما أوجب الله عليهم فقد صح إيمانهم، وصدق قولهم فعلهم، ولهذا قال: ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ [العنكبوت: 3]. أي اختبرنا الأمم من قبلهم، بالشرائع والفرائض؛ كفريضة الصلاة، وفريضة الزكاة، والصيام ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ [العنكبوت: 3] أي في دعوى إيمانهم، فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم، وزكاتهم، وصيامهم﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ [العنكبوت: 3] أي: الذين يقولون: ﴿ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ [المائدة: 41] ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام؛ هو محض التسمي به، والانتساب إلى أهله بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9] فقد أخبر الله بأنه امتحن بالشرائع من كان قبلنا من الأمم، ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٣ [الأنفال: 37] من ذلك فريضة الصيام، فقد فرض على من كان قبلنا صيام خمسين يومًا؛ لكنهم يجيزون للقسيسين والرهبان بأن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون وما يشتهون. فلما رأى القسيسون أن الصيام تطول مدته عليهم، ويحول بينهم وبين ما يشتهون، أخذوا يسقطون منه عشرة، فعشرة، حتى أسقطوه بالكلية، وجعلوا الصيام عن مجرد كل ذي روح، وجعلوا صومهم في خاصة الربيع، لهذا لعنهم الله في كتابه على تغيير شرائعه، وتبديل فرائضه، فقال سبحانه: ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ [المائدة: 13] فعلمنا من فحوى هذه الآية أن المحافظة على فرائض الله أنها حظ من الله يخص به من يشاء من عباده.

وهذا الذم ينطبق على كل من فسق عن أمر ربه، وترك فرائضه واستحل محارمه، كهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويتسمى أحدهم بالإسلام، بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، وقد أخبر النبي ﷺ أن للإسلام صوًى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه. وروى الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب». ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس؛ بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.

أما من يتسمى بالإسلام، وهو لا يصلي ولا يصوم، ولا يؤدي الزكاة الواجبة في ماله، فلا شك أن إسلامه لا حقيقة له، وإنما هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون عمل. لهذا نقول إنه لا يستحل ترك الصلاة والفطر في نهار رمضان عمدًا من غير عذر سوى مرتد كافر بدين الإسلام. ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان، لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان. فهو شر من الكلب والخنزير، قد عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر سبحانه بقتل التارك لدينه من أمثاله إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقه فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل.

والمرء على دين خليله وجليسه، واعتبروا الناس بأخدانهم. قُتِل هذا الملحد ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها، وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان. ومع هذا الكفر المتظاهر البواح، نراه يتسمى بالإسلام، قد جمع بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه، ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[314] رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي، والبيهقي في شعب الإيمان، جميعًا من حديث أسامة بن زيد. [315] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(35) الذكرى الجامعة لفوائد الصيام

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وامتن علينا ببلوغ شهر الصيام والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعد:

فيا أيها المستمعون الكرام؛ فإنني أبارك لكم في شهر رمضان، وأسأل الله أن يجعله مستهلاً علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسلامة والسلام، والتوفيق لصالح الأعمال، إن شهر رمضان هو غرة الزمان، ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن، وأوجب فيه على المسلمين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام، الذي ما تم دين إلا به ولا استقام، ومن جحد وجوبه فإنه كافر بإجماع علماء الإسلام.

فهو شهر جد واجتهاد، ومزرعة للعباد، وتطهير للقلوب من الفساد، وقمع لشهوة الشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا، حمد عاقبة أمره وقت الحصاد، وقد أقسم رسول الله ﷺ، وقسمه حق وصدق، أنه ما مر بالمسلمين شهر هو خير لهم من رمضان؛ لأن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.

شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران؛ وذلك بسبب توسع الناس في العبادات، وتسابقهم إلى الصلوات، وتنافسهم في الأعمال الصالحات، التي من جملتها بسط الأيدي بالصدقات، وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام وذي الحاجات، والإكثار من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتكثير أيدي المفطرين من الصوام على الطعام. وهذه الخلال جدير بأن يفتح لفاعلها أبواب الجنان، وتغلق عنه أبواب النيران. ولهذا كان رسول الله ﷺ أجود ما يكون في رمضان، فيتضاعف جوده بالعطاء والصدقة والإحسان، قدرًا زائدًا على سائر الزمان؛ لأن الله يختص برحمته من يشاء، فيفضل إنسانًا على إنسان، وزمانًا على زمان، ومكانًا على مكان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطيئة، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن المحروم من حرم فيه رحمة الله عز وجل، ولهذا كان رسول الله ﷺ يبشر أصحابه بقدوم رمضان، ويقول: «أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر كتب الله عليكم صيامه. شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيم سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة. وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن. من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء»[316]. ولأجل هذه الفضائل جرى تبادل التهاني بين المؤمنين في دخوله، بحيث يهنئ بعضهم بعضًا ببلوغه؛ لأن بلوغه نعمة عظيمة في حق من أطاع الله واتقاه، إذ لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام، للتزود من الصلاة والصيام وصالح الأعمال. والموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم بصدقة أو صلاة أو صيام، ويتمنون لو أنهم أحياء مثلكم؛ ليعملوا أعمالاً صالحة، يقول المفرط منهم: ﴿...رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما طلبوا، فقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون، والدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة. من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات، ورد على الآخرة فقيرًا وساءت مصيرًا.

إن الله سبحانه افترض على عباده المؤمنين صوم رمضان، ولم يشرع الله الصيام إلا لمصلحة تعود على الناس من صحة أبدانهم، وزيادة إيمانهم؛ لأن شرائع الإسلام منزلة على جلب المصالح ودفع المضار، فلا يوجب الله شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة، وقد شرع الله الصيام لأنه من أسباب الصحة للأجسام، بحيث يعقب البدن الصحة، أشبه الحمية التي يحفظ بها الإنسان صحته؛ لأن في البدن فضولاً سيالة تنشف بالصوم، فتقوى العضلات، ويشتهي الطعام باشتياق؛ أشبه تضمير الخيل للسباق. وفي الحديث: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[317] وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ »[318] أي أنه يزكي البدن وينقيه.

ومن المشاهد المحسوس أن الذين يتنفلون بالصيام، أنهم من أصح الناس أجسامًا، وأطول الناس أعمارًا؛ لأن للطاعة ضياء في الوجه، وقوة في الجسم، ثم إن الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام هي بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، ذلك بأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم، حتى يميز الخبيث من الطيب بأعمالهم. يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2] أي لا يختبرون، ولا يمتحنون على صحة ما يدعون ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ [العنكبوت: 3] أي اختبرنا الأمم قبلكم بالفرائض والحدود والمحرمات، ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ [العنكبوت: 3] في دعوى إيمانهم حيث قاموا بواجباتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ [العنكبوت: 3] الذين قالوا: ﴿ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ [المائدة: 41] ولم تنقد للعمل به جوارحهم وكان حظهم من الإيمان هو محض التسمي والانتساب إليه بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، وهذه الصفة تنطبق على كثير من الناس في هذا الزمان، يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يقول أحدهم أنا مسلم، أنا مؤمن أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله. وهم لا يصلون ولا يصومون، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق ويستحل بعضهم الفطر في نهار رمضان عمدًا من غير عذر، ومن المعلوم من دين الإسلام، أنه لا يستحل الفطر في نهار رمضان عمدًا بدون عذر إلا مرتد كافر بدين الإسلام، ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان، لكنه يعيش بروح أخس حيوان، فهو شر من الكلب والخنزير. قد عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل التارك لدينه، إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد به أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه، ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3] دخل شهر رمضان، ففرح به المؤمنون، وكرهه الزنادقة الملحدون، فالمؤمنون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة قرآن، وبسط أيد بالصدقة والإحسان، فهم في نهارهم صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗا [الأنفال: 4].

ومن أحكام الصيام الفقهية: أنه يجب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل ويؤمر به الصبي إذا طاقه.

أما مختل الشعور، عديم المعرفة فإنه لا يجب عليه صيام ولا إطعام.

أما كبير السن الذي تجاوز ثمانين سنة والصوم يشق عليه فوق المشقة المعتادة فإنه يجوز له الفطر، ويخرج عن كل يوم إطعام مسكين أي كيلو من الأرز أو قدر قيمته لما روى البخاري عن ابن عباس قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا. أما المريض الذي يتناول الأدوية في المستشفى فإنه يفطر ويقضي أيامًا أخر. أما الذي مرضه مزمن كداء الصدر الذي يسمونه داء السل، ويقول الطبيب إن الصوم يزيد في مرضه، ويؤخر من برئه، فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا كما ذكرنا.

ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، ولا قضاء عليه، ومن أكل أو شرب ظانًّا أنه ليل فتبين أن الصبح طالع، فصيامه صحيح ولا قضاء عليه. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ»[319] ومن استيقظ آخر الليل وعليه جنابة ويخشى إن اغتسل أن يفوته السحور فإنه يتسحر ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، لما في البخاري عن أم سلمة قالت: كان رسول الله ﷺ يصبح جنبًا من جماع ثم يغتسل ويصوم ولا يقضي.

والمرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل ورأت النقاء أي البياض فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام وتصوم كما يصوم الناس، ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، أو إلا بعد طلوع الشمس، وصيامها صحيح، ثم إن الاغتسال عن الحيض هو مثل الاغتسال عن الجنابة على حد سواء، فلا يجب عليها أن تنقض شعر رأسها، وإنما تروي أصوله بالماء فقط، وكذلك النفساء، متى انقطع عنها دم النفاس لعشرة أيام من الولادة، أو العشرين يومًا، فإنه يجب عليها من حين ينقطع عنها الدم أن تبادر إلى الاغتسال، ثم إلى فعل الصلاة والصيام، من غير تأخير، فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين.

أما ما يفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم النفاس، أو دم الحيض، ثم تبقى اليومين والثلاثة لا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم وفي كلها تقول: أخشى أن يعود عليّ الدم. فهذا خطأ وتفريط منها في العبادة. فمن واجب المسلمة متى انقطع عنها الدم أن تبادر إلى الاغتسال في الحال ثم إلى فعل الصلاة والصيام من غير تأخير. والمرأة من نساء البوادي متى كانت في البر، وانقطع عنها دم الحيض، أو دم النفاس، وليس عندها ماء لتغتسل به، فإنه يجب عليها أن تضرب الصعيد أي التراب بيديها تنوي بذلك رفع الحدث عنها، ثم تصوم وتصلي، لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ - أي والمسلمة - وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ»[320] والمرأة إذا اغتسلت من الحيض والنفاس ثم رأت شيئًا من الصفرة أو الكدرة، فلا تبالي به بل تصوم وتصلي، لما في البخاري عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئًا. وإذا رأت المرأة دم الحيض بعد غروب الشمس؛ أي بعد الفطر وشكت فيه هل حدث معها قبل غروب الشمس أو بعدها. فإن صيامها ذلك اليوم صحيح ولا تقضيه؛ إذ هو اليقين، والشك لا يرفع اليقين، وإذا رأت الحامل شيئًا من الدم فلا تترك له الصوم ولا الصلاة. بل تصوم وتصلي وصيامها صحيح؛ لأن هذا الدم ليس بحيض وإنما هو دم فساد يشبه الدم الخارج من الرعاف، أو من الجرح.

ثم إن تناول السحور وقت السحر سنة وفضيلة، وقد سماه رسول الله ﷺ بالغداء المبارك وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ»[321]. وقال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ»[322]. وقال: «تَسَحَّرُوْا وَنِعْمَ السُّحُورُ التَّمْرُ»[323] وقال: «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»[324]. وقال: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِى السَّحُورِ بَرَكَةً»[325]. وقال: «تَسَحَّرُوا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ»[326]. فأرشد النبي ﷺ أمته إلى فضيلة السحور ولو بأقل شيء ليتقووا به على الصيام، وحتى يتعودوا التيقظ آخر الليل لذكر الله والدعاء والاستغفار والصلاة وتلاوة القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرِ فَأَغْفِرَ لَهُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»[327].

فأحب رسول الله ﷺ لأمته أن يستيقظوا في هذا الوقت المبارك، حتى يكون منهم من يصلي، ومنهم من يدعو، ومنهم من يستغفر، ومنهم من يتلو القرآن، وحتى لا يكونوا من الغافلين. فسماه السحور المبارك من أجل ذلك. ومن أجل أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. وهذه فضيلة عظيمة، ويتبعها ما هو أفضل منها، وهو شهود المتسحرين لصلاة الفجر في جماعة، والذي ورد في فضله أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ كله»[328] وقال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُمْسِيَ»[329] أما الرجل الأكول النؤوم، الذي يملأ بطنه بعد العشاء من الطعام ولحوم الأنعام، ثم ينام عليه بعد العشاء، ويجعله سحورًا، ولعله لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، أو إلا وقت الضحى، فهذه خصلة ذميمة وعادة لئيمة، وكم فات رقاد الضحى من غنيمة، فإن التقلل من الأكل أو التيقظ وقت السحر فضيلة. كما أن كثرة الأكل، وكثرة النوم رذيلة.

وفي وقت السحر تتنزل الرحمة، وتقسم الغنيمة على القائمين، فما يطلع الفجر إلا وقد حاز القائمون الغنيمة، وحمدوا عند الصباح السرى، وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
والنبي ﷺ قال: «لاَ يَمْنَعَنَّکم مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ ولا الفجر المستطير في الأفق، إن بلالاً يؤذن بليل، ليوقظ نائمكم، ويرد غائبكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»[330] وكان أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت، أصبحت.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[316] رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان. [317] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة. [318] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [319] رواه ابن ماجه من حديث أبي ذر والطبراني من حديث ابن عباس. قال الحاكم: صحيح بنصه: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». ولابن ماجه من حديث ابن عباس: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقيل فيه: أنه حسن لذاته صحيح لغيره. [320] رواه الترمذي والإمام أحمد في مسنده، والبزار في مسنده، جميعًا من حديث أبي ذر. [321] رواه ابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر ابن الخطاب ورواه أحمد بإسناد قوي من حديث أبي سعيد الخدري. [322] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص. [323] رواه الطبراني من حديث السائب بن يزيد. [324] أخرجه أبو يعلي من حديث أنس، وهو ضعيف لضعف عبد الواحد الباهلي. ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر. [325] متفق عليه وأخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري. والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن مسعود. [326] أخرجه الطبراني من حديث عتبة. وفي السند ضعف. [327] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. [328] رواه مسلم، والإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه من حديث عثمان بن عفان. [329] رواه الطبراني من حديث والد أبي مالك الأشجعي وإسناده حسن ولكن بلفظ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ». [330] رواه مسلم من حديث سمرة بن جندب بلفظ آخر.

(36) الذكرى الثانية من رمضان

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين آزروه ونصروه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون الكرام أحييكم بتحية الإسلام، وأبارك لكم في بلوغ شهر الصيام والقيام، وأسأل الله سبحانه أن يجعله مستهلاً علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والتوفيق لصالح الأعمال.

إن شهر رمضان موسم عظيم، وشهر شريف كريم، هو غرة الزمان ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام. فمن جحد وجوبه فإنه كافر بإجماع علماء الإسلام، «ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان»[331].

قال ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: ثلاث أسس عليهم الإسلام؛ الشهادتان والصلاة والصيام.

استهل هذا الشهر ففرح به المؤمنون، وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون لا يزالون فيه في صلاة وصيام، ودعاء واستغفار وتلاوة قرآن، وبسط اليد بالصدقة والصلة والإحسان. فهم في نهاره صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون. أولئك هم المؤمنون حقًّا.

أما المنافقون فإنهم يستحلون فيه الإفطار، وتمد لهم فيه الموائد بالنهار، وقد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار. ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3]. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ [المرسلات: 48].

وقد أقسم رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنه ما مرّ بالمسلمين شهر خير لهم من رمضان. يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطيئة، ويستجيب الدعاء. ينظر الله إلى تنافسكم في الخيرات، وتسابقكم إلى الصلاة والأعمال الصالحات، وبسط أيديكم بالصدقات، فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن المحروم من حرم فيه رحمة الله عز وجل.

والصوم عبادة دينية، ورياضة بدنية، وتأديب للشهوة الإنسانية لتتعود الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله. وكان رسول الله ﷺ يبشر أصحابه بقدوم رمضان، ويقول: «إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر كتب الله عليكم صيامه، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا. من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.

وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن. من فطر فيه صائمًا كان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء»[332].

ولأجل هذه الفضائل جرى تبادل التهاني بين المؤمنين في دخوله، بحيث يهنئ بعضهم بعضًا ببلوغه؛ لأن بلوغه نعمة عظيمة، ومنحة جسيمة في حق من أطاع الله واتقاه، إذ لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام للتزود من الصلاة والصيام وصالح الأعمال، والموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم.

ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة. يقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا قد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون، فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه. وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.

والدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحات، من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.

وشهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب توسع الناس في العبادات وتنافسهم في الأعمال الصالحات التي من جملتها الإكثار من الصلوات والصدقات، وصلة القرابات والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات، ثم الإكثار من الذكر والدعاء، والاستغفار وتلاوة القرآن وتكثير أيدي المفطرين من الصوم على الطعام.

فهذه الخلال جدير بأن يفتح لفاعلها أبواب الجنان، وتغلق عنه أبواب النيران، وأن يتسع بسببها الرزق في رمضان. وكان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فيتضاعف جوده بالعطاء، والصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن قدرًا زائدًا على الزمان؛ لأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان، ومكانًا على مكان، وزمانًا على زمان. وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان، على سائر شهور العام. فهو شهر جد واجتهاد، ومزرعة للعباد، وتطهير للقلوب من الفساد، وقمع لشهوة الشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وهذا التكفير، إنما يراد به صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما كبائر الذنوب مثل الربا والزنا وشرب الخمر وقتل النفس وأكل أموال الناس، فهذه لا يكفرها الصيام ولا الصلاة ولا الحج، وإنما تكفر بالتوبة بشرطها ورد المظالم إلى أهلها.

لهذا يجب على المسلم أن يصون صومه عن كل ما يفسده أو ينقص ثوابه لكون الصيام قربانًا تقربونه إلى الله. يدع الصائم شهوته من مطعومه ومشروبه، لقصد رضا ربه ومحبوبه والله تعالى يقول: «الصَّوْمَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[333].

ثم إن الصيام شعار وعنوان للمؤمنين، يمتازون به عن القوم الكافرين، فهو الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، كما أنه محك التمحيص للأمانة وصحة الإيمان.

فلو ضرب المسلم على أن يستبيح الفطر لما استباح الفطر أبدًا؛ لأن دينه سينهاه عن إحباط أعماله وإبطال صيامه، ونحمد الله أن هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ثم إنه ليس الصيام عن مجرد الطعام والشراب قط، إنما الصيام عن اللغو والرفث، ومن لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن السب واللعن، والغيبة والنميمة والكذب؛ لأن الصوم جنة، يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام، ورديء الكلام، وظلم الأنام، فإن سابه أحد أو شتمه أحد، وجب أن يلجم لسانه بلجام التقوى، وأن يتمسك من الورع بالعروة الوثقى، وليقل: إني صائم، كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام، وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان، ومن كان الصوم له جنة في الدنيا عن الآثام، كان له جنة عن النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

ومن أحكام الصيام الفقهية: أنه يجب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل، ويؤمر به الصبي إذا طاقه للتمرين على العبادة. وقد رخص لكبير السن من رجل وامرأة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

أما مختل الشعور، عديم المعرفة، فإنه لا صيام عليه ولا إطعام، لكونه مرفوعًا عنه القلم.

أما المريض الذي يزيد الصوم في مرضه، أو يؤخر من برئه، فإنه يفطر مع العزم على القضاء؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصه. أما إذا كان مرضه مزمنًا، أي ملازمًا له كمرض السل، أو القرحة داخل البطن، ويقول الأطباء إن الصوم يزيد في مرضه، أو يؤخر من برئه؛ فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا، وقدروا الإطعام بمد من الطعام، وإن أطعم المسكين من طعامه أكلة تامة فقد أدى الواجب.

ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه، ولا قضاء عليه، وإن استيقظ فأكل وشرب ظانًّا أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أن الفجر طالع فصومه صحيح ولا قضاء عليه أشبه الناسي. والنبي ﷺ قال: «عُفِيَ لِأُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[334].

ومن استيقظ آخر الليل وعليه جنابة، ويخشى إن اشتغل بالغسل أن يطلع عليه الفجر ويفوته السحور، فإنه يجوز له أن يتسحر ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر، لما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ كان يصبح جنبًا من جماع ثم يغتسل ويصوم ولا يقضي، فعل ذلك للتشريع. ومن غلبه القيء فخرج بغير اختياره فصيامه صحيح. ويجوز للصائم أن يستاك أول النهار وآخره لما في البخاري عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي ﷺ لا أعد ولا أحصي يستاك وهو صائم. والسواك مطهرة للفم، مرضاة للرب. وبمعناه غسل الأسنان بالمعجون، فإنه يجوز، وليحذر من دخوله إلى جوفه.

ومثله شم الطيب ومسه، فإنه جائز ولا يجرح صومه. ومن احتاج إلى ضرب إبرة في ظهره، أو في عضده، أو فخذه فإنه يجوز، وصيامه صحيح؛ لأن الصحابة كانوا يضعون الأدوية في الجروح والشجاج ولا يرونها مفطرة، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

والمرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل، ورأت أمارة النقاء، فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام وتصوم ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس، وصيامها صحيح؛ لأنه لا يشترط للصوم الطهارة من الحدث، وإنما يشترط لصحته انقطاع دم الحيض فقط. ويجب عليها المبادرة بالاغتسال من حين ينقطع عنها الدم فتغتسل كما تغتسل للجنابة، ولا يلزمها أن تنقض شعر رأسها، بل يكفيها أن تروي أصوله بالماء؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. وكذلك النفساء، متى انقطع عنها دم النفاس بعد عشرة أيام من الولادة، أو بعد عشرين يومًا فإنه يجب عليها المبادرة بالاغتسال للصوم والصلاة، من حين ينقطع عنها الدم، لاعتبار أنها طاهرة من الطاهرات. وأما ما يفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم الحيض، أو دم النفاس، ثم تمكث اليوم واليومين لا تغتسل ولا تصوم ولا تصلي وفي كلها تقول أخشى أن يعاودني الدم فإن هذا خطأ وتفريط منها في عبادة ربها.

فمن واجب المسلمة أن تبادر إلى الاغتسال من حين ينقطع عنها الدم، ثم تصوم وتصلي، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. أما المرأة من نساء البوادي فإنه متى انقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس وليس عندها ماء تغتسل به تضرب التراب بيديها وتمسح به الوجه واليدين، تنوي بذلك الطهارة عن الحدث، وتعتبر طاهرة، ثم تصوم وتصلي، وتمس المصحف أو تقرأ القرآن، وتفعل كل ما يفعله النساء الطاهرات إلى أن تجد الماء فتغتسل به.

لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ»[335] أي يغتسل به.

وإذا رأت شيئًا بعد الغسل من الصفرة، أو الكدرة فإنها لا تبالي بذلك، بل تمضي في صومها وصلاتها، لما روى البخاري عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئًا. ومتى صامت المرأة ثم أفطرت بعد غروب الشمس، وبعد فطرها رأت شيئًا من دم الحيض ولم تدر هل حدث عليها قبل غروب الشمس أو بعدها فإن صيامها ذلك اليوم صحيح، ولا قضاء عليها؛ لأن الشك لا يرفع اليقين. والأصل الطهارة، والدم الخارج من الحامل ليس بحيض بل هو دم فساد يشبه دم الرعاف، فلا تترك من أجله الصوم ولا الصلاة، بل تصلى وتصوم وصومها صحيح.

والنبي ﷺ قال: ««لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطير في الأفق، إن بلالاً يؤذن بالليل؛ ليوقظ نائمكم، ويرد غائبكم. فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وكان أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت. أصبحت»[336].

وقال: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ شَاءَ أَمْ أَبَى»[337].

والله تعالى يقول: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ [البقرة: 187].

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

* * *

[331] رواه البخاري في صحيحه تعليقًا من حديث أبي هريرة. [332] رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان. [333] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [334] رواه البيهقي في السنن الكبرى من حديث ابن عمر، والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس، والطبراني في الكبير والأوسط والصغير، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني، وابن ماجه، جميعًا من حديث ابن عباس. [335] رواه البزار من حديث أبي هريرة وإسناده صحيح. [336] أخرجه مسلم بلفظ آخر من حديث عبد الله بن عمر وبعضه من حديث سمرة بن جندب. [337] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

(37) الذكرى الثالثة من رمضان

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض بالخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات، وأشهد أن محمدًا رسول الله صاحب الآيات والمعجزات. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 183-184].

نادى الله عباده باسم الإيمان؛ بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم؛ ولهذا تأخر فرض صيام رمضان إلى السنة الثانية من الهجرة، لاستعدادهم بكمال قوة الإيمان، لكون الإيمان هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات، ومتى قوي الإيمان في القلب؛ نشطت الأعضاء على أداء الأعمال الشاقة، حتى تعود في نفسه سرورًا ولذة.

وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»[338].
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في مرادها الأجسام
وفي صحيح مسلم عن العباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا».

وهذه الصيغة أي: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لا توجد إلا في السور المدنيات، وقد قال بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فأصغ لها سمعك، فإنها خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.

والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع في نهار رمضان بنية خالصة لله. وهو عبادة دينية، ورياضة بدنية، وتأديب للشهوة الإنسانية، كي تتعود الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله، فهو محض تمحيص للقوى التي حقيقتها أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله.

وأخبر سبحانه أنه كما فرضه علينا فقد فرضه على من كان قبلنا من الأمم، غير أنه يختلف صومنا عن صومهم في العدد والزمان، يقول الله تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا [المائدة: 48]. ثم قال: ﴿أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖ أي قلائل. وهذه الأيام؛ هي رأس مال الإنسان، وموضع ربحه أو خسرانه. وإذا مات الإنسان وقد أنهى عمرًا طويلاً في الحياة؛ فإن كان من أهل الخير والمحافظين على الصيام والصلاة بشر بالخير. فيقال له: كم لبثت؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: نعم ما اتجرت في يوم أو بعض يوم.

ويؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الجبارين المتكبرين، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فيقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: بئس ما اتجرت في يوم أو بعض يوم.

أيها المستمعون الكرام إن الدنيا مزرعة الآخرة، وإن كل عامل سيقدم على عمله، وإنه لن يخرج من الدنيا حتى يبشر بحسن عمله أو سوء عمله، وإن شهر رمضان شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد، وتطهير للقلوب من الفساد، قمع لشهوة الشر والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد.

وقد ثبت مضاعفة ثواب الصدقة والأعمال الصالحة في رمضان، ففي صحيح الترمذي عن أنس قال: سئل النبي ﷺ أي الصدقة أفضل؟ قال: «صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ». لأن من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه؛ لهذا كان رسول الله ﷺ أجود ما يكون في رمضان، فيتضاعف جوده بالعطاء والصدقة والدعاء وتلاوة القرآن، وكان الصحابة والسلف الصالح الكرام، تبسط أيديهم بالصدقة والإحسان رجاء مضاعفة ثوابها في رمضان.

ومنهم من يجعله وقتًا لإخراج زكاة المال؛ لقصد أن يتقوى بها من يعطاها من الصوام.

والزكاة هي قنطرة الإسلام، وهي الدليل والبرهان على صحة الإيمان، وإنما سميت زكاة؛ من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه، وتنزل البركة فيه، حتى في يد وارثه.

كما سميت صدقة من أجل أنها تصدق إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله.

فيا معشر التجار إن الله سبحانه قد أنعم عليكم بنعمة الغنى بالمال، وإن المال كاسمه ميال، إذ دوام الحال من المحال. وقد سمى الله المال خيرًا لمن أراد الله به الخير، وهذا الخير كالخيل؛ لرجل أجر وعلى رجل وزر. فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا؛ فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا حتى يكون أسعد الناس بماله في حال حياته وبعد وفاته. فإن مال الإنسان ما قدم، وما نقصت الزكاة مالاً، بل تزيده ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].

ومن سنن رمضان صلاة التراويح، فقد سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً.

وما شاع على ألسنة بعض الناس، وفي بعض كتب المتأخرين، من قولهم إن التراويح بدعة حسنة، فهذا لا أصل له، فليس في الإسلام بدعة حسنة بل كل بدعة سيئة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والنبي ﷺ قال: «إن الله افترض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا ويقينًا كان كفارة لما مضى»[339].

وسميت تراويح من أجل أن الناس يطيلون القيام والركوع والسجود فيها، وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، ويستريحون بين كل أربع ركعات، ولا ينصرفون إلا في فروع الفجر.

وفي البخاري أن رسول الله ﷺ صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى غص المسجد بالناس، فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ»[340].

وقد زال هذا المحذور الذي خشيه رسول الله ﷺ بموته، وبقي الاستحباب على حاله. فتعتبر صلاة التراويح جماعة أنها سنة سنها رسول الله ﷺ لأمته. ويدل له حديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[341].

فكان الناس زمن النبي ﷺ، وزمن أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، يصلون أوزاعًا متفرقين، يصلي الرجل بالرجلين والثلاثة، ويصلي بالرهط ويصلي الرجل وحده، فقال عمر: أما إني لو جمعت هؤلاء على إمام واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمع الرجال على أبي بن كعب، والنساء على تميم الداري. واستمر الأمر على هذه الحالة، فخرج عمر ليلة ورأى الناس يصلون مجتمعين فأعجبه ما رأى فقال: نعمت البدعة[342].

وليس معنى قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة. أنه الذي ابتدع صلاة التراويح جماعة، فقد صلاها رسول الله ﷺ جماعة ثلاث ليال واعتذر عن مواصلة عمله؛ خشية أن تفرض على الناس. وإنما أراد بقوله: نعمت البدعة. يعني: تنظيم الناس للاجتماع لها؛ حيث ضم سائر الجماعات والأفراد لصلاة التراويح على إمام واحد.

والتراويح هي من قيام الليل، وليست محصورة بعدد، فبعضهم يصليها بأربعين، وبعضهم بست وثلاثين، وبعضهم يصليها بعشرين، وبعضهم يصليها بثمان، ويوتر بثلاث. وفي البخاري عن عائشة قالت: ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.

ولنعلم أن لب الصلاة الخشوع، وأن صلاة بلا خشوع كجسد بلا روح. وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون؛ لأن الله يطلب من عباده تحسين العمل لا كثرة العمل ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.

فما يفعله أكثر الناس في صلاة التراويح من السرعة الزائدة، وعدم الخشوع والطمأنينة في الركوع والسجود، فإنه خطأ، فإن صلاة ركعتين بخشوع وخضوع، في القيام والسجود والركوع، أفضل من أربع ركعات، وست ركعات بلا خشوع.

ويصليها الرجل مع الجماعة، أو في بيته. وتصليها المرأة مع الجماعة، أو في بيتها وهو أفضل.

والتراويح بما أنها من قيام الليل المرغب فيه؛ فإنها أيضًا من أسباب صحة الجسم، والعافية من السقم، فقد مر النبي ﷺ على أبي هريرة وهو يشكو بطنه، فرجفه برجله. ثم قال له: «قُمْ فَصَلِّ»[343] وروى الترمذي عن أبي أمامة أن النبي ﷺ قال: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمنهاة للإثم»[344].

وذلك أن الصائم يأتي إلى الفطور وهو بحالة الجوع، وشدة الشهوة، فيأكل ويشرب إلى غاية الشبع ونهاية الامتلاء. ومن لوازم هذا الشبع والامتلاء استرخاء الأعضاء، وسريان الفتور فيها، فيستولي عليه الضعف، فكان في أشد الحاجة إلى التخفيف والتهضيم، وإعادة النشاط؛ لهذا شرع الله على لسان نبيه صلاة التراويح؛ التي لا يزال فيها بين قيام وقعود، وركوع وسجود، حتى ينصرف منها، وقد استعاد نشاطه، ودب فيه روح السرور والهناء والغبطة، فيتحلل عنه مضرة ذلك الامتلاء، وتبقى فيه منفعته، وهذه من حكم الشريعة التي جعلها بمثابة الشفاء من سائر الأدواء وأن العبادات الشرعية تجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وبين مصالح الروح الجسد.

ثم إن تناول السحور وقت السحر سنة. وقد سماه رسول الله ﷺ بالغداء المبارك وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ»[345]. وقال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ»[346]. وقال: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةٌ»[347] وقال: «تَسَحَّرُوْا وَنِعْمَ السُّحُورُ التَّمْرُ»[348]. وقال: «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»[349]. فأرشد النبي ﷺ أمته إلى تناول السحور ورغبهم فيه ولو بأقل شيء ليستعينوا بالسحور على الصيام، ثم يتعودوا القيام من آخر الليل لذكر الله والصلاة والاستغفار؛ لأن الله سبحانه ينزل آخر الليل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ فأحب رسول الله ﷺ من أمته بأن يستيقظوا في هذا الوقت المبارك؛ حتى يكون منهم من يذكر الله، ومنهم من يستغفر، ومنهم من يصلي، ومنهم من يدعو، ومنهم من يتلو القرآن، وحتى لا يكونوا من الغافلين.

فسماه السحور المبارك من أجل ما يترتب عليه من الفضائل، ومن أجل أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين، وحسبك بها من فضيلة. ويتبعها ما هو أفضل منها، وهو شهود المتسحرين لصلاة الفجر في الجماعة، الذي ورد فيه حديث: «وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ کَمَن قَام لَيْلَةٍ كُله»[350]. وقال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ»[351] وهذا كله من فضائل التيقظ للسحر.

أما الرجل الأكول النؤوم؛ الذي يملأ بطنه من أصناف الطعام ولحوم الأنعام، ثم ينام عليه بعد العشاء، ولعله لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، أو إلاّ وقت الضحى، فلا شك أن هذه خلة ذميمة، وعادة لئيمة، فكم فاته برقاده الضحى من غنيمة.

إن التقلل من العشاء، والتيقظ وقت السحور فضيلة، فقد قيل: نم مبكرًا، وقم مبكرًا ترى الصحة أحسن ما ترى. وفي وقت السحر تنزل الرحمة، وتقسم الغنيمة، فما يطلع الفجر إلا وقد حاز القائمون الغنيمة، وحمدوا عند الصباح السرى. وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أسأل الله سبحانه، أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

[338] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [339] رواه النسائي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عبد الرحمن بن عوف بإسناد حسن. [340] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [341] متفق عليه من حديث أبي ذر. [342] أخرجه مالك من حديث عمر بن الخطاب. [343] أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [344] «صحيح سنن الترمذي»، الحديث رقم 2814، المجلد الثالث، من منشورات مكتب التربية العربي لدول الخليج. [345] أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [346] رواه النسائي من حديث عمرو بن العاص. [347] متفق عليه، ورواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك. ورواه النسائي من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن مسعود ورواه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [348] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث السائب بن يزيد. [349] رواه أبو يعلى من حديث أنس، وهو ضعيف. [350] رواه أحمد في مسنده، ومسلم من حديث عثمان. [351] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه وللحديث رواية في مسلم من حديث جندب بن عند الله بلفظ: «من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء».

(38) الذكرى الرابعة في العشر الأخيرة من رمضان وبيان زكاة الفطر

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحا ت، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم، فأوجب سبحانه على عباده الصلوات الخمس؛ مفرقة في أوقاتها المعروفة، وجعلها عمود دينهم، ورأس إيمانهم وأمانتهم.

وفرض عليهم زكاة أموالهم؛ طهرة تطهرهم، وجعلها بمثابة الدليل والبرهان على صحة إيمانهم وأمانتهم.

وكما فرض صوم شهر رمضان؛ لتمحيص تقواهم، وتكفير ذنوبهم، وليتبين به حقيقة من يطيع ربه في سرائه وضرائه فيما يحب وفيما يكره، فيصبح صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضا ربه ومحبوبه.

والله تعالى يقول: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ»[351].

وهذه الشرائع هي أم الفرائض والفضائل والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق، وتطبع في القلب محبة الرب. كما أنها بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

ذلك بأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء، فيفضل إنسانًا على إنسان، ومكانًا على مكان، وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان حيث أنزل فيه القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعله شهر جد واجتهاد، ومزرعة العباد، وتطهيرًا للقلوب من الفساد، وقمعًا لشهوة الشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد. شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.

وقد قوضت الآن منه الخيام، وتقلصت منه الليالي والأيام، وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه، والحافظ لما أودعتموه، إنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصونة، والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[352].

«صعد النبي المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين» قالوا: علام أمنت يا رسول الله؟ فقال: «جاءني جبريل عليه السلام قال: يا محمد، رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، فأدخله الله النار فأبعده فيها، قل: آمين. قلت: آمين»»[353] فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان؛ شهر النفحات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات، شهر تكفير السيئات، ثم خرج ولم يحظ منه لا بمغفرة ولا برحمة ولا بإقالة عثرة ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء، قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه حتى لم يبق للصلاح منه موضع، ولا لحب الخير من قلبه منزع، قد رضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس، وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا والله لهو الغاية في الإفلاس والإبلاس، ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين لا يتقيدون بالدين، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويدعي أحدهم الإسلام بمعنى الجنسية؛ لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم.

وقد قلنا غير مرة إنه لا يستحل ترك الصلاة والزكاة والصيام عمدًا من غير عذر، سوى مرتد عن دين الإسلام، ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان، لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان؛ فهو شر من الكلب والخنزير، قد ساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، فعصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه.

قتل هذا الإنسان ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها، وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان، ومع هذا الكفر المتظاهر البواح، فإنه يتسمى بالإسلام، قد جمع بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار، ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٩ [المرسلات: 48-49].

وقد أنزل الله على المؤمنين في كتابه المبين التعزية والتسلية عن هؤلاء المرتدين. فقال سبحانه: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٧٧ [آل‌عمران: 176-177]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥ [محمد: 25].

إنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد، فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية وتركوا الصلاة، والصيام الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، ﴿فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ١٣ [الفجر: 13] ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

هذا وإن باب التوبة مفتوح ما دام الأجل مفسوح، والعمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٣٩ [المائدة: 39] فـ«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[354]. وفي العشر من آخر هذا الشهر ترجى ليلة القدر حيث العمل فيها خير من العمل في ألف شهر، وقد نوه القرآن بفضلها، وحث النبي ﷺ على طلبها فقال في الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[355].

وكان النبي ﷺ يخلط العشرين الأول من رمضان بنوم وقيام؛ فإذا دخلت العشر الأخيرة أحيا ليله، وأيقظ أهله، وهجر فراشه، واجتهد في العبادة.

وكان يوقظ أهله، ويطرق باب علي وفاطمة، ويقول: «أَلَا تَقُومَانِ فَتُصَلِّيَانِ؟»[356] ثم يتلو: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132].

وكان يعتكف في العشر الأخيرة حرصًا على طلبها، واعتكف أصحابه معه. والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية لله لقطع أشغاله وتفريغ باله، وخلوه لمناجاة ربه، وذكره وشكره ودعائه.

واعلموا رحمكم الله أن الله أوجب عليكم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة مشروعة. ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. وليست من الفطرة في شيء.

ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهي زكاة بدن، تجب على الصغير والكبير، ولا تجب على الحمل في البطن.

قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِى زَمَانِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ»، وفي رواية: «أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ»[357].

وإنما خص هذه الأصناف بالذكر، لكونها غالب ما يقتاتون في زمنهم، وفي بلدهم، فالحضر من سكان المدينة غالب قوتهم التمر والبر والشعير والزبيب، حتى إن البر النقي يعد من القليل، وقد توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير.

أما الأعراب فغالب قوتهم الأقط واللبن، فخص هذه الأصناف بالذكر من أجل كونها غالب قوتهم، والنقود قليلة الوجود. ولا ينفي عدم الاجتزاء بغير هذه الأصناف مما لم يذكر في الحديث.

فمن كان قوتهم الأرز، جاز أن يفطروا بالأرز، أو كان قوتهم الذرة أو الدخن جاز أن يفطروا بذلك. إذ هي من أوسط ما تطعمون أهليكم، لكون الحكمة فيها، هو إغناء الفقراء الشحاذين عن تكفف الناس بسؤالهم يوم العيد. لحديث «أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ »[358].

ومن العلماء من يقول بجواز إخراج القيمة في الفطرة نقودًا؛ دراهم أو ما يقوم مقامهما في العملة، إذا كانت أنفع للفقراء. وهذا هو ظاهر مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية لكون المقصود من زكاة الفطر سد حاجة الفقراء عن سؤال الناس يوم العيد، وهو محقق في القيمة. وقد أصبح أكثر الفقراء في البلدان المثرية يسخطون الطعام بالكلية ولا يقبلونه؛ لكونه لا يقوم بسد حاجتهم، ولا بحاجة من يعولونه من أهلهم وأولادهم، من نفقتهم وكسوتهم ليوم العيد. وإنما يطلبون الفطرة دراهم؛ ليشتروا بها حاجتهم وحاجة عيالهم، فمن أجل هذه الأسباب أفتينا الناس بجواز إخراج الفطرة دراهم بدلاً من الطعام، وقدر قيمة فطرة الشخص الواحد ستة ريالات قطرية لاعتبار هذا الزمان والمكان، بحيث أن كيلو الأرز يباع في السوق بريالين، والعالي بريالين ونصف، وهو غالب قوت البلد. وقدر فطرة الشخص كيلوان ونصف. فمن أخرج هذا القدر عن كل شخص ممن يعوله، فقد برئت ذمته من عهد فطرته. ومع القول بهذا فإننا لا ننكر بجواز التفطير بالطعام من التمر أو الأرز. ولا يجوز إيداعها عند أحد لانتظار فقير يقدم إلى البلد، ولا يجوز أن تدفع إلى غني، ولا إلى قوي متكسب، ولا يجوز أن يستخدم بها أجير، ويجوز أن تدفع فطر الجماعة إلى فقير واحد، كما يجوز أن تقسم فطرة الشخص الواحد بين فقيرين أو ثلاثة. (يتم تقدير قيمة الفطرة كل سنة بحسب قيمة مكوناتها في السوق عن طريق الجهة المختصة في كل بلد).

والفقير متى تحصل على فطر من الناس وجب عليه أن يفطر بها عن نفسه، وعن سائر من يعوله؛ لكونه قد ملكها ملكًا تامًّا. فجاز أن يفطر بها ومن أدركه العيد في هذه البلاد، وأهله وعياله في بلد آخر أخرج فطرة أهله مع فطرته في البلد الذي أدركه العيد فيه. والله تعالى يقول: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧ [الأعلى: 14-17].

نسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[351] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [352] رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل. [353] الحديث بتمامه رواه الحاكم من حديث كعب بن عجرة وقال عنه: صحيح الإسناد ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث الحسن بن مالك عن أبيه عن جده، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما واللفظ له برواية من حديث أبي هريرة. [354] رواه أحمد في مسنده ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة. [355] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [356] أخرجه ابن الأعرابي في معجمه من حديث علي. [357] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد. [358] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عمر.

(39) التذكير بعيد الفطر

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين، ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين، ثم يكبر تسعًا متوالية ويقول: الله أكبر كلما هل هلال وأبدر، الله أكبر كلما صلى مصل وكبر، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الحمد لله الذي شرع لعباده طريقة العبادة، ويسر وأنار قلوب أوليائه بنور طاعاته وبصر، ونقاهم بصالح أعمالهم من دون الذنوب وطهر، وجعل لهم بكمال صومهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر، أحمده وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق فقدر، وشرع فيسر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب اللواء والكوثر، نبي الله، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا قام على قدمه الشريف حتى تفطر، وجاهد في الله حق جهاده فما توانى ولا تأخر، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصلكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله أنكم خرجتم إلى هذا المكان السعيد لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة إتمام الصيام، والهداية إلى الإسلام، وإن يومكم هذا يدعى يوم الجوائز، وهو أن كل إنسان لأجر عمله حائز، لأن سعيكم شتى، فمنكم من حظه القبول والغفران، ومنكم من حظه الخيبة والحرمان. فأما المحافظون على فرائض الطاعات، والمجتنبون للمنكرات، فعملهم مبرور، وسعيهم مشكور، وعيدهم عيد الفرح والسرور، قد حصلوا الحسنتين وفازوا بالفرحتين، فللصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم، تقبل الله منهم.

أما التاركون لفرائض الطاعات، المرتكبون للمنكرات، وشرب المسكرات، فعيدهم عيد الخيبة والندامة، وغضب الرب عليهم يوم القيامة، ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ [القيامة: 31-36].

«قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ »[359] هما عيدا أهل الإسلام، فلأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما، وعند الخروج إليهما، إشهارًا لشرفهما. وإكبارًا لأمرهما ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [البقرة: 185].

الله أكبر، الله أ كبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

عباد الله: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.

والدين - هو هذا السمح السهل الموصل بمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة - رأسه الإسلام، وعموده الصلاة، وبقية أركانه الصيام والزكاة والحج. فالإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، وقد جعل الله الصلاة والزكاة والصيام بمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار؛ لأن الإسلام علانية، والإيمان في القلب.

فالمسلم حقًّا هو من يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، وهذه الشرائع تهذب الأخلاق، وتطيب الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق؛ لأنها تنزيل الحكيم العليم، شرعها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من العبادات، كالصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالزنا والربا والقمار وشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة. فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام، هو الذي يوحد المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم.

دين من قام به ساد، وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والهوان والفساد ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

دين يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[360] ويقول: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ منه»[361]. أي بموجب الرضا التام، وفي محكم القرآن، ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188].

دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه ﴿يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ [الإسراء: 9] ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص، أن أخبرونا بما تريدون منا، وما الغرض الذي أقدمكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف، أن قالوا: نريد أن نخرج الناس من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، وأن نخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، وأن نخرجهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام.

فهذا صنيع سلفكم الكرام من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا فيه بالحجة والبيان، والسيف والسنان، حتى اتسعت حضارة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن، وأنشأوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، ونشروا العلوم والمعارف، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها بالطاعة فدامت بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت بالخيرات الدارة. أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.

وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم، وأنقص الأعداء أكثر بلدانهم، وذلك حينما ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، فعظم الخطب، واتسع الخرق، واشتدت غربة الدين.

ثم إنه نجم في هذه الأزمنة دعايات مبتدعة، كلها تحوم حول تنقص الإسلام، وعدم التسمي به، والانتساب إليه، وهي دعوة البعثية، ودعوة الشيوعية الاشتراكية، ودعوة القومية العربية. ولكل واحدة أنصار وأعوان، فتقطعت وحدة الإسلام إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض، بحجة الاشتراكية المبتدعة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا العذاب الواقع بهم من التلاحم والتطاحن بينهم، فإنه والله لن يرفع عنهم حتى يراجعوا دينهم الكفيل بنجاح علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم. ومن نصائح نبيكم لكم، أنه ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا. ولن ننسى في هذا المقام مقالة ذلك الإمام - أي مالك بن أنس - عليه الرحمة والرضوان، قال: والله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

وفي الختام فإنه ما من بلد يفشو فيها الإلحاد والزندقة، فيكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، ويتركون الصلاة والصيام الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، ويستبيحون الجهر بالمنكرات، وشرب المسكرات الوبيئة، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وتمسكوا بدينكم، قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ ٥٦ [الزمر: 56].

* * *

[359] أخرجه النسائي من حديث أنس بن مالك. [360] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة. [361] أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه.

(40) نوع ثانٍ في التذكير بعيد الفطر

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين. ثم يكبر تسعًا نسقًا، ويقول: الله أكبر كلما هل هلال وأبدر. الله أكبر كلما صلى مصل وكبر. الله أكبر كلما صام صائم وأفطر. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الحمد لله الذي شرع لعباده طريق العبادة ويسر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصر، وجعل لهم بكمال صومهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر. أحمده وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق فقدر، وشرع ويسر، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، صاحب اللواء والكوثر. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين أذهب الله عنهم الشرك وطهر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله، أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر إتمام الصيام، والهداية إلى الإسلام. وإن يومكم هذا يدعى يوم الجوائز، وهو أن كل إنسان لأجر عمله حائز؛ لأن سعيكم شتى، فمنكم من حظه القبول والغفران، ومنكم من نصيبه الخيبة والحرمان.

فأما المحافظون على فرائض الطاعات، والمجتنبون للمنكرات، فعملهم مبرور، وسعيهم مشكور، وعيدهم عيد الفرح والسرور، قد حصلوا الحسنتين، وفازوا بالفرحتين. فللصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم، تقبل الله منا ومنهم.

أما التاركون لفرائض العبادات، والمصرون على المنكرات، وشرب المسكرات، فعيدهم عيد الخيبة والندامة، وغضب الرب عليهم يوم القيامة ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ [القيامة: 31-36].

إن شهر رمضان هو غرة الزمان، ومتجر أهل الإيمان، وقد قوضت الآن منه الخيام، وتقلصت منه الليالي والأيام. وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه، والحافظ لما أودعتموه، وإنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصونة، والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها، «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[362].

«صعد النبي المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين». قالوا: على ما أمنت يا رسول الله؟ قال: «جاءني جبريل، قال: يا محمد، رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج فلم يغفر له، فأدخله الله النار. فأبعده فيها، قل: آمين. فقلت: آمين»».[363] فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان، شهر البركات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات. ثم خرج ولم يحظ منه لا بمغفرة، ولا بإقالة عثرة، ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء، قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه، حيث ساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، فرضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس، وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا هو الغاية في الإفلاس والإبلاس، ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويدعي أحدهم الإسلام بمعنى الجنسية، لا بالتزام أحكامه الشرعية.

«قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ»[364] فهما عيدا أهل الإسلام؛ فلأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتهما، وعند الخروج إليهما، إشهارًا لشرفهما، وإكبارًا لأمرهما، ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [البقرة: 185]. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

عباد الله إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.

والدين هو هذا السمح السهل الموصل لمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة رأسه الإسلام، وعموده الصلاة، وبقية أركانه الزكاة وصيام رمضان وحج البيت الحرام، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، بل هي الإسلام لمن سأل عن الإسلام. كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وكما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان. بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.

فالمسلم الحق هو من يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، لأن للإسلام صوًى ومنارًا كمنار الطريق، يعرف به صاحبه.

ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ [التوبة: 71].

أما من يتسمى بالإسلام، وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش، لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه، فضحته شواهد الامتحان.

إن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به. وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون عمل.

إن مدار الإسلام على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك به، وإن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام اسمًا. والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103].

لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالإيمان، والانقياد لطاعته بالصلاة والزكاة والصيام، والبراءة من الشرك وعبادة الأوثان، فلا يكون مسلمًا إلا بذلك. وقد سمعنا عن بعض البلدان العربية الإسلامية التي أهلها مسلمون، والتي يزعم حكامها بأنهم مسلمون، بأنه قد تفشى وانتشر فيها الشرك، وعبادة الأوثان، وصاروا يعبدون قبور الأولياء والصالحين، ويدعونهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، ويسألونهم الشفاعة، ويقربون لهم القرابين من الذبائح، مما أهل به لغير الله. وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر؛ لكونه مفسدًا للعقول وللفطر، ولسائر البشر، ومحبط لسائر الأعمال من الصلاة والصيام.

﴿وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا [النساء: 116]، ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢ [المائدة: 72]. ومع السكوت عنه، وإقرار أهله عليه، فإنه ينتشر ويشتهر، ويغرق عامة الناس فيه. ومع هذا نرى هؤلاء الحكام الذين يزعمون بأنهم مسلمون يقرون قواعد هذا الشرك في بلادهم، ويحمونها ويحترمون أهلها، وهذا عمل مناف لصحة إسلامهم؛ فإن الإسلام الصحيح ينفي الشرك ويحاربه، ويعلن البراءة من أهله. يلتمس رضا الله بسخطهم، فإن من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. والله أكبر على من طغى وكفر وتكبر.

وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤ [آل‌عمران: 104].

لقد خسر الناس التواصي بالحق، والتناهي عن المنكر، فأدخلوا الشرك الأكبر، وعبادة القبور في سياسة حكام البشر، فلا يتعرض أحد لإنكارها، ونسوا أمر الله الذي أوجب الكفر بها وبأهلها، وحرم إقرارها والسكوت عنها.

وإن سنة رسول الله ﷺ، وسيرة أصحابه في فتوح البلدان؛ أنهم يبدؤون قبل كل شيء بإزالة معابد الشرك والأوثان، ليطهروا عقول الناس وعقائدهم من خرافات الشرك والأوثان.

من ذلك أنه لما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن أخبرونا بالأمر الذي تريدون منا، وما الغرض الذي أقدمكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: إنا نريد أن نخرج الناس من الشرك وعبادة المخلوقين إلى عبادة الله وحده، وأن نخرجهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأن نخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها.

فهذا صنيع سلفكم الكرام من الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان، والسيف والسنان، حتى اتسعت حضارة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن، وأنشأوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، ونشروا العلوم والمعارف وأزالوا الشرك والمنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا؛ أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.

ذلك بأنها لما اتسعت الفتوح الإسلامية، وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، ونشر العلوم الإسلامية، وتعليم اللغة العربية.

ولما عرف سائر الأمم محاسن الإسلام وسماحته، وذاقوا حلاوته وعدل سادته، أخذوا يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين ومختارين، ومن أراد البقاء منهم على دينه، فإنه آمن على نفسه وماله، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم، وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، ودخلت الوثنية في بعض بلدانهم، إنما كان ذلك كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون، يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله؛ ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم.

فتقطعت وحدة المسلمين إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا؛ ففشى فيهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض. ولن يرتفع عنهم هذا التطاحن والتلاحم إلا بمراجعة دينهم الكفيل بعلاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[362] رواه مسلم من حديث أبي ذر عن الرسول ﷺ فيما يرويه من ربه عز وجل. [363] رواه ابن خزيمه وابن حبان من حديث أبي هريرة. [364] رواه النسائي من حديث أنس رضي الله عنه.

(41) نوع ثالث في التذكير بعيد الفطر

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، فانقادت للعمل منه الجوارح والأركان، فأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج بيت الله الحرام، ثم يكبر تسعًا ويقول: الله أكبر كلما هل هلال وأبدر، الله أكبر كلما صلى مصل وكبر، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر على كل من طغى على عبادة ربه وتكبر، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا اله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

أما بعد:

فيا أيها المستمعون الكرام، إنني أحييكم بتحية الإسلام، وأهنئكم باستكمال شهر الصيام، وإدراك عيد الإسلام، وأسأل الله سبحانه أن يجعله عائدًا علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لصالح الأعمال.

إن شهر رمضان هو غرة الزمان، ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام. فمن جحد وجوبه فإنه كافر بإجماع علماء الإسلام، وقد قوضت الآن منه الخيام، وقلصت منه الليالي والأيام، وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه، والحافظ لما أودعتموه. إنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصونة، والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها. يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[365].

ثم إنكم خرجتم إلى هذا المكان السعيد؛ لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام. وإظهارًا لشكر نعمة إتمام الصيام، والهداية إلى الإسلام. وإن يومكم هذا يدعى يوم الجوائز، وإن كل إنسان لأجر عمله حائز، لأن سعيكم شتى. فمنكم من حظه القبول والغفران، ومنكم من نصيبه الخيبة والحرمان. فأما المحافظون على فرائض الطاعات من الصيام والصلاة وسائر الواجبات، فعملهم مبرور، وسعيهم مشكور، وعيدهم عيد الفرح والسرور. قد حصلوا الحسنتين، وفازوا بالفرحتين، فللصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم. تقبل الله منا ومنهم.

أما التاركون للطاعات من الصيام والصلاة، والمستحلون للمنكرات وشرب المسكرات، فعيدهم عيد الخيبة والندامة، وغضب الرب عليهم يوم القيامة ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ [القيامة: 31-36].

«صعد النبي المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين». فقالوا: على ما أمنت يا رسول الله؟ فقال: «جاءني جبريل، قال: يا محمد، رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، فأدخله الله النار، فأبعده فيها، قل: آمين. فقلت: آمين»[366].

فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان شهر النفحات شهر إقالة العثرات شهر مضاعفة الحسنات، شهر تكفير السيئات، ثم خرج ولم يحظ منه لا بمغفرة، ولا برحمة، ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه، قد رضي بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس، وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس. وإن هذا والله لهو الغاية في الإفلاس والإبلاس، قتل هذا الملحد ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها، وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان، ومع هذا الكفر المتظاهر البواح، فإنه يتسمى بالإسلام، قد جمع بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار. ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3].

«قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ »[367]. فهما عيدا أهل الإسلام؛ فلأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتهما. إشهارًا لشرفهما، وإكبارًا لأمرهما ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [البقرة: 185].

عباد الله: اعلموا - رحمكم الله - أن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله سبحانه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، فهو يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. ولا يعطي الدين إلا من يحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والدين هو هذا السمح السهل الموصل بالمتمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة، فرأسه الإسلام، وعموده الصلاة. فلا حظ في الإسلام لمن يترك الصلاة. وقد قال النبي ﷺ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[368]. وقال: «مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ أشرَكَ بِالله»[369] وقال: «مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ»[370].

والصلاة من الدين، كموضع الرأس من الجسد. وكان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حدثوا بأنه لا يشهد الصلاة في الجماعات علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له يكون جديرًا بكل شر، بعيدًا عن كل خير، يستوجب البغض من المسلمين، والبعد عن وظائف التعليم، حذرًا من أن يعدي غيره بدائه، ولأن الخائن لأمانة ربه، وعمود دينه، جدير بأن يخون أمته، وأهل ملته ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11]. واستعينوا على تربية أولادكم بأخذهم إلى الصلاة في المساجد معكم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بمزاولة الولد عليها، والأخذ بيده إليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه من ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، فهي الدواء النافع، والعلاج الناجح تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥ [العنكبوت: 45].

وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، فإن إخراجها بركة، وتركها حسرة. فهي قرينة الصلاة. فأداؤها برهان على صحة الإيمان، كما أن أكلها عنوان النفاق. فإن المنافقين يقبضون أيديهم عن أداء زكاة أموالهم. ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡ [التوبة: 67] وهي إنما سميت زكاة من أجل أنها تزكي المال؛ أي تكثره وتوفره، وتنزل البركة فيه. كما تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103]. فادخروها مغنمًا، ولا تحسبوها مغرمًا، وقد أقسم نبيكم ﷺ، وقسمه حق. «أنها ما نقصت الزكاة مالاً بل تزيده»[371] ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ [سبأ: 39] ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16].

وعليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، فإنهما من أسباب سعة الرزق، وبركة الأعمار، فمن أحب أن يبسط له في رزقه، ويمد له في عمره فليصل رحمه، فتواصلوا بالتحف والهدايا، وأنواع الإكرام، وبالعطف واللطف ولين الكلام، وبالزيارة بالأقدام للسلام، فإن الأرحام متى تزاوروا وتجالسوا تعاطفوا، ومتى تباعدوا تنافروا وتقاطعوا. فمن وصل رحمه أوصل الله إليه الخيرات، وبسط له البركات في نفسه ونسله وأهله وماله. ومن قطع رحمه قطع الله عنه الخيرات، وحرمه أنواع البركات، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها. وأفضل الصلة صلة الرحم الكاشح - أي المضمر العداوة - والرحم هم آباؤكم وأمهاتكم، وإخوانكم وأخواتكم، وأعمامكم وعماتكم، وأخوالكم وخالاتكم، وأولاد العم والعمة، وأولاد الخال والخالة، «وتَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ»[372]. «فلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»[373]. أي رحم، وعليكم بأداء ا لأمانة فإنها عنوان الديانة، «فلا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ»[374] فأيما رجل استؤمن على مال تاجر، أو مال حكومة، أو مال شركة، فواجب عليه أن يقوم بحفظ ما استؤمن عليه من حفظه وصيانته، حتى يؤديه إلى أهله، فإن هذا من واجبات الإسلام، كوجوب الصلاة والصيام. فمن خالف وخان، وأخذ يختلس ما استؤمن عليه بطريق التلصص الغبي، والخيانة الخفية، فإنه يعد من الخونة؛ الخائن لدينه، الخائن لأمانته، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وما أخذه بسبيل الاختلاس، فإنه يعود عليه بالفقر والفاقة، والقلة والذلة، ولو بعد حين؛ لأن كسبه بهذا الطريق بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء، ويعود إلى وراء.

ومن المشاهد المحسوس، أن الخونة يبتلون في الدنيا بالخزي والعار، وفي الآخرة بالنار ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ [يوسف: 52]، ﴿ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [آل‌عمران: 161].

وإياكم والربا فإنه من الكبائر الموبقة المهلكة، وقد توعد الله من تعاطاه بانتزاع البركة. والذين يأكلون الربا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا. والربا أنواع أشده وأشره الذين يستدينون النقود من البنوك أو من التجار، ومتى حل الدين ولم يجدوا وفاء زادوا في الثمن ومدوا في الأجل، وهذا هو عين ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آي القرآن، ولعن رسول الله آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ [البقرة: 275].

وإياكم والاتجار في الأعيان المحرمة؛ كالخمر ولحم الخنزير، والصور المجسمة، فإنه حرام بيعها، حرام شراؤها، حرام اتخاذها في البيوت، وقد خطب رسول الله ﷺ على رتاج الكعبة. فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ»[375] فلا يستحل بيع هذه الأعيان بعد هذا البلاغ سوى رجل فاجر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، ولا يدين دين الحق، ولا يقولن أحدكم إني إنما أبيعها على النصارى والمشركين، فإن الله إذا حرّم شيئًا حرّم بيعه وشراءه وثمنه. فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل. واجتنبوا شرب الخمر فإنها مفتاح الشرور، والداعية إلى الفجور، تذهب الثروة، وتفسد الصحة، وتولد في الجسم أنواع الأمراض المضرة، تهتك الأسرار، وتقصر الأعمار، فهي من ورطات الأمور التي لا مخلص لمن أوقع نفسه فيها إلا بالتوبة منها والإقلاع عنها، ولا يزال الرجل يمشي مع الناس بشرف وعفاف وحسن خلق، حتى يشرب الخمر، ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الأخلاق الفاضلة، ويسقط في الأخلاق السافلة، والأعمال الفاسدة؛ لأنها أم الخبائث، وقد سماها رسول الله ﷺ «مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ».[376] وفي القرآن عنها أعظم مزدجر إن كنتم تعقلون. فقد وصفها بأنها ﴿رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ٩١ [المائدة: 90-91].

واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن، وأن تعاشروهن بالرفق واللين وحسن الخلق. فإن كرهتموهن فحرام عليكم أن تضاروهن لتفتدي منكم ببعض ما آتيتموهن. فمن ضار ضار الله به. فإن طلقتموهن وهن حبالى فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، أي أجرة الرضاع، ولا تنسوا ما سلف من الصحبة فيما بينكم، فخيركم خيركم لنسائهم، وأقبح الظلم ظلم الضعيفين: المرأة واليتيم.

فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، واجتنبوا ما حرم عليكم، واستقيموا على الجادة.

* * *

[365] رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل. [366] رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث كعب بن عجرة، ورواه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة. [367] أخرجه النسائي من حديث أنس بن مالك. [368] أخرجه مسلم من حديث جابر. [369] أخرجه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد في السنة من حديث أنس بن مالك بلفظ: «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك». [370] أخرجه أحمد من حديث أم أنس. [371] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري. [372] رواه أحمد في مسنده والترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة قال الحاكم: صحيح وأقروه. [373] متفق عليه من حديث جبير بن مطعم. [374] أخرجه أحمد من حديث أنس. [375] أخرجه مسلم من حديث جابر. [376] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء.

(42) الخطبة الأخيرة من عيد الفطر

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي شرع صلاة الجمع والأعياد، وبين للناس طريق الهدى والرشاد، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس إنكم لن تخلقوا عبثًا، ولن تتركوا سدًى، وإن لكم معادًا يجمعكم الله فيه، فيحكم بينكم، وقد خاب وخسر عبد خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض. أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون إلى أجل مسمى محتوم!؟ فمن استطاع منكم أن يقضي عمره وهو محافظ على واجباته من صلاته وزكاته وصيامه فليفعل.

إن قومًا صرفوا جل عقولهم، وجل أعمالهم، وجل اهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم.

فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 18-19]. أين من تعرفون في مثل هذا العيد من الآباء والإخوان والأصدقاء والجيران، قدموا على ما قدموا من عمل، وجوزوا بالسعادة أو الشقاء!؟ أين الذين بنوا القصور المشيدة، وحازوا فنون الأموال والقلاع!؟ قد صاروا رميمًا تحت الصخر والتراب. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته؛ لتعملوا مثل عمله، فقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ [الأنبياء: 90].

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

* * *

(43) الذكرى في أول شَوال وفضل نوافل الصّلاة والصّيام

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ونشكره أن وفقنا لإتمام شهر الصيام والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها باق لا يزول، ودائم لا يحول. هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

فقد مضى شهر الصيام، ثم أقبلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فما من يوم من الأيام، إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم ممر الليالي والأيام والساعات، وتقرب إلى الله بما فيها من فرائض الطاعات، ونوافل العبادات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات.

وفي الحديث: «أطْلُبُوْا الخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوْا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيْبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وسَلُوْا اللَّهَ تَعَالَى أنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»[377].

وقد أمر الله عباده بأن يعبدوه حتى يلقوه؛ لأنه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت، قال الله تعالى: ﴿ وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99].

وإن من الحزم وفعل أولي العزم، كون الإنسان إذا عمل عملاً كصيام رمضان، فإنه يحافظ على إتقانه، وعدم إحباطه وإبطاله. وقد قيل: إن من علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، ومن علامة ردها أن تعقب تلك الطاعة بمعاصٍ بعدها تحبطها.

يقول الله سبحانه: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَٱحۡتَرَقَتۡ [البقرة: 266]، وهذا مثل ضربه الله لمن له أعمال صالحات؛ من صلاة وصيام وصدقات، فكانت أعماله الصالحة بمثابة الحديقة فيها من كل الثمرات، ثم إنه سلط عليها في آخر عمره بفعل المنكرات، وترك الطاعات، فنزل على حديقته عاصف من العذاب فأحرقها، فلم ينتفع بشيء من ثمرها، مع مسيس حاجته إليها، وكذلك المعاصي تحرق الطاعات وتوبقها.

فما أحسن الحسنات بعد الأعمال الصالحات تتلوها، وما أقبح المنكرات بعد الأعمال الصالحات تمحقها وتعفوها، «فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ». رواه مسلم.

وروى مسلم أيضًا أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»[378]، لأن الحسنة بعشر أمثالها، وفعله هذا يدل على رغبته في الخير، وفي العمل الصالح في رمضان وفي غير رمضان.

ولما قيل لبعض السلف: إن قومًا يتعبدون في رمضان، ولا يتعبدون في غيره، فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في رمضان، كن ربانيًّا ولا تكن رمضانيًّا. ولما قال أناس من الصحابة: إنا إذا أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد. فقال لهم بعض من سمعهم من الصحابة: ويحكم. والله لا يسائلكم الله إلا عما افترض عليكم، وما أنتم إلا من نبيكم، وما نبيكم إلا منكم، والله لقد قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه، وإنكم تخطئون بالليل والنهار، وإن النوافل يكمل بها خلل الفرائض[379].

فهدا محض الفقه. فإن الإنسان لا بد أن يحصل منه شيء من النقص أو التقصير في الفرائض، فتكون النوافل بمثابة الترقيع لخلل الفرائض، كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرفعه. وفيه حديث مرفوع. وهو أن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته. فإن كملت فقد أفلح ونجح. وإن نقصت، فقد خاب وخسر. ثم يقول الله سبحانه انظروا ما كان لعبدي من تطوع، فكملوا به فريضته، وكذلك الأعمال تجري على هذا المنوال. ثم إن المحافظة على النوافل هي من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أوليائه المقربين، وحزبه المفلحين. كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ»[380].

فالذي يصوم رمضان، ثم يصوم بعده ستة أيام من شوال، فيكون كصيام الدهر كله، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فإن فيها فضلاً كبيرًا، ويترتب عليها أجرًا كثيرًا، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: «أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام».

أما صلاة ركعتي الضحى فإنها بمثابة الصدقة عن سائر أعضاء الإنسان وجسمه، لحديث أن النبي ﷺ قال: « يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»[381] رواه مسلم.

وقال: «رَكْعَتَا الضُّحَى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[382] والأفضل أن تفعل هذه الصلاة في البيت لقول النبي ﷺ: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم؛ فإن الله جاعل من صلاتكم في بيوتكم خيرًا ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا»[383] أي تهجرونها من فعل الصلاة فيها، فالبيت الذي تصلى فيه النوافل، ويقرأ فيه القرآن، ينبسط فيه الرزق، وتنزل فيه البركة، وتغشى أهله الرحمة.

وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه بمثابة زكاة البدن، ففي الحديث: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ»[384] وقال: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[385] وكل من تأمل أحوال الناس فإنه يرى أن الذين يتنفلون بالصوم والصلاة إنهم من أصح الناس أجسامًا، وأطول الناس أعمارًا، وإن الله يمتعهم في الدنيا متاعًا حسنًا، نتيجة أعمالهم الصالحة؛ لأن الصوم والصلاة بما أنهما من العبادات الدينية، فإنهما أيضًا من الرياضات البدنية التي تعود على البدن بالنشاط والصحة. وللطاعة ضياء في الوجه، وقوة في الجسم، وسعة في الرزق.

وآكد النوافل الوتر. فقد قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ»[386] وقال: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ»[387] وقال: «لْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا»[388] ومن كل الليل قد أوتر رسول الله. وسأل النبي ﷺ أبا بكر فقال: «متى توتر؟» فقال: أوتر قبل أن أنام. ثم سأل عمر قال: أوتر من آخر الليل. فقال رسول الله ﷺ: «أما أبو بكر فأخذ بالحزم ونام على الوتر، وأما عمر فأخذ بالقوة. فمن خاف ألا يقوم من آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخر الليل، فليوتر آخر الليل. فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل. وأعلى الوتر إحدى عشرة ركعة، وأقله ركعة واحدة. والوتر حق. فمن أحب أن يوتر بسبع فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوثر بثلاث فليفعل». وكان النبي ﷺ يحافظ على عشر ركعات؛ وهي؛ ركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها. فهذه هي السنن التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها، وإن فاته شيء منها سن له قضاؤه.

أما السنن التي لها سبب فمثل تحية المسجد. ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[389] سواء كان في وقت نهي كبعد العصر، أو غيره.

وحتى الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب، أو المؤذن يؤذن، فإنه لا يجلس حتى يركع ركعتين؛ لما في الصحيح «أن النبي كان يخطب. فدخل رجل يقال له: سليك الغطفاني، فجلس. فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ، أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ». فَقَالَ: لاَ قَالَ:«قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». أي: خففهما»[390].

وعلى كل حال؛ فإنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لفعل صلاة أو صيام أو صدقة، وإن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم، ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة، ويقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُ [المؤمنونك 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا وقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون.

وروى الإمام أحمد أن النبي ﷺ قال: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ»[391]. واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وأن عزه استغناؤه عن الناس.

وإذا كان للرجل أو المرأة عادة من فعل الصلاة أو الصيام ثم أقعد عنها بمرض أو كبر، بحيث لا يستطيع أحدهما أن يعملها، فإن الله يقول لملائكته: «أجروا لِعَبْدِى مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ»[392]. فتجري له أعمالاً صالحة وهو مضطجع على فراشه.

وإذا أتى الإنسان إلى فراشه - ومن نيته أن يقوم آخر الليل - فغلبته عيناه كتب له قيام ليله، وكان نومه عليه صدقة، وعلى كل حال فإن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء.

ولما مر النبي ﷺ على قبر حديث عهد بدفن، قال: ««ما هذا القبر؟» قالوا: قبر فلان التاجر. فقال: «والله لصلاة ركعتين أحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها»»[393].

فالدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة. من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات، ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[377] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج بعد الشدة، والحكيم في نوادره، والبيهقي في الشعب، وأبو نعيم في الحلية، كلهم من حديث أنس بن مالك. [378] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. [379] أخرجه الطبراني بمعناه في مسند الشاميين عن عائشة وهو في مختصر قيام الليل للمروزي. [380] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [381] رواه مسلم من حديث أبي ذر. [382] رواه مسلم والنسائي والترمذي وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». [383] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بلفظ «اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِى بُيُوتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا». [384] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [385] رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف. [386] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [387] أخرجه أصحاب السنن من حديث علي. [388] أخرجه أبو داود من حديث بريدة، كررها ثلاثًا. [389] متفق عليه من حديث أبي قتادة. [390] أخرجه مسلم من حديث جابر. [391] أخرجه الطبراني من حديث سهل بن سعد. [392] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. [393] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة.

(44) فضل عشر ذي الحجّة وفضل الصّيام فيها والصّدَقة

الحمد لله المعبود على الدوام، المعروف بالكرم والإحسان، كل يوم هو في شأن، وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد:

فإن الله سبحانه جعل الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

وهذه الأيام العشر هي الأيام المعلومات، المخصوصة بالتفضيل في محكم الآيات. في قوله تعالى: ﴿وَٱلۡفَجۡرِ ١ وَلَيَالٍ عَشۡرٖ ٢ [الفجر: 1-2] فأقسم الرب بها لشرفها على حسب ما قيل في تفسيرها. والتي قال النبي ﷺ فيها: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ»[394]. وهذا العمل الصالح الذي يحب الله الإكثار منه في خاصة هذه الأيام، يشمل الصلاة والصيام، والصدقة بالمال، وسائر أفعال البر والإحسان، وللصدقة فيها شأن كبير، وأجر من الله كثير، لكون الصدقة في هذه الأيام تصادف من الفقير موضع حاجة، وشديد فاقة، لما يتطلبه الفقير من حاجة العيد من النفقة والكسوة، وسائر المؤنة الضرورية، فهذا من العمل الصالح المتعدي نفعه إلى الغير.

ومن العمل الصالح أيضًا الصيام في هذه الأيام، فقد كان بعض السلف يصومون عشر ذي الحجة كلها. وبعضهم يصوم بعضها؛ لأن هذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا؛ من أجل أن فيها يوم عرفة، الذي قال النبي فيه: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ»[395]. ولما سئل النبي ﷺ عن صوم يوم عرفة قال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ». رواه مسلم عن أبي قتادة، أي يكفر الصغائر؛ ولهذا يستحب الجهر بالتكبير في عشر ذي الحجة في المساجد وفي الأسواق والطرق، جهرًا لا يؤذي به أحدًا. وفي البخاري أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما حتى إن للسوق لضجة بالتكبير، وصفته أن يقول: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

والأضحية سنة ثابتة بالكتاب والسنة، وثابتة من فعل النبي ﷺ وقوله، وفعل أصحابه. وقد قال بعض العلماء بوجوبها على الغني المقتدر، لكونها من شعائر الدين، ومن الطاعة لرب العالمين. فذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بإجماع أئمة المذاهب الأربعة؛ لأنها من القرابين التي تقربونها لرب العالمين.

وفيها التشريف لعيد الإسلام، وعيد حج بيت الله الحرام، وفي فعلها إظهار لشكر نعمة الغنى، حيث جعل من يضحي من الأغنياء المقتدرين ولم يجعله من الفقراء العاجزين.

ولا ينبغي أن يحزن العاجز الفقير، فقد ضحى عنه البشير النذير.

وأعلى الأضاحي ذبيحتان، وتجزئ الذبيحة الواحدة عن الرجل وأهل بيته. وهنا حديث رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن أخذ شعره وأظفاره».

وهذا الحديث قد اختلف العلماء فيه؛ فمنهم من حمل النهي على الكراهة كما هو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك، ورواية عن الإمام أحمد، والكراهة تزول بأدنى حاجة. وقال أبو حنيفة: لا يكره أخذ الشعر ولا الظفر، كما لا يكره ملامسة النساء والطيب والثياب.

وقال كثير من فقهاء الحنابلة: إن النهي للكراهة، ورجحه في الإنصاف، وقد أنكرت عائشة على أم سلمة هذا الحديث، وقالت، إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج، وقد فتلت هدي قلائد النبي ﷺ، فلم يمتنع عن شيء كان يفعله.

فمتى قلنا إن النهي للكراهة - وهو الصحيح - فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة، وقد شاع واشتهر عند العامة، أن كل من أخذ من شعر رأسه، أو قلم أظافره، فإنه لا يجوز له أضحية، وهذا خطأ. ولم يقل به أحد من العلماء.

وعلى كلا القولين فإنه لو أخذ الشخص شيئًا من شعر رأسه، أو لحيته أو أظافره في عشر ذي الحجة، ثم أراد أن يضحي فإنه يجوز له أن يضحي، وأضحيته صحيحة بإجماع أهل العلم، وكذلك المرأة لو نقضت شعر رأسها فتساقط منه شعر، فإن ذلك لا يمنعها من فعل الأضحية، بل تضحي وأضحيتها صحيحة. ويجوز لها استعمال الطيب والحناء والخضاب، وكل شيء في عشر ذي الحجة[396].

والأفضل الإمساك عن أخذ الشعر والظفر فإن فعل لم يمنع من فعل الأضحية.

وما شاع على ألسنة العامة في هذه البلاد من قولهم إن من أراد أن يضحي فإنه ينبغي له أن يحرم فهذا قول باطل ولا صحة له، فلا إحرام إلا لمن أراد أن يحج أو يعتمر، وحتى صار الكثير من الناس يمتنعون عن الأضحية عند أخذهم لشيء من الشعر لظنهم أنها لا تصح أضحيتهم، فلو كان الكف عن أخذ الشعر والظفر واجبًا في حق كل من يضحي، لما خفيت على عائشة أم المؤمنين، وهي في بيت رسول الله ﷺ، وهي أفقه وأعلم بالسنة من أم سلمة. ورسول الله ﷺ كان يضحي كل سنة عنه، وعن أهل بيته. فمثله لا يخفى لو كان صحيحًا.

وقد اعترضت عائشة على أم سلمة في هذا الحديث. وقالت: إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج. وهذا معقول المعنى؛ فإن الحاج إذا أحرم لا يجوز له أن يأخذ شيئًا من شعره ولا أظافره. وحسبك في فضل الأضحية أن للمضحي بكل شعرة حسنة، حتى من الصوف، كما في حديث زيد بن أرقم قال: «قلنا، أو قالوا: يا رسول الله مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[397].

ولا يترتب عليها هذه الفضائل إلا إذا وقعت موقعها من الصفة والصحة المأمور بها على الوجه المطابق للحكمة في مشروعيتها بأن قصد بها امتثال أمر الله، واتباع سنة رسوله ﷺ، وتجردت عن البدع الخاطئة، والتصرفات السيئة، فيكون ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها، وامتثالاً لطاعة الله فيها، وخروجًا من عهدة من قال بوجوبها، ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت، ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، أشبه العقيقة. فإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بالإجماع. أما إذا وقعت على غير ما شرعه الله ورسوله ﷺ فإنها تكون شاة لحم قدمها لأهله.

أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد، لم نجد حديثًا صحيحًا، ولا دليلاً صريحًا من كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ، يأمر فيه بأضحية عن الميت، أو يشير إلى وصول ثوابها إليه، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أنه أوصى أن يضحى عنه بعد موته، أو أوقف وقفًا في أضحية، فليس لها ذكر عندهم، لا في أوقافهم، ولا وصاياهم، ولا تبرعاتهم لموتاهم. فلو كانت الأضحية عن الميت من السنة، أو أنه يصل إلى الميت ثوابها، لسبقونا إليها. فعدم فعلها يعد من الأمر المجمع عليه زمن الصحابة، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة. كما أن الظاهر من مذهب الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة أنه لا أضحية للميت لعدم مشروعيتها. فهي شاة لحم لكون الأضحية الشرعية: إنما شرعت في حق الحي تشريفًا لعيد الإسلام وإظهارًا للفرح به والسرور، أو الشكر على بلوغه.

والنبي ﷺ قد أرشد الأولاد بأن يتصدقوا عن والديهم الميتين، ولم يأمرهم بأن يضحوا عنهم، فمن ذلك ما روى البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة قال للنبي ﷺ: يا رسول الله ﷺ إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت. أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم تصدق عن أمك». ولم يقل: ضح عن أمك.

وروى مسلم في صحيحه أن رجلاً قال: «إِنَّ أَبِى مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ تصدق عن أبيك»»[398].

ومثله ما روى أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، أن رجلاً من بني ساعدة جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أبوي قد ماتا، فهل بقي علي من برهما شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نَعَمِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِى لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا»[399] فهذه وصايا رسول الله ﷺ بالأمر بالصلة والصدقة، وبالدعاء الذي يصل إليهما نفعهما. ولو كانت الأضحية عنهما بعد موتهما أنها من البر، أو أنه يصل إليهما ثوابها، لأرشده النبي ﷺ إلى فعلها. ومثله صدقة عمر التي استشار النبي ﷺ فيها: فقال له: «احْبِسْ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْ بِثَمَرَتِهَا»[400] فتصدق بها عمر على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متمول مالاً.

ولو كانت الأضحية من عمل البر، أو أنه يصل إليه ثوابها بعد موته، لما ساغ لعمر أن ينساها لنفسه. وفي صحيح مسلم. أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»[401]. ولم يقل أو أضحية تذبح له بعد موته. ولا تسمى الأضحية صدقة. لكنه لو ضحى بقصد الصدقة عن والديه أو أحدهما بذبيحة يدخلها على أهل بيت من الفقراء؛ فإنها نعم الصدقة، ويصل إليهما ثوابها. إذ هي من الصدقة المستحبة. وحيث لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أمر أحدًا أن يضحي عن ميته، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى عن ميته، ولا أوصى أن يضحى عنه بعد موته، علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة، ولا مرغب فيها، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، إلا أن يذبحها ليتصدق بلحمها على الفقراء والمساكين فجائز. لكن الصدقة بثمن الأضحية عن الميت أفضل من ذبح الأضحية عنه، لكون الصدقة خاصة في عشر ذي الحجة تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه العيد من الحاجة والنفقة والكسوة له ولعياله، فتقع هذه الصدقة من الفقير بالموقع الذي يحبها الله، من تفريج كربته، وقضاء حاجته، وإدخال السرور عليه وعلى أهل بيته، والقرآن مملوء بذكر الحث على الصدقة، وأنها لا تنقص المال، بل تزيده. وهي من العمل الصالح الذي يحبه الله خاصة في هذه الأيام العشر يقول الله تعالى: ﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ ٢١٥ [البقرة: 215] وقد مدح الله من آتى المال على حبه ﴿ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ [البقرة: 177] ولا أفضل من كون الإنسان يرى صدقته ماضية في حال صحته وحياته، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «الرُّوحُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الروح الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»[402] وأكثر الناس إنما يتصدق عند الموت، ثم يأكل الوصي صدقته، ولا ينفذها في سبيلها. فما نفع الإنسان مثل اكتسابه لنفسه بدون أن يتكل على وصيه.
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على حذر
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[394] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [395] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو. [396] قال في المغني ص 15 - 5 ج 3 بعد سياقه للخلاف في المسألة قال: فإن حلق شعره، أو قلم أظفاره، فإنه يستغفر ولا فدية عليه بإجماع العلماء سواء فعله عامدًا أو ناسيًا. [397] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم. [398] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [399] أخرجه أبو داود وابن حبان من حديث أبي أسيد. [400] أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر. [401] أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة. [402] متفق عليه من حديث أبي هريرة.