1762

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م



المجلد الخامس
أحكام الأضحية ورسائل أخرى

(1) الدّلائلُ العَقليَّة وَالنقليَّة في تفضيل الصّدقة عَن الميِّت على الأضحيّة وَهَل الأضحيّة عَن المَيت شَرعيَّة أو غَير شَرعيَّة

مقدمة الرسالة

تذاكُرٌ جرى مع بعض المشايخ الكرام في شأن أضحية النبي عن أمته -عليه الصلاة والسلام- استظهر بعضهم من فعل هذه الأضحية مشروعية الأضحية عن الموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة ولم ينقل عن أحد من الصحابة القول به، ولا العمل بموجبه لوجوه عديدة:

الوجه الأول:

أن الأضحية إنما شرعت في حق الحيّ، فأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ [الصافات: 107] وهي أضحية أمر أن يذبحها يوم عيد النح. ثم سنها رسول الله ﷺ في أمته تشريفًا لعيد الأضحى الذي سمي باسمها، وشكرًا لله على بلوغه، وإدخالاً للسرور على الأهل والعيال فيه، ولتكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين وما يقربونه لآلهتهم من القرابين. ولهذا كان النبي ﷺ يقسّم الأضاحي بين أصحابه، لإدخال السرور والفرح عليهم وتعميم العمل بمشروعية الأضحية، كما أنه كان يذبح أضاحيه بمُصلى العيد، إشهارًا لشرف هذه الشعيرة ومكانها من الشريعة، كما أمروا بصلاة العيد، وأنزل الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الکوثر: 2] فالذين أمروا بصلاة العيد هم المأمورون بنحر الأضاحي وهم الأحياء ولا علاقة لها بالأموات البتة.

وأما أضحية النبي ﷺ بالكبش عنه وعن أمته، فإن الله سبحانه قد أثبت لنبيه الولاية التامة العامة على كافة أمته، وهي ولاية أحق وأخص من ولاية الرجل على عياله وأهل بيته ونفسه، فقال تعالى: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ [الأحزاب: 6]، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»[1]، فمن ولايته أضحيته عن أمته كما يضحي أحدنا عن عياله وأهل بيته، بل أحق.

وقد ذكر الفقهاء سقوط وجوب الأضحية عن كافة الناس بأضحية النبي عنهم، وبقي الاستحباب في حق كل من قدر عليها، وهذه الأضحية وقعت من النبي ﷺ بطريق الأصالة، وإنما أشرك جميع أمته في ثوابها ولا يمكن أن يقال: إن النبي ضحى بالكبش عنه وعن أمته ليفهم منه مشروعية الأضحية عن الموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة، ولم ينقل عن الصحابة القول به ولا العمل بموجبه.

[1] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.

الوجه الثاني:

أنه توفي عدد من أقارب النبي ﷺ في حياته، فتوفي ابنه إبراهيم وتوفيت ثلاث من بناته وتوفيت زوجته خديجة، التي هي أحب النساء إليه، وكان يكثر من ذكرها ويهدي اللحم إلى صديقاتها، ومع هذا كله لم يضح عنها ولا عن أحد من أبنائه وبناته، ولو كانت الأضحية عن الميت من شرعه، لما بخل بها عن أحبابه وأقاربه ولفعلها ولو مرة واحدة، مع العلم أنه متصف بالجود والكرم، فكان يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بسنة الأضحية.

الوجه الثالث:

أن الصحابة هم الذين حفظوا سنة رسول الله ﷺ وبلغوها إلى الناس، ولم يحفظ عن أحد منهم أنه ضحى عن ميِّته ولا أوصى أن يضحى عنه بعد موته، ولا وقف وقفًا له في أضحية وهم أحرص الناس على اتباع السنة وأبعدهم عن البدعة، فلو كانت الأضحية عن الميت سنة أو أن فيها فضيلة، أو أن نفعها يصل إلى موتاهم، لكانوا أحق بالسبق إليها ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. أفيقال: إنها سنة فجهلوها، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها؟ كل هذا لا يمكن نسبته إليهم.

الوجه الرابع:

أن جميع الصحابة الذين سألوا رسول الله ﷺ عن أفضل ما يفعلونه لموتاهم، إنما أرشدهم النبي ﷺ إلى الدعاء والصدقة وصلة الأقارب وقضاء الواجبات من حج ونذر، فهذا سعد بن عبادة، قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ فقال: «نعم، تصدق عن أمك»[2]. ولم يقل ضح عن أمك، وهذا أبو طلحة، وضع بيرحاء بين يدي رسول الله وقال: ضعها حيث أراك الله. فقال: «بخ مال رابح أرى أن تجعلها في أقاربك»[3]. ولم يأمره أن يجعل فيها أضحية تذبح عنه بعد موته، كما يفعله بعض الناس، وهذا عمر بن الخطاب استشار رسول الله في مصرف وقفه الذي هو أنفس مال عنده، فأشار عليه رسول الله بأن يحبس أصلها ويتصدق بثمرها، فتصدق بها عمر على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، ولم يجعل له فيها أضحية، ولو كانت مشروعة أو أنها أفضل من الصدقة لأرشده النبي إليها، ولما ساغ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينساها لنفسه وهو أحرص الناس على إيصال النفع له بعد موته.

فالصدقة عن الميت وخاصة من الأولاد عن والديهم هي أفضل من ذبح الأضحية، لكون الصدقة قد أجمع العلماء على فضلها ووصول نفعها لاسيما إذا خرجت من المتصدق في عشر ذي الحجة التي العمل فيها أفضل من غيرها، وتصادف من الفقير موضع حاجة وشدة وفاقة، لما يتطلبه العيد من الكسوة والنفقة له ولعياله.

[2] متفق عليه من حديث عائشة. [3] متفق عليه من حديث أنس بن مالك.

الوجه الخامس:

أن القائلين بمشروعية الأضحية عن الميت أخذًا من مفهوم أضحية النبي ﷺ عنه وعن أمته، أنه فهم غير صحيح ولا مطابق للواقع، فإن هذه الأضحية وقعت من النبي ﷺ بطريق الأصالة، وقد أشرك جميع أمته في ثوابها ولم يخص بذلك الأموات دون الأحياء، وهذه لا يقاس عليها لاعتبارها من خصائصه، فإن هذه الأضحية دخل في ثوابها الأحياء الموجودون من أمته وقت حياته، كما دخل فيها المعدومون ممن سيوجد من أمته إلى يوم القيامة، وهذا الفعل بهذه الصفة لا ينطبق على أضحية غيره، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يضحى عن المعدوم كمن سيولد له حتى ولا الحمل في البطن لا يضحى عنه، ولا يضحى عن حيّ ليس من أهل بيته بغير إذنه، فدلت على الاختصاص به وعدم التشريع بها والحالة هذه.

الوجه السادس:

إذ لو كانت للتشريع كما يقولون لاستحب لكل مقتدر أن يضحي عن أمة محمد الموجودين والمعدومين كما فعل رسول الله ﷺ، إذ هذا محض الأسوة به، ولم يقل بذلك أحد من العلماء فسقط الاستدلال بموجبه.

الوجه السابع:

أن أهل المعرفة بالحديث متفقون على أنه لا يوجد في الأضحية عن الميت حديث صحيح ولا حسن يدل دلالة صريحة على الأمر بها، فضلاً عن أن يكون فيها أخبار متواترة أو مستفيضة، فمتى كان الأمر بهذه الصفة امتنع حينئذ التصديق بكون النبي ﷺ أوصى بها وشرعها لأمته، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة ولا التابعين، مع تكرار السنين وحرصهم عل محبة الرسول واتباع سنته وتنفيذ أوامره، والعادة تقتضي نقل ذلك لو وقع منهم، إذ هي من الأمور الظاهرة التعبدية التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وتبليغها، لكونهم أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، فمتى كان الأمر كذلك علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة ولا مرغب فيها، لأن عدم فعلها يعتبر من الإجماع السابق زمن الصحابة واعتبار حكم الإجماع في محل النزاع حجة.

الوجه الثامن:

أن قدماء فقهاء الحنابلة من لدن القرن الثاني الذي فيه الإمام أحمد إلى القرن الثامن الذي فيه شيخ الإسلام، لم يحفظ عن أحد منهم ولم نجد في شيء من كتبهم القول بمشروعية الأضحية عن الميت إلى أن نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- القول باستحبابها، ثم أخذها صاحبا الإقناع والمنتهى فأدخلاها على المذهب في القرن الحادي عشر، حيث قالا: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وفي الإقناع: وذبحها ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها.

وقد علمنا أن قولهما في استحباب الأضحية عن الميت أنه قد طبع وانتشر واشتهر وحفلت به الجماهير والخلق الكثير ورسخت حقيقته في ذهن الصغير والكبير إلى حالة أنهم صاروا يضحون لموتاهم وينسون أنفسهم على نسبة عكسية من مشروعية الأضحية. وليس كل ما يكتبه الفقيه أو يفتي به يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن الفقيه قد يقول القول المرجوح الذي يعجزه أن يقيم الحجة على صحته فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وهو غير صحيح في نفس الأمر والواقع، وقد ذكر حمد بن ناصر بن معمر من مشايخ الدعوة أن سبب منشأ القول بمشروعية الأضحية أن الفقهاء لمّا سمعوا بحديث حنش الصنعاني عن علي أن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه فظنوه صحيحًا وبنوا على ظنهم جواز العمل به.

الوجه التاسع:

مذاهب الأئمة الثلاثة، وهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، كلهم متفقون على عدم استحباب الأضحية عن الميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وقد ذكرنا أقوالهم في الرسالة معزوة إلى كتبهم، ولهذا تجد الأضحية عن الميت على سبيل الانفراد غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي يحكم أهلها بمذاهب الأئمة الأربعة، كالشام، ومصر، والعراق وفارس، واليمن، حتى باعتراف العلماء الموجودين على قيد الحياة، فلا تذكر الأضحية عن الميت لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم، لاعتقادهم عدم مشروعيتها، فكيف يقال بتفضيل ما اتفق الأئمة الثلاثة على عدم مشروعيته على فعل الصدقة عن الميت المنصوص على فضلها، والمجمع على وصول نفعها وخاصة من الأولاد لوالديهم؟!

الوجه العاشر:

أن الصحابة والتابعين لم ينقل عنهم فعل الأضحية عن موتاهم، فقد علمنا ذلك بعدم نقله عنهم وهذه أسفار السنة على كثرتها منشورة بين الناس، وهي لا تثبت عن أحد منهم فعلها لا في سبيل تبرعاتهم ولا أوقافهم ولا وصاياهم، ومن المعلوم أن الأمور الوجودية الصادرة من مثل الصحابة يتناقلها الناس من بعضهم إلى بعض حتى تشتهر وتنتشر كما نقلوا سائر السنن من الواجبات والمستحبات. أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها كالأضحية عن الميت ونحوها، فإن الناس لا ينقلونها إلا عندما يحتاجون إلى ردها وبيان الهدى من الضلال فيها، فلو نقل ناقل أن أصحاب رسول الله كانوا يضحُّون لرسول الله أو يحجون له أو يقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إليه، لحكمنا بكذبه لعدم نقله، ولو فُتح هذا الباب لاحتج كل واحد لبدعته بما يؤكدها من عدم ثبوت إنكارها فتفشو البدع ويفسد الدين.

الوجه الحادي عشر:

أن كل من تدبر النصوص الدينية من الكتاب والسنة وعمل الصحابة، فإنه يتبين له بطريق جلية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، شكرًا لله على بلوغه واتباعًا للسنة في إراقة الدم فيه لله رب العالمين، أشبه مشروعية صدقة الفطر عند عيد الفطر، لإغناء الطوّافين من الفقراء والمساكن، فلو قال قائل بمشروعية صدقة الفطر عن الأموات لعده العلماء مبتدعًا، لعدم ما يدل على مشروعية ذلك وهذا هو عين ما فهمه الصحابة من حكمة الأضحية، فكيف يمكن أن يقال بعد هذا: إن النبي ﷺ ضحى بالشاة عن نفسه وعن أمته؛ ليفهم عنه جواز الأضحية عن الموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة، ولم ينقل عن علماء الصحابة القول به ولا العمل بموجبه، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله.

ولا عجب من كون جهلة العوام يستغربون القول بهذا فتنفر منه نفوسهم، ولم تطمئن إليه قلوبهم؛ لعدم اعتيادهم لسماعه فضلاً عن العمل به؛ ولأن من تربى على مذهب وتعود على العمل به في بلده، واعتقد صحته، فإن من طبيعته استنكار العمل بمخالفته لاعتقاده أنه خروج عن دين الله أو عن طاعة الله ورسوله، والعامي: مشتق من العمى، وهم أتباع القادة من العلماء.

ولهذا السبب أحببت توطيد ثبات ما قلت من عدم مشروعية الأضحية عن الميت بما يكون كالمؤنس له والمؤذن بقبوله من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة ومذاهب الأئمة الأربعة، احترازًا مما قد يسبق إليه الوهم ويسوء فيه الفهم من دعوى الشذوذ بالقول به أو عدم سبق العلم بموجبه، وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله أعلم.

أيها القراء الكرام، إن هذه الرسالة الوجيزة لن يظهر للقارئ حقيقة صحتها ولا رجحان مصلحتها، إلا بعد استكمال دراستها، ثم عرضها على محك التمحيص وميزان التصحيح من نصوص الأصول وأمهات الفروع كلها من كتب المذاهب، ليتبين بذلك جلية أمرها ورجحان مصلحتها ومن ادعى خلاف ما قلنا فيها، فإنه مطالب بالدليل والمُؤْمن لدى الحق أسير، إذ ليس كل ناقل خبير ولا كل ناقد بصير، سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير.

* * *

الأعياد عند الأمم

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أما بعد:

فإن كل من تأمل التواريخ الإسلامية وغير الإسلامية، يتبين له بطريق الوضوح والجلية أن سائر الأمم على اختلاف أطوارهم وأوطانهم وتباين مذاهبهم وأديانهم، كل أمة لها أعياد زمانية ومكانية يقدسونها ويقرّبون القرابين لمعبوداتهم فيها.

والأعياد على الإطلاق، إما أن تكون شرعية، وإما أن تكون بدعية، كما أن القرابين، إما أن تكون دينية، وإما أن تكون شركية، يقول الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ [الحج: 34]. قال ابن عباس: لكل أمة جعلنا منسكًا، أي عيدًا. وقال عكرمة: أي ذبحًا. والمعنى متقارب، يخبر سبحانه بأن الأعياد وذبح القرابين فيها لا يزال مشروعًا في سائر الأمم والملل، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا»[4]. وقوله: ﴿لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ، أي عند ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فمنهم من يذكر اسم الله عند الذبح، ومنهم من يذكر اسم الطواغيت والأصنام.

فلليهود أعياد يعظمونها ويقرّبون القرابين فيها، وللنصارى أعياد يعظمونها، أشهرها: عيد الميلاد وعيد الفصح، يظهرون فيها الفرح والسرور والمنكر والزور، وللعجم أعياد مشهورة كعيد المهرجان والنيروز، وكل هذه الأعياد تشتمل على الشرك والمنكر والزور وفنون من البدع والفجور، ولهذا ورد النهي عن الدخول عليهم في أعيادهم، فإن السخط ينزل عليهم.

أما العرب في جاهليتهم، فإن لهم أعيادًا يقدسونها ويقرّبون القرابين لآلهتهم فيها، كاللات والعزى ومناة وهبل، ويذبحون على قبور من يعظمونهم الإبل والبقر والغنم، ويفتخرون بذلك في أعيادهم وأشعارهم[5]، ولهذا أكثر القرآن الكريم من تحريم ما أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب، وما لم يذكر اسم الله عليه، وفسره بعض العلماء بما أهل لغير الله، لأن هذه الأعمال الشركية هي الرائجة في أعيادهم وعوائدهم، ولمّا نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، سأل النبي ﷺ عن ذلك، «فقال: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لَا. قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ». قَالُوا: لَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». رواه أبو داود من حديث ثابت بن الضحاك.

فبعد أن علم النبي ﷺ بطهارة الساحة المنذور عليها من عوائد الأعياد البدعية والأعمال الشركية أمره بأن يفي بنذره لتمحض هذا النذر في عمل البرّ.

* * *

[4] متفق عليه من حديث عائشة. [5] كقول الشاعر:
فإذا عبرت بقبره فاعقر به
كوم الهجان وكل طرف سابحِ
وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ
هذا الشعر لأبي أمامة زياد بن الأعجم، رثى به المهلب بن أبي صفرة في قصيدة طويلة ذكر ابن خلكان طرفًا منها في تاريخه ج 2 - ص 145.

الأعياد الإسلامية

جاء الإسلام فنسخ سائر الأعياد البدعية ونهى عنها وعن الدخول على أهلها، وأخبر أن السخط ينزل عليهم فيها.

قال أنس: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ». رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. فهذان اليومان اللذان يلعبون فيهما هما عيدان لهما زمن الجاهلية، فأبدلهما الله بهما بعيد الأضحى وعيد الفطر، فهما عيدا عبادة لأهل الإسلام، فعيد الفطر شرع شكرًا لإتمام الصيام والهداية إلى الإسلام وشرع فيه إخراج صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ليستغنوا بها عن تكفف الناس في هذا اليوم العظيم، حيث قال: «أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»[6].

كما أن عيد الأضحى شرع لاستكمال مناسك حجهم، وشرع فيه تقريب القرابين من إراقة دماء الأضاحي والمناسك لله رب العالمين، وسُمي من أجل ذلك يوم النحر، لكون جميع المسلمين من أهل الأمصار والبوادي والحجاج والمقيمين كلهم يتقرّبون إلى الله فيه بإراقة دماء القرابين قائلين: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ [الأنعام: 162-163]. وسمي يوم الحج الأكبر من أجل أن واجبات الحج تفعل فيه، من الوقوف بمزدلفة ثم الدفع إلى منى ثم رمي جمرة العقبة ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف بالبيت الذي هو ركن الحج الأكبر، لهذا صار أفضل من عيد الفطر، وشرع في العيدين صلاة العيد المعروفة، إظهارًا لشكر بلوغ عيد الإسلام وللدعاء بقبول صالح الأعمال، كما شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتهما، وعند الخروج إليهما؛ إشهارًا لشرفهما وإكبارًا لأمرهما ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [البقرة: 185]. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وقد أباح الشارع إظهار الفرح والسرور في العيدين، واستعمال اللعب المباح فلم يمنعهم من إظهار عوائدهم المباحة التي كانوا يعتادونها في أعيادهم زمن جاهليتهم من ضربهم بالدف ولعبهم بالحراب والسيوف، لما في البخاري عن عائشة قالت: «دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فجاء أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِى وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ!. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: «دَعْهُمَا يا أبا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا»».

وكان يوم عيد لعب السودان فيه بالدرق والحراب وهو يقول: «دونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ»[7]. وفي رواية قال: ««لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِى دِينِنَا سعة»، أو قال: «فُسْحَةً»»[8].

* * *

[6]رواه ابن عدي في الكامل وأعله بأبي معشر نجيح. أجاز الإمام أبو حنيفة إخراج القيمة في صدقة الفطر نظرًا لمصلحة الفقير متى كانت القيمة أنفع له، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والحكمة في مشروعية صدقة الفطر هو إغناء الفقير بها يوم العيد وقد أصبحت الأصناف من التمر والبر والشعير والزبيب والأقط لا تفيد الفقير غنى في كثير من البلدان، وأصبح الفقراء يسخطون قبولها ويمتنعون عن قبضها ويطلبون النقود بدلها، لكون النقود تعمل في الإغناء وسد الحاجة ما لا تعمله الأصناف المذكورة، ولكون هذه الأصناف ليست بقوت الكثير من الناس والشارع الحكيم إنما قصد بمشروعية صدقة الفطر هو إغناء الفقراء في خاصة يوم العيد، وقد راعى الشارع في إيجابها حال قدرة الناس وميسورهم لقول أبي سعيد: كنا نعطيها زمن النبي ﷺ صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب. متفق عليه. وفي روايـة: أو صاعًا من أقط. لأن هـذه الأصناف تعمل عملها في سد العوز بها زمن النبي ﷺ حتى إن الشعير هو ركن القوت في زمنهم والبر النقي يعد من النادر القليل، وقد توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من الشعير، وأما الآن فليس بطعام للناس، وإنما يطعم به بهائم الحيوان، وكذلك التمر كانوا يكتفون به قوتًا على انفراده، تقول عائشة: والله إنه ليمضي علينا الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقد في بيت من بيوت رسول الله نار. قلت: ما كنتم تتقوتون به؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقد أصبح الآن في كثير من البلدان لا يعتبره الفقير قوتًا، وكذلك الزبيب والأقط لا يعتمده الناس قوتًا، مع كونهما نادري الوجود ولم يفرض النبي ﷺ صدقة الفطر بالنقود لمشقة النقود عليهم وعدم رواجها في زمنهم، أما سمعت النبي ﷺ أعطى عروة البارقي دينارًا ليشتري له أضحية فاشترى له بالدينار أضحيتين، وكان النبي يأخذ بالبعير والبعيرين والثلاثة إلى إبل الصدقة، لعدم النقود في زمنه، أما الآن وفي هذا الزمان، فإن إخراج القيمة أنفع للفقير وأقوم بسد حاجته وحصول الغنى بها محقق في الأكل وتوابعه وفي اللباس وغيره، إذ هي صدقة وأفضل الصدقة أن تتصدق بما تحب ومن الطيب وسر الحكمة فيها أنها فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وقال: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم» ولم يقصد الشارع حصر الوجوب في هذه الأصناف المنصوص عليها مع استغناء الناس ورغبتهم في غيرها. [7] متفق عليه من حديث عائشة. [8] أخرجه أحمد من حديث عائشة.

القرابين عند الأمم الأخرى وفي الإسلام

إن تقديم القرابين لا يزال موجودًا في سائر الأمم والملل، وقد قص الله في كتابه خبر ابني آدم لصلبه فقال تعالى: ﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ [المائدة: 27]. قيل: إن قابيل قدم قربانه ثمرًا من ثمار الأرض، وهابيل قدم قربانه من أبكار غنمه، وكانت القرابين تنقسم عندهم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: الذبيحة المحرقة، يحرقونها ولا يأكلونها يزعمون أنهم يفعلونها لرضى الرب. والثانية: قرابين التكفير عن الخطايا، يحرقون بعضها وتأكل الكهنة بعضها. والثالثة: قرابين السلامة، يأكلونها لأن أكلها حلال عندهم، وإذا كان الإنسان فقيرًا لا يمكنه أن يقدم من الحيوان ذوات الأربع قبلوا منه تقديم ذبيحة الطيور، فهذه صفة القرابين عند الأمم، ويشترط في القرابين كلها أن تكون سليمة من العيوب، أما القرابين في الإسلام فإنها عبارة عما يقرّب إلى الله ويذكر عليه اسم الله، من دماء الأضاحي والمناسك وما يهدى إلى البيت، وكذا العقيقة والمنذور ذبحها لله؛ لئن شفى الله مريضي أو رد غائبي، فلله أن أذبح بدنة أو كبشًا. ويدخل فيه دماء الجبرانات وهي الدماء الواجبة بسبب ترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور من محظوراته.والقرابين يجوز فيها ما لا يجوز في الأضاحي، فتجوز من الطيور، كالدجاج أو البط، ومن الثمار، كالبر والتمر، وغير ذلك من كل ما يتقرّب به إلى الله ويهدى إلى حرم الله.

كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال في الجمعة: «مَن غدا فِى السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً»[9]. فجعل الدجاجة والبيضة من جملة القرابين، وعليه يحمل ما روي عن أبي هريرة أنه ضحى بديك، وكذلك بلال- مؤذن الرسول- ضحى بديك، لأن هذا الديك وإن لم يكن أضحية على الصفة المطلوبة، فإنه لن يخرج عن مسمى القربان الذي يقرّبه صاحبه إلى الله ويرجو ثوابه بإراقة دمه في يوم العيد عند الله، إذ هذا من باب جهد المقل والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها[10].

* * *

[9] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [10] ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية قال: تولى رجل مقل فقير قضاء الأهواز، فأبطأ عليه رزقه وحضر عيد الأضحى وليس عنده ما يضحي به ولا ما يشتري به أضحية، فشكا سوء حاله إلى زوجته، فقالت له: لا تغتم، فإن عندي ديكًا جليلاً قد سمنته فإذا كان عيد الأضحى ذبحناه أضحية، فلما كان يوم العيد وأرادوا ذبح الديك طار من بينهم على سقوف الجيران فطلبوه من دار إلى دار، ففشى الخبر بين الجيران أن القاضي يريد أن يضحي بديك وكانوا مياسير فرحموا القاضي لفقره فأهدى إليه كل واحد كبشًا فاجتمعت في داره أكبش كثيرة وهو في مصلى العيد لا يعلم بها، فلما رجع إلى منزله بعد فراغه من صلاة العيد قال لزوجته: من أين لكم هذه الأضاحي؟ قالت: أهدى لنا فلان هذا وأهدى لنا فلان هذا، وأخذت تعددها، فقال: ويحك احتفظي بديكنا؛ فإن إسحاق بن إبراهيم - يعني به إسماعيل - بن إبراهيم لم يفد إلا بكبش واحد، وقد فدي ديكنا بعدة أكباش.

الأضحية الشرعية[11]

[11] الأضحية فيها أربع لغات: أضحية وإضحية، بضم الهمزة وكسرها. وجمعها أضاحي، واللغة الثالثة: ضَحية. والرابعة: أضحاة، بفتح الهمزة والجمع: أضحى، كأرطاة وأرطى، سميت بذلك لكونها تفعل في الضحى وهو ارتفاع النهار.

الوجه الأول:

كل من تدبر النصوص الدينية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تبين له بطريق الوضوح والجلية والدلائل القطعية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء، وأشبه مشروعية صدقة الفطر فيمن أدرك عيد الفطر، فهي والحالة هذه تعد من شعائر الدين ومن القرابين التي تقرّب لرب العالمين، وفيها التشريف لعيد الإسلام وعيد حج بيت الله الحرام المسمى في كتاب الله بيوم الحج الأكبر، فيتقربون إلى الله فيه بإراقة دم القرابين من الأضاحي ودماء المناسك إشهارًا لشرفه وإكبارًا لأمره ولتكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهـم من القرابين وفيها القيام بامتثال طاعة الله والتأسي بسنة رسول الله، وفي فعلها إظهار لشكر نعمة الغنى، حيث جعل من يضحي من الأغنياء المقتدرين ولم يجعله من الفقراء العاجزين. وهذا يعد من أسمى منازل الرفعة والفضيلة؛ لأنه لا أعلى منزلة من طاعة الإنسان لمولاه والتقرّب إليه بوسائل رضاه.

وكان رسول الله يقسّم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه السنة وإدخال السرور عليهم بفعلها، كما أنه يذبح أضاحيه بمصلى العيد بمرأى من جميع الناس ومسمع؛ إشهارًا لشرف هذه الشعيرة وإشعارًا بمكانها من الشريعة، وعن زيد بن أرقم قال: «قلنا - أو قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ». قَالَ قُلْنَا: فَمَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ:« بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصُّوفُ قَالَ: «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»». رواه أحمد وابن ماجه.

فالذبح في مثل هذا اليوم يعد من العبادة لرب العالمين ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ [الأنعام: 162-163]، كما أن الذبح للصنم والذبح للجان والذبح للزّار والذبح للقبر، يعد من الشرك المبين، ففي البخاري عن عليٍّ قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات فقال: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غيّر منار الأرض»، أي مراسيمها. والأضحية إنما شرعت في حق الحي لا الميت، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، أما القرآن فإن مبدأ مشروعية الأضحية في الإسلام هو ما قص الله عن نبيه إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام حيث قال: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ١٠٨ [الصافات: 107-108].

وهذا الذبح هو كبش أمر إبراهيم بأن يذبحه قربانًا إلى الله في يوم عيد النحر على ما قيل، فكان سنة في ذريته، حيث أمر رسول الله بأن يتبع ملته، فسنها رسول الله ﷺ لأمته، كما في حديث زيد بن أرقم المتقدم، «قال: قلنا أو قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ « سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ». قَالُوا وَمَا لَنَا فِيهَا قَالَ: بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ»[12]. الحديث، فهذا هو مبدأ مشروعية الأضحية وأنها من خصوصية الأحياء تشريفًا للعيد، وشكرًا لله على بلوغه كما يدل له قضية الحال والمقال.

[12] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم.

الوجه الثاني:

قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ ٣٤ [الحج: 34].

قال ابن عباس: لكل أمة جعلنا منسكًا، أي عيدًا. وقال عكرمة: ذبحًا. والمعنى متقارب، يخبر سبحانه أن الأعياد وتقريب القرابين فيها لا يزال مشروعًا في سائر الملل والأمم، وقوله: ﴿لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ، أي عند ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فمن الناس من يهل ذبيحته للطواغيت والأصنام فتكون على آكلها من أصناف الحرام، ومنهم من يذبحها على اسم الله كالأضاحي ودماء المناسك وسائر ما يتقرب به إلى الله ويأكلون مما رزقهم الله من لحومها حلالاً طيبًا، وهذا هو حقيقة ما يفعله المسلمون في أعيادهم، يأكلون ويهدون ويتصدقون، وفي الآية الأخرى: ﴿وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ [الحج: 28]، فهذه وإن نزلت في دماء المناسك، فإن الحكم في الأضحية كالحكم في الهدي، لأن الأضاحي ودماء المناسك معناهما واحد. قاله في الكافي، وأما الأيام المعلومات فهي يوم العيد وأيام التشريق.

وبهذا يترجح قول من قال: إن وقت الذبح هو يوم العيد وثلاثة أيام بعده. كما هو ظاهر مذهب الشافعي، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لما روي عن جبير بن مطعم، أن النبي ﷺ قال: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» رواه أحمد والدارقطني.

وفي رواية: «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ»، ويدل له حديث نبيشة الهذلي، أن النبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل» رواه مسلم، وعن عائشة وابن عمر قَالَا «لَمْ يُرَخَّصْ فِى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْي». رواه البخاري. وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد بالاتفاق، والتي شرع التكبير فيها في سائر أدبار الصلوات المكتوبة، وظاهر مذهب الإمام أحمد: أن وقت الذبح هو يوم العيد ويومان بعده، وبه قال مالك وأبو حنيفة.

والحاصل أن الخطاب في هذه الآيات موجه إلى الأحياء الذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عند ذبح أضاحيهم، وأن يأكلوا مما رزقهم الله من لحومها، وأن يطعموا البائس الفقير، وهذا الخطاب لا ينطبق إلا على الأحياء المكلفين بالأمر والنهي، المستمعين للقول والمتبعين أحسنه.

الوجه الثالث:

قوله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ [الحج: 36].

فأخبر الله بنعمه على عباده والتي من جملتها تسخير البدن لهم؛ أي الإبل، وجعلها من شعائر الله، ولا تكون من شعائر الله إلا إذا ذبحت في عمل الطاعة كالأضحية والهدي، قال تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ [الحج: 32]، قال ابن عباس: تعظيم الشعائر استسمانها واستحسانها[13]، وقوله: ﴿لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞ تركبونها وتشربون ألبانها وتأكلون لحومها.

وقوله: ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّ أي عند ذبحها حال كونها معقولة يدها اليسرى صافة بقية قوائمها، لأن هذا هو سنة ذبح الأضحية، قال البخاري: ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّ قال ابن عباس: قيامًا، وعن ابن عمر أنه أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ لِيَنْحَرَهَا فقال: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ». متفق عليه. وعن عبد الرحمن بن سابط: أن النبي ﷺ وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة يدها اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.

﴿فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا، أي سقطت بالأرض بعد ذبحها ﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وهو السائل ﴿وَٱلۡمُعۡتَرَّ وهو المعترض الذي يريك نفسه لتذكره، ﴿كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ، وهذا كله خطاب مع الأحياء الذين خلق لهم البدن وجعل لهم فيها خيرًا يتمتعون بركوبها وبالحمل عليها ويتنعمون بألبانها ولحومها، والذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عليها عند ذبحها وأن يأكلوا من لحمها ويطعموا السائل المتكفف والفقير المتعفف، فلا علاقة في هذه الآيات لذكر الأموات أبدًا، لكونها إنما شرعت في حق الحي الذي هو محل التكليف بالأمر والنهي.

[13] لهذا يستحب استسمان الهدايا والأضاحي واستحسانها، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فأضحية حسنة سمينة قيمتها مائتان أفضل من أضحيتين دونها في السمن قيمتهما مائتان، لكون المطلوب هو السمين الحسن لا كثرة العدد، وقد كان أصحاب رسول الله يسمنون أضاحيهم. وأما الاستحسان، فـروي من حـديث أبي هـريـرة مـرفوعًا: «دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ»، رواه أحمد والحاكم والبيهقي. وورد الشرع بالنهي عن العيوب المانعة للإجزاء كما يعرف تفصيلها من كتب الأحكام والفروع، لكن متى تعيبت الأضحية بعد التعيين ولم تكن واجبة في ذمته قبل ذلك ذبحها وأجزأته، لما روى أبو سعيد الخدري قال: «اشْتَرَيْت كَبْشًا لِأُضَحِّيَ بِهِ فَعَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْيَةَ فَسَأَلْت النَّبِيَّ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ» رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي. ولهذا كره الأضحية بشاة حامل، لكون الحمل يفسد لحمها وذهب الإمام الشافعي إلى عدم الإجزاء بها.

الوجه الرابع:

قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، قال جماعة من المفسرين: نزلت في صلاة العيد، ثم في النحر بعده. فالذبح للأضحية إنما شرع في حق من خوطب بفعل صلاة العيد، تشريفًا لعيد الإسلام وشكرًا لله على بلوغه وإدخالاً للسرور على الأهل والعيال بأكل اللحم فيه، وقد قال الفقهاء من الحنابلة بجواز أن يضحى لليتيم من ماله لإدخال السرور بها عليه، ويجوز أن تضحي المرأة من مال زوجها بلا إذنه، لكونها من النفقة بالمعروف.

وأما الأحاديث فمنها ما روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ»، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى جَذَعَةً. فَقَالَ: اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ففي هذا الحديث بيان صفة الأضحية الشرعية وأنها سنة في حق من أدركه العيد من الأحياء. وقد ترجم على ذلك البخاري في صحيحه فقال: باب سنة الأضحية، قال ابن عمر: هي سنة ومعروف، ثم ذكر حديث البراء المتقدم وفيه أن من ذبح على خلاف ما سنه رسول الله في الأضحية، فإن ذبيحته شاة لحم وليست من الأضحية في شيء، لحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ»[14].

ومنها ما رواه أبو هريرة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم، لكن رجح الأئمة غيره وقفه.

فهذا الحديث إنما خاطب به النبي ﷺ من صلى العيد معه وكان لديه مقدرة على الأضحية، ومنها حديث مخنف بن سليم، أن النبي ﷺ قال بعرفات: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ فِي كُلِّ عَامٍ وَعَتِيرَةٌ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي، لكنه منسوخ بحديث «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»[15]، وقيل: المنسوخ العتيرة فقط والأضحية باقية، إما على الأمر للوجوب أو للاستحباب، وقد أخذ بهذين الحديثين من قال بوجوب الأضحية، كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة، أنها واجبة على المقيمين من أهل الأمصار لمواظبة النبي عليها عشر سنين مدة إقامته بالمدينة، وهي رواية عن مالك، والرواية الثانية عن الإمام أحمد، والظاهر من مذهب مالك والشافعي وأحمد، أنها مستحبة وليست بواجبة، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وإنما هي سنة مؤكدة. قال الإمام أحمد: أكره تركها لمن قدر عليها. وروي مثل هذا القول عن مالك والشافعي.

ومنها ما روى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا فِيكُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ يُضَحِّى بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى». رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.

وقد ورد في فضائلها أحاديث كثيرة، كحديث: «احضروها إذا ذبحت، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا»[16]، وحديث: «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ يوم النّحر إِرَاقَةُ دَمٍ»[17]، وحديث: «إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ -على الصفة التي ذبحت عليها- بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ»[18]، وحديث: «إِنَّ لِلْمُضَحِّي بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ»[19]، وحديث: «إن الدراهم لن تنفق في عمل صالح أفضل من نفقتها في أضحية يوم النحر»، فهذه الأحاديث وإن كان فيها مقال للنقاد غير أن هذه النصوص والفضائل إنما وردت في أضحية الحي[20] إذ إنها هي الأضحية الشرعية المنصوص عليها بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين، لكون الأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والإقرارات والشواهد للأحوال، فلا تحصل هذه الفضائل إلا إذا وقعت الأضحية موقعها من الصفة المأمور بها على الوجه المطابق للحكمة في مشروعيتها، بأن قصد بها امتثال أمر الله واتباع سنة رسول الله، وتجرّدت عن البدع الخاطئة والتصرفات السيئة، فيكون والحالة هذه ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، كما هو ظاهر مذهب الأمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، ولأن في ذبحها إحياء لسنتها وخروجًا من عهدة من قال بوجوبها، ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، أشبه العقيقة فإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بالإجماع.

* * *

[14] أخرجه مسلم وأحمد من حديث عائشة. [15] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [16] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمران بن حصين. [17] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [18] أخرجه الترمذي من حديث عائشة. [19] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم. [20] (أ)- حديث «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن غريب. والحاكم وقال: صحيح الإسناد. كلهم رووه عن عائشة أن رسول الله.. إلخ. (ب) وحديث: «قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَة»» رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وطعن المنذري في تصحيح الحاكم له، لأن في إسناده عائذ الله المجاشعي وأبو داود نفيع بن الحارث الأعمى وكلاهما ساقط. (ج) وحديث أن النبي ﷺ قال: «يَا فَاطِمَةُ قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ لَكِ بَأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا أَنْ يُغْفَرَ لَكِ»، قالت: يا رسول الله، ألنا خاصة أهل البيت أو لنا وللمسلمين، قال: «بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ» رواه البزار وأبو الشيخ، ابن حبان، من حديث أبي سعيد الخدري ورواه أبو القاسم الأصبهاني عن علي، قال المنذري: وقد حسن بعض مشايخنا حديث علي هذا. (د) وحديث «مَا أُنْفِقَتُ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ نَحيرٍ يُنْحَرُ فِي يَوْمِ عِيدٍ» رواه الطبراني في الكبير والأصبهاني من حديث ابن عباس. (هـ) وحديث «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ، فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ» قال ابن حجر: لم أره معزوًّا إلى أحد، وقال ابن الصلاح: هذا حديث غير ثابت ولا معروف، وذكر ابن العربي، شارح الترمذي مثل ذلك.

فصـل في جواز اشتراك أهل البيت في ثواب الأضحية سواء كانت شاة، أو سُبع بدنة

اعلم أن كل ما قلناه في الأضحية الشرعية، فإن المراد بها ذبح شاة أو سبع بدنة أو بقرة، والشاة تطلق على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وسبع البدنة يقوم مقام الشاة في سائر ما تعمل فيه الشاة على السواء، فكل من وجب عليه هدي، بسبب متعة أو قران أو إحصار لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور من محظوراته أجزأه ذبح شاة أو سبع بدنة أو بقرة، لحديث جابر قال: نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. رواه البخاري ومسلم، وثبت هذا الاشتراك في الحج أيضًا لما في صحيح مسلم عن جابر، قال: اشتركنا مع النبي في الحج والعمرة، كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقر كما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن. وروى أحمد عن حذيفة، أن النبي ﷺ أشرك بين المسلمين في حجته البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.

وقيس على ذلك الاشتراك في الأضاحي، لأنها نظيرة الهدي كل سبعة في بدنة، وهو قول الجمهور، وذهب مالك إلى عدم الاشتراك في البدنة إلا خاصة أهل البيت الواحد وقد ساء فهم بعض الناس في هذه الأحاديث، حيث قالوا: بوجوب الاقتصار في الأضحية بالبدنة على سبعة أنفار فقط، لكل واحد منهم سبع بدنة، وأنه لا يجوز الاشتراك في ثواب السبع في حق من تطوّع به أخذًا من مفهوم قوله: اشتركنا مع رسول الله البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وهذه الأحاديث صحيحة ثابتة في المعنى المراد منها، فإن هذا الاشتراك وقع بالأمر به من النبي عام الحديبية، حينما أحرموا بالعمرة فصدتهم قريش عن دخول مكة لإتمام عمرتهم فصاروا محصرين فأمرهم النبي أن ينحر كل واحد منهم هديًا ويتحلل من إحرامه، لقول الله: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِ [البقرة: 196].

وأمرهم أن يشتركوا السبعة في بدنة والسبعة في بقرة، لكون السبع يقوم مقام الكبش في الإجزاء، وهذا الدم الواجب على كل شخص بسبب الإحصار، يجب عليه كاملاً بانفراده بدون أن يشرك أحدًا في ثوابه، سواء ذبح كبشًا أو سبع بدنة لانعقاد سبب وجوبه عليه في ذمته، أشبه دين الآدمي ومثله اشتراكهم في الحج والعمرة، فإن المتمتع والقارن يجب عليه هدي، لقول الله تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِ [البقرة: 196]، لهذا اشتركوا في البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وأكثرهم فدى بالغنم، وهذا الفدي يجب على كل متمتع وقارن بانفراده بدون أن يشرك أحدًا في ثوابه، لانعقاد سبب وجوبه عليه حينما أحرم بالحج والعمرة، سواء أهدى كبشًا أو سبع بدنة كما قلنا في دم الإحصار على السواء، ومثله الدم الواجب لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور من محظوراته، فيجب عليه فيه دم، فلا يجوز أن يشرك أحدًا في ثوابه لعدم مشروعية الاشتراك فيما ذكرنا من الواجبات.

وليس كذلك الأضحية المتطوّع بها، فقد ورد النص في الاشتراك لأهل البيت في ثوابها، لما ثبت أن النبي ضحى بكبش عنه وعن أهل بيته، وقال: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»[21]، وكما ثبت عن الصحابة أن أحدهم كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، وسبع البدنة يقوم مقام الشاة في سائر ما تعمل فيه الشاة، لهذا يجوز للشخص أن يشرك أهل بيته معه في ثواب السبع كما يشركهم معه في ثواب الكبش، إذ هما في الحكم سواء، وقد ترجم على ذلك المجد في المنتقى، فقال: باب البدنة من الإبل والبقر عن سبع شياه وبالعكس لما روي عن ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال: إن علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها، فأمره النبي أن يبتاع سبع شياه وأن يذبحهن. رواه أحمد وابن ماجه، فجعل مقابل البدنة سبع شياه كما ترى.

فمن قال بجواز اشتراك أهل البيت في الأضحية بالشاة ولو كانوا مائة، ومنع الاشتراك في البدنة على ما زاد على السبعة فقد خالف المعقول والمنقول، ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح، والله أعلم.

* * *

[21] أخرجه أحمد من حديث أبي رافع.

الأضحية الشرعية عن الميت وهل هي شرعية أو غير شرعية؟

اعلم أن هذا الفصل هو الباعث لتأليف الأصل، وقد سبق بيان مشروعية الأضحية وما يترتب عليها من الفضيلة، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها في حق من أدركه العيد من الأحياء؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها وامتثالاً لأمر الله فيها واتباعًا لسنة رسول الله في مشروعيتها، كما هو ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وكل الأحاديث الدالة على فضيلتها.

إنما يقصد بها أضحية الحي، إذ هي المشهورة المشروعة بصريح الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين والسلف الصالحين.

أما الأضحية عن الميت، فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير والسير، لم نجد دليلاً صريحًا من كتاب الله ولا حديثًا صحيحًا عن رسول الله يأمر بالأضحية عن الميت أو يشير إلى فضلها ووصول ثوابها إليه، ولم ينقل أحد من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يضحون لموتاهم، ولم يذكر فعلها عن أحد منهم، لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا في سائر تبرعاتهم، ولم يقع لها ذكر في كتب الفقهاء من الحنابلة المتقدمين، لا في المغني على سعته، ولا في الكافي، ولا المقنع، ولا في الشرح الكبير، ولا المحرر، ولا الإنصاف، ولا النظم، ولا في المنتقى، والإلمام في أحاديث الأحكام، ولا في إعلام الموقعين، ولا في زاد المعاد، ولا في البخاري، ولا في شرحه فتح الباري، ولا في مسلم، ولا في شرح مسلم للنووي، ولا في نيل الأوطار للشوكاني، ولا في سبل السلام للصنعاني، ولا في التفاسير المعتبرة: كابن جرير الطبري، وابن كثير، والبغوي، والقرطبي، فتركهم لذكرها ينبئ عن عدم العمل بها في زمنهم أو على عدم مشروعيتها عندهم، والظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، عدم جواز فعلها عن الميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وخص الإمام أبو حنيفة الجواز بما إذا عينها ثم تُوفي بعد تعيينها، فإنها تذبح عنه تنفيذًا للتعيين. والقول الثاني: أنه لا يجوز ذبحها، بل تعود تركة، لكونه لا أضحية لميت، حكى القولين في المبسوط و بدائع الصنائع، وأشار إليه الطحاوي في مختصره.

ولم نجد عن الإمام أحمد، نصًّا في المسألة لا جوازًا ولا منعًا، فلا يجوز نسبة القول بالجواز إليه عند عدم ما يدل عليه، إلا أن تؤخذ من مفهوم قوله: الميت يصل إليه كل شيء، وهي كلمة تحتاج إلى تفصيل، إذ لا يصح أن يصل إلى الميت كل شيء من عمل الغير حتى عند الإمام أحمد نفسه، كما سيأتي بيانه، فالقول: بأن جواز الأضحية عن الميت هو ظاهر المذهب إنما يتمشى على الاصطلاح الحديث من أن المذهب هو ما اتفق عليه الإقناع و المنتهـى، وقد قالا بجواز ذلك أو استحبابه، فهذا شيء ونسبة القول به إلى الإمام أحمد شيء آخر.

وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام في المسألة هو أبو داود في سننه حيث قال: باب الأضحية عن الميت، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش، قال: رأيت عليًّا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله أوصاني أن أُضحي عنه فلا أزال أضحي عنه. ورواه الترمذي في جامعه بلفظه ومعناه وقال: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم قال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: حنش هو أبو المعتمر الصنعاني، وقد تكلم فيه غير واحد، قال ابن حبان البستي: كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج به، وشريك: هو أبو عبد الله القاضي فيه مقال، وقد أخرج له مسلم في المتابعات[22]. انتهى. وأبو الحسناء: هو مجهول لا يعرف. قاله ابن حجر في التقريب، وقال ابن العربي في شرح الترمذي: هذا حديث مجهول.

ثم قال الترمذي: قد رخص بعض أهل العلم أن يضحى عن الميت ولم ير بعضهم أن يضحى عنه، وقال عبد الله بن المبارك: أحب إلي أن يتصدق عنه ولا يضحى، فإن ضحى فلا يأكل منها شيئًا ويتصدق بها كلها. وأخرجه البيهقي في سننه، وقال: إن ثبت هذا كان فيه دلالة في التضحية عن الميت، ومن المعلوم عند أهل الحديث عدم ثباته وأنه ضعيف لا يحتج به. ثم قال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: قلت: إني لم أجد في التضحية عن الميت منفردًا حديثًا صحيحًا مرفوعًا، وأما حديث علي المذكور في هذا الباب فضعيف، كما عرفت.

وقد أخذ بعض الفقهاء بظاهر حديث علي ولم ينظروا إلى ضعفه في سنده ومتنه ولا إلى عدم الاحتجاج به ولا إلى عدم عمل الصحابة بموجبه، لأن أكثر الفقهاء يتناقلون الأثر على علاته بدون تمحيص ولا تصحيح وينقل بعضهم عن بعض حتى يشتهر وينتشر ويكون كالصحيح، وكل من تدبر أقوال الفقهاء القائلين بجواز الأضحية عن الميت مطلقًا، أو بجوازها متى أوصى بها أو وقف وقفًا عليها، وجدهم يستدلون على ذلك بحديث علي هذا، أن النبي أوصاه أن يضحي عنه، لظنهم أنه صحيح، لأن غالب الفقهاء لا يعرفون الصحيح من الضعيف معرفة تامة، فينشأ أحدهم على قول لا يعرف غيره ولم يقف على كلام أهل الحديث في خلافه وضعفه فيظنه صحيحًا، ويبني على ظنه جواز العمل به والحكم بموجبه، وقد استأنسوا في هذا الباب بما روي عن أبي العباس السراج، وكان أحد مشايخ البخاري أنه قال: ختمت القرآن للنبي اثنتي عشرة ألف ختمة، وضحيت عنه باثنتي عشرة ألف أضحية. ذكر هذه الحكاية ابن مفلح في الفروع في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى من آخر كتاب الجنائز، وهي حكاية شخص عن فعل نفسه ليست بأهل أن يصاخ لها وليس من المفروض قبول هذه المجازفة الخارجة عن حدود الحق والعدل، إذ ليس عندنا دليل يثبت إهداء الأضحية وتلاوة القرآن إلى رسول الله، ولو كان صحيحًا لكان صفوة أصحابه وخاصة أهل بيته أحق بالسبق إلى ذلك، ولم يثبت عن أحد منهم أنه حج عن رسول الله أو صام أو أهدى ثواب قراءته أو أضحيته إليه، وإنما الأمر الذي عهده رسول الله لأمته هو اتباع هديه والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وأن يكثروا من الصلاة والتسليم عليه، وأن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقامًا محمودًا الذي وعده، هذا هو الأمر الذي شرعه رسول الله لأمته، بخلاف إهداء ثواب القرب الدينية، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يستحب إهداء القرب الدينية إلى النبي ﷺ بل هو بدعة. قاله في الاختيارات.

فمتى كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه لا يوجد في الأضحية عن الميت حديث صحيح يدل دلالة صريحة على الأمر بها، فضلاً عن أن يكون فيها أخبار متواترة أو مستفيضة امتنع حينئذ التصديق بكون النبي أوصى بها أو شرعها لأمته، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة ولا أهل بيته ولا التابعين مع تكرار السنين وحرصهم على محبة الرسول واتباع سنته وتنفيذ أوامره والعادة تقتضي نقل ذلك لو وقع، إذ هي من الأمور الظاهرة التعبدية التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وتبليغها، لكونهم أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، فمتى كان الأمر بهذه الصفة علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة ولا مرغب فيها، والتعبدات الشرعية مبنية على التوقيف والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، كما قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.

فإن قيل: بم عرفتم أن الصحابة والتابعين لم يضحوا عن موتاهم؟ قيل: علمنا ذلك بعدم نقله عنهم. وهذه أسفار السنة على كثرتها لا تثبت عن أحد منهم فعلها لا في سبيل تبرعاتهم لموتاهم ولا في أوقافهم ولا الوصايا الصادرة منهم، ومن المعلوم أن الأمور الوجودية يتناقلها الناس من بعضهم إلى بعض حتى تشتهر وتنتشر، كما نقلوا سائر السنن والمستحبات، أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها، فإن الناس لا ينقلونها إلا عندما يحتاجون إلى ردها وبيان الهدى من الضلال فيها، فلو نقل ناقل أن أصحاب رسول الله كانوا يحجون له أو يضحون له أو يقرءون القرآن ويهدون ثوابه إليه لحكمنا بكذبه لعدم نقله، ولو فتح هذا الباب لاحتج كل واحد لبدعته بما يؤيدها، فتفشو البدع ويفسد الدين.

والمقصود أن الأضحية عن الميت لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله مشروعيتها، ولم ينقل عن رسول الله بطريق صحيح الأمر بها، لا بطريق التصريح ولا الإيماء، ولهذا لم يفعلها أحد من الصحابة، فعدم فعلها يعد من الأمر المجمع عليه زمن الصحابة والتابعين واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة.
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف

* * *

[22] المقال الذي في شريك بن عبد الله القاضي هو أنه يخطئ كثيرًا وقد تغير حفظه بعدما ولي القضاء بالكوفة قاله في تقريب التهذيب وقال في علوم الحديث: تفرد بهذا الحديث أهل الكوفة. وفي إسناده حنش بن ربيعة، وهو مختلف فيه، وقال ابن القطان: شيخ شريك في هذا الحديث أبو الحسناء، وهو لا يعرف حاله. قاله في التلخيص.

أضحية النبي ﷺ عن أمته

قد يحتج من يرى جواز الأضحية عن الميت بأضحية النبي عن أمته ومنهم الأحياء ومنهم الأموات، وأنها كما تكون للأحياء من أمته، فإنها تكون للأموات كما يقوله بعض من يحتج به.

وأصل الحديث ثابت صحيح، قد رواه الأئمة عن جماعة من الصحابة لكنه ليس بصريح في الدلالة على المعنى الذي ذكروا، ولفظه عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عِيدَ الأَضْحَى فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِىَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّى وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِى»» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِى رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِى مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِى جَمِيعاً مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِى بِالْبَلَاغِ». ثُمَّ يُؤْتَى بِالآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ «هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ». فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعاً الْمَسَاكِينَ وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ يُضَحِّى قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالْغُرْمَ» رواه أحمد، «وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِى سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِى سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِى سَوَادٍ فَأُتِىَ بِهِ لِيُضَحِّىَ بِهِ ثُمَّ قَالَ «يَا عَائِشَةُ هَلُمِّى الْمُدْيَةَ». ثُمَّ قَالَ «اسْتَحِدِّيهَا بِحَجَرٍ». فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ وَقَالَ «بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدِ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ»». رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

فهذا هو الفعل الثابت عن رسول الله، وأن كل الأضاحي وقعت عن رسول الله بطريق الأصالة وإنما أشرك أمته معه في ثواب إحدى الأضحيتين، كما أشرك آله في ثواب الثانية، وهي قضية فعل تتمشى على قاعدة الخصوصية بالدلائل القطعية، فلا يقاس عليها غيرها، لأن النبي ﷺ بمثابة الأب الشفيق على أمته ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [التوبة: 128]، وقد أثبت الله له الولاية التامة على أمته أخص من ولاية كل إنسان على نفسه وأهل بيته، فقال: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ [الأحزاب: 6]. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»[23]، فمن ولايته على أمته أضحيته عنهم كما ضحى عن أهل بيته، إذ هما في الحكم سواء، ومثل هذه الولاية لا تنطبق على غيره، ولو كان فعلها للتشريع والأسوة لاستحب لكل أحد أن يضحي لأمة محمد، كما فعل رسول الله، ولم يقل بذلك أحد، وهذا هو حقيقة ما فهـمه الصحابة في هذه الأضحية، حيث لم يثبت عن أحد منهم أنه ضحى عن رسول الله ولا عن أمة محمد.

ثم إن أضحية النبي ﷺ عن أمته تشمل جميع أمة محمد، الموجودين في حياته والمعدومين ممن سيوجدون بعد وفاته إلى يوم القيامة، وهذه الأضحية بهذه الصفة لا تنطبق على أضحية غيره، إذ لا يجوز الأضحية عن المعدوم كمن سيولد باتفاق الفقهاء، وقد استظهر العلماء من هذه الأضحية سقوط الوجوب عن كافة الناس بها وبقي الاستحباب فيمن قدر عليها من أمة محمد ومن أهل بيته، كما يفهم منه جواز أضحية الشخص بالشاة عنه وعن أهل بيته، لكون الاشتراك في الثواب موسع فيه، لهذا قلنا: إنه متى ضحى الإنسان لنفسه جاز أن يشرك معه في ثواب أضحيته أبويه الميتين، كما يشرك أهل بيته وخدامه في ثواب أضحيته ولو كانوا مائة، لكونه يغتفر في التبع ما لا يغتفر في الاستقلال في كثير من الأحكام، ولأن مثل هذه الأضحية ذبحت في ملك الحي وعلى حسابه، فهي له بطريق الأصالة وهذا هو الأمر المشروع في الأضحية. ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، وأنه عمل غير مشروع، لهذا يعد من الخطأ في التصرف كون الإنسان يضحي عن أبويه الميتين وينسى نفسه على نسبة عكسية من مشروعية الأضحية، أشبه من يخرج صدقة الفطر عن ميته ويترك نفسه، إذ هما في فساد التصرف سواء.

وهذه الأضحية التي أشرك رسول الله أمته في ثوابها شاملة لجميع أمة محمد، الأحياء منهم والأموات، ومن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ومن سيوجد من هذه الأمة إلى يوم القيامة، ولا يجوز هذا الفعل بهذه الصفة من غيره، فلا يجوز للشخص أن يضحي لشخص آخر ليس من أهل بيته بغير إذنه، كما أنه لا يجوز أن يضحي عما في بطن امرأته، فمتى بطل القول بهذا من غير النبي ﷺ بطل القول بذاك، وهذا يؤيد ما قلنا: من أن هذه الأضحية تتمشى على طريقة الخصوصية، فلا يقاس عليها، إذ لو كانت للتشريع لاستحب لكل واحد أن يضحي عن أمة محمد، كما فعل رسول الله ﷺ وحيث لم يقل بذلك أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من العلماء المعتبرين، علم به سقوط الاحتجاج بموجبه، وأما رواية: «اللَّهُمَّ هذه عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ»[24]، فإن الأمر فيها ظاهر جلي، وذلك أن النبي ﷺ قام بأداء هذه الفضيلة عن الفقراء العاجزين من أمته ليساويهم بالأغنياء المضحين في تقديم القرابين لله رب العالمين، فلا ينبغي أن يحزن العاجز الفقير وقد ضحى عنه البشير النذير، وقد استظهر العلماء من هذا الحديث سقوط الوجوب عن جميع الناس ويبقى الاستحباب في حق من قدر عليها، وقد اتفق الأئمة الثلاثة: الإمام أحمد ومالك والشافعي على كراهة تركها لقادر عليها. كما أن الإمام أبا حنيفة يقول بوجوبها. ثم يقال: كيف يحمل هذا الحديث عدد من الصحابة ويشتهر من بينهم؛ لكون النبي ﷺ ذبح أضاحيه بمصلى العيد بمرأى من جميع الناس ومسمع ثم لم يعمل به أحد منهم لو كان الأمر للتشريع كما زعموا؟! وقد قال الطحاوي في شرح الآثار: إن هذا الحديث صحيح لكنه مخصوص به ﷺ أو منسوخ. وقال صاحب تحفة الأحوذي شرح الترمذي: أما تضحية رسول الله لأمته وإشراكهم معه في أضحيته فمخصوص به، وأما أضحيته عن نفسه وآله فليس بمخصوص به ولا منسوخًا، والدليل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يضحون بالشاة الواحدة، يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته، ولم يثبت عن أحد من الصحابة التضحية عن أمة محمد أو إشراكهم معه في أضحيته البتة. انتهـى.

وهذا الحديث -أي أضحية النبي لأمته- قد اتخذه بعض الأحناف قاعدة أساسية في إهداء ثواب الأعمال إلى الأموات، لكنهم يمنعون من فعل الأضحية عن الميت لكونها تتوقف عندهم على الإذن ولا إذن لميت، ولأنها إتلاف مال وإزهاق أرواح حيوان في عمل غير مشروع، ومنهم من قال بجواز ذلك، كما ستراه فيما يلي، قال في غنية الألمعي[25]: إن قول من رخص في الأضحية عن الميت مطابق للأدلة ولا دليل لمن منعها، وقد ثبت أن النبي كان يضحي بكبشين: أحدهما عن أمته ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، والآخر عن نفسه وأهل بيته، ومعلوم أن كثيرًا من أمته قد ماتوا في عهده فدخل في أضحيته الأحياء والأموات من أمته، وهذا الكبش الذي يضحي به للأحياء من أمته هو للأموات من أمته أيضًا، إذ لا فرق في ذلك ولم يثبت أن النبي كان يتصدق بذلك الكبش كله ولا يأكل منه شيئًا، بل قال أبو رافع: إن رسول الله كان يطعم منها المساكين ويأكل هو وأهله، ولم يحفظ عنه خلافه فإذا ضحى الرجل عن نفسه وعن بعض أمواته، جاز ذلك وجاز أن يأكل هو وأهله من تلك الأضحية، وليس عليه أن يتصدق بها كلها، نعم إن خص الأضحية للأموات من دون شركة الأحياء، فهي حق للمساكين، كما قاله عبد الله بن المبارك. انتهى.

وأقول: إن صاحب غنية الألمعي جعل في تقريره إحدى الأضحيتين عن أمة محمد، على سبيل الانفراد وكأنه لم يعرف أصل النصوص الواردة في هذا الخصوص، فإنه ليس في شيء منها ذكر الأضحية عن أمة محمد على سبيل الانفراد حسب ما يدعيه، لأن أكثر الفقهاء لا يعرفون الأحاديث معرفة تامة، ولم يقفوا على حقيقة أقوال المحققين لها، فينشأ أحدهم على قول قد راج بين الناس لفظه وهو لا يعرف صحته من ضعفه، فيظنه صحيحًا فيبني في القول به على ظنه لكونه لا يعرف غيره، ولفظ حديث أبي رافع الذي استدل به، أن رسول الله كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه، ثم قال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا، مِنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاغِ»، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثم يقول: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» رواه الإمام أحمد، وعن جابر قال: صليت مع رسول الله عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، وقال: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّى وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِى» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فهذا هو الأمر الثابت عن رسول الله، وليس في شيء منها ذكر الأضحية عن أمة محمد على سبيل الانفراد، وإنما أشرك أمته معه في ثواب إحدى الأضحيتين، كما أشرك أهل بيته في ثواب الثانية، وكلتا الأضحيتين وقعتا بطريق الأصالة عن رسول الله ﷺ وإنما أشرك من ذكر في الثواب، وقد قال صاحب تحفة الأحوذي[26] على الترمذي في تعقيبه على كلام غنية الألمعي: قلت: إني لم أجد في التضحية عن الميت منفردًا حديثًا مرفوعًا صحيحًا.

وهذا الحديث في أضحية النبي عن أمته، وحديث علي أن النبي أوصاه أن يضحي عنه، هما حجة من يقول بجواز الأضحية عن الميت، والحجة بهما غير ناهضة للمعنى الذي ذكرناه؛ أما حديث علي، فإنه ضعيف متروك لا يحتج به، وأما أضحية النبي عن أمته، فإنه يتمشى على الخصوصية، فلا يقاس على غيره.

وكل من تدبر النصوص الدينية من الكتاب والسنة وفعل الصحابة يتبين له بطريق جلية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء وأشبه مشروعية صدقة الفطر عند عيد الفطر تشريفًا لعيد الإسلام الذي هو عيد الحج الأكبر، واتباعًا للسنة في إراقة الدم فيه لله رب العالمين، ليكون عيد الإسلام هو العالي على أعياد المشركين، وما يقرّبونه فيها لآلهتهم من القرابين، وفيها إظهار للفرح بالعيد، وإدخال للسرور على الأهل بالتنعم بأكل اللحم فيه، ولهذا كان النبي ﷺ يذبح أضاحيه بمصلى العيد، تعظيمًا لشأن هذه الشعيرة وإشهارًا لشرفها من الشريعة، وكان يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بها وإدخال السرور عليهم بفعلها، وقد أجاز الفقهاء من الحنابلة الأضحية لليتيم من ماله، لإدخال السرور عليه بها، وكذلك المرأة تضحي من مال زوجها بغير إذنه وعدّوها من النفقة بالمعروف.

وهذا هو عين ما فهمه الصحابة من حكمة الأضحية، كما قال عطاء بن يسار: سألت أبا أيـوب الأنصاري، فقلت: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله؟ قال: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصاروا كما ترى. رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.

فكيف يمكن أن يقال بعد هذا إن النبي ﷺ ضحى بالشاة عن أمته ليفهم منه جواز الأضحية عن الموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمُتُّ له بصلة، ولم يُنقل عن علماء الصحابة والتابعين القول به، ولا العمل بموجبه، وقد توفيت خديجة زوج النبي، وكان رسول الله يحبها ويكثر من ذكرها، ويكرم صديقاتها ولم يضح عنها، وتوفي ابنه إبراهيم ولم يضح عنه، وتوفيت ثلاث من بناته ولم يضح عن واحدة منهن.

فإن قيل: إن هؤلاء قد دخلوا في ضمن أضحيته لأهل بيته. قلنا: نعم، وكذلك أموات المسلمين قد دخلوا في ضمن أضحيته لأمته، فلا معنى لتكرار الأضحية عنهم، إذ من المعلوم أن أضحية النبي لموتاهم أقرب للقبول من أضحية أحدنا لميته.

وبهذا يعد القول بجواز الأضحية عن الميت فهما خاطئا ليس له مستند من الصحة لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة ولا السلف الصالح، إذ لو كان لها أصل في الشرع لكان السلف الطيب أحق بالسبق إليه لمسارعتهم إلى فعل الخير وحرصهم على إيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، ولمّا كان القول بهذا قد يكون مستغربًا عند كثير من الناس، بحيث يخشى أن تنفر منه نفوسهم ولم تطمئن إليه قلوبهم لعدم اعتيادهم لسماعه، فضلاً عن العمل به، وإنما ألفوا خلافه، أحببت توطيد ثباته بما يكون كالمؤنس له من أقوال فقهاء الأئمة الأربعة، احترازًا مما قد يسبق إليه الوهم ويسوء فيه الفهم من دعوى الشذوذ به أو عدم سبق العمل بموجبه مما يتوهم أنه خلاف الصواب، كما سيأتي قريبًا إن شاء الله.

* * *

[23] أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد من حديث جابر. [24] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة. [25] غنية الألمعي بما فات الزيلعي لمؤلفها زين الدين قاسم بن قطلوبغا، المتوفى في القرن التاسع في ربيع الثاني عام 879هـ، ذكره في مقدمة التحفة. [26] صاحب تحفة الأحوذي هو الفقيه الكبير والمحدث الشهير أبو العلي محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، المتوفى عام 1353، والتحفة: ما أتحف به الشخص من البر واللطف، وجمعه: تحف، واسم الأحوذي قد أخذه من شرح ابن العربي على الترمذي، حيث سماه مؤلفه عارضة الأحوذي على الترمذي، والعارضة: القدرة على الكلام، يقال: فلان شديد العارضة، إذا كان ذا قدرة على الكلام والأحوذي قال الأصمعي: هو المشمر للأمور القاهر لها، لا يشذ عليه منها شيء، نقله عنه ابن خلكان.

فصل في رد القول بمنع الأكل من أضحية الميت

وأما القول: بمنع الأكل من أضحية الميت لكونها - بزعمهم - حقًّا للمساكين كما يقوله عبد الله بن المبارك ومن أخذ برأيه، كما هو الظاهر من مذهب الشافعي وأبي حنيفة. فهذا المنع ليس له مستند من الصحة، فإن الله سبحانه أباح الأكل من لحوم الأضاحي على الإطلاق، فقال: ﴿فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا -أي سقطت بالأرض بعد ذبحها- ﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّ [الحج: 36]، ولأن الإنسان يشتري الأضحية ويذبحها لميته على سبيل التبرك ومن نيته أن يأكل هو وأهله وعياله منها، كما يفعل بأضحيته بنفسه، فهذا هو المتعارف عند الناس والفعل العرفي كالشرط اللفظي، ولكل امرئٍ ما نوى، ولم نجد دليلاً يحرم الأكل منها على المتقرب بها، لكونه ليس في نيته ولا من قصده أن يتصدق بها كلها، أشبه دم المتعة والقران، حيث قال بعض الفقهاء بمنع الأكل منه لكونه دم جبران، والصحيح إباحة الأكل منه، فإن الله سبحانه أباح الأكل منها، وقد أكل رسول الله وأزواجه وأصحابه منها، لكونها دم نسك وليست بدم جبران.

ومثله قول من يقول: إن الأضحية متى عينها صاحبها لم يجز له الأكل منها، كما هو ظاهر مذهب الشافعي، والتعيين هو أن يقول: هذه أضحية. فتصير واجبة بالتعيين ويحرم عليه الأكل منها عندهم، وهذا التحريم ليس له مستند من الصحة لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة والتابعين، فإن الإنسان متى اشترى أضحيته وسأله سائل عنها، قال: هذه أضحيتي. ولن تحرم عليه بهذه الكلمة، كما في البخاري عن أبي أمامة بن سهل، قال: كنا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون. فهؤلاء الصحابة والمسلمون لا يتحاشى أحدهم من قوله: هذه أضحيتي. ولا يرون هذه الكلمة تحرم عليهم ما أحل الله لهم من لحم نسكهم، ومثله لما قسم النبي الأضاحي بين أصحابه، إذ من المعلوم أن أحدهم سيقول: هذه أضحيتي. وهم أعرف الناس، هذا كبش أريد أن أذبحه يوم العيد، فتكون مباحة الأكل عندهم، فالتحليل والتحريم يرجع إلى التلفظ بهذه الكلمة وهو ضعيف جدًّا، وإنما الذي يمتنع الأكل منه على صاحبه هو دم الكفارات على الإطلاق، كدم جزاء الصيد، وكذا الدم الواجب لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظوراته، وكمن نذر أن يتصدق ببدنة أو شاة فيمتنع الأكل منها، لأنه لو أكل منها لم يصدق عليه أنه أخرج فداء كاملاً، وليس كذلك الأضحية عن الميت، سواء وقعت عنه بطريق الانفراد أو الاشتراك، وسواء قلنا إنها شرعية أو غير شرعية، لأنها إن لم تكن شرعية فإنها ذبيحة لحم مباحة الأكل له ولأهله، أشبهت أضحية أبي بردة بن نيار، التي ذبحها قبل صلاة العيد فكانت غير شرعية، وأخبر النبي ﷺ بأنها شاة لحم عجلها له، أي مباحة الأكل، وكذلك الأضحية عن الميت، وهذا هو ظاهر المذهب، قال في الإقناع و شرحه: وأضحية عن ميت كأضحية عن حي من أكل وصدقة وهدية. انتهى. حتى ولو نذر ذبح أضحية جاز له الأكل منها، قال في الشرح الكبير: وإذا نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله أن يأكل منها، لأن النذر محمول على المعهود والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها. انتهى.

يبقى الكلام في الأضاحي التي أوصى بها الأموات والتي تذبح من غلة الأوقاف والوصايا بأمر الموتى، فهذه بمثابة الوقف الخيري والوصية في فعل البر والخير، فلا يحل للمتولي أكلها مع غناه عنها لكونها حقًّا للفقراء والمساكين، وفرق بين هذه الأضحية وبين أضحية المتبرع بالصدقة بها، فإن أضحية المتصدق تذبح على ملكه، وإنما ثوابها لميته، فجاز له الأكل منها كأضحيته لنفسه، أما الأضحية من وقف الميت أو وصيته، فإنها تذبح على ملك الميت وتصرف في مصارفها الشرعية من الصدقة بها ويكون المتولي لها بمثابة المتولي لمال اليتيم ﴿يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ [النساء: 6]، والأصل كونها للفقراء والمساكين.

قال في رد المحتار لابن عابدين: ولو ضحى عن ميت وارثه بأمره، أي بأمر الميت في نحو وصية أو وقف ألزم بالتصدق بها وعدم الأكل منها، وإن تبرع بها عن الميت فله الأكل، لأنها تقع على ملك الذابح والثواب للميت.

أقوال فقهاء المذاهب الأربعة في الأضحية عن الميت

(ا) مذهب الإمام مالك - رحمه الله -

قال في كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: وكره فعلها، أي الأضحية عن ميت كالعتيرة، وقال في التوضيح: قال مالك في الموَّازية: ولا يعجبني أن يضحي عن أبويه الميتين، قال في الشرح الكبير: وإنما كره أن يضحى عن الميت، لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أحد من السلف، وأيضًا فإن المقصود بذلك المباهاة والمفاخرة. وقال في المنتقى شرح الموطأ: روى محمد عن مالك قال: لا يعجبني أن يضحي عن أبويه الميتين، قال في الشرح: لكون الأضحية من أحكام الحي.

وقال في الشرح الكبير للدردير: وكره فعلها عن الميت إن لم يكن عينها قبل موته وإلا ندب للوارث إنفاذها.

وقال في حاشية الدسوقي تحت قوله: وكره فعلها عن ميت. قال: فإن فعلت عنه وعن الميت لم يكره.

(2) مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله -

المشهور من مذهب الإمام الشافعي، أن ما عدا الواجب والصدقة والاستغفار لا يفعل عن الميت ولا يصل ثوابه إليه، فلا يصل إليه ثواب الأضحية ولا القراءة ولا حج التطوّع.

قال في تحفة المحتاج شرح المنهاج: ولا تقع أضحية عن ميت إن لم يوص بها، ويفرق بينها وبين الصدقة، أنها -أي الأضحية- تشبه الفداء عن النفس فتوقفت على الإذن ولا إذن لميت بخلاف الصدقة، فمن ثم لم يفعلها وارث ولا أجنبي، بخلاف نحو حج واجب وزكاة وكفارة، لأن هذه تشبه الديون ولا كذلك التضحية، أما إذا أوصى بالأضحية فتصح كما صح «عن علي أن النبي ﷺ أمره أن يضحي عنه كل سنة»[27]. وقال في حاشية الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: ولا تجزئ تضحية لأحد عن آخر ولو كان ميتًا كسائر العبادات، وقال النووي في المجموع شرح المهذب: لو ضحى عن غيره بغير إذنه لم يقع، وأما التضحية عن الميت فقد أطلق أبو الحسن العبادي جوازها، لأنها ضرب من الصدقة، والصدقة تصح عن الميت وتنفعه وتصل إليه بالإجماع.

وقال صاحب العمدة والبغوي: لا تصح التضحية عن الميت إلا أن يوصي بها وبه قطع الرافعي في المجرد، واحتج العبادي وغيره في التضحية عن الميت بحديث علي: «أنه كان يضحي بكبشين عن النبي ﷺ وقال: إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه»[28]. انتهى.

فقد عرفت أن كثيرًا من الفقهاء لمّا سمع بحديث علي أخذ بظاهره حين ظنه صحيحًا، فمنهم من بنى عليه القول بصحة الأضحية عن الميت مطلقًا، ومنهم من بنى عليه القول بصحة الوصية بها والوقف عليها، والحق أن هذا الحديث ضعيف متروك لا يحتج به، كما حقق ذلك أهل الحديث.

[27] أخرجه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب. [28] أخرجه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب.

(3) مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله -

المشهور من مذهب الأحناف، أنه لا أضحية لميت لعدم مشروعيتها، قال في بدائع الصنائع: وإذا اشترك سبعة في بدنة فمات أحدهم قبل الذبح فرضي ورثته أن يذبح عن الميت جاز ذلك استحسانًا، والقياس أنه لا يجوز، ووجه القياس أنه لمّا مات أحدهم فقد سقط عنه الذبح، وذبح الوارث لا يقع عنه، إذ الأضحية عن الميت لا تجوز وأنه يمنع من جواز ذبح الباقين للأضحية، ووجه الاستحسان أن الموت لا يمنع التقرب عن الميت، بدليل أنه يجوز أن يتصدق عنه ويحج عنه ص72- ج5.

وذكر في المبسوط للسرخسي و فتح القدير و شرح الوقاية، نحو ذلك، وأن من العلماء من استحسن الذبح بإذن الورثة، وتقع عن الميت قياسًا على الصدقة، وأن منهم من منع ذلك آخذًا بظاهر المذهب من أنه لا أضحية لميت، ولأن الذبح إتلاف والإتلاف لا تبرع فيه عن الميت.

(4) مذهب الحنابلة

إنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب المتقدمين من الحنابلة مثل: كتاب المغني على سعته وشموله، وكذا الكافي و الخرقي و الشرح الكبير و المقنع و المحرر و المذهب الأحمد و الإنصاف و زاد المعاد و إعلام الموقعين وكذا المنتقى و الالمام في أحاديث الأحكام، كل هذه الكتب المعتمدة لم نجد في كتاب واحد منها ذكر الأضحية عن الميت، لعدم العمل بها أو لندرة وقوعها في زمنهم، وإنما يذكرون الأضحية عن الحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، ولم نجد عن الإمام أحمد نصًّا في المسألة، لا جوازًا ولا منعًا، فلا يجوز نسبة القول بالجواز إليه إلا عند وجود ما يدل عليه إلا أن يؤخذ من مفهوم قوله: الميت يصل إليه كل شيء. وهي كلمة تحتاج إلى تفصيل كما سيأتي بيانه، وأسبق من رأيناه تكلم فيها من الحنابلة هو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقد سئل عن الأضحية عن الميت، فقال: يجوز أن يضحى عنه كما يحج عنه، ونقل صاحب الاختيارات عنه أنه قال: التضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها.

وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية: سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: أيهما أفضل الصدقة عن الميت أو الأضحية؟ فأجاب: هذه المسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول أقوى في النظر، وذلك لأن التضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف، إلا أنه روي عن علي، أنه كان يضحي عن النبي ﷺ ويذكر أن رسول الله أوصاه بذلك، والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها، فإذا كان هذا صورته فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله.

وقال في المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وقال في الإقناع: وذبحها ولو عن ميت وذبح العقيقة أفضل من الصدقة بثمنها، ثم قال منصور في شرحه: صرح به ابن القيم في تحفة المودود وابن نصر في حواشيه؛ لأن النبي ﷺ ضحى والخلفاء، ولو كانت الصدقة أفضل لعدلوا إليها، ولحديث عائشة مرفوعًا: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلاً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ»[29]. انتهـى. فقد عرفت كيف فرع ما ثبت عن رسول الله وعن الخلفاء في الأضحية الشرعية التي هي أضحية الحي على الأضحية عن الميت، لكون الكلام يعود على أقرب مذكور، ثم أكد ذلك بعزوه إلى العلامة ابن القيم في تحفة المودود، وابن القيم لم يتعرض للأضحية عن الميت بذكر، لا في تحفة المودود ولا في غيره، وإنما ذكر العقيقة عن المولود، وأن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، قال الخلال: أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سئل أبو عبد الله، وأنا أسمع، عن ذبح العقيقة أحب إليك أو يدفع ثمنها إلى المساكين؟ قال: العقيقة. وقال له صالح ابنه: الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذلك حتى يوسر؟ فقال: أشد ما سمعت في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ»[30]، وإني أرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف، لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله. انتهـى[31].

فهذا الكلام وقع منه في تفضيل ذبح العقيقة على التصدق بثمنها، وهو أمر مجمع عليه بين الأئمة الأربعة، بلا خلاف، كما أن ذبح الأضحية لخاصة الحي أفضل من الصدقة بثمنها، باتفاق الأئمة الأربعة على ذلك أيضًا بخلاف الأضحية عن الميت، فقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة بعدم فعلها عنه لعدم ما يدل على مشروعيتها. وأما قول صاحب المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي، فإنه باطل قطعًا، لا يعبأ به من له أدنى معرفة بالنصوص، لكون الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء، وأشبه مشروعية صدقة الفطر فيمن أدرك عيد الفطر، فهذا هو الأمر الثابت بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين فلا أدري في أي آية من كتاب الله أو حديث صحيح عن رسول الله وجدوا فيه مشروعية الأضحية عن الميت، فضلاً عن القول بتفضيلها على أضحية الحي الثابت فضيلتها بالنص والإجماع؟! ويقابله في البطلان قول صاحب الإقناع: من أن ذَبح الأضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها. فإن الأضحية عن الميت فيها الخلاف الكبير، إذ أكثر أئمة المذاهب يقولون بعدم مشروعيتها، لهذا تجد الأضحية عن الميت غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي ينتحل أهلها العمل بالمذاهب الثلاثة، كالشام ومصر والعراق وفارس واليمن، فليس لها ذكر عندهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا سائر تبرعاتهم، فكيف يقال بتفضيل ما فيه الخلاف الكبير على الصدقة الثابت فضلها ووصول نفعها إلى الميت بالنص والإجماع، فقياس الأضحية عن الميت على أضحية الحي قياس مع الفارق.

* * *

[29] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [30] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث سمرة بن جندب. [31] قال في تحفة المودود (ص35): العقيقة سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين بهبة الولد، فكان ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، كالهدايا والأضاحي، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية. قال: وفي العقيقة سر بديع وهو أن يفدى المولود عند ولادته بذبح يذبح عنه، ولا يستنكر أن يكون هذا حرزًا له من الشيطان بعد ولادته ولهذا قل من يترك أبواه العقيقة عنه إلا وهو في تخبيط من الشيطان، قال: ومن فوائدها أنها قربان يقرب به إلى الله عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا، وغير مستبعد في حكمة الله وفي شرعه وقدره أن تكون سببًا لحسن إنبات الولد ودوام سلامته وطول حياته.

أول من نقل عنه القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت

إن القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه هو مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- إن صح ذلك عنه، فقد نقله ابن اللحام في الاختيارات، كما أشار إليه صاحب الفروع قائلا: واختار شيخنا تفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة، ولم أر من سبقه إلى هذا القول من سائر علماء المذاهب، ولسنا نسقط رأيه في هذه القضية بنظريات اجتهادية من عندنا، وإنما نسقطه بما ظهر لنا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام، واحترامًا له، ونفضل آراءه في كثير من المسائل التي خالف فيها أئمة المذاهب لرجحانها عندنا بالدليل، ونحن إذ نرد كلامه في هذه القضية، فإنما نرد كلامه بكلامه، فهو الذي عوّدنا معارضة كل قول يخالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع قطع النظر عن قائله، إذ الحق فوق قول كل أحد.

وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله وما عليه إجماع الصحابة في مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه وفقهاؤه أو ما قاله الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه.

وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن كل من له سعة علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن العالم الجليل الذي له في الإسلام قدم راسخ وقلم خالص وعلم واسع وآثار حسنة، أنها قد تكون منه الزلة هو فيها معذور، بل ومجتهد مأجور، فلا يجوز أن يتبع على زلته ولا أن يهدر من أجلها مكانته وإمامته، لأن سعة علمهم وفضلهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي قالوا فيها بمبلغ علمهم واجتهادهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة ولا تنقصهم من أجلها، بل نسلك بهم مسلك الصحابة في مخالفة بعضهم لبعض، فإنهم لا يؤثمون المجتهد المخطئ ولا يعصمونه ولا يقبلون كل أقواله. انتهـى.

والذي جعل شيخ الإسلام يغفل عن تحقيق هذه القضية على الوجه الشرعي المطلوب هو عدم الابتلاء بها في زمنه، على أنه إمام المحققين ورأس المدققين لأن الابتلاء بالشيء يستدعي التوسع في العلم به أكثر من غيره، وما من أحد من الناس إلا ويخفى عليه شيء من أمر السنة في وقت ثم يذكره في وقت آخر، والعلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، وسبحان من أحاط بكل شيء علمًا. ومن تربى على مذهب قد تعوّده واعتقد صحة ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول ولا يقنع بحجة القرآن وما جاء عن الصحابة والسلف الكرام، وبين ما قاله علماء مذهبه مع تعذر إقامة الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته فإنه يعد من المقلدين الناقلين لأقوال غيرهم والمقلد لا يعد من أهل العلم.

ولقد كنا قبل أن نستقصي في البحث والتحقيق عن هذه القضية، وقبل أن نقف على دلائلها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأقوال الأئمة، نظن كل الظن أن الأضحية من أفضل ما يعملها الحي للميت، وأنها في فضلها ووصول نفعها ترتفع عن مجال الشك والإشكال، من أجل رواجها في الأذهان.

ولشيخ الإسلام الأجر الجزيل والثناء الجميل من الله إن شاء الله، ومن الناس حتى فيما أخطأ فيه ولا يكون المنتصر لمقالته بمنزلته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر حتى يتبين له الحق فيأخذ به، وقد أعرض العلماء عن العمل ببعض اختياراته، لما تبين أن الراجح خلافها، وهو نفسه لا يرضى أن يقلده أحد فيما أخطأ فيه ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم.

إذ لو كان للأضحية عن الميت أصل في الشرع، أو أنه مرغوب فيها، أو أنه يصل ثوابها لما جهلها الصحابة والسلف الأول، ولو علموها لما أهملوا العمل بها لكونها تعد من العبادات العملية التي يهتم بها الصحابة والسلف الصالح، بالعمل بها، ثم تبليغها حتى تتوفر الهمم والدواعي على نقلها بالتواتر، كما نقلوا سائر السنن والمستحبات، ومع عدم ما يدل على ذلك علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة، ولا مرغب فيها، لأنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.

* * *

الأسباب والمقتضيات في توسع الناس في الأضاحي عن الأموات

إنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب فقهاء الحنابلة المتقدمين، مثل: المغني على سعته، و إعلام الموقعين، و الخرقي، و الشرح الكبير، و المحرر، و الكافي، و المقنع، و النظم، و المذهب الأحمد، و زاد المعاد، و الإنصاف، لم نجد في كتاب واحد ذكر الأضحية عن الميت لا جوازًا ولا استحبابًا، فعدم ذكرهم لها يدل على عدم وجود فعلها في زمنهم، لأن العلماء إنما يعتنون بذكر الأمور الوجودية فيذكرون عنها ما تقتضيه أمانة التبليغ من الجواز والمنع، أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها فلا يذكرونها إلا حينما يتصدون للرد عليها عند بوادر ابتداعها، من ذلك الأضحية عن الميت والقول بتفضيلها فإنها لم تكن معروفة ولا معمولاً بها زمن الصحابة والتابعين والفقهاء المتقدمين.

وأقدم من قال بتفضيلها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقله عنه ابن اللحام، ولم نر من سبقه إلى القول بذلك لا من فقهاء الحنابلة ولا من غيرهم، وقد أخذ ذلك صاحب المنتهى فصاغه بقوله: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وقال صاحب الإقناع: وذبحها - أي الأضحية - ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها.

ولمّا انتشر بين الناس كتاب الإقناع و المنتهى وتقرر عند المتأخرين أن المذهب هو ما اتفق عليه الكتابان ووجدوا فيهما هذا التفضيل، وتقوى صحته في نفوسهم بنسبته إلى شيخ الإسلام، بحر العلوم ومفتي الأنام ومفخر السلف الكرام، وقد أودع الله محبته في قلب الخاص والعام.

فلأجله استقر فضلها في الأذهان وجرى العمل بها من العلماء الأعلام، وتبعهم على العمل بها سائر العوام في الوصايا والأوقاف، وأخذوا يتوسعون في العمل بها عامًا بعد عام.

وليس بلازم أن يكون كل ما يكتبه العالم أو يفتي به يصير حجة على الناس بدون دليل يؤيده، فإن العالم مهما بلغ في سعة العلم والمعرفة، فإنه قد يزل ولا بد فيتبعه الناس على زلته، وقد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير، وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير حتى يصير كالصحيح ويصير من الصعب مزاولة الناس في العدول عنه إلى الحق المنصوص عليه بدله.

وقد قلنا: إن الأضحية في خاصة الحي أفضل من الصدقة بثمنها، حتى باتفاق الأئمة الأربعة، أما الأضحية عن الميت فإنه لم يثبت مشروعيتها لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة، فكانت الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها.

فإن قيل: إن في الأضحية عن الميت تقربًا إلى الله بإراقة دمها في ثوابه وصدقة بلحمها. قلنا: نحن لا نتكلم عن اللحم المركوم بعد ذبحه والذي لو لم يتصدق به أو يهدى منه لأنتن حتى يقذف به في بطون الكلاب أو في محل غير مستطاب، ولأنه ليس المقصود من الأضحية مجرد التصدق بلحمها بعد إراقة دمها، فإن ذلك مستحب وليس بواجب، فلو أكلها كلها إلا قدر قشة جاز كما أن الأضحية لا تسمى صدقة والصدقة لا تسمى أضحية ولكل شيء حكمه على حسب مسماه.

وإنما نتكلم الآن مع ولاة الأوقاف والوصايا والذي يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين والستين من الأغنام، يريد أن يجزرها في مقام واحد كلها أضاحي عن الأموات، وعند الثاني والثالث مثل ذلك وكذا المتبرعون بأفعال الخير، بحيث يموت الرجل العظيم من عالم أو حاكم أو تاجر فينتدب كل واحد من أبنائه وأرحامه بأضحية عنه، بحيث يضحى له في يوم واحد بعشرين كبشا أو أقل أو أكثر، ومن لوازم هذا التصرف إتلاف المال وإزهاق أرواح الحيوان الذي يجب ألّا يسفك دمه إلا بحق، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.

فإن كان ذبح مثل هذه الأغنام يقع بطريق شرعي فسبيل من هلك ومن قتل في حق فالحق قتله، وإن كان قتلها بطريق غير شرعي وأنه ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة، وجب العدول عنه إلى الصدقة بثمنها المنصوص عليها بدل ذبحها لكونها أنفع للحي والميت، وأقرب إلى طاعة الله ورسوله، والصرف إلى مثل هذا يعد من الإصلاح بالعدل الذي رفع الله الإثم عن فاعله في قوله: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ [البقرة: 182]، كما أرشد النبي ﷺ سعدًا، بأن يتصدق عن أمه[32]، وكما أرشد أبا طلحة بأن يتصدق ببيرحاء على أقاربه[33]، وكما أرشد عمر بن الخطاب بأن يتصدق بغلة وقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف[34]، وكما قال لعمرو بن العاص: «إِنَّ أَبَاكَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا، فَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ، نَفَعَهُ»[35]، وكما أخبر بأن الصدقة الجارية هي الباقية للشخص بعد موته[36]، والواقف والموصي إنما يبذل ماله في سبيل ما يقرّبه من رضى ربه وينفعه في آخرته، وقد ظن أن الأضحية هي أفضل ما يفعله أو أنها بمثابة فكاك رقبته من عذاب ربه أو أنها مطيته على الصراط المنصوب على متن جهنم، كما روى الحديث الموضوع في ذلك، والعامي مشتق من العمى، فهو يحتاج إلى من يدله على الطريق ويبين له ما ينبغي أن يفعله لآخرته، على سبيل التحقيق وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن أوصى بمال في ختمات يهدى إليه ثوابها، وقصده بذلك التقرّب إلى الله، بأنه ينبغي صرف هذا المال إلى فقراء محاويج؛ لأن الصدقة أفضل من عمل ختمة، فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الوقف أو الوصية بالأضحية أحق بالصرف من هذا لعدم ما يدل على مشروعيتها؛ لأن من شرط صحة الوقف كونه على جهة بر، ونحن لم نتحقق فعل البرّ في الأضحية عن الميت لما ذكرنا، والله أعلم.

* * *

[32] ذكره البيهقي تعليقًا في معرفة السنن والآثار من قول الشافعي. [33] أخرجه البخاري من حديث أنس. [34] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. [35] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [36] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

رد القول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه

يجب أن نعلم بأنه ليس كل ما يكتبه العالم أو يفتي به، يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول القول المرجوح الذي يعجزه أن يقيم الحجة على صحته فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير وهو باطل في نفس الأمر والواقع، لهذا ينبغي أن نعرف بأن العالم مهما بلغ في سعة العلم والمعرفة، فإنه قد يزل ولا بد فيتبعه الناس على زلته، وقد شبهوا غلطته بغرق السفينة يغرق لغرقها الخلق الكثير، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ ومن استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان، من ذلك القول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه، كما حكاه صاحب الإقناع وقد أخذه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن صح ذلك عنه. وكان نسبة هذا القول إليه هو الحجر الأساسي في توسع الناس في الأضاحي عن الأموات، ولم نر من سبق شيخ الإسلام إلى القول بهذا لا من فقهاء الحنابلة المتقدمين ولا من غيرهم من سائر علماء المذاهب، ولم يقع لها ذكر في كتب المتقدمين من الحنابلة، فضلاً عن القول بتفضيلها على الصدقة لكونها غير معروفة ولا معمول بها عند العلماء المتقدمين، كما أنها غير معروفة عند الصحابة والتابعين حتى إنه ليتردد في الذهن عدم صحة نسبة هذا التفضيل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه قد حكى إجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة إلى الميت ولن يستطيع أن يقول بذلك في الأضحية.

مع العلم أن الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة عدم مشروعيتها وكونه لا يصل إلى الميت ثوابها، لهذا تجد الأضحية عن الميت على سبيل الانفراد غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي يحكم أهلها بمذاهب الأئمة الثلاثة، كالشام ومصر والعراق واليمن وفارس، فلا تذكر في أوقافهم ولا وصاياهم لاعتقادهم عدم مشروعيتها، فكيف يقال بتفضيل ما اتفق الأئمة الثلاثة على عدم مشروعيتها على الصدقة الثابت بالنص فضلها والمجمع على وصول نفعها، وإنما يذكر الفقهاء فضل أضحية الحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وكذلك العقيقة، وهذا صحيح ثابت لاشك فيه ولكل مقام مقال، فقياس الأضحية عن الميت على أضحية الحي في تفضيلها إنما هو قياس مع الفارق، لأن الشرع ورد بالتقرّب إلى الله بإراقة الدم في حق من أدرك عيد الحج الأكبر الذي هو عيد الإسلام وما يتبعه من الأيام، تعظيمًا لأمر هذا العيد وإشهارًا لشرفه وشكرًا لله على بلوغه، ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة لكون الصدقة بالقيمة تفضي إلى إهمال هذه السنة وعدم العمل بها.

فلا وجه للتعليل فيما هو خالص حق لله تعالى، يوضحه أن الله سبحانه وتعالى قد نصب لعباده حكمًا قسطًا يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الاجتماع وهو الكتاب والسنة.

أما الكتاب، فإن مبدأ مشروعية الأضحية هو ما قص الله عن نبيه إبراهـيم مع ابنه إسماعيل، حيث قال: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ [الصافات: 107] وهذا الذبح هو كبش أمر إبراهيم بذبحه فداء عن ابنه وقربانًا إلى ربه في يوم عيد النحر، فصار سنة في ذريته، وقد أمر النبي بأن يتبع ملته فسنها رسول الله في أمته، كما في حديث زيد بن أرقم، قال، قلنا أو قالوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ...»» الحديث[37].

والدليل الثاني قوله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ [الحج: 36]، فهذه الآيات نزلت في دماء الأضاحي والمناسك، والخطاب فيها للأحياء الذين سخر لهم البدن وجعلها من شعائر الله، ولا تكون من شعائر الله إلا إذا ذبحت في سبيل القربة والطاعة، فهم أي الأحياء الذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عند ذبحها، وأن يأكلوا منها ويطعموا القانع والمعتر والبائس الفقير، فهذا الأمر وهذا الخطاب إنما وجه إلى الحي الذي هو محل تكليف بالأمر والنهي والموتى يبعثهم الله.

وبهذا يعلم مبدأ مشروعية الأضحية وكيفية نظامها، وأنها من عمل الأحياء ولا علاقة فيها لذكر الأموات، فكيف يقال بتفضيلها مع عدم ما يدل على مشروعيتها؟!

* * *

[37] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم.

فصل [في أقضية رسول الله ﷺ في أفضل ما يفعله الحي لميته]

وهذه أقضية رسول الله في أفضل ما يفعله الحي لميته تعرض على المنصف المتبع وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع

الحكم الأول:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يا رسول الله، إِنَّ أُمِّىَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نعم فتصدق عن أمك»». رواه البخاري ومسلم، وهذا الرجل المبهم هو سعد بن عبادة لما روي في البخاري عن ابن عباس: «أن سعد بن عبادة أخا بني ساعدة، توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها بشيء؟ قال: «نعم»، قال: فأشهدك أن حائط المخراف صدقة عليها».

فهذا سعد بن عبادة الذي هو أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى والدته التي توفيت في غيبته فأرشده النبي ﷺ إلى الصدقة عنها ولم يأمره بالأضحية، كما أنه لم يأمره بأن يجعل لها في هذا المخراف أضحية تذبح لها كل عام كما يفعله الكثير من العلماء والعوام، ولو كانت مشروعة أو أنها أفضل من الصدقة أو أنه يصل ثوابها إلى الميت لأرشده إلى فعلها، إذ لا يجوز تأخر البيان عن وقت الحاجة إليه.

الحكم الثاني:

ما ثبت في البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: «عادني رسول الله من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله أنا ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لَا»، قلت: فالشطر، قال: «لَا»، قلت: فالثلث، قال: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا آجَرَكَ اللهُ عَلَيْهَا»» الحديث.

فأرشده النبي إلى الصدقة بثلث ماله ولم يأمره بالأضحية، فلو كانت مشروعة أو أن نفعها يصل إليه بعد موته لما بخل عنه بالأمر بها، ولم يكن رسول الله لينساها وهو يعلم أنها أفضل من الصدقة.

الحكم الثالث:

ما روى البخاري عن أنس بن مالك، قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل‌عمران: 92]، فجاء أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بِيْرُ حَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أراك الله، فَقَالَ رسول الله: «بَخٍ، بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ. وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْت وَإني أرى تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ»، فقال أبو طلحة: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ بين ثلاثة من أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ، وهم: أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأبو قتادة».

فهذا أبو طلحة قد وضع صدقته بين يدي رسول الله وقال: ضعها حيث أراك الله فأرشده إلى صرفها في أقاربه وبني عمه حتى إن أحدهم باع مستحقه منها بصاع دنانير، ولم يأمره بأن يجعل له في هذه الحديقة العظيمة أضحية تذبح له بعد موته، ولو كانت سُنة أو أنها أفضل من الصدقة لأمره بها وأرشده إليها، وهذا واضح جلي.

الحكم الرابع:

ما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لم يصب مالَا قط هو أنفس منه فَأَتَى النَّبِىَّ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» فقال: أفعل يا رسول الله، فتصدق بها عمر، أنه لا يوهب أصلها ولا يباع ولا يورث، فتصدق بها على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقًا غير متمول مالاً».

فهذا عمر قد استشار رسول الله في مصرف وقفه في سبيل ما ينفعه بعد موته فأرشده إلى حبس أصله والصدقة بغلته في وجوه البر والخير على الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف ولم يذكر الأضحية في جملة ما ذكر، ولو كانت مشروعة أو أنها مما يثاب عليها أو أنها مما يصل إليه بعد موته نفعها لذكرها له رسول الله في جملة ما ذكر، ولما ساغ لعمر أن ينساها لنفسه وهذا يؤيد قول من قال: إن الأضحية عن الميت غير مشروعة، وإنه لا يصل إليه ثوابها. لأن عدم فعل الصحابة لها وعدم نقلها عن أحد منهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم تدل على عدم مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة أو أن فيها فضيلة لكانوا أحق بالسبق إليها، فعدم فعلهم لها يعد من الإجماع القديم واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة، فهي تعد من التعبديات التي يجب فيها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة والصدر الأول، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا.

الحكم الخامس:

عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي، قال: ««بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إن أبوي قد ماتا فهَلْ بَقِىَ مِنْ بِرِّ أَبَوَىَّ شَىْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا قَالَ «نَعَمِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِى لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا» رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وزاد في آخره قال: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه؟! قال: «نَعَمْ، فَاعْمَلْ بِهِ»».

فهذا الحديث جاء بمثابة نهاية الحكم وفصل الخطاب في أفضل ما يفعله الحي للميت، وخاصة الولد لوالديه، فأرشده إلى الدعاء والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما، أي الوصية العادلة الصادرة منهما أو من أحدهما، لأن النبي قضى بالدين قبل الوصية، ثم بالوصية قبل الإرث، ثم أوصاه بصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، كإخوانهما وأخواتهما وأعمامهما وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما وسائر من يمت لهما بقرابة وصلة، ثم قال: وإكرام صديقهما من بعدهما وهذا الإكرام يشمل الصدقة والإحسان وسائر وسائل الإكرام والاحترام، لأن من البر صلة الرجل أهل ود أبيه ولم يذكر في هذا الحديث على شموله الأضحية ولو كان فعلها من البر أو أن فيها نفعًا للميت لذكرها له رسول الله، لكون السائل المستفيد جاء كالمستزيد من الإرشاد إلى فعل البر بوالديه بعد موتهما، فأرشده إلى ما ذكر وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

الحكم السادس:

ما روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» ولم يذكر الأضحية ولو كانت من الصدقة الجارية أو أنه يصل إليه نفعها بطريق الإيصاء بها أو بفعل أقاربه لها من إهدائهم ثوابها لذكرها كما ذكر الصدقة الجارية، إذ الصدقة لا تسمى أضحية، كما أن الأضحية لا تسمى صدقة، ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه.

الحكم السابع:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِى صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن ورواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي.

فكل هذه النصوص تتضافر وتتفق على فعل الصدقة وفضلها وعموم نفعها ووصول ثوابها إلى الميت، بحيث لم يبق مجال لقائل في خلاف ذلك، وكل من تدبر أوقاف الصحابة والوصايا الصادرة منهم والتي يرجون برها وذخرها عند ربهم، لن يجد فيها ذكرًا للأضحية لكونها غير معروفة عندهم ولا معمول بها ولا يمكن أن يقال إنها سنة فجهلوها ولا أنهم علموها فأهملوا العمل بها، كل هذا يعد من الأمر المستحيل في حقهم، وإنما الصحيح أنهم عرفوا عدم مشروعيتها، فأعرضوا عن العمل بها، فتركهم لها يعد من الإجماع الذي هو قطعي الدلالة، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلته وأسفر صبحه فذاك شرع الله ودينه والسبيل الموصل إلى رضاه والفوز بجنته.

* * *

ردّ قياس الأضحية عن الميت على الحج عنه

وأما قول من قال: إنه يجوز أن يضحى عن الميت كما يحج عنه، فإنه قياس مع الفارق، فإن الحج الذي أفتى النبي ﷺ بفعله عن الميت هو الحج الواجب المشبه بالدين اللازم كما في البخاري من حديث ابن عباس، «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يا رسول الله إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ «نَعَمْ. حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»» وروى مسلم من حديث بريـدة، «أن امـرأة قالت: يا رسول الله إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ «نَعَمْ حُجِّى عَنْ أمك»»، فهذه واجبات بأصل الشرع وبطريق النذر.

وقد أفتى النبي ﷺ بجواز فعلها عن الميت، والسؤال وقع فيها من الأولاد كما ترى وللأولاد حالة لا تشبه حالة غيرهم، كما أن للواجبات حالة لا تشبه حالة التطوّعات، ولهذا يجوز قضاء واجب الحج من أجنبي، كما يجوز قضاؤه لدين الآدمي في ظاهر المذهب، وعليه يحمل حديث ابن عباس، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ؟» قَالَ أَخٌ لِى. قَالَ «هَلْ حَجَجْتَ». قَالَ لَا. قَالَ «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ احْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ»». رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان، والراجح عند أحمد وقفه، ونظيره حديث عائشة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». متفق عليه.

وحمل الإمام أحمد هذا الحديث على صوم النذر فهو الذي يقضيه الولي عن ميته دون الواجب بالشرع وليس الأمر بالصوم للوجوب، بل إذا لم يصم الولي أطعم من تركته عن كل يوم مسكينًا.

ولا يختص قضاء هذا النذر بالولي، بل كل من صام عنه أجزأ، لأنه تبرع أشبه قضاء الدين، قاله في المغني. ومذهب أئمة الفقه أنه لا يصام عن الميت مطلقًا، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي، وخص الإمام أحمد وآخرون جواز الصوم بالواجب بالنذر دون الواجب بالشرع، وقد روى الأثرم عن ابن عباس، أنه سئل عن رجل توفي وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان، فقال: أما رمضان فيطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه.

وهذا الأمر بالإطعام فيمن عليه صيام شيء من رمضان ليس على إطلاقه. أما من مات وعليه صيام شيء من رمضان، كمريض مات في إثر مرضه، أو حائض ونفساء أفطرتا للعذر، ثم مات أحد هؤلاء قبل أن يتمكن من قضاء ما عليه فهذا لا شيء عليه لا من الإطعام ولا من الصيام في ظاهر المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم، قاله في المغني لكونه معذورًا شرعًا، أما إذا تمكن من القضاء، كمريض صحّ من مرضه، أو مسافر رجع من سفره، وتمكن من قضاء ما عليه أو حائض أو نفساء مكثت بعد مدة طهارتها، بحيث تتمكن فيها من قضاء ما عليها فتكاسل أحد هؤلاء عن قضاء ما عليه حتى مات، فإنه يجب أن يطعم عنه عن كل يوم مسكين في قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر المذهب ولا يصام عنه، لأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة، فكذلك بعد الوفاة، كالصلاة، بخلاف صوم النذر فإنه التزام في الذمة فقبل قضاء الولي له كالدين. قاله في المغني.

أما الحج فقد نص الفقهاء من الحنابلة والشافعية على أن من مات ولم يحج فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه أوصى بذلك أو لم يوص، أشبه دين الآدمي، ولأن النبي أمر المرأة أن تحج عن أبيها المعضوب الذي لا يستطيع الركوب على الراحلة، وقال مالك وأبو حنيفة: يسقط بالموت لأنه عبادة بدنية فسقط بالموت كالصلاة، وإن أوصى به، فمن الثلث.

أما ما عدا الحج، فإن مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، وروى النسائي بسند صحيح عن ابن عباس قال: لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد. إذا ثبت هذا فإن الأضحية عن الميت ليست من الأمر الواجب عليه حتى تقاس على الحج عنه، فكيف يقاس ما ليس بواجب ولا بمشروع على الحج الواجب المشبه بالدين اللازم حتى ولو قال به من قال، إذ ليس بلازم أن يقبل كل ما يقوله العالم أو يفتي به بدون دليل يؤيده، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرف فيها بأنواع الأقيسة والآراء، والله أعلم.

* * *

إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى

الأصل في هذا الباب هو أن كل امرئٍ مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وأن من أبطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، وأن الأولين والآخرين يسألون يوم القيامة ويقال لهم: ماذا كنتم تعملون وماذا أجبتم المرسلين؟ قال الله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17]، وقال: ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 70]، وقال: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا [الكهف: 49]، وقال: ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ [الأنعام: 164]، وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286]، وقال: ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 36-41]، وقال: ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨ [الزلزلة: 6-8]، وقال: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦٠ [الأنعام: 160]، وفي الآية الأخرى: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٨٤ [القصص: 84]،

وفي الصحيح من حديث عدي بن حاتم، أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ عَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِىَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، والله يقول عند عرض صحائف الأعمال على سبيل الأعذار: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[38].

ومن أجله حذر الله عباده من أن يغتروا بعمل أي أحد أو يتكلموا على صلاح والد أو ولد، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡ‍ًٔا [لقمان: 33]، وكان آخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ٢٨١ [البقرة: 281] من آخر سورة البقرة، فهذه هي العقيدة الدينية التي أنزل الله بها كتبه وأرسل بها رسله وأنذر بها الرسول عشيرته، وقال: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا»[39].

وقد توسع الفقهاء في إهداء ثواب الأعمال توسعًا خارجًا عن حدود ما أنزل الله في كتابه، من ذلك قول الموفق في كتابه المغني: وأي قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك إن شاء الله، أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة[40]، لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت بالنص فكذلك سواهما، قال: ولأن المسلمين في كل عصر ومصر يجتمعون يقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، فكان إجماعًا. انتهى.

فتساهل الموفق - رحمه الله- في دعوى الإجماع في ذلك، مع عدم صحته كما سيأتي بيانه وجعل هذه الكلمة بمثابة تأسيس قاعدة فقهية وعقيدة دينية، وقد تلقاها عنه الأصحاب بالقبول وبنوا عليها من التعليق فوق ما تطيق وتوسعوا فيها بدون تمحيص ولا تحقيق، فإذا أردت تصحيح ذلك فانظر إلى عشرين مؤلفًا من كتب الأصحاب تجد في كل كتاب منها هذه الكلمة بحروفها أو بمعناها.

ومن المعلوم أن العالم قد يقول القول المرجوح مجتهدًا فيه فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير، غير أنه ليس بلازم أن يقبل كل ما يقوله العالم أو يفتي به بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، وحسبك ما جرى بين الصحابة من رد بعضهم على بعض في مسائل الفروع وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله ﷺ.

فما كان أحد هؤلاء المجتهدين يجيز لأحد أن يقلده فيما أخطأ فيه ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم، فالقول باعتقاد إهداء ثواب الأعمال إلى الأحياء والأموات، كما يقوله الفقهاء يفضي إلى أن يعرى عمل العامل من ثواب الله له على عمله ويحصل الأجر والثواب لمن لا يعمل، وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وقد زاد المتأخرون من الفقهاء القول بجواز إهداء ثواب صلاة الفرض وسائر ما لا تدخله النيابة من العبادات إلى كل مسلم حي أو ميت، وعندهم لا فرق بين الفرض والنفل، بل لو صلى صلاة مفروضة وأهدى ثوابها لأبويه صحت الهدية.

قال في الإقناع: وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه لمسلم حي أو ميت جاز ونفعه ذلك لحصول الثواب له حتى لرسول الله، من تطوّع وواجب تدخله النيابة كحج ونحوه أو لا تدخله النيابة كصلاة ودعاء واستغفار وصدقة وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها. انتهى.

فقد عرفت كيف زاد على الموفق بالقول بجواز إهداء ثواب الأعمال التي لا تدخلها النيابة كصلاة فرض وصيام فرض حتى لرسول الله، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، كما أن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قولان في المسألة، أحدهما: إن الميت ينتفع بإهداء جميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة، كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة والعتق ونحوها، وكما لو دُعي له واستغفر له.

والقول الثاني قال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صاموا تطوّعًا أو حجوا تطوّعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل. وهذا القول الأخير هو الجدير بسعة علم شيخ الإسلام وورعه وحرصه على التمسك بالشرع وسنته ومحاربته للبدع المخالفة لسنة رسول الله وسيرة خلفائه وأصحابه، ولعل هذا هو الأخير من أمره والمحقق من رأيه، وحسبك شهادته بأن إهداء التطوّعات من القراءة والصيام والصلاة ليس من عمل السلف الصالح الذين هم الرسول وأصحابه، وكل ما ليس من عمل السلف الصالح فإنه من محدثات الأمور، وشر الأمور محدثاتها.

وقد ذكر ابن مفلح في شرح المحرر ما يحقق ذلك فقال: ذكر الشيخ تقي الدين بأنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل من عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فإنها أفضل وأكمل.

فهذا هو الجدير بسعة علم شيخ الإسلام وحرصه على التمسك بصريح السنة والقرآن.

فهذا هو الأمر المحقق من رأيه وقد نقله ابن مفلح الذي هو أعرف الناس بأقواله، كما نقله ابن اللحام في اختياراته، إذ لا يمكن أن يدعو الناس إلى هذا الشيء الذي هو طريقة السلف من أهل السنة، ثم يدعو إلى خلافه.

فهذا القول هو الذي يجب المصير إليه لدلالة صريح الكتاب والسنة عليه، وأما القول بقياس إهداء ثواب الأعمال على الدعاء والاستغفار الثابت فضله والمجمع على وصول نفعه، فإنه قياس مع الفارق، لأن الدعاء عبادة من العبادات التي خلق الله الناس لها وأمرهم بالقيام بها، كما في حديث النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي، وله من حديث أنس مرفوعًا: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» والله يحب الملحين في الدعاء ويحب أن يسأل كل شيء ومن لم يسأل الله يغضب عليه، وإذا استجيب الدعاء لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجره وثوابه، وكذا يقال في استغفار الملائكة لمن في الأرض، فإن الله خلقهم لعبادته التي هي التسبيح والدعاء والاستغفار، فهم يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا، ومثله انتفاع الميت بصلاة الحي عليه كما يقوله من يستدل به، فإن الصلاة على الميت هي كسائر الصلوات المشروعة، فالمصلي عن الميت إنما يصلي لله ويحتسب ثواب صلاته عند الله، كما في الصحيحين مرفوعًا: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فالمصلي يحتسب هذا الأجر لنفسه ويتضرع بالدعاء إلى الله لميته، إن شاء الله استجاب له وإن شاء رده، ولم يكن ليهدي ثواب دعائه أو ثواب صلاته إلى الميت، وهذا كله يعد من العبادة التي خلق الله الخلق لها وأمرهم بالقيام بها، وانتفاع الميت به هو شيء يصل إليه من الله، وهو شيء وإهداء الثواب شيء آخر، فإن إهداء الثواب هو أن يعمل الشخص العمل من صلاة وصيام وتلاوة القرآن، ثم يقول: اللهم اجعل ثواب ما عملت لفلان ابن فلان. أو يقول: اللهم إن كنت أثبتني على هذا العمل فاجعله لفلان ابن فلان، فيخرج العامل من ثواب عمله ويحصل الثواب والأجر لمن لا يعمل وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨ [الزلزلة: 6-8].

وأما قول الموفق: إن الصدقة وأداء الواجبات لا يعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة، لأن الصوم والحج عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت بالنص وكذلك ما سواها. يشير الموفق بهذا إلى ما ثبت في الصحيحين عن عائشةأَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّىَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ « نَعَمْ فتصدق عن أمك». وهذا الرجل المبهم هو سعد في عبادة، كما ورد مفسرًا في البخاري من حديث ابن عباس، «وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص سأل النبي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِى أَوْصَى بِعِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ»»، وفي رواية: «لو كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.

«وعن ابن عباس، أن امرأة قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْكَبَ إِلَّا مُعْتَرِضًا أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ حُجِّى عَنْه» » متفق عليه، «وعن ابن عباس أيضًا، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»[41].

ولمسلم وأبي داود والترمذي من حديث بريدة قال: «كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يا رسول الله إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ وإن أمي ماتت، فقال: «وجب أجرك وردها إليك الميراث»، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ فقال: «نَعَمْ صُومِي عَنْهَا» قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ قال: «نَعَمْ حُجِّى عَنْهَا»»، وفي البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».

فهذه النصوص هي التي استمد منها الفقهاء جواز إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى وكلها وقعت سؤالاً من الأولاد عن واجبات آبائهم فأفتاهم رسول الله بجواز قضائها، وشبهها بالدين اللازم الذي يجب قضاؤه لحديث: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»[42]، وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه حالة غيرهم، لأن الكتاب والسنة قد ألحقا ذرية المؤمن به، لقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ [الطور: 21] ولهذا تجعل أفراط المؤمن في كفة ميزانه بمثابة حسناته، وفي الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[43] لكونه هو السبب في إيجاده، كما أنه لا يقاس قضاء الواجبات على فعل التطوّعات.

ولهذا قلنا: إنه يجوز للأبناء والبنات قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصيام وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو بالنذر للنصوص الواردة في هذا الخصوص، ومنها حديث عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَبَاكَ لَوْ كَانَ مُوَحِّدًا فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ»[44]، قال في نيل الأوطار: فيه دليل على أن ما فعله الولد لأبيه من الصوم والصدقة فإنه يلحقه ثوابه بدون وصية منهما له ويخصص بهذا قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، قال: وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيتوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها.

وأما الصدقة، فقد حكى بعض العلماء الإجماع على فضلها[45]، ووصول نفعها لكونها من الفعل المتعدي، وأما قول الموفق: أداء الواجبات لا يعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة، فهذا غير صحيح فإن فيه الخلاف الكبير، أما الحج الواجب بالشرع فقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، لأنه عبادة بدنية فسقط بالموت كالصلاة وإن أوصى به فمن الثلث، وقال فقهاء الحنابلة والشافعية: من وجب عليه الحج ومات قبل أن يحج وجب على ورثته أن يخرجوا من ماله ما يحج به عنه، سواء أوصى به أو لم يوص، أشبه دين الآدمي. وبهذا يتبين وقوع الخلاف بين الأئمة في الواجبات التي تدخلها النيابة كما عرفت. قال العلامة ابن القيم في الإعلام على قوله: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[46]، قال: فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، فقالت: يصام عنه الفرض والنذر، وأبت طائفة ذلك وقالت: لا يصام عنه الفرض ولا النذر، وفصلت طائفة فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح، لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد، فكذلك الصيام لا يصوم أحد عن أحد، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له كما يقضى دينه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان للعذر، وبدون العذر لا يجوز الإطعام ولا الصيام، فأما المفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبة أحد عن أحد ولا إسلام أحد عن أحد ولا صلاة أحد عن أحد ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلته وأسفر صبحه، فذاك هو شرع الله ودينه والسبيل الموصل إلى رضاه والفوز بجنته[47].

والمقصود أن الموفق - رحمه الله- قد تساهل في القول في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى حتى حكى الإجماع على إهداء ثواب القراءة قائلاً: إنه إجماع المسلمين[48]، فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرؤون القرآن، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، وحتى قال بجواز القراءة على القبور وأيد القول بذلك بأدلة ضعيفة، وقد أخذ الفقهاء عنه ذلك فقالوا بمثل قوله، فانتشر هذا الرأي المرجوح في كتب الأصحاب حتى صار له الأثر الكبير في نفوس العلماء والعوام والخاص والعام، وقد نجم عن هذا التعبير سوء التدبير، حيث عملت الوصايا وأُوقفت الأوقاف في الأمصار على إهداء الختمات وعلى قراءة القرآن على رمم الأموات، والقرآن إنما نزل للتذكر والتدبر لينذر به من كان حيًّا لا ليهدى منه الختمات إلى الأموات، على أن إهداء ثواب القراءة يعد من مفردات مذهب الإمام أحمد، كما حكى القول به صاحب الإنصاف، ونظمها صاحب المفردات قال:
تطوّع القربات كالصلاة
ثوابه لـمسلمي الأموات
يُهدى وكالقرآن مثل الصدقهْ
منفعته تأتيهم محققهْ
وقد حكى ابن كثير في التفسير على قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 38-39]، قال: أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، فكذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى، لأنها ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه لا بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرّف فيها بأنواع الأقيسة والآراء، قال: وأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.

وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلّاَ مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»، فهذه الثلاث بالحقيقة هي من سعيه وكده كما جاء في الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسبه»[49] والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله لقوله تعالى: ﴿وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡ [يس: 12]، والعلم الذي ينشره في الناس واقتدي به بعده هو أيضًا من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ عير أن ينقض مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، وكذا حديث: «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلی يوم القيامة وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة»[50]، انتهـى. وهذا القول يعد من أعدل الأقوال في المسألة وأسعدها بالصواب وإن خالفه من خالفه.

وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فيمن أوصى بمال في ختمات وقصده التقرّب إلى الله بأنه ينبغي صرف هذا المال إلى الصدقة به على الفقراء والمحاويج، قاله في الاختيارات، ويقاس على هذه الفتوى من أوصى بمال في حج أو أضاحي تذبح عنه وكان قد حج عن نفسه، فإن الصدقة بهذا المال على الفقراء والمحاويج أفضل من صرفه في الحج والأضاحي، الذي يقول أكثر العلماء بعدم جواز ذلك.

وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه أوفقهاؤه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه، وقد نقل صاحب المحرر عن شيخ الإسلام ابن تيمية، بأنه لم يكن من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف فإنها أفضل وأكمل.. انتهى.

وقال في تفسير المنار على قوله: ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ [الأنعام: 164]، قال: هذه قاعدة من أصول دين الله الذي بعث الله به جميع رسله، كما قال تعالى: ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 36-41]، قال: وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم لأنها هادمة لأساس الوثنية وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية وهو عملهم دون عمل غيرهم، فمعنى الجملتين: فلا تكسب نفس إثمًا إلا كان عليها جزاؤه الأخروي دون غيرها ولا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل كل نفس لها ما كسبت، أي من الحسنات وعليها ما اكتسبت، أي من السيئات، فالدين قد علمنا أن سعادة الناس وشقاءهم بأعمالهم، وأن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير، وأما من كان قدوة صالحة في عمله أو معلمًا، فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم زيادة على انتفاعه بأصل عمله، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالًّا عليه، فإن عليه إثم من أفسدهم، وكل هذا وذاك يعد من قبيل عمله، وقد بين النبي ﷺ هذا وذاك بقوله: «منْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة»[51].

قال: ومما ينتفع به المؤمن من عمل غيره، بحيث يعد من قبيل عمله دعاء أولاده له وحجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه. وهو داخل في عموم قوله: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم في نص الكتاب والسنة.

ومن قال بانتفاع الميت بكل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده، قد خالف نص القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح. انتهى[52].

والحاصل أن الأخبار الصحيحة وردت بجواز صدقة الأولاد عن الوالدين وقضاء ما وجب عليهما من صيام وحج وقضاء نذر، لكن مدار الجزاء والثواب والعقاب على عمل الإنسان بنفسه لنفسه لا على عمل أولاده وأقاربه جمعًا بين النصوص، كقوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣ [البقرة: 123]، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡ‍ًٔا [لقمان: 33]، ثم إن هذا الانتفاع مشروط بكون الوالد والولد متفقين على الإيمان بالله والعمل بطاعته، وإن حصل التقصير من أحدهما في ترك طاعة أو ارتكاب معصية، كما في الحديث «إن الرجل لينزل المنزلة العالية في الجنة وينزل ابنه دون منزلته، فيقول أين ابني؟ فيقال له: إنه دون منزلتك قد قصرت به أعماله، فيقول: يا رب إني عملت لي وله، فيقول الله: صدق ارفعوا منزلته إلى والده لتقر به عينه»[53]، ثم تلا قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ [الطور: 21]، أشبه الشفاعة لا تكون إلا لمن أذن له الرب ورضي عمله، لهذا قلنا: إنه يجوز للأولاد قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصيام وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو النذر، أما غير الواجبات من سائر أفعال التطوّعات فالظاهر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنها لا تفعل عنه بعد موته فلا يصل إليه ثواب القراءة ولا الأضحية ولا يحج نفلاً عنه ولا يصام نفلاً عنه ولا يصلى عنه، بل يتصدق عنه، فإن الصدقة أفضل من هذا كله وأنفع للحي والميت لكونها من النفع المتعدي للغير وحتى جاز فعلها مع الكافر، ولمّا تحرّج أصحاب رسول الله من الصدقة على أقاربهم من المشركين وقالوا: لا نؤجر على الصدقة على من ليس من أهل ديننا، أنزل الله تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272]، فأمروا بالصدقة على الكافر، وبهذا فارقت سائر أفعال البر كما عرفت، والله أعلم.

[38] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [39] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [40] إنا لا نسلم لصحة ما يدعيه من عدم الخلاف في أداء الواجبات التي تدخلها النيابة، بل إن فيها الخلاف الكبير، أما الحج فإن الظاهر من مذهب الإمام أحمد والشافعي، فيمن مات قبل أن يحج، فإنه يجب أن يخـرج من تركتـه ما يحج به عنه، أشبه دين الآدمـي، وذهب الإمام مالك وأبو حنيفة إلى أنه يسقط بالموت، وإن أوصى به فمن الثلث، وأما الصوم فظاهر مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يصام عن الميت مطلقًا، وخص الإمام أحمد جواز قضاء الولي للصوم الواجب بالنذر دون الواجب بالشرع، أما الواجب بالشرع، فإن فيه الإطعام عن كل يوم مسكينًا ولا يصام عنه في قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر المذهب، قاله في المغني، أما إذا مات المريض في إثر مرضه أو مات المسافر في سفره، أو ماتت الحائض أو النفساء قبل أن يتمكن أحد هؤلاء من قضاء ما عليه، فإنه لا يجب الإطعام ولا الصيام لكونه معذورًا شرعًا. [41] متفق عليه من حديث ابن عباس. [42] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. [43] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [44] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [45] ممن حكى الإجماع: النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن العربي. [46] متفق عليه من حديث عائشة. [47] من المجلد الثالث من فتاوى رسول الله، وذكره بأبسط من هذا في تهذيب السنن (ج 3- ص279). [48] راجع كتاب المغني طبعة المنار، تجد في حاشيته من آخر كتاب الجنائز رد القول بدعوى الإجماع في إهداء ثواب القراءة، وقال: إن دعوى الإجماع باطلة لم يعبأ بها أحد قطعًا حتى إن المحقق ابن القيم الذي جاراه في أصل المسألة قد صرح بما هو في نص بطلانها، كما ورد أيضًا القول بجواز القراءة على القبور، وتكلم صاحب المنار على الأحاديث والآثار التي ساقها الموفق وبين حقيقة ضعفها وكونها موضوعة لا يحتج به. [49] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [50] أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله. [51] رواه مسلم بنحوه من حديث جرير بن عبد الله. [52] المجلد الثامن- ص246. [53] أخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن عباس.

أقوال العلماء في تفسير: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]

حكى القرطبي في التفسير عن الأكثرين أن هذه الآية محكمة وأنه لا ينفع أحدًا عمل أحد، قال: وأجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد.

ولمّا رأى بعض المفسرين وبعض الفقهاء أن هذه الآية تهدم قاعدة إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى وتثبت بالصراحة بأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمنهم من يقول: إنها منسوخة، ومنهم من يقول: إن المراد بالإنسان الكافر، وأما المسلم فله ما سعى وما سعى له غيره، وأحيانًا يقولون: إنه ليس للإنسان إلا ما سعى بطريق العدل وله ما سعى له غيره بطريق الفضل، ومنهم من يقول: إنها ليست من شريعة محمد ﷺ وإنما هي من شريعة إبراهيم وموسى. وكل هذه التأويلات ليس عليها دليل من الكتاب والسنة، وإنما خرجت مخرج الانتصار للمذهب ليدفعوا بها حجة المحتج عليهم بهذه الآية الصريحة المخالفة لرأيهم ومذهبهم، لتستقيم بذلك قاعدة إهداء ثواب الأعمال عندهم.

ومن المعلوم أن أقوال العلماء تابعة لقول الله ورسوله، وليس قول الله ورسوله بتابع لأقوالهم، فلا ينقض بها أمر مستقر من كتاب الله وسنة رسوله، وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه فيتكلف صرف الكلم عن المعنى المراد منه مع كونه لا يحتمل هذا المعنى لتستقيم بذلك حجته، فإن هذه الآية لها نظائر كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 54]، وكقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17] في كثير من الآيات يذكر- سبحانه- جزاء الإنسان على أعماله من خير وشر.

وكما أن هذه الآية مقرونة بآيات محكمات هن أم الكتاب فلا يجوز قطعها عن نظائرها بدعوى النسخ لها، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل شرعي، وهي خبر لا يدخلها النسخ والآيات المقرونة بها هي قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ [النجم: 38] وهي محكمة بالإجماع، أي لا تحمل نفس وزر غيرها ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨ [المدثر: 38]، ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، أي بنفسه لنفسه ومن أبطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، لأن كل إنسان مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ﴿وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ [النجم: 40]، أي سوف يعرض وينشر ﴿يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ [النبأ: 40]، ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗا [آل‌عمران: 40]، ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨ [الزلزلة: 6-8]، ﴿ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 41]، وقد فسر هذا الجزء بقوله: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦٠ [الأنعام: 160]، وأما قولهم: إن المراد بالإنسان هنا الكافر، وأما المسلم فله ما سعى، وما سعى له غيره. فلا شك أن هذا التأويل أبعد عن معنى التنزيل من الذي قبله، فإن الكافر عمله حابط من أصله فلا سعي له عند ربه، يقول الله: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٨ [ابراهيم: 18]، فكيف يستجيزون القول بهذا مع بعده عن مراد الله به.

وكذلك قول من قال: إنها من شريعة إبراهيم وموسى وليست من شريعتنا، وهذا التأويل يقضي عزل هذه الآية عن المعنى المراد منها ليزول عن الناس التكليف بها والاحتجاج بموجبها، كأنها بزعمهم من حشو الكلام الذي لا يستفاد منه عظة ولا عبرة ولا حكم من الأحكام، والصحيح أنها من شرع الله وأصول دينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وأنذر به الرسول عشيرته، وأنه كما نزل به القرآن فقد نزل في صحف الأنبياء إبراهيم وموسى، لأنه من باب الجزاء على الأعمال، وأن الأولين والآخرين يقال لهم: ﴿ ماذا كنتم تعملون ، و﴿مَاذَآ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ، نظيره قوله تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧ إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ ١٨ صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ١٩ [الأعلى: 14-19].

أفيقال: إن هذا ليس من شرعنا وإن التذكير بها ليس من شأننا. ليبطلوا بذلك سنة الله في التذكير بآياته وبيناته، وكل من تدبر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجدها تدل على ما دلت عليه هذه الآية بطريق المطابقة والتضمن كقوله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17]، قوله: ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٥ [آل‌عمران: 25] وقوله: ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 70]، ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا [الكهف: 49] وقوله: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]، وقوله: ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 53-54]، وفي الصحيح عن عدي بن حاتم، أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، وفي حديث أبي ذر في عرض صحائف الأعمال: إن الله يقول: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رواه مسلم. كل هذه الآيات والأحاديث تدل على ما دلت عليه هذه الآية بالمطابقة والتضمن، فإن قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39] هي من قبيل قوله: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 54] ومن قبيل قوله في الحديث: «يَنْظُرُ الرجل أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ». فأين عمل الغير عند عرض صحائف الأعمال على الله سبحانه وتعالى ﴿يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ ٣٥ وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ٣٦ [النازعات: 35-36] حيث لم يقع لها ذكر في كتاب الله ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا [مريم: 64].

* * *

الأوقاف والوصايا في عمل البر والخير

يكثر من الناس النص بالوقف في عمل البر والوصية بالثلث في عمل البر والخير، ومنهم من ينص في وصيته بأن يعمل له ما يعمل الحي للميت، يريد بذلك الوصية في وجوه البر والخير وكله حسن جائز، غير أنه ينبغي أن نعرف حقيقة البر لنعرف به حقيقة التنفيذ في سبيله.

البِرّ: بكسر الباء، هو التوسع في أعمال الخير، وضد البر الفجور، وهو التوسع في أعمال الشرور، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤ [الانفطار: 13-14]، وفي الشرع هو: الإيمان بالله وما يتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، يقول الله: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧ [البقرة: 177].

فذكر - سبحانه- أعمال البر ومن جملتها ركن البر من المال، وهو ما عناه بقوله: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ، وهذا هو البر لمن سأل عن البر أو أوصى في عمل البر، وقد أخذ عمر بن الخطاب بهذه الآية في مصرف وقفه الذي استشار فيه رسول الله ﷺ فوقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقًا غير متمول مالاً، ولم يذكر في وقفه حجة ولا أضحية كما يفعله الناس الآن، فبدأ - سبحانه- بإيتاء المال على حبه وذلك بأن يخرج صدقته في حال صحته ومحبته لماله كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل الصدقة أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» ولهذا روي أن مثل من لا يتصدق إلا عند الموت كمثل من لا يهدي إلا إذا شبع، فلا أفضل من كون الإنسان يرى صدقته جارية مجراها في حال حياته وصحته، فما نفع الإنسان مثل اكتسابه بنفسه لنفسه، وحسن ظنه بغيره إساءة منه في عمل الحزم.

ثم قال: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وهم أقارب الواقف والموصي، فبدأ بهم للاهتمام بأمرهم؛ لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، ولمّا تصدق أبو طلحة ببيرحاء وقال للنبي ﷺ: ضعها حيث شئت، فقال له: «سمعت ما قلت وأرى أن تضعها في أقاربك»، فقال: أفعل يا رسول الله. فقسمها بين بني عمه وهم حسان وأُبي بن كعب وأبو قتادة، وكل واحد منهم ملك مستحقه منها حتى باع أحدهم مستحقه منها بصاع دنانير[54]. وأقارب الشخص المستحقون للوصية بالبر هم من لا يرثه بفرض أو تعصيب من إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وأولاد العم والعمة، ويرجو ثوابه لأن السنة في الوصية هو أن يأخذ الموصى إليه وصيته قبل أن يأخذ الوارث إرثه، وإن أوصى بمال أو بالثلث في عمل البر استحقوا الدخول فيه إذا كانوا فقراء؛ لأن كل وقف أو وصية في عمل البر والخير فإن المقدم فيها من قدمه الله في كتابه وإن لم ينص الموصي عليه؛ لأن فقراء الموصي أحق بالتقديم في خير ما أوصى به من الوصية في عمل البر أو الوقف في البر.

الصنف الثاني: اليتامى: وهم من توفي أبوهم الذي هو كاسبهم والساعي عليهم قبل أن يبلغوا سن الرشد، لأنهم بموته تحيق بهم الحاجة وتحيط بهم المسكنة وتنقطع عنهم صلات أهل الحفاوة والمودة، كما قيل:
إذا ما رأس أهل البيت ولَّى
بدا لهم من الناس الجفاء

فيصيرون مستحقين للصدقة على كل حال وبالخصوص من وقف البر ومن الوصية في عمل البر، وللموصى إليه الأجر في تنفيذ ما ذكر لأن الخازن الأمين - وبمعناه الوكيل الذي ينفذ ما استؤمن عليه في سبيله - أحد المتصدقين.

والصنف الثالث: المساكين: وهم الفقراء البائسون الذين قعدت بهم المسكنة والحاجة أو علة المرض والزمانة عن السعي والكسب لما يكفيهم وعيالهم وفي الحديث: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِى لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»[55].

والصنف الرابع: ابن السبيل: وهو الذي يريد السفر إلى أهله وليس بيده ما يوصله إلى بلده فيعطى من الصدقة الواجبة ومن الوصية في عمل البر ما يؤهله إلى الوصول إلى بلده.

والصنف الخامس: السائلون: وهم الذين يتكففون الناس بالسؤال، وللسائل حق ولو جاء على فرس، ولو صدق السائل ما أفلح من رده، ومن سأل وعنده ما يغذيه ويعشيه فقد ألحف في المسألة.

والصنف السادس: الرقاب: وهو تحرير الأرقاء ومساعدة المكاتبين، ويلتحق بذلك المغرمون بالديون والمساجين والمحكوم عليهم بأداء الديات أو أروش أضرار الجنايات في الأرواح والسيارات وليس لهم مال ولا عاقلة فيعطون من الزكاة الواجبة ومن الصدقة المستحبة ومن الثلث الموصى به في عمل البر والخير والوقف على البر قدر ما يخلصهم من عنت هذا الغرم، ومما يدخل في عمل البر معالجة المرضى من الفقراء وبناء البيوت للضعفة المضطرين والنفقة في الجهاد في سبيل الله وعلى المجاهدين وبناء المساجد وفتح الطرق وإجراء المياه وغير ذلك من المنافع العامة والمصالح الشاملة الداخلة في عموم الصدقة الجارية الباقية للإنسان بعد موته والنافعة الشافعة له عند ربه، وقد غفل الناس عن هذه النصائح والمصالح التي حث عليها كتاب ربهم وسنة نبيهم وجرى عليها عمل الصحابة والسلف الصالح في أوقافهم ووصاياهم وسائر تبرعاتهم وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم إلى الوصية بالأضحية والوقف على الأضحية، حتى إنك لتجد غالب بيوت القرية محبوسة على ذلك لكون هذا الأمر قد جرى العمل به من العلماء وتبعهم عليه سائر العوام في الوصايا والأوقاف العظام حتى كأنها من أفضل ما يتقرّب به إلى الله من صالح الأعمال.

وقد سبق القول بعدم جواز الأضحية عن الأموات مطلقًا، لكونه لم يثبت عن رسول الله الأمر بها ولا عن أحد من الصحابة فعلها ولا الوصية بها، فضلاً عن القول بفضلها بطريق الإصلاح، والعدل يوجب على كافة العلماء تدارك هذا الخطأ بصرف هذه الأوقاف والوصايا المجعولة في الأضاحي عن الأموات فيما نص عليه الكتاب والسنة، وجرى عليه العمل من الصحابة والتابعين حتى ولو خالف نص الموصي؛ لأن الحق فوق كل أحد لاعتبار أن هذا الصرف والتصرف يعد من الإصلاح والعدل المأجور فاعله والمرفوع عنه إثمه، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ [البقرة: 182] ولأن من شرط صحة الوقف على البر أن يكون على طاعة محققة، ونحن لم نتحقق فعل الطاعة في الأضحية عن الميت بشهادة الأئمة الثلاثة وهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة، بعدم مشروعيتها وحسبك بهم في العدالة وقبول الشهادة، ثم إن الواقف وبمعناه الموصي إنما يقصد بوقفه ووصيته حقيقة ما يقرّبه من رضى ربه وينفعه في آخرته، وقد ظن أن الوصية بالأضحية والوقف عليها أنه أفضل ما يعمله لكون العامي مشتق من العمى، فهو يحتاج إلى من يدله على الطريق ويبين له ما ينفعه في آخرته على سبيل التحقيق.

فلو أن هؤلاء المستولين على الأوقاف والوصايا والذين يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين والستين من الأغنام يريد أن يجزرها كلها أضاحي الأموات في مقام واحد، وعند الثاني والثالث مثل ذلك فلو أن هؤلاء صرفوا قيمة هذه الأضاحي إلى الفقراء والمساكين والمضطرين، بحيث يدفع إلى أهل كل بيت ثمن أضحية في ثواب ميتهم وكذا كل من يريد أن يبر والديه، بأضحية أو أضحيتين يدفع قيمة كل أضحية إلى أهل بيت من الفقراء في ثواب والديه، لا شك أن هذه أنفع للحي والميت وأقرب إلى طاعة الله ورسوله، لا سيما إذا صادف إخراج هذه الصدقة في عشر ذي الحجة حيث العمل الصالح أحب إلى الله فيها من سائر السنة لكونها تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه العيد من ضرورة النفقة والكسوة وسائر المؤنة له ولعياله، فأين تقع هذه الصدقة وعموم نفعها وسداد العوز بها من الصدقة بقطعة لحم لا قيمة لها تأتيهم وهم لها كارهون، لا شك أن الفرق واسع والبون شاسع لولا أن بعض الفقهاء يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد ويقولون: إن نصوص الواقف كنصوص الشارع، فهم يحكمون بإلزام الناس بالعمل بما نص عليه الموصي أو الموقف مع قطع النظر عن الصحيح الراجح وهذا هو حقيقة ما عناه ابن القيم، حيث قال: إن بعض الفقهاء محبوسون في سجن الألفاظ ومقيدون بقيود العبارات. غير أن من تربى على مذهب واعتقد صحة ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها فإنه لا يفرق بين ما جاء من الله وعن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه مع تعذر إقامة الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته فإنه يعد من المقلدين الناقلين لأقوال غيرهم.

وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في المسألة أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه أو فقهاؤه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه. ومن المعلوم أنه متى ساء الحكم ساءت النتيجة، لهذا نجد الولاة على الأوقاف والوصايا الخيرية والتي يستغلون منها الأجور الطائلة خاصة في البلدان الراقية، نجدهم يستحلون هذا الدخل بأضحية يسفكون دمها ويأكلون مخها ولحمها، كأنه لا حساب عليهم ولا عقاب فيها، لهذا لا يجوز للمفتي أن يفتي بمذهبه ويلزم الناس بالعمل بموجبه وهو يعلم أن مذهب غيره أقرب للصواب وأسعد بالدليل من مذهبه.

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرر في 27 رجب عام 1390هـ.

[54] أخرجه البخاري من حديث أنس. [55] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(2) مباحث التحقيق مع الصاحب الصَّدِيقِ

مقدمة الرسالة

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وجمله بالعقل وشرفه بالإيمان وفضله بالعلم على سائر الحيوان.

أما بعد:

فإن من واجب العالم المحتسب القيام ببيان ما وصل إليه علمه من معرفة الحق بدليله مشروحًا بتوضيحه والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه لكون العلم أمانة والكتمان خيانة، ومن المعلوم أن العلوم تزداد وضوحًا، والشخص يزداد نضوجًا بتوارد أفكار الباحثين وتعاقب تذاكر الفاحصين؛ لأن العلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، وملاقاة التجارب من الرجال تلقيح لألبابها، وعلى قدر رغبة الإنسان في العلم وطموح نظره في التوسع فيه بطريق البحث والتفتيش عن الحق في مظانه تقوى حجته وتتوثق صلته بالعلم والدين، لكون العلم الصحيح والدين الخالص الصريح شقيقين يتفقان ولا يفترقان، ورأسهما خشية الله وتقواه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ [البقرة: 282]، وإنه من بعد فراغي من تأليف الرسالة التي هي: الدلائل العقلية والنقلية، صار من عزمي ألّا ألتفت بالتجاوب الكتابي مع أي معترض عليها بالطعن فيها اكتفاء بكفاحها عن نفسها، وبعد نشر المنشور الصادر من الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، وكذا المنشور الثاني الصادر من الشيخ إسماعيل الأنصاري، واتفقت كلمة المنشورين على إشاعة الشناعة بصريح التضليل والتجهيل على الرسالة وصاحبها، ومن المعلوم أن من أوصلته خبرًا لن تستطيع أن توصله عذرًا، لهذا رأيت أن سكوتي عن الجواب قد يعطي بعض الناس شيئًا من الشك والارتياب في الكتاب، مما يقتضي عدم الثقة به والاطمئنان إليه، فلأجله بدا لي أن أبدي اعتذاري بكشف ظلام هذا الاتهام الناشئ عن غلط الأوهام وخطأ الأفهام، نصيحة لله وللخاص والعام، فحررت الجواب عن كلا المنشورين بما تقتضيه أمانة التبليغ، وقدمت قبل الشروع أربع رسائل وصلت إلينا من بعض العلماء، تتضمن التعريف عن كتابنا التي هي بمثابة الشهادة منهم، والناس شهداء الله في أرضه، والاعتماد هو معيار السنة والكتاب وما جرى عليه عمل الصحابة، وقد وضحت جميع ذلك في الرسالة ولكل رأيه فيما عليه وما له.

والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

رسالة من الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي بتقريظ رسالة الدلائل العقلية والنقلية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حضرة صاحب الفضيلة رئيس المحاكم الشرعية - حفظه الله وتولاه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فبيد الشكر والامتنان تسلمت رسالتكم المسماة: الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية. فألفيتها رسالة قيّمة نافعة، تضيء السبيل للقارئ بأنوار دلائلها الساطعة، وتبهج القرّاء برياض مباحثها الممتعة، وتروي غليلهم بأنهار مسائلها الجارية.

وما ذكرتم من أنه لم يرد عن الشارع أن يضحى عن الميت بانفراده، فإنه الصحيح الواقع، إذ لم يثبت عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحابه العظام، مما هو ظاهر مذهب مالك والشافعي والنعمان، وقد ذكرتم ذلك بأوضح بيان مقرونًا بالدليل والتعليل والبرهان.

وحقًّا، قد أعطيتم البحث حقه في هذا المرام، ولم يسبقكم إلى التأليف فيه فيما أعلم أحد من الأعلام. وقد تقصيتم فيه كل ما قيل، ورجحتم ما أيده الدليل ومن استبان له بالدليل الصحيح حكم من الأحكام، فعليه أن يتبعه وإن خالف علماء المذاهب الكرام، وكذلك فعلتم ونعم ما صنعتم، لأن الله أمرنا باتباع كتابه العظيم، وما صح من سنة نبيه الحكيم، ولم يأمرنا بتقليد ذوي العلوم والفهوم، وإن كانوا في الفضل والمكانة السامية كالنجوم.

والدين ما أمر الله به وشرع، وأتى به الرسول المتبع، والحق أحق أن يتبع، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا سيد المرسلين - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - وأثابكم الله وأحسن لي ولكم الختام، ونفع بهذه الرسالة الخاص والعام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم

أحمد بن حجر آل بو طامي آل بن علي

قاضي المحكمة الشرعية بقطر

* * *

رسالة الشيخ يوسف القرضاوي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

صاحب الفضيلة العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود - حفظه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فقد تلقيت بيد الامتنان والشكر كتابكم الأخير: الدلائل العقلية والنقلية، وأخذت في قراءته منذ تسلمته، ولم أستطع أن أنام حتى أكملته، فوجدته حافلاً بكثير من الفوائد الفقهية والتحقيقات العلمية، رادًّا الفروع إلى أصولها، وآتيًا للبيوت من أبوابها.

وأعظم ما أعجبني فيه هو المنهج السديد الذي سلكتموه - حفظكم الله- في مناقشة الأقوال ومعرفة الأحكام. وهو منهج لا يتعصب لرأي معين، ولا يتحيز لقول قائل، ولو كان هو شيخ الإسلام الحبيب إلى نفسك ونفوسنا رضي الله عنه وإنما يزن الأقوال والآراء بميزان الكتاب والسنة والقواعد الشرعية الكلية المتفق عليها.

وكم بلغ بي السرور مبلغه وأنت تناقش كبار الفقهاء، حين يأخذون حديثًا من الأحاديث بالقبول والتسليم، دون أن يعرضوه على ميزان النقد، أو على الأقل يعرفوا ما قاله أهل الصناعة من أئمة الحديث في هذا النص. ثم ينقل بعضهم عن بعض دون تمحيص.. إلخ.

وما أحوج علماء الإسلام إلى اتباع هذا المنهج، إذن لصُحِّحت مسائل كثيرة، وظهرت للناس محاسن الشريعة الغراء ورفع عن الأمة حرج كبير.

إن هذه الرسالة مع رسالة فضيلتكم السابقة يسر الإسلام نموذجان يحتذيان في التأليف العلمي المستقل، الذي لا يبحث إلا عن الحق، ولا يأخذ إلا بالدليل، ولا تثبطه شهرة الحكم وشيوعه عن مناقشته ورده إلى أصوله.

أخيرًا، أسأل الله تعالى أن يطيل في عمركم ويبارك في حياتكم، ويجعل منها منارًا لهداية الحائرين، وشهابًا لرجم المبطلين والملحدين، وأن ينفع بكم، ويغفر لكم.. آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص

يوسف القرضاوي

* * *

رسالة الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حضرة العلامة المفضال الأخ الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، أطال الله في عمره، لعلم ينشره وسديد رأي يبذله، اللهم آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أيها المحب الكريم والشهم الغيور، قد تأملت رسالتكم نحو الأضاحي وما تطرقتموه من مباحث علمية وآراء فقهية ونصوص شرعية حملكم عليها غيرتكم الدينية ونصائحكم وصراحتكم التي يشهد بها كل منصف، والحقيقة أن ذلك منحة من الله قد خصكم بها، وقد اجتمعت ببعض من العلماء في المملكة، ودار الحديث نحو ذلك، ولا يخفاكم أن البعض منا سامح الله الجميع بفضله، يستعجل بالتفنيد قبل تخمير الرأي وعرضه والبحث والمشورة، وعلى كل فلا بد من قادح ومادح، وتمحيص ذلك شرعة الله ارتضاها لعباده، وقد قمت بما يجب علي نحو ذلك، غير أنه لا يخفاكم حالة البعض من عدم إعطاء المباحث السعة للتوصل إلى ضالة المؤمن المنشودة، وفق الله الجميع للخير وعلى سبيل ما بيننا من روابط قديمة ومحبة صادقة، أود من فضيلتكم التلطف فيما قد يفسر عند بعض الناس من مس لأقوال المتقدمين من علماء المسلمين مهما أمكن، وأن المرء يدلي بما لديه وما وصل علمه إليه، سدد الله خطاكم وأجزل ثوابكم، تحياتي للأولاد ومن يحضر من المحبين لديك كذلك والسلام.

محبكم

أحمد عبد العزيز المبارك

رئيس المحكمة الشرعية في أبو ظبي

* * *

رسالة السيد عبد الله بن خميس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حضرة صاحب الفضيلة العلامة الجليل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، رئيس محاكم قطر الشرعية الموقر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وأرجو لفضيلتكم دوام التوفيق والسعادة..

ولقد تلقيت نسخة من كتابكم الجديد حول الأضاحي وما يصل ثوابه للميت بنص الشرع، وقرأته بكل شوق واغتباط، والواقع أن استنتاجاتكم واجتهاداتكم الإسلامية، ومآخذكم الموفقة لمما يتفق وروح الإسلام ومقاصده المرنة السمحة؛ إذ هي تهدف إلى تحكيم الكتاب والسنة والرجوع إلى معينهما الصافي دون الالتفات إلى التقليد والمحاكاة وتحكيم آراء الرجال، الأمر الذي يجعلنا نطمع في أن يكثر الله من أمثالكم، أهل العقول النيرة والأفكار الرحبة، الذين تنشرح بهم الصدور وتطمئن إليهم القلوب، ويجتذبون الناس بما أعطاهم الله من الحكمة والموعظة الحسنة والمنطق الهادف، والبحث عن الحق أين ما كان وحيث ما كان.

ولا أكتم شيخي الفاضل، أنني من المعجبين باجتهاداته الشرعية وبصراحته في الحق، ولا أزال ولن أزال أكرر إعجابي وأدعو من صميم قلبي أن يكون قدوة لرجال من هذا الطراز، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يركنون إلى التقليد الجامد الأعمى، بل يجاهرون بالحق ويجأرون به.

وأنا واثق - وإن حف اجتهاداتكم الإسلامية ما حف بها من تشنجات ومخالفات - إلا أن النية الحسنة وسلامة الطوية وعمق المأخذ وسلامة التفكير وتلمس مقاصد الإسلام الكريمة وأهدافه السمحة، كل ذلك سوف يكتب لهذه الاجتهادات الخلود والبقاء، رغم ما يثار حولها من غبار، طال الزمن أو قصر ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ [التوبة: 105].

هذا، وأرجو من الله أن يصاحبكم التوفيق في قولكم وعملكم، وأن يبقى قلمكم الصريح وفكركم الناضج أسوة وقدوة.. مع إبلاغ تحياتي للأنجال الكرام والإخوة الأعزاء، كما هي لكم ممن لدينا جميعًا من الأولاد والإخوان والله يحفظكم ويرعاكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص ابنكم

عبد الله بن خميس

* * *

اعتراض الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد على ما جاء في رسالة الدلائل العقلية والنقلية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإنني رأيت كلامًا نشرته جريدة الرياض في عددها المؤرخ في اليوم السابع من شهر ذي الحجة عام 1390هـ، من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، رئيس هيئة التمييز بالرياض حاصله: الإنحاء بالملام وتوجيه المذام على كتابنا: الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية، بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفا، وتنافي الإنصاف والحفا، قد جعل فيها الجد عبثًا والتبر خبثًا والصحيح ضعيفًا، وأخبر أن الأمر على عكس ما في الكتاب، وأن الأضحية عن الميت هي من الأمر المشروع بنص السنة والكتاب وبدون شك ولا ارتياب، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وصرح بأن عملي خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره إلى آخر ما ذكره.
وكم من مُليم لم يصب بملامة
ومُتَّبع بالذنب ليس له ذنب
وقد كنت أحسب لهذه النفرة الحساب، فطرقت لسدها كل باب وجمعت من النصوص الجلية والبراهين القطعية ما يزيح الشك عن الكتاب، ولن أهمل أو أنسى ما عسى أن يكون حجة عليّ في هذا الباب[56]، بل كتبت كل ما وجدت من حجج المانع والمقتضي والموجب والسالب ورجحت ما يقتضيه الترجيح، بدليل السنة والكتاب، وبينت من الدلائل في مقدمته ما يكون مؤذنًا بصحته، ولم ألقه ساذجًا من دليل الحكم وعلته، لأنني أخذت فيما قلت بالأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، وكونه لا حول ولا قوة لي إلا بها، غير أن صواب القول وصحته غير كافلة لصيانته عن الرد عليه أو الطعن فيه والحط من قدره، حتى ولا كتاب الله الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦ [فصلت: 42] فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في أحكامه والتكذيب بكلامه ﴿وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ قُل لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ٦٦ [الأنعام: 66]، فكيف بكلام من هو مثلي وأنا المقرّ على نفسي بالخطأ والتقصير، وأني لدى الحق أسير.

غير أن الناس بطريق الاختبار يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فتأخذ العيون والآذان من الكلام على قدر العقول والأذهان، فيتحدث كل إنسان بما فهمه، حسب ما وصل إليه علمه، وعادم العلم لايعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، فمن واجب الكاتب أن يبدي غوامض البحث ويكشف مشاكله، ويبين صحيحه وضعيفه مدعمًا بدليله وتعليله، حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم كما قيل:
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
وما عليك إذا لم تفهم البقر
إنه متى تصدى عالم أو كاتب أو شاعر لتأليف أي رسالة أو أي مقالة أو أي قصيدة، فبالغ في تنقيحها بالتدقيق وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، فحاول جاحد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها، فيلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام، أفيلام صاحبها إذا كشف عنها ظلم الاتهام وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام بطريق الحجة والبيان، إذ لا بد للمصدور من أن ينفث، والحجة تقرع بالحجة، ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق؛ لأن الحق مضمون له البقاء، وأما الزبد فيذهب جفاء، وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ الأجر والثواب، سواء أخطأ في النقد أو أصاب؛ لأنه وإن رد عليَّ أو رددت عليه فما هو إلا محض التلقيح للألباب ويبقى الود ما بقي العتاب، إذ ما من أحد من الناس إلا وهو راد ومردود عليه، ولنا الأسوة بالصحابة، حيث يرد بعضهم على بعض في مسائل الفروع ولم يجد أحد منهم في نفسه حرجًا أو افتخارًا بفلج؛ لأن قصد الجميع الحق، فهو غايتهم المقصودة، وضالتهم المنشودة، وإنا لنرجو في إثارة هذه المباحث بألَّا نعدم من نتائج جميلة وحكم جليلة، يثيرها البحث والنقاش؛ لأن العلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

* * *

[56] إلى حالة أن الذين تصدوا بالرد علينا رأيناهم يأخذون جملاً من فصول الرسالة يرسلونها ردًّا علينا، فيحسب من لا يفهم أنه نقض لما قلنا وما شعروا بأنها بضاعتنا ردت إلينا.

فصل في معرفة الشيخ ابن محمود بالشيخ عبد العزيز بن ناصر

إنه قبل شروعي في النقد سأنشر محاسن ما عرفته عن الشيخ عبد العزيز، بطريق الخبرة والتجربة والصحبة الطويلة.

إن أول معرفتي به عام 1358هـ، وقت دراستنا عند فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي الديار السعودية - رحمه الله- وفي أول عام 1359هـ صدر الأمر من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله- بإرسالنا إلى مكة المكرمة لنشر الوعظ والإرشاد والتعليم في الحرم وفي مساجد مكة، ولنكون وقت الطلب على أهبة الاستعداد، فسافرت وإياه إلى مكة ومعنا ستة أشخاص من زملائنا، فنزلنا في مسكن فسيح جميل ذي طوابق في الحلقة وأقمنا جميعًا سنة كاملة، في كلها نتمتع من فضيلة هذا الشيخ بدماثة الأخلاق وجميل الوفاق، لم نعتب عليه في خلق ولا دين، فمن أجله كنت أحمل له الود المكين ونعده من فقهاء الزمان ومن له شرف وشأن، ولم نزل كذلك إلى أن حان ميعاد الفراق وصدر الأمر الملكي بإشخاصنا قضاة في الآفاق، فأرسل كل واحد منا إلى بلد، وأرسلني في صحبة فضيلة حاكم قطر: الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني - رحمه الله- بتاريخ 15 ذي الحجة عام 1359هـ، فهذا مبدأ معرفتي بهذا الشيخ، إذ إنه زميلي في الطلب ورفيقي في السفر وصاحبي في المسكن، فنحن نعده من الفقهاء الأجلاء، غير أنه من القوم الذين يرون التقيد بالمذهب في الصغيرة والكبيرة، وألَّا يخرج عنه قيد شعيرة، فلأجله ضاق ذرعه بمخالفتي لرأيه وعدها عليَّ جريمة كبيرة، حتى نشر لأجلها هذا المنشور، كأنني أتيت ببدع من القول وزور، ولم يشعر بأن ما قلته يعد من صغار مسائل الفروع التي لا إنكار في مثلها عند أهل الأصول، مع أن القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت، هو المشهور من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف، وكذا الإمام أحمد، فإنه لم يوجد عنه نص في الجواز، فلا وجه لهذا الإكبار والإنكار الناشئ عن الجهل بالآثار والتسمي بالرد للافتخار، وهذه النفرة التي حدثت معه وأشباهه ستزول سريعة - إن شاء الله- بعدما تتخمر البحوث في الأفهام ويتكرر التذاكر في موضوعها بين ذوي العلوم والأفهام،، لأن العلم شفاء، وقد ضمن الله للحق البقاء وحسن العقبى، وأما الزبد فيذهب جفاء.
أبن وجه قول الحق في نفس سامع
ودعه فنور الحق يسـري ويشرق
سيؤنسه رفقًا فينسى نفاره
كما نسـي القيد الموثق مطلق
نسأل الله علمًا نافعًا وعملاً مبرورًا خالصًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

* * *

فصل في الرد على ادعاءات الشيخ عبد العزبز بن ناصر

قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في منشوره الشهير:

الحمد لله - لقد اطلعت على رسالة أملاها الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ذكر فيها: إن الأضحية عن الميت لا تجوز وأنها غير شرعية، وأن ما عليه الناس من علماء وعوام من الأضحية عن الميت والوصية في ذلك كله خطأ محض، حملهم عليه حسن الظن بمن أفتى بصحة ذلك، كشيخ الإسلام وغيره من علماء الدعوة، وقد جرى مني دراستها فلم أجد ما يصلح مستندًا لما ذهب إليه، بل بالعكس.. إلخ.

الجواب: إن الشيخ ذكر بأنه درس الرسالة، وأنه لم يجد ما يصلح مستندًا لما ذهب إليه صاحبها، وذلك كله من أجل أنه أمسكها ودرسها وهو كاره لها، وإذا اشتدت كراهية الشخص للشيء لم يكد يراه ولا يسمعه، لكون الهوى يعمي ويصم، فلو أنه حين أراد دراستها أخلص عمله لله وعزب عنه هواه، ثم تأمل فصول الرسالة وما تقتضيه من الدلالة لما وقع في شبك هذه الجهالة، ونحن لا نعتذر من قول الحق على شيخ الإسلام أو على غيره، إذ الحق فوق كل أحد، وشيخ الإسلام هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا، وقد قال ابن عباس: يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر. ومن المعلوم أن أبا بكر وعمر أفضل من كل أحد بعد رسول الله، وقد قال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا إسناد الحديث وصحته، فيتركونه ويذهبون إلى رأي سفيان وفلان وفلان، والله يقول: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قد خالف الأئمة الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة مشهورة لدى أهـل العلم والمعرفة، ولا يعد انفراده بها شذوذًا، لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به، وهذه الأقوال التي قلتها والبحوث التي نقلتها لم ألقها ساذجة من دليل الحكم وعلته، كما يفعل بعض الناس، وإنما وطدت ثبات ما قلت بالدلائل القطعية والبراهين الساطعة الجلية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله، ولو أنصف الشيخ لعرف ولكنه تجاهل فحرف، والمناظر المتعنت تعبان والصاحب المنصف مستريح، والحق يبدو كرهًا وله تكون العاقبة، والعاقبة للتقوى، ومن واجب المسلم المنصف أن يكون مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا هوى، وإني وإياه كما قيل:
غموض الحق حين تذب عنه
يقلل ناصر الخصم المحق
تضل عن الدقيق فهوم قوم
فتقضي للمجل على المدق
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن الأدلة في حكم الأضحية وفضائلها والأحاديث في وصول العمل المهدى إلى الأموات والقول في مشروعية الأضحية عن الأموات إنها أدلة واضحة على مشروعية الأضحية عن الميت كالحي وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، على عكس ما رآه وفهمه، وأما ما أتى به من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين في الموضوع، فهو عمل خاطئ، لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره، لهذا رأيت من المتعين التنبيه على ذلك بصورة مختصرة لوضوح أدلة هذه المسألة وصراحتها وبالله التوفيق.. إلخ.

فالجواب: أن فضيلة الشيخ لما نشر هذا الإعلان لإعلام الخاص والعام، ووعد بأنه سيورد من الأدلة الواضحة التي يثبت بها مشروعية الأضحية عن الميت كالحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، أنه لما أصدر هذا البيان أصغينا له الآذان، وأفرغنا له الأذهان، ننتظر ماذا يورده من الدليل والبرهان، فنتبعه على الرغم منا والإذعان، لأن واجب المسلم قبول الحق والانقياد له، لكنه وللأسف لم يأت بدليل واحد من الكتاب ولا من السنة ولا من قول أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من قول أحد من فقهاء الحنابلة المتقدمين، وإنما رمى بهذه الكلمة ثم انسحب عنها وبعد عن معناها، كما قيل: يداك أوكتا وفوك نفخ، وهذا دأبه في نقده، يرمي بمثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بمعيار الصحة والإنصاف، ثم يركب لتحقيقها التعاسيف في الصدور والورود ويستدل لها بما يعد بعيدًا عن المقصود، أشبه ديدن الحائر المبهوت، يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.

وأما قوله: بأنني حاولت رد كلام علماء المسلمين في الموضوع.

فالجواب: إن هذه شكاة قد ذهب عنا عارها، فالاحتجاج بمخالفة عمل الناس هي دعوى داحضة وحجة غير ناهضة، لأن عمل الناس للشيء لا يدل على صحته في الشرع، كما أن عدم علمهم بالشيء لا يدل على بطلانه في الشرع وكل شيء مرهون بدليله، لأن العبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أئمة المذاهب الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة مشهورة لدى أهل العلم والمعرفة، ولا يعد انفراده بها شذوذًا، ومثله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إمام الدعوة، فقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية وخالف الأئمة الأربعة، في بطلان الوقف على الذريّة وسماه: الوقف الجنف، ووقف الجور، واستدل على بطلانه بقوله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»[57]، وهذا يدخل في عموم الوصية للوارث، لأن فيه حجرًا لفرائض الله، إذ هو بمثابة الملك المختص، فهذا ملخص قوله، قد خالف به سائر العلماء قبله ولن يقدح في إمامته مخالفته لهم، ونحن نرى أنه أسعد بالصواب منهم لدخول هذا الوقف في عموم الوصية للوارث، ولأن الوقف بهذه الصفة يعتبر جرثومة خصام وتقاطع أرحام، ويحدث الإحن والشحناء بين الإخوان، فمن أحب أن يخلف لعياله مشكلة يتقاطعون عليها الأرحام، ويستمر بينهم فيها النزاع والخصام، فليخلف لهم وقفًا عليهم، ونهاية الأمر أنه يتغلب عليه أقواهم وأجلدهم ويطرد الباقين.

قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن ما أفتى به المذكور خطأ من وجوه عديدة، أحدها: أن الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، وعن أنس، أن النبي ﷺ ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر. متفق عليه. وعن ابن عمر قال: كان النبي ﷺ ينحر بالمصلى رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَأَظْلافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ يَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا أَنْفُسًا» رواه الترمذي وابن ماجه. «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»» رواه أحمد وابن ماجه، ثم قال: واختلف العلماء في حكم الأضحية، فقال بعضهم: إنها واجبة على الموسر. وبه قال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية، وقال به بعض المالكية واستدلوا على ذلك بالآية السابقة، وبما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»، وقال بعض العلماء: إنها مستحبة غير واجبة، وبه قال الجمهور. قال: ومن أقوى ما يحتج به لعدم الوجوب ما ورد من أنه ﷺ ضحى عنه وعن أمته في أحاديث صحيحة وحسنة، فأسقط بذلك الوجوب، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على فضل الأضحية، وأنها قربة إلى الله من أعظم القرب في ذلك اليوم، وصرح ابن القيم بتأكيد سنيتها، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، لأنه ﷺ وخلفاءه واظبوا عليها وعدلوا عن الصدقة بثمنها، وهم لا يواظبون إلا على الأفضل، وعن ابن عمر، قال: أقام النبي بالمدينة عشر سنين يضحي، وعن ابن عمر أنه سأله رجل عن الأضحية: أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله والمسلمون، فأعادها عليه، قال: أتعقل، ضحى رسول الله والمسلمون.. إلخ، انتهى كلامه.

فالجواب: إن هذه الآية التي استدل بها والأحاديث التي أسندها وأقوال العلماء التي سردها كلها خارجة عن موضوع البحث ومثار النزاع، فقد وعد في مقدمة رده أنه سيورد الأدلة التي تثبت مشروعية الأضحية عن الميت، وكون ذبحها عنه أفضل من الصدقة بثمنها، فأورد الآية والأحاديث التي أريد بها أضحية الحي، إذ هي الأضحية المشهورة المشروعة بنص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، ولو تفكر في الآية وما تقتضيه من الدلالة لعرف أنها حجة عليه لا له، فإن الله يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2] فوردت الآية مورد الخصوص ومعناها العموم، لكون الرسول هو المبلغ عن الله وحيه يأمر الله عباده بأن يصلوا صلاة العيد لربهم ثم ينحروا أضاحيهم لربهم بعد فراغهم من صلاتهم، فالمخاطبون بالأمر بالصلاة هم المخاطبون بنحر الأضحية ولا علاقة للآية بذكر الأموات البتة، ويدل له ما روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ»، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: إن عندي عناقًا جذعة فقال: «اذْبَحْهَا وَلا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»»، فدل الحديث على نحو ما دلت عليه الآية، من تنظيم ذبح الأضحية، وأن كل أضحية تذبح على خلاف ما سنه رسول الله، فإنها شاة لحم قدمها لأهله، وليست من الأضحية في شيء، وإنما سن رسول الله الأضحية في حق الحي شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وإظهارًا لشرفه وتعظيمه على سائر الأعياد، ومثله استدلاله بما رواه الأمام أحمد أن النبي ﷺ خطب يوم العيد فقال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»، حيث حث الموسرين على الأضحية، إذ هي أفضل في حقهم من الصدقة وأفضل ما ينفقه الإنسان في يوم العيد، فقال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» ولم يقل: من كان له سعة ولم يضح لميته فلا يقربن مصلانا، حتى يكون له فيه حجة، وقد استدل به من قال بوجوب الأضحية على الغني المقتدر.

وكذا يقال في سائر الأحاديث التي استدل بها، كحديث: «لِلْمُضَحِّي بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ» وحديث: «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ»[58]، فإن المضحي والمهرق للدم هو الحي الذي عمل عمله في شراء الأضحية، ثم التقرب إلى الله بذبحها في يوم العيد قائلاً: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ [الأنعام: 162-163]، حتى إن جهلة العوام متى سمعوا من لسان الخطيب أو الواعظ مثل هذه الأحاديث التي ترغب في الأضحية نشطوا إلى شرائها حرصًا على حصول الأجر المترتب عليها، ومن المعلوم عدم المناسبة بين هذه الأحاديث التي استدل بها وبين ما يريد أن يستدل له مما يقوي به حجته على القول بمشروعية الأضحية عن الميت، وأنها أفضل من الصدقة بثمنها حسبما وعد به في نقده، ولا يخفى عدم المناسبة على مثله، لكن يترجح عندي أنه يتكلم بدون تفكير، أو أنه لمّا أعوزته الحيلة عن وجود دليل صريح ينهض لصحة ما يدعي به لجأ إلى الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث التي هي بعيدة عن المعنى المقصود كياسة منه لقصد الترويج بها على العوام وعلى ضعفة الأفهام، ليوهم الناس أنني أنكر مشروعية الأضحية الثابتة بالكتاب والسنة، حتى يقيم نفسه مقام الغيور المكافح والمنتصر الفاتح على حد ما قيل: إن لم تغلب فاخلب. وإلا فإننا ذكرنا في الرسالة في فضل الأضحية والترغيب فيها أكثر مما ذكر، وكل عالم أو كاتب فاهم متى قابل بين مقدمته في رده وبين مواضع استشهاداته، عرف بطريق البديهة بأنه قد أغرق في النزاع وبَعُد عن مثار البحث، ولو كان عن جهل لعذرناه، ولكنه عن علم فعذلناه، وقد اقتضت حكمة الله، بأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس فيه شانَه الله، وكيف لا يستحيي الناس ولهم عقول وعيون وآذان، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

ثم إن بعض الفقهاء يتكلفون صرف الأحاديث إلى غير المعنى المراد منها، ليطبقوها على قواعد مذهبهم ويحاولوا الانتصار بها على خصمهم، فيجعلوا النصوص تابعة لأقوال علمائهم، والحق أن أقوال العلماء هي التابعة لقول الله ورسوله؛ لأن تطرق الخطأ إلى آراء العلماء يكثر بخلاف تطرّقها إلى الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة؛ ولأن الأدلة الشرعية حجة الله على عباده، بخلاف رأي العالم، فإنه يخطئ ويصيب، وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله علماء مذهبه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه وفضله. ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن ما أتى به صاحب الرسالة من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين فهو عمل خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره.. إلخ.

فالجواب: إن هذا الإنكار الصادر منه علينا هو قول غير مبرور والذي نشر لأجله هذا المنشور، كأنني أتيت ببدع من القول وزور، ومن واجب من يتصدى للرد أن يكون عالما بما يأمر به، عالمًا بتحريم ما ينهى عنه، وأن يكون لديه مؤهلات علمية واستعدادات في التبحر في البحوث الفقهية من كل ما يصيب به الهدف ويؤهله للوصول إلى الغاية بدون تعسف في التأويل ولا بُعد عن سواء السبيل.

من ذلك الإنكار الصادر من فضيلة الشيخ علينا في القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت، ونحن على ثقة من اليقين بصحة ما قلنا، وأن الأضحية إنما شرعت في حق الحي لا الميت، فذكر في إنكاره أننا أتينا بهذا القول من قبل أنفسنا، وأننا نحاول به رد كلام علماء المسلمين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن هؤلاء المنكرين لهذا القول قد قصروا علومهم وأفهامهم على التفقه في قواعد مذهبهم، ولم يتوسعوا عنه إلى النظر في غيره من كتب الخلاف والمذاهب، فصاروا يستغربون كل قول يخالف رأيهم ومذهبهم، كأنهم يرون أن العلم الصحيح هو فيما حفظوه من مختصر المقنع أو الإقناع أو المنتهى وغيرها من كتب المذهب، فمثلهم كمثل من يخط شبه حلقة الخمس ثم يضع إصبعه وسطه ويقول: العلم ههنا، وما خرج عنه فجهل. ومن طبيعة الإنسان أنه إذا جهل شيئًا أسرع بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، والحق لا ينحصر في مذهب الحنابلة فقط، ولو كان كذلك لحكمنا ببطلان ما سواه من المذاهب، فلو أن هؤلاء توسعوا قليلاً إلى النظر في شتى البحوث الفقهية وكتب الخلاف وكتب أئمة المذاهب لازدادوا علمًا إلى علمهم ولعرفوا حينئذ أنهم قد حفظوا شيئًا من العلم وضاعت عنهم أشياء، وبذلك يتسع صدر أحدهم لما سيعرض عليه من المسائل الخلافية التي لم تكن معروفة في مذهبه، وإن كانت مشهورة في مذهب غيره، ويعرف القول الراجح بالدليل فيها، لأنه كلما اتسعت معارف الشخص وعلومه اتسع رحبه لما يعرض له وظهر له من العلم ما لم يكن يحتسبه، وما أحسن ما قال الإمام الشافعي في هذا المعنى:
كلما أدبني الدهـ
ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي
من ذلك القول الذي نحن بصدده وهي الأضحية عن الميت، حيث قلنا: إنه لم يثبت بطريق صحيح ولا صريح ما يدل على مشروعيته، فإن هذا القول لم يخرج منّا ابتداعًا ولا ابتداءً، بدون سبق عمل من العلماء بموجبه حتى نتهم بالشذوذ به، فقد بيّنت في الرسالة بأن القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت هو المشهور من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف، كما ذكرت ذلك موضحًا في الرسالة معزوًّا إلى أصحاب المذاهب المذكورة وإلى كتبهم، كما ذكرها أصحابهم في كتبهم والقول إذا اشتهر ولم ينكر فهو المذهب، وهذه المذاهب الثلاثة ينتحل العمل بها مئات الألوف من علماء المسلمين ما بين فقهاء ومحدثين ومفسرين من لدن القرن الثاني الذي فيه الأئمة إلى زماننا هذا، كلهم يرون في مذاهبهم عدم مشروعية الأضحية عن الميت، فالقول بذلك يعد من الأمر المشهور عند علماء الأئمة الثلاثة، وإن كان القول به مهجورًا عند المتأخرين من فقهاء الحنابلة، فمن أجل الجهل به ظن الشيخ عبد العزيز، بأني أتيت بما يخالف علماء المسلمين كما تراه مصرحًا به من قوله لا يثنيه عنه وجل ولا يلويه خجل.

كما أنني ذكرت في الرسالة بأنه لم يثبت عن الإمام أحمد القول بمشروعية الأضحية عن الميت، وكذلك سائر فقهاء الحنابلة المتقدمين من لدن القرن الثاني الذي فيـه أئمة المذهب إلى القرن الثامن، فلا تذكر في شيء من كتبهم لا في الضحايا ولا الوصايا ولا الأوقاف، كما أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه فعلها، أو أوصى بها، أو وقف وقفًا عليها، وكما أنها لا توجد حتى الآن في البلدان التي خرج العلماء منها، مثل: الشام ومصر والعراق وفارس واليمن فلا تذكر في تبرعاتهم ولا وصاياهم ولا أوقافهم، باعتراف علمائهم، أفيكون جميع هؤلاء العلماء، بإضافة الصحابة إليهم على خطأ، وأن صاحب الإقناع و المنتهى ومن أخذ بقولهما هم المصيبون؟! وكيف تُجعل شرعية وهي لم تثبت من قول الرسول ولا فعله ولا إقراره، ولم يفعلها أحد من الصحابة؟! فعدم العمل بها يعد من الإجماع السابق زمن الصحابة والتابعين، واستصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع حجة.

وقد كنت أحسب لهذا الاستغراب الحساب فعملت من الدلائل القطعية والبراهين الجلية من كل ما يؤذن بصحته وصراحته ولم ألقه ساذجًا خاليًا من دليل الحكم وعلته ولا حيلة لي في إفهام من لا يريد أن يفهم، ويُعذر من فعلها أو أوصى بها أو وقف وقفًا عليها من مشايخ الدعوة وغيرهم، بأنهم لمّا سمعوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في قوله: إنه يضحى للميت كما يحج عنه ويتصدق عنه، وكذا القول المنسوب عنه، من أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وتأكد ذلك في نفوسهم بقول صاحب المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. فلما سمعوا بهذه الأقوال ظنوا أنها من أفضل الأعمال، وبنوا على ظنهم جواز التبرر بها والوصية بها والوقف على الأضحية، كما قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهو من مشايخ الدعوة قال: إن الفقهاء لما سمعوا حديث علي أن النبي أوصاه أن يضحي عنه ظنوه صحيحًا، وبنوا على ظنهم بجواز الوقف على الأضحية، والوصية بها، قال: والتضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه وبعض الفقهاء لمّا سمعه أخذ بظاهره وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها. فالعاملون بها هم مجتهدون مأجورون، ولو تبين لهم الحق على خلاف ما فعلوا لأخذوا به وآثروه على قول كل أحد، وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ذكر فيها فنونًا من الأعذار عن عدم عمل بعض الأئمة ببعض السنن الصحيحة، وعن مخالفتهم لبعض السنن الصحيحة، وقال: إن الأمر المجزوم به في حقهم هو عدم تعمدهم لمخالفة السنة الصحيحة قطعًا ويعذرون بكون هذه السنة الصحيحة لم تبلغ أحدهم أو أنها بلغته بطريق لا يثبت عنده لضعف سنده، أو أن هذه السنة كانت عنده ثم نسيها، أو أنه ظن عدم شمولها للمعنى المراد، أو أنها بلغته عن طريق ضعيف لطعن المحققين في رواة سنده، وظنه صحيحًا، وعمل بموجبه إلى غير ذلك من الأعذار المقتضية لرفع الملام عن العلماء الأعلام، ولأجله تنوعت المذاهب في مسائل الفروع واتفقوا جميعًا على أن من استبانت له سنة رسول الله، لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.
تَخالف الناس فيما قد رأوا ورووا
وكلهم يدعون الفوز بالظفر
فخذ بقول يكون النص ينصـره
إما عن الله أو عن سيد البشـر
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

الوجه الثاني: إن الأضحية عن الميت كالصدقة عنه وكالحج، وهذا جائز شرعًا. وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة يصله ثوابها كسائر القرب؟ وأي فرق بين وصول ثواب الصدقة والحج وبين وصول ثواب الأضحية؟ وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية، واقتضت وصول بقية الأعمال؟، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟! إلا أن يقول قائل: إن الأضحية ليست بقربة. وما أظن أحدًا يتجرأ على ذلك، لأنها مكابرة.

فالجواب أن نقول: إن الشارع الحكيم ورسول رب العالمين هو الذي فرّق، بين الصدقة والأضحية، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والدين ما شرعه الله في كتابه وعن لسان نبيه، وقد أمر النبي ﷺ الأولاد بأن يتصدقوا عن آبائهم الميتين، وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم، ولم يأمر أحدًا بأن يضحي عن والديه الميتين، ونحن متبعون لا مشرعون، لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، ولهذا قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. والأضحية عن الميت بانفراده لم يفعلها رسول الله ﷺ ولم يفعلها أحد من أصحابه، بخلاف الصدقة فقد ثبتت.

أمر النبي ﷺ الأولاد أن يتصدقوا عن آبائهم وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم وقضاء ونذر، وأن يصلوا أقارب آبائهم وأصدقائهم، وكما أمر عمر، بأن يتصدق بوقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أفضل ما يفعله الحي لميته، وكلها أصول تؤيد قول من قال: إن الأضحية عن الميت غير مشروعة؛ لأن عدم نص النبي عليها وعدم فعل الصحابة لها، لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم، يدل على عدم ثبات مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة أو أنه يصل إلى ميتهم نفعها لكانوا أحق بالسبق إليها، فعدم فعلهم لها يعد من الإجماع السابق واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة، لأنها من التعبدات التي يجب لها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة.

وبالجملة، فإن هذه النصوص وما في معناها هي أوضح من نار على علم، تلجم المخالف بلجام التقوى وتقوده إلى الإيمان بها بالعروة الوثقى. والعجب من عالم تقي تعرض عليه هذه النصوص وما في معناها ويؤمن بصحتها، ثم يقول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه بدون أن يأتي بدليل صحيح يثبت به مشروعية الأضحية عن الميت، فضلاً عن القول بتفضيلها على الصدقة، والأضحية عن الميت لم تكن معروفة عن السلف ولا يمكن نقلها عن أحد منهم، مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم إليها النبي بتصريح ولا إيماء، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة، ولو كان ثوابها يصل إليهم بعد موتهم لأرشدهم إليها.

وأما قوله: وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة. فهذا غير صحيح، فإن الأضحية إذا أطلقت لا تسمى صدقة، كما أن الصدقة لا تسمى أضحية ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه، أما رأيت العلماء من الفقهاء والمحدثين إذا ذكروا في كتبهم باب الأضحية، فإنهم لم يذكروا معها الصدقة، وإذا ذكروا باب الصدقة، فإنهم لم يذكروا معها الأضحية، وقد نص الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها في حق الحي؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها واتباعًا لطاعة الله ورسوله فيها ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، وهذه المفاضلة تقتضي المغايرة، وأن الأضحية غير الصدقة، كما أنك إذا قلت الحديث أفضل من الفقه، فإن الحديث غير الفقه، نعم إنه لو ذبح ذبيحة في عيد الأضحى أو في أيام التشريق أو في غيرها من الأيام وتصدق بها عن والديه الميتين، فإن ذلك جائز ومشروع، لاعتبار أنها صدقة وليست بأضحية، أشبه ما لو اشترى لحمًا من الجزار فتصدق به عن والديه، فإن هذا مشروع، وقد أوضحنا القول بصحته في الرسالة.

ثم إن حكم الأضحية يفارق الصدقة في أمور عديدة، منها أن الأضحية لو أكلها كلها إلا قدر أوقية تصدق بها جاز وأجزأت أضحية، والصدقة هي الأوقية التي خرجت من يده إلى يد مستحقها، ومنها أن الأضحية لا يجوز ذبحها إلا في الوقت المحدد لها وهو يوم العيد وأيام التشريق، وأما الصدقة فتجوز كل وقت، ثم إن الأضحية لا يجوز فعلها إلا مع المسلم، وأما الصدقة فتجوز على الكافر، ولما تحرّج الصحابة عن الصدقة على أقاربهم من المشركين، وقالوا: لا نتصدق على من ليس من أهل ديننا، أنزل الله تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272]، فأمروا أن يتصدقوا على أقاربهم من المشركين.

ونحن بكلامنا هذا نريد التفريق بين المشروع وغير المشروع، إذ كل مشروع ملتحق بالعبادات وما ليس بمشروع فإنه ملتحق بالمبتدعات أو العادات، وهذه صدقة الفطر، تجب على كل فرد من الأحياء إذا كان عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته ولا تفعل عن الأموات لعدم ما يدل على مشروعيتها وهي صدقة من الصدقات، فلو ادعى أحد مشروعيتها عن الأموات بحجة أنها صدقة من الصدقات لحكمنا ببطلان قوله، والنبي ﷺ قال: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِىَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِىَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ»[59]، أي وليست من الفطرة في شيء لخروجها عن حدود الشرع في الوقت، ومثله قول النبي ﷺ فيما رواه البخاري عن البراء، أن النبي قال يوم العيد: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ»، ففرّق رسول الله بين الأضحية الشرعية التي ذبحها صاحبها على وفق ما سنه رسول الله، فوقعت موقعها في الصحة والإجزاء، وبين الذبيحة التي ذبحها صاحبها قبل الصلاة، لكونها وقعت على خلاف ما سنه رسول الله في الأضحية.

وهذا ينطبق على الأضحية عن الميت، فإنها ليست من سنته ولا فعل خلفائه وأصحابه فكانت شاة لحم، وأنها شاة لحم مباحة الأكل وليست من الأضحية في شيء، سواء أكلها صاحبها أو تصدق بها، ومثله حديث: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»[60] والفرع هو أول ما تنتج الإبل مما كانوا يذبحونه، وقيل: كان الرجل إذا تمت إبله مائة نحر بكرًا وهو الفرع، والعتيرة ذبيحة يذبحونها في العشر الأول من رجب، كانوا يفعلونها في الجاهلية وفعلها المسلمون في أول الإسلام، على حساب أنها مشروعة، ثم نسخ ذلك بقوله: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»، فنفى التقرّب بهما على سبيل التبرر.

وأما قوله بقياس الأضحية عن الميت على الحج عنه، فإنه قياس مع الفارق، فإن الحج الذي أفتى النبي بقضائه عن الميت هو الحج الواجب بالشرع أو النذر المشبه بالدين اللازم، قال: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» والأمر به وقع مع خاصة الأولاد، وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه حالة غيرهم، إذ الولد كسب لأبيه؛ لأنه السبب في إيجاده فلحقته حسناته، فلا يقاس الحج الواجب بالشرع أو بالنذر على الأضحية التي ليست بواجبة على الأحياء ولا مشروعة في حق الأموات، فليست مماثلة للحج في كل الحالات حتى يقال بمنع التفريق بينهما.

وأما قوله: وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية واقتضت وصول بقية الأعمال، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟! إلخ.

فالجواب: أننا متبعون لا مشرعون، وللأضحية حكم غير حكم الصلاة والصيام والحج؛ لأنها إتلاف حيوان محترم، فإن أتلف بحق فسبيل من هلك ومن قتل في حق، فالحق قتله، ولسنا ممن يجازف بالقول في جواز إهداء سائر الأعمال إلى الموتى من كل عامل حتى يحتج علينا بموجبه، إلا فيما خصه الدليل من قضاء الولد لواجبات أبيه من حج وصوم ونفل وصدقة وما عدا ذلك، فإنه لا يقدس الإنسان سوى عمله، ومن بطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، ﴿يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الأنفطار: 19]، وقد قلنا في الرسالة: إن قضاء الحج الواجب يجوز فعله من الأجنبي في ظاهر مذهب الإمام أحمد والشافعي؛ لأنه مشبه بدين الآدمي، فهو من باب الإبراء عن الحق الواجب وليست كذلك التضحية.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إني لا أظن أن أحدًا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى وهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع، قال: ذكر معناه ابن القيم ولم يقل بهذا إلا أهل البدع، ولهذا ذُكِرت هذه المسألة في كتب العقائد، لبيان الاعتقاد الصحيح والتنفير مما عليه أهل البدع.

فالجواب: إن أفضل الكلام ما جلى الحقائق وهدى لأقوم الطرائق، وفضيلة الشيخ قد اعتاد إلقاء مثل هذه الجملة على سبيل الخرص والجزاف، غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف، لأنه قد صرف جل عقله وعمله وفهمه على التفقه في مذهبه، ولم يتوسع عنه إلى النظر في غيره، فظن أن إهداء الأعمال إلى الموتى من الأضحية وغيرها أنه من الأمر المجمع عليه عند علماء الإسلام. وأن من قال بخلاف ذلك، فإنه مبتدع، كما تراه مصرّحًا به في قوله، ولو حقق فيما قال النظر بإمعان وتفكر، لعلم أنها مسألة خلافية ليست إجماعية، وحتى فقهاء الحنابلة في كتبهم المشهورة يذكرون خلاف العلماء فيها، قال في المغني: إن الظاهر من مذهب الشافعية، أن ما عدا الدعاء والاستغفار والصدقة والحج الواجب، لا يصل إلى الميت ثوابه لعدم ما يدل على مشروعيته، وحكاه ابن كثير في التفسير مؤيدًا له، أفيرى فضيلة الشيخ أن الشافعي ومن اتبعه في قولهم بهذا يعدون مبتدعة، وحتى شارح الإقناع حكى عن الأكثرين بأنه لا يصل إلى الميت ثواب القراءة، وأن ذلك لفاعله لقول الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286].

ومثله يقال في الأضحية عن الميت، فإن الظاهر من مذهب الشافعية والمالكية والحنفية، أنه لا أضحية عن الميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد لورود النهي عن ذلك، وأن من مات وعليه صلوات، فإنها تسقط بموته، ولم يقولوا بوجوب قضاء الصلاة عنه، وكذلك الصيام، إذا توفي وعليه شيء من رمضان أطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة، وحمل الإمام أحمد حديث عائشة: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[61]، أن هذا محمول على صوم النذر، فهو الذي يقضى عن الميت دون صوم الفرض، ورجح ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله- في الإعلام وفي تهذيب السنن.

وأما نسبة القول بهذا إلى العلامة ابن القيم، حيث قال: إن من ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى، فإنـه محجوج بالكتاب والسنـة والإجماع وقـواعد الشرع. فإن العلامة ابن القيم - رحمه الله- قد ذكر في كتاب الروح الخلاف الواسع في هذه المسألة، فأسهب فيها وأطنب وعلا وصوب، فذكر أقوال من أجاز ذلك مطلقًا، وأقوال من قيده بما تسبب إليه الميت في حياته، وأقوال من فرّق بين العبادات التي تدخلها النيابة، كالصدقة والحج، وبين ما لا تدخله النيابة، كإهداء ثواب القراءة والصلاة، وذكر حجج كل فريق، وكان عمدة ما تكلم فيه هو إهداء ثواب القراءة، وتكلم على إهداء سائر الأعمال بالتبع، ورجح إهداء ثواب القراءة حسب رأيه.

ثم قال: هل تنتفع أرواح الأموات بشيء من سعي الأحياء أم لا؟ وذكر في الجواب، أنها تنتفع بأمرين مجمع عليهما من أهل السنة، أحدهما: ما تسبب إليه في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، قال: والصدقة والحج على نزاع. انتهى. وذكر شارح الطحاوية مثل هذا الكلام، وقد رجّحا جواز إهداء ثواب القراءة باجتهادهما، ومن المعلوم أن روايتهما مقدمة على رأيهما في ذلك، إذ الرأي يخطئ ويصيب، وقال العلامة ابن القيم أيضًا، في المجلد الثالث من الإعلام: إن للعلماء قولين في وصول ثواب القراءة إلى الميت، أحدهما: إن القراءة لا تصل إلى الميت، والثاني: إنها تصل ووصولها فرع عن وصول الثواب للقارئ، ثم ينتقل منه إلى الميت، فإذا كانت القراءة من القارئ لأجل الجعل ولم يقصد به التقرّب إلى الله لم يحصل له الثواب، فكيف ينتقل منه إلى الميت وهو فرعه، ولأن الانتفاع بسماع القرآن مشروط بالحـياة، فلما مات انقطع عمله كله. انتهى. وبه يعلم أن الاختلاف في هذه المسألة واقع مشهور، ولم تكن مما اتفق عليه الجمهور، وحسبك شهادة ابن القيم وشارح الطحاوية عن أهل السنة، من أنهم لا يرون انتفاع الأموات بشيء من عمل الأحياء، إلا ما تسبب إليه في حياته، ومنه صدقة أولاده عنه وقضاؤهم لواجباته من حجه وصيامه، لأنه السبب في إيجاد أولاده فلحقه حسناتهم، لأنهم من كسبه لحديث: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[62]، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. والدعاء والاستغفار ليس من باب إهداء ثواب الأعمال وإن أدخله بعض الفقهاء في ذلك، ولكنه من باب العبادة التي خلق الله الخلق لها وأمرهم بها، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.

والمراد بأهل السنة الذين نسب إليهم هذا الاعتقاد هم الصحابة والتابعون، وإنما سمّوا بأهل السنة لكونهم تمسكوا بسنة رسول الله وأصحابه في أقوالهم وأعمالهم واعتقادهم، وساروا على السنة وهي الطريقة العملية التي جرى عليها عمل النبي وأصحابه، وقد حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قال: إنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنه أفضل. ذكر ذلك ابن مفلح في شرح المحرر من آخر كتاب الجنائز، ونقل ابن اللحام عن شيخ الإسلام نحو هذا الكلام، فقال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوّعًا أو صاموا تطوّعًا أو حجوا تطوّعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك لموتاهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف. انتهى. فهذا هو الأمر الثابت عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- ولا يمكن أن يقول بهذا ويدعو الناس إلى العمل به، ثم يخالفهم إلى خلافه، فما نسب إليه من القول بجواز الأضحية عن الموتى وإهداء ثواب الأعمال إلى الموتى يعتبر غير صحيح والحالة هذه، أو أنه قول قاله ثم ترجح عنده خلافه.

وذكر ابن كثير في التفسير على قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 38-39]، قال: ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى؛ لأنها ليست من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليها رسول الله أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرف فيها بأنواع الأقيسة والآراء. قال: وأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، فهذه الثلاثة بالحقيقة هي من سعيه وكده، كما في الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِه».

وكل ما ذكر من المنع، من إهداء ثواب القراءة، فإنه ينطبق على المنع من إهداء ثواب الأضحية من باب الأولى، لأن ظاهر مذهب الشافعي أن ما عدا الحج الواجب والصدقة والاستغفار، فإنه لا يصل إلى الميت ثوابه، لعدم ما يدل على مشروعيته، وذكر العز بن عبد السلام في فتاويه (24/2) قال: من فعل طاعة لله ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه، إذ ليس للإنسان إلا ما سعى، فإن شرع في الطاعة ناويًا أن يقع عن الميت لم يقع عن الميت، إلا فيما استثناه الشرع، كالصدقة والصوم والحج.

وقال في نيل الأوطار: أما غير الولد، فإن الظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثواب ما فعله إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها، فاتفقت كلمة علماء أهل السنة وهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا ابن القيم، وشارح الطحاوية، فيما نقلوه عن أهل السنة، وكذا العلامة ابن كثير والعز بن عبد السلام والشوكاني، كلهم ذكروا أن إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى ليس من عمل أهل السنة، فليقابل العاقل بين أقوالهم وبين قول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد: إني لا أظن أحدًا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى، وأنه لا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى إلا أهل البدع. ليرى الفرق الواسع بين قوله هذا وبين أقوال علماء السنة؛ لأن من عادته إلقاء مثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بمعيار العدل والإنصاف ولا معرفة الوفاق والخلاف، وقد قيل: إن من شرط صحة الدعوى كونها تنفك عما يكذبها. وقد قام الدليل والبرهان على خلاف ما يدعيه من الإجماع.

غير أن بعض علماء السنة لما سمعوا بالأحاديث الواردة في الدعاء للموتى، وكذلك الأحاديث الواردة في الإذن للأولاد بأن يقضوا واجبات آبائهم من الحج الواجب بالشرع أو النذر وكذا الصوم الواجب بالنذر كحديث المرأة التي قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»»[63]، وكذا المرأة التي قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْ أمك، قالت: وإنها نذرت صوم شهر فماتت أفأصوم عنها؟ قال: «نعم صومي عنها»[64]، وسألته امرأة فقالت: «يا رسول الله، أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ. حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَا»[65]. وحديث سعد بن عبادة، حيث قال له: «تصدق عن أمك»[66]، وكذا حديث عمرو بن العاص، حين سأل عن نذر كان على أبيه؟ قال: «إنه لَوْ كَانَ أَبُوكَ مسلمًا فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ»[67]، وحديث عائشة: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[68]، وكلها أحاديث صحيحة.

وهي حجة من استدل بها على إهداء ثواب الأعمال إلى الأموات، وخفي عليهم أن هذه الأحاديث وردت في أعمال خاصة ورخص للأولاد، أفتاهم النبي فيها بأن يقوموا بها عن والديهم؛ لأن هذا مما ينتفع به المرء من عمل غيره، بحيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان سببًا في إيجاد ولده فلحقته حسناته من دعاء ولده وقضائهم لواجب حجه وصومه وتصدقهم عنه. وهذا معنى ما نقله ابن القيم - رحمه الله- عن أهل السنة، أنهم قالوا: إن أرواح الأموات لا تنتفع بشيء من سعي الأحياء إلا في أمرين مجمع عليهما، أحدهما: ما تسبب إليه في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. وهذا كله داخل في عموم قوله: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»، رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم في نص القرآن في قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ [الطور: 21] وفي الحديث الصحيح: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[69] لكن مدار الجزاء بالثواب والعقاب وبالجنة والنار على عمل الإنسان بنفسه لنفسه جمعًا بين الأخبار، كقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ [غافر: 17].

فمن قال بانتفاع الميت بكل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح، ولا القياس الصحيح، ويعذر من قال بذلك، بأنهم لما سمعوا بهذه الأحاديث، ظنوا أن الأمر شامل لجواز إهداء ثواب سائر الأعمال إلى الموتى من كل عامل، وبناء على هذا الفهم توسعوا في القول في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى حتى قالوا بجواز إهداء الصلوات المفروضة، كصلاة الظهر والعصر، كما ذكره صاحب الإقناع وغيره، قال القاضي: إذا صلى فرضًا وأهدى ثوابه صحت الهدية في ظاهر المذهب. قال في المبدع: وفيه بُعد. أفترى أن نقبل هذا القول فنهدي فرائض صلاتنا لموتانا؟! كلا والله، بل نحتسبها لنا عند ربنا، والقائلون بذلك هم مجتهدون مأجورون، ولا يكون المنتصر لمقالتهم بمنزلتهم في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر والبحث عن الدليل ليأخذ به ويدعو إلى العمل بموجبه، والأصل في قواعد الشريعة أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، كما هو الظاهر من مذهب الأئمة الأربعة، وأن من مات وعليه فرائض صلوات عجز عن فعلها في حياته أو تعمد تركها في صحته فإنها لا تقضى عنه، ومن مات وعليه صوم أطعم وليّه عن كل يوم مسكينًا في ظاهر مذاهب الأئمة الأربعة ولم يقولوا بقضاء صومه ما عدا الإمام أحمد، فإنه خص جواز قضاء الولي لصوم النذر فقط، وقد قلنا في الرسالة (ص105): إنه يجوز للأولاد قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصوم وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو النذر، لورود الأخبار الصحيحة بجواز ذلك وهو اختيار ابن حزم وخلاف ما عليه الأئمة الأربعة.

وأما قوله: إنه لم يقل بإنكار وصول ثواب الأعمال إلى الموتى إلا بعض أهل البدع، ولهذا ذُكرت هذه المسألة في كتب العقائد لبيان الاعتقاد الصحيح وتنفير ما عليه أهل البدع.

فالجواب أن نقول: مهلا يا أنجشة لا تكسر القوارير وانظر فيما تقول فإن فيه الخلاف الكثير، ونحن لم نجد هذه المسألة بهذه الصفة في شيء من كتب عقائد أهل السنة لا في الواسطية ولا الطحاوية، ولا عقيدة ابن قدامة ولا في غيرها، ونحن نطلب من فضيلة الشيخ، بأن يحيلنا على العقيدة التي ذكرت فيها هذه الجملة، أي: وأن إهداء ثواب سائر الأعمال إلى الموتى حق، أو أن من أنكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى فإنه مبتدع، ليتضح بذلك صحة ما يدعيه، ويحيل عهدته على قائليه، كما قيل:
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف أهل السنة في هذه المسألة، فقال: اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين؛ أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع، قال: واختلف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها والمشهور من مذهب الشافعي ومالك، عدم وصولها.

وحكي في شرح الإقناع عن الأكثرين، أنهم قالوا: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة، وأن ذلك لفاعله، لقول الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، فالخلاف بين علماء السنة في هذه المسألة واضح مشهور، ولم تكن مما اتفق عليه الجمهور، وعدم علم الشيخ به لا ينفي وقوعه؛ لأن عدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه، لكن يترجح أن فضيلة الشيخ قد غلط في فهم حقيقة ما قاله العلماء في هذا الابتداع وأسبابه، فأتى إلى البحث من الخلف ولم يدخل إليه من بابه، وذلك أن أناسًا من المتفلسفة والصوفية والمبتدعة تكلموا في الدعاء وقالوا: إنه لا ينتفع به الميت ولا يجدي شيئًا على الحي، فلا ينتفع به الداعي ولا المدعو له، لأن الذي تدعو به إن كان قد قدر بطريق المشيئة الإلهية، فإنه سيحصل وإن لم تدع، وإن لم يقدر فإنه لن يحصل دعوت أو لم تدع. وبثوا من هذه الفكرة ما يقتضي صرف الناس عن هذه العبادة، فإن الدعاء عبادة من العبادات التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بها، كما روى النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وله من حديث أنس أن «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وله من حديث أبي هريرة «لَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الدُّعَاءِ ومن لم يسأل الله يغضب عليه».

ولم يشرع الله الدعاء ويأمر بالإكثار منه إلا لتحقق منفعته للحي والميت، وهذا القول وهذا الاعتقاد في عدم منفعة الدعاء هو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، لكونه يقتضي إبطال الأسباب التي علقها الله على الدعاء، لهذا رد عليهم علماء أهل السنة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقد قال: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع بدعاء غيره فقد خرق الإجماع وكذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، والقائلون بهذا هم من جنس القائلين: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل. فأجابهم النبي ﷺ بقوله: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[70]، والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان هذا قد قدر لي بمشيئة الله، فإنه سيحصل بدون دعاء، وإن لم يقدر لي لم يحصل بالدعاء، فجوابه أن يقال: إنه مقدر بالسبب، أي الدعاء وليس مقدرًا بدون السبب، كما أن الله سبحانه قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال، وقدر حصول الولد بالوطء والزرع بالسقي إلى غير ذلك من الأسباب.

وكذا العلامة ابن القيم - رحمه الله- فقد عقد فصلاً لهذه المسألة في كتابه الجواب الكافي قال: ليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أكرم على الله منه ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، ولمّا كان الصحابة أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وكان عمر يقول: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكني أحمل همّ الدعاء، فإنني إذا أعطيت الدعاء وفقت للإجابة. اهـ. أضف إلى ذلك أن الدعاء من القدر والقدر يرد القدر، فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل، كما روي عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِى الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، فالأنبياء وخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، ويفرون من القدر إلى القدر، مع قوة توكلهم على ربهم وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أجل رواج هذه الفكرة صار بعض أهل السنة يذكرون انتفاع الأموات بدعاء الأحياء في عقائدهم؛ لأن من لم يعتقد ذلك فأقل ما يقال إنه مبتدع، إن لم يكن كافرًا، قال الطحاوي: وفي دعاء الأحياء منفعة للأموات والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات. اهـ.

لكن ينبغي أن نعلم بأن انتفاع الأموات بدعاء الأحياء شيء وإهداء ثواب الأعمال إلى الموتى شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فإن الداعي إنما يدعو ربه ولم يهد ثواب دعائه لأحد، والدعاء عبادة مستقلة بين العبد وربه، لا ينتقل ثوابها من الداعي إلى المدعو له، سواء استجيب له أو لم يستجب له، وإذا استجيب له لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجر دعائه بكماله ومثله الصلاة على الجنازة، بما فيها من الدعاء للميت، فقد ورد في الصحيح: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»[71]، فالمصلي عليها يحتسب ثواب صلاته ودعاءه لنفسه ويدعو لميته ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين بالمغفرة والرحمة، فليس الدعاء من باب إهداء ثواب الأعمال وإن أدخله بعض الفقهاء فيه توسعًا؛ لأن إهداء ثواب الأعمال هو أن يعمل الإنسان عملاً من صلاة وصيام وحج وصدقة وتلاوة قرآن وذكر، ثم يهدي ثواب ما عمله أو نصفه أو ثلثه لميته، فيقول: اللهم اجعل ثواب ما عملت لفلان ابن فلان، أو يقول: اللهم إن كنت أثبتني على هذا العمل فاجعله لفلان ابن فلان، فيخرج العامل من ثواب عمله المهدى، كأنه لم يعمله ويحصل الأجر والثواب لمن لم يعمل وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُ ٨ [الزلزلة: 7-8]، ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا [آل‌عمران: 30]، ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَ [غافر: 17]، ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 70]، ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٥ [آل‌عمران: 25]، ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]، ﴿يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١١١ [النحل: 111] ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدۡعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٨ هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٩ [الجاثية: 28-29] ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا [الكهف: 49] ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17] وقال: ﴿ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ [النمل: 90]، وفي الآية الأخرى: ﴿هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ [يونس: 52]، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286]، ﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 38-41]، إلى غير ذلك من الآيات المحكمـات الدالة على أن كل إنسان سيجزى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر: ﴿يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الأنفطار: 19]، وفي الصحيح: «تُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا»[72]. «يَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ»[73]، وفي الحديث الثاني: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»[74]، والله يقول عند عرض صحائف الأعمال: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[75]، فهذه الأدلة الشرعية هي حجة الله على جميع عباده، بخلاف رأي العالم، فإنه يخطئ ويصيب، ولأن تطرق الخطأ إلى بعض آراء العلماء يكثر، بخلاف تطرقها إلى مثل هذه الأدلة الشرعية.
وإذا البينات لم تغن شيئًا
فالتماس الهدى بهن عناء
ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن أصحابنا - رحمهم الله- قالوا في كتبهم المختصرة والمطوّلة: وأي قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، ومثلوا بالصلاة والصيام والصدقة والحج والأضحية.

فالجواب: إننا بسطنا القول في الرسالة عن هذه القاعدة وبيّنا بأنها من كلام بعض الأصحاب وليست من نصوص السنة والكتاب، فهي قاعدة وضعية اصطلاحية وليست شرعية، ومن المعلوم أن أقاويل الرجال يستدل لها ولا يستدل بها، وأول من نسب إليه هذه القاعدة هو الموفق بن قدامة - رحمه الله- ذكرها في كتاب المغني، بناء على توجيه القول منه بجواز إهداء ثواب القراءة إلى الميت، فأخذها الأصحاب عنه فاشتهرت من بينهم وانتشرت في كتبهم، وتوسعوا فيها حتى قالوا بجواز إهداء صلاة الفرض، كما ذكره صاحب الإقناع، وكذا قوله بجواز الأضحية عن الميت الذي هو موضع النزاع، وقد قلنا في الرسالة بأنه ليس كل ما يكتبه العالم يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، وهذه المسألة تعبدية يجب لها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة، والأضحية عن الميت ليس فيها نص ثابت عن رسول الله، لا من فعله ولا من قوله ولا إقراره، ولم يكن معروفًا عن الصحابة ولا السلف ولا يمكن نقله عن أحد منهم مع شدة حرصهم على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار وأرشد الأولاد إلى الصدقة والحج والصيام، ولو كان ثواب الأضحية يصل إلى موتاهم لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه؛ لأنهم أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه كما قاله ابن مسعود في وصفهم.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن النصوص تتظاهر على وصول ثواب الأعمال إلى الميت، إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبته ماله في حياته، وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول الحج المركب بين المالية والبدنية.

فالجواب: أما قوله بقياس العبادات التي هي من عند الله وأمرها إلى الله، على هبة المال الذي يملكه صاحبه في الدنيا ويتصرّف فيه كيف يشاء، من بيع وعطاء، فإنه قياس مع الفارق حتى ولو قال به من قال؛ فإن الآيات المثبتة للجزاء على الحسنات والسيئات تبطل دعوى ملكية الإنسان لثواب عباداته؛ لأنه عبد لله وأعماله مملوكة لله، وليس من شأنه أن يتصرف في أعماله بهبتها لمن لا يعملها، لكون الجزاء على الأعمال ليس مملوكا للعامل، وإنما هو فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده والناس منهم المقبول عمله ومنهم المردود، ومن نوقش الحساب يهلك؛ لأن الله سبحانه إذا بسط عدله على عبده وحاسبه على حسناته وسيئاته، لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبده، لم يبق له سيئة، والنبي ﷺ قال: «ما منكم أحد يدخل الجنة بِعَمَلِهِ»،قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِىَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَته»[76]، ولو جاز هبة الأعمال قياسًا على هبة المال لجاز بيعها، إذ الهبة نوع من البيع، فالفرق بين هبة المال وبين هبة الأعمال كالفرق بين الدنيا والآخرة وكالفرق بين العبادات والعادات، وبهذا يتبين بطلان قوله: إن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لم يمنع منه. لأنه ليس للعامل حق ثابت على الله، كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب
كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
وأما قوله: إنه نبّه بوصول الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، فهذا كله بناء منه على ما وهى أصله ولم يصح سنده؛ فإن الأمر بالصدقة وبالصوم وبالحج وقع من النبي ﷺ بسؤال من الأولاد عن واجبات آبائهم، فأذن لهم بأن يقضوا دين الله عنهم، كما يقضون ديون الناس، وأن يتصدقوا عنهم، فهي ليست كإهداء ثواب الأضحية التي ليست بمفروضة على الأحياء ولا مشروعة عن الأموات ولا دليل على وصول ثواب الصوم مطلقًا من كل من يصوم عن الميت، حتى يقاس عليه غيره، وفي كتب الفقهاء من الحنابلة المختصرة والمطوّلة أن من مات وعليه صوم، فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولم يقولوا: يصام عنه، وهذا هو الظاهر من مذاهب الأئمة الأربعة، مستدلين عليه بما روى النسائي بسند صحيح عن ابن عباس، قال: لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد، وروي هذا القول عن ابن عمر وعائشة؛ لأن هذا هو الأصل من قواعد الشريعة إلا ما استثني بالنص من صيام الأولاد أو حجهم أو صدقتهم عن والديهم، لا سيما إذا كان ذلك حقًّا ثابتًا بأصل الشرع أو بالنذر، كما كانت الحال في الوقائع التي أفتى النبي فيها أولئك الأولاد. ولا يقاس عمل غير الولد على الولد، لمخالفته النص القطعي فهو قياس مع الفارق، فمتى كان الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة يمنعون قضاء الصوم الواجب على الميت بالشرع فكيف يقال بمشروعية صوم النفل عنه، فالقائل بهذا يعد من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه، إذ لو كان الإذن بالصيام عامة لكثر عمل الصحابة به حينئذ، بحيث يروى مستفيضًا أو متواترًا عنهم، لأنه من رغائب الأعمال التي يحرص الناس على مثلها، والله أعلم. وأما الأضحية عن الميت، فإنها أبعد من هذا كله عن مقاصد الشرع في مشروعية الأضحية فإنها إنما شرعت في حق الحي إشهارًا لشرف عيد الإسلام، وشكرًا لله على بلوغه والتوسعة على الأهل فيه، ولتكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهم من القرابين، أشبه صلاة العيد، قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، فالمخاطبون بالأمر بصلاة العيد هم المخاطبون بالأمر بالأضحية والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

ثبت أن النبي ﷺ ذبح كبشًا وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ»[77]، فأهدى ثواب الكبش لنفسه وآله الحي منهم والميت.

فالجواب: إن هذا الحديث صحيح ثابت قد ورد من طرق متعددة، ورواه عدد من الصحابة، فنحن نؤمن به وندعو إلى العمل بموجبه، وقد استدل به الصحابة وكثير من العلماء على جواز اشتراك أهل البيت في ذبيحة واحدة، ولو كانوا مائة أو أكثر، وقد عمل به الصحابة، كما قال عطاء: قلت لأبي أيوب: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله؟ قال: كان الرجل منا يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويتصدقون. والمراد بأهل بيته هم الأحياء الموجودون معه والمخاطبون بقول النبي ﷺ فيما رواه مسلم عن أم سلمة، قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أو يضحى عنه، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْر فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا»، والكلام يحمل على المتبادر إلى الأذهان وإلى ما سبق إليه فهم الإنسان، فالصحابة لا يعني أحدهم بأضحية عنه وعن أهل بيته من مات له، لأن الفعل لا يمت للأموات بصلة، لا بطريق المنطوق ولا المفهوم، كما أن أحدنا إذا ضحى عن نفسه وأهله لا يعني بذلك من مات له، ثم إن إجزاء الأضحية عن كافة أهل البيت ولو كثر عددهم هي من محاسن الشريعة، فإن الله بعث نبيّه بشرع كامل وإحسان تام عام، ووصفه بأنه ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [التوبة: 128] فمن رأفته ورحمته أن شرع لأمته جواز اشتراك أهل البيت ولو كانوا مائة أو أكثر في أضحية واحدة ولم يجعلها واجبة على كل فرد كوجوب الفطرة؛ لأن هذا يقتضي التوسع في إتلاف الحيوان المحترم، ويجحف بسيد أهل البيت ومن تلزمه مؤنتهم، ولكون الحيوانات من الإبل والبقر والغنم، قد تعز وترتفع أثمانها، كما يوجد في بعض الأزمان وفي بعض البلدان، فيشق ذاك على الناس، فاقتضت الشريعة التخفيف على الناس، وذلك باكتفاء الأضحية الواحدة عن كافة أهل البيت، بخلاف الفطرة، فإنها تجب على كل فرد بعينه، ويجب على الشخص فطرة سائر من يمونهم من زوجاته وأولاده، لأنها قدر يسير، أي صاع من الطعام لا يجحف بأحد في كل زمان ومكان، وتسقط عن المعسر الذي لا يجد ما يزيد على مؤنته ومؤنة عياله يوم العيد وليلته، كما أنها لا تشرع عن الأموات، وهذا كله من محاسن الشريعة وأسرار حكمها، ثم إن هذه الأضحية وقعت بطريق الأصالة عن النبي ﷺ وإنما أشرك أهله معه في ثوابها والاشتراك في الثواب موسع فيه ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، كأن يضحي لأبيه الميت أو لابنه أو أن يوصي بأضحية تذبح له بعد موته ويوقف وقفًا في أضحية ونحو ذلك، وأنه لم يثبت من فعل النبي ولا من فعل أصحابه، ومثله الاستدلال بأضحية النبي ﷺ عن أمته، حيث استظهر منه بعض الناس جواز الأضحية عن الأموات، لكون أمته منهم الأحياء منهم والأموات، وهذا الاحتجاج يعد بعيدًا عن المعنى المراد ولا يمكن حمل اللفظ والفعل عليه إلا بتكلف صرفه عن المعنى المراد.

وقد أجمع العلماء على أن أضحيته عن أمته تشمل جميع الأحياء والأموات، ومن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وتشمل جميع المعدومين ممن سيوجد من أمته إلى يوم القيامة، وهذه الأوصاف لا تنطبق على أضحية غيره فلا يجوز لشخص أن يضحي عن إنسان حي ليس من أهل بيته بغير إذنه ولا يضحي عن الحمل في البطن ولا عن المعدوم ممن سيوجد له، كما نص على ذلك سائر الفقهاء من المذاهب الأربعة، وقد استظهر العلماء من أضحيته لأمته سقوط الوجوب عن سائر الأمة، وهذه المميزات تثبت كونها من خصائصه، كما نص على ذلك بعض أهل الحديث، ولا يقاس عليها أضحية غيره، ومن قال إنها للتشريع يلزمه أن يقول باستحباب الأضحية عن جميع أمة محمد، كما فعل رسول الله، إذ هذا أقرب للأسوة به ولم نسمع عن أحد من الصحابة أو التابعين ولا عن أحد من علماء المسلمين القول به، ومع عدمه يسقط الاستدلال بموجبه ولا يجوز لأحد أن يتكلف صرف هذا الحديث عن غير المعنى المراد منه لتستقيم بذلك حجته.

لهذا يجب على المؤمن أن يحاسب نفسه هل يرى أنه أعلم من الصحابة بمراد رسول الله من أضحيته لأمته، أو أنه أحرص على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، حيث لم يثبت عن أحد منهم أنه ضحى لميته، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، أفيقال: إنها سنة فجهلوها، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها. كل هذا من لوازم قول المحتج به، ولا يمكن نسبته إليهم، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، وهذه الأضحية قد وقعت عن الرسول بطريق الأصالة، وإنما أشرك أمته معه في ثوابها والاشتراك في الثواب موسع فيه، كما دلت النصوص على إجزاء الشاة عن الرجل وأهل بيته وخدمه، ولو كانوا مائة أو أكثر، ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، وأنه لم يثبت عن رسول الله فعله ولا عن أحد من الصحابة، وقد قلنا في الرسالة: إن الله سبحانه قد أثبت لنبيه الولاية على أمته، فقال: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ [الأحزاب: 6]، وفي الحديث: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»[78]، وهذه الولاية هي أحق وأخص من ولاية الرجل على عياله وأهل بيته، بل وعلى نفسه، فمن ولايته أضحيته لأمته لكل من شهد لله بالتوحيد وشهد لنبيه بالرسالة، كما أنه سيشفع لكل من لم يشرك بالله من أمته، فلا يقاس عليها أضحية غيره والحالة هذه، وقد عقدت فصلاً في الرسالة، تضمن أقضية رسول الله ﷺ في أفضل ما يفعله الحي لميته ولنفسه بعد موته فليراجع، فإن فيه الكفاية والمقنع، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 18/4/1391هـ.

[57] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي أمامة. [58] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [59] أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس. [60] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [61] متفق عليه من حديث عائشة. [62] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [63] متفق عليه من حديث ابن عباس. [64] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس. [65] متفق عليه من حديث ابن عباس. [66] ذكره البيهقي تعليقًا في معرفة السنن والآثار من قول الشافعي. [67] أخرجه أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [68] متفق عليه من حديث عائشة. [69] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [70] متفق عليه من حديث عمران بن الحصين. [71] أخرجه مسلم من حديث ثوبان. [72] متفق عليه من حديث عائشة. [73] متفق عليه من حديث عدي بن حاتم. [74] أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. [75] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [76] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [77] أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع. [78] أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد من حديث جابر.

إعادة الحديث في البحث الجاري مع الشيخ إسماعيل الأنصاري فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وأستعين بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد:

فقد نشرت جريدة الدعوة بالرياض، في عددها المؤرخ 4 ذي الحجة عام 1390هـ، منشورًا صادرًا من الشيخ إسماعيل الأنصاري في خصوص المدارك على كتابنا الدلائل العقلية والنقلية.

قال الشيخ إسماعيل الأنصاري - عفا الله عنه-:

وهذا أوان الشروع في المقصود (ص31/32)، حيث يقول المؤلف: إن الأضحية عن الميت لم يقع لها ذكر في كتب الفقهاء المتقدمين من الحنابلة، لا في المغني على سعته ولا في الكافي ولا المقنع ولا المحرر ولا في الشرح الكبير ولا الخرقي ولا في المذهب الأحمد ولا الإنصاف ولا النظم ولا المنتقى في أحاديث الأحكام للمجد ولا الإلمام في أحاديث الأحكام ولا في إعلام الموقعين ولا في زاد المعاد.. إلخ. قال: فتركهم لذكرها ينبئ عن عدم عملهم بها في زمنهم أو على عدم مشروعيتها عندهم. وادعى المؤلف أن هذا النفي نتيجة التتبع والاستقراء.

وجوابه: إن الإمام أبا داود والذي بحث هذه المسألة في كتابه السنن، كان قبل الذين ذكرهم المؤلف، وهو كما أنه من أئمة الحديث يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، ومسائله التي رواها عنه أشهر من نار على علم، ونص سنن أبي داود: باب الأضحية عن الميت، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش قال: رأيت عليًّا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه، فلا أزال أضحي عنه أبدًا. رواه أبو داود، وقد قال في سننه: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أ ذكر فيه شيئًا فهو صالح وبعضها أصح من بعض، نقل ذلك عنه غير واحد منهم ابن الصلاح في مقدمته. اهـ.

فالجواب: إن الشيخ إسماعيل - عفا الله عنه- يتجهم ويتجاهل ما كان ظاهرًا جليًّا، يوهم الناس أنه قد وجد ما ينقض قولي به، حيث أورد ما ذكره أبو داود في سننه، حيث قال: باب الأضحية عن الميت، ثم ساق حديث حنش الصنعاني عن علي، أن رسول الله أمره أن يضحي عنه، كأنه لم يقع له ذكر في كتابي، وتجاهل بأنني قد سبقته إلى سياق هذا الحديث بجملته وترجمته حيث ذكرت في الرسالة، بأن أسبق من رأيناه طرق موضوع الأضحية عن الميت هو أبو داود في سننه، ثم ذكرت حديث حنش عن علي بتمامه ولم أستحل كتمانه، ثم ذكرت أيضًا رواية الترمذي له، حيث قال: إن الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أي إلا من رواية حنش ثم أعقبه بما يدل على ضعفه. فقال: قال عبد الله بن المبارك: أرى أن يتصدق عن الميت بثمن الأضحية ولا يضحي عنه، فإن ضحى له فلا يأكل منها شيئًا. والحاصل أن الشيخ إسماعيل لم يأت بحرف واحد ينقض به ما قلت، وإنما غايته أنه متعنت يورد ما لا حجة له فيه ليروج به على الأذهان وعلى ضعفة الأفهام، ومناظر المتعنت تعبان، ومناظر المنصف مستريح.

وأما قوله: إن الإمام أبا داود يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد، وإن مسائله التي رواها عن الإمام أحمد أشهر من نار على علم.

فالجواب: إن أبا داود، وإن كان من أصحاب الإمام أحمد، فإنه معدود من المحدثين؛ لأنه أحد الستة الذين يكثر روايتهم للحديث وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، ومسائله التي سأل عنها الإمام أحمد لا تخرجه عن عداد المحدثين، إذ كل محدث يكون معه من الفقه بحسبه، لكون الفقه مستنبطًا من الكتاب والسنة، كما في البخاري عن معاوية أن النبي ﷺ قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، يقال: فقه (بكسر القاف) إذا فهم، وفقه (بضم القاف) بوزن ظرف، إذا كان الفقه خلقًا وسجية له وانطبعت فيه أوصافه وهو المراد بقولي: أنها لم تكن معروفة عند فقهاء الحنابلة المتقدمين، ولم يأت هذا الناقد بما يناقض ما قلت، ولو وجد شيئًا لذكره، فنحن على ما قلنا حتى يقوم دليل. على أن أبا داود في مسائله التي رواها عن الإمام أحمد هو السائل لا المسؤول، ومثل السؤال عن هذه المسائل من كل ما يتعلق بالأحكام وأمور الحلال والحرام يجوز أن يقع من المحدث ومن الفقيه ومن العامي، يقول الله تعالى: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ [النحل: 43-44]، وأما قوله: إن أبا داود قال في سننه: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح.

فالجواب: إن العلماء من المحققين قد طرقوا موضوع ما سكت عنه أبو داود، وقرروا بأنه لا يلزم أن يكون كل ما سكت عنه صالحًا للاستناد والاعتماد، بل قد يكون صحيحًا ويكون حسنًا ويكون ضعيفًا، على حسب ما يقتضيه من التصحيح والتضعيف، قال الحافظ ابن حجر صاحب فتح الباري: إن قول أبي داود: وما فيه وهن شديد بيّنته. يفهم منه أن ما يكون فيه وهن غير شديد لم يبيّنه، ومن هنا يظهر لك طريق كل من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء ويسكت عليها، كابن لهيعة وصالح مولى التؤمة وموسى بن وردان، فلا ينبغي للناقد أن يتابعه في الاحتجاج بأحاديثهم بمجرد سكوته، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه، لاسيما إذا كان مخالفًا لرواية من هو أوثق منه، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج أحاديث من هو أضعف من هؤلاء بكثير، كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني، وكذا ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين الضعفاء، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم على أحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود عنها؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي، وتارة يكون ذهولاً منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته، كأبي الحديد ويحيى بن العلاء، وتارة يكون لاختلاف الرواة عنه وهو الأكثر، ثم قال: والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس، هذا إن حملنا قوله: وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. على أن مراده صالح للحجية وهو الظاهر، وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاح للحجية والاستشهاد والمتابعة، فلا يلزم أن يحتج بالضعيف». اهـ. من المنهل العذب المورود على سنن أبي داود ج1 ص7.

ثم قال الشيخ إسماعيل:

إنه يتبين أن حديث علي في نظر أولئك الأجلة الحفاظ: أبي داود والترمذي والحاكم والذهبي، ليس كما هو في نظر الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، فعسى ألَّا ينالهم شيء من مهاجمته لأهل العلم في هذه الرسالة.

فالجواب: إن هذا الناقد في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته يوهم الناس أن أبا داود والترمذي والذهبي، قد حكموا بصحة هذا الحديث والعمل به، استدلالاً بأن أبا داود ترجم له في سننه وساق الحديث بجملته، ومثله الترمذي في جامعه، وهذا الاحتجاج غير صحيح وليس من اصطلاح المحدثين، فإن أبا داود يترجم دائمًا للأحاديث التي ليست بصحيحة عنده وليست على مذهبه، وإنما يترجم لها حسبما بلغه منها وبعده يتعقبها أهل النقد بالتمحيص والتصحيح، فيقولون: رواه أبو داود بسند صحيح ورواه أبو داود بسند حسن ورواه أبو داود بسند ضعيف، فلا يدل كل حديث ساقه في سننه وترجم له أنه قد ارتضاه صحة وعملاً ومذهبًا، من ذلك قوله: باب الوضوء بالنبيذ، ثم قال: حدثنا هناد وسليمان بن داود المعتكي قالا: «حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِى فَزَارَةَ عَنْ أَبِى زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ «مَا فِى إِدَاوَتِكَ». قَالَ نَبِيذٌ. قَالَ «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ»» زاد الترمذي: «فدعا به فتوضأ منه». فهذا الحديث ضعيف جدًّا عند أهل الحديث؛ لأن راويه أبا زيد مجهول، وابن مسعود ينكر أن يكون مع رسول الله ليلة الجن أحد، وأبو داود لا يرى العمل به وترجم له وساقه بسنده في سننه، وقد تقدم كلام الحافظ ابن حجر، حيث قال: إن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء ويسكت عنها، فلا ينبغي للناقد أن يتابعه على الاحتجاج بها، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به؟ أو هو غريب فيتوقف فيه؟.

وفي هذا البيان الرد على من جعل سكوت أبي داود حكمًا قطعيًّا على صحة ما سكت عنه، ومن واجب المخلص في قول الحق ونصيحة الخلق ألَّا يحكم على الحديث بالصحة وهو يعلم أنه ضعيف، ولا بالضعيف وهو يعلم أنه صحيح، تدليسًا وتلبيسًا على أفهام الناس. وأما الترمذي، فقد روى هذا الحديث وقال: غريب لا نعرفه إلا من رواية شريك، فحكم عليه بالغرابة لكونه لم يروه عن علي أحد غير حنش بن المعتمر الصنعاني، وأكد غرابته بقوله: لا نعرفه إلا من حديث شريك. والغريب هو ما يرويه واحد وهو ضد المعروف المشهور، لهذا يغلب على الغريب الضعف في أكثر أحواله، كما قال في ألفية الحديث للسيوطي: والغالب الضعف على الغريب. يقال: حديث غريب؛ لانفراد راويه عن غيره. قال في شرح بلوغ الوطر من مصطلح أهل الأثر (ص13): واعلم أن وصف الحديث بالمشهور والعزيز والغريب لا ينافي الصحة ولا الضعف، بل قد يكون كل من الثلاثة صحيحًا، وقد يكون ضعيفًا، ولكن الضعف في الغريب أكثر، ومن ثم كره جمع من الأئمة تتبع الأحاديث الغريبة، فقد قال مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير وغالبها عن الضعفاء. اهـ. ومتى كان الحديث غريبًا وراويه مجروحًا فهو متروك لا يحتج به عند المحدثين، وهذا الحديث غريب في سنده وغريب في متنه وراويه حنش الصنعاني مجروح لا يحتج بحديثه عند المحدثين كما سيأتي الكلام عليه في محله، وقد قال أبو بكر بن العربي بعد تخريجه لحديث علي في شرحه على الترمذي، قال: وبالجملة فهذا حديث مجهول. وقال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: إني لم أجد في التضحية عن الميت منفردًا حديثًا صحيحًا، وأما حديث علي هذا فضعيف كما عرفت. وأما نسبة تصحيح هذا الحديث إلى الذهبي، فإنه من جملة ما نسبه إلى أبي داود والترمذي ونحن نطالبه إن كان صادقًا بأن يحيلنا على الكتاب الذي حكم فيه الذهبي بصحة هذا الحديث حتى يبرأ من عهدة نسبته إليه، كما قيل:
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
قال الشيخ إسماعيل:

إن الحاكم في المستدرك، قد جمع بين الاحتجاج بالحديث وبين تصحيحه، قال في ج4- ص229: وقد رويت أخبار في الأضحية عن الأموات، فمنها ما حدثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أنبأنا بشر بن موسى الأسدي، وعبد العزيز بن علي البغوي، قالا: حدثنا محمد بن سعد الأصبهاني، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش، قال: «ضحى علي بكبشين كبش عن النبي وكبش عن نفسه، وقال: أمرني رسول الله أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه أبدًاك».رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

فالجواب: إن العلماء المحققين من أهل الحديث يعرفون حالة الحاكم وتسامحه في سلوكه في مستدركه، وأنه يصحح كثيرًا من الأحاديث الساقطة والموضوعة ويكثر من ذلك حتى كثر الكلام فيه بسببها وحتى حمله بعض الناس على التشيع، وأحسن ما قيل في الاعتذار عنه أنه أصيب بغفلة في آخر عمره، فكان يعتمد في تصحيحه على رواية غير الثقة، فتصحيحه لحديث حنش عن علي هو من قبيل تصحيحه لحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها». قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ». قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فاستدرك على البخاري ومسلم عدم تخريجهما لهذا الحديث الذي أجمع حفّاظ السنة وأئمة الحديث على أنه موضوع أي مكذوب على رسول الله، وكذلك حديث حنش عن علي، فقد تكلم أئمة الحديث على حنش وأنه ينفرد عن علي بما لا يشبه حديث الثقات فصاروا لا يحتجون بحديثه كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله، وهو عراقي ومعلوم غلو أهل العراق في علي.

واعلم أن أئمة أهل الحديث وجهابذة النقاد قد تصدوا لتمحيص الأحاديث وتصحيحها، وبيان حالة رواتها وما يتصفون به من الجرح والتعديل، نصيحة منهم للدين وحماية له عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتدليس الكذابين، فيذكرون الراوي بصفته ويقولون: فلان كذاب، وفلان مدلس، وفلان سيئ الحفظ، وفلان يكثر من ذكر الأحاديث الموضوعة أو يتساهل في تصحيحها. إلى غير ذلك مما تقتضيه صفة الراوي للتنبيه على حالته وعدم الاغترار بروايته، ولا يعدونه من الطعن المذموم ولا الغيبة المحرّمة، بل هو النصيحة الواجبة، فإن الدين النصيحة لله ولكتابه ولدينه وعباده المؤمنين، ويستدلون على ذلك بقول النبي ﷺ: «ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ»[79]، وبقوله: «أَظُنّ فُلَانًا وَفُلَانًا لا يَعْرِفَانِ مِنْ دِيننَا شَيْئًا»[80]، وبقوله في صاحب الشجة: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ»[81] إلى غير ذلك، ونقل صاحب الآداب الشرعية عن شرح مسلم على قوله ﷺ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» قال: الستر المندوب إليه هنا هو الستر على ذوي الهيئات ومن لا يعرف بالأذى والفساد وانتهاك الحرمات، فينبغي الستر عليهم لحديث: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إلَّا الْحُدُودَ»[82]، قال: فأما من عرف بالأذى والفساد وانتهاك الحرمات، فلا ينبغي التستر عليهم، بل ينبغي رفع أمرهم، ومثله جرح الرواة والشهود والأمناء على الأوقاف واليتامى وغيرهم، فلا ينبغي الستر عليهم، بل ينبغي رفع أمرهم لاتقاء ضررهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة.اهـ. وبهذا يتضح بطلان ما يتوهمه هذا الناقد، حيث جعل من يتكلم في الرواة وأقوال العلماء بما يقتضيه من التصحيح والتضعيف أنه مهاجمة للعلماء، وذلك حينما قلت: إن حديث حنش عن علي في أضحيته للنبي ﷺ ضعيف جدًّا لا يحتج به، وأنه من قبيل ما يتناقله الفقهاء من الأحاديث الضعيفة، لظنهم أنه صحيح؛ لأن غالب الفقهاء لا يعرفون الأحاديث الصحيحة من الضعيفة معرفة صحيحة، فينشأ أحدهم على قول لا يعرف غيره ولم يقف على طعن أهل الحديث في ضعفه، فيظنه صحيحًا ويبني على ظنه جواز العمل به والحكم بموجبه، فهذا حاصل ما نقمني عليه، حيث أفحش في التعبير عني بدعوى أنني أهاجم العلماء، فكل ما ذكرت فإنه من الأمر الواقع الذي لا أعتذر عنه، من ذلك قولهم: ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث. فإن هذه الفقرة بهذه الصفة تجدها في كل كتاب من كتب الحنابلة ينقلها بعضهم عن بعض مستدلين على ذلك بحديث: «لا يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ ولا الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» رواه أبو داود والنسائي، على أن الأمر الصحيح الثابت هو ما رواه مسلم عن ابن عباس: «أَنَّ رَسُول اللَّه كَانَ يَغْتَسِل بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ». ولأصحاب السنن: «اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة، فجاء النبي ليغتسل منها، فقالت له: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ»، أفيكون التنبيه على مثل هذا القول الضعيف الذي يتناقله الفقهاء من كتاب إلى آخر أنه من التهجم على العلماء؟! بل هو من باب النصيحة لله ولعباد الله، ومن الشهادة بالحق التي أوجبها الله على عباده بقوله:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ [النساء: 135] وإنما يتوجه الملام على من يحاول رفع الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى درجة الصحة في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، كحديث حنش عن علي، أن النبي وصاه أن يضحي عنه، وقد تكلم علماء الحديث في حنش وأنه يروي أحاديث عن علي لا تشبه أحاديث الثقات، كما سبق الكلام عليه، ويدل على ضعفه كون الصحابة لم يثبت عن أحد العمل به، أفيكون حنش الصنعاني أعرف منهم بحديث رسول الله، وكذا قولهم: لا تقصر الصلاة في أقل من ستة عشر فرسخًا. مستدلين عليه بحديث: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ»[83]، وكذا قولهم في اشتراط انعقاد الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها، مستدلين عليه بحديث: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً»[84]، فهذه الأحاديث وما بمعناها تجدها دائرة بين الفقهاء، تذكر في كل كتاب من الفقه، على أن الراجح خلافها وما من أحد من العلماء إلا ويتكلم في مثل هذه الأحاديث أو الأقوال المرجوحة عند مناسبة الكلام فيها.

قال الخطابي في معالم السنن (ج1- ص7)، قال: إن العلماء على طبقتين: أهل حديث، وأهل فقه. قال: فأما طبقة أهل الفقه، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم، إذا وافق مذهبهم الذي ينتحلونه أو وافق رأيهم الذي يعتقدون به، وقد اصطلحوا على قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم بغير ثبت فيه أو يقين، فكان ذلك ضلة في الرأي وغبنًا فيه. انتهى. يؤكده أن الفقيه في اصطلاحهم لا يطلب منه الدليل. وأما القول مني: بأن حديث حنش ضعيف، فإنني لم أقل ذلك بمجرد الرأي من نفسي، وإنما قلته بما ظهر لي من أقوال أئمة الحديث الذين هم بمثابة الصاغة للرواة، يميزون بين الصحيح والسقيم وهذه نصوصهم معزوة إلى كتبهم:

1- قال البخاري إمام المحدثين في التاريخ الكبير (ص99) القسم الأول من الجزء الثاني (م ج 3)، قال: حنش بن المعتمر الصنعاني وقال بعضهم: حنش بن ربيعة، سمع عليًّا وروى عنه سماك والحكم بن عتيبة والكوفيون يتكلمون في حديثه.

2- وقال ابن حبان البستي في كتاب المجروحين له (ص267) قال: حنش بن المعتمر، والذي يقال له: حنش بن ربيعة الكناني والمعتمر كان جده، يروي عن علي بن أبي طالب وروى عنه الحكم وسماك: كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج به.

3- وقال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (ج4 - ص95) قال: حنش تكلم فيه غير واحد.

4- وقال الحافظ ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل (ج ا): من القسم الثاني (ص291) قال: حنش بن المعتمر الكناني، ويقال حنش بن ربيعة، روى عن علي رضي الله عنه وروى عنه أبو إسحاق الهمذاني والحكم بن عتيبة وسماك، سمعت أبي يقول: أنبأنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال علي بن المديني: حنش بن ربيعة الذي روى عنه الحكم لا نعرفه. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: حنش بن المعتمر هو عندي صالح، قلت: أيحتج بحديثه؟ قال: ليس أراهم يحتجون بحديثه.

5- وقال في التلخيص الحبير (ص226): قال في علوم الحديث: تفرّد بحديث حنش عن علي أهل الكوفة وفي إسناده حنش بن ربيعة وهو مختلف فيه.

6- وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في عارضة الأحوذي شرح الترمذي (ج6 - ص209) بعد تخريجه لحديث حنش عن علي، قال: وبالجملة فهذا حديث مجهول.

7- وقال في تحفة الأحوذي على الترمذي: إنه لم يثبت عن النبي ﷺ في الأضحية عن الميت منفردًا حديث صحيح وأما حديث علي فضعيف كما علمت.

فهذه شهادات أئمة الحديث الذين يتلقى عنهم الذهبي ومن في طبقته علم الحديث وأخبار المحدثين المجروحين منهم والمعدلين، وقد اتفقت كلمتهم على عدم الاحتجاج بحديث حنش، والقاعدة عند المحدثين أن بينة الجرح مقدمة على بيّنة التعديل، لأن معها مزيد علم قد يخفى على المعدلين وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من رواية شريك، والغريب إذا كان راويه مجروحًا فهو متروك لاجتماع أسباب الضعف فيه وهي غرابته وجرح راويه.

ومما يؤكد ضعف هذا الحديث وعدم صحته هو أن عليًّا رضي الله عنه مكث في المدينة بعد موت النبي ﷺ لكونه لم ينتقل إلى العراق إلا عام ست وثلاثين، وفي كل هذه السنين الطويلة لم يسمع أحد من أهل المدينة ولا من أهل بيت علي، كالحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وابن عباس، أن رسول الله أوصى عليًّا بذلك، وكذلك لم يسمعه أحد من الخلفاء ولا من الصحابة، ولو كان هذا الخبر صحيحًا وأن عليًّا رضي الله عنه لا يزال يضحي عن رسول الله كل سنة، إذًا لاشتهر خبره بين الصحابة، كما اشتهرت سائر السنن من الواجبات والمستحبات، وإذًا لشاركوه في هذه الفضيلة والعمل بهذه الوصية على العسر واليسر ولم يختص بها علي دونهم، إذ الرسول أعز عليهم من أنفسهم ومن والديهم وأولادهم، ومن المحال كون هذه الوصية صحيحة، ثم تخفى على سائر الصحابة ولا يعلم بها إلا حنش الصنعاني الكوفي، بل إن المحفوظ عن أهل بيت رسول الله، ومنهم علي والحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وابن عباس، أنهم كانوا يكتفون بأضحية رسول الله عنهم عن أضحيتهم لأنفسهم، كما أخبر بذلك أبو رافع وهو خادم رسول الله وأعرف الناس بعمل أهل بيته، فقد قال: أمرني رسول الله أن أشتري له كبشين أقرنين أملحين، فذبح أحدهما وقال: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وعن أمة محمد من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالثاني فيذبحه ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»، قال أبو رافع «فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ يُضَحِّى قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْغُرْمَ» [85]. وكان ابن عباس يعطي خادمه يوم العيد دراهم يشتري له بها لحمًا، ويقول له: من سألك فقل: هذه أضحية ابن عباس. ثم إن عليًّا رضي الله عنه يكذب بهذا الخبر، فقد تحدث أناس من شيعة العراق بأن رسول الله قد خص عليًّا باختصاصات ووصايا دون الناس، وأن عنده قرآنًا غير الذي بأيدي الناس. قال أبو جحيفة، قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألَّا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري، وقد وقع هذا السؤال من كثير من الصحابة، يسألون عليًّا، هل خصه رسول الله ﷺ بشيء من الوصايا دون الناس؟ فأنكر أن يكون رسول الله قد خصه بشيء دون الناس، ذكر ذلك شيخ الإسلام في المنهاج.

ثم يقال للشيخ إسماعيل:

متى كنت تجزم بصحة حديث حنش عن علي، أن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه وأنه لا يزال يضحي عن رسول الله أبدًا، فكيف ساغ لك في هذا المقام أن تنسى رسول الله، فلم تذكر في منشورك مشروعية الأضحية عنه -عليه الصلاة والسلام- وهو الأصل في نص الوصية وغيره الفرع، وكيف تجاوزت جنابه ونسيت فضيلته وأهملت ذكر وصيته وأخذت تدعو إلى مشروعية الأضحية عن أموات أمته بدون دليل يؤيده، مستدلًّا على ذلك بمفهوم حديث علي، مع إهمالك للعمل بمنطوقه، فكنت كمن يفضل القياس على النص ويهمل العين ويتبع الأثر، وحاسب نفسك كيف أعرض الصحابة والتابعون وسائر علماء المسلمين ومشايخ الدعوة وغيرهم عن العمل بهذه الوصية، حيث لم نسمع عن أحد منهم أنه ضحى لرسول الله، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، ولو كان هذا الحديث صحيحًا عندهم لبدؤوا بأضحية النبي قبل أضحيتهم لأنفسهم؛ لأنه أولى بكل مؤمن من نفسه وأهله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[86]، لأنها متى صحت هذه الوصية منه لعلي، اعتبرت وصية منه لجميع الناس؛ لأن الاعتبار بعموم لفظها لا بخصوص سببها، أفتقول: إنها سنّة فجهلها الصحابة والعلماء، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها. كل هذا يعد من غير الممكن، بل إن الأمر الصريح هو أن الحديث غير صحيح، ولا عمل عليه عندهم.

ثم قال الشيخ إسماعيل:

أطال مؤلف الرسالة -يعني الشيخ عبد الله بن زيد- في معاتبة شيخ الإسلام في تجويز الأضحية عن الميت واختياره لها على الصدقة بما يطول الكلام بسرده، وإنما نجيب عنه بما يلي: أما الأضحية عن الميت، قد سبق شيخ الإسلام إلى القول به أبو داود والترمذي وبعض مشايخه والحاكم وأبو الحسن العبادي وطائفة من أئمة الشافعية والقاضي أبو بكر بن العربي المالكي، فلم لا يعتبر ذلك على الأقل حاجزًا بينه وبين سبه شيخ الإسلام ابن تيمية، فيما سطره في رسالته من دعوى مخالفته النصوص. انتهى.

فالجواب: إن في هذا الكلام من التلبيس والكتمان والتدليس على الأذهان ما لا يخفى على ذوي العلم والعرفان، أما إلصاقه بنا نسبة السب منّا لشيخ الإسلام، فجوابنا: أن نقول ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، وإنني أعجب أشد العجب من تصريحه بهذا الإعلان، وللناس عيون وآذان وكتابنا منتشر في البلدان وبيد كل إنسان، فهو ينطق عنا بأوضح البيان، ولن يوجد فيه شيء من هذا البهتان ومن ادعى ما لا حقيقة له فضحته شواهد الامتحان.
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو فعله السوء أو من قلة الأدب
والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام واحترامًا له، ونفضل اختياراته في كثير من المسائل التي خالف فيها أئمة المذاهب، لرجحانها عندنا بالدليل، لكننا لا نعتقد فيه العصمة، فنحن نعترف ولا نعتذر من قول الحق والتصريح بالصدق، ودونك نص ما قلت في شيخ الإسلام الذي نعتقده دينًا ومذهبًا، بدون جفاء ولا تعصب، وقد سمّاه هذا الناقد مهاجمة وسبًّا ولم يخش في نشره عارًا ولا عيبًا.

قلت ما نصه: إن القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه هو مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- كما ذكره ابن اللحام في الاختيارات، وأشار إليه ابن مفلح في الفروع قائلا: واختار شيخنا تفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة، ولم أر من سبق شيخ الإسلام إلى القول بهذا من سائر علماء المذاهب، ولسنا نسقط رأيه في هذه القضية بنظريات اجتهادية من عندنا، وإنما نسقطه بما ظهر لنا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت لوقوع الفتوى فيها من رسول الله في عدة قضايا وبالأخص الأولاد، لكنه لا يستطيع أن يحكي الإجماع على وصول ثواب الأضحية إلى الميت، إذ الأضحية عن الميت مختلف فيها، وليس الأمر المتفق عليه كالمختلف فيه، فنحن إذ نرد كلامه في هذه المسألة، فإنما نرد كلامه بكلامه، فهو الذي عوّدنا معارضة كل قول يخالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع قطع النظر عن قائله، إذ الحق فوق قول كل أحد، وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه وفقهاؤه أو ما قاله الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه وفضله.

وقلت أيضًا: إن لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- الأجر الجزيل والثناء الجميل من الله ومن الناس حتى فيما أخطأ فيه ولا يكون المنتصر لمقالته بمنزلته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر حتى يتبين له الحق فيأخذ به، وقد أعرض العلماء عن بعض اختياراته لما تبين لهم أن الراجح خلافها وهو بنفسه لا يرضى أن يقلده أحد فيما أخطأ فيه، ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم. فهذا حاصل ما قلت في شيخ الإسلام، ولم أقل والحمد لله إلا خيرًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً، فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة. وهذا الناقد مع شدة حثه وبحثه، لم يجد عن أحد من العلماء ممن سبق شيخ الإسلام أنه قال بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه، لا من فقهاء الحنابلة ولا من غيرهم، ولو وجد شيئًا من ذلك لذكره، فنحن على ما قلنا حتى يقوم دليل، كما أنه لم يجد دليلاً واحدًا عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة، يثبت مشروعية الأضحية عن الميت بانفراده، لأن هذا هو موضع البحث ومثار النزاع، ﴿قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [النمل: 64].

وأما قوله: إن أبا داود والترمذي قد سبقا شيخ الإسلام إلى القول: بمشروعية الأضحية عن الميت يوهم الناس بهذا القول أن أبا داود والترمذي يقولان بصحة هذا الحديث، كما صرح به في آخر البحث، وقد سبق الكلام منا على الحديث وكلام أهل العلم فيه، وأنه ضعيف لا يحتج به، وبينا تخريج أبي داود والترمذي له، وأن ذلك لا يدل على الحكم منهما بصحته ولا العمل بموجبه، وكل قول مرهون بدليله وبيان صحيحه من عليله ولا يجوز إن أخلص في قوله ونصح في عمله أن يحكم على الحديث بالصحة، وهو يعلم أنه ضعيف ولا بالضعف وهو يعلم أنه صحيح؛ لأن هذا يعد من التلبيس للحق والغش للخلق، ولأن الدين النصيحة لله ولكتابه ورسوله وعباده المؤمنين. قال الشيخ إسماعيل:

وأما أبو بكر بن العربي، فقد قال في شرح الترمذي (ج6 - ص290) قال: اختلف أهل العلم: هل يضحى عن الميت؟ مع اتفاقهم أنه يتصدق عنه والضحية ضرب من الصدقة؛ لأنها عبادة مالية وليست كالصلاة والصيام، وقال عبد الله بن المبارك: أحب إليَّ أن يتصدق عنه بثمن الأضحية ولا يضحي فإن ضحى فلا يأكل منها شيئًا. قال ابن العربي: الصدقة والأضحية سواء في الأجر عن الميت. انتهى.

فالجواب: إن أبا بكر بن العربي لمّا طرق موضوع هذا الحديث قال: وبالجملة، فهذا حديث مجهول، فابتلع الشيخ إسماعيل هذه الجملة في بطنه حيث استباح كتمانها وعدم بيانها، وهي متصلة بالكلام الذي ذكره كاتصال السبابة بالوسطى، وكان من واجب أمانة البحث أن يأتي بها ثم يتعقبها بما يشاء من التصحيح أو التضعيف، حسبما تقتضيه أمانة التأليف، فإن العلم أمانة والكتمان خيانة، والله لا يصلح كيد الخائنين، ومتى ثبتت جهالة هذا الحديث سقط الاحتجاج به ولم يبق سوى رأي أبي بكر بن العربي والرأي يخطئ ويصيب وهو رجل ونحن رجال.

ثم إن قوله: إن الأضحية عن الميت ضرب من الصدقة ليس على إطلاقه لوقوع الفروق بين الصدقة والأضحية، فإن الصدقة لا تسمى أضحية، كما أن الأضحية لا تسمى صدقة، ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه، أما رأيت العلماء من المحدثين والفقهاء، إذا ذكروا باب الأضحية، فإنهم لم يذكروا معها الصدقة، وإذا ذكروا الصدقة فإنهم لم يذكروا معها الأضحية، ثم إن الأضحية لو أكلها كلها جازت وأجزأت، أما الصدقة فإنها لا تكون صدقة حتى تخرج من يد المتصدق إلى يد المستحق، ثم إن الأضحية لا يجوز فعلها إلا في الوقت المحدد لها وهو يوم العيد وأيام التشريق، أما الصدقة فتجوز كل وقت، ولما ذبح أبو بردة بن نيار - خال البراء بن عازب- أضحيته قبل صلاة العيد أمره النبي أن يذبح بدلها وقال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ يَوْمَنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا،وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَإِنَّمَا هيشاة لَحْم قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ» رواه البخاري، ففرّق النبي ﷺ في هذا الحديث بين الأضحية الشرعية وهي الموافقة لسنة رسول الله في الحد والحقيقة، وبين الذبيحة التي ذبحها صاحبها باسم الأضحية وهي مخالفة لسنة رسول الله وشرعه، وأنها تعتبر شاة لحم، سواء أكلها صاحبها أو تصدق بها، وليست من الأضحية في شيء، ولو كانت كل أضحية صدقة لما كلّف النبي ﷺ أبا بردة بإبدال أضحيته، إذ الصدقة تجوز كل وقت.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
ومثله صدقة الفطر، فإنها واجبة على كل فرد من الأحياء ولا تشرع في حق الأموات، وهي صدقة من الصدقات، فلو قال أحد بمشروعيتها عن الأموات لحكم العلماء ببطلان قوله، ونحن بكلامنا هذا نريد التفريق بين المشروع وغير المشروع، إذ كل مشروع ملتحق بالعبادات وما ليس بمشروع فإنه ملتحق بالعادات والمبتدعات، لكن لو ذبح شاة أو بقرة أو ناقة في يوم عيد النحر أو في غيره من الأيام، بقصد أن يتصدق بها عن والديه، فإن هذا جائز وعمل مشروع، لإجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة وبالخصوص من الولد لوالديه، كما لو اشترى لحمًا من الجزار فتصدق به عن والديه، فإن هذا جائز ومشروع، ثم إن أبا بكر بن العربي والعبادي ونحوهما القائلين: إن الضحية عن الميت ضرب من الصدقة عنه يعنون بذلك أن المضحي لميته يلزمه أن يتصدق بتلك الأضحية، لأنها لا تسمى صدقة حتى تخرج من يد المضحي إلى يد الفقير، لكونهم يرونها حقًّا للفقراء والمساكين، ولهذا قالوا: لا يجوز للمضحي أن يأكل منها، كما ذكره الترمذي في صحيحه عن عبد الله بن المبارك، وكذا قال صاحب غنية الألمعي: إنه إن خص الأضحية للأموات دون شركة الأحياء، فهي حق للمساكين، فبنوا القول بجواز الأضحية للميت على ذلك وجعلوها بمثابة الصدقة عنه، ولو علموا أن الذين يضحون للأموات أنهم يأكلون لحمها ومخها ولا يتصدقون إلا بالقدر اليسير منها لما قالوا بجواز ذلك.

وقد قلنا في الرسالة: إن الأضحية لخاصة الحي أفضل من التصدق بثمنها باتفاق الأئمة الأربعة على ذلك؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها وامتثالاً لطاعة الله ورسوله فيها، أما الأضحية عن الميت منفردًا بها، فإنه لم يثبت مشروعيتها، لا من الكتاب ولا من السنة. ولا عمل بها الصحابة، فكانت الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها.

فإن قيل: إن في الأضحية عن الميت تقربًا إلى الله، بإراقة دمها وصدقة بلحمها. قلنا: نحن لا نتكلم في اللحم المركوم بعد ذبحه، والذي لو لم يتصدق به أو يهدى منه لأنتن حتى يقذف به في بطون الكلاب، أو في محل غير مستطاب وليس التصدق بواجب، فلو أكلها كلها إلا قدر أوقية تصدق بها جاز، على أن الذين يضحون لموتاهم إنما يقصدون إهداء ثواب دمها، ثم يأكلون مخها ولحمها، وإن تصدقوا بشيء فبالنزر الحقير منها، فكيف تسمى صدقة وهم قد أكلوها في بطونهم، وهذا هو السبب الذي قال بعض الفقهاء: إنه متى ذبحها لميت لم يجز له أن يأكل منها، لاعتبار أنها حق للفقراء والمساكين.

يبقى الكلام مع ولاة الأوقاف والوصايا، والذي يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين أو الستين من الضحايا، يريد أن يجزرها في مقام واحد، كلها أضاحي عن الأموات، وعند الثاني والثالث مثل ذلك، وكذا المتبرعون لأمواتهم بحيث يموت الرجل العظيم من عالم أو حاكم أو تاجر، فينتدب كل واحد من أسرته بذبح أضحية له، بحيث يضحى له في يوم واحد بعشرين أو ثلاثين، لوازم هذا التصرف إتلاف المال وإزهاق أرواح الحيوان الذي يجب ألّا يسفك دمه إلا بحق، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإن كان هذا الذبح في مثل هذه الأغنام يقع بطريق شرعي فسبيل من هلك ومن قتل في حق، فالحق قتله، وإن كان ذبحها يقع بطريق غير شرعي، وأنه لم يثبت مثله عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة لا في تبرعاتهم ولا في أوقافهم ولا وصاياهم، وجب العدول عنها إلى الصدقة بثمنها المنصوص على فضلها ووصول نفعها، ولكونها أنفع للحي والميت، وأقرب إلى طاعة الله ورسوله.

والصرف في مثل هذا يعد من الإصلاح بالعدل الذي رفع الله الإثم عن فاعله، ويكفي من قول ابن العربي الذي جعله الناقد عمدة له في الاحتجاج به قوله: إن العلماء قد اختلفوا في الضحية عن الميت، مع اتفاقهم على أنه يتصدق عنه. فإن هذا الاتفاق الواقع من العلماء هو حقيقة ما ندعو إليه من تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية عنه، وقد سمينا كتابنا بالدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية، كما فصلنا القول في فضلها في الرسالة.

والحاصل أن قول ابن العربي ومثله قول العبادي: إن الأضحية عن الميت نوع من الصدقة، محمول على القول المشهور من أن المضحي لميته يلزمه أن يتصدق بأضحيته، ولا يجوز له الأكل منها، لكونها حقًّا للفقراء والمساكين، كما ذكره الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المبارك، وكما ذكره صاحب غنية الألمعي وغيره وهو الظاهر من مذهب الشافعية والأحناف، فبناء على ذلك قالوا: إن الأضحية نوع من الصدقة، لظنهم أن صاحبها يتصدق بها كلها ولا يأكل منها شيئًا، ولو علموا أن صاحبها يذبحها ثم يأكلها في بطنه، لتبدل رأيهم في القول فيها.

ثم إن قولهما بذلك هو رأي منهما لا رواية، ويقابل هذا الرأي منهما بقول الإمام مالك عالم المدينة، حيث قال: لا يعجبني أن يضحي عن أبويه الميتين، ويقابل بقول عبد الله بن المبارك، فيما رواه الترمذي عنه: أرى أن يتصدق عن الميت بثمن الأضحية ولا يضحى عنه، ويقابل أيضًا بقول صاحب مواهب الجليل في مختصر خليل، حيث قال: وكره فعل الأضحية عن ميت كالعتيرة، ويقابل أيضًا بقول صاحب الشرح الكبير للدردير، حيث قال: وإنما كره أن يضحى عن الميت، لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أحد من السلف، ويقابل أيضًا بقول ابن حجر الهيتمي، في تحفة المحتاج شرح المنهاج، حيث قال: ولا تقع أضحية عن ميت إن لم يوص بها، ويفرّق بينها وبين الصدقة، أن الأضحية تشبه الفداء عن النفس فتوقفت على الإذن ولا إذن لميت، بخلاف الصدقة، ويقابل أيضًا بقول الرافعي والبغوي: ولا تصح الأضحية عن الميت إن لم يوصِ بها، حكاه عنهما النووي في شرح المهذب، وهما شيخا مذهب الشافعية، كما أن الموفق والمجد هما شيخا مذهب الحنابلة، وقال صاحب العدة، من فقهاء الشافعية بمثل ما قاله البغوي والرافعي، ويقابل أيضًا بقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهو من علماء الدعوة: إن الأضحية عن الميت ليست معروفة عن السلف، ويقابل أيضًا بأن الظاهر من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف أنها لا تشرع الأضحية عن الأموات، كما ذكرنا مذاهبهم في الرسالة.

فهذه أقوال من ذكرنا من الفقهاء، سقناها للاعتضاد لا للاعتماد، وإلا فإن العمدة فيما قلنا ونقلنا يعود على عدم ثبات مشروعيتها عن النبي ﷺ أو عن أحد من الصحابة، حيث لم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه ضحى لأحد من أمواته، كما أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته على سبيل الانفراد، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، وهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وقد قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا الصحابة فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً، وعند هذا يجب وضع ميزان التعادل بين هذه الأقوال والأعمال وبين ما نسبه الناقد إلى ابن العربي والعبادي، ليعرف بها الراجح من المرجوح، كما قيل:
لم تعرف الوزن كفي بل غدت أذني
وزّانة ولبعض قول ميزان
ثم قال الشيخ إسماعيل:

وأما اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على التصدق عنه، فلنا أن نقول على سبيل الإجمال بما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين، حيث قال: لا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي يعلى. فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتى بها في الإسلام ويحكم بها الحكام، فالاختيارات لشيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها، هذا كلام ابن القيم وهو الإنصاف خلاف ما يوهمه صنيع مؤلف الرسالة من عدم إقامة الوزن لاختيارات شيخ الإسلام وقبول كلام الصنعاني والشوكاني، ممن يعتبرون ابن تيمية قدوة لهم.

فالجواب: أن نقول إن الشيخ إسماعيل قد أكثر في منشوره من الهذر والهذيان والتدليس والكتمان ونسبة السب لشيخ الإسلام ودعوى عدم إقامة الوزن منا لاختياراته في الأحكام، كل هذا قد استباحه في سبيل التلبيس على العوام وعلى ضعفة الأفهام، يوهم الناس أنه من المنتصرين لشيخ الإسلام وقد قيل: أحب الحديث أصدقه، وخير القول ما يصدقه العيان، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.
وإن أصدق بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أسفه الناس رأيًا وأسخفهم عقلاً لرجل يكابر في إنكار اليقينيات، ويجادل في جحود الحقائق الجليات، والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام، ومن المعظمين لاختياراته في الأحكام وليس من الأمر الحرام مخالفتنا لشيخ الإسلام في مثل هذه المسألة الفرعية التي لا إنكار في الخلاف في مثلها، إذ لم يقل أحد من العلماء بوجوب العمل باختياراته كلها بدون نظر ولا عرض على كتاب الله ولا سنة نبيه. واختياراته هي كما وصفها العلامة ابن القيم من أنها وجه في المذهب صالحة لأن يحكم بها الحكام، فنحن نثني عليها لإصابتها الحق والتسهيل على الخلق ونفضلها على اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب لرجحانها عندنا بالدليل، والوجه هو قول الأصحاب والرواية قول الإمام وهو من أفضل الأصحاب وأعلمهم، وقد جمع بين الرواية والدراية، وقد قال ابن القيم هذا الكلام في سبيل نصرته لشيخ الإسلام، حينما أفتى بجعل الطلاق بالثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة، وأن الحلف بالطلاق الثلاث متى حنث فيه يمين مكفرة وليس بطلاق، فعند هذا القول أنحى عليه علماء زمانه بالملام وتوجيه المذام، وأكثروا فيه الكلام وشكوه إلى الحكام وكفره من كفره منهم بحجة أنه خرق الإجماع العام وأباح للناس الفرج الحرام وهذه هي آخر المحن التي ابتلي بها، فعند ذلك قال العلامة ابن القيم: إن من له اطلاعًا وخبرة بأقوال العلماء يعلم أنه لم يزل في الإسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم لزوم الطلاق، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قضى بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالف له من الصحابة وكذلك التابعون ومن بعدهم ولم يزل من علماء الأئمة والفقهاء والمصنفين من يفتي بعدم لزوم الطلاق إذا حنث الحالف، قال: ولا يختلف عالمان متحليّان بالإنصاف أن الاختيارات لشيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب.. إلخ.

فهذا الكلام قاله على سبيل الاعتذار والانتصار منه لشيخ الإسلام، لمّا اشتد عليه بسببها الخصام وقد أحسن فيما قال، فإن شيخ الإسلام في ذلك على بيّنة من أمره من كتاب ربه وسنة نبيه، ولكن حسده قومه على ما آتاه الله من فضله، وبالخصوص حين رأوه مخالفًا لرأيهم وما عليه علماء مذهبهم، ومع هذا كله فما زالت فتواه تزداد نورًا وتتجدد ظهورًا، وعاد أمر معاديه بورًا ورأيهم ثبورًا، وهكذا الحق مع الباطل، فإن الله سبحانه قد ضمن للحق البقاء وحسن العقبى وأما الزبد فيذهب هباء، و صارت فتواه بجعل الثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة والحلف بالطلاق يمين مكفرة يحكم بها الآن الحكام في أكثر المحاكم الشرعية من سائر البلدان الإسلامية، والمقصود أن الفقهاء المحققين قد خالفوا المذهب نفسه في كثير من المسائل، لما ترجح لهم بمقتضى الدليل خلافه، فما بالك لمخالفتهم لما هو وجه في المذهب إذا تبين لهم رجحان مخالفته والله أعلم.

ثم قال الشيخ إسماعيل:

لقد وجدنا للمؤلف ما نصه: لقد أعرض العلماء عن العمل ببعض اختيارات شيخ الإسلام، لما تبين لهم أن الراجح خلافها. وفي هذه العبارة ما لا يخفى، فإن اختيارات شيخ الإسلام ليس فيها ما يصح القول بأنه قد رفضه جميع العلماء، ثم نطالب المؤلف بأن يذكر لنا عالما واحدًا رد على شيخ الإسلام في اختياراته، هذا كما شنع عليه المؤلف في رسالته.

فالجواب أن نقول: ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ الَّذِى لَا يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا سَمِعَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِياً فَقَالَ يَا رَاعِىَ اجْزُرْ لِى شَاةً مِنْ غَنَمِكَ. قَالَ اذْهَب فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ»، وهذا الناقد يتظاهر بصورة الدفع والدفاع عن العلماء الأعلام وعن شيخ الإسلام لمحاولة تعظيمه عند العوام أو عند ضعفة الأفهام، وليت دفاعه يقع بصريح الصدق في البيان، ولكنه بمجرد التدليس والكتمان والتلبيس على الأذهان، وإنكار الحقائق التي يصدقها الحس والوجدان، ومن ادعى ما لا حقيقة له فضحته شواهد الامتحان، وهذا الإمام الذهبي هو من أخلص الناس في محبة شيخ الإسلام ومن المناصرين له في السر والإعلان، وقد اعترف بأنه يخالف شيخ الإسلام في بعض الأحيان، دونك نص لفظه: قال الذهبي - رحمه الله- ما ملخصه: كان يقضى من شيخ الإسلام بالعجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل لها ورجح فما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الديانة ورد أقوال المخالفين، فكان لا يشق غباره فيها ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد، بل أكثر، وكان قوّالا بالحق لا يأخذه في الله لومة لائم، قال: ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه فقد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده، تعتريه حدة ولكن يقهرها بالحلم ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه إلى ربه وأنا لا اعتقد فيه العصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان مع سعة علمه وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تذرع بسببها عداوة في النفوس وإلا فلو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع، فإن كبار العلماء خاضعون لعلومه معترفون بندور خطئه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع لا يؤتى من سوء فهم، فإن له الذكاء المفرط ولا من قلة علم، فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسألة بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه وأجران على إصابته.اهـ. الدرر الكامنة: ج1- ص150/151.

فهذا الإمام الذهبي المعدود من أصفى الناس محبة له، وأشدهم احترامًا وحماية له، وقد أشار في كلامه بأنه يخالف شيخ الإسلام في بعض المسائل، ولن يقدح ذلك في صحة ولايته وصدق محبته.

وقد صفى التاريخ الصادق خلاصة محنة شيخ الإسلام مع خصومه فسجل التاريخ تسميته بشيخ الإسلام وبتقي الدين، أنطق الله ألسنة الناس بذلك بدون أن يتسمى به بنفسه وأثبت التاريخ بأنهم إنما نقموا عليه من أجل أنه خالف رأيهم وما عليه علماء مذهبهم وما كانوا يعتقدونه في أنفسهم، فحسدوه على ما أتاه الله من فضله من سائر العلوم والفنون التي بهرت العقول، كما قال ابن الوردي:
سعى في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
إن بعض الناس لا يتحمل الصبر على مخالفة رأيه ومذهبه ولو في مسألة فرعية لا إنكار في الخلاف في مثلها أو في مسألة نحوية وشبهها، فتراه يغضب ويضطرب عند مخالفته ويتحامل على من خالفه ولو بدون بيّنة من أمره، فيفند رأيه ويصغر أمره ويحاول الحط من قدره، ليثبت في نفوس الناس عدم الاعتداد بقوله، كما روي عن أبي حيان صاحب التفسير المسمى بالبحر المحيط، أنه كان يحب شيخ الإسلام ويجالسه ويأخذ العلم عنه وقد امتدحه بأبيات منها:
لمّا أتانا تقي الدين لاح لنا
داع إلى الله فرد ما له وزر
حبر تسـربل منه دهره حبرا
بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصـر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصَت مضـر
فأظهر الحق إذ آثاره اندرست
وأخمد الشـر إذ طارت له شرر
ثم إن أبا حيان بعد هذا الكلام، ناظر شيخ الإسلام في مسألة نحوية، فقال شيخ الإسلام الصواب فيها كذا، فقال أبو حيان: إن في كتاب سيبويه كذا، فقال شيخ الإسلام: إن سيبويه ليس بنبي النحو وقد غلط في ثمانين موضعًا لا تفهمها أنت. فغضب أبو حيان وفارق شيخ الإسلام، وأخذ يتحامل عليه في تفسيره من أجل مخالفته لرأيه في هذه الكلمة، ثم إن أكثر المعادين له رجعوا عن رأيهم في لومه واعترفوا بفضله وسعة علمه، منهم: السبكي، فقد كتب إليه الذهبي يعاتبه على كلام تحامل به على شيخ الإسلام. فأجابه السبكي قائلاً: أما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه في ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزم انتهى من الدرر الكامنة.

والمقصود، أن قول الشيخ إسماعيل: إننا نطلب من المؤلف بأن يذكر لنا عالما واحدًا رد على شيخ الإسلام، إلى آخر ما قال، فإن هذا الكلام ينبئ عن نقص علم وقصور فهم أو تجاهل منه بالأمر الواقع، فإن مخالفة بعض العلماء لبعض اختياراته هو من الأمر الواقع بالعيان، والمشاهد بالحس والوجدان في زماننا هذا وفي سالف الأزمان، إذ لم ينقل عن أحد من العلماء أنه قال بوجوب العمل بكل اختيارات شيخ الإسلام؛ لأن الناس في اختياراته على أقسام، منهم من يعرض عنها ويسير مع قافلة فقهاء مذهبه ولا يعرج على غيره، يلقط لفظ الفقهاء كلما لفظوا، ويتبع ظلهم أينما انبعثوا، وهؤلاء هم المقلدون، والمقلد المحض ليس معدودًا من أهل العلم، ومنهم من يأخذ ببعض اختياراته ويعرض عن بعض، على حسب ما يترجح في نفسه بمقتضى الدليل والبرهان، يبحث عن الحق في أي مذهب يجده، فإذا وجده اعتنقه؛ لاعتبار أن الحق ضالته المنشودة وغايته المقصودة، فهؤلاء هم المستضيؤون بنور العلم والتحقيق، واللاجئون من الدين إلى ركن وثيق.

وبالجملة فإن اختيارات شيخ الإسلام هي رحمة عامة ونعمة واسعة تتمشى على طريقة الشريعة السمحة السهلة التي ليست بحرج ولا أغلال، يؤيد كل قول بدليله مع بيان صحيحه من عليله، فمن أراد الله به الخير حبب إليه شيخ الإسلام وابن القيم والنظر في كتبهما، وإنما قلت: بأن العلماء قد أعرضوا عن بعض اختيارات شيخ الإسلام، لما تبين لهم أن الراجح خلافها، إنما أريد بذلك الأمر الواقع بالعيان وفي بعض البلدان والذي لا يختلف فيه اثنان. فمن ذلك الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، فبعض العلماء يجعله عن طلقة واحدة، عملاً بالسنة والقرآن، وتمشيًا مع اختيارات شيخ الإسلام، وبعض العلماء يجعله طلاقًا بائنًا، يفرّق به بين المرء وزوجه، كما هو المعمول به الآن في بعض البلدان. ومنها: إن الحلف بالطلاق بالثلاث إذا حنث يجعله بعض العلماء يمينًا مكفرة وليس بطلاق، عملاً باختيارات شيخ الإسلام، وبعض العلماء يجعله طلاقًا إن كان بلفظ الواحدة فواحدة أو بلفظ الثلاث فثلاث، خلافًا لاختيارات شيخ الإسلام، ومنها: إن شيخ الإسلام يرى عدم وقوع الطلاق في الحيض لحرمته، مستدلًّا على ذلك بقوله: ﴿إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]، وبحديث ابن عمر في الصحيحين، وخالفه أكثر العلماء وقالوا بصحة وقوع الطلاق ولزومه مع الحرمة، ومنها: إن المختلعة من زوجها ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة واحدة، أي اختيارات شيخ الإسلام، وخالفه كثير من الفقهاء، فأوجبوا عليها عدة الطلاق، أي ثلاث حيض ممن تحيض، ومنها: إن المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، كالقارن على السواء أي اختيارات شيخ الإسلام، وخالفه بعض الفقهاء فقالوا: يجب عليه طواف للعمرة وسعي للعمرة وطواف للحج وسعي للحج. ومنها: إن شيخ الإسلام يرى جواز طواف فرض الحج للحائض والنفساء متى خافت فوات الحج بذهاب الرفقة ولا يمكنها التخلف عنهم فتستثفر بثوب ثم تطوف، ويتم بذلك حجها، وخالفه بعض الفقهاء في ذلك وقالوا: لا تطوف بالبيت حتى تطهر ولو فات عليها الحج. ومنها: إن شيخ الإسلام يرى جواز صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح ولا يضر عنده اختلاف النية بين الإمام والمأموم، وقد خالفه بعض الفقهاء فأوجبوا اتحاد النية بين الإمام والمأموم، فهم يمنعون من صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح، إلى غير ذلك من المسائل التي خالف فيها الفقهاء وهي تحقق ما قلنا من إعراض بعض العلماء عن بعض اختياراته، مع قطع النظر عن ترجيح أحد القولين، وهل كانوا مصيبين في خلافه أو هو المصيب، لكون هذا ليس من شأننا في هذا المقام. أما نحن فإننا نفضل العمل باختياراته في كثير من هذه المسائل، فنجعل الطلاق بالثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة، والحلف بالطلاق نجعله يمينًا مكفرة، وأن المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، لقول النبي ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[87]، نفتي بهذا ونحكم بصحته في دائرة عملنا لرجحانه عندنا بالدليل وإن كان غيرنا يرى أن الصحة في خلافه، وكل ما قلنا فإنه يحقق بطلان قول الشيخ إسماعيل، لكونه يتكلم غالبًا على سبيل الخرص والتخمين، بدون تحقق ولا يقين، كقوله: إنه ليس في اختيارات شيخ الإسلام ما يصح القول بأنه قد رفضه جميع العلماء.

وههنا ينبغي أن نختم الكلام بسؤال الشيخ إسماعيل ونقول: متى كنت تعتقد صحة حديث علي رضي الله عنه وأن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه، وأن الأضحية هي من القرابين التي يهدى ثوابها لرسول الله ﷺ بناء على صحة هذا الحديث، وأنه ليس في اختيارات شيخ الإسلام ما يصح القول: بأنه قد رفضه جميع العلماء؟ فما رأيك في قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- بأن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة. كما نقله ابن اللحام عنه في اختياراته، فعند ذلك يقف الشيخ إسماعيل بمفترق الطرق، لأنه يلزمه أحد أمرين: إما أن يقول إن الحديث صحيح، وفي هذا رد لكلام شيخ الإسلام والإعراض عما قاله، وإما أن يقول: إن الحديث غير صحيح وإن كلام شيخ الإسلام حق وإن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة، حيث لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه أهدى لرسول الله ثواب صلاته أو صيامه أو حجه أو ضحى عنه، وهذه هي خاتمة الأجوبة عن المدارك التي أدلى بها على رسالتنا، وكل عالم وعاقل فاهم، يدرك من مداركه بأنه يتكلم بغير علم وبدون فهم، وكأن غاية جهده ونهاية قصده هو التفوّه بمجرد هذا الرد، ليثبت به قدمه في محل عمله، وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده، والمقابلة بضده، والله عند لسان كل قائل وقلبه، نسأل الله سبحانه علمًا نافعًا مبرورًا، وعملاً خالصًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 12 ربيع الأول عام 1391هـ.

* * *

[79] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [80] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [81] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [82] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [83] أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس. [84] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر. [85] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أبي رافع. [86]متفق عليه من حديث أنس. [87] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس.

فائدة منقولة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

قال: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه؛ أحدها: إن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير، ثانيها: إن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها، وهو انتفاع بعمل الغير، ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير، رابعها: إن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك انتفاع بعمل الغير، خامسها: إن الله يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط، وذلك بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم، سادسها: إن أولاد المسلمين يدخلون الجنة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بعمل الغير، سابعها: قوله في قصة الغلامين اليتيمين: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]، فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما، ثامنها: إن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنّة والإجماع، وهو من عمل الغير، تاسعها: إن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة، وهو من عمل الغير، عاشرها: إن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير، الحادي عشر: المدين الذي امتنع النبي ﷺ من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة وانتفع بصلاة النبي، الثاني عشر: إن النبي ﷺ قال لمن صلى وحده: «أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ»[88]، فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير، الثالث عشر: إن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير، الرابع عشر: إن من عليه تبعات ومظالم إذا حُلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير، الخامس عشر: إن الجار الصالح ينفع في الحياة والممات، كما جاء في الأثر، السادس عشر: إن جليس أهل الذكر يرحم بهم وإن لم يكن منهم، السابع عشر: الصلاة على الميت والدعاء له، وفي ذلك انتفاع الميت بصلاة الحي عليه، وهو انتفاع بعمل الغير، الثامن عشر: إن الله قال لنبيه: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡ [الأنفال: 33] وقال: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251]، فقد رفع الله العذاب عن الناس بوجود النبي بينهم، وبدفع بعضهم عن بعض، التاسع عشر: إن صدقة الفطر تجب على الصغير ممن يمونه الشخص، العشرون: إن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لا يعمله ما لا يحصى. انتهى. من تفسير أبي السعود ومن تفسير صديق، والقاسمي على قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39].

* * *

[88] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري.

شرح الكلمات

إن شيخ الإسلام بكلامه هذا، قصد به الرد على أناس من المتفلسفة والصوفية، حيث زعموا أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، وأنه لا ينتفع بالدعاء ولا غيره، وبنوا من ذلك عقيدة تقتضي صرف الناس عن عبودية الدعاء، قائلين: إن الدعاء لا يجدي شيئًا فلا ينتفع به الداعي ولا المدعو له؛ لأن الذي تدعو به إن كان قد قدر لك بطريق القضاء والقدر، فإنه سيحصل، دعوت أو لم تدع، وإن لم يقدر لك بمشيئة الله وقدره، فإنه لن يحصل، دعوت أو لم تدع، فرد عليهم علماء أهل السنة في ذلك، منهم شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وغيرهم.

لكن لنعلم أن هذا الانتفاع الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو غير إهداء ثواب الأعمال، كما يعرف من كلامه؛ لأن إهداء ثواب الأعمال شيء وانتفاع الأموات بعمل الأحياء شيء آخر، ولا تلازم بينهما، من ذلك قوله في المادة الأولى: إن الإنسان ينتفع بدعاء غيره.. إلخ. وهذا حق ولم يأمر الله بالإكثار من الدعاء إلا لتحقق منفعته للحي والميت، غير أن الدعاء عبادة بين العبد وبين ربه، التي خلق الله الخلق لأجلها، بل هو مخ العبادة، وقال ربكم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60].

فسماه الله عبادة، وأخبر عن حالة الذين يستكبرون عن هذه العبادة أنهم سيدخلون جنهم داخرين صاغرين حقيرين ذليلين، وفي الآية الأخرى: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡ [الفرقان: 77] سواء حملناه على دعاء العبادة أو دعاء المسألة، فهو على كلا الحالين عبادة بين العبد وبين ربه، ولم يكن الداعي ليهدي ثواب دعائه إلى أحد، وإنما يدخر ثواب دعائه عند ربه، سواء استجيب له أو لم يستجب له، وإذا استجيب له لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجره، فانتفاع الميت بالدعاء هو بمثابة انتفاع الحي به عند استجابته، فليس فيه شيء من إهداء ثوابه، أما إهداء ثواب العمل، فهو أن يصلي مثلاً أو يصوم أو يحج أو يقرأ القرآن أو يدعو ربه ثم يهدي ثواب عمله إلى ميته، وهذا لم يكن معروفًا عن الصحابة والسلف الصالح، ولم يعنه شيخ الإسلام بكلامه هذا، وإنما أدخل الفقهاء الدعاء فيما يهدى إلى الميت، توسعًا، وإلا فإنه عبادة مستقلة بين العبد وربه، ولهذا ذكر ابن مفلح في المحرر عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قال: لم يكن من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك، ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف، فإنها أفضل وأكمل. انتهى.

المادة الثانية: قوله: إن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. وهذا ليس من إهداء ثواب الأعمال في شيء، ولكنه رحمة ومحبة من النبي ﷺ لأمته، حيث يشفع لهم عند الله، ليريحهم من موقف الحساب ويعجل أهل الجنة إلى الفوز بدخول الجنة.

ويؤكده المادة الثالثة، وهي: شفاعته لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع حصل لهم بشفاعة النبي ﷺ وليس بإهداء ثواب عمله.

والمادة الرابعة: كون الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض؛ لأن الله خلقهم للعبادة ومنها الدعاء والاستغفار لأنفسهم ولمن في الأرض، فهم يدعون ربهم ولا يهدون ثواب دعائهم، كما ذكرنا في دعاء المؤمنين.

المادة الخامسة: قوله: إن الله يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط، وذلك بمحض رحمة الله، وهذا انتفاع حصل لهم بفضل الله ورحمته وليس من إهداء ثواب الأعمال في شيء البتة.

المادة السادسة: إن أولاد المسلمين، يدخلون الجنة بعمل آبائهم، والآباء لم يهدوا ثواب أعمالهم لأبنائهم، على أنهم لم يعملوا شرًّا قط وحتى أولاد المشركين، قد ثبت في صحيح البخاري عن سمرة، أنهم «مع أولاد المسلمين». وقيل: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»[89].

المادة السابعة: قوله في قصة الغلامين ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]، فحفظ الله كنزهما لصلاح أبيهما؛ لأن الله شكور يحفظ الرجل الصالح في إيمانه وأعماله وفي أهله وعياله، كما في الحديث: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ»[90]، وقد روي: «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله»[91]، وكان سعيد بن المسيب يقول لابنه: إني أزيد في صلاتي رجاء أن أحفظ فيك، ثم يتلو: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]،

وأنشد بعضهم:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله
ويعديهم داء الفساد إذا فسد
ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه
ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
والحاصل أن هذا الأب الصالح لم يهد ثواب عمله وصلاحه لابنه، وإنما انتفع الابن ببركة صلاح أبيه ودعائه.

الثامنة: قوله: إن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهذا يؤيد ما ذكرنا، من كون شيخ الإسلام حكى الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت، كما حكاه النووي والقرطبي وابن كثير وابن العربي؛ لأن الكتاب والسنة يحثان على الصدقة وعلى التوسع فيها وقد جعلت كفارة للأيمان والظهار والوطء في رمضان، ولترك واجبات الحج أو فعل شيء من محظوراته، كل هذه شرعت للتوسع في الصدقة، لكونها من النفع المتعدي وتصادف من الفقراء موضع حاجة وشدة فاقة، وكذا عتق الرقبة من الرق.

التاسعة: قوله: إن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وهو من عمل الغير، وهذا صحيح؛ لأن الحج المفروض بالشرع أو بالنذر ملتحق بالديون الثابتة في الذمة ومتى قام أحد ولو أجنبيًّا بأداء هذا الواجب سقط عنه بصريح الحكم في الدنيا، لكن صرح ابن القيم في تهذيب السنن وفي الإعلام، أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان للعذر، وبدون العذر لا يجوز الإطعام ولا الصيام، فأما المفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانًا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات. انتهى.

والظاهر من مذهب مالك وأبي حنيفة أن الحج الواجب يسقط بموت الشخص إلا أن يوصي به.

العاشرة والحادية عشرة: قوله: إن الحج المنذور والصوم المنذور يسقط بعمل غيره، وإن المدين الذي امتنع النبي من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، فانتفع بصلاة النبي عليه، لأن هذه كلها من الديون الواجبة على الشخص في الدنيا قبلت قضاء الولي وغير الولي لها، وامتناع النبي عن الصلاة على المدين كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك فكان يصلي على كل مسلم من غير أن يسأل عن دينه ويقول من مات وعليه دين فعلي قضاؤه، فانتفاع الميت ببراءة ذمته من هذا الواجب هو أمر معلوم وليس من باب إهداء ثوابه، بل أجره لصاحبه، أشبه صدقته على الحي أو إبراءه من حقه كما في الحديث: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»[92].

الثانية عشرة: قول النبي ﷺ لمن صلى وحده: «أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ»[93] فحصل له فضل الجماعة بفعل الغير، وهذا أيضًا من الدليل على أنه لم يرد بالانتفاع مجرد إهداء ثواب الأعمال، وإنما أراد مجرد الانتفاع بعمل الغير من الحي أو الميت.

الثالثة عشرة: قوله: إن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه. وهذه البراءة تقدم الكلام عليها، وكونه يبرأ منها بطريق الحكم في الدنيا لكنه متى ماطله بحقه ومنعه من استيفائه طيلة الزمن وهو قادر على الأداء، فإن هذا المطل ظلم منه ويقع الحساب عند الله بينه وبين خصمه الذي منعه من أداء حقه والانتفاع به في الدنيا، أشبه من تعمد قتل مسلم بغير حق فاصطلح مع أوليائه بدفع الدية إليهم، فإن حق القتيل باق يطالب به خصمه عند الله ولا يزيله مجرد الحكم به في الدنيا من دعوى براءة القاتل من دم القتيل وبه يجاب عن الرابعة عشرة من قوله: إن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها أسقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. فإن البراءة الصادرة من صاحب الحق بطريق الرضى يبرأ بها الشخص، سواء كان حيًّا أو ميتًا، لكن متى أبرأ شخصًا من الأحياء من حقه، فإنه لا يقال إنه أهدى له ثواب عمله أو أجره، وكذلك الميت.

الخامسة عشرة: قوله: إن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات. وهذا صحيح، وقد قيل: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق، وقد علَّم النبي ﷺ قبر عثمان بن مظعون بحجر كبير وقال: «أدفن إليه من مات من أهلي»[94]، ولهذا استحب أهل السنة عزل قبور أهل الذمة عن قبور المسلمين.

السادسة عشرة: قوله: إن جليس أهل الذكر يرحم بهم وإن لم يكن منهم. وهذا الانتفاع صحيح وليس بإهداء ثواب الأعمال في شيء، وإنما حصل بفضل الله ورحمته بتنزل الملائكة والسكينة على أهل الذكر، وأن الله يذكرهم فيمن عنده فهم القوم لا يشقى بهم جليس وربما رحم معهم من ليس منهم، فهو انتفاع للأحياء من بعضهم لبعض وليس بإهداء ثواب الأعمال في شيء.

السابعة عشرة: قوله: الصلاة على الميت وانتفاعه بصلاة الحي عليه والدعاء له في الصلاة هو انتفاع بعمل الغير. فهذا العمل وهذا الانتفاع لا شك في مشروعيته وليس من باب إهداء ثواب الأعمال في شيء؛ لأن الصلاة على الميت هي من جنس مشروعية سائر الصلوات المشروعة، فيصلي المسلم على الميت، يحتسب ثواب صلاته لنفسه و يدعو لميته ولسائر الأحياء والأموات بالمغفرة والرحمة، فدعاء المسلم للميت مثل دعائه للحي على السواء؛ لأن الدعاء عبادة لله - عز وجل- بين العبد وبين ربه، وإذا استجيب دعاؤه لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له، وللداعي أجره وثوابه.

الثامنة عشرة: قوله: إن الله سبحانه قال لنبيه: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡ [الأنفال: 33]، وقال: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251] فقد رفع الله العذاب عن الناس بوجود النبي بينهم وببعضهم عن بعض، وهو انتفاع بعمل الغير، وهذا مما يدل على أنه لم يرد بهذا الانتفاع مجرد إهداء ثواب الأعمال، لكونه ليس من ذلك، وإنما هو انتفاع مجرد عن إهداء ثواب الأعمال وأن الله قد دفع العذاب عن الناس بوجود رسول الله بينهم، كما أنه يدفع العذاب ببعضهم عن بعض، كما روي: «إن الله ليدفع بالرجل الصالح عن مائة من أهل بيته من جيرانه البلاء»[95]، ثم إن دفع الناس عن بعض هو من الأمر الواقع المحسوس في الدنيا، يقول الله: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗا [الحج: 40].

التاسعة عشرة: قوله: إن صدقة الفطر تجب على الصغير ممن يمونه الشخص. يريد بهذا أن صدقة الفطر زكاة تزكي الشخص وتنميه وتنزل البركة فيه وهي ليس من عمله بنفسه، بل من عمل الغير، وقد انتفع بعمل الغير ويؤيده قوله في تمام العشرين: إن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون، للمعنى الذي ذكرنا في زكاة الفطر. قال: ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لا يعمله ما لا يكاد يحصى. انتهى. وأن هذا الانتفاع يحصل بين الناس وأن بعضهم ينفع بعضًا في دنياه وآخرته، كما أن بعضهم يضر بعضًا في دنياه وآخرته، وأن هذا الانتفاع وهذا الضرر هو خارج عن إهداء ثواب الأعمال كما يظنه بعض من غلط فيه من المفسرين وغيرهم؛ لأن الظاهر من شيخ الإسلام أنه لا يرى إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى، كما نقل ذلك ابن مفلح في شرح المحرر من آخر كتابه: ذكر الشيخ تقي الدين بأنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنها أفضل وأكمل. اهـ.

ونقل ابن اللحام في الاختيارات منه مثل هذا الكلام، فقال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صاموا تطوعًا أوصلوا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل. ولعل هذا هو المحقق من رأيه؛ لأنه لا يمكن أن يدعو الناس إلى العمل به ثم يخالفهم إلى القول بخلافه، وقد قيل: إن ابن مفلح وابن اللحام هما أعرف الناس باختيارات شيخ الإسلام والله أعلم.

* * *

[89] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [90] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [91] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي. [92] أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت. [93] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. [94] أخرجه أبو داود مرسلا من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب. [95] أخرجه ابن عساكر في معجمه من حديث ابن عمر.

(3) سنة الرسول ﷺ شقيقة القرآن

مقدمة الرسالة

نحمد الله سبحانه ونسأله التوفيق للإيمان والعمل بالقرآن والتمسك بسنة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

إن الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بسنة محمد عليه الصلاة والسلام كما أن التكذيب بسنة محمد عليه الصلاة والسلام تستلزم التكذيب بالقرآن، إذ هما وحيان شقيقان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

قولوا: آمنا بالله وما جاء من الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وما جاء عن رسول الله على مراد الله.

فالإيمان بالقرآن يرجع إلى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بسنة رسول الله يرجع إلى تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله هو طاعة الرسول فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع. ومن قال: أنا لا أؤمن إلا بالسنة العملية. فهو ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ [النساء: 150].

فمن قال: أنا لا أؤمن ولا أعمل إلا بالقرآن. فهو بمثابة من يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله ولا أشهد أن محمدًا رسول الله. فلا شك في بطلان شهادته؛ لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، يقول الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠ [النساء: 80]. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّه [النساء: 64]. وكذلك من يعص الرسول فقد عصى الله.

ولما ادعى أناس محبة الله مع تخلفهم عن متابعة رسول الله أنزل الله عليهم آية المحبة لبيان حقيقة المحبة، فقال سبحانه: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ [آل‌عمران: 31].
تعصـي الإله وأنت تزعم حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لـمن يحب مطيع
فمتى تخلت الأمّة عن متابعة الرسول وطاعته والانقياد والتسليم لما جاء به مع دعواها لمحبته، فلا شك أن هذه دعوى كاذبة باطلة بالحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. يقول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥ [النساء: 65].
من قال قولا غيره قمنا على
أقواله بالسبر والميزان
إن وافقت قول الرسول وحكمه
فعلى الرؤوس تشال كالتيجان
أو خالفت هذا رددناها على
من قالها من كان من إنسان
أو أشكلت عنا توقفنا ولم
نجزم بلا علم ولا برهان
هذا الذي أدى إليه علمنا
وبه ندين الله كل أوان[96] المؤلف

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ونعوذ بالله من فتن الضالين المضلين[97].

أما بعد:

فقد قال الله سبحانه: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل‌عمران: 164]. وفي سورة الجمعة: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٤ [الجمعة: 2-4].

فقد امتن الله سبحانه على عباده المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [التوبة: 128]. فهدى الناس من الضلالة وبصرهم من الجهالة.

ثم أخبر سبحانه عن هذا الدين الذي فضل الله به الأميين من أصحاب محمد، أنه ليس مختصًّا بهم، بل هو لهم ولكل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة فقال: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡ [الجمعة: 3] ممن تبع رسول الله وتمسك بسنته، كما روى الترمذي من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أم أَمْ آخِرُهُ». غير أن للصحابة الميزة السامية والمنزلة العالية بسبقهم إلى النبي ﷺ وملازمة صحبته، لا يدانيهم فيها غيرهم، كما في الصحيحين من حديث عمران، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، لَا أَدْرِي أَذَكَرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا».

وقال: «دعوا لي أَصْحَابِى فَوَالَّذِى نَفْس محمد بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»[98].

والأميون هم العرب، أطلقت عليهم هذه التسمية لعدم معرفتهم بالقراءة والكتابة نسبة إلى الأم، وقد سمّى الله نبيه محمدًا أُميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، فقال سبحانه: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ [الأعراف: 156-157].

فأميّة الرسول هي معجزة من معجزات نبوته، كما قيل: كفاك بالعلم في الأمي معجزة. وليست من سنته، فقد حارب الأمية بنشر العلوم والكتابة بين أصحابه، ولأن أول سورة نزلت من القرآن هي سورة التعليم بالقلم.

وإنما خصه الله بالأميّة صيانة للوحي الذي جاء به حتى لا تتطرق إليه الأوهام الكاذبة والظنون الباطلة، فيقولون: كتبه من كتاب كذا. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ [العنكبوت: 48].

وهذه البعثة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين هي بداية نزول الوحي عليه بغار حراء، حين أنزل الله عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5].

فهذه البعثة هي أفضل من زمن المولد، لكونه ولد كما يولد الناس، وعاش أربعين سنة كسائر قريش، ولهذا قال في معرض الاحتجاج على قومه: ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦ [يونس: 16]، ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ أي القرآنية ويفسرها لهم ويسألونه عما أشكل عليهم منها.

قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن. فهم يتلقون عنه العلم والعمل[99].

وكانت عامة مجالس النبي ﷺ إنما هي مجالس علم وتعليم، إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، كما أمره الله في كتابه بأن يقص ويعظ ويذكر وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولهذا سمّاه الله بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ، أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل التي أعلاها الشرك فما دونه؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتطهرها وتنشر في العالمين فخر ذكرها ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10].
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فكن طالبًا للنفس أعلى المراتب
ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ [الجمعة: 2]، فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة، فكان رسول الله ﷺ يعلمهم السنة كما يعلمهم القرآن، كما قال سبحانه في زوجات نبيّه: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ [الأحزاب: 34]، فكان الصحابة يتعلمون من رسول الله القرآن والسنة معًا، ويتناوبون ملازمته لئلا يفوتهم شيء من علمه، وكان يقول: «إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا»[100] «فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ»[101]، قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١ [البقرة: 151].

[96] من نونية العلامة ابن القيم. [97] هذه خطبة للإمام أحمد في رده على الجهمية. [98] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك. [99] أخرجه البيهقي في سننه، وشعب الإيمان عن ابن مسعود. [100] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو. [101] ورد في كشف الخفاء أنه من الموضوعات وليس بحديث.

نشأة النبي ﷺ يتيمًا أميًّا

هذا مع ما ثبت بالتواتر أن النبي ﷺ نشأ يتيمًا في حجر أبي طالب، كأحد أولاده وليس في مكة مدارس ولا كتب، حتى فاجأه الحق ونزل عليه الوحي، والله يعلم حيث يجعل رسالته. فكان ينزل عليه القرآن تدريجيًّا شيئًا بعد شيء حتى نزلت عليه سورة الأنعام بجملتها وهي جزء كامل، فقام حافظًا لها ولسائر القرآن بدون أن ينسى شيئًا منه، لأن الله وعده بحفظه، فقال سبحانه: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦ [الأعلى: 6]، وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي يحرك شفتيه بالقراءة خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ [القيامة: 16]- أي: بحفظه - ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 17]. أي: علينا أن نجمعه لك في صدرك وتقرأه - ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ [القيامة: 18]- أي: أوحيناه - ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ - أي: فاستمع له وأنصت - ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩ [القيامة: 19]- أي: أن تحفظه ولا تنسى شيئًا منه. فكان رسول الله بعد ذلك إذا نزل عليه جبريل أنصت وإذا أقلع عنه قرأه.

ثم أخبر النبي ﷺ عن حقيقة هذا العلم الذي جاء به والذي أوحاه الله إليه، وأن الناس يتفاوتون في فهمه وحمله والعمل به، فقال فيما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري. قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ».

وهذا مثل مطابق للواقع من أحوال الناس مع هذا الوحي والهدى النازل عليهم، وأن هذا التفاوت في حمل العلم وفهمه واستنباطه هو أمر واقع بين الصحابة فمن بعدهم، وأن الصحابة يتفاوتون في حمل الحديث وحفظه واستنباطه، وقد وصفوا ابن عباس بالأرض الطيبة التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فحمل أحاديث كثيرة ثم فرعها واستنبط منها الفقه في الأحكام وأمور الحلال والحرام، فكان آية في معرفة الاستنباط، ومثله عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

ومشهور الأرض الثانية التي أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا فشبهوها بأبي هريرة، فقد حمل علمًا كثيرًا عن النبي ﷺ فصرف جهده إلى التحفظ على ما عنده خشية أن ينساه، فكان يدرس الحديث وقد أوصاه النبي ﷺ بأن يوتر قبل أن ينام من أجله، لكنه لم يشتغل في استنباط ما عنده من العلم وله أشباه كأنس وأبي سعيد الخدري. والمكثرون من الصحابة سبعة، ولا يسمى مكثرًا إلا إذا حمل عن النبي ﷺ ألف حديث فما فوق وهم: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبو هريرة وأنس وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، قال الشاعر:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن المختار خير مضـر
أبو هريرة سعد جابر أنس
صدّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وأن هذه الأوصاف تنطبق على من بعدهم من أهل العلم وحملة الحديث، وأن منهم العالم العامل بعلمه والذي يدعو إلى دين ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم يتوسعون في استنباط المعاني والأحكام بفقه وفهم. ومنهم عليم اللسان الذي يحمل العلم ولا يعمل به ولا يتوسعون في معرفة فقهه وأحكامه وغاية علمهم هو الجمود على ما يقوله أئمتهم وعلماء مذهبهم، وقد شبهوه بالمصباح الذي يضيء للناس ويحرق نفسه.

والطائفة الأخرى: هي الجاهل الجافي الذي لا علم عنده ولا عمل، وقد شبهه بالأرض السبخة التي لا يزيدها المطر إلا ضررًا.

والحاصل أن رسول الله ﷺ يعلم أصحابه السنة، كما يعلمهم القرآن، لكون السنة تفسر القرآن وتبينه، فأفضل التفاسير هو من يفسر القرآن بالقرآن وبالسنة، كتفسير ابن جرير وابن كثير؛ لأن الله سبحانه قال: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] من سورة النحل. وقال: ﴿وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٤ [النحل: 64] من سورة النحل، قال عمر بن الخطاب: إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنة، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. فالسنة هي التي تفسر القرآن كما قيل:
فهو المفسر للقران وإنما
نطق النبي لنا به عن ربّه
فالقرآن وحي مجمل والسنة وحي مفصّل ولا غنى لأحدهما عن الآخر، كما قيل:
وحي بتفصيل ووحي مجمل
تفسيره ذاك ووحيٌ ثاني
وعن المقدام بن معد يكرب الكندي، أن رسول الله ﷺ قال: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِى فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» رواه الترمذي وابن ماجه.

وفي راوية: «أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».

ومن حديث العرباض بن سارية أنه قال: «وعظنا رسول الله مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، ومنها قوله: َعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»» رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.

* * *

فصل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ١مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ٢ [النجم: 1-2].

يقول الله سبحانه: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤ [النجم: 2-4]. قال ابن كثير في التفسير على قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢: هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول ﷺ بأنه راشد تابع للحق ليس بضال وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنزه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤، أي إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفورًا من غير زيادة ولا نقصان. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه عن رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله وإنه بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا الْحَقُّ»[102].

وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «مَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ»[103] وعنه أيضًا قال رسول الله ﷺ: «لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»[104]. قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: «إِنِّي لَا أَقُول إِلَّا حَقًّا». انتهى. من تفسير ابن كثير.

ثم إن الله سبحانه توعد نبيّه بأنه لو كذب عليه بادعاء شيء نزل عليه ولم ينزل عليه لأذاقه العذاب الأليم، فقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ [الحاقة: 44-45]، لأنها أشد بطشًا، ﴿ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ [الحاقة: 46] وهو نياط القلب ﴿فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ ٤٧ [الحاقة: 44-47] وحاشا نبيّه أن يكذب على ربه أو يكتم شيئًا من وحيه.

وقال تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ [آل‌عمران: 64]، وقال: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ [الأحزاب: 34]. قال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة. لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سنته ﷺ.

وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن.

ثم إن الله سبحانه اختار لحمل هذا الدين وتبليغه من هم أفضل الخلق على الإطلاق بعد نبيهم، أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، وأصدقهم لهجة وأمانة، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، ثم وهبهم قوة الحفظ والإتقان، فيبلغون الناس ما سمعوه من نبيهم بدون زيادة ولا نقصان، كما روى ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وصححه.

وعن جبير بن مطعم، قال: سمعت رسول الله ﷺ بالخيف من منى يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ، تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ». رواه أحمد وابن ماجه والطبراني.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا جاءه أحد بحديث لم يسمعه كلفه إثباته بإحضار البينة التي تشهد له بصحة ما سمعه وإلا أوجعه ضربًا من شدة حرصهم على حفظ السنة، فمن ذلك ما روى البخاري في صحيحه، أن أبا موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس استأذن على عمر فلم يؤذن له فانصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي ﷺ يقول: «إِنِ اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ». فقال عمر: لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا، فذهب إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر. فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري، فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنها الصفق بالأسواق.

وهذا نوع من تحفظهم بالسنة وحمايتها عن أن يزاد فيها أو ينقص منها، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ولهذا امتنع بعض الصحابة عن التحدث عن رسول الله خشية أن يزيد في الحديث حرفًا أو ينقص حرفًا، كما ثبت عن عبد الله بن الزبير أنه قال لأبيه الزبير: يا أبت مالك لا تحدث عن رسول الله ﷺ كما يحدث عنه فلان وفلان؟ فقال: يا بني إني لم أفارق رسول الله في جاهلية ولا إسلام، ولكن أخشى أن أزيد عليه في الحديث حرفًا أو أنقص حرفًا فأكون مستوجبًا للوعيد في الكذب عليه. والذي جعل الزبير وأمثاله يتورعون عن الحديث عن رسول الله ﷺ لاتهامهم حفظهم عن ضبط ما سمعوه من أجل ما رواه ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.

ثم إن الله سبحانه حفظ سنة نبيّه بما يحفظ به كتابه وذلك بعناية العلماء الحفّاظ والجهابذة النقّاد الذين سخرهم الله لبذل مهجهم وجهودهم وجهادهم في تنقيح أحاديث رسول الله وعنايتهم بتصحيحها وتمحيصها وبيان ضعيفها وصحيحها، فكانت هي صنعتهم مدة حياتهم حتى حذقوا فيها وصاروا كصاغة الذهب يعرفون الخالص من المشوب؛ لأن من تردد في علم شيء أعطي حكمته وكانوا يسألون عن الرجال قبل سؤالهم عن الحديث، ويقولون: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق.

فمتى ذكر المحدث بسوء الفهم أو النسيان أو عدم الثقة والإتقان تركوا الحديث عنه.

وعلى كل حال، فإنها لم تعن أُمّة من الأمم بحفظ حديثها ونصوص أصول دينها أشد من اعتناء علماء المسلمين في سلسلة إسنادهم، حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول رب العالمين، فمتى غلط المحدث فأخطأ فهمه أو زل قدمه قالوا له: اثبت وانظر ما تقول، فهذا السند الذي اعتنى به أئمة الحديث في أمانة التبليغ هو من خصائص هذه الأمّة لا يشاركهم فيه غيرهم من سائر الأمم كما قيل:
قد خصت الأمّة بالإسناد
وهو من الدين بلا ترداد
ثم إن السنة تدور على قول الرسول وفعل الرسول وإقرار الرسول. وقول الرسول مقدم على فعله لاحتمال أن يكون الفعل من خصائصه، إذ الرسول منزه عن الخطأ فيما يبلغه عن ربه.

فمن قال: لا أقبل أو لا أصدق إلا بفعل الرسول، فليس مؤمنًا بالرسول ولا بما جاء به، والنبي ﷺ قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»[105] وقال: ««كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ أَبَى». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى»»[106].

ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله تستلزم طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع.

يقول الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36] ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51]،

ثم ليعلم أن الله سبحانه قد نصب لعباده في الدنيا حكمًا عدلاً يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع وهو الكتاب والسنة.

يقول الله: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النساء: 59]. واتفق العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته فهما نظام شريعة الإسلام، وفيهما حل مشاكل سائر الناس من كل ما يتنازعون فيه من صغير وكبير ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83].

لأن الله سبحانه لم يوجب الرد إليهما عند التنازع إلا وفيهما الكفاءة لحل جميع المشاكل.

ثم إن القرآن لا غناء له عن السنة التي تبيّنه وتفسره وتوضح ما أشكل منه. كما أنه لا غنى للسنة عن القرآن فهما وحيان شقيقان، ولما نزل قوله سبحانه: ﴿مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ [النساء: 123] فزع أصحاب رسول الله وقالوا: هلكنا، إن كان كل من عمل منا سوءًا جزي به. فقال رسول الله ﷺ: «ألستم تحزنون، أليس يصيبكم اللأواء والمرض؟ قالوا: بلى. قال: فذاك»[107] يشير بهذا إلى أن ما يصيب المسلم من الهم والحزن والمرض حتى الشوكة يشاكها فإنه يكفر بها من خطاياه، وأن هذا هو من الجزاء الذي وعدوا به. ومثله قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ [الأنعام: 82] ففزع الصحابة من ذلك وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم رسول الله: «إنه الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ [لقمان: 13]».[108]. والذي يقول بالاكتفاء بالقرآن عن السنة هو لا يعرف القرآن ولا يعرف السنة ويحاول الحط من السنة ليتوصل به إلى الحط من قدر القرآن، فإن من تجاهل سنة رسول الله وحاول الطعن فيها بالاكتفاء عنها، فإن من لوازم قوله الطعن في القرآن والتكذيب به.

* * *

[102] أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو. [103] أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة. [104] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [105] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عبد الله بن عمرو. [106] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [107] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر. [108] أخرجه أبو عوانة من حديث عبد الله بن مسعود.

حاجة البشر الضرورية إلى العلم بالسنة والعمل بأحكامها وحلالها وحرامها

وإذا أردت أن تعرف قدر منزلة السنة من القرآن ومن الشريعة، وأن الناس في حاجتهم إلى السنة وحكمها وتنظيمها وحلالها وحرامها هو بمثابة حاجتهم للقرآن.

فمن ذلك أن الله سبحانه فرض الصلاة على عباده المؤمنين كتابًا موقوتًا، أي مفروضة في الأوقات، وأمر سبحانه في كتابه بإقامة الصلاة وبالمحافظة على الصلاة وباستدامة فعل الصلاة، فمن أين نجد في القرآن أن صلاة الظهر أربع ركعات بعد زوال الشمس، وأن صلاة العصر أربع ركعات إذا صار ظل كل شيء مثله، وأن صلاة المغرب وتر النهار ثلاث ركعات بعد غروب الشمس إلى أن يغيب الشفق، وأن صلاة العشاء أربع ركعات بعد غيبوبة الشفق إلى نصف الليل، وأن صلاة الفجر ركعتان، وهل يوجد هذا التفصيل بهذا التفسير إلا في السنة المطهرة، ومن ذلك أن الله سبحانه قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ [النساء: 101]، فكأن إباحة القصر مشروطة بخوف الفتنة، وقد قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: ما هذا القصر وقد أُمنَّا. فقال عمر: لقد عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك. فقال: «هُوَ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[109]. فمن أين نجد هذه الصدقة من القرآن؟.

ومثله الزكاة، فقد أوجبها الله حتى على من كان قبلنا، ومدح في كتابه من آتى الزكاة فيما يزيد على مائة آية، لكنها مطلقة غير مفصلة لا بنصاب ولا جنس، وإنما السنة بينت أنصبة الزكاة والجنس الزكوي الذي تجب فيه الزكاة، فبينت أن في النقود والتجارة ربع العشر مع بيان نصاب كل جنس من الذهب والفضة، وبينت أنصبة الحبوب والتمور، وأن ما سقي بكلفة ومؤنة ففيه نصف العشر، وما سقي بالسّيح أو المطر ففيه العشر، وفي الركاز الخمس ومثله التفصيل في زكاة الإبل والغنم. فمن أين نجد في القرآن مثل هذا التفصيل والبيان؟!

ومثله البيع، فقد أحل الله البيع وحرّم الربا، وليس كل بيع حلالاً، فقد حرّمت السنة أشياء من البيوع كبيع الربا وبيع الخمر وبيع لحم الخنزير وبيع الغرر والغش والخداع وبيع الأصنام، ومنها الصور المجسمة إلى غير ذلك من الميتة وبيع البيوع المحرمة. وكما جاءت السنة أيضًا بإثبات خيار المجلس بين المتبايعين، كما في البخاري عن حكيم بن حزام، أن النبي ﷺ قال: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وهذا يسمى خيار المجلس حتى لو سلم الثمن واستلم المشتري السلعة، فإن لكل واحد منهما الخيار ما داما في المجلس وإن طال، فمن أين نجد هذا التفصيل في القرآن متى عدلنا عن السنة أو استغنينا عنها بالقرآن؟!.

ثم إن الله حرّم أكل الميتة، فقال سبحانه: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ [المائدة: 3] فجاءت السنة المطهرة فأباحت للناس ميتتين ودمين وهما السمك والجراد والطحال والكبد.

ومن ذلك أن الله سبحانه حرّم الخمر في كتابه المبين على الإطلاق بدون تفصيل، فجاءت السنة فحرّمت كل ما أسكر كثيره. فقليله حرام، وهو خمر من أي شيء كان.

وكل مسكر خمر وكل خمر حرام من أي شيء كان حتى لو وجد عين ماء شرب منها سكر لحكمنا بكونها خمرًا اعتبارًا بالميزان الشرعي.

ومن ذلك أن الله سبحانه أوجب قطع يد السارق، بقوله سبحانه: ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨ [المائدة: 38]. فجاءت السنة الثابتة من حديث رافع بن خديج، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ». رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان. فأثبتت السنة العفو عن سارق الثمر والكثر وهو جمار النخل. وكما جاءت السنة أيضًا بقوله ﷺ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»[110] وبقوله: «ادفعوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[111] فبالله قل لي: من أين نجد هذه الأحكام من كتاب الله وفي أي سورة نجدها لولا أن السنة هي التي تفصل القرآن وتفسره وتعبر عنه وتبين ما سكت عنه.

ومن ذلك أن الله سبحانه أباح للناس الزينة فقال سبحانه: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِ [الأعراف: 32] فجاءت السنة فحرّمت الذهب قليله وكثيره على الرجال، كما في الحديث: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَم»[112].

ولما رأى النبي ﷺ خاتم ذهب بيد رجل فطرحه بالأرض غضبًا على صاحبه، فقال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَار فيضعها في أصبعه»[113]، فلما انصرف النبي ﷺ قيل لصاحب الخاتم: خذ خاتمك وانتفع به. قال: لا والله لا أرفعه عن الأرض وقد طرحه رسول الله فيها. من شدة استجابته للحق.

ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145]. فجاءت السنة فحرّمت كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، أي الذي يصيد بنابه، كالكلب والسبع والذي يصيد بمخلبه كالصقر، وكما حرّمت السنة أكل الحمر الأهلية ولم توجد هذه كلها في القرآن.

وفي القرآن المنزل: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: 11] فجاءت السنة فمنعت الإرث بين الوالدين والأولاد مع اختلاف الدين، فقال: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ»[114]. وكما أن القاتل لا يرث من قتله، ثم إن الله سبحانه قال في كتابه من بعد قسمه للمواريث فقال: ﴿مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖ [النساء: 12] فجاءت السنة فحكمت ببداءة الدين قبل الوصية، كما حكمت بأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وهذه إنما توجد في السنة لا في القرآن، ثم إن رجلا أعتق ستة مماليك له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فجزأهم النبي ﷺ أثلاثًا، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولاً شديدًا، فدل دلالة قطعية على أن المريض محجور عليه فيما زاد على الثلث، فمن أين نجد هذا في القرآن لو لم نرجع في تفصيلها إلى السنة؟! ولولا السنة لاستحللنا أشياء مما حرّم الله علينا.

ولهذا قال بعض السلف: إن السنة تقضي على القرآن وتعبر عنه وتبين ما سكت عنه، ومن ذلك أن الله سبحانه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَ‍ٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَ‍ٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ [النساء: 92] فأطلق هذه الدية ولم يقيّدها بجنس ولا صفة ولا عدد، فجاءت السنة ففصّلتها وفسرتها بالإبل وبالذهب والفضة.

ومثله قوله ﷺ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وهذا الحديث يشتمل على قاعدة عظيمة من قواعد علم الفرائض وقسم التركات. فهو مع اختصار لفظه وجزالة معناه قد جمع علم الفرائض مما اختص رسول الله ببيانه من كل ما أجمل أو أبهم في القرآن مما لا يستطيع أحد إحاطة العلم بمدلوله عن طريق القرآن وحده.

* * *

[109] رواه مسلم وأهل السنن. [110] أخرجه الترمذي والبيهقي في الكبرى من حديث عائشة. بلفظ «ما استطعتم». [111] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [112] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري. [113] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ: «فيجعلها في يده». [114]متفق عليه من حديث أسامة بن زيد.

القواعد الأصولية المستفادة عن طريق السنة النبوية

إن من الغباوة والحمق دعوى الاكتفاء بالقرآن عن السنة ومحاولة عزل السنة القولية عن العمل، ومن المعلوم من دين الإسلام ومن إجماع علماء السلف الكرام أن السنة هي شقيقة القرآن، فهي الوحي الثاني لقوله سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ٤ [النجم: 3-4].

فالسنة تُفسِّرُ القرآن وتفصّل ما أجمله وتأتي بما سكت عنه، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]. فمن حاول أن يتصدى لتفسير القرآن أو تأليف أي كتاب من العلوم الشرعية مع عزمه على عزل السنة النبوية وعدم احتياجه لها، فهذا بلا شك أخرق وأحمق، أشبه من يقتحم لجة البحر وليس بماهر في السباحة، فهذا مما لاشك في غرقه؛ لأن بعض الناس لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذاك مائق فاتركوه.
تصدر للتأليف كل مهوس
جهول يسمى بالفقيه المدرس
وحق لأهل العلم أن يتمثلوا
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كُلاها وحتى سامها كلّ مفلس
وسنورد من القواعد الأصولية ما عسى ألّا تجدها إلا في السنة النبوية.

* * *

القواعد الأصولية الواصلة إلى الناس عن طريق السنة النبوية

إن أكثر القواعد والعقائد والأصول إنما استفادها العلماء والحكماء عن طريق السنة النبوية، حتى قيل: إن حاجة الناس للعلم بالسنة والعمل بها أشد من القرآن. مع العلم أن القرآن هو الأصل، فمن ذلك قوله ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وهذا الحديث رواه البخاري عن عمر. وقد اعتمده الفقهاء من إحدى القواعد التي عليها مدار صحة الأعمال وفسادها وهي خمس قواعد، أحدها: الضرر يزال، والثانية: العادة محكّمة، والثالثة: المشقة تجلب التيسير، والرابعة: الشك لا يرفع اليقين، والخامسة: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». إذ مدار الأعمال الصالحة على إخلاص العمل وصوابه، ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ».

فهذه الأركان التي بني عليها الإسلام ذكرت مفرقة في القرآن بدون ذكر البناء، ومن غير السهل حفظ العوام لها مفرقة. وقد سبكها رسول الله ﷺ بانسجام حسن لتكون عقيدة العلماء والعوام وللخاص والعام، ولن توجد بهذه الصفة في غير السنة حتى صارت عقيدة وطريقة لسائر الموحدين السلفيين يحفظها العوام فضلا عن العلماء الأعلام. ومنها قوله ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ» فهذا الحديث مبني على الإخلاص والمتابعة لكون العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا على نهج السنة، فإنه مردود على فاعله.

إذ إن من واجب الإيمان برسول الله - عليه الصلاة والسلام - هو طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، إذ لا مدخل للعقول والآراء في عبادة الله- عز وجل- لكون العبادة هي ما أتى به الشارع حكمًا من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وهي مبنية على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع. يقول الله سبحانه: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر: 4].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم بعقولنا حكمته، ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ [الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل فليس في الحقيقة مؤمنًا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به.

فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم وجود الرسول وإخباره. وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده. انتهى.

ومنها قوله ﷺ في حديث بريرة: «كل شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» رواه البخاري من حديث عائشة.

ومنها ما رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: «قُلْتُ لِعَلِىٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ قَالَ لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ قُلْتُ فَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عليّ بلفظ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، وصححه الحاكم. فأخبر النبي ﷺ أن الإسلام يساوي بين الناس في دمائهم ودياتهم، فيجعل دية المقعد الأعمى والأصم بمثابة دية الشاب السوي القوي إذ النفس بالنفس والجروح قصاص. ثم قال: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، فأيما رجل آجر رجلاً أو رجالاً في ذمته، فحرام على المسلمين أن يخفروا ذمته حتى ولو كان المجير امرأة، كما قال النبي ﷺ: «قد أَجرْنا من أجَرْتِ يا أم هانئ»[115].

وأما قوله: «وهم يد على من سواهم»، فمعناه: أنه متى بغى عدو على طائفة أو أهل بلد من المسلمين، فإن الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره، إذ المؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولو ذهبنا نتتبع النصوص والأصول المستفادة عن طريق السنة لخرج بنا الاستطراد من موضوع ما عزمنا عليه من الاختصار والاقتصار.

وحتى الحيوان فقد جاءت السنة بمشروعية رحمته والرفق به والإحسان إليه؛ ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم من حديث أبي يعلى شداد بن أوس. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: ««بينا كلب يدور على بئر يلهث عطشًا إذ نزعت له امرأة بغي موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها». فقالوا: يا رسول الله أولنا في البهائم أجر؟ فقال: «نعم، إن في كل كبد رطبة لأجرًا». وقال: «دخلت النار امرأة في هرّة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت»»[116]، ونهى أن تتخذ ذات روح غرضًا[117] - أي هدفًا- للرمي، كما لعن من وسم دابة في وجهها[118].

فهذه النصوص تستفاد من السنة، ولو ذهبنا نتتبع أمثال ذلك لخرج بنا عن موضوع الاختصار والاقتصار.

والحاصل أن من ادعى الاكتفاء بالقرآن عن السنة فإنه ليس مؤمنًا بالقرآن ولا بالسنة، لكون التكذيب بأحدهما مستلزمًا للتكذيب بالآخر، فيكون ممن قال الله فيهم: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا١٥١ [النساء: 150-151].

[115] متفق عليه من حديث أم هانئ. [116] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [117] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [118] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث جابر.

السنة التي ندعو إلى الإيمان بها والحكم بموجبها

إن من الواجب على كل مسلم متابعة الرسول في المعقول والمنقول؛ لأن الرسول ﷺ قد بيّن للناس بطريق التلقين والتعليم جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم. قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١ [البقرة: 151].

فأخبر سبحانه أنه أرسل رسولاً منهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، يتلو عليهم آياته القرآنية ويلقنهم حفظها، ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن[119]. ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيكُمۡ، أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتشرفها وتنشر في العالمين فخرها، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.

ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ، فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنّة، فكان رسول الله ﷺ يعلم أصحابه الكتاب والسنّة. ويقول: «إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا»[120]. ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ من كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم.

فالرسول بيّن للناس جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الله لم يرسل رسولاً إلا ليطاع بإذن الله، يقول الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠ [النساء: 80].

ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله هي طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع، فمن واجب المؤمن أن يعرف حقيقة ما أخبر به رسول الله، وأنه الحق لكونه لا يقول إلا حقًّا، وأن من عصى الرسول فقد عصى الله.

فمن واجب أهل العلم والإيمان التسليم والقبول لما جاء به الرسول من صحيح المنقول، إذ الحكمة في بعث الرسل هو طاعتهم فيما أمروا واجتناب ما عنه نهوا وزجروا، وسواء أدركوا معرفة ذلك بعقولهم أو لم يدركوه.

ثم إن السنّة التي ندعو إلى الإيمان بها والعمل بموجبها، هي السنة الثابتة عن النبي ﷺ بنقل الثقات الأثبات عند أهل المعرفة والعلم بالحديث، الذين يميزون بين الصحيح والضعيف، فهم يعرفون رجال الحديث وصحته كما يعرفون أبناءهم.

ولسنا نعني ما في بطون الكتب من التفاسير وكتب الفقه والترغيب والترهيب ونحوها، فإن في هذه الكتب الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة مما يتبرأ منها الإسلام، وليست من كلام محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وقد تصدى لهذه الأحاديث علماء نقّاد فأخرجوها عن حيز الاعتبار بما يسمى كتب الموضوعات.

فمن واجب أهل العلم بالله ألّا يتجرؤوا على الاستشهاد والاحتجاج بالحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وصحته، إذ إن كتب الفقه المتداولة بأيدي الناس من شتى المذاهب مشحونة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، ينقلها بعضهم عن بعض.

وعلى كل حال، فإن كل من تصدّى للقضاء أو التفسير أو التأليف في الفقه أو في غيره من سائر العلوم الشرعية، فإنه لن يستغني عن الاستعانة بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية، إذ هي من الأمر الضروري ولن يتم أمره بدونها، إذ هي بمثابة المصابيح التي يهتدى بها.

وكلما كان الشخص عالما بالسنة ومتوسعًا في حفظها وفهمها، فإنه سيكون أقدر وأجدر على معرفة تفسير القرآن واستنباط المعاني والأحكام ممن هو جاهل بها ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧ [النحل: 17].

إن أكثر ما أبعد ضُلَّال المسلمين من علماء الكلام قديمًا وحديثًا عن الدين، هو بعدهم عن السنة وضعف نصيبهم منها، فحكموا عقولهم وآراءهم في القول على الله وتحريف كلام الله وصفاته حتى وصفوا الرب بالجمادات، فأنكروا كلام الله وأنكروا صفاته بطريق تحريفها وصرفها عن المعنى المراد منها. فقالوا: القرآن مخلوق والله لا يتكلم. وقالوا: إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، ووجه الله عظمته، ويده قدرته، ونزوله نزول أمره، والاستواء على العرش بالاستيلاء، وأنكروا رؤيته في الآخرة. وغير ذلك من تحريف الكلم إلى غير المعنى المراد منه.

وهذه التحريفات إنما حدثت بعد انقضاء عصر الصحابة الذين تلقوا معاني التنزيل من الرسول -عليه أفضل الصلاة والتسليم- فكانوا أعلم الناس بالتأويل ولم يقع منهم تحريف للصفات بصرفها عن غير المعنى المراد بها، وبعد انقضاء عصر التابعين انقسم العلماء فريقين: فريق يقال لهم علماء السنة، وفريق يقال لهم علماء الكلام. فأهل السنة وقفوا مع القرآن، فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه من الصفات بدون تشبيه ولا تعطيل ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ [الشورى: 11] وقالوا: إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين. وقد قال في شرح العقيدة الطحاوية[121]:

كيف يتكلم في أُصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان وعلماء الكلام؟! ومن زعم أنه يأخذه من كتاب الله وهو لا يتلقى تفسيره من كتاب الله ولا من أحاديث رسول الله، ولا ينظر فيما قاله الصحابة فإنه يعد خاطئًا خارجًا عن حدود الحق. فإن المنقول إلينا من السنة عن الثقات الذين تخيرهم النقاد: أنهم لم ينقلوا إلينا نظم القرآن وحده فقط، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل كانوا يتعلمونه بمعانيه، وكل من لا يسلك سبيلهم في العلم والتعلم والعمل، فإنما يتكلم برأيه وهواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.

والحاصل: إن من يتكلم برأيه وبما يظنه من دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة، فإنه مأثوم وإن أصاب، وإن أخذه من الكتاب والسنة، فإنه مأجور وإن أخطأ. انتهى.

فالواجب على المسلمين جميعًا وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وإقامة التشريع عليهما، فإن هذا هو الضمان لهم والكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞ [فصلت: 44] وحتى لا يرجعوا القهقرى ضلالاً كما حذرهم رسول الله من ذلك بقوله: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ». رواه مالك بلاغًا والحاكم موصولا بإسناد حسن.

* * *

[119] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو. [120] أخرجه البيهقي في سننه وشعب الإيمان عن ابن مسعود. [121] ص 312 من الطبعة الرابعة.

ضلال القائلين بالاستغناء بالقرآن عن السنة

إنه من المعلوم بطريق العقل والنقل أنه لا غنى للناس عن السنة أبدًا، إذ هي المصدر الثاني في التشريع، وأن دعوة الناس إلى الاستغناء بالقرآن عن السنة هي دعوة إلحادية حاولوا بها الحط من شطر الدين وتفسير ما أجمل أو أُبهم في القرآن، ليتمكنوا بذلك من الحط من الشطر الثاني- أي القرآن الحكيم- حتى يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ [محمد: 12].

وقد قال عمر بن عبد العزيز: إن رسول الله ﷺ قد سنّ سننًا؛ الأخذُ بها اعتصام بكتاب الله وقوة في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي ومن استنصر بها فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.

فالرسول ﷺ كان يبين للناس ما نزل إليهم من القرآن بمقتضى أقواله وأفعاله وتقريراته، ويقول: «ما تركت من شيء يقرّبكم من الجنة إلا أخبرتكم به، ولا شيء يباعدكم عن النار إلا حذرتكم عنه»[122].

وعن عمران بن حصين، أنه قال لرجل يريد أن يقتصر على القرآن دون السنة، فقال له: إنك امرؤ أحمق، أتجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة حتى عد عليه الصلاة والزكاة ونحوها، ثم قال: إن كتاب الله أبهم أشياء كثيرة من نوع ذلك، وإن السنة تفسر ذلك[123].

ولقد سئل أبو بكر عن ميراث جدّة أُم الأب مع الأب، فقال: ما لك في كتاب الله من شيء، ولكني أسأل الناس. فسأل الصحابة فشهد المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي ﷺ أعطاها السدس فأمضاه أبو بكر. وأراد عمر أن يفاوت بين الأصابع في الدية حتى شهد عنده بعض الصحابة أن رسول الله ﷺ قال: «الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ سواء كُلّ أُصْبُع عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ»[124] فأمضاها.

ولم يكن ليعلم أن المرأة ترث من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن فيروز الديلمي وكان أميرًا لرسول الله على بعض البوادي، فكتب إلى عمر يخبره أن رسول الله ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

ولم يكن ليعلم حكم الشرع في أخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بقول النبي ﷺ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»[125]، ولم يكن عثمان بن عفان رضي الله عنه يعلم أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت زوجها أطول الأجلين، حتى أخبرته الرُّبيع بنت مالك أُخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي عنها زوجها، وأن رسول الله ﷺ أمرها أن تمكث في بيت زوجها حتى يبلغ الكتاب أجله فأخذ بها عثمان وأمضاها.

إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت بها السنة ولم تكن مذكورة في القرآن، فلما أُخبروا بها سمعوا وانقادوا وقالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا [البقرة: 285] ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠ [النساء: 80].

وحتى خبر الواحد العدل يفيد العلم اليقيني بأدلة كثيرة عند جماهير العلماء من الأولين والآخرين، وهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمّة بالقبول عملاً به أو تصديقًا له، كخبر عمر بن الخطاب: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[126]، وكخبر ابن عمر: نهى رسول الله عن بيع الولاء وهبته[127]، وقد أنهى العلامة ابن القيم صحة قبول خبر الواحد إلى عشرين وجهًا[128]، كلها تثبت صحة قبول خبر الواحد متى توفرت أسباب الصحة فيه كغيره.

* * *

[122] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عبد الله بن مسعود. [123] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عمران بن حصين. [124] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [125] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف. [126] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [127] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [128] في صفحة 394- ج2 من الصواعق المرسلة.

الضرورة الملحة في حاجة الناس إلى العمل بالسنة

إنه مما لا شك فيه أن السنة علم واسع يتعلق بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم ومعادهم وجهادهم وبيعهم وشرائهم وما يلتحق بذلك من الإيجار والعارية والهبة والوقف والصلح والنكاح والطلاق. فالرسول ﷺ يتحدث عن إصلاح المجتمع وعن عوامل الهدم التي تعمل عملها على تقويض دعائمه، وعن عوامل البناء التي تعمل على إقامته على قواعده السليمة، ويتحدث عن النظم التي ينبغي أن تسود المجتمع الإنساني، وعن الأوضاع التي يجب أن تستقيم وعن الأعمال التي يجب أن تجتنب.

وللسنة جو لغوي، فالرسول ﷺ قد أُوتي جوامع الكلم، وكلامه ﷺ أبلغ الكلام البشري، ونشر السنة عامل من أهم العوامل على ترقية اللغة التي يكتب بها الكُتّاب وعلى وضع الناشئين والمثقفين في وضع أدبي ممتاز، من حيث اللغة ومن حيث الأسلوب، كقوله: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»[129].

وللسنة أدبها الواسع في تهذيب النفس وتربية الروح وسمو الأخلاق إلى درجة لا تجارى، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡ [الأنفال: 24] فعلمنا أن الحياة الحقيقية هي في اتباع ما جاء به الرسول، فأهلها هم أحياء وإن كانوا في القبور، كما أن الإعراض عما جاء به الرسول هو الموت وإن كان صاحبه يمشي على الأرض، عما قيل:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
يعد من الأحياء وهو عديم
ومن أجل ذلك كله كان نشر السنة واجبًا دينيًّا وعملاً اجتماعيًّا وواجبًا وطنيًّا حتميًّا وإصلاحًا أخلاقيًّا. وهو على كل حال ضرورة ملحة في عصر تحاول فيه الرذيلة أن تطغى على الفضيلة، ويحاول الانحلال الخلقي أن يعم كل أُسرة وفي كل بيت، ويحاول الفساد أن يأتي على مقدسات الأمّة ومقوماتها من كل عرض وشرف وكرامة.

لقد أحب الله للإنسانية مثالاً أخلاقيًّا كريمًا رسمه سبحانه في القرآن الكريم قولاً، فكان الرسول ﷺ الصورة التطبيقية الكاملة للرسم الإلهي، وكان بذلك الإنسان الكامل. يقول الله في حق نبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤ [القلم: 4].

لقد كان رسول الله المثل الأعلى في الرحمة والمثل الأعلى في الصبر، والمجاهد الأكبر والمثل الأعلى في الصدق وفي الإخلاص وفي الوفاء وفي البر وفي الكرم. ولا ريب في أن الأمة الإسلامية حينما تقتدي بالرسول ﷺ إنما تقتدي بأعظم البشر رجولة وإنسانية، وتقتدي بمن أحب الله سبحانه أن يُقتدى به: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١ [الأحزاب: 21].

وإن العمل على نشر السّنة إنما هو توجيه للاقتداء بالرسول ﷺ وقد سمى الله السنة في كتابه باسم الحكمة، لقوله سبحانه: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ [البقرة: 151] لكونها تفسر بإصابة الحق في القول والعمل. وأن الدعوة إلى ترك السنة اكتفاء بالقرآن الكريم دعوى باطلة، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من هذا الضلال، فروى الحاكم في مستدركه، أن رسول الله ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ».

وروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».

وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله ﷺ: «أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، ألا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّه».

وعن حسان بن عطية، أنه قال: «كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِىِّ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وعن مكحول قال: قال رسول الله: «آتاكم الله القرآن ومن الحكمة مثليه»» أخرجهما أبو داود في مراسيله.

وقيل لمطرّف بن عبد الله بن الشّخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن - يعني النبي ﷺ - وإن سنته شرح للقرآن.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَقَالَتْ: يا أبا عبد الرحمن، بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ؟ فقَالَتْ المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأتِيهِ فقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأتِ: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر: 7].. قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسولُ اللهِ »[130]. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

19 جمادى الآخرة 1399هـ.

* * *

[129] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي ذر. [130] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.

(4) حجر ثمود ليس حجرًا محجورًا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، ونصلي ونسلم على رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد:

فقد وقع الإشكال المستلزم للسؤال عن حجر ثمود، وهذا الإشكال في أمور هي:

[الاشكالات الأربع المتعلقة بحجر ثمود]

المشكلة الأولى: هل يصح السكنى في الحجر وديار ثمود، وما يستلزم السكنى من الحرث والزرع والعمران كسائر بلدان الحضارة؟ وهل نزل النبي ﷺ فيه عام غزوة تبوك، أم لم ينزل فيه؟.

المشكلة الثانية: نهيه عن الدخول في مساكنهم؛ هل هو للكراهة أو للتحريم؟ وما سبب النهي؟.

المشكلة الثالثة: هل يصح الشرب من آبار الحجر، سواء كان من بئر الناقة أو غيرها؟ وهل يصح الوضوء به أيضًا؟ وما حكمة اختصاص الشرب من بئر الناقة، ونهيه عن غيرها؟ وكيف أمر الصحابة بأن يعلفوا دوابهم بما عجنوا بمائه ولا يأكلوه؟.

المشكلة الرابعة: هل تصح الصلاة في أرض الحجر أو لا تصح؟ وهل ثبت فيها نهي أم لا؟.

وسنورد الأجوبة على هذه الأسئلة عن طريق الدرس والنشر المرتب، إن شاء الله.

* * *

الحِـجْر

هو بكسر الحاء وإسكان الجيم، يطلق على معان عديدة، منها: العقل. كما قال تعالى: ﴿هَلۡ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٞ لِّذِي حِجۡرٍ ٥ [الفجر: 5]، أي لذي عقل، سمي العقل حجرًا لكونه يحجر صاحبه عن المحارم وارتكاب المآثم، كما سمي عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده: أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على أفعال الطاعات والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، ويطلق الحجر ويراد به: الحرام. ومنه قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ حِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا [الفرقان: 22] أي حرامًا محرمًا، ويطلق ويراد به: حجر ثمود. كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ [الحجر: 80].

وحجر ثمود يقع في وادي القرى بين المدينة والشام، وهو داخل في حدود المملكة العربية السعودية وقد مر به النبي ﷺ عام غزوة تبوك، ومدائن صالح معروفة ومشهورة بهذا الاسم إلى اليوم، وكانت قبيلة ثمود يدينون بعبادة الأوثان، فوعظهم نبي الله صالح عليه السلام بأن يتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده فعصوا وعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وكانوا قد طلبوا من نبيهم آية تصدق نبوته والتزموا أن يطيعوه ويتبعوه وقالوا: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة كالمعجزة آمنا بك وصدقناك، فدعا ربه فأخرج الله لهم من تلك الصخرة ناقة، فقال: ﴿هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ [الأعراف: 73].

وهذه الناقة هي غاية في النعمة لكنها نهاية في حلول العقاب بهم والنقمة، ولهذا ورد النهي عن سؤال الآيات لما روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا تَسْأَلُوا الآيَاتِ وَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا فَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْماً وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْماً فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ» إسناده صحيح ولم يخرجوه، كانت هذه الناقة إذا وردت شربت الماء وملأت كل ما عندهم من الأواني والقدور من لبنها، ثم تسرح وتعزب، ويكون لهم ورد الماء في اليوم الثاني، فيأخذون منه قدر كفايتهم في حال غيبتها عنهم، فظلوا في سعة رغد ورخاء.

وكانت الناقة تصيف إذا جاء الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي، على حسب ما قيل: كأنه من أجل عظم خلقها، فسئموا منها فانبعث أشقاهم فعقرها، يقول الله تعالى: ﴿وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَآ إِنَّ عَادٗا كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّعَادٖ قَوۡمِ هُودٖ ٦٠ ۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ ٦١ قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ ٦٢ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَةٗ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِيرٖ ٦٣ وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ ٦٤ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ ٦٥ فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٦٧ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ ٦٨ [هود: 60-68]. أعاد سبحانه وأبدى من ذكر قصة ثمود لتأكيد أمرها والتذكير بشأنها لتكون بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره، يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ١٧ وَنَجَّيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ١٨ [فصلت: 17-18].

ويظهر من صريح القرآن أن ثمود أهل حضارة عريقة في الترف، وأن لهم قصورًا في سهل الأرض ومساكن في الجبال يسكنونها في وقت الحر، وأن بلدهم خصبة وغنية بالماء والزراعة وبالنخيل الباسقة وبالحدائق والبساتين الشيقة، ولهذا ذكرهم نبيهم بهذه النعمة وأمرهم بالتحفظ عليها باستدامة شكرها، والاستعانة بها على عبادة الله وحده، وترك الشرك به، فقال تعالى: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ١٤٦ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ١٤٧ وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ١٤٨ وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا فَٰرِهِينَ١٤٩ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ١٥٠ وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ١٥١ ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ١٥٢ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِينَ١٥٣ مَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا فَأۡتِ بِ‍َٔايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ١٥٤ [الشعراء: 146-154]، فمن هذه الآيات وأشباهها يتبين ما هم فيه من طيب طبيعة أرضهم قبل حلول العقاب بهم وأنهم في جنات، أي بساتين تجن الداخل فيها من اشتباك أشجارها، ولا تسمى جنة إلا إذا كانت بهذه الصفة، وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، وهذه الأوصاف الجميلة لا تكون إلا في البلاد النجيبة، فأرضهم قابلة للزرع والنخل والسكنى والعمران، غنية بالفواكه والخيرات والأقوات من كل ما يعدونه من باب الضروريات، وإنما حصل التخلف منها وعدم الرغبة في سكناها وحرثها من أجل رواج هذه الفكرة التي تمنع من استيطانها وشرب مائها والوضوء به والصلاة في أرضها، ومن المعلوم أن فشو هذا الاعتقاد من لوازمه التباعد عن مثل هذه البلاد لتعارض المانع للمقتضى، مع العلم أنه لا يزال مسكونًا إلى حد الآن، كما سيأتي بيانه فيما يلي.

المشكلة الأولى: استيطان حجر ثمود، وهل هو جائز أو محظور؟

ثبت في صحيح البخاري من كتاب الأنبياء قال: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لمّا مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ». ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. ثم قال: حدثنا محمد بن مسكين أبو الحسن، حدثنا يحى بن حسان بن حيان أبو زكرياء، حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألّا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء. قال: ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس، أن النبي ﷺ أمر بإلقاء الطعام. وفي حديث ابن عمر: أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. انتهى من البخاري.

فهذا الباب بمجموع الروايات التي ساقها فيه هي أصح وأكمل ما ورد في القضية، ففيه إثبات نزول النبي ﷺ بالحجر والنهي عن الدخول في مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، وفيه أمره لهم بعدم الشرب والاستقاء من الآبار إلا من بئر الناقة وأمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وموضع الاستدلال من الحديث هو إثبات كون النبي ﷺ نزل بأصحابه الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط كما يظن بعض الناس لَمَا نزل النبي ﷺ فيه بأصحابه، وإذًا لأوجب الله على نبيه صالح والمؤمنين معه بأن يهاجروا عنه، فإثبات نزول النبي ﷺ فيه بأصحابه واستقرار نبي الله صالح والمؤمنين فيه، يتبين بهذين الدليلين صحة السكنى فيه بدليل الكتاب والسنة بدون كراهة لاعتبار أن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها الله لعباده وبسطها لهم لاستقرارهم عليها وانتفاعهم بها وتمتعهم بخيراتها وأنواع ثمراتها، وأودع فيها الماء والمرعى وجميع ما يحتاج إليه الأنام والأنعام: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ [سبأ: 15]. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦ [الملك: 15]، فهي موهوبة لهم من الله بقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا [البقرة: 29]V فلم يستثن في هذا العطاء أرضًا دون أرض ولا شيئًا منها محجورًا ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا [الإسراء: 20].

فأرض الحجر هي من بعض هذه الأراضي التي خلقها الله وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنبت فيها من كل شيء موزون وكل زوج بهيج وكل زوج كريم وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع النضيد، فجميع الأرض وجميع ما خلق الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والعيون والمعادن الجامدة والسيالة وجميع ما أنبته الله فيها من النخل والزرع والشجر وسائر الثمرات والنباتات التي يستخرج منها الأغذية والأدوية والأدهان والألبان، كله من نعم الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ودفع المضار وما لهم فيه من الاستدلال والاعتبار على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ ١٩ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ ٢٠ [الحجر: 19-20]. فأرض الحجر هي من جنس هذه الأرض التي أعدها الله لإثبات ما ذكر، وقد أخبر الله أنه أنجى نبيه صالحًا والمؤمنين معه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦ [هود: 66].

وأنهم بعد إنجائهم لم يؤمروا بالخروج من بلادهم الحجر، بل بقوا فيها كحالتهم السابقة يبنون ويغرسون ويزرعون ويأكلون من ثمرها ويشربون من مائها ويتمتعون بخيراتها على سبيل الإباحة المطلقة كحالتهم السابقة شاكرين لنعمة ربهم الذي نصرهم على عدوهم وأورثهم ديارهم وأموالهم، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن المؤمنين زمن صالح سكنوا في هذه البلاد غير محجور عليهم في شيء من مطاعمها ومشاربها، فإنها تكون مباحة الانتفاع والسكنى لمن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم ترد شريعتنا بنسخه ولم يثبت عن رسول الله ما يدل على النهي عن سكناها، بل قد ثبت ما يدل على إباحة السكنى بها، حيث نزل بها رسول الله ﷺ بأصحابه في غزوة تبوك وأقام بها ما شاء الله أن يقيم إلى حالة أنهم عجنوا العجين لطعامهم، ومن المعلوم أن المسافرين لا يصيرون إلى عجن العجين إلا بعد مضي وقت من نزولهم، ويدل لذلك ما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله ﷺ بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي تشرب منها ثمود فعجنوا أو نصبوا القدور باللحم فأمرهم رسول الله فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: «إني أخشى أن يصيبكم ما أصابهم». قال ابن كثير: وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين ولم يخرجاه.

وترجم له البخاري فقال: باب نزول النبي بالحجر. فنزول رسول الله ﷺ فيه بأصحابه دليل على إباحة نزوله إلى يوم القيامة، كما أثبت الله في كتابه استقرار المؤمنين فيه زمن نبي الله صالح فاتفق الكتاب والسنة على إباحة سائر الانتفاع به من الاستيطان والغرس والزرع كسائر بلاد الله ليست حجرًا محجورًا، بل عطاء ربك ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا [الإسراء: 20]. فكما أن الله سبحانه أنجى المؤمنين من شؤم السخط النازل على ثمود، فكذلك ينجي الله أرضهم وماءهم فلا يصل إليهما شيء من شؤم هذا الشر، ولا تتغير حالتهما عن الإباحة الأصلية المطلقة، فإن جميع أرض الله طولها وعرضها، ومشارقها ومغاربها مباحة الانتفاع غير محجور على أحد فيها، لقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا [البقرة: 29] ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦ [الملك: 15]. ولن تجد في أرض الله بقعة يقال إنها محجورة الانتفاع والسكنى بطريق الشرع إلا أن تكون بطبيعتها غير قابلة للانتفاع، كأراضي الثلوج والرمال الغليظة والسباخي ونحوها، كما أنك لن تجد في الدنيا ماء باقيًا على خلقته التي خلقه الله عليها، ثم هو ممنوع الاستعمال في الطهارة أبدًا.

والشبهة التي حصلت لدى بعض العلماء في القول بمنع سكنى الحجر هي مأخوذة من حديث ابن عمر كما رواه البخاري، قال: لمّا مرّ رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. انتهى.

فالقول بمرور رسول الله بالحجر لا ينفي نزوله به، فإنه يقال مرّ في سفره ببلد كذا وكذا وإن كان نزل بها يومًا أو يومين، وهذا مشهور في خطاب الناس، وحتى ابن حجر في شرحه للبخاري لمّا أتى على هذا الحديث في ترجمة باب الصلاة في أرض الخسف، ثم ساق الحديث بسنده، ثم قال: وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولية، أي أنها تمنع من ذلك، ثم قال: وسيأتي أنه ﷺ لم ينزل فيه البتة، ووقع له في غزوة تبوك عند شرحه لهذا الحديث حينما أتى على قوله، ثم قنع رسول الله رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.

قال: فدل على أنه لم ينزل ولم يصل هناك.. انتهى.

لكنه لمّا استبحر في شرح الكتاب ووصل فيه إلى كتاب الأنبياء، حيث ترجم البخاري فيه: باب نزول النبي ﷺ بالحجر، ثم ساق حديث ابن عمر المستوفى مع التوابع له، فعند ذلك تبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ نزل بالحجر، فبعد شرحه لحديث ابن عمر المستوفى قال: وزعم بعضهم أنه مرّ بالحجر ولم ينزل به ويرده التصريح في حديث ابن عمر هذا. انتهى. فسبحان من لا ينام ولا يسهو، فقد استدرك ابن حجر غلطه وقرر ثبات نزول النبي ﷺ بالحجر بعد نفيه له.

فهذه الشبهة التي راجت على الحافظ ابن حجر قد راجت على كثير من العلماء، حيث قالوا بمنع السكنى به لظنهم أن رسول الله ﷺ مرّ بالحجر مسرعًا ولم ينزل به، لكون البخاري قد ذكر هذا الحديث في ثلاثة مواضع من كتابه، فذكره في كتاب الصلاة، ثم ذكره في الغزوات ثم ذكره مبسوطًا مع المتابعات في كتاب الأنبياء على قوله: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗا [هود: 61] وترجم عليه فقال: باب نزول النبي بالحجر.

وذكر ابن إسحاق وابن جرير نزوله، وهو دليل واضح على جواز الاستيطان به، إذ لو كان نزوله والسكنى به محظورًا على أمته لما حل به.

وأما تقنيعه لرأسه وإسراعه في سيره حتى أجاز الوادي، فإنه لا يدل على أمر ولا نهي مما يتعلق بالقضية، غير أن رسول الله ﷺ عند رؤيته لبلد هؤلاء المعذبين استشعر الخشوع والخشية؛ لأن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وقد زالت شبهة الاستدلال بها بثبات نزوله في الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط لتباعد عنه النبي ﷺ ولحذر منه أمته، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، كما أخبر الله عن المؤمنين زمن نبي الله صالح أنه أنجاهم من هذا العذاب، وبقوا في أرضهم كحالتهم السابقة ولم يؤمروا بأن يهاجروا عنها، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦ [هود: 66] فاتفق الكتاب والسنة على إباحة الاستيطان بالحجر كسائر بلدان الحضارة، ولم يثبت عن الله ورسوله ما يقتضي النهي عن ذلك.

ثم إن دين الإسلام بمقتضى نصوصه وأصوله يمنع من تعطيل مثل هذه الأرض عن الانتفاع بها؛ لأن الله سبحانه لم يخلق الأرض عبثًا وإنما خلقها للانتفاع بها، فالحكم عليها بعدم سكناها وعمارتها هو حكم بجعلها بمثابة السوائب المعطلة عن الانتفاع والتي حرّمها الإسلام من أجله، فقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ [المائدة: 103] فالبَحيرة: هي ابنة السائبة يشقون أذنها ثم يسيبونها، والسائبة: هي الناقة التي تسيّب في الجاهلية لنذر ونحوه، والوَصيلة: هي التي تلد عددًا من التوائم الإناث ثم يسيبونها، والحامي: هو الفحل من الإبل يضرب ضرابًا معدودًا أو عشرة أبطن ثم هو حامٍ، أي يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع منه بشيء. فهذه هي السوائب فلا تحلب ولا تركب ولا يقص وبرها ولا يؤكل لحمها ولا ينتفع منها بشيء، وإنما حرّمها الله لخروجها عن سنة الله في خلقه، فإنما خلقها للانتفاع الشامل قال تعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ ٧١ وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ ٧٢ وَلَهُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٧٣ [يس: 71-73]. وقد رأى النبي ﷺ عمرو بن لحي، يجر قُصْبه[131] في النار، لأنه أول من سيّب السوائب[132].

فالحكم على أرض الحجر بالمنع من الاستيطان والانتفاع هو حكم عليها بجعلها سائبة، ثم هو حكم بضياع ماليتها، فإنها أرض مال، بل كل المال يستخرج منها، وكان النبي ﷺ يقول لأصحابه: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ» حرصًا منه على حراثة الأرض لما يترتب عليها من شمول النفع للعباد والبلاد، كما حث على الغرس والزرع لما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إلى يوم القيامة».

وروى البخاري ومسلم عن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ».

وروى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ بنى بنيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ»، بل قد ورد في مسند الإمام أحمد، أن النبي ﷺ قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا»، فهذه الأحاديث وما في معناها هي غاية في حفز الهمم وتنشيط الأمم وبسط الأيدي على الحرث والعمل؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكدح، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، يحب المؤمن المحترف ويبغض الفارغ البطال.
المسلم الحق يصلي فرضه
ويحمل الفأس ويسقي أرضه
يجمع بين الشغل والعبادة
ليكفل الله له السعادة
والقرآن الكريم مملوء بنشر فضائل الأرض وشمول نفعها وما أودع الله فيها، كله خرج مخرج التشويق والتنشيط والترغيب في حراثتها والأكل مما رزقهم منها، قال تعالى: ﴿وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ ٣٣ وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ ٣٤ لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٣٥ [يس: 33-35].

وقال: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ١٤١ [الأنعام: 141].

وكل ما مدحه الله في كتابه وعلى لسان نبيه أو شوّق إليه وحسنه، فإنه من الدين لكون الدين شاملاً لجميع مصالح الدنيا والآخرة، وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس مرفوعًا، قال: «طلب الحلال جهاد» وأن الله يحب العبد المؤمن المحترف، وروى الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «طَلَبُ الْحَلالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ».

وقد عد العلماء الفلاحة من فروض الكفاية متى أهملتها الأمة ولم يقم من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليها كانت كلها عاصية مخالفة لدينه وشرعه.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأنه لا حرث إلا بأرض طيبة، ولا أرض إلا بأيدٍ عاملة، ولا يتفق هذا كله إلا في بلد حضارة، ومن المعلوم أن أرض الحجر قابلة للماء والنماء وصالحة للعمل والعمران، كما صرح بأوصافها القرآن في قوله حاكيًا عن نبيه صالح أنه قال في موعظة قومه: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ ١٤٦ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ١٤٧ وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ ١٤٨ [الشعراء: 146-148] وهذه الأوصاف الجميلة لا تتفق إلا في الأرض النجيبة، فهي وإن تخلفت هذه الأوصاف عنها لعدم الرغبة في سكناها وحرثها، فإن الله على رجعها لقادر، وإذا تأملت البقاع وجدتها تسقى كما تسقى النفوس وتسعد.

ولم نجد في كتاب الله ولا سنة رسوله آية ولا حديثًا يمنع من سكناها والعمل في أرضها ما عدا نهي النبي ﷺ عن شرب الماء من آبارها لا من بئر الناقة، وهذا النهي يترجح تعلقه بالصحة والوقاية عن المياه الفاسدة الضارة، ولا يحتمل المعنى غيره؛ لأن حمله على أمر معلوم السبب أولى من حمله على أمر غير معقول المعنى مما يسمونه خلاف القياس، كما بينا ذلك في موضعه، والله أعلم.

* * *

[131] القصب: الأمعاء. [132] متفق عليه بنحوه من حديث أبي هريرة.

المشكِلة الثانيَة: نهى النبي ﷺ عن دخول مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين

أما نهي النبي ﷺ عن دخول مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، فإن له سببًا؛ وذلك أن الله سبحانه قد أوجب على المؤمنين إذا كانوا مع رسول الله في أمر جامع بألَّا يذهبوا حتى يستأذنوه، وهؤلاء لمّا نزلوا الحجر نفروا إلى النظر في مساكن المعذبين بدون استئذان وبصورة استعجال، نظيره قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗا [الجمعة: 11] وليس كلهم انفضوا وكأن رسول الله ﷺ قد أحس منهم شيئًا من عزوب الخشوع والخشية في ذلك المقام وهي أول بلد من بلدان المعذبين، طرقها رسول الله وأصحابه، ولهذا أمرهم بالاجتماع فوعظهم وقال لهم هذا الكلام، كما روى الإمام أحمد عن أبي كبشة الأنماري عن أبيه، قال: لمّا كان غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنودي في الناس: الصلاة جامعة. قال: فأتيت رسول الله وهو ممسك بعيره وهو يقول: «مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟!»، فناداه رجل فقال: نعجب منهم. فقال: «أَفَلَا أُنْبِئْكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنْبِئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا».

يؤيده أن رسول الله ﷺ أحسّ من بعض أصحابه بالتثاقل عن هذه الغزوة والكراهية للشخوص نحو هذه الوجهة لكونه أمر بها في زمن عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأحب الناس المقام في بلادهم وكرهوا الشخوص عنها على هذه الحال، ومن أجل هذه الأسباب أحب أن يغرس في قلوب أصحابه تعظيم أمر الله ورسوله ووجوب طاعته ولزوم الخشية والخوف من مخالفة أمره ومعصية رسوله.

قال في فتح الباري: ووجه هذه الخشية هو أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء في اختيار أولئك للكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهاله لهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه عليهم، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فاستحبوا العمى على الهدى، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء فقد شابههم في إهمالهم، ودل فعله على قساوة قلبه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بأعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهى.

والمقصود أنه لا يوجد في الشرع بكاء واجب محمود، بل البكاء كله مذموم إلا البكاء من خشية الله والخشوع له، فإنه مستحب، وقد أثنى الله على الذين إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدًا وبكيًّا، فالبكاء الذي أمر به رسول الله ﷺ عند دخول مساكن هؤلاء المعذبين هو من جنس هذا البكاء المستحب، بحيث يثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه؛ لأن السنة لا تخالف القرآن أبدًا، وقد أمر الله بالسير في الأرض للنظر في مساكن المعذبين المكذبين للرسل وكيف حقت عليهم كلمة العذاب ببغيهم وطغيانهم قال تعالى: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٦٩ [النمل: 69]. وقال: ﴿أَوَ لَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٩ [الروم: 9].

بل إن السكنى في مساكن المعذبين مباح في كتابه المبين. ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٣ وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ١٤ [ابراهيم: 13-14].

فوعد الله رسله والمؤمنين بهم أن يسكنهم مساكن عدوهم ليتم بذلك انتصارهم عليهم؛ لأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين نظيره قوله: ﴿وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ ٤٥ [ابراهيم: 45].

فهذه الآية ليس فيها ذم السكنى في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وإنما فيها الدعاء إلى الاتعاظ والاعتبار بالذين ظلموا أنفسهم، فهو يقول: انظروا إلى عاقبة سوء أعمالهم، حيث سكنتم في مساكنهم وتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا فاعتبروا بهم واحذروا أن تقعوا في مثل أعمالهم فما هي من الظالمين ببعيد.

وقد أخبر الله عن فرعون وملئِه أن الله سبحانه أورث موسى وقومه ديارهم وأموالهم فقال تعالى: ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ٢٥ وَزُرُوعٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ ٢٦ وَنَعۡمَةٖ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ ٢٧ كَذَٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ ٢٨ [الدخان: 25-28]. أي أورثها الله موسى وقومه ومثله قوله في بني قريظة لمّا نقضوا عهد رسول الله، وظاهروا الأحزاب على حربه فأورث الله نبيه وأصحابه ديارهم وقصورهم قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٢٦ وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَ‍ُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٢٧ [الأحزاب: 26-27]،

فهذه الآيات وما في معناها تدل بطريق الوضوح على إباحة السكنى في مساكن المعذبين بلا كراهة، سواء في ذلك بلاد الحجر أو مدين أو غيرهما، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل والمؤمن لدى الحق أسير والله أعلم.

* * *

المشكِلة الثالثة: شرب ماء آبار الحجر والوضوء به

قال البخاري في صحيحه: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ أَبُو الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ حَيَّانَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَرضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا فَقَالُوا قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا، وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ. وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِى الشُّمُوسِ أَنَّ النَّبِىَّ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ». وفي حديث ابن عمر: «أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة».

أما ابن عمر، فإنه قد شهد القضية وحدث عنها بما سمع ورأى وهو أحد حفاظ الصحابة وهم سبعة: ابن عمر هذا، وأبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم ولا يعد حافظًا حتى يحفظ عن النبي ﷺ فوق ألف حديث، وقد نظمهم بعضهم، فقال:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن المختار خير مُضَر
أبو هريرة سعد جابر أنس
صِدِّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وقد ترجم البخاري على حديث ابن عمر هذا فقال: باب نزول النبي ﷺ بالحجر ثم ساقه بسنده، وموضع الإشكال هو نهيه عن الشرب من آبار ثمود إلا من بئر الناقة وأن يعلفوا الإبل العجين الذي عجنوه من مائها، ولم يحفظ عن النبي ﷺ من طريق صحيح علة هذا النهي.

وقد أخد الفقهاء بظاهره فقرر بعضهم في المختصرات الفقهية أنه لا يجوز الوضوء من آبار حجر ثمود إلا من بئر الناقة ولم يذكروا علة النهي.

كما أن الصحابة الذين نقلوا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي الشموس وأبي ذر وغيرهم، لم يذكر أحد منهم في حديثه أن رسول الله ﷺ نهى عن الوضوء به، وإنما ورد القول بالنهي عن الوضوء به من طريق ابن إسحاق وهو ضعيف عند أهل الحديث، وقد نقله ابن كثير في البداية والنهاية ص10- ج5 ولفظه: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله ﷺ: «لَا تَشْرَبُوا مِنْ مِيَاهِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا»، هكذا ذكره ابن إسحاق، بغير إسناد.. انتهى. ثم ذكر ابن كثير في موضع آخر ما نصه:

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي أو عن العباس بن سعد - الشك مني - أن رسول الله ﷺ حين مرّ بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها. فلما راحوا منها قال رسول الله للناس: «لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ إلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ»، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة؛ أحدهما خرج لحاجته فاختنق على مذهبه، والآخر خرج لطلب بعيره فاحتملته الريح فألقته بجبل طيىء وأهدته طيىء إلى رسول الله بتبوك.. انتهى.

فهذه القصة بهذا اللفظ لم يخرجها أحد من أهل الصحاح والسنن والمسانيد ولم يثبت القول بها عن أحد من الصحابة وابن إسحاق مع ضعفه، فإن حديثه هذا مرسل وهو لا يحتج بما وصله فما بالك بما أرسله، فإن العباس بن سهل تابعي وكذا العباس بن سعد، وقد شك فيمن حدثه منهما، ودلائل الوضع لائحة عليه من كل وجوهه، فإن هذا الرجل الذي يزعم أن الريح أطارته حتى رمت به على جبل طيء لم يثبت عن أحد من الصحابة القول به، ولو كان صحيحًا لاشتهر أمره وانتشر خبره من بينهم كلهم فضلاً عن بعضهم لكونها قصة غريبة، وحتى الذين تصدوا للتأليف في إحصاء الصحابة وبيان أسمائهم وأنسابهم مثل: الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البر و مسبوك الذهب ونحوها لم يذكروا أن أحدًا من الصحابة أطارته الريح، لكن التواريخ مبناها على التساهل في النقل، بحيث ينقل بعضهم عن بعض الحكاية على علاتها، كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كل ما
جمع الرواة وخط كل بنان
والمقصود أن النهي عن الوضوء بماء آبار الحجر أنه جاء عن طريق ابن إسحاق فقط وهو ضعيف لا يحتج به، مع العلم أنه في حديثه هذا لم يفرق بين ماء بئر الناقة ولا غيره، ويظهر أن الفقهاء أخذوا القول بعدم إجزاء الوضوء من آبار ثمود من رواية ابن إسحاق هذا؛ لأننا لم نجد لهذا القول أصلاً عن غيره، والأمر الثابت هو أن رسول الله ﷺ نهى عن شرب ماء آبار الحجر إلا من بئر الناقة ولم يَنْهَ عن الوضوء به، ونهيه عن الشرب منه لا يستلزم النهي عن الوضوء به، أشبه ماء البحر يجوز الوضوء به وينهى عن شرابه، فسقط الاستدلال بموجبه، ولو كان صحيحًا لذكرها الصحابة الذين حضروا القضية؛ لأن ذكرها ألزم من ذكر العجين وغيره، كما أنهم لم يؤمروا بغسل ما أصاب هذا الماء من أجسادهم وثيابهم وأوانيهم، ويفهم من حديث ابن عمر الذي في البخاري أن النهي عن شرب الماء بلغهم وهم في أرض الحجر لكون النبي ﷺ أمرهم أن ينتقلوا من الآبار إلى بئر الناقة وذلك بعدما شربوا وغسلوا وجوههم وثيابهم إلى حالة أنهم أخذوا يشتغلون بالعجين من هذا الماء، ويترجح أن خبر هذا الماء نزل به الوحي من السماء، وأن النهي عنه إنما هو لمصلحة تعود على صحتهم لعدم صلاحيته لحالهم، فلا ينبغي أن يحمل هذا النهي على كونه نجسًا كالبول، ولا أنه محرم كالخمر والدم، ولا ينبغي أن يحمل أيضًا على تأثره بجريمة ثمود ولا بحلول العقاب بهم ﴿ تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡ‍َٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤ [البقرة: 134].

وقد عرف الفقهاء الماء الطاهر الذي يرفع به الحدث ويزال به الخبث بأنه الباقي على خلقته، كما نزل من السماء أو نبع من الأرض، وهذا الوصف منطبق على مياه آبار الحجر، إذ جميع المياه في هذه الآبار وفي غيرها نازلة من السماء.

كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۢ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ ١٨ [المؤمنون: 18].

وفي الآية الأخرى: ﴿فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ [الزمر: 21] فكل المياه الموجودة على وجه الأرض من آبار وعيون وبحار كلها طاهرة مباحة يرفع بها الحدث ويزال بها الخبث ما لم يتغير شيء من أحد أوصافها بالنجاسة، سواء في ذلك آبار الحجر وغيرها، وقد مكث نبي الله صالح عليه السلام والمؤمنون معه يتمتعون بخيرات بلادهم ويشربون من ماء آبارهم غير محجور عليهم في شيء وذلك بعد نزول العقاب بثمود وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم ترد شريعتنا بنسخه. إذا ثبت هذا، فإن النهي الصادر من النبي ﷺ يجب أن يحمل على أمر حسي معقول المعنى، وذلك مما يتعلق بحفظ الصحة والوقاية عن المياه الوبيئة، وأنه قد ظهر للنبي ﷺ في ذلك الزمان من فساد بعض المياه وضررها على الصحة ما لم يظهر لغيره إلا بعد أزمان طويلة، وهذه الآبار التي نهى النبي ﷺ عن الشرب من مائها يترجح بأنها آبار مهجورة عن الاستعمال، ولهذا أمرهم النبي ﷺ أن يتركوها ويستقوا من بئر الناقة من أجل صحة مائها، لكون الناس يردونها ويستقون منها إلى هذا الزمان، وإلا فإن الكل آبار ثمود حتى بئر الناقة، يقول الله: ﴿لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ [الشعراء: 155].

ومن المشاهد بالتجربة أن الآبار المهجورة يتكون فيها مواد من الغازات السامة يسمونها بـ (كلوريد الهيدروجين) وهو من العناصر التي اكتشفها الطب الحديث من عهد قريب وتكثر فيها أنواع الغازات السامة والأبخرة التي تنفصل من مواد الأرض وتختلف كثرة ضررها وقلته باختلاف القرب والبعد من الأرض ويعظم خطرها بالإكتام وعدم اتصال الهواء بها، كما يشاهد ذلك في الفحم وغازاته السامة، حيث يقضي بالاختناق ثم الموت، ومثله السرج ذات الفتائل في موضع الاكتتام ومن المشاهد بالتجربة أن المستعجل إلى الوقوع في مثل هذه المياه المهجورة للاغتسال ونحوه قبل أن يختبرها، فإنه يصاب بالاختناق من ساعته، ثم ينزل إليه الثاني لإنقاذه فيصيبه ما أصابه، ثم الثالث والرابع، فيهلكون جميعًا، وقد وقعت قضايا متعددة في كل بلد من نحو ذلك، لهذا نرى أهل الطب والذكاء والمعرفة يحذرون أشد التحذير عن قربان مثل هذه القلبان إلا بعد اختبارها بإلقاء الأدوية المفسدة لهذه الغازات السامة، ثم تحريكها التحريك القوي بالدلاء ونحوها، هذا كله قد أصبح من الأمر المشهور المعروف الذي يوصي الناس بعضهم بعضًا بموجبه، وقد عرفه رسول الله ﷺ بطريق الوحي قبل أن يعرفه هؤلاء بألف سنة، فحذر منه أصحابه وأصبح في علم الطب الحديث أن المياه تختلف في الضرر والصحة اختلافًا عظيمًا، فهم يحكمون على بعض الآبار بأن ماءها فاسد ضار وخطر على الصحة، كما يحكمون على بعضها بالصحة والنقاوة وأنه يحلل الحصا من الكلى ونحو ذلك. أدركوا هذه المنافع والمضار بالوسائل الدقيقة من المناظير المكبرة التي تبرز لهم الميكروبات عيانًا وهي أجسام حية والتي تضر آكلها وشاربها حتى ولو عجن بمائها العجين، ورسول الله هو طبيب الأديان والأبدان فمتى نزل عليه الوحي بخبر ضرر هذا الماء وعدم صلاحيته للأجساد أفنحكم عليه والحالة هذه بعدم جواز استعماله في الطهارة بدون سبب يزيله عن طهوريته، ثم إن هذا الماء في هذه الآبار يكون فاسدًا ضارًّا للصحة في وقت ثم يكون صالحًا للشرب في وقت آخر، على حسب ما يزاول به من الأدوية التي تنفي الضرر عنه وتمحضه للصحة أو يكون منهورًا ومورودًا يستقى منه على الدوام؛ لأن هذا من الأسباب التي تزيل عنه الضرر ويكون صحيحًا صالحًا للاستعمال.

وفي الحديث: «ما مِنْ دَاءٍ إلا لَهُ دَوَاء عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[133] لهذا أمر النبي ﷺ أصحابه بأن يشربوا من بئر الناقة، من أجل أنها منهورة ومستعملة فهي سالمة من الغازات السامة، وإلا فإن الكل آبار ثمود، فحمل هذا النهي عن شربه على أمر معلوم سببه أولى من حمله على أمر غير معقول المعنى مما يسمونه خلاف القياس؛ لأنه ليس في السنة الصحيحة ما يخالف القياس الصحيح، كما حقق ذلك شيخ الإسلام وابن القيم في الإعلام نظير هذا أن النبي ﷺ في هذه الغزوة نفسها قال لأصحابه. «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا عَيْنَ تَبُوكَ فَمَنْ جَاءَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِىَ»[134]، حتى إنه لمّا سبقه رجلان إلى عين تبوك فشربا منها أغلظ عليهما بالكلام وقال: «ألم أنهكم أن يسبقني إليها أحد». فنهيه عن ماء آبار ثمود هو نظير نهيه عن ماء بئر تبوك على السواء، وهذا دليل على حرص رسول الله ﷺ على أصحابه وحمايته لهم عن الاستعجال عن موارد المياه المجهولة المهجورة إلا بعد اختياره لها، ولا يبعد هذا النهي عن نهيه عن الشرب من آبار ثمود لمّا تبين له فسادها.

فهو يحاذر على أصحابه من علوق الوباء والوقوع في البلاء، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال:

«إِنَّهُ ما مِنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيحذرهُمْ عَن شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ»[135]، ولمّا كان غالب أصحابه الذين غزوا معه تلك الغزوة هم حديثو عهد بدخولهم في الإسلام؛ لأن العرب لم يتوسعوا في دخول الإسلام إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة وفي السنة التاسعة دخلوا في الدين أفواجًا أفواجًا وهم حديثو عهد ببادية لا يحتفلون بالأسباب ولا يعرفون النافع من الضار، لهذا نهاهم رسول الله عما يضرهم منها، كما أن عادة الزعيم ينهى قومه عن الوقوع في البلاء ومراتع الوباء.

ومن المشاهد من مضار هذه المياه أنه يوجد آبار في مكان يسمى ماوان وهي مزارع لأهل بلد حوطة بني تميم، وتقع في المنتصف بين الرياض والحوطة، فخرج أهلها إليها يريدون زراعتها بعد تركهم لها أزمانًا طويلة فعملوا عملهم في حراثتها وقلب أرضها ووضعوا البذور فيها وركبوا آلات السقي وعملوا عملهم، فبعد ما حركوا الماء أصيبوا بالحمى القتالة فهربوا وتركوا زروعهم فمات بعضهم وبقي بعضهم عليلاً زمانًا طويلاً.

والحادثة الثانية: هو أنه خرج جماعة من صنعاء يريدون التوجه إلى الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، قالوا: فنزلنا على حي من العرب، نريد أن نستوضحهم الطريق، فتصدى لإرشادنا رجل عاقل من الحي. قال: إنكم ستأتون في مكان كذا واديًا معترضًا وفي الوادي ماء فلا تشربوا من مائه ولا تناموا فيه لئلا تصيبكم الحمى. قالوا: فلما أتينا الوادي وجدناه كما وصفه لنا ووجدنا الماء حلوًا عذبًا والوادي سهلاً لينًا. وقلنا: هذا رجل متطير. وتوكلنا على الله، فلم نحتفل بكلامه وشربنا من الماء ونمنا في الوادي ولم نقم من النوم إلا وقد علقت بنا الحمى القتالة فمات بعضنا وبقي بعضنا عليلاً زمانًا طويلاً، وكم قتلت أرض جاهلها، ومن المشاهد بالتجربة أن المسافرين يردون بعض المياه ثم يقوضون منها وقد أصيبوا بشيء من الأضرار أقلها الزكام الشديد، كله من أجل فساد الماء.

وكان النبي ﷺ يأكل من الطعام ما عرض عليه، فلا يتكلف مفقودًا ولا يرد موجودًا، أما الماء فكان يحرص على نقاوته، ولهذا كان يستعذب له الماء من السقيا، وهي تقع على أربعة أميال من المدينة.

فرسول الله ﷺ مع قوة إيمانه وتوكله على الله كان يتقي أسباب البلاء ويأمر بالتباعد عن مواقع الوباء، ويقول: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ»[136]، وقال: «إذا وَقَع الْوَبَاءَ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ»[137]، وقال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ»[138]، وجاءه قوم وقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا هي ريفنا ومصيفنا وإنا إذا نزلناها نحفت أجسامنا وقل عددنا. فقال رسول الله: «اتركوها ذميمة فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ»[139]، فهذه تعتبر من باب اجتناب الأسباب التي جعلها الله أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، كما أخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن من القرف التلف، يعني أن مقاربة الإنسان للأشياء المعدية والضارة بطبعها أنها سبب مقارفة الجسم لها، بحيث تعلق به ثم يهلك، وقد قيل: الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء.

فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية عن رفع البلاء أو دفع الوباء هي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه إحسانًا منه لهم بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بنوع من المرض يزول به ويشفيه، وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه واستعمالها في وقاية صحته وحفظ بنيته؛ لأن الله سبحانه «لم ينزل من دَاء لَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[140].

وكل الأمم على اختلاف أديانهم وأوطانهم قد جربوا وقاية التطعيم عن الأمراض المعدية، مثل: الجدري والكوليرا وغيرهما، فوجدوا لها من التأثير على الوقاية من الأمراض القتالة ما يشهد الواقع بصحته ولا طبيب إلا ذو تجربة، فخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر ويفرون من القدر إلى القدر، ويحكمون الأمر على القدر.

لهذا، نجد بعض الناس يتكاسل ويتقاعس عن استعمال الوقايات المجربة والأدوية النافعة توكلا منهم بزعمهم فيجعلون عجزهم توكلا، وإنما المتوكل هو من يستعمل أسباب الوقاية المجربة والأدوية النافعة، ثم يتوكل على ربه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

* * *

[133] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [134] أخرجه مسلم من حديث معاذ. [135] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. [136] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [137] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف. [138] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [139] أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بلفظ: «دعها عنك». [140] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس والبخاري بنحوه من حديث أبي هريرة.

المشكِلة الرابعَة: الصلاة في أرض الحجر هل هي جائزة أو غير جائزة

إن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها وبسطها وجعلها للناس مستقرًّا ومسكنًا وجعلها مسجدًا وترابها طهورًا، كما في صحيح البخاري ومسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، - وفي رواية: فعنده مسجده وطهوره - وَأُحِلَّتْ لِىَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِى، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»، فهذا الحديث صريح في أن أرض الحجر مسجد وتربته طهور، وكذلك ماؤه طهور، حيث لم يوجد ما يقتضي سلبه الطهورية ولا النهى عن الوضوء به بطريق صحيح.

وقد ترجم البخاري في صحيحه فقال: باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، قال: يذكر عن علي أنه كره الصلاة في خسف بابل. ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» الحديث. ويفهم من وضع الترجمة وسوقه للحديث المذكور أنه يرى كراهية الصلاة في الحجر، حيث استدل على ذلك بسياقه للأثر عن علي رضي الله عنه أنه كره الصلاة في خسف بابل، وهذا رأي منه وليس برواية، والرأي يخطئ ويصيب، وكان الصحابة يرد بعضهم على بعض في الآراء التي ليس لها سند عن رسول الله ﷺ وليس عندنا من سنة رسول الله ما يمنع الصلاة بها، بل ولم يثبت القول بذلك عن أحد من الصحابة وحتى الوضوء من آبار الحجر لم يثبت عن أحد من الصحابة القول بعدم الاجتزاء به، وكل الذين ذكروا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر بن عبد الله وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي ذر، لم يذكر أحد في حديثه أن رسول الله ﷺ نهى عن الوضوء بمائه أو الصلاة في أرضه، وقال في الفتح بعد شرحه لحديث النهي عن دخول مساكن هؤلاء المعذبين «إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»[141]، قال ابن بطال: وهذا يدل على إباحة الصلاة بها، لأنها موضع بكاء وتضرع. انتهى. والقول بتأثر الأرض أو الماء بنزول السخط على ثمود بعيد جدًّا إذ لو كان صحيحًا لأوجب الله على نبيه صالح والمؤمنين معه بأن يهاجروا عنها، ولما استباح النبي ﷺ النزول بها ولو ساعة واحدة والله أعلم.

* * *

[141] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.

مَديَنة مَديَن وَهم قومُ شعَيب عليه السلام

يقول الله تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗا [الأعراف: 85]، وقد أخبر الله تعالى في عدد من سور القرآن بعبادتهم غير الله وإفسادهم في الأرض وبخسهم للكيل والوزن وقد بالغ نبي الله شعيب في نصحهم فأصروا واستكبروا وعَتَوْا عتوًّا كبيرًا. قال في أعلام القرآن ص353: ومدين اسم قرية كانت على البحر الأحمر وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لبنات شعيب. وقال في معجم البلدان رقم 417- ج7: مدين بفتح أوله وسكون ثانيه، تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب عليهما السلام قال: وقد رأيت هذه البئر مغطاة قد بني عليها بيت ونماء أهلها من عين تجري، ومدين اسم القبيلة سميت بمدين بن إبراهيم عليه السلام. انتهى.

وأقول: إن مدين تقع الآن في حدود المملكة العربية السعودية، وبها سكن وزروع وسمعت بأنه يوجد بها نخل، فهذه من بلدان الأمم المعذبة، ويقال فيها ما يقال في الحجر جوازًا ومنعًا، يقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ ٥٨ [هود: 58] ﴿وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٦٧ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ ٦٨ [هود: 67-68]، فأخبر الله سبحانه أنه أنجى نبيه شعيبًا والذين آمنوا معه من هذا العذاب النازل على قومهم وأنهم بقوا في أرضهم يتمتعون بخيراتها ويأكلون من طعامها وشرابها ويعبدون الله في أرضها كحالتهم السابقة أو أحسن وأرض مدين هي شقيقة أرض الحجر، فالسخط النازل على أهلها لا تعلق له بأرضها ومائها، ولا تزال هذه البلدة مسكونة ومعمورة إلى وقت الآن، كما أن بلد الحجر لا يزال مسكونًا إلى وقت الآن، إذ الأصل الإباحة ولم يثبت ما يقتضي الكراهة، فضلا عن التحريم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(5) الغناء وما عسى أن يقال فيه من الحظر أو الإباحة

الغنَاء ومَا يقَال فِيهِ

لقد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا وأكثروا القول فيه بل كتبوا فيه المصنفات، واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من الأحاديث في هذا الباب، ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما الحق الجدير بالاتباع.

أحاديث الحظر

1- «عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع النبييقول: لَيَكُونَنّ مِنْ أُمَّتِي قوم يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِير وَالْخَمْر وَالْمَعَازِف». أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم.

2- «عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِى أُذُنَيْهِ وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ يَقُولُ يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ فَأَقُولُ نَعَمْ. فَيَمْضِى حَتَّى قُلْتُ لَا فَوَضَعَ يَدَيْهِ وَأَعَادَ رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَسَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا». رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.

3- «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «فِى هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ قَالَ «إِذَا ظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ»». رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

4- «عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَنِى رَحْمَةً وَهَدًى لِلْعَالَمِينَ وَأَمَرَنِى أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَبَارَاتِ - يَعْنِى الْبَرَابِطَ - وَالْمَعَازِفَ وَالأَوْثَانَ الَّتِى كَانَتْ تُعْبَدُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ». رواه أحمد عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف. وقال أبو مسهر في عبيد الله بن زحر: إنه صاحب كل معضلة. وقال يحيى بن معين: إنه ضعيف. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن المديني: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي موضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامّات.

5- عن ابن مسعود: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِى الْقَلْبِ». رواه أبو داود مرفوعًا والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا. وفي إسناده شيخ لم يسم، وفي بعض طرقه ليث بن أبي سليم وهو متفق على ضعفه كما قال النووي، وقال الغزالي: رَفْعُه لا يصح. ومعناه أن المغني ينافق لينفق. وقد زدنا هذا وما قبله إتمامًا للبحث.

وقد رأيت أنه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول، وستعلم مع ذلك ما قيل في إعلاله، وما رُوي غيره أوهى منه، إلا أثرًا عن ابن مسعود في تفسير اللهو فقد صححه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.

* * *

أحاديث الإِباحة

1- «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهاقالت: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِى، وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ . فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: «دَعْهُمَا يا أبا بكر فإنها أيام عيد». وفي رواية: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا». فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، تقول: لما غفل أبو بكر». رواه البخاري في سنة العيد، وفي أبواب متفرقة، ومسلم في العيد، والنسائي في عِشْرة النساء، وإنما أنكر أبو بكر لظنه أن النبي ﷺ كان نائمًا لم يسمع.

2- «عن خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ غَدَاةَ بُنِىَ عَلَىَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ. فَقَالَ النَّبِىُّ «لَا تَقُولِى هَكَذَا، وَقُولِى مَا كُنْتِ تَقُولِينَ»». رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي.

3- «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطَبٍ الْجُمَحِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «فَصْلٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِى النِّكَاحِ»». رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم.

4- «عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى قُرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي عُرْسٍ وَإِذَا جَوَارٍ يُغَنِّينَ فَقُلْتُ أَنْتُمَا صَاحِبَا رَسُولِ اللَّهِ وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ فَقَالَ اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ فَاسْمَعْ مَعَنَا وَإِنْ شِئْتَ اذْهَبْ قَدْ رُخِّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ الْعُرْسِ». أخرجه النسائي والحاكم وصححه.

5- «عن بريدة قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِى بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ «إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِى وَإِلَّا فَلَا». فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِىَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِىٌّ وَهِىَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِىَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ إِنِّى كُنْتُ جَالِسًا وَهِىَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِىَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِىٌّ وَهِىَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِىَ تَضْرِبُ فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ»». رواه أحمد والترمذي وصححه وابن حبان والبيهقي.

* * *

خلاف العلماء في مسألة سماع الغناء والمعازف وأدلتهم

في الباب أحاديث أخرى وما أوردناه هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به، وأحاديث الحظر التي تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو، والدف منها قطعًا، وغناء الِقيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي بكر وكلام عامر بن سعد يدلَّان على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا سيما أصوات النساء، لولا النص الصريح بالرخصة، وتكراره في الأوقات التي جرت عادة الناس بتحري السرور فيها، كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة مرجحة بصحتها، وضعف مقابلها ونكارته، وبكونها على الأصل في الأشياء وهو الإباحة، وبموافقتها ليسر الشريعة وسماحتها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين، ولهذا رأيت كثيرًا من الأئمة العلماء الزهاد قد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها، حتى جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد، حتى حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا، وسماع آلات اللهو جميعها، إلا طبل الحرب ودف العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يُطرِب، وأنه غير دف أهل الطرب، وهاك أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار، وهو كلام الشوكاني في نيل الأوطار، قال بعدما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:

وقد اختُلِفَ في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسًا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي.

وحكاه صاحب الإِمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي، هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر.

* * *

[سؤال عن قول عمر رضي الله عنه: الغناء زاد المسافر. والجواب عنه]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سؤال وُجه إليّ عن قول عمر رضي الله عنه: الغناء زاد المسافر. هل هذا القول صحيح عنه أو غير صحيح؟ والجواب يُعرف مما يلي:

إننا لسنا من المقلّدين لأحد في قول يقوله ويرتضيه وإنما نبحث عن الحق في مظانه ثم نقول به، وقول عمر هذا: الغناء زاد المسافر. لم نقف على سنده، وعلى فرض صحته أو عدم صحته فإن الغناء للمسافر مباح وليس بحرام، بل الغناء كله مباح للمسافر وغير المسافر، وضرب الطبل عليه كله مباح، إلا إذا صَدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة، أو شجع على انتهاك المحرمات أو شرب المسكرات، وماعدا ذلك فإنه مباح بلا شك، لأنه من لهو الدنيا الذي ذكره الله في كتابه بقوله: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ [الحديد: 20] ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗا [الجمعة: 11] وهذا اللهو الذي ذكره الله هو أن دحية بن خليفة الكلبي لما قدم بالعير من الشام أخذوا يضربون بالدف ليعلموا الناس بوصول العير.

وقد قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: إن الناس في مزاولتهم للأعمال الثقيلة يتروحون بالغناء ويستريحون به، لكونه يخفّف عنهم الآلام ويلطّف لهم المشاق العظام، حتى إنه ليُنسيهم الشراب والطعام، كما قيل:
لها أحاديث من ذِكراك تشغلها
عن الشـراب وتُلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضـيء به
عند المسير وفي أعقابها حادي
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها
روح القدوم فتحيا عند ميعادي
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم عند بنائهم لمسجد النبي ﷺ يغنون ويرتجزون بقولهم:
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صلينا
فأنزِلنْ سكينة علينا
وثبتِ الأقدام إنْ لاقينا
إن الألى لقد بغوْا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
يرفعون بذلك أصواتهم أبينا... أبينا. وأحيانًا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا
ورسول الله يجيبهم بقوله:

«اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ، وَالْمُهَاجِرَةِ».

وهذا ليس بشعر؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓ [يس: 69] وإنما هي كلمة جرت على لسانه لم يقصد بها شعرًا، ومن شرط الشعر أن يكون مقصودًا. ومثله قوله: «هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ».

فقول عمر رضي الله عنه: إن الغناء زاد المسافر. ليس بإثم، ورسول الله كان له حادٍ يحدو بالإبل- أي يُغني بها لتنشط- فهذا وأمثاله مباح بلا شك، وكان عبد الله بن رواحة يحدو بالجيش عند دخول رسول الله ﷺ مكة ويقول في حداه:
خلوا بني الكفار عن سبيله
اليوم نضـربكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله
وجاءت امرأة إلى عمر رضي الله عنه في خصومة فقال لها:
إن النساء شياطين خُلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
فقالت له المرأة: لا، إن الشاعر لم يقل بهذا وإنما قال:
إن النساء رياحين خلقن لكم
فكلكم يَشتهي شمَّ الرياحين
وكان رضي الله عنه يَعُس بالمدينة بالليل فسمع امرأة تنشد وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه
وأَرّقني ألَّا خليل أُلاعبه
ألاعبه طورًا وطورًا كأنما
بَدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه
فوالله لولا الله لا ربَّ غيره
لحرك من هذا السـرير جوانبه
مخافة ربي و الحياء يصونني
وحِفظًا لبعلي أن تُنال مراكبُه
إن بعض الملوك يولعون بمحبة الغناء وضرب الدف عليه خاصة في السمر بالعشاء، وممن نُسب إليه ذلك هارون الرشيد، ويترجح عندي أن إلصاق هذه التهمة به ليست بصحيحة ولا صريحة، لكونه قد قسم الزمان شطرين: عام للغزو وعام للحج، وما كان كذلك فإنه يَبْعُد أن يشتغل بالغناء الذي هو معدود من الفضول، وعلى فرض صحة نسبته إليه فإن هذا من اللهو اليسير الذي لا يتمحض لإحباط حسناته، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة.

وفي فتح مكة لما قدم رسول ﷺ خرجت النساء والرجال والصبيان وجعل النساء يصرخن ويبكين خوفًا على أزواجهن وأولادهن، وكنَّ يضربن وجوه الخيل بخمرهن، فقال رسول الله ﷺ عند ذلك لأبي بكر: هل قال حسان في مثل هذا شيئًا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: «ما قال؟» فأنشد:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقعَ موعدها كداءُ
ينازعن الأعنّة مصغياتٍ
على أكتافها الأسل[142] الظماءُ تظل جيادنا متمطرات
يُلطّمهن بالخمر النساء
وقد اشتهر أهل المدينة بمحبتهم للغناء كما حكاه عنهم أبو الفرج الأصبهاني، وكانوا كثيرًا ما يتغنون بشعر جبلة بن الأيهم الغسّاني لكونه من الحنين إلى الوطن؛ لأن أكثر المغنيات هن من السبايا، وقصة جبلة بن الأيهم هي أن الغساسنة وهم ملوك الشام في قديم الزمان، لكنهم كانوا تحت سلطة النصارى، ولما تدفقت جحافل الصحابة على بلاد الشام ومصر والعراق وسائر البلدان وأجلوا النصارى، دخل جبلة بن الأيهم في الإسلام علانية فحج زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعند الطواف بالبيت وطئ إزارَه رجلٌ من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فشكاه إلى عمر، فقال له عمر: ما حملك على ذلك؟ القصاص بينكما. فقال له جبلة: أيقتص من الأشراف للسوقة؟ فقال له عمر: نعم، ساوى بينكما الإسلام. فقال: أمهلني حتى أعود. فقال: قد أمهلتك؟ فقام جبلة وأمر أصحابه بأن يشدوا على رحالهم، ورجع إلى بلده ففعلوا، فترك الحج عام ذلك، فندم أشد الندم وأنشد أبياته الشهيرة وهي:
تَنصَّرتِ الأشراف من عار لطمة
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنّفني منها لجاج ونخوة
فبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
ثويت أسيرًا في ربيعة أو مضر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة
أجالس قومي بالعشيات والبكر ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة
أجالس قومي عادم السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة
ولم أنكر القول الذي قال لي عمر
ولما بلغ عمر هذه الأبيات وجّه إليه رجلاً من أصحابه وهو جثامة بن مساحق الكناني، فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام[143].

وحاصل القول في الغناء أنه كلام مقتبس من الشعر، ويتمشى على طريقة الشعر، كما قال النبي ﷺ في الشعر: «إِنَّهُ كَلَامٌ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيْحُهُ قَبِيْحٌ»[144] وهكذا الغناء، وقد قال رسول الله: «لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» متفق عليه. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً».

وكان النبي ﷺ ينصب لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينافح فيه عن الله ورسوله، ويقول: «اهجهم يا حسان، فإن شعرك أشد عليهم من رشق النبل»[145]، والله تعالى يقول: ﴿وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ ٢٢٤ أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ ٢٢٥ وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ ٢٢٦ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱنتَصَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ [الشعراء: 224-227].

فالشعر بما أنه يُمدح من جهة أحيانًا ويذم أحيانًا فكذلك الغناء نفس الشيء، والأصل فيه الإباحة، لكن بعض العوام يغلطون في إباحته، ويغالون بالقول بتحريمه عندما يسمعون أن رجلاً من الذين يدّعون أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سمع رجلاً يغني وهو يعمل عند السواني - أي الإبل التي يعمل عليها قبل حفر الآبار بالآلات- فلما سمع الغناء نزل عليه في ناحية عمله وأخذ يضربه ضربًا شنيعًا حتى فقأ عينه، وما فعله هذا فإنه عين المنكر البعيد عن المعروف، وفي هذا الزمان وفي بعض البلدان نجد من يعيب على الناس ضرب الدف في العرس، وهذا من نتيجة الجهل، فإن ضرب الدف والغناء في العرس سنة، لقول النبي ﷺ: «فَرق مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ»[146]. وقال: «أعلنوا النكاح واضربوا فيه بالدف»[147] ولما جهزت عائشة ابنة يتيمة عندها إلى زوجها سألها رسول الله: «كيف صنعتم؟» فقالت: سلمناها إلى زوجها، ودعونا لهما بالبركة، ثم رجعنا. فقال: «هلَّا استصحبتم معكم دُفًّا فإن الأنصار يعجبهم اللهو، وقلتم:
أتيناكم أتيناكم
وحيّانا وحيّاكم
ولولا الذهب الأحمـ
ـر وما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا
لـما سمنت عذاريكم
فهذا كله من الشعر المباح، أو من الغناء المباح، وحسبك إجازة الرسول ﷺ له. وقد أدخلت الصوفية الغناء في ضمن الزهديات، فكانوا يرقصون عند سماعه ويتساقطون، وهم الذين عنى الشاعر بقوله:
تُلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة
لكنّه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا
تالله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن
فمتى رأيت عبادة بملاهي
فهؤلاء من الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا؛ لأنها لا تجتمع محبة الله وعبادته وشكره وذكره مع محبة الغناء والرقص والتساقط من وجده، كما قيل:
حب القران وحب ألحان الغنا
في قلب عبد ليس يجتمعان
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه وإن نقل عن أهل المدينة وغيرهم استعمالهم للغناء واستحبابهم له فلم يقل أحد من علمائهم أنه مستحب في الدين ومختار في الشرع أصلاً، بل كان فاعل ذلك يرى مع ذلك كراهته، وأن تركه أفضل، أو يرى أنه من الذنوب، وغايته أن يطلب سلامته من الإثم، أو يراه مباحًا.

أما الغناء الذي يتمحض في الزهد أي لا يفضي إلى الوجد ولا الرقص ولا التساقط من أجله فهذا لا بأس به كقولهم:
يا غاديًا في غفلة ورائحا
إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفا
يستنطق الله به الجوارحا
يا عجبًا منك وأنت مبصر
كيف تجنبت الطريق الواضحا
وسأل الإمامَ أحمد رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شيء تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء. قال: يقولون:
إذا ما قال لي ربي
أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي
وبالعصيان تأتيني
فقال: فدخل بيته ورد الباب، فسمعت نحيبه من داخل البيت يردد وهو يقول هذه الأشعار. ومثله الغناء الذي يهيج الحزن ويدعو إلى الندب وتعداد محاسن الميت، فهو عين النياحة المحرمة، ولا يوجد مثل هذا المكروه في زماننا أو بلداننا.

وسُمي الغناء غناءً من أجل تحسين الصوت به، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» رواه البخاري، ومثله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ - أي استمع - مَا أَذِنَ لِنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ». متفق عليه.

ولما استمع النبي ﷺ إلى أبي موسى الأشعري أعجبته قراءته، وقال: «لَقَدْ أُوتِىَ أَبُو مُوسَى مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»[148] وقد قيل:
تغنَّ بالشعر إذا ما كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وصنف أبو الفرج الأصبهاني كتابًا سماه الأغاني وهو كتاب واسع العلم والمعرفة، يشتمل على فنون من التاريخ والسير وسائر العلوم المختلفة، لكن تسميته بالأغاني حطت من قدره عند الناس، لكون أكثر الناس يعتقدون التحريم للأغاني كلها تقليدًا بدون بصيرة وبدون فرقٍ بين النافع والضار. وطريقة أبي الفرج الأصبهاني في كتابه أنه يأخذ بيتًا أو بيتين فيجعلهما ميزانًا للغناء، وربما ضربوا الدفوف على التغني بهما أو بأحدهما، والغناء على إطلاقه يشتمل على النافع وعلى الضار، مثل ما قال النبي ﷺ في الشعر: «إِنَّهُ كَلَامٌ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيْحُهُ قَبِيْحٌ»[149].

وقال العلامة ابن الجوزي: اعلمْ أن سماع الغناء يجمع شيئين: أحدهما: أنه يلهي القلب عن الذكر والصلاة وعن التفكير في عظمة الله والقيام بخدمته، والثاني: يميل صاحبه إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية وأعظمها النكاح.

فهذا هو الغناء المذموم، لكن قسمًا منه وهو الأكثر مباح، وهو غناء الحداة، وغناء جيوش الغزو والمبارزين في القتال مما يجعلهم يندفعون بداعي الشوق والغناء إلى المبارزة والتضحية بالنفس والنفيس دون الدين والوطن، وهذا مما لا شك في إباحته، وقد كان للنبي ﷺ حادٍ يحدو بالجيوش بغنائه فيشتد سيرُها تبعًا لصوته حتى يطأ بعضها بعضًا من التزاحم، كله تبعًا لرقة صوته بالغناء، حتى قال النبي ﷺ لحاديه: «يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ»[150]. يعني النساء.

والنبي ﷺ كان رحب الصدر لسماع الشعر والغناء أحيانًا كما ثبت «عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ «هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِى الصَّلْتِ شَيْئًا». قُلْتُ نَعَمْ قَالَ «هِيهِ». فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ «هِيهِ». ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ «هِيهِ». حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَبَيْتٍ». رواه مسلم.

ومثله حين أرى عائشة لعب الحبشة وكانوا يلعبون بحرابهم، وكان يقول لها: «حسبك» وهي تقول: أمهلني أنظر إليهم. وذلك في يوم عيد، ثم قال: «لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِى دِينِنَا سعة» أو قال: «فُسْحَةً»[151]، ومثله دخول أبي بكر على عائشة في بيتها وعندها جوارٍ يضربن بالدف فنهرهن أبو بكر وقال: مزمارة الشيطان في بيت رسول الله ﷺ؟ فرفع رسول الله ﷺ رأسه وكان مضطجعًا وقال: «دَعْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا أهل الإسلام»[152].

والغناء على إطلاقه يحث على الشجاعة والإقدام وعلى الكرم، ويساعد على مزاولة الأعمال الثقيلة بحيث لا يصيب من يزاولها مس التعب وقد قيل:
ولولا خِلال سَنها الشعر ما درى
بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
وحسبك إنشاد كعب بن زهير في عروسه، وكان النبي ﷺ قد أظهر قتله، فنزل ليلاً عند رجل من الأنصار وشهد صلاة الفجر مع رسول الله ﷺ، وبعد الصلاة جلس بين يدي رسول الله، ثم قال: يا رسول الله أرأيت إن جاءك كعب بن زهير تائبًا نادمًا أكنت تقبل منه؟ قال: «نعم»، ثم قال: أنا كعب بن زهير، وقد قلت قصيدة أستأذنك في سماعها. فقال: «قل». فأنشد قصيدته الشهيرة وهي:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يُفْدَ مكبول
وسعاد هي عروس الشاعر.

وهي تدل بفحواها - مع محبته لها - على أن رسول الله ﷺ أحب وأجل منها، وقد قال أهل الأدب إذا كان مدح فالنسيب مقدم؛ ومعنى بانت سعاد: فارقت، وقلبي اليوم متبول: أي هيَّمه الحب، متيم، أي: مُعَبَّد، إثرها: أي في طلبها، لم يُفد مكبول أي: أسير الحب لم تفده بوصل ثم قال:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
إن من عادة الأعراب إذا انتقلوا من منزل إلى منزل آخر فإن المرأة تتجمل غاية التجمل، ومنه تكحيل عينيها لعلمها أن الناس سينظرون إليها، ثم قال:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يُشتكى قِصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه مَنهل بالراح معلول[153]
ثم ليتأمل العاقل وصف هذا الشاعر لزوجته أو لعروسه بمسمع من رسول الله ﷺ وقد أجازه، فوصفها بأنها هيفاء، أي ضامرة البطن ويعدونها من محاسن المرأة ثم قال: عجزاء مدبرة، فوصفها بكبر عجيزتها لكون الرجل قصاب يحب الحسن والسمن، لا يُشتكى منها قصر، لكون شر النساء القصار الحباتر، ولا طول لكون المرأة إذا تجاوزت الطول المعتاد فإنها تكون مشوهة، ثم وصف ثغرها فقال: تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت، فالعوارض هي: البراطم، والظَلْم بالفتح هو: ماء يخرج من أسنان الأبكار، ووصف حلاوته بماء المطر الممزوج بالراح، أي الخمر، أي من شدة حلاوته، ولم ينكر النبي ﷺ عليه شيئًا من ذلك:
فعانِق وقبل وارتشف من رضابها
فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم[154]

والحاصل أن الغناء مباح، وأخذ الأجرة عليه مباح، وكذلك ضرب الدف والحداء كل هذا من لهو الدنيا المباح في الأصل، وسُمع من ابن عمر عند منصرفه من عرفة يقول:
إليك تعدو قلقًا وضينها
معترضًا في بطنها جنينُها
مخالفًا دين نصارى دينُها ونظير هذا أن رجلاً من سكنة الإمارات زار حبيبته، وركب على ناقته، فجعلت الناقة تتلفت إلى الخلف وتحن إلى مألفها وهو يُلحُّ عليها بالضرب لتسير إلى الأمام جهة محبوبته وأنشد:
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى
وإني وإياها لـمختلفان
وقد وجّهت امرأة أرملة سؤالاً قائلة: إنني امرأة مات عني زوجي ولي منه عدد من العيال، وليس لي من كسب إلا من الغناء وضرب الدف، فهل كسبي عليهم حلال أو حرام؟.

فالجواب: إننا متى قلنا بإباحة الغناء فإننا نقول بإباحة ما يترتب عليه من الأجرة، إذ لا يمكن أن يبذل أمثال هؤلاء نفعَهم فيه بدون عوض، والنبي ﷺ قد أثاب بعض الشعراء، وقال: «يَأْبَوْن إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِى وَيَأْبَى اللَّهُ لِىَ الْبُخْلَ»[155]، كما أثاب وفد بني تميم حين قدموا عليه وفيهم شعراؤهم ومنهم عطارد بن حاجب التميمي في أشراف من بني تميم، جاؤوا في أسرى بني تميم الذين أخذتهم سرية عيينة بن حصن الفزاريّ فقالوا: جئنا لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: «أذنت لخطيبكم»، فقام عطارد فخطب فقال رسول الله ﷺ لثابت بن قيس بن شماس: «قُمْ؛ فَأَجِبِ الرَّجُلَ»، فقام ثابت فخطب وأجابه، وقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأجياد كلهمُ
عند النهاب وفضل العز يُتبع
ونحن يُطعم عند القحط مَطعَمُنا
من الشواء إذا لم يؤنس القزع
إلى أن قال:
إنا أبينا ولم يأب لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
في أبيات ذكرها، فقال رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت: «قم فأجب الرجل»، فقام، فقال على البديهة:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سننًا للناس تتّبع
يرضى بها كلُّ من كانت سريرته
تقوى الإله وكل الخير يُصطنع
قوم إذا حاربوا ضرُّوا عدوهمو
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة
إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهمو
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
إلى أن قال:
لا يفخرون إذا نالوا عدوهمو
وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لخطيبُه أخطب من خطيبنا، ولشاعرُه أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوّزهم رسول الله ﷺ فأحسن جوائزهم.

وهذا مما يدل على إباحة ما تكتسبه المرأة على غنائها والدف فيه، فلا محظور في إباحة ما يتفضل به أهل الفضل عليها، وللفقراء من زاد الكرام نصيب، والنبي ﷺ قال: «ما جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»[156]، وحسبنا إجازة رسول الله وتفضله على هؤلاء على شعرهم مع كونه في محض الفخر بأنسابهم، وقد نهى ﷺ عن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، وقد قال: «مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا لِى ذَهَبًا يَأْتِى عَلَىَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا»[157]، أي عن يمينه وشماله ومن خلفه، لكون البخل هو من أبغض ما يتخلق به الرجل عند رسول الله ﷺ، وقد قال النبي ﷺ لبني ساعدة: «مَنْ سَيِّدُكُمْ؟» قالوا: الجد[158] بن قيس على أننا نبخِّله، قال ﷺ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ»[159] لهذا قال شاعرهم:
وقال رسول الله والحق قوله
لمن قال منا من تُسمون سيدا
فقلنا له الجد بن قيس على التي
نُبَخّله فيها وإن كان أسودا
فتى ما تخطى خطوة لدنية
ولا باسط يومًا إلى سوأة يدا
فسود عمرو بن الجموح لجوده
وحُق لعمرو بالندى أن يُسوَّدا
إذا جاءه السؤال أوهب ماله
وقال خذوه إنه راجع غدا
فلو كنتَ ياجد بن قيس على التي
على مثلها عمرو لكنت المسوَّدا
فهذه المرأة الأرملة التي مات عنها زوجها وعندها عدد من العيال وتسأل عن كسبها بالغناء والدف إذ لا كسب لها غير ذلك، فنقول: إن كسبها بهذه الطريقة حلال بلا شك إذا لم تتعمد الغناء الذي يثير الغرائز إلى الفجور وشرب الخمور وما هو بمعنى ذلك، إذ الأصل الإباحة، وقد تناول أساطين العلماء الأحاديث التي يزعمون بأنها تحرم الغناء فأخضعوها للطعن، وأنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة في التحريم، وممن قال ذلك الإمام ابن العربي إمام المالكية، وابن حزم، والغزالي في إحياء علوم الدين.

أما استدلالهم بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ ٦ [لقمان: 6] فاستنبطوا من هذه الآية تحريم الغناء ونسبوا القول إلى ابن عباس وابن مسعود، فإن هذا الاستنباط هو اجتهاد من بعض المفسرين وليس بنص قاطع على ما ذكروا، وليس بنص مرفوع إلى النبي ﷺ حتى يجب المصير إليه بالدليل القاطع والبرهان الساطع. ومجرد الغناء الخالي عن الخنا لا يحتمل التفسير بهذا لكون الآية دلت على من يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله، وهذا يُحمل على من تصدى إلى الكتابة أو شراء الكتب المشتملة على الإلحاد والزندقة ليضل بها الناس عن الحق، لكون الجهد بالإلحاد والزندقة ونشره هو الغاية في إفساد البلاد وأخلاق العباد من كونهم يخرجون بسببه عن الصراط المستقيم ويتبعون طريقة المغضُوب عليهم والضآلين، خصوصًا إذا انضم إلى هذا الإلحاد والزندقة كونه يتخذ آيات الله هزوًا، فإن الاستهزاء بالله وبكتابه ورسوله والدين كفرٌ بالله عز وجل ﴿قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ ٦٥ لَا تَعۡتَذِرُواْ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ [التوبة: 65-66] مما يدل على أن هؤلاء كفروا بمجرد استهزائهم بعد إيمانهم، وأن مجرد الاستهزاء أحبط أعمالهم وألحقهم بالكفار، فما بالك بالمستهزئين الذين ليس معهم إيمان فإنهم أحق بالكفر، وهذا التفسير بما ذكرنا هو الذي ينطبق عليه معنى الآية، وهم الذين يصابون بالخزي في الدنيا حتى يغطي أقاربُهم وجوهَهم عند ذكرهم، ثم يخلّد لهم الذكر الخامل والسُّمعة السيئة.

و﴿لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ يشمل كل ما يتلهى به الإنسان في حياته، وقد سمى الله الدنيا لعبًا ولهوًا، فالمسابقة بالأقدام وبالإِبل وبالخيل هو من لهو الحديث، وكذا المصارعة بالأجسام، والسباحة، والرماية، وكذا الغناء وضرب الدف عليه كل هذا من اللهو المباح، ومثله ملاعبة الرجل زوجته، وتأديبه فرسه، إذا لم يخرج عن حدود الحق إلى الباطل، وأشرها نشر الإلحاد والزندقة التي تنطبع في أخلاق أكثر العامة كما قيل:
إذا كنت من فرط السفاه معطلاً
فيا جاهلُ اعلم أنني غير جاحِد
أخاف من الله العقوبة آجلاً
وأعلم أن الأمر في يد واحد
فإني رأيت الملحدين تعودهم
ندامتُهم عند الأكف اللواحد
ونختم الكلام بكلمة كريمة ونصيحة حكيمة فيما يتعلق بالغناء والمعازف وسائر الملاهي، فنقول:

أولاً: إن الغناء في هذا العصر ألفاظه بذيئة، سخيفة يخجل العاقل من سماعها فضلاً عن ترديدها أو التغني بها.

ثانيًا: إن العالم كله اليوم غارق في أمواج بحار الموسيقى والغناء فأي خير جناه الناس من ذلك؟ ثم أليس استغراق المطروب في طربه يشل نشاطه ويقضي على همته واندفاعه إلى العمل ويغرق قلبه في الغفلة.

ثالثًا: لو أن أجهزة الأعلام سخرت هذا الوقت المهدور لتعليم الناس الخير وحملهم على فعله ألا يكون ذلك أصلح للناس وأنفع؟!.

رابعًا: إن هذا الذي يسمى اليوم بالفن من غناء ورقص وتمثيل وعزف لم يكن في عصر من العصور أكثر انتشارًا وضررًا منه في عصرنا.. فماذا يقدم المغنون والمغنيات لأمتهم من الخير؟! وماذا تنفع التمثيليات والمسرحيات التي تدَّعي الإصلاح وإثمها أكبر من نفعها؟!

* * *

[142] الأسَل: الرماح. [143] قال الرجل فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أر بباب هرقل مثله، فلما سلمت ردّ السلام ورحّب بي وألطفني ولامني على تركي النزول عنده، ثم أقعدني على شيء، لم أثبته، فإذا هو كرسي من ذهب فانحدرت عنه فقال: ما لك؟ فقلت: إن رسول الله ﷺ نهى عن ذلك. فقال جبلة أيضًا مثل قولي في النبي ﷺ حين ذكرته وصلى عليه، ثم قال: يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ما جلستَ عليه. ثم سألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر، ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام؟ قال: أبعد الذي قد كان؟ قلت: قد ارتد الأشعت بن قيس ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام، فتحدثنا مليًّا ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولّى يحضر، فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن من الحلي ثم قال للجواري: أطربنني، فخفقن بعيدانهن يغنين:
لله دَر عصابة نادَمتُهم
يومًا بجلَّق في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شُمّ الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى لا تهرّ كلابُهم
لا يسألون عن السواد المقبل
فاستهل واستبشر وطرب ثم قال: زدننا فاندفعن يغنين:
لـمن الدار أقفرت بمعان
بين شاطئ اليرموك فالصمان
فحمى جاسم فأودية الصفر
مغنى قبائل وهجان
فالقريات من بلاس فداريـ
ـيا فسكاء فالقصور الدواني
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهـ
ـر وحق تعاقب الأزمان
قد دنا الفصح فالولائد ينظمـ
ـن سراعًا أكلة المرجان
لم يعللن بالمغافير والصمـ
ـغ ولا نقف حنظل الشريان
قد أراني هناك حَقَّ مكينٍ
عند ذي التاج مقعدي ومكاني
فقال أتعرف هذه المنازل؟ قلت: لا. قال: هذه منازلنا في ملكنا بأكناف دمشق، وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت. قلت: أما إنه مضرور البصر كبير السن. قال: يا جارية هاتي. فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج فقال: ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام. ثم راودني على مثلها فأبيت، فبكى ثم قال لجواريه: أبكينني فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن قوله: تنصرت الأشراف من عار لطمة... إلخ. ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ، ثم سلمت عليه وانصرفت. فلما قدمتُ على عمر سألني عن هرقل وجبلة فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فقال أورأيت جبلة يشرب الخمر؟ قلت: نعم. قال: أبعده الله، تعجل فانية اشتراها بباقية فما ربحت تجارته، فهل سرّح معك شيئًا؟ قلت: سرّح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج. فقال: هاتها. وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنا فسلم، وقال: يا أمير المؤمنين إني لأجد أرواح آل جفنة. فقال عمر رضي الله عنه: قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه وآتاك بمعونة. فانصرف عنه وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشـر
لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها
كلا ولا متنصـرًا بالروم
يعطى الجزيل ولا يراه عنده
إلا كبعض عطية المذموم
وأتيته يومًا فقرب مجلسـي
وسقى فروّاني من الخرطوم
فقال له رجل: أتذكر قومًا كانوا ملوكًا فأبادهم الله وأفناهم؟! فقال: ممن الرجل؟ قال: مزني. قال: أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله ﷺ لطوقتك طوق الحمامة. وقال للرجل الذي جاء من عند جبلة: ما كان خليلي ليخل بي، فما قال؟ قال: قال لي: إن وجدته حيًّا فادفعها إليه، وإن وجدته ميتًا فاطرح الثياب على قبره وابتع بهذه الدنانير بُدنًا فانحرها على قبره. فقال حسان: ليتك وجَدتني ميتًا ففعلت ذلك بي.
[144] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [145] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [146] أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث محمد بن حاطب. [147] أخرجه الترمذي من حديث عائشة. [148] متفق عليه من حديث أبي موسى. [149] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [150] أخرجه مسلم من حديث أنس. [151] أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة. [152] متفق عليه من حديث عائشة. [153] ذكره البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الرحمن بن كعب بن زهير. [154] وهذا البيت ليس من قصيدة (بانت سعاد) وإنما دخل فيها دخول التفسير لها. [155] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [156] متفق عليه من حديث عمر. [157] أخرجه البخاري من حديث أبي ذر. [158] الجد بن قيس هو الذي اختفى خلف بعيره الأحمر عند بيعة الرضوان وقال لرسول الله ﷺ عند غزوة تبوك: إنني إذا رأيت بنات الأصفر لم أستطع الصبر عنهن فائذن لي في القعود، فأذن له، وأنزل الله فيه ﴿وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ٤٩ [التوبة: 49]. [159] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة.

حديث ليلى الأخيَليَّة مع الحجَّاج بن يوسف

هذه المحاورة الواقعة بين الحجاج وبين ليلى الأخيلية تعطي الطلاب والطالبات شيئًا من شرف أخلاق القدامى، وكون حبهم وعشقهم محفوفًا بالعفاف والإحسان، فهم يعدون النكاح الواقع بين المحبِّ ومحبوبته أنه رذالة ونذالة، وقد قيل: إذا نكح الحبُّ فسد. ولهذا قالت ليلى الأخيلية:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبحْ بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
بخلاف المحبين من أهل هذا العصر، فإن غاية حب أحدهم لمعشوقته هو غزو ما سفل من خَلْقها وأخلاقها، لهذا لا تدوم المحبة بينهما لكون الرجل يعرض له من يرغب في حبه فينصرم حبله عن معشوقته، كما أن المرأة قد يعرض لها من ترغب في حبه فتنصرف عن معشوقها لعدم استدامة صلة ما بينهما، كما قيل:
علقتها عرضًا وعلقت رجلاً
غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
قال أبو بكر بن الأنباري: حدثني أبي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد عن أبي الحسن المدائني عمن حدثه عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاصي قال: كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاصي إذا دخل على الحجاج، فدخل يومًا فدخلت إليهما وليس عند الحجاج أحد إلا عنبسة، فأقعدني فجيء الحجاج بطبق فيه رُطب، فأخذ الخادم منه شيئًا فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهما، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها. فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصابت الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنَّتْ حسنة الخلق، ومعها جاريتان، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتى بك؟ فقالت: إحلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد. فقال لها: صفي لنا الفجاج. فقالت: فالفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والهالك للقل، والناس مستنون رحمة لله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة مبلطة لم تدع لنا هبعًا ولا ربعًا ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال، ومزّقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قلت في الأمير قولاً. قال: هاتِ. فأنشأت تقول:
أحجاج لا يُفْلَلْ سلاحُك إنها ال
ـمنايا بكف الله حيث يراها
أحجّاج لا تُعط العصاة مُناهمُ
ولا الله يُعطي للعصاة مُناها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
تتبَّع أقصـى دائها فشفاها
شفاها من الداء العُضال الذي بها
غلامٌ إذا هزَّ القناةَ سقاها
سقاها فرواها بشـرب سجاله
دماء رجال حيث مال حشاها
إذا سمع الحجاج رزء كتيبة
أعدّ لها قبل النزول قِراها
أعدّ لها مسمومة فارسية
بأيدي رجال يحلبُون صراها
فما ولد الأبكارُ والعون مثله
بِبحر ولا أرض يجفّ ثَراها
قال: فلما قالت هذا البيت قال الحجاج: قاتلها الله، والله ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها. ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى ألَّا يكون أبدًا. ثم التفت إليها فقال: حسبك. قالت: إني قد قلت أكثر من هذا. قال: حسبك. ويحكِ حسبك. ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها. فذهب بها، فقال له: يقول لك الأمير اقطع لسانها. قال: فأمر بإحضار الحجّام، فالتفتت إليه، فقالت: ثكلتك أمك، أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة. فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبًا، وهمّ بقطع لسانه، وقال: ارددها. فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي. ثم أنشأت تقول:
حجّاجُ أنت الذي ما فوقه أحدٌ
إلا الخليفةُ والمستَغْفَرُ الصمدُ
حجاج أنت شهابُ الحرب إن لقحت
وأنت لِلناس نورٌ في الدُّجى يَقِدُ
ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أنّا لم نر قط أفصح ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجهًا، ولا أرصن شعرًا منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها. ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة. قالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مُتُّ قبلها
وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتُها
وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
بلى كل ما قرّت به العين طائح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
عليّ ودوني جَنْدل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أو زَقَا
إليها صدىً من جانب القبر صائح
فقال: زيدينا من شعره يا ليلى. فقالت: هو الذي يقول:
حمامةَ بطن الواديين ترنمي
سقاك من الغُر الغوادي مطيرُها
أبيني لنا لازال ريشك ناعمًا
ولازلت في خضـراء غضّ نضيرُها
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداةَ سفورُها
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه
وإعراضها عن حاجتي وبسورُها
وأشرف بالقور اليفاع لعلني
أرى نار ليلى أو يراني بصيرُها
يقول رجال لا يضيرك نأْيُها
بلى كل ما شفَّ النفوسَ يضيرُها
بلى قد يضير العين أن تكثر البكا
ويُمنع منها نومها وسرورُها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسـي تقاها أوعليها فجورُها
فقال الحجاج: ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير كان يلمّ بي كثيرًا فأرسل إليَّ يومًا أني آتيكِ، وفَطِن الحيُّ، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت عن وجهي، فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع. فقال: لله درُّك، فهل رأيت منه شيئًا تكرهينه؟ فقالت: لا والله الذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر، فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تُبحْ بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئًا حتى فرق الموت بيني وبينه. قال: ثم مه، قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عم له إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فنادِ بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة
من الدَّهْر لا يسـرى إليَّ خيالها
أقول:
وعنه عفا ربّي وأحسن حاله
فعزت علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم مه قالت: ثم لم يلبث أن مات، فأتانا نعيُه، فقال: أنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدت:
لتبك العذارى من خفاجة نسوةٌ
بماء شؤون العبْرة المتحدّر
قال لها: فأنشدينا. فأنشدته:
كأن فتى الفتيان توبة لم يُنخ
قلائص يفْحصنَ الحصى بالكراكر
فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي- وكان من جلساء الحجاج-: من الذي تقول هذا فيه فوالله إني لأظنها كاذبة. فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير، إن هذا القائل لو رأى توبة لسرّه ألا تكون في داره عذراء إلا هي حامل منه. فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنتَ عنه غنيا. ثم قال لها: سلي يا ليلى تُعط. قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن. قال: لكِ عشرون. قالت: زد فمثلك زاد فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأكمل. قال لك: ثمانون. قالت: زد فمثلك زاد فتمّم. قال: لكِ مائة واعلمي أنها غنم. قالت: معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جودًا، وأمجد مجدًا، وأورى زندًا من أن تجعلها غنمًا. قال: فما هي ويحكِ يا ليلى. قالت: مائة من الإبل برعاتها. فأمر لها بها، ثم قال: ألك حاجة بعدها. قالت: تدفع إلى النابغة الجعدي. قال: قد فعلت. وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربًا عائذًا بعبد الملك، فأتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فأتبعته البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فمات بقومس ويقال بحلوان.

* * *

(6) تحقيق المقال في جواز تحويل المقام لضرورة توسعة المطاف بالبيت الحرام

[وقفة مع كتاب نقض المباني في فتوى اليماني لسليمان بن عبد الرحمن بن حمدان و الرد عليه في ستة عشر فصلا]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإنني وقفت على كتاب صغير عنوانه: نقض المباني في فتوى اليماني معزوًّا إلى مؤلفه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان.

حاصله الرد على صاحب رسالة المقام الذي هو عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. وبعد الحصول على الرسالة والنظر فيما تقتضيه من الدلالة، وجدتها رسالة وجيزة سماها مقام إبراهيم وهل يجوز تأخيره عن موضعه عند الحاجة لتوسيع المطاف، وساق فيها ما عسى أن يقال من حجج المانع والمقتضي بعبارات تتقلب مع الحق وبلسان يتحلى بالصدق حسبما ظهر لي من قوله، ولا أزكيه عند ربه، يعزو كل أثر إلى راويه مع بيان علله ومنافيه حسبما تقتضيه أمانة الرواية وثقة الدراية، وقد رجح جواز تحويله عن محله إلى محل قريب منه رفقًا بالناس، وكما سبق نظير هذا العمل من فعل عمر بطريق القياس وإجماع الصحابة الأكياس، وحاصل ما أورده مما عزاه وأسنده من الآثار الضعيفة والجيدة، وما نزع إليه بموجب اجتهاده وأيده فإنه من الأمر الجلي الواضح إن لم يكن للصواب فيه ملمح ففيه للاجتهاد مسرح.

ثم إن سليمان بن حمدان حمل عليه حملة الصائل السكران فأنحى عليه بالملام وتوجيه المذام، حتى كاد أن يخرجه عن دائرة الإسلام بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفا وتنافي الإنصاف والحفا، قد جعل فيها الجد عبثًا والتبر خبثًا والصحيح سقيمًا والضعيف المعلول مستقيمًا، وفيه الشيء الكثير من الهذر والهذيان والزور والبهتان والتدليس والكتمان ما يستبعد وقوعه من مثل هذا الإنسان.

كل هذا قد استباح عرضه في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، وقد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره وهي أن يأخذ من أقوال بعض المؤرخين غير المشهورين بالعلم والفقه والحديث، بل ولا بالثقة كالأزرقي وابن فهد وابن سراقة العامري وابن فضل الله المعري وابن جبير ومن الدر المنثور للسيوطي وأمثاله، فيأخذ من أقوال هؤلاء ما يوافق مذاقه ويجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها.

فساءني والله سوء ما أورده وفساد ما تورطه، إذ قد يغتر به من نظر فيه من جهلة العوام أو بعض من لم يتحقق في رسالة المقام من علماء الإسلام فيظنون أنه قد رسم لهم الصواب بتحقيقه وكشف لهم الباطل بتشديقه، ومن يغترب يحسب عدوًّا صديقه.

وبما أن النصح من واجبات الإسلام، ونصر الحق واجب باليد واللسان، والمسلم للمسلم كالبنيان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2]. فلأجله أحببت أن أشير في هذا الحجم الصغير إلى ما اشتمل عليه النقض من المجازفة في التعبير، والخطأ الواضح في التفسير، سامحه الله عما اقترفه من التحريف والتبديل، ومن الإفراط والتقصير إذ ليس كل ناقد بصير سوى الله الذي لا معقب لحكمه نعم المولى ونعم النصير.

* * *

الفصل الأول

رب صاحب عزيمة قوية وطريقة قويمة ينهض بجده وجهده إلى خدمة أمته ومنفعة أهل ملته بتقديم تأليف لطيف كرسالة المقام المحتفة بالآثار الصحيحة والحكم الصريحة التي يقبلها الذوق السليم، وتوافق أصول الدين القويم، فما يخطو بعض خطوات حتى يتصدى له السعاة المماحلون فينصبون في طريقه العواثير ويخدون له الأخاديد ويأتون إليه من كل فج عميق ليقطعوا عليه الطريق ويلجئوه إلى الحرج والضيق، فتضعف عزيمته وتنحل شكيمته ويكسل عن المضي في سبيل عمله والنصح لأمته ويؤثر الميل إلى الراحة والخمول.

أما النقد بالحق وبلسان الصدق فإنه من واجبات الدين ومن النصيحة لله ولعباده المؤمنين، ولا نزال بخير متى يوجد فينا من يقوِّم اعوجاجنا ويصلح ما فسد من منهاجنا، فإن الإنسان مهما بلغ من الإتقان ومن سعة العلم والعرفان فإنه عرضة للخطأ والنسيان، فلا يكاد يخلو عمل من خلل ولا كلام من زلل، شهدت بذلك كتب المؤلفين وتاريخ المتقدمين والمتأخرين، يخطئ أقوام فيصلح خطأهم آخرون بحسن قصد وسداد نقد فيستنير الحق ويتجلى وجه الصواب والصدق.

غير أن المخلص الناصح والبصير الناقد يجب عليه أن يتثبت في الرد والنقد، وأن يقدر ضرورة الحال والمحل، فلكل مقام مقال، والعلة تدور مع معلولها وجودًا وعدمًا، وتختلف الفتوى باختلاف الزمان والمكان فيما لا يتعلق بأصول العقيدة والأركان، وقد جاءت هذه الشريعة السمحة بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، والحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً، ما جعل الله عليكم في الدين من حرج، ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] لأن الدين عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، شرع لإسعاد البشرية في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية، ولو فكر العلماء بإمعان ونظر لوجدوا فيه الفرج والمخرج من كل ما وقعوا فيه من الشدة والحرج، ومن صفة رسول الله ﷺ أنه ﴿...عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ١٢٩ [التوبة: 128-129].

* * *

الفصل الثاني

إن أول كلمة بدأ صاحب النقض بردها وسار في سائر صفحات كتابه يرددها للتنديد بها هي قول صاحب رسالة المقام: هذه رسالة في شأن مقام إبراهيم وما الذي ينبغي أن يعمل به عند توسعة المطاف، حاولت فيها تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق.

فأجاب سليمان قائلاً: إنا إذا أمعنا النظر في كلامه وجدناه يدل على أمرين:

الأول: إنه يتضمن جواز التصرف في مقام إبراهيم وأن بحثه ينحصر فيما ينبغي أن يعمل به.

الأمر الثاني: إنه يحاول تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق، وهذا يدل على أنه لم يجد من الأدلة ما يصح الاستناد عليه؛ لأن المحاولة إنما تكون فيما فيه مشقة وصعوبة ولا يتأتى إلا بالاحتيال، هذا معنى كلامه ومقتضاه في اللغة، قال صاحب النهاية: والمحاولة طلب الشيء بحيلة. وكلا الأمرين اللذين ذكرهما غير جائز شرعًا. انتهى.

فالجواب أن نقول: إن هذه الكلمة التي بدأ صاحب النقض بإنكارها وحمل صاحب الرسالة على سوء الظن من أجلها هي من لطيف الخطاب الجاري على ألسنة الكتاب من العلماء والفقهاء والحكماء وعلماء اللغة وفصحاء البلاغة وسائر الفرسان في هذا الميدان، بحيث ينطق بها أحدهم عندما يحاول إنشاء تأليف أو مقالة أو رسالة ذات أهمية بدون أن يسبق صاحب النقض أحد منهم إلى إنكارها ولو أنصف لعرف، ولكنه تجاهل فحرف وقد قيل: ويل للشعر من رواة السوء.

فدعواه أن المحاولة هي طلب الشيء بحيلة وأن هذا هو معناها في اللغة حسبما ذكره صاحب النهاية، فهذا كله من الكذب على اللغة وعلى صاحب النهاية حيث نسب إليه تفسير المحاولة على هذا المعنى السيئ دون غيره، حتى كأنه لا معنى لها سواه، وهذا يعد من خيانة البحث وعدم الوفاء بأدائه كاملاً.

لأنه بكشفه على النهاية وإشرافه على تفسير المحاولة قد عرف سعة القول في معناها، فنبأ ببعضه وأعرض عن بعض، وقد كان من واجب الأمانة في نقل الرواية أن ينقل ما قاله فيها صاحب النهاية، أو يشير إلى أن هذا من بعض معانيها دون أن يوهم الناس في نقله بأن هذا هو المعنى المراد منها دون غيره، وصاحب النهاية نفسه قد استعمل هذه الكلمة في مادة المحاولة فقال: في تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، أن المراد من هذه الكلمة إظهار الفقر إلى الله بطلب المعونة على ما يحاول من الأمور وهو حقيقة العبودية. انتهى.

فقد عرفت كيف نطق بها وهو إمام في اللغة ومعدود من علماء البلاغة، وعلى صحة حملها على الحيلة فليست كل حيلة تكون محرمة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالحيلة التي يتوصل بها إلى تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فهي الحيلة المحرمة، وفيه الحديث: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»[160] لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، أما الحيلة التي يتوصل بها صاحبها إلى أمر حسن من رضى الله وطاعته ونشر ما ينفع الناس من القول الحسن، والمبالغة بتلقينه وتفهيمه لا سيما إذا كان من الأمر الخفي الذي ينكر العامة جواز فعله ولم يتمرنوا على مثله، فإنها من الحيلة المباحة. ولم يزل العرب حتى الشعراء يفتخرون بالحيلة التي توصلهم إلى المكارم وتخلصهم من المكاره، ومنه قول بعضهم:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

وقال الأقرع القشيري:
تخادعنا وتوعدنا رويدًا
كدأب الذئب يأدو للغزال
فلا تفعل فإن أخاك جلـد
على العزاء فيها ذو احتيال
وقال الأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المجـ
ـد غزير الندي عظيم المحال
قال في القاموس: الاحتيال والتحول والتحيل الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف، قال: وحاول محاولة أي رام. وقال في مختار الصحاح: حاول: أي أراد.

فقول صاحب الرسالة حاولت تنقيح الأدلة، أي أردت وقصدت لا يحتمل المعنى المراد غيره، فحملها على الحيلة المحرمة هو من تحريف الكلم عن موضعه، والكلام يحمل على المتبادر إلى الأذهان وعلى ما يسبق إليه فهم كل إنسان حتى في كلام الله عز وجل. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً[161]. فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة، والعجب أنه قد شنع على صاحب الرسالة بنقد هذه الكلمة الرائجة في الاستعمال وغفل عن تسمية كتابه نقض البنيان، فإنه بهذه التسمية قد طبعه بطابع البطلان؛ لأن النقض ضد الإحكام والإبرام، وقد ورد مطردًا فيما هو من قبيل الذم في السنة والقرآن كنقض العهود ونقض الإيمان وإحباط صالح الأعمال: قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ [الرعد: 25] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا [النحل: 91]، ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا [النحل: 92]،

ومنه حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «وما نقض قوم عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شديدًا»[162].

فهي تسمية تدل بمعناها على اعتلال مسماها وعدم اعتداله.

[160] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث أبي هريرة. [161] أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب. [162] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.

الفصل الثالث

قال في النقض: إن مقام إبراهيم مشعر إسلامي ومنسك من مناسك الحج قد وضعه النبي ﷺ في موضعه هذا وهو موضعه في عهد إبراهيم عليه السلام، وقد أمرنا الله عز وجل بأن نتخذ منه مصلى، وفسر لنا رسول الله ﷺ مقتضى هذا الأمر بتلاوته للآية الكريمة وصلاته خلفه بعد طوافه في حجة الوداع، وما أمر الله به رسوله من شرعه الذي أوحاه إليه أمر توقيفي لا اجتهاد فيه لأحد، ولا يسوغ لأحد من الناس أن يفتي بنقله من موضعه الذي هو فيه ولا التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف، ولا يجوز الاحتيال على ذلك بأي حيلة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ١٨ [الجاثية: 18].

فالجواب: إن في غضون هذا الكلام من التمويه والإيهام وقلب حقائق الأحكام وإغراء سذج العوام ما لا يخفى على الخاص والعام. أما المقام النازل في شأنه القرآن فقد وقع الخلاف بين السلف والخلف في تعيينه على أقوال، وإن منهم من قال: إنه الحج كله. ومنهم من قال: إن مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار. ومنهم من قال: إنه المسجد الحرام. ومنهم من قال: إنه الحجر المعروف الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام لبناء البيت الحرام. ورجح ابن جرير هذا الأخير وقال: إنه أولى الأقوال بالصواب. ثم إنه على فرض قصر الكلام على هذا الحجر المعروف في المسجد الحرام فإن قوله إنه مشعر إسلامي ومنسك من مناسك الحج ليس بصحيح في المعنى المراد، وكأن الرجل لا يعرف التفريق بين مشاعر الحج وغيرها، فإن مشاعر الحج هي كل ما كان من أعماله كالإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة والرمي والحلق والنحر وغير ذلك، ذكره في النهاية.

وكذلك المنسك فإنه المتعبد، ويقع على المصدر وعلى الزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، ذكره في النهاية أيضًا، وهذا الحجر المسمى بالمقام لم يتعلق بذاته شيء من الشرائع والأحكام، فلم يؤمر الناس في حجهم بمسحه ولا بتقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، وقد ضرب عليه بصندوق من حديد لإبعاد الناس عن مسحه وتقبيله، بخلاف الحجر الأسود فقد ورد الشرع بتقبيله، وكذلك الركن اليماني ورد الشرع بمسحه وكذلك الحجر - بكسر الحاء - ورد الشرع بالأمر بالصلاة فيه لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «من لم يقدر على الصلاة في البيت فليصل في الحجر فإنه من البيت».

أما هذا الحجر المسمى بالمقام فلم يثبت عن النبي ﷺ فيه إلا أنه طاف في حجة الوداع ثم جاء إلى المقام وقرأ قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة - وكان إذ ذاك ملصقًا بالكعبة- فصلى ركعتين، وهذه الصلاة تسمى سنة الطواف تستحب في حق كل من طاف بالبيت في حج وغيره، وقد أجمع العلماء على أنه ليس لهذه الصلاة مكان محدود. ويقول الفقهاء في بعض كتبهم: وحيثما ركعهما من المسجد فثم مقام إبراهيم، وقد صلاها عمر بذي طوى وصلتهما أم سلمة خارج الحرم، والنبي ﷺ صلى هاتين الركعتين في مقامه اللائق به كما ذكرنا، وانتشر أصحابه وسائر من حج معه من أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام كل واحد منهم يصلي ركعتي الطواف منفردًا، ويحتمل أن يكون بعضهم أبعد عن مقام رسول الله ﷺ بمائة ذراع وأكثر وأقل كما قال جابر بن عبد الله في صفتهم: نظرت إلى مد بصري من بين راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن شماله مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله فما عمل به من شيء عملنا به. فهؤلاء على كثرتهم رجالهم ونسائهم قد انتشروا في المسجد الحرام كل واحد منهم يصلي ركعتي الطواف، ورسول الله ﷺ ينظر إليهم بعين الرضا عنهم ويصدق عليهم أنهم قد اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى؛ لأن النبي ﷺ لم يعين لهذه الصلاة مكانًا محدودًا، ولم يأمر أحدًا بالتقدم إلى مكانه ولا القيام مقامه، ولم يقع منهم الزحام على مواقع أقدام رسول الله في المقام لفقههم الراسخ وعلمهم الواسع أن المسجد الحرام كله مقام إبراهيم.

وهذه معجزة من معجزات النبوة، إذ لو أمرهم بالتقدم إلى مكانه أو جعل مكانًا معينًا لهذه الصلاة، لوقع الناس في الشدة والمشقة التي تنافيها شريعته السمحة.

فإقرار النبي ﷺ للصحابة يصلون سنة الطواف متفرقين في أنحاء المسجد الحرام هو التشريع الشرعي الذي قال الله فيه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

وعن قتادة في قوله تعالى ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى، والمقصود أن المشروع المأمور به هو صلاة سنة الطواف لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم، لما روى جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: «يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنَ لَيْلِ أو نَهَارِ»[163]. فلو قدر أن السيل ذهب بهذا الحجر فلم يعثر له على عين أو خبر فإنه لن يتغير بذلك شيء من مشاعر الحج ولا مناسكه ولبقي العمل بسنة الطواف جاريًا مستمرًّا إلى يوم القيامة؛ لأن المحافظة على فعل هذه الصلاة آكد من المحافظة على محل ما تفعل فيه، وقد صلاها أصحاب النبي ﷺ عند المقام حال كونه لاصقًا بالكعبة زمن النبي وزمن أبي بكر، ثم صلوها عند المقام بعد تحويل عمر له إلى موضعه الآن، ولم يقع في نفس أحد منهم حرج في صحة هذه الصلاة لعلمهم أنها وقعت موقعها في الصحة والامتثال لكونها تفعل في الحرم وفي خارجه، وهي من الشرائع المستحبة الثابتة بالكتاب والسنة فلو أنكر أحد مشروعيتها لحكمنا بكفره؛ لأنها مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فإدخال المقام في مشاعر الحج المحتمة ومناسكه اللازمة غير صحيح وغير صواب؛ لأنه لا يتعلق بذات هذا الحجر شيء من العبادات، فلا يجوز في الشرع مسحه ولا تقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، فاعتقاد ما ليس بمشعر ولا منسك أنه مشعر ومنسك يعد من تغيير الكلم عن مواضعه، ومن تبديل الشريعة بغيرها، كما لو اعتقد ما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل على حسب اعتقاده، ولكن الله سبحانه جعل استدامة بقاء المقام في المسجد الحرام بمثابة الآية والبرهان على صحة بناء إبراهيم الخليل عليه السلام لهذا البيت الحرام الذي هو أول بيت أسس في الأرض لعبادة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗا [آل‌عمران: 96-97] فجعل وجود المقام بمثابة الآية والشاهد على ذلك، وفي البخاري عن أبي ذر قال: سئل رسول الله ﷺ عن أول بيت وضع للناس. قال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»». الحديث، وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام.[164]

* * *

[163] أخرجه أبو داود من حديث جبير بن مطعم. [164] سنن النسائي (٣٤/٢) بإسناد صحيح قاله ابن حجر في فتح الباري (٨٠٤/٦) وقيل إن سليمان جدد البناء ولم يكن أول من بناه.

الفصل الرابع

وأما قوله: إن النبي ﷺ قد وضع المقام في موضعه هذا وهو موضعه في عهد إبراهيم عليه السلام.

فالجواب: أما وضع النبي ﷺ للمقام في موضعه الآن فلم يثبت ذلك لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، بل ولم يثبت القول به عن أحد من أصحابه، والصحيح الثابت أنه من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان زمن النبي ﷺ ملصقًا بالكعبة، وصلى النبي ﷺ عنده في عمرة القضاء وفي الفتح وفي حجة الوداع، وتوفي رسول الله وهو على حالته ملصقًا بالكعبة، ثم كان الأمر كذلك زمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، فلما اتسعت فتوح الإسلام وكثر الوافدون إلى حج بيت الله الحرام من جميع البلدان، ورأى عمر أن المصلين عند المقام يعرقلون سير الطائفين بالبيت الحرام، كما أن الطائفين يؤذون المصلين بوطئهم بالأقدام، فمن أجل شدة الزحام اقتضى رأيه أن ينقل المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن، ووافقه على هذا الرأي جميع الصحابة الكرام، حتى لم ينكر ذلك عليه منهم إنسان فجعله على حد المطاف بقدر ما يسع الناس في ذلك الزمان، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: كان عمر يرى أن إبقاء المقام في لصق الكعبة يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى ولم تنكر الصحابة فعله ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا. انتهى.

وهذا التصرف الحاصل من عمر في نقله المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن يعد من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته؛ لأن هذا التصرف يرجع إلى راحة الطائفين بالبيت الحرام وحفظ حياتهم من ضرورة الزحام والسقوط تحت الأقدام، ثم التمكن من الإتيان بركن الحج على التمام بخشوع وخضوع واطمئنان، فهو من الأمور الجزئية التي تتمشى على حسب الحاجة والمصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة أشبه توسيع المسجد الحرام عندما تدعو الحاجة إلى توسعته، وكان زمن النبي ﷺ شبه الصحراء ليس له جدران ولا سقوف ولا أبواب، فجرى التصرف من عمر بعد النبي ﷺ بتوسعته وجعل له جدرانًا تحيط به، ونقل المقام من لصق الكعبة ووضعه موضعه، وكما جرى له التصرف أيضًا في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده فدعت الضرورة والمصلحة إلى هدمه لتوسعته، فهو أول من وسع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد عد العلماء هذا التصرف من العمل المبرور والسعي المشكور، فالقائل بتحريم نقل المقام عن محله ولزوم بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ يلزمه أن يقول بوجوب استدامة بقاء المسجد الحرام على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ، وأن يقول بتحريم التصرف بتوسعته وتغييره عن حالته سواء كان ذلك من عمر أو غيره، ويلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله ﷺ بيده إذ هذا كله من لوازم قوله.

ومن المعلوم أن المسجد الحرام والمسجد النبوي هما أعظم حرمة من حجر المقام، وقد جاءت هذه الشريعة السمحة بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والحرج منفي عن الدين، فمتى تبين لعلماء الإسلام والعارفين بالنصوص والأحكام أن في نقل المقام عن محله إلى محل قريب منه مصلحة راجحة ودرء مفسدة واضحة فثم شرع الله ودينه، إذ ليس بين أيدينا ما يحرمه والحكم يدور مع علته، وقد سبق العمل من الصحابة بمثله، فهؤلاء الذين أفتوا بنقل المقام عن محله إلى محل قريب منه عندما تدعو الحاجة إليه، نرى أنهم أبعد الناس عن الملام وأولى بالثناء العام؛ لأنهم لم يتجانفوا في فتواهم لإثم ولا تغيير شرع ولا حكم بل هم أقرب إلى الصواب والعدل من القائل بالتحريم بدون نص ولا قياس ولا قول صاحب ولا دليل: ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [الأحقاف: 4].

وقد اتفق أهل السنة على أن الله بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان ليس بحرج ولا أغلال دون الكمال يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد، فإذا كان الفعل فيه صلاح وادعى مدع فيه بالفساد رجحوا الراجح منهما، وألحقوه به؛ لأن الدين مبني على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، والله سبحانه لا يضيع أجرمن أحسن عملاً.

* * *

الفصل الخامس

وأما قوله: إن هذا هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وينسب القول بذلك إلى ابن أبي مليكة وإلى مالك بن أنس فهو كاذب على ابن أبي مليكة في عزوه إليه فلم يقع من ابن أبي مليكة ذكر لإبراهيم في خبره حتى فيما رواه عنه بنفسه، وهذا نص لفظه المصرح به في نقضه: روى الأزرقي: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس. انتهى. وقد أخذ ذلك النووي فساقه بلفظه، فقد عرفت كيف حرف الكلم عن موضعه فقلب الجاهلية باسم إبراهيم ونسب القول بصحة ذلك إلى ابن أبي مليكة، ومعلوم أن زمن إبراهيم زمن نبوة ليس بزمن جاهلية، وأن أكثر الأنبياء من ذريته كلما مضى نبي خلفه نبي بعده كما قال تعالى: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ ٨٣ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٤ وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٥ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨٦ [الأنعام: 83-86].

فهؤلاء كلهم من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام وخبر ابن أبي مليكة هذا ليس لإبراهيم فيه ذكر ولا يمت له بصلة، وإنما أكثر من ذكره والقول بصحته لقصد الترويج به، وهكذا الأمر في كل مسألة يتبع صاحبها فيها الهوى أولا، ثم يطلب لها المخرج من كلام ينسبه إلى العلماء أو من أدلة ينسبها إلى الشرع وهي غير صريحة في المعنى، ومَنْ هذا شأنه جدير بأن يزيغ فهمه ويزل قدمه، وواجب المؤمن أن يكون عند الحق بلا خلق، وعند الخلق بلا هوى.

أما الجاهلية فإنها إنما نشأت زمن الفترة فيما بعد عيسى عليه السلام، وهي زمن عمرو بن لحي الذي سيَّب السوائب وغيّر دين إبراهيم، وقد زالت هذه الجاهلية ببعثة محمد ﷺ، أما المقام فقد كان في زمان الجاهلية في لصق الكعبة حتى باعتراف صاحب النقض نفسه كما روى الأزرقي في أخبار مكة عن نوفل بن معاوية الديلي قال: رأيت المقام في عهد المطلب ملصقًا بالبيت مثل المهاة. وكذلك ما رواه الإمام مالك بن أنس في المدونة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر وقبل ذلك وكانوا قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. انتهى.

فهذا قول مالك وفيه ارتباك وهو من الشيء الذي لا نجزم بصحته حيث لم يروه عن رسول الله ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه وعلى فرض صحته فإنه حجة عليه لا له؛ لأن فيه إبطالاً لما يدعيه في نقضه، فقد نفى أشد النفي تحويل النبي ﷺ للمقام زمن الفتح، كما ينفي وقوعه من أبي بكر ويثبت تحويل عمر له إلى موضعه الآن ابتداء من غير سبق، كما أن خبر ابن أبي مليكة أيضًا ينفي بقاء المقام في لصق الكعبة يومًا من الدهر، حتى ولا في زمن الجاهلية كما ينفي تحويل النبي ﷺ للمقام كما ينفي تحويله أيضًا من عمر لدعواه باستمرار بقاء المقام في موضعه الآن زمن الجاهلية وزمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر وعمر بدون استثناء ما عدا ذهاب السيل به ثم رد عمر له إلى موضعه، وهذا لا شك أنه معلوم البطلان وبطلانه لا يحتاج إلى مزيد بيان حتى عند صاحب النقض، وهذه النقول التاريخية يأتي الناس فيها بالغث والسمين والصحيح والسقيم، ويختلف نقل الناس للحوادث التاريخية من قريب فما بالك من بعيد كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كلما
جمع الرواة وخط كل بنان
وإنني لأعجب أشد العجب من كثرة احتجاجه بخبر ابن أبي مليكة، وهو لا يؤمن بموجبه ولا يمت إلى صحة ما يدعيه بصلة، أما خبر الإمام مالك ففيه أن الجاهلية قدمت المقام إلى لصق الكعبة خيفة السيل عليه وأن عمر أخرجه إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. انتهى.

ومعلوم أن بين مالك وبين إبراهيم الخليل عدد ألوف من السنين تحتاج إلى ألوف من الرواة. وهذه الأمور التاريخية كأخبار الحوادث والأمم الماضية لا يزال يتحدث بها الناس فيما بينهم على سبيل الفكاهة والتسلية بدون تدقيق ولا تحقيق ولا تكذيب ولا تصديق، لعلمهم أن هذه الأخبار لا تتعلق بالعقائد والأحكام ولا أمور الحلال والحرام، وقد روى عثمان بن سليمان - عند الفاكهي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يخالف قول مالك ولفظه: فلما بلغ - أي إبراهيم- الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت. وقوله أقرب إلى الصحة والصراحة من قول مالك لاحتمال أن يكون سمعه من النبي ﷺ، ومع هذا فإننا لا نحكم بصحة ما قاله ابن عباس وبطلان ما قاله مالك ولا بضد ذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أخبار الأمم الماضية كبني إسرائيل وغيرهم: إن هذه الأمور طريقة العلم بها هي النقل، فما كان منها نقلاً صحيحًا عن النبي ﷺ قبل، فإن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه، وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فإننا لا نصدقه ولا نكذبه، ومتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل عن الصحابة نقلاً صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لاحتمال أن يكون سمعه الصحابي من رسول الله ﷺ أو من بعض من سمعه منه ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين. انتهى.

فقد عرفت أنه لم يجزم بصحة ما رواه الصحابي عن أهل الكتاب، وإنما قال: النفس إليه أسكن، فما بالك بهذا الخبر الذي ألقاه مالك بدون سند إلى أحد ثم ألصق صاحب النقض القول بصحته إلى ابن أبي مليكة كذبًا عليه بدون أن يجده معزوًّا إليه ثم بالغ في نصره وتأييده ورفعه وتشييده وبنى أصول كتابه عليه فتراه يذهب عنه ثم يعود إليه، وهب أن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد فراغه من بناء البيت الحرام وضع هذا الحجر في موضعه الآن، أفيكون وضعه له من الشرع اللازم والحكم الدائم الذي لا يجوز تغييره ولا تحويله؟ ولا النظر في أمر خالفه أشبه قواعد البيت الذي بوأه الله له وأمره أن يبنيه في محله، إن هذا من الشيء الذي لا نقول بصحته لعدم ما يدل عليه: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡ‍َٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤ [البقرة: 134].

الفصل السادس

وأما قوله: إنه لا يسوغ لأحد من الناس أن يفتي بنقل المقام عن موضعه ولا التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف.

فالجواب: إن هذا الخطاب يعد من رموز الجهالة والحمق، فكأنه بهذا الكلام أقام نفسه مقام المشرع العام وحاكمًا على جميع العلماء والحكام، وإلا فكيف يحرم على جميع علماء الإسلام على سبيل الجزم والإلزام الاجتهاد في الفتوى في شأن تحويل المقام؟! يريد بذلك غلق باب الاجتهاد في النوازل وعدم استنباط الحق بالبراهين والدلائل، حتى يتم له مقصوده في نصر رأيه وإعلاء كلمته، ثم إنه يتناقض من حيث لا يشعر، فتراه ينحي بالملام وتوجيه المذام على صاحب رسالة المقام ويقول: إن هذه القضية لو وقعت زمن عمر بن الخطاب لجمع لها المهاجرين والأنصار واستشارهم فيها. ثم هو يضرب بمقالته هذه عرض الجدار ويقدم على تحريم الإفتاء بالتحويل بدون مشورة ولا مستشار، وأكبر من هذا وأنكر، دعواه أن تحويل المقام عن موضعه إلى محل قريب منه إلحاد في الدين وتغيير لشعائره:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
إنه لو كان معتدلاً في رأيه، منصفًا في قوله لساق ما لديه مما أدى إليه فهمه ووصل إليه علمه ثم ترك الباب للاجتهاد مفتوحًا والمجال مفسوحًا، إذ قد يحفظ الإنسان شيئًا وتضيع عنه أشياء، فقد أصابت امرأة وأخطأ عمر:
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
والحاصل أن هذا التشدد والتشدق إنما نشأ من حرج الصدر وضيق العطن عن سعة العلم بأحكام هذه الشريعة السمحة وما اشتملت عليه من جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا التصرف بنقل المقام عن محله إلى محل قريب منه لتوسعة المطاف للناس ليتمكنوا من أداء هذا الركن، أي الطواف بالبيت بتمام وبخشوع وخضوع واطمئنان؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - يعد من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا ينافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته.

وهذا التصرف إنما تظهر مصلحته وعموم منفعته من بعد تمهيده في محله عند طرف المطاف بعد توسعته أشبه توسيع المسجد الحرام وأشبه توسيع المسجد النبوي على السواء، بل إن المسجد الحرام والمسجد النبوي هما أفضل من حجر المقام، فالقائل بتحريم تحويل المقام يلزمه أن يقول بتحريم توسعة المسجد الحرام وبتحريم التصرف في المسجد النبوي؛ لأن هذا من لوازم قوله.

فدعواه بأن هذا التصرف إلحاد في الدين وتغيير لشعائره كله من الكذب على الله وعلى دينه وعباده المؤمنين، فمن لوازم هذا القول أن عمر بن الخطاب في تحويله المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن - ملحد في الدين مغير لشعائره، وأن الصحابة الذين أجمعوا على استحسان فعله أنهم مثله؟! ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5] فهو كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. فقد ألحق بالدين ما لم يأذن به الله حيث جعل حجر المقام من مشاعر الحج المحتمة وشرائع الإسلام اللازمة والله سبحانه لم يتعبد الناس بشيء من شأن هذا الحجر، وإنما تعبدهم بالصلاة حوله وحول الشيء ما حاط به من جوانبه ولو غير ملاصق له أو قريب منه، وهذا الرجل يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط العشواء، أحيانًا يسمي حجر المقام بمشاعر الحج المحتمة ومناسكه الهامة، وأحيانًا يسميه بالشرع اللازم والحكم التوقيفي، لكونه لا يعرف التفريق بين مشاعر الحج وغيرها ولا بين الشرائع وغير الشرائع، فإن مشاعر الحج اللازمة هي أعماله، مثل الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة فهذه لا تتغير عن مشروعيتها بتغير الزمان والمكان فلا يجوز تحويلها ولا تبديلها ولا النظر في أمر خالفها بحال، فتغييرها هو أن يقول بإسقاط الإحرام أو إسقاط الطواف أو السعي بين الصفا والمروة أو بعدم الوقوف بعرفة ومزدلفة أو أن يوقع الحج في غير أشهره ونحو ذلك، أما تغيير الشرائع فهو أن يقول بإسقاط الصلاة أو الزكاة أو الصيام، أو أن يجعل صلاة الظهر ركعتين أو أن يستبيح الإفتاء بالفطر في رمضان من غير عذر، أو أن يبدل رمضان بغيره من الأشهر، فهذا هو التغيير الحقيقي لشرائع الإسلام ومشاعر الحج، ولم يحم أحد حول القول به نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء.

* * *

الفصل السابع

قال في النقض ص183 في صفة حج النبي ﷺ: قال جابر: طاف رسول الله ﷺ ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فجعل المقام بينه وبين القبلة وصلى ركعتين. قال: وهذا تشريع منه لأمته وبيان لما أنزل إليه من ربه وتعيين منه للمصلى الذي أمره الله باتخاذه من مقام إبراهيم، وهذا توقيف ليس لأحد تغييره، وهذا التعيين يقتضي أن المصلى لا ينتقل عن المكان بنقل المقام عن مكانه، فلو أزيل حجر المقام عن مكانه فحكم المصلى الذي عينه باق ولا يقوم غيره من المواضع مقامه، وقد ذهب غير واحد من السلف إلى أن المقام المأمور باتخاذه مصلى هو المصلى الذي خلف المقام ورجح هذا القول أبو جعفر محمد بن جرير.

فالجواب أن نقول:
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
إن صاحب النقض قد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره، وذلك بأن يأخذ من الأقوال الضعيفة والموضوعة ما يوافق مذاقه ويجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة غير قابلة للمناقشة، ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها ولو بالكذب والاحتيال والتأويل والاحتمال.

من ذلك قوله: إن تحويل المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن هو من فعل رسول الله ﷺ وإن استدامة بقائه في موضعه الحالي هو من الشرع اللازم والحكم التوقيفي، وإن مقام رسول الله ﷺ في نفس المقام هو المأمور بأن يتخذ منه مصلى دون غيره، وإن هذا التعيين يقتضي أن المصلى لا ينتقل عنه إلى غيره بنقل المقام عن مكانه، ولا يقوم غيره من المواضع مقامه، ثم يدعي صحة هذا القول ورجحانه بنسبته بصريح الكذب إلى ابن جرير وغيره وهو بريء منه.
تراه مُعدًّا للخلاف كأنه
بِرَدٍّ على أهل الصواب موكل
فالعاقل البصير والعالم النحرير يجب أن يكون مستقل الرأي والتفكير وألَّا ينخدع بما يدعي صحته من هذا القبيل لقصد التهويل والتضليل، فإن غالب ما يدعي صحته لا صحة له أصلاً لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف فضلاً عن نفي الخلاف فيه فقد أجمع العلماء على أنه ليس لسنة الطواف مكان محدود، فمن ذا الذي قال من العلماء أن مكان سنة الطواف هي موضع أقدام رسول الله من المقام دون غيره؟! وأنه لو صلى في غير هذا المكان لم تصح صلاته؟! ثم ينسب ترجيح القول بهذا إلى إمام المفسرين محمد بن جرير وهو بريء منه، بل ولم يسبق صاحب النقض أحد إلى القول به فيما علمنا لا ابن جرير ولا غيره، وإنني أهيب بعلماء المسلمين إلى مراجعة تفسير ابن جرير وهل يجدون فيه صحة ما يدعيه؟!

نعم، إن ابن جرير حينما ساق في التفسير أقوال علماء السلف في تعيين المقام النازل في شأنه القرآن وأن منهم من قال: إنه الحج كله، ومنهم من قال: إنه عرفة ومزدلفة ورمي الجمار، ومنهم من قال: إنه الحرم، ومنهم من قال: إن الحجر المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام.

قال: وأولى الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون: إن مقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام. قال: ولا شك أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله جل ذكره: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125]، فقال بعضهم: هو المدعى. وقال آخرون: تصلون عنده. أي: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده عبادة منكم لي وتكرمة مني لإبراهيم. انتهى.

فقد عرفت كيف أعرض عن تصويب ابن جرير في المقام وأنه المعروف بهذا الاسم في المسجد الحرام ثم أخذ قوله: إن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى، ولا شك أن تصحيحه للمقام شيء وحكايته عن عرف الناس شيء آخر ولا تلازم بينهما، وإلا فمن المعلوم أن هذه التسمية جارية في عرف الناس حتى الآن فتراه يقول: صليت في مقام إبراهيم، ورأيته يصلي في مقام إبراهيم. يعنون بذلك الحوض المحوط؛ لأن ما جاور الشيء أعطي حكمه واقتبس من اسمه، أشبه البيت فإنه يراد به نفس المسجد وفيه الكعبة ويطلق ويراد به حدود الحرم كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ [الحج: 33] يعني: حدود الحرم، إذ من المعلوم أن البدن لا تنحر في الكعبة ولا في المسجد. وصاحب النقض أخذ حكاية ابن جرير عن عرف الناس وترك تصحيحه للمقام، وأنه المعروف بهذا الاسم في المسجد الحرام لقصد التدليس والإيهام والتلبيس على الأذهان، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١ [آل‌عمران: 71] فلبس الحق بالباطل هو تغطيته به بحيث يظهر للناس أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وهذا اللبس مستلزم للكتمان فإنه من لبس الحق بالباطل فلا بد أن يكتم من الحق ما يناقض ذلك الباطل لعلمه أنه إذا اتضح الحق افتضح الباطل وإن لم يكتمه لم يتم مقصوده، ثم إن من لوازم هذا القول أن صلاة أصحاب النبي ﷺ حين انتشروا في المسجد الحرام يصلي كل منهم سنة الطواف وبعضهم أبعد عن موقف رسول الله ﷺ بمائة ذراع أو أكثر، أن صلاتهم هذه تذهب عليهم سدى لفسادها، حيث لم تقع منهم في الموقع المأمور به فهم عاصون بفعلها لم يمتثلوا أمر الله فيها، حيث لم يقفوا موقف رسول الله من المقام، هذا معنى صريح لفظه ومقتضاه:
إذا غلب الشقاء على سفيه
تنطع في مخالفة الفقيه
ولا شك أن هذا واضح البطلان بإجماع علماء الإسلام، فقد انعقد الإجماع على أنه ليس لهذه الصلاة مكان محدود، إلا أن الناس يحبون الاقتراب من المقام لسنة الطواف لما يجدوا في نفوسهم من محبة رسول الله ﷺ والحرص على الاقتداء بآثاره، والله سبحانه أمر بأن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، أي عنده، وعند الشيء ما أحاط به من جوانبه نظيره قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِ [البقرة: 198] إذ ليس المراد بالذكر عند المشعر الحرام أنه نفس الجبل أو موقف رسول الله منه، بل المراد ما هو أوسع من ذلك وأفسح، فلو ذكر الله تلك الليلة في أقصى بقعة من صحراء مزدلفة لصدق عليه أنه امتثل أمر الله في الذكر عند المشعر الحرام، وكذلك إذا صلى في أقصى بقعة من المسجد الحرام صدق عليه أنه قد اتخذ من مقام إبراهيم مصلى، لكون الصلاة لله رب العالمين وليست لمقام إبراهيم، وهذا هو التشريع الشرعي المنطبق على قول الرسول وفعل الرسول وإقراره، وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، ولكن هذا الرجل يتهمه الناس بالشذوذ في آرائه والطفور في أفكاره، وقد صارت هذه التهمة يقينية ظهرت على فلتات لسانه وصفحات كتابه ﴿وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٥ [يونس: 25].

* * *

الفصل الثامن

قال في النقض ص45 و46: صادف تحويل النبي ﷺ للمقام يوم الفتح وكلٌّ مشغول بنفسه والناس ما بين قاتل ومقتول، ولم يكن للمقام إذ ذاك كبير أهمية؛ لأنه لم ينزل فيه بعد قرآن ولم يشرع اتخاذه مصلى ولم يشتهر أمره شهرة تلفت أنظار الناس إليه. قال: ومبادرته ﷺ إلى ذلك في تلك الحالة مع اشتغاله بأمر الفتح وتدبير أمر الناس وقتل من أمر بقتله مما يدل على العناية وعظيم الاهتمام بأمر المقام، وأن هذا الشيء قد أمر به؛ لأنه ﷺ لا يفعل شيئًا من التشريع إلا بأمر الله. انتهى.

فالجواب أن نقول: إن صاحب النقض قد بالغ في نسبة النقل للمقام إلى النبي ﷺ بأقوال كلها متناقضة وحجج ساقطة عارية عن الدليل غارقة في التحريف والتبديل، لا تقيم له حجة ولا توضح له محجة، ولكن ديدن الحائر المبهوت أن يتمسك بما هو أوهى من سلك العنكبوت، أشبه من يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب، ولن يخر فريسة لتعاليمه السخيفة سوي همجي رعريع قليل العلم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة، وكأنه بهذا التهور وفساد التصور يوهمنا أن النبي ﷺ دخل مكة عام الفتح على حين غفلة من أهلها، فعمد حال وصوله في هيئة السرار والخفا إلى المقام فنقله من لصق الكعبة إلى موضعه الآن بدون أن يعلم بذلك أحد من أصحابه، وإنما استباح القول بهذا من أجل أنه أوحش أمامه الطريق وعدم الصاحب والرفيق ممن يتبلغ به إلى محل التحقيق، لعلمه أن هذا العمل وهذا التصرف لم يثبت عن رسول الله ﷺ لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولم يثبت القول به عن أحد من أصحابه، ولم يذكر في شيء من كتب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا في شيء من السير المعتبرة كسيرة ابن إسحاق وابن هشام وابن سعد، ولا في تاريخ ابن جرير ولا ابن الأثير ولا في زاد المعاد لابن القيم ولا في شيء من الكتب المعتبرة ما عدا أن ابن كثير نسب القول به في البداية والنهاية إلى موسى بن عقبة ورده في التفسير وقال: إنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. انتهى.

ومن المعلوم بالنقل وبديهة العقل أنه لو وقع هذا التصرف وهذا التحويل من رسول الله ﷺ لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة والشك لكون المقام في المسجد الحرام، وهو من الشيء الذي يهتم بأمره ولا يستهان بذكره، فعدم نقلهم لتحويله هو من الدليل الواضح على عدم وقوعه، كيف وقد أحاط برسول الله ﷺ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، ومن سوى أهل مكة وكلهم محدقون برسول الله ﷺ يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده، قد شخصوا أبصارهم وصرفوا جل عقولهم واهتمامهم لحفظ ما يقوله ويفعله، أفيخفى على أمثال هؤلاء تحويله للمقام لو وقع منه؟! حتى لم ينسب القول به عن واحد منهم؟! إن هذا يعد من المحال ومن القول الباطل الشاذ، وهذا القول يشبه من يقول: إن الرسول أوصى بالخلافة لعلي بدون أن يعلم بذلك أحد من أصحابه، فهذا وأمثاله مما يعلم بطلانه بالنص، وفي مسودة آل تيمية ذكر القاضي أن الخبر يُرد من جهة المخبر بخمسة أمور:

الأول: أن يخالف موجبات العقول.

الثاني: أن يخالف الكتاب والسنة المتواترة.

الثالث: أن يخالف الإجماع.

الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمهم به.

الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة بنقله.

وهذا التحويل لو وقع من النبي ﷺ لوجب على كافة الصحابة علمهم به؛ لأنه من الشيء الذي يهتم بذكره وتتوفر الهمم والدواعي على نقله، ولم تكن في العادة ولا في الشرع ترك مثله حتى لو انفرد بالقول به واحد منهم لشككنا في صحته، ولو كان صحيحًا عن موسى بن عقبة لم تقم به حجة لكونه شاذًّا خلاف ما رواه الثقات الأثبات وخلاف ما يجب على الكافة علمهم به، فدعواه بأن النبي ﷺ بادر بنقله والناس مشتغلون عنه بالقتل والقتال، فهذا وأمثاله من أبطل الباطل وأمحل المحال، فإن أصحاب رسول الله لم يشتغلوا عن متابعته ولا مراقبته بأهل ولا مال ولا قتل ولا قتال، وأمر الفتح هو من الشيء المشهور الذي أشرقت شمس معرفته على جميع الناس حتى عرفه منهم العام والخاص، فكل عالم ومتعلم ومجالس، حتى الغلمان في المدارس يعرفون بأنه لم يقع بين رسول الله ﷺ وبين قريش قتل ولا قتال، وإنما دخلها في حالة أمن واطمئنان وفرح وابتهاج ودخول الناس في الدين أفواجًا أفواجًا.

وملخصها أن رسول الله ﷺ خرج من المدينة لعشر مضين من رمضان عام ثمانية من الهجرة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وسائر من أسلم من قبائل العرب، فسار رسول الله ﷺ في الجيش حتى إذا انتهى إلى ذي طوى وعرف من هناك أن قريشًا قد أعطت له بالطاعة، وأنها لن تقاومه انحنى لله شاكرًا أن فتح الله عليه مهبط وحيه ومقر بيته ليدخله وجميع المسلمين آمنين مطمئنين، وقد استعمل رسول الله ﷺ سائر وسائل الحزم ففرق الجيش إلى أربع فرق وأمرها جميعًا بألّا تقاتل ولا تسفك دمًا إلا إذا أكرهت عليه إكراهًا واضطرت إليه اضطرارًا، فلم يلق أحد من الفرق الأربع مقاومة ما عدا جيش خالد بن الوليد فقد كمن له في أسفل مكة أشد قريش عداوة لرسول الله ﷺ، وهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل، فلما دخلت فرقة خالد إلى مكان يسمى الخندمة أمطروهم بنبالهم فناوشهم المسلمون شيئًا من القتال، ثم ولّوا مدبرين فقتل من المسلمين رجلان وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزموا، وفي الحديث قصة، وذلك أن رجلاً يدعى حماس بن قيس كان يحد حرابه قبل قدوم النبي ﷺ فقالت له امرأته: ما تصنع بهذا السلاح؟ فقال: لمحمد وأصحابه، وإني أرجو أن أخدمك بعضهم.فقالت: والله إني ما أرى أن يقوم لمحمد وأصحابه شيء. ثم أخذ ينشد:
إن يقبلوا اليوم فمالي عله
هذا سلاح كامل وألَّه
وذو غرارين سريع السِّله
ثم إنه شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة فلما غشيهم خالد ومن معه انهزم حماس حتى دخل بيته مذعورًا وقال لامرأته: أغلقي علي الباب. فقالت: أين ما كنت تقول؟! فأنشد:
إنك لو شهدت يوم الخندمهْ
إذ فر صفوان وفر عكرمهْ
واستقبلتنا بالسيوف المسلمهْ
يقطعن كل ساعد وجمجمهْ
لهم نَهِيتٌ خلفنا وهمهمهْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمهْ
ثم إنها اجتمعت الفرق الأربع برسول الله ﷺ وهو بالحجون وبسط رداء الأمن على جميع الناس ما عدا ستة أشخاص، ثم إن رسول الله ﷺ نهض متوجهًا إلى البيت والمهاجرون والأنصار من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فطاف بالبيت سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن، ثم دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها ثم أغلق باب الكعبة عليه ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة وقد امتلأ المسجد بالناس صفوفًا ينظرون ماذا يصنع رسول الله ﷺ، قال ابن سعد: ثم خرج من الكعبة وجاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين ثم قال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»[164]. فهذا ملخص القصة وقد استقصى جميع الصحابة والتابعين والعلماء المعتبرين سائر تصرفات رسول الله ﷺ في الفتح، فحفظوا دخوله مكة بغير إحرام وعليه عمامة سوداء، وأنه طاف على بعير ليسمعوا كلامه ويروا مكانه ولا تناله أيديهم، وحفظوا دخوله الكعبة ومعه بلال وأسامة وعثمان، وحفظوا أذان بلال فوق الكعبة وتواجد قريش عليه حين سمعوه، وحفظوا أخذه لمفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ووقوع المحاورة بينه وبين زوجته حيث امتنعت عن دفع المفاتيح خشية ألّا يردها عليهم، وحفظوا طلب علي رضي الله عنه من النبي ﷺ في أن يجمع له بين السقاية والحجابة فامتنع عليه ورد المفاتيح إلى عثمان وقال: «الْيَوْمُ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ»[165]. وحفظوا تكسيره للأصنام حتى الحمامة من العيدان، وحفظوا إتيانه بيت أم هانئ وصلاته عندها وذلك ضحى، وشكواها أخاها حيث أراد قتل رجلين من أحمائها قد أجارتهما وقول النبي ﷺ لها: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»[166]. وحفظوا إتيان أبي بكر بأبيه أبي قحافة ورأسه كالثغامة بياضًا، وقول النبي ﷺ: «غَيِّرُوهُ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَاد»[167]. إلى غير ذلك من تصرفاته، ولم يقع في شيء من الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا السير المعتبرة كسيرة ابن إسحاق و ابن هشام و الواقدي وغيرها أن رسول الله نقل المقام عام الفتح مع العلم أنه في المسجد الحرام، ولو وقع منه في تلك الحال لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة والإشكال لكونه من الشيء الذي لا يستهان بذكره، فعدم نقلهم له يدل على عدم تحويله لكون الأمور العدمية لا يتحدث بها الناس وإنما يتحدثون بالأمور الوجودية.

[164] سيرة ابن هشام 2/412. [165] ورد هذا الحديث في المعجم الكبير للطبراني من حديث سراقة وفي مصنف عبد الرزاق من حديث ابن أبي مليكة «لا ينتزعه منكم إلا ظالم». [166] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أم هانئ. [167] أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث جابر.

الفصل التاسع

وأما استدلاله بأنه من قول موسى بن عقبة ص 40 قال: وموسى بن عقبة من رجال الصحيح، وقد أدرك بعض الصحابة وهو ثقة فقيه وإمام في المغازي ومغازيه من أصح المغازي. قال الشافعي: ليس في المغازي أصح من مغازي موسى بن عقبة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مغازي موسى بن عقبة من أصح المغازي. انتهى.

فالجواب: إن هذا القول هو أصل مستنده وغاية معتمده، وقد بالغ في رفعه وتشييده ونصره وتأييده بالحق وبالباطل، أما موسى بن عقبة فإنه ثقة عدل ومن رجال الصحيح لكن ثقته وعدالته لا يحكم بها على صحة كل ما رواه، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصدر منهم أقوال تنكر عليهم ولا يتابعون عليها فما بالك بمن بعدهم؟ لأن الله سبحانه لم يخلق أحدًا معصومًا من الخطأ غير الرسول فيما يبلغه عن ربه، فهذا ابن عباس حبر الأمة وحافظ علوم السنة قد أخرج له البخاري ومسلم أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو محرم فعده الصحابة وهمًا منه رضي الله عنه وقالوا: الصحيح أنه لم يتزوجها إلا وهو حلال. كما ثبت ذلك عن ميمونة نفسها، وعن أبي رافع، فنسبة القول بهذا إلى ابن عباس صحيح ثابت ومطابقته للواقع غير صحيح ولا ثابت، وكذلك خبر موسى بن عقبة الذي خالف به علماء السير كابن إسحاق وابن سعد والواقدي وغيرهم، فعدالة الراوي شيء وصحة ما يروي شيء آخر، ولا تلازم بينهما، قال السيوطي في ألفية الحديث:
وما اقتضي تصحيح متن في الأصح
فتوى به كعكسه وضح
ولا بقاه حيثما الدواعي
تبطله والوفق للإجماع
ولا افتراق العلماء الكمل
ما بين محتج به وذي تأول
وهذا الخبر يعلم ضعفه من وجوه:

الأول: أنه روي عن موسى بن عقبة، والروايات الصحيحة الصريحة عن عائشة وعروة وعن مالك ومجاهد وعطاء وسفيان بن عيينة وابن سعد ترد هذا القول.

والثاني: أن مدار هذا الخبر على نقل ابن كثير في البداية وقد ضعفه في التفسير وقرر أن النقل إنما وقع من عمر.

الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل بالسماع إلى أحد من الصحابة فضلاً عن رسول الله ﷺ.

والرابع: أن هذا التحويل بتقدير وقوعه في المسجد الحرام عام الفتح فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ويجب على الكافة علمهم به، ومعلوم أنه لم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله ﷺ القول به.

الخامس: أنه لو وقع من فعله ﷺ لتقدمه شيء من القول في سبيل تمهيده وتوطين الناس له مما يجب أن يحفظ عنه ويعلم به كل الصحابة أو أكثرهم، وبالخصوص أهل مكة، ذلك بأنه ليس كل ما كان قطعيًّا عند شخص يجب أن يكون قطعيًّا عند غيره، وليس كل ما ادعت طائفة أنه صحيح عندها يجب أن يكون صحيحًا في نفس الأمر والواقع، فهذه الوجوه من تدبرها وكان عارفًا بالأدلة القطعية يجزم قطعًا بأن النبي ﷺ لم يقع منه تحويل للمقام، إذا ثبت هذا فإن ثناء الشافعي وشيخ الإسلام على مغازي موسى بن عقبة باق على أصله، وهم إنما يعنون بذلك الأكثر من أقواله لا كل قول يقوله، إذ ليس مراد من أثنى عليه بالصحة أن كل قول يقوله يكون صحيحًا وما خالفه فيه غيره يكون باطلاً؛ لأن "أصح" من أفعل التفضيل الدالة على المشاركة والزيادة، فقد يكون في أقوال المفضول ما هو أصح من الفاضل كما في الحديث: «خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[168] فإن هذا وأمثاله يعد من تفضيل الجملة، وهي لا تقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، إذ من المعلوم أنه قد وجد في قرن النبي ﷺ بل وفي بلده النفاق والمنافقون قال تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ [التوبة: 101]. فهذا النفاق قد وجد في خير القرون ولا ينتقض به قاعدة تفضيل قرنه على سائر القرون.

* * *

[168] أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين بلفظ: «خيركم قرني...».

الفصل العاشر

قال في النقض ص 45: إن المقام زمن إبراهيم عليه السلام لم يتعلق به شيء من الأحكام ولم ينزل في شأنه قرآن، ولم يؤمر الناس بالصلاة حوله إلا بعد حجة الوداع وبعد نزول قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] وهذه الآية إنما نزلت في حجة الوداع.

فالجواب: متى كان الأمر بهذه الصفة وأن المقام زمن إبراهيم عليه السلام لم يتعلق به شيء من الأحكام، فما الفائدة في ترديد هذا الكلام وتركيزه في الأذهان وإلحاقه بالشرائع والأحكام؟! ليثبت بذلك تحريم تحويل المقام عن محله الآن، ليوهم بذلك ضعفاء العقول والأفهام بأن هذا هو محله زمن إبراهيم عليه السلام، وأن استدامة بقائه في محله هو من الشرع القديم اللازم والحكم التوقيفي الدائم، وأن الرسول بادر برده إلى محله، وجعل هذا القول أصلاً في استدلاله وغاية في اعتماده واستناده حتى إنه ذكره في أكثر من عشرين وجهًا من كتابه لقصد التمويه والتهويل به، على أن قوله: إن الناس لم يؤمروا بالصلاة حوله إلا بعد حجة الوداع وبعد نزول قوله تعالى:. ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. فإن هذا كله يعد من الكذب على الله وعلى رسوله، وكأنه لا علم له بمواقع التنزيل، أو أنه يعلم ولكنه يتجاهل، فإن سورة البقرة هي أول ما نزل بالمدينة بإجماع علماء التفسير على ذلك ما عدا آية واحدة وهي قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]. فقيل:إنها نزلت في حجة الوداع، وقيل: إنها نزلت قبل موت النبي ﷺ بثلاثين يومًا، وقيل: باثني عشر يومًا. والله أعلم. وفي البخاري عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عند النبي ﷺ. ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء المعتبرين أن أحدًا منهم قال بقوله، وأن الناس لم يؤمروا باتخاذ المقام مصلى إلا في حجة الوداع.

وإنما أخرج هذا القول من كيس نفسه في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، كيف وقد ثبت من فعل النبي ﷺ أنه صلى ركعتي الطواف عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة في عمرة القضاء وفي الفتح بطرق صحيحة ثابتة؟!.

ففي البخاري قال: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ أُتِىَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ دَخَلَ الْكَعْبَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِىُّ قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالاً قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَسَأَلْتُ بِلَالاً فَقُلْتُ أَصَلَّى النَّبِىُّ فِى الْكَعْبَةِ قَالَ نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ».

وفي البخاري: «عن ابن عباس: أن النبي دخل البيت فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِى قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ « هَذِهِ الْقِبْلَةُ»».

وفي النسائي: «عن عطاء عن أسامة بن زيد أن النبي دخل البيت ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين وقال: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»».

وفي الطبقات الكبرى: «عن محمد بن سعد في قصة الفتح قال: ثم طاف النبي بالبيت ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين».

فهذه الأحاديث كلها تدل بطريق الصراحة على أن النبي ﷺ صلى سنة الطواف عند المقام حال كونه لاصقًا بالكعبة في عمرة القضاء وفي الفتح بل وفي حجة الوداع كما في صحيح مسلم من حديث جابر في صفة حج النبي ﷺ وفيه: أن النبي ﷺ طاف بالبيت سبعًا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة فصلى ركعتين. وهو يدل بمفهومه على أن المقام كان إذ ذاك في لصق الكعبة؛ لأن التقدم إنما يوصف به التقدم إلى القبلة، فلو كان في محله الآن لقال: ثم تأخر فصلى ركعتين. كما في حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ رأى تأخرًا في أصحابه، فقال: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِى وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ»[169]، فمعناه التقدم إلى القبلة، وصاحب النقض يعترف بصلاة النبي ﷺ عند المقام في عمرة القضاء وفي الفتح، ولكنه -ويا للأسف- يصف هذه الصلاة بأنها من فعل الجاهلية وأنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم، ليقطع بذلك سلسلة الإسناد ويفصم عروة وثيقة الاستناد حتى يتسنى له عدم الاعتداد بفعل النبي ﷺ وبفعل أصحابه، ودونك نصُّ لفظه نزاهة لعرضنا وإزاحة لعذره:

قال في النقض ص 63: وأما ما روي من صلاة النبي ﷺ خلف المقام تحت البيت في عمرة القضاء فذلك في زمن الجاهلية حينما كان ملصقًا بالبيت قبل تحويله، وعمرة القضاء في ذي القعدة عام سبعة من الهجرة. انتهى.

فقد عرفت تسميته زمن النبوة التي هي بعد عشرين عامًا من البعثة بزمن الجاهلية، ثم وصف صلاة رسول الله ﷺ وصلاة أصحابه عند المقام بأنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم وقبل أن يؤمروا بها، وهذا كله من الكذب على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، ومعلوم أن الكذب على الله وعلى رسوله ليس كالكذب على الناس، وإنني لأعجب جدًّا من جرأة هذا الرجل على فساد هذا التعبير، فحالة تبلغ بهذا الشخص إلى حد يسمي فيها زمن النبوة بزمن الجاهلية، ويصف صلاة رسول الله ﷺ عند المقام بأنها غير شرعية، إنها لحالة سيئة، وإلا فإن الجاهلية اسم لما قبل البعثة حينما يقال حروب الجاهلية، وأشعار الجاهلية، ونكاح الجاهلية، وهذا الشيء لن يخفى على مثله، ولكنه يتجاهل والتجاهل بالشيء أقبح من الجهل به؛ لأن الجهل منسوب إلى عدم العلم وإلى عدم اتباعه، فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلاً بسيطًا، فإن عرفه وعمل بخلافه فهو جاه ل جهلاً مركبًا، وفيه الحكاية المشهورة:
قال حمار الحكيم تُوما
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط
وصاحبي جاهل مركب
أما صلاة النبي ﷺ وصلاة أصحابه عند المقام في عمرة القضاء وفي الفتح، فإنها كحكمها في حجة الوداع، كما أن أصحاب النبي ﷺ صلوا عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة، ثم صلوا عنده بعد تحويل عمر له إلى محله، ولم يجدوا في أنفسهم حرجًا من صلاتهم عنده بعد تحويله، لعلمهم أن الصلاة لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم.

وأما دعواه بأن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] وأنها لم تنزل إلا في حجة الوداع فإننا لم نر من قال بذلك من علماء الحديث والسير والتفاسير، فهذه أصول التفاسير الموجودة بأيدي الناس كتفسير ابن جرير و ابن كثير و البغوي و القرطبي و الزمخشري و تفسير المنار وغيرها لم تذكر نزول هذه الآية في حجة الوداع، بل قد اتفقوا على أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة.

قال في الفتح: اتفق العلماء على أن سورة البقرة مدنية وأنها أول سورة نزلت بالمدينة وفي البخاري عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عند النبي ﷺ. ولما حصل الانكماش من الناس في وقعة حنين وهي عام ثمانية من الهجرة، أمر رسول الله ﷺ العباس في أن يصرخ بالناس: يا أهل سورة البقرة، فعطفوا عليه حتى إن الرجل لا يستطيع أن يصرف بعيره فينزل عنه ويدعه. نعم، إن الرجل وجد في لباب النقول عن السيوطي على قوله: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى قال: وروى البخاري وغيره عن عمر قالوَافَقْتُ رَبِّى فِى ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى، وقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِىِّ فِى الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» كذلك له طرق كثيرة منها ما أخرجه أبو حاتم وابن مردويه عن جابر: «لما طاف النبي قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى﴾». وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر من مقام إبراهيم، فقال: «يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا؟ قال: «بلى». قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم نلبث يسيرًا حتى نزلت: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. قال: وظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع». انتهى.

فقد عرفت اضطراب الرواة في هذا الحديث وأن الصحيح هو ما رواه البخاري، ثم إن السيوطي لم يجزم بالقول بنزول هذه الآية في حجة الوداع، ولم يعزه إلى أحد من العلماء وإنما قال: إن ظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع وهو خطأ فهم منه عفى الله عنه، إذ من المحتمل أن يكون عرض هذا الرأي من عمر على النبي ﷺ وقع منه في مكة قبل أن يهاجر أو في المدينة عند ذكر الحج والعمرة، لكون سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة بإجماع علماء التفسير على ذلك، أشبه النظائر التي عرضها ونزل القرآن بموافقته فيها، وهي الأمر بالحجاب وهي مدنية وآية التخيير مدنية أيضًا، فليس في موافقته في الصلاة والمقام ما يدل على أنه عام حجة الوداع، وتلاوة النبي ﷺ للآية بعد فراغه من الطواف يدل على سبق نزولها، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله.

ولكن هذا الرجل يتهمه الناس بالشذوذ في آرائه والطفور في أفكاره، يتكلم في القرآن وفي الحديث وفي العلماء بغير عقل وبغير عدل، فهو لفرط جهله وهواه يقلب الحقائق في المعقول والمنقول فيأتي إلى الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة التي تدل على المعنى المراد منها، لكنها لا توافق هواه فيصرفها عن حقيقتها ويقول: إنها غير صحيحة، أو أنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم، أو قبل أن يؤمروا بها أو أن النبي صلاها زمن الجاهلية. فيخالف الحقائق مخالفة غير خافية على أحد. ولا يقول بمثل قوله إلا من هو أحمق الناس وأجرؤهم على الكذب وأقلهم حياءً ودينًا، ولا يروج إلا على أجهل الناس وأقلهم معرفة وعلمًا.

* * *

[169] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.

الفصل الحادي عشر

قال في النقض ص 39: قال في الدر المنثور: أخرج ابن أبي داود عن مجاهد قال: كان المقام إلى لزق البيت فقال عمر: يا رسول الله، لو نحيته عن البيت ليصلي إليه الناس ففعل ذلك رسول الله وأنزل الله آية: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. قال علي بن المديني: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ من كل ضرب. انتهى.

فالجواب: إن صاحب النقض لما أعوزه الحصول على الدلائل المقتضية للصحة والتحقيق أخذ في هذا السلوك لقصد التمويه والتضليل على حد ما قيل: إذا لم تغلب فاخلب.

وهذا الدر المنثور الذي نقل هذا الأثر منه هو من مؤلفات السيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى في سنة "911هـ" فسر فيه القرآن بالمأثور، أي بالآثار المسندة عن رسول الله ﷺ وعن السلف، ومن أجل أنه يضيق عليه المقام من تطبيق الآثار على القرآن صار يستشهد بكل ما يجد من أثر ضعيف وجيد، وابن أبي داود الذي رواه عن مجاهد هو مجهول لكونه يتسمى بهذا الاسم ما يقدر بعشرة أشخاص كل واحد منهم يسمى ابن أبي داود، فأهل الحديث يعرفون كل واحد بنسبه وجده وبلده، والكلام هنا في عدم نسبة هذا القول إلى مجاهد لا في مرسلاته، فلا يصح الاستدلال بمثل هذا المرسل ما دام راويه مجهولاً وشرطه مفقودًا وهو صحة السند إلى مجاهد ووجود المعارض الذي هو أقوى منه، وهو ما ثبت عنه بخلافه بطريق صحيح وهو ما رواه عبد الرزاق بن همام في مصنفه عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن هو عمر بن الخطاب. فهذا القول هو الثابت عن مجاهد، ورواته كلهم ثقات من رجال البخاري، فلا مداناة بين السندين فضلاً عن المساواة.

ومجاهد هو القائل: إن المقام النازل في شأنه القرآن هو الحج كله.

* * *

الفصل الثاني عشر

وأما قوله: إن الله أمر أن يتخذ منه مصلى، وفسر لنا رسول الله ﷺ مقتضى هذا الأمر بتلاوته للآية وصلاته خلفه وما أمر الله رسوله من شرعه الذي أوحاه إليه أمر توقيفي لا اجتهاد فيه لأحد.

فالجواب: أما تلاوة النبي ﷺ للآية وصلاته خلف المقام سنة الطواف فصحيح ثابت لا مجال للشك فيه، وإنما النزاع في صحة ما يدعيه من أن موقف رسول الله ﷺ من المقام لصلاة سنة الطواف أنه هو المأمور بأن يتخذه مصلى دون غيره، وأنه لو نقل المقام إلى محل قريب منه فإن الصلاة عنده فاسدة غير صحيحة لوقوعها في غير موقعها المأمور به في الآية، فإن هذا وأمثاله مما لا شك في بطلانه لانعقاد الإجماع على خلافه، أما تلاوة النبي للآية فليست بدالة على سبيل القطع أن المقام النازل فيه القرآن هو هذا الحجر دون غيره، فقد حصل الخلاف بين السلف والخلف في تعيينه، فمنهم من قال: إنه الحج كله. قاله ابن عباس، ومنهم من قال: إنه المسعى وعرفة ومزدلفة ورمي الجمار. قاله مجاهد وعطاء، ومنهم من قال: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم الخليل عليه السلام لبناء البيت الحرام. كما اختلفوا في الصلاة أيضًا فمنهم من قال: إنها الدعاء لكون الخطاب للمؤمنين زمن إبراهيم عليه السلام وصلاتهم ليست كصلاتنا. ومنهم من قال: إنها الصلاة المعروفة ذات الركوع والسجود وهي سنة الطواف، وقد ثبت مشروعيتها من قول النبي ﷺ وفعله وإقراره، وقد روى الخمسة عن جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».

فهذه الصلاة لا تتغير عن مشروعيتها بتحويل المقام عن محله ولا ببقائه على حاله، وقد صلاها الصحابة عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر ثم صلوها بعد تحويل عمر له إلى محله الآن، ولم يقع في نفس أحد منهم حرج من هذا التحويل لعلمهم أن الصلاة عنده لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم، ولأن المقام لا يتعلق به شيء من مشاعرالحج ولا مناسكه، فلم يشرع مسحه ولا تقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، وإنما شرعت الصلاة عنده عبادة لرب العالمين وتكرمة لإبراهيم لتخليد ذكره الجميل، وقد جعل الله استدامة بقائه في المسجد الحرام بمثابة الدليل والبرهان على صحة بناء إبراهيم عليه السلام لهذا البيت الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، فتحويله من محله إلى محل قريب منه حيث دعت الضرورة والحاجة والمصلحة إليه لا يتغير به شيء من حرمته، ولا تنحط به كرامته، أشبه تحويل عمر له في زمانه وإجماع الصحابة على استحسانه، وهذا التصرف يعد من المصالح المرسلة والتصرفات الجزئية الحسنة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله، والتي تتمشى على حسب الحاجة والمصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وحاصله يرجع إلى راحة الأنام ووقايتهم من السقوط تحت الأقدام فيما بين الركن والمقام، فهو إن لم يكن للصواب فيه ملمح ففيه للاجتهاد مسرح، أشبه التصرف في المسجد الحرام بتوسعته وتغيير بنيانه عن حالته زمن النبي ﷺ وهو أعظم حرمة من حجر المقام، ولأن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة في غيره.

فأول من تصرف فيه بتوسعته عمربن الخطاب ثم زاده عثمان بن عفان ثم زاده ابن الزبير ثم زاده الوليد بن عبد الملك ثم زاده بنو العباس، وكل هذه التصرفات وقعت في القرون المفضلة ولم ينكرها أحد من العلماء، بل جعلوا للزائد حكم المزيد في الفضيلة، ثم حصلت التوسعة في هذه الأزمنة من الحكومة السعودية في المسجد الحرام وفي المسعى وفي المواقف، كإزالة الجبل الراكب على جمرة العقبة ليتسع المرمى للناس، فحصل للحجاج بذلك راحة وسعة، وحمدوا عاقبة هذه التوسعة وعدوها من العمل المبرور والسعي المشكور، ثم جرى منهم التوسعة في المطاف للناس وذلك بإزالة سائر البنايات المحيطة بالمطاف، كالبناء المجعول فوق زمزم والمنبر وبقي المقام كالقائم وسط صحن المطاف، ولولاه لاتسع المطاف للناس من جميع الجهات، ومتى بقي على حاله وفي محله فإنها ستكثر بسببه الإصابات ولا يتمكن أحد عنده من فعل الصلاة من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام، فلأجله وقع تبادل الآراء بين العلماء في موضوعه، وأدخلت قضيته في الجامعة الإسلامية للحاجة إلى الإفتاء في خصوصه، والحاجة هي أم التدقيقات والتوسع في التحقيقات كما أنها أم الاختراعات لأمور الحياة، فصدر من مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم الإفتاء بجواز تحويله إلى محل قريب منه لمصلحة توسعة المطاف للناس، وكما سبق نظير هذا العمل من فعل عمر بطريق القياس وإجماع الصحابة الأكياس ووافقه على هذا الرأي أكثر العلماء العارفين بالعلل والأحكام.

ونحن نرى أن هؤلاء الذين أفتوا بذلك لم يتجانفوا في فتواهم لإثم ولا لتغيير شرع ولا حكم، فهم أقرب إلى الصواب والعدل من القائل بالتحريم بدون نص ولا قياس ولا دليل؛ لأن من قواعد الشرع المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والضرورة تبيح المحظور، وما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة وكون الحرج منفيًّا عن الدين جملة وتفصيلاً: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78] ولكن الإنسان طائش بطبعه إذا جهل شيئًا أسرع بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، وإلا فإن هذا التحويل يجري مجرى التصرف في المسجد الحرام بتوسعته، وكذا المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده، فالقائل بتحريم تحويل المقام ووجوب بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ يلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد الحرام وتحريم التصرف في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله ﷺ بيده، إذ هما أعظم حرمة منه، ومن المعلوم أن بقاء المقام على حاله مع توسعة المطاف من جميع جهاته أنها تتضاعف الإصابات منه بحيث إن الطائفين لكثرتهم يظلل بعضهم دون بعض فيسقطون عليه بدون أن يروه وربما دفع بعضهم بعضًا بالعنف والشدة إليه، وهو حجر وقد ضرب عليه بصندوق حديد، وبهذا السبب يتزايد خطره، وربما تكثر وفياته وضرره، وزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل رجل مسلم، ولما طاف النبي ﷺ بالبيت قال: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَإن حُرمة المسلم عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِن حُرمتك، مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَلا يظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا»[170].

وإنما حول عمر بن الخطاب المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن حينما اتسعت فتوح البلدان وكثر الوافدون إلى حج بيت الله الحرام فرفعه إلى حد يرى أنه كافٍ لمطاف الناس في ذلك الزمان.

قال في الفتح: كان عمر يرى أن إبقاء المقام في لصق الكعبة يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى، ولم تنكر الصحابة فعله ولا من جاء من بعدهم فصار إجماعًا. انتهى.

والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجدت العلة وجد المعلول، وقد عظم الجمع في هذا الزمان أشد منه بكثير من زمن عمر بن الخطاب وأخذ يتزايد عامًا بعد عام من أجل سهولة المواصلات وقصر المسافة بالآلات البرية والبحرية والهوائية، وقد قلت عقبات التعويق، وقطع دابر قطاع الطريق، واستتب الأمن على النفس والمال في أنحاء الحرم وخارجه وسائر السبل المفضية إليه، حتى إن الناس فيه آمن منهم في دورهم وديارهم، فمن أجله هبَّ الناس من كل فج إلى أداء فريضة الحج والتزود منه مرة بعد أخرى فعظم الجمع واشتد الزحام عند رمي الجمار، وفيما بين الركن والمقام حتى تسبب في وفاة بعض الأعيان، وما من شيء من شؤون العبادات يقع الناس لأجله في الشدة والحرج إلا وبجانبه باب من التيسير والفرج: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83]؛ لأن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78] والحرج هو الضيق والمشقة فيما يمكن فيه إدراك غرض الشارع، والعمل بالمشروع بدون مشقة، فأشد ما يقع الناس فيه من المشقة في شؤون مناسك الحج هو في مقامين أحدهما عند رمي الجمار، والثاني في الطواف خاصة فيما بين الركن والمقام. فالمشقة الحاصلة على الناس عند رمي الجمار إنما حصلت بإلزام الناس برمي الجمار فيما بين الزوال إلى الغروب، فهذا التحديد هو الذي أوقعهم في الحرج والمشقة، على أنه لم يثبت عن رسول الله ﷺ ما يقتضي صحة هذا التحديد لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، والتحديد بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، فإزالة هذه الشدة وتخفيف هذه المشقة يحصل بالإفتاء بتوسعة الوقت للرمي، وكونه يجوز للإنسان أن يرمي في أية ساعة شاء من ليل أو نهار كما ورد الأمر بذلك للرعاة، وقاس عليه الفقهاء السقاة ومن خاف على نفسه وأهله وماله فيجوز لهم أن يرموا في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، قاله في الكافي و الإنصاف، وما من أحد من الناس إلا وهو يخاف على نفسه وأهله ورفيقه عند رمي الجمار أشد من خوفه على خمسين دينارًا، التي أبيح له في أن يرمي جماره من أجل الخوف عليها في أية ساعة شاء من ليل أو نهار، وصار الناس كلهم من أجل ضرورة الزحام والسقوط تحت الأقدام بمثابة المعذورين الذين أبيح لهم أن يرموا في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، على أن التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه فالحكم على الجمع الكثير في خاصة هذا الوقت القصير قد صار من تكليف ما لا يستطاع، والله لا يكلف نفسًا إلا وُسْعَهَا مع العلم أنه عمل يفعل بعد التحلل من الحج كله فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد، والقول بسعة الوقت للرمي هو مما يؤهل الناس أن يرموا جمارهم بسهولة وسعة، ويختار أحدهم من الوقت أوسعه، ويعلم عن طريق اليقين أن رميه للجمار قد وقع موقعه.

الأمر الثاني: الشدة الحاصلة على الناس في المطاف خاصة فيما بين الركن والمقام، فهذه الشدة والمشقة يحصل إزالتها والتخفيف منها بتحويل المقام عن محله إلى محل قريب منه؛ لأن هذا من المصالح المرسلة والتصرفات الجزئية الحسنة لكون الطواف هو ركن الحج الأعظم فهو واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبتوسيع المطاف يتأهل الإنسان لأداء هذا الركن بتمام وخشوع وخضوع واطمئنان بدلاً من أن يدفع بالكره إلى الوراء أو يسقط من شدة الزحام تحت الأقدام، وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن الشرائع اللازمة كالصلاة في أوقاتها وكالزكاة المفروضة وكالصيام وكمناسك الحج المحتمة مثل الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة فهذه كلها تلتزم حالة واحدة فلا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، أما ما عدا ذلك فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كان عمر في خلافته يجمع أولي الأمر من كبار الصحابة فيشاورهم في كل ما لا نص فيه ولا سنة متبعة فيعمل بمقتضى رأيهم، وكان من سنته وحسن سيرته أن يأمر عماله بأن يوافوه في الحج في كل سنة للسياسة والمشاورة فيما يلزم بشأنهم.

* * *

[170] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عبد الله بن عمر.

الفصل الثالث عشر

في تحقيق المقال في نقل عمر للمقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن ابتداء من غير سبق.

ثبت بالأقوال الصحيحة والآثار الصريحة أن المقام كان لصق الكعبة زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وكذلك زمن الجاهلية بطريق اليقين، وكذا في زمن إبراهيم على ما قاله ابن عباس، فلما اتسعت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية وكثر الداخلون في الإسلام والقاصدون لحج بيت الله الحرام وصار المصلون عند المقام يعرقلون سير الطائفين بالبيت الحرام، كما أن الطائفين يؤذون المصلين بوطئهم بالأقدام فاقتضى رأي عمر أن يرفعه إلى حد المطاف، حيث رأى هذا الحد كافيًا للناس، فرفعه إلى مكانه الآن ووافقه على ذلك جميع الصحابة الكرام، حتى لم يختلف عليه منهم إنسان، واشتهر هذا النقل عند الناس وتحدث به العام والخاص، وحسبك ما ذكره في نقضه حيث قال ص 469: اشتهر تحويل عمر للمقام من تحت البيت عند الناس وتحدث به العام والخاص، ونقله الحاضر للغائب، فمن هنا حصل اشتباه أحد التحويلين بالآخر. انتهى.

فجوابه: إنه لا إشكال ولا اشتباه فإن هذا التحويل الذي اشتهر عند الناس وتحدث به العام والخاص هو الأول الذي لم يقع تحويل قبله، أفيصح في الأذهان أن يشتهر تحويل عمر للمقام ويخفى على الناس تحويل النبي ﷺ له لو وقع منه، ورسول الله ﷺ أجل قدرًا وأشهر ذكرًا من عمر وغيره؟! حتى إنه لم ينقل القول به عن أحد من الصحابة، ولو وقع من النبي ﷺ لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة أو الشك، وإذا جاء سيل الله بطل نهر معقل، فعدم نقل حفاظ السنة له يدل بطريق الوضوح على عدم وقوعه منه، والصحيح أن كلا التحويلين وقع من عمر فلا إشكال ولا اشتباه، ولنذكر من الأدلة ما يؤكد ذلك.

فقد روى البيهقي في سننه بسند صحيح «عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن المقام كان زمان النبي وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر رضي الله عنه».

وقد اعترض صاحب النقض هذا الحديث بحجة أنه من كلام عروة، وقد صحح ابن كثير هذا الحديث وقواه ابن حجر وحسبك بهما معدلين، فكان عروة يحدث به عن عائشة مسندًا إليها وأحيانًا يحدث به بدون أن يسنده إليها ولا منافاة بينهما، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر في بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام. وروى ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن المقام كان زمن رسول الله ﷺ وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فحديث عروة به على نحو هذا الوجه هو مما يدل على شهرته، فهو أقوى وأرجح من قول موسى بن عقبة لكون عروة من أوعية العلم ومن حفاظ السنة.

الوجه الثاني: ما روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قال: أول من نقل المقام عمر بن الخطاب.

الوجه الثالث: ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب. فهذا سند قوي، كلهم من رجال البخاري، وهو أصح ما ورد في هذا الباب عن مجاهد.

الوجه الرابع: ما روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سفيان بن عيينة، وكان إمام المكيين في زمانه قال: كان المقام في صقع البيت في عهد رسول الله ﷺ فحوله عمر بعد النبي ﷺ وبعد قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا.

الوجه الخامس: ما روى مالك في المدونة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر وقبل ذلك.

الوجه السادس: ما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: اعتمر عمر ثلاث مرات، عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت. وتقدم قوله في قصة الفتح: إن النبي ﷺ طاف بالبيت على راحلته ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين.

الوجه السابع: ما روى الأزرقي عن محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن صفوان قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابدي، وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع، بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. قال: فحوله ثم صلى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال عبد الله بن السائب: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي، قال فلما قضى صلاته قال عمر أحسنت، فكنت أول من صلى خلف المقام حين حول إلى موضعه.

وفي هذا الخبر دليل على صحة تحويل عمر للمقام ابتداء من غير سبق، لوجوه منها قوله: أمر عمر بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو به اليوم، فلو كان مسبوقًا بتحويل من النبي ﷺ لما نسي ذكره في هذه القضية، ولقال أمر برده إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ، أو على الأقل لقال أمر برده إلى مكانه إذ يبعد أن ينسى ذكر رسول الله ﷺ في هذا التحويل لو وقع منه، فعدم ذكر رسول الله ﷺ في هذه القضية يدل على عدم تحويله له، وأن هذا التحويل الواقع من عمر لم يسبق إليه أحد قبله، ومنها قوله: فحوله، ولو كان هذا التحويل مجرد رده إلى المكان الذي ذهب به السيل منه لقيده به حيث لا يتم الكلام بدون ذكره ومنها قوله: فكنت أول من صلى خلف المقام حين حوله إلى موضعه هذا، فهذه الصلاة تدل على أنها أول صلاة وقعت من إمام عند المقام بعد ما حول إلى ذلك المكان؛ لأن هذا هو حقيقة ما يتبادر إلى الأذهان وما يسبق إليه فهم كل إنسان ولو كان القصد من هذه الصلاة أنها بعد رده إلى المكان الذي ذهب به السيل منه لقيده به، حيث لا يتم الكلام بدونه ولا يفيد فائدة يحسن السكوت عليها إلا بذكره.

الوجه الثامن: ما روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: في حوادث سنة ثماني عشرة وزعم الواقدي أن عمر رضي الله عنه حول المقام في هذه السنة في ذي الحجة إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت قبل ذلك.

الوجه التاسع: قال ابن كثير في التفسير: كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ومكانه معروف اليوم، جانب الباب مما يلي الحجر، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو انه انتهى عند البناء فتركه هناك، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده، ولهذا لم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

الوجه العاشر: قال ابن حجر في الفتح: كان المقام من عهد إبراهيم عليه السلام لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا، وكأنه رأى أن إبقاءه لزق البيت يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين فرفعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى. انتهى. فهذا ابن حجر الذي هو قريع أقرانه وحافظ السنة في زمانه، وقد عد له مائة وخمسون مؤلفًا في الحديث والفقه واللغة وتراجم الصحابة والتابعين ورواة الحديث والتاريخ والسير، وأعجبها فتح الباري الذي بلغ فيه من التحقيق والإتقان ما لا يخطر بالأذهان حتى صار مثالاً رائعًا لدى العلماء في سائر الأزمان والأوطان ينسب كل قول إلى راويه مع بيان علله ومنافيه وما عسى أن يقال فيه، ورجح كون عمر بن الخطاب هو الذي حول المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن، ومع هذا يقول صاحب النقض إنه قاله تقليدًا لابن كثير ومعلوم أن المقلد لا يعد من أهل العلم:
كم سيد متفضل قد ذمه
من لا يساوي طعنة في نعله
إن صاحب النقض قد سار على سنة سيئة من أمره، وهي أن يرمي كل قول يخالف رأيه بالتضعيف والتصحيف كما يقول في خبر مالك حيث قال: بلغني أن عمر لما حج واعتمر نقل المقام إلى موضعه الآن. فتراه يقول: إن مالكًا لم يبلغه تحويل رسول الله ﷺ له وصدق، لأنه لو وقع التحويل من رسول الله ﷺ لبلغه، ومع عدم تحويله لم يبلغه لكون الناس إنما يتحدثون بالأمور الوجودية، أما الأمور العدمية فلا يتحدث بها الناس إلا على سبيل إبطالها والتكذيب بها، ويقول في خبر عائشة الذي رواه البيهقي بسند صحيح عنها قالت: إن المقام كان على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر ملصقًا بالبيت إلى أن نقله عمر بن الخطاب. فتراه يقول: إنما روي هذا الخبر عن عروة، فهو الذي حدث به. ولا شك أن عروة من أوعية العلم ومن حفاظ السنة، وقد حدث به عن عائشة مسندًا إليها، وأحيانًا يحدث به بدون أن يسنده إليها ولا تنافي بينهما لكون المحدث له حالات أحيانًا يستقصي الحديث بسنده، وأحيانًا يقتصر فيذكر معناه وموجبه، والمثبت عند أهل الأصول مقدم على المنافي، وحديثه به بدون أن ينكر عليه فيه أحد يدل على شهرته وصحة ما يدل عليه، مع العلم أن العهد منه قريب بزمن عمر، كيف وقد اعتضد بقول مجاهد وعطاء وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس ومحمد بن سعد والواقدي وابن كثير وابن حجر وابن الجوزي وغيرهم؟ فكل هؤلاء الثقات الأثبات قد اتفقوا على تحويل عمر للمقام من لصق الكعبة بلا سبب يوجبه سوى توسعة المطاف للناس.

فمن أراد أن يدفع هذه الأخبار الصحيحة الصريحة بشبه مزيفة وأباطيل محرفة وتشكيكات وذبذبة، فقد سلك سبيل السفسطة وجنف إلى الجور وجانب العدل.

وهذا الكاتب قد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره، وهي أن يأخذ من أقوال المؤرخين غير المعتبرين وغير المعروفين بالعلم والحديث كالأزرقي وابن فهد وابن سراق العامري وابن فضل الله العمري وابن جبير ومن الدر المنثور للسيوطي، فيأخذ من أقوال هؤلاء ما يوافق غرضه وهواه ويزيد عليها من نفسه ثم يجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة، ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها ولو بالتأويل والاحتمال والكذب والاحتيال.

وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن المتصدين للتأليف في السير والتاريخ والتفسير والحديث وتراجم الصحابة والرواة كابن إسحاق وابن سعد والواقدي وابن جرير وابن حجر ونحوهم، إنهم بسبب مزاولتهم في سبيل التأليف للبحث والتفتيش والفحص والتمحيص ووقوفهم على الأقوال المختلفة والكتب المؤلفة إنهم يظهر لهم من حقائق العلوم والمعرفة والحكم الخفية ما لا يخطر ببال أحدهم قبل البحث والمراجعة، وما قد يخفى على غيرهم ممن ليس له عناية بالتأليف، كما أننا قبل هذا البحث لم نكن نعرف حقيقة المقام وما جرى له من تطورات الانتقال من مكان إلى مكان لولا الحاجة التي أوجبت علينا المراجعة في خصوصه، والحاجة هي أم التدقيقات والغوص في التحقيقات، كما أنها أم الاختراعات لأمور الحياة، والعلم ذو شجون يثيره البحث والتفتيش ويزيده المناظرة والتأليف ويدل بعضه على بعض ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وإنما لقب ابن حجر بالحافظ من أجل طول باعه وسعة اطلاعه في شتى العلوم والفنون أفيكون مثله مقلدًا لابن كثير في قول قيل قبله بدون علم ولا بصيرة من أمره؟! هذا بهتان عظيم ﴿يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثۡلِهِۦٓ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧ [النور: 17].

* * *

الفصل الرابع عشر

قال في النقض ص 25: قال أبو الوليد الأزرقي: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه، عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى وكان يقال لهذا الباب: باب السيل. قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه وربما نحته إلى وجه الكعبة حتى جاء سيل في خلافة عمر يقال له سيل أم نهشل فاحتمل المقام عن موضعه فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب فأقبل فزعًا، فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غفل موضعه وعفاه السيل فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم من هذا المقام. فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه فأخذت قدره من موضعه إلى الركن ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بمقاط وهو عندي في البيت. فقال له عمر: فاجلس عندي. فأرسل إليها فأتي بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا وسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم. فلما استثبت ذلك عنهم أمر به فأعلم ببناء رُبضه تحت المقام ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم ثم ساق هذه الحكاية بلفظها عن عمر بن فهد الهاشمي المكي في كتابه إتحاف الورى بأخبار أم القرى في حوادث سنة سبع عشرة. انتهى.

فالجواب أن نقول: إن صاحب النقض قد بالغ في نشر هذا الخبر وتشييده ونصره وتأييده حتى أشبع أسماع الناس من ترديده، وحتى ملأ صحائف كتابه من تمديده حيث إنه قد ذكره فيما يزيد على خمسين وجهًا من كتابه، وحتى ألحقه بالعلم اليقيني القطعي الذي لا مجال للشك فيه من أجل موافقته لهواه.
أهم بترك النقد ثم يردني
إلى القول إرجاف الجهول المفند
إن هذه الحكاية وإن حذلقها ناقلها فإن فيها ألفاظًا يبعد وقوعها من عمر أو نسبتها إليه، ولم يذكر هذه الحكاية بلفظها المؤرخون المعتبرون والمدققون في أخبار الحوادث كابن إسحاق وابن جرير وابن كثير وابن الأثير وابن سعد وغيرهم، من ذلك قوله: فكتب إلى عمر فأقبل فزعًا فدخل بعمرة في شهر رمضان... إلخ.

فإن هذا هو من تصرفات الأزرقي لقصد الإحماض والتحلية كما هي العادة الغالبة عليه في تحبيره وحسن تعبيره، وإن من البيان لسحرًا، وإلا فإن عمر هو أرجح عقلاً وأثبت جأشًا من أن ينزعج لهذا الخبر الذي يكفي أن يقول فيه: ردوا هذا الحجر إلى مكانه، فإنما دواء الشق أن يحاص. إنه لم يسمع بجيش عرمرم قد حاصر الكعبة يريد هدمها والقضاء على أهلها حتى ينزعج لخبره ويستعد بالسفر إلى مدافعته.

وأعجب من ذلك دعواه بأنهم حين وجدوه ربطوه بأستار الكعبة، ولعل هذا الربط وقع منهم خشية أن يفر على حين غفلة منهم، حيث شبه هذا الحجر بالدابة النفور عن أهلها ثم قوله في مناشدة عمر: أنشد الله رجلاً عنده علم بهذا المقام. حتى كأنه لا علم لعمر بحال هذا المقام ولا محله، ثم ذكر الخيوط وقياسات المطلب بها وهذا هو المحور الذي تدورعليه هذه الحكاية ليثبت بذلك أن النبي ﷺ هو الذي وضع المقام موضعه الآن وأن عمر رده إلى موضعه حين ذهب السيل به، على أنه ليس في الحكاية على فرض صحتها ما يثبت ذلك لا بصريح الخطاب ولا بمضمونه فإن عمر لم يقل في مناشدته: دلوني على مكان موضع رسول الله له. ولم يقل المطلب أيضًا: إن هذا هو مكانه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ فعدم ذكر رسول الله في القضية مع شدة المناسبة إليه يدل على عدم وقوع التحويل منه، وهل عمر سأل عن المكان الذي وضعه فيه أولاً ليرده فيه ثانيًا، فقد ثبت حمل السيل للمقام من قول سفيان بن عيينة وابن أبي مليكة ولا يزال السيل يدخل المسجد الحرام على الدوام حتى أصيبت الكعبة بالأضرار منه مرارًا عديدة حتى كان هو السبب في بناء قريش لها قبل البعثة، وفي بناء ابن الزبير لها، ولا يبعد أن يكون هذا التصرف الحاصل من عمر في المسجد الحرام بتوسعته وبناء الحيطان له وعمل الردم لسد السيل عنه أنه ناجم عن أثر ذلك السيل، أي سيل أم نهشل أو غيره.

ونحن لا ننازع في ذهاب السيل به ورد عمر له إلى محله بعد ذهاب السيل به، وهذا من الأمر الجدير بألّا يشتهر أمره، ولا ينتشر ذكره، لكون السيل على الدوام لا يزال ينقل المقام من مكان إلى مكان كما ذكر في الحكاية نفسها، لكونه موضوعًا في السابق على سطح الأرض بدون تأسيس ولا تثبيت، فلأجله لم يذكره المؤرخون المعتبرون، أما تحويل عمر له من لصق الكعبة ابتداء من غير سبق وبدون سبب سوى توسعة المطاف للناس، فهو الذي ذكره علماء السلف والمؤرخون وسائر المفسرين للقرآن، ولا يبعد أن يكون ذلك سنة عشر حينما وسع عمر المسجد الحرام.

وقد طرق المؤرخون أخبار سنة سبع عشرة كالواقدي وابن سعد وابن جرير وابن الأثير وابن كثير وفيها أن عمر بن الخطاب اعتمر في رجب سنة سبع عشرة ووسع المسجد الحرام وأقام بمكة عشرين يومًا من أجل الإصلاح والتعديل وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا بيوتهم ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها، وأمر بتجديد أنصاب الحرم، أمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعد بن يربوع. ذكره ابن الأثير، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد قال: استعمل عمر على الحج بالناس أول سنة استخلف وهي سنة ثلاث عشرة عبد الرحمن بن عوف فحج بالناس تلك السنة ثم لم يزل عمر بن الخطاب يحج بالناس كل سني خلافته كلها فحج بهم عشر سنين وحج بأزواج النبي ﷺ في آخر حجة حجها وهي سنة ثلاث وعشرين، واعتمر في خلافته ثلاث مرات عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين وهو أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت. انتهى.

فهؤلاء المؤرخون لم يذكروا سيل أم نهشل، ولا فزع عمر ولا مناشدته الناس، ولا اعتماره من أجل هذا الخبر في رمضان، وقد انفرد الأزرقي برواية هذه الحكاية على نحو هذه الصفة، والأزرقي كما ذكر صاحب رسالة المقام بأنه لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل، فهو على قاعدة أئمة الحديث مجهول الحال، وقد انفرد بهذه الحكاية قال: ويريبني من الأزرقي حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها، ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين، ويريبني أيضًا تحمسه لهذا القول، فقد روى في المجلد الثاني عن ابن أبي عمر بسند واه إلى أبي سعيد الخدري أنه سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام وفيه في ذكر النبي ﷺ فصلى إلى الميزاب ثم قدم مكة فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة.

وقد روى الفاكهي هذا الخبر وفيها أن النبي ﷺ قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ فأسقط الأزرقي قوله: وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ. وجعل موضعها: ما كان بمكة. انتهى.

الفصل الخامس عشر

قال في النقض ص 101: إنه لو كان المقام زمن النبي ﷺ تحت البيت ونزلت الآية وهو هناك وصلى خلفه في حجة الوداع وتوفي وهو تحت البيت لما ساغ لأحد بعده نقله عن موضعه الذي أقره فيه؛ لأن إقراره له تشريع وتوقيف لا اجتهاد لأحد فيه بعده كائنًا من كان.

فالجواب: إن الكلام يتفرع في هذا المقام عن أمرين:

أحدهما: هل يجب علينا ترك ما تركه رسول الله ﷺ؟

الأمر الثاني: هل يجب علينا فعل ما فعله رسول الله ﷺ.

أما الأول: فقد نص أهل الأصول على أنه لا يجب علينا ترك ما تركه رسول الله ﷺ خاصة فيما يتعلق بأمور الحياة، أما ما شأنه التعبدات وما يقصد به صاحبه القربى والمثوبة، فهذه هي التي يجب علينا تركها لترك رسول الله لها، ولعدم سبق مشروعيتها وتسمى بالبدعة، لكونه ابتدع فعلها على غير مثال سبق من الشارع في مشروعيتها؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، وعليه يدل حديث عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ»[171]، ولهذا قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.

أما ما يتعلق بمصالح الناس في أمور الحياة كبناء المساجد والقناطر والمدارس والمستشفيات وسائر ما يقصد منه الإصلاح الدائم والنفع العام ومنه توسيع المسجد الحرام وتوسيع المسجد النبوي، وكذا توسيع المطاف وتحويل المقام من أجله لقصد راحة الأنام ووقايتهم عن السقوط تحت الأقدام من شدة الزحام، وليتمكن الناس من أداء هذا الركن بتمام وخشوع وخضوع واطمئنان، فهذا وأمثاله مما يجوز لنا فعله وليس لنا أن نتركه لترك رسول الله له، فقد يترك رسول الله الشيء وهو يحب أن يفعله لسبب يقتضي تركه له، كما ترك تبشير الناس بأن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة خشية أن يتكلوا، وكما ترك الخروج لصلاة التراويح في الجماعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا، وكما ترك التصرف في الكعبة على حسب ما يحب من أجل أن قريشًا حديثة عهد بكفر.

وقد ترجم البخاري عليه فقال: باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا فيما هو أشد منه، وقد ترك رسول الله ﷺ المسجد الحرام وهو شبه الصحراء ليس له جدران تحيط به ولا أبواب ولا سقوف، وهو أضيق منه الآن بكثير، وبقي على حالته كذلك زمن أبي بكر، فلما استخلف عمر واتسعت فتوح البلدان اقتضى رأيه توسيع المسجد الحرام، فهو أول من وسع فيه وجعل له جدرانًا تحيط به، وكذلك المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده فجرى التصرف من عمر بتوسعته كما في البخاري من حديث نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله ﷺ مبنيًّا باللبن، وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة. ولم ينكر هذه التصرفات أحد من الصحابة لعلمهم الواسع وفقههم الراسخ أنها من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه، فالقائل بتحريم نقل المقام عن محله ووجوب استدامة بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ، حتى ولو أضر بالناس يلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد الحرام بتوسعته وتحريم التصرف في المسجد النبوي بتوسعته؛ لأن هذا كله من لوازم قوله، وهذا يعد من التعنت والتزمت الذي يبرأ الدين من القول به والحكم بموجبه، ومثله القرآن الكريم، فقد توفي رسول الله وهو متفرق في اللخاف والعظام وصدور الرجال فتصدى الصحابة بعد قتل القراء باليمامة لجمعه في مصحف واحد حتى حصل من عارض هذا الرأي وقال: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقالوا: نعم، إنه لم يفعله ولم يأمر به، ولكنه لا يخالف شرعه، فهو حسن نافع. فاتفق رأيهم على ذلك وزال من بينهم الخلاف.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ يعرضون رأيهم على رأي رسول الله ﷺ في الشيء الذي يعلمون أنه لم يقله عن وحي من ربه، كما عرض الحباب بن المنذر رأيه على النبي ﷺ في المنزل يوم بدر، وذلك أن النبي ﷺ لما خرج يوم بدر نزل على أدنى ماء من مياه بدر مما يلي المدينة فجاء الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته أمنزل أنزلكه الله ليس لنا فيه رأي ولا أمر أم هو الحرب والخدعة؟ فقال: «بل الحرب والخدعة». فقال: يا رسول الله، سر بالناس حتى نأتي أقصى ماء من مياه بدر فننزل عليه ونغور ما سواه، فيكون عندنا الماء وعندهم الظمأ. ففعل رسول الله وحمد عاقبة رأيه[172].

وكان رسول الله ﷺ يستشير أصحابه فيما يتعلق بأمور الحياة كالحرب والسلم والإصلاح والتعديل كما استشارهم في أسرى بدر أيقتلهم أم يضع عليهم الفداء؟ وكما استشارهم في وقعة أحد أيخرج إليهم أم يقاتلهم في المدينة؟ وكان رأيه أن يقاتلهم في المدينة، فلما كثرت عليه الأصوات من المتحمسين للخروج ممن لم يشهد بدرًا ترك رأيه لرأيهم فدخل ولبس لأمته ثم خرج وعلى وجهه أثر الكراهية للخروج، ومن ذلك رفع عمر حد القطع في السرقة زمن المجاعة وهو حد من حدود الله ثابت بالكتاب والسنة، وتوفي رسول الله ﷺ وهو على حالته، ومن ذلك منعه لبيع أمهات الأولاد وكن يبعن على عهد رسول الله ﷺ كما في حديث جابر قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي ﷺ حي لا يرى بذلك بأسًا، وكان سبب منعه لبيعهن على ما رواه ابن المنذر عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة فقال: يا بريدة انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فهل كان فيما جاء به محمد القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية، ثم قرأ: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ [محمد: 22] ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم؟! وقد أوسع الله لكم. قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق أنها لا تباع أم حر، وذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

وكان لعمر من السياسات الحكيمة والتصرفات الواسعة ما هي مناسبة لسيرته المرضية، فدعوى صاحب النقض أنه لا اجتهاد لأحد في نقل المقام عن حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ لا لعمر ولا غيره لزعمه بأن استدامة بقائه في محله تشريع وتوقيف، فكل هذا يعد من التشديد البعيد عن مقاصد الدين، فقد ألحق بالشرع ما ليس منه ولا هو في معنى المنصوص عليه، فاعتقاد ما ليس بشرع أنه شرع يعد من تغيير الكلم عن مواضعه ومن تبديل الشريعة بغيرها، كما لو اعتقد ما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل على حسب اعتقاده.

فإن كان محقًّا فيما يدعي من أن استدامة بقائه في محله الآن هو من الشرع اللازم والحكم التوقيفي الدائم الذي لا يجوز تغييره ولا تحويله فليأتنا بآية أو حديث تثبت صحة ذلك، وكأنه بهذا الكلام قد جعله بمثابة الكعبة البيت الحرام الذي بوأ الله مكانه لخليله إبراهيم عليه السلام وقال تعالى: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡ‍ٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ٢٦ [الحج: 26] فهذا هو الشرع اللازم الذي لا يجوز تحويله إلى غيره، أما المقام فليأتنا بآية أو حديث تثبت أن الله بوأ للمقام هذا المكان بحيث لا يجوز تحويله عنه وإلا فليعلم أنه كاذب، وأنه قد ألحق بالشرع ما ليس منه لقصد تشويش الأفهام وإغراء سذج العوام، فهو يسمي هذا الإصلاح باسم العبث بدون أن يثنيه وجل ولا يلويه خجل، وهذا نص لفظه نزاهة لعرضنا وإزاحة لعذره، قال في النقض ص23: التوصل إلى العبث بمشعر من المشاعر المقدسة ومنسك من مناسك الحج ليحوله عن موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ وهو موضعه في عهد إبراهيم الخليل يعتبر حدثًا في الدين وتغييرًا لشعائره. انتهى.

فهذه الكلمة تشبه في الحقيقة والمعنى كلمة الخوارج حينما رفعوا المصاحف على أطراف الرماح وقالوا: لا حكم إلا لله. ولم تزل بهم شدتهم في طريق الآخرة والعمل لها بزعمهم حتى أفضت بهم شدتهم إلى أن خرجوا على أمة محمد بأسيافهم يستحلون دماءهم وأموالهم، وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده والمقابلة بضده، بخلاف قول الحق فإن ليله كنهاره ولا يقاومه إلا هالك:
بليت يا قوم والبلوى منوعة
بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة مع جلب لـمصلحة
عياذًا بالله من إلحاد في الدين
وقد اتفق أهل السنة على أن الله بعث محمدًا بصلاح العباد في المعاش والمعاد، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، فمتى كان العمل للإصلاح وادعى فيه مدع بالفساد رجحوا الراجح منهما وألحقوه به؛ لأن الله بعثه بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فشرعه شامل صالح لكل زمان ومكان ليس بحرج ولا أغلال دون الكمال. فدعواه بأن حجر المقام منسك من مناسك الحج، وأن رسول الله ﷺ وضعه موضعه الآن، وأن هذا هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وأن الإفتاء بتحويله عن محله يعتبر حدثًا في الدين وتغييرًا لشعائره، فكل هذا يعد من الكذب على الله وعلى نبيه وعلى خليله إبراهيم وعلى دينه وعباده المؤمنين، فإن كل ما يدعي فيه الصحة لا صحة له أصلاً، بل إن عمر هو الذي وضعه موضعه الآن وذلك بموافقة الصحابة له عليه للمصلحة الراجحة، وإن موضعه كان في لزق الكعبة من عهد إبراهيم على ما قاله ابن عباس، وكل من تدبر كلام صاحب النقض وجده لا يخرج عن قسمين: إما كذب في النقل، وإما تكذيب بالحق، فهو لفرط جهله وهواه يقلب الحقائق في المعقول والمنقول فيأتي إلى الأمور التي هي حق وعدل وخير وصلاح فيصرفها عن حقيقتها ويقول هي شر وفساد وعبث وإلحاد، فيخالف الحق مخالفة غير خافية على أحد لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس برأيه، ولن يخر فريسة لتعاليمه سوى همجي رعريع قليل الفهم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة.

* * *

[171] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [172] أخرجه أبو داود في المراسيل بمعناه من حديث الحباب بن المنذر.

الفصل السادس عشر

وأما فعل رسول الله ﷺ للشيء فإنه لا يدل بظاهره على وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى، قاله في المسودة، فلا بد من الوقوف على معرفة فعله وعلى أي وجه وقع منه من واجب أو ندب أو إباحة، فإذا كانت القرائن الدالة على الوجوب كان واجبًا أو على الاستحباب كان مستحبًّا أو على الإباحة كان مباحًا، فصلاته في مكان لا تدل على استحباب الصلاة في ذلك المكان دون غيره بدون دليل يقتضي الاختصاص، ولما سمعت عائشة أناسًا يقولون: إن النزول بالأبطح بعد الفراغ من الحج سنة، قالت لهم: إن رسول الله ﷺ لم ينزل في الأبطح إلا أنه كان منزلاً أسمح لخروجه[173]، ولما رأى ابن عمر أناسًا يضطجعون بعد صلاة سنة الفجر ويزعمون أنها سنة أخذ يحصبهم بالحصباء ويقول: إن النبي ﷺ فعلها من أجل تعبه في قيام الليل لا لتكون سنة[174]. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قلت لابن عباس: زعم قومك أن رسول الله ﷺ طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، فقلت: ما صدقوا وكذبوا؟ فقال: صدقوا طاف بين الصفا والمروة على بعير وكذبوا ليست بسنَّة، كان الناس لا يدفعون عنه ولا يضربون عنه فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم. رواه مسلم.

ففرق ابن عباس بين ما يفعل للسنة وما يفعل للحاجة العارضة، ولهذا نهى أكثر السلف عن اتباع مواقع آثار الأنبياء لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض، أو لئلا يؤول بهم هذا التتبع إلى عبادة آثارهم، ومن أجل ذلك أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع النبي ﷺ تحتها حينما رأى الناس يذهبون فيصلون عندها فخشي عليهم الفتنة فقطعها، وروى الشاطبي في الاعتصام عن الطحاوي وابن وضاح عن المعرور بن سويد قال: وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى بنا صلاة الغداة فقرأ فيها: (الم تر كيف) و(لإيلاف قريش)، ثم رأى أناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قال: يأتون مسجدًا ههنا صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ فليصل وإلا فلا يتعمدها: وهذا كله فيما يقصد به القربة والتماس المثوبة من أفعال رسول الله ﷺ.

وأما ما لم يظهر فيه معنى القربة فإنه يستبان منه رفع الحرج عن الأمة، فالأفعال منه موقوفة على دلائلها فمتى قام دليل الوجوب صار واجبًا، أو الاستحباب صار مستحبًّا، أو الإباحة صار مباحًا.

فاللازم إنما هو الأمر والله سبحانه إنما توعد على خلاف الأمر فقال تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] وفي الحديث: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[175] فعلق التكليف على الأمر والنهي.

والحاصل أن ما كان من أفعاله تنفيذًا لأمر فهو الواجب، لكون اللازم هو الأمر لا الفعل، ومثله الاتباع المأمور به في قوله: ﴿وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ [الأعراف: 158] فإنه لا يراد به محاكاة الفعل للفعل في الحال والمحل، وإنما يراد به طاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع.

وهذا حاصل ما حققناه في رسالة يسر الإسلام في أحكام الحج إلى بيت الله الحرام حيث قلنا فيها بجواز الرمي قبل الزوال لكونه لم يثبت عن النبي ﷺ ما يدل على النهي عنه ولا على تحديد الوقت الذي يرمى فيه لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وإنما ثبت من فعل النبي ﷺ حيث رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس فهذا الفعل مع السكوت عنه لا يقتضي وجوب التحديد به، وغايته إنما يحمل على الأفضلية لا على الفرضية، فهو أفضل ما يرمى فيه عند تيسره، والحكمة في تأخير الرمي من النبي ﷺ إلى ما بعد الزوال أن حجه صادف حرًّا شديدًا حتى إن بلالاً يظلل عليه عند رمي الجمار فأراد أن يخرج للرمي ولصلاة الظهر، مخرجًا واحدًا كما ثبت في سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس، أن النبي ﷺ رمى الجمرة ثم انصرف إلى مسجد الخيف فصلى بالناس الظهر فدل على أن الشارع رمى في الوقت المناسب له في ذلك الزمان، وهو لا يقتضي بمجرده وجوب ابتداء التحديد بالزوال فضلاً عن انتهائه بالغروب.

وقد ثبت من فعل النبي ﷺ أنه رمى ثم نحر ثم حلق ثم ركب ناقته ضحى يوم النحر فطاف طواف الإفاضة الذي هو طواف الفرض وركن الحج الأعظم وسكت عن بيان وقته، ومع هذا قد جعله العلماء موسعًا يفعله متى شاء كما جعلوا النحر والحلق موسعًا أيضًا يفعله متى شاء في أية ساعة من أيام منى، فلا أدري ما الذي خصص الرمي بالتحديد من بين نظائره.

فالقائل بوجوب تحديد الرمي بالزوال استنادًا إلى فعل النبي ﷺ واستدلالاً بقوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[176] يلزمه أن يقول بوجوب تحديد طواف الإفاضة بيوم النحر كما وجد من قال به، على أن الإفاضة ركن الحج الذي يجب أن يحتاط له، أما رمي الجمار في اليومين الأخيرين فإنه واجب يفعل غالبًا بعد التحلل الثاني من عمل الحج، فناسب التسهيل في عدم التشديد في التحديد.

ويدل لذلك ما روى البخاري أن النبي ﷺ وقف يوم النحر على راحلته فجعلوا يسألونه فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج»، حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت. فقال: «افعل ولا حرج». رواه البخاري من حديث ابن عباس ومعلوم أن الليل يدخل في مسمى المساء.

فنفي النبي ﷺ الحرج عن كل ما يفعله الحاج من تقديم أو تأخير بدون استثناء شيء من ذلك، فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ في مقامه هذا ولحذرهم منه كما حذرهم عن الوقوف ببطن عرنة، وعن الصلاة في أوقات معينة وأماكن مبينة، إذ لا يجوز في الشرع تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ومع عدمه فلا يجوز لنا أن نسميه نهيًا بدون أن ينهى عنه رسول الله ﷺ وما كان ربك نسيًّا، فترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه قال في جواب سؤالهم: ارموا في أية ساعة شئتم ولا حرج.

ومما يدل على ذلك حديث عاصم بن عدي، أن النبي ﷺ رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد وبعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر، رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان.

ووجه الدلالة منه أنه أمرهم في أن يرموا جمارهم يوم النفر بدون تحديد ولا تقييد، ويوم النفر هو ظرف لما بين طلوع الشمس إلى الغروب، أو لما بين طلوع الفجر إلى الغروب ويدخل الليل تبعًا، لا يقال: إن هؤلاء رعاة وقد رخص لهم في ذلك لحاجة الناس لرعاية الإبل، والرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح.

فنقول: نعم، إنه رخص لهم في البيتوتة عن منى وفي جمع الجمار ليومين، لكنهم عند إيابهم من رعايتهم وحصولهم في منى يوم النفر قد زال عنهم العذر وصار حالهم حال الصحابة المقيمين في منى في كل ما يفعل في يوم النفر من رمي وغيره، فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي لغيرهم لصار وقت نهي في حقهم لمساواتهم لهم.

ولكنه ثبت عنه أنه أمرهم في أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار كما روى البزار بإسناد حسن، والحاكم والبيهقي، أن النبي أرخص للرعاة أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار، ولو كان الليل غير قابل للرمي كما لا يقبل الصوم لما أمرهم أن يرموا فيه.

وقد ألحق الفقهاء من الحنابلة بالرعاة والسقاة كل من له عذر من مرض أو خوف على نفسه أو أهله أو رفيقه بأن يستبيحوا سائر ما يستبيحه الرعاة والسقاة من جمع الجمار ورميها في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار.

قال في الكافي: ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى وترك رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو الثالث إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد، والرمي بالليل، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة، وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم.

وقال في الإنصاف: وليس على أهل سقاية الحاج والرعاة مبيت بمنى، ويجوز لهم الرمي ليلاً ونهارًا، وقيل: أهل الأعذار من غير الرعاة كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه ونحوه، حكمهم كحكم الرعاة، جزم به المصنف والشارح. وقال في الفصول: وكذا خوف ماله وموت مريض قال: وهذا والذي قبله هو الصواب. انتهى.

فهذه الأقوال المبيحة لأهل الأعذار في أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، كلها مبنية على القول بوجوب تحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب على حسب ضعفه وكونه لا أصل له، ولا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وأشق من عذر الرعاة والسقاة، بحيث إن كل إنسان صار يخاف على نفسه وأهله ورفيقه في ذلك المكان من سقوطه تحت الأقدام، وصاروا بعلة العذر داخلين فيمن يباح لهم أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، وقد نص الفقهاء على أنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة فرماها في اليوم الثالث أجزأ مع الكراهة؛ لأن أيام منى كالوقت الواحد والكراهة تزول بأدنى حاجة.

فإذا كان الأمر بهذه الصفة، وأن أيام منى كلها كالوقت الواحد فلا شك أن رمي كل يوم قبل الزوال أقرب إلى الإصابة والعدل من جمع الجمار ثم رميها كلها في اليوم الثالث، إذ ليس عندنا ما يدل على النهي عن الرمي قبل الزوال لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، والتحديد بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد.

والاحتجاج برمي النبي ﷺ بعد الزوال إنما يحمل على الأفضلية لا على الفرضية، فهو أفضل ما يرمى فيه عند تيسره وسهولته.

أما الحكم بإلزام الجمع الكثير بالرمي في خاصة هذا الوقت القصير فقد صار من تكليف ما لا يستطاع، والقول به قد أوقع الناس في الضرر، ووسع دائرة الخطر، حتى صاروا يتحدثون بوفيات الزحام في كل عام، وحتى صار الناس يرمون جمارهم بعيدة عن الأحواض لهول ما يشاهدونه من خطر الزحام.

ومن قواعد الشرع المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والحرج منفي عن الدين، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم، وجاهدوا حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، والحرج هو الشدة والمشقة فيما يدرك غرض الشارع منه بدون مشقة.

وما من شيء من شؤون العبادات يقع الناس فيه في الشدة والمشقة والحرج إلا وبجانبه باب مفتوح من التيسير والفرج، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.

والمقصود أن القول بوجوب الرمي فيما بين الزوال إلى الغروب هو من تحديدات الفقهاء، تلقاها بعضهم عن بعض حتى استقر وجوبها في أذهان أكثر العلماء والعوام، وحتى صار الناس يتحدثون بفساد حج من رمى قبل الزوال.

وهب أنهم وجدوا ابتداء وقت الرمي بالزوال استنادًا إلى فعل النبي ﷺ، فمن أين يجدون انتهائه بالغروب، وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن الفقهاء دائمًا يقيدون السنة بقيود توهن الانقياد. وأكثرهم بسجن اللفظ محبوسون خوف معرة السجان والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا في قالب ويرده في ثانٍ.

وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية الأئمة الأربعة فيما يقرب من خمس عشرة مسألة، واتفق العلماء قاطبة على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، واتفقوا أيضًا على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.

ومن المعلوم أن الفقهاء دائمًا يذكرون تحديدات وتقييدات يجزم العلم الصحيح بنفيها ويقوى في القياس فسادها كتحديد السفر المبيح للقصر بيومين وكتحديد الإقامة الموجبة للإتمام بما يزيد على أربعة أيام، وكتحديد صحة الجمعة بأربعين من أهل وجوبها ونحو ذلك، فتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب من هذا القبيل.
وليس كل خلاف جاء معتبرًا
إلا خلاف له حظ من النظر
والصحيح أن الرمي هو من جملة الذكر المطلق في أيام منى أشبه الحلق والنحر على السواء، قال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖ [البقرة: 203] وهذا الذكر المأمور به يشمل الذكر عند الرمي والذكر عند الحلق والذكر عند النحر، وقد روى الترمذي عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «إنما شرع الرمي لإقامة ذكر الله عز وجل»، ولهذا كان النبي ﷺ يطيل الدعاء عند الجمرتين، حتى قال ابن عمر: إنه وقف للدعاء بقدر سورة البقرة. والمانعون من الرمي قبل الزوال إنما يحتجون بقول النبي ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وأنه رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى. وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس، وهذا الاحتجاج بمجرده لا يبلغ ذروة المطلب ولا سنام المقصد، لكون الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب إلا إذا اقترن به دليل الأمر، ولو كان كل شيء فعله ﷺ في حجته يكون واجبًا على أمته لكانت التلبية من الأمر الواجب ولكان المبيت بمزدلفة والوقوف بها إلى الإسفار في حق الأصحاء الأقوياء من الأمر الواجب إذ هو فعل النبي ﷺ وأصحابه، ولكان ابتداء رمي جمرة العقبة بما بعد طلوع الشمس من يوم النحر في حق الأصحاء الأقوياء من الأمر الواجب لدلالة فعله وقوله على ذلك، ولكان تحديد طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد من الأمر الواجب؛ لأن هذه الأعمال كلها فعلها النبي ﷺ في حجته وسكت عن بيان فعلها، يوضحه أن رمي الجمار في اليومين الأخيرين يقع بعد التحلل الثاني من أعمال الحج، بحيث إن الإنسان إذا رمى وحلق وطاف طواف الإفاضة فقد حل من الحج. فلو مات لحكمنا بتمام حجه، فناسب عدم التشديد في التحديد لعدم ما يدل عليه، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليس بمعصوم ولم يكن من كلام الرسول، ففي عدم التحديد حكمة ظاهرة ومعجزة باهرة دق على أكثر الناس إحاطة العلم بمصالحها ومحاسنها وخفي عليهم سعة مداركها ومسالكها، فلو حدد الرمي على الناس بما بين الزوال إلى الغروب لوقعوا في الحرج والشدة والمشقة التي تنافيها شريعته السمحة؛ لأن الله سبحانه قد بعث نبيه بدين كامل وشرع شامل ليس بحرج ولا أغلال، صالح لكل زمان ومكان وأنهم متى استقاموا عليه ما سقموا منه أبدًا، أما قول النبي ﷺ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، فإنه من القول المجمل الذي يدخل تحته الواجب والمستحب، وقد أجمع العلماء من جميع المذاهب على أنه لا يجب العمل بكل ما فعله النبي ﷺ في حجته حتى يقوم دليل الوجوب على ذلك.

وأما الاحتجاج بإجماع الناس على رمي الجمار بعد الزوال فإنه بناءً منهم على محبة التأسي بفعل رسول الله ﷺ وكان الوقت في الزمان الماضي مناسبًا لهم فيختار أحدهم للرمي من الوقت أفضله، وجرى العمل مستمرًّا على هذه الحالة حيث لا شدة ولا مشقة، حتى ظن أكثر الناس أنه من الأمر الواجب الذي لا محيص عنه، وهو من جنس إجماعهم على النطق بنية الإحرام وليست بواجبة، وعلى التلبية وليست بواجبة، وعلى صلاة ركعتي الطواف وليست بواجبة، على أنه لم ينعقد الإجماع على ذلك، فذهب عطاء وطاووس إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال، وقال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال. وقال في الواضح: يجوز الرمي بعد طلوع الشمس. وقال في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: يجوز رمي الجمار من طلوع الشمس، ورخص الحنفية في الرمي يوم النفر قبل الزوال مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمي متعجل قبل الزوال.

فهؤلاء العلماء الأجلاء قد استباحوا الإفتاء بجواز الرمي في حال الرخاء والسعة، فما بالك لو وقفوا على حالة الناس وما جرى عليهم عند رمي جمارهم من الشدة والمشقة، حتى إن أحدهم ليرمي جماره بعيدة عن الأحواض من شدة ما يشاهده من هول الزحام، ولعل ما يستقبل من الزمان يكون أعظم جمعًا وأشد خطرًا، وقد نص الفقهاء على أن من شرط صحة الرمي العلم بحصول الحصى في المرمى، فالقول بسعة الوقت للرمي هو الذي يؤهل الناس للعمل بواجبه بسهولة وسعة ويعلم أحدهم أن رميه قد وقع موقعه في الصحة والاجزاء والامتثال.

وإنما تظهر حكمة الرمي عند القيام بما شرع لأجله وهو التكبير والذكر وإطالة الوقوف للدعاء بقبول عمله وسعيه؛ لأنه ختام أعمال الحج، ولا يتأتى ذلك إلا بالقول بسعة الوقت للرمي، ويقال لمن أنكر الرمي قبل الزوال استدلالاً بفعل النبي ﷺ واستنادًا إلى قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، أنتم تسلمون بجواز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل في حق كل أحد حتى الأصحاء الأقوياء تمشيًا مع ظاهر المذهب وهو خلاف فعل النبي ﷺ القائل: «خذوا عني مناسككم» وخلاف فعل أصحابه، لأن النبي ﷺ إنما أفاض من مزدلفة بعدما صلى الفجر وبعد ما أسفر جدًّا، وتسلمون أيضًا بصحة رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل في حق كل أحد حتى الأصحاء الأقوياء وهو خلاف فعل النبي ﷺ القائل: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، بل خلاف سنته القولية.

كل هذا قياسًا من الفقهاء على الرخصة الحاصلة للضعفة والأطفال، إن من يقول: إن من علل هذه المخالفات وسقوط هذه الواجبات الضرورة، وقياسًا على الضعفة يلزمه أن يقول بسقوط التوقيت للرمي في اليومين الأخيرين - لو صح سنده- لضرورة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام، الذي صار أكثر الناس يمتنعون عن المباشرة برمي جمارهم من أجله، وصاروا يوكلون من يرونه قويًّا جلدًا على المزاولة والمدافعة لعجز أكثر الناس عن الوصول إلى أحواض الجمار، وهذا من الحقائق التي يعبر عنها بالمشاهدة والحس، على أنه ليس بين أيدينا ما يدل على التحديد بما بين الزوال إلى الغروب، بل الصحيح الذي لا شك فيه أنه يجوز للحاج أن يرمي جماره في أية ساعة شاء من ليل أو نهار من أيام منى قياسًا على أهل الأعذار والضرورات، إذ العذر واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وإنما رجعت إلى بيانه خروجًا من عهدة كتمانه، ولداعي الحاجة والضرورة إلى العمل به والنصح بموجبه، والله عند لسان كل قائل وقلبه، والحلال ما أحله الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والحرام ما حرمه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوه على عافيته: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ [البقرة: 195] ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا [النساء: 29]

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

وفيما يلي النص الكامل لرسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

* * *

رسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هل يجوز تأخيره عن موضعه عند الحاجة لتوسيع المطاف تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني

أمين مكتبة الحرم المكي

تقريظ

1- فضيلة الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ

المفتي الأكبر بالديار النجدية ورئيس القضاة

2- فضيلة الشيخ / محمد حامد الفقي

المحرم سنة 1378 هجرية

[173] متفق عليه من حديث عائشة. [174] أخرجه عبد الرزاق في المصنف ضمن حديث عائشة. [175] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [176] أخرجه مسلم من حديث جابر.

[مقدمة الشيخ محمد حامد الفقي]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.

وصلى الله وبارك على صفوته من خلقه، وخيرته من عباده، خاتم رسله محمد، الذي أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا وهاديًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. أرسله على فترة من الرسل، وأنزل عليه نورًا وفرقانًا وكتابًا مبينًا، وأمره ببيانه ليهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم.

وبعد..

فإن من عظيم رحمة الله، وسابغ نعمته: أن هيأ للبلاد المقدسة من أسباب الأمن والرخاء، ما زاد في عمرانها زيادة لم تكن لتخطر على البال، إذ أخرج لها من بركات الأرض ما أغدق به الخير في السهول والجبال، فتطلعت إليها الأنظار، وشدت إليها من أطراف الأرض دانيها وقاصيها الرحال، وأهرع إليها طالبو الدنيا والآخرة، وتعلقت بها عظائم الآمال، فكان ذلك من أشد ما يدعو إلى تيسير أسباب الراحة لساكنيها، ولقاصدي أداء المناسك، وإقامة مشاعر الحج والعمرة عند البيت الحرام.

فتوجهت همة:

حضرة صاحب الجلالة الملك سعود

أدام الله توفيقه، وأطال في صالح الأعمال عمره وهمة رجال حكومته الإسلامية، وعلى رأسهم حضرة صاحب السمو الملكي الأمير الجليل فيصل بن عبد العزيز، ولي العهد المعظم، ورئيس مجلس الوزراء إلى توسعة الحرمين الشريفين توسعة تتناسب والعصر الحاضر في فخامة البنيان، وإشادة الأركان، وتوسعة كل ما حول المشاعر والمناسك. وتمت بحمد الله توسعة مسجد رسول الله ﷺ. وبدئ في توسعة المسجد الحرام. والله الموفق على إتمامها.

وقد اقتضت توسعة المطاف حول الكعبة، نقل مقام إبراهيم؛ وهو الحجر الذي كان يقوم عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع البناء، والذي جعله الله تعالى من الآيات البينات، على أن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، وأنها لا تزال باقية مكانها على قواعد إبراهيم، على مدى الدهور والأيام، وهي - بذلك- أحق وأولى بالحج لله عندها، وبالطواف بها[177] من بيت المقدس.

فكان من اللازم تأخير المقام عن موضعه، حتى لا يؤذي الطائفين، ولا يعوقهم عن سيرهم في طوافهم.

فظن بعض الناس أن في ذلك مخالفة، وتغييرًا للمشاعر.

فكتب أخونا المحقق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني هذه الرسالة القيمة، لبيان أن الحق والهدى هو في نقل المقام وتأخيره عن موضعه، اقتداءًا بفعل عمر بن الخطاب الذي أقره عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.

وقد اطلع فضيلة الشيخ الجليل، علامة عصره، مفتي المملكة العربية السعودية، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ على هذه الرسالة، وأشرف عليها، وقرظها، ووصفها بأنها رسالة قيمة.

فتفضل جلالة الملك سعود المعظم - أطال الله عمره - بالأمر بطبعها وتوزيعها ابتغاء مرضاة الله، لحسم الخلاف ولوضع الحق موضعه، ولتعميم النفع بها.

فالله سبحانه المسؤول أن يجزي جلالة الملك سعود المعظم، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير فيصل، خير الجزاء، ويثيبهم أفضل المثوبة، ويديم توفيقهم لكل ما فيه خير العرب وعز المسلمين، وجمع كلمتهم، وتوحيد قوتهم، ونصرهم على جميع أعدائهم.

وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله محمد فخر العرب، وعلى آله أجمعين.

القاهرة في العشرين من شهر المحرم

سنة 1378هـ وكتبه فقير عفو الله ورحمته

محمد حامد الفقي الموافق للسادس من شهر أغسطس

سنة 1958م

* * *

[177] إذ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ [آل‌عمران: 96-97] يرد الله تعالى على اليهود الذين زعموا - باطلاً- أن بيت المقدس أولى بالحج من الكعبة. فيقول الله لهم: إن الكعبة أولى وأحق؛ لأنها قائمة في مكانها على قواعد إبراهيم التي خطط موضعها له جبريل؛ بدليل وجود هذا الحجر المنفصل عن البناء، لم يذهب بعيدًا، ولا يزال قائمًا بجوار الكعبة، فأولى ثم أولى، ذلك البناء القائم للكعبة. بخلاف بيت المقدس؛ فإنه قد هدم وخرب ما حوله مرارًا، وخربت أورشليم، ببغي اليهود وكفرهم وإفسادهم في الأرض، إذ سلط الله عليهم قومًا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار مرارًا باعتراف اليهود. وبما ذكر الله في سورة بني إسرائيل، وفي كل مرة كان يعاد بناؤه على غير قواعد إبراهيم. وهذا المقام - أي الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه حين البناء غير المقام الذي قال الله فيه: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗىۖ [البقرة: 125] فهذا هو المكان الذي كان يقوم فيه إبراهيم للصلاة مواجهًا لباب الكعبة إلى اليمين، بعد أن يفرغ من طوافه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

تقريظ حضرة صاحب الفضيلة والسماحة فقيه العصر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأكبر بالديار النجدية، ورئيس القضاة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد، فقد قُرئت عليّ هذه الرسالة التي ألفها الأستاذ عبد الرحمن المعلمي اليماني، بشأن مقام إبراهيم وتنحيته عن مكانه الحالي، فيما إذا أُريد توسيع المطاف. فوجدتها رسالة بديعة.

وقد أتى فيها بعين الصواب في هذه المسألة.

وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه، وجعل عمل الجميع خالصًا لوجهه الكريم.

أملاه الفقير إلى عفو الله: محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.

* * *

[المقدمة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأتقن كل شيء خلقًا وأمرًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فهذه رسالة في شأن مقام إبراهيم وما الذي ينبغي أن يعمل به، عند توسعة المطاف، حاولت فيها تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق، معتمدًا على ما أرجوه من توفيق الله - تبارك اسمه - لي، وإن قلّ علمي وكَلَّ فهمي.

فما كان فيها من صواب فمن فضل الله علي وعلى الناس وما كان فيها من خطأ فمني. وأسأل الله التوفيق والمغفرة.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ١٢٥ [البقرة: 125].

وقال سبحانه: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡ‍ٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ٢٦ [الحج: 26].

جاء عن جماعة من السلف تفسير التطهير في الآيتين بالتطهير من الشرك والأوثان.

وهذا من باب ذكر الأهم الذي يقتضيه السبب فإن إخلال المشركين بتطهير البيت كان بشركهم، ونصبهم الأوثان عنده.

ولا ريب أن التطهير من ذلك هو الأهم، لكن التطهير المأمور به أعم.

أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: من الأوثان والريب، وقول الزور والرجس. ذكره ابن كثير وغيره.

وقال البغوي: قال ابن جبير وعطاء: طهراه من الأوثان والريب وقول الزور.

وأخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال: من الآفات والريب.

أقام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت على الطهارة بأوفى معانيها. فالأمر بتطهيره أمر بالمحافظة على طهارته، وأن يمنع ويزال عنه كل ما يخالفها.

وقوله: ﴿لِلطَّآئِفِينَ يدل على أنه - مع أن التطهر مأمور به لحرمة البيت - مأمور به لأجل هذه الفرق -الطائفين والعاكفين والقائمين والركع والسجود- لتؤدى هذه العبادات على الوجه المطلوب.

وهذا يبين أن التطهير، المأمور به لا يخص الكعبة، بل يعم ما حواليها، حيث تؤدى هذه العبادات، وأن في معنى التطهير إزالة كل ما يمنع من أداء هذه العبادات، أو يعسِّرها، أو يخل بها، كأن يكون في موقع الطواف ما يعوق عنه، من حجارة أو شوك أو حفر.

فثبت الأمر بأن يُهيَّأ ما حول البيت تهيئة تمكن الطائفين والعاكفين والمصلين من أداء هذه العبادات بدون خلل ولا حرج.

لم يحدد الشارع ما أمر بتهيئته حول البيت بمقدار مسمى، لكن لما أمر بالتهيئة لهذه الفِرَق على الإطلاق علم أن المأمور به تهيئة ما يكفيها ويتسع لهذه العبادات مع اليسر.

فلما كان المسلمون قليلاً في عهد النبي ﷺ كان يكفيهم المسجد القديم.

نعم، كثر الحجاج في حجة الوداع، لكن لم يكن منتظرًا أن يكثروا تلك الكثرة، أو ما يقرب منها في السنوات التي تليها. وكانت بيوت قريش ملاصقة للمسجد، لا يمكن توسعته إلا بهدمها، وهدمها ينفرهم وعهدهم بالشرك قريب.

فلما كثروا في زمن عمر رضي الله عنه، وزال المانع، هدم الدور، وزاد في المسجد، وهكذا زاد من بعده من الخلفاء بحسب كثرة المسلمين في أزمنتهم.

وادَّخر الله تعالى الزيادة العظمى لصاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز ابن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أيده الله، وأوزعه شكر نعمته، وزاده من فضله.

قدم الله تعالى في الآيتين الطائفين على العاكفين والمصلين، والتقديم في الذكر يشعر بالتقديم في الحكم «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِه»[178] وبدأ في الوضوء بالوجه.

فيؤخذ من هذا أن التهيئة للطائفين أهم من التهيئة للعاكفين والمصلين.

فعلى هذا يقدم الطائفون عند التعارض، ولا يكون تعارض عند إقامة الصلاة المفروضة جماعة مع الإمام؛ لأن عليهم جميعًا الدخول فيها، وإنما يمكن التعارض بين الطائفين وبين العاكفين والمصلين تطوعًا.

وإذ كان المسجد - بحمد الله - واسعًا وسيزداد سعة، فإنما يقع التعارض في المطاف، كما إذا كثر الطائفون، وكان في المطاف عاكفون ومصلون تطوعًا، وضاق المطاف عن أن يسعهم جميعًا بدون حرج ولا خلل.

فإن قدم بقرب البيت العاكفون والمصلون، وقيل للطائفين: طوفوا من ورائهم، كان هذا تأخيرًا لمن قدمه الله، ولزم فيه الحرج على الطائفين، لطول المسافة عليهم، مع أن الطواف يكون فرضًا في الحج والعمرة، وإذا خرج العاكفون والمصلون عن المطاف، وأدوا عبادتهم في موضع آخر من المسجد، زال الحرج والخلل البتة.

منذ بعث الله تعالى نبينا محمدًا ﷺ، لم يزل عدد المسلمين يزداد عامًا فعامًا، وبذلك يزداد الحجاج والعمار. ومع ذلك فقد توفرت في هذا العصر أسباب زاد لأجلها عدد الحجاج والعمار زيادة عظيمة.

منها: حدوث وسائط النقل الأمينة السريعة المريحة.

ومنها: الأمن والرخاء اللذان لا عهد لهذه البلاد بهما ولذلك زاد عدد السكان والمقيمين زيادة لا عهد بها.

ومنها: الأعمال العظيمة التي قامت وتقوم بها الحكومة السعودية لمصلحة الحجاج، بما فيها تعبيد الطرق، وتوفير وسائط النقل، والعمارات المريحة، كمدينة الحجاج بجدة، والمظلات بمنى ومزدلفة وعرفة، وتوفير المياه، وكل ما يحتاج إليه الحجاج في كل مكان، وإقامة المستشفيات العديدة، والمحجر الصحي، الذي قضت به الحكومة السعودية على ما كانت بعض الدول تتعلل به لمنع رعاياها عن الحج أو تصعيبه عليهم، والعمارة العظمى للمسجد النبوي، والتوسعة الكبرى الجارية الآن للمسجد الحرام وغير ذلك مما زاد في رغبة المسلمين من جميع البلاد في الحج.

فزاد عدد الحجاج في السنين الماضية، وينتظر استمرار الزيادة عامًا فعامًا، لذلك أصبح المسجد - على سعته - يضيق بالمصلين في كثير من أيام الجمع في غير موسم الحج، فما الظن به فيه؟.

فوفق الله تعالى جلالة الملك سعود بن عبد العزيز -أطال الله عمره في صالح الأعمال- لتوسعته، والعمل فيه جار.

وأشد ما يقع الزحام في الموسم في المطاف، وتنشأ عن ذلك مضار تلحق الأقوياء فضلاً عن الضعفاء والنساء، ويقع الخلل في هذه العبادة الشريفة، وهي الطواف، لزوال ما يطلب فيه من الخشوع والخضوع والتذلل، وصدق التوجه إلى الله عز وجل، إذ يهتم كل من وقع في الزحام بنفسه.

وقد يكون مع الرجل القوي -أو الرجلين- ضعيف أو امرأة، أو أكثر فيحاول القوي أن يدفع الزحام عن نفسه وعمن معه، فيدفع من بجنبه وأمامه ليشق له ولمن معه طريقًا على أي حال، فيؤذي بعضهم بعضًا، وربما وقع النزاع والخصام والضرب والشتم، ويقع زحام الرجال للنساء. وقد قال ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»[179].

وقد رأينا من الناس من يسيء بغيره الظن، وربما أدى ذلك إلى الإيذاء بالدفع والشتم، وربما بالضرب.

ومن المعلوم أن صحة الطواف لا تتوقف على أدائه في المطاف، وإنما شرطه أن يكون في المسجد، لكن جرى العمل على أن يكون في المطاف، ولو مع الزحام، لأسباب:

منها: أن خارج المطاف غير مهيأ للطواف فيه بغير حرج.

ومنها: أن غير الطائفين يقفون ويجلسون ويسلكون وراء المطاف وعند زمزم فيشق على الطائفين تخلل تلك الجموع.

ومنها: أن من أهل العلم من يشترط لصحة الطواف في المسجد ألّا يحول بين الطائف والكعبة بناء ونحوه. وممن ذكر ذلك صاحب الفروع (ج2 ص390).

وإزالة هذه العوائق إنما تتم بتوسعة المطاف.

فلم يكن بد من توسعة المطاف، والعمل بذلك جار ولله الحمد.

إن أضيق موضع في المطاف هو ما بين المقام والبيت ويزداد ضيقه بالناس شدة، لقربه من الحجر الأسود والملتزم، حيث يقف جماعة كثيرة للاستلام والالتزام والدعاء.

وإذا كانت توسعة المطاف مشروعة، فتوسعة ذلك الموضع مشروعة، وما لا يتم المشروع إلا به - ولا مانع منه- فهو مشروع.

يرى بعض أهل العلم أن هذا منطبق على تأخير المقام، وأن التوسعة المطلوبة لا تتم إلا به.

فأما ما يقوله بعضهم من إمكان طريقة أخرى لتوسعة المطاف في تلك الجهة أيضًا مع بقاء المقام في موضعه وذلك بأن يحدد موضع يكفي المصلين خلفه، ويوسع المطاف من وراء ذلك توسعة يكون مجموع عرضها وعرض ما بين «المقام» والبيت مساويًا لعرض المطاف بتوسعته في بقية الجهات فإذا كثر الطائفون سلك بعضهم أمام المقام كالعادة، وسلك بعضهم في التوسعة التي خلفه، وخلف موضع المصلين فيه.

فبهذه الطريقة خلل من أوجه.

الأول: أنها مخالفة لعمل من عمله حجة.

فإن موضع المقام في الأصل بلصق الكعبة، وسيأتي إثباته، فلما كثر الناس في عهد عمر رضي الله عنه، وصار بقاء المقام بجنب الكعبة - ويصلى من خلفه- مظنة تضييق المطاف على الطائفين أخره ليبقى ما أمامه للطائفين متسعًا لهم. ويخلو ما وراءه للمصلين. وأقره سائر الصحابة رضي الله عنهم. فكان إجماعًا. وهو حجة.

وقيل: إن النبي ﷺ هو الذي أخر المقام للعلة نفسها.

وأيًّا ما كان فهو حجة، وكان ممكنًا حينئذ أن يبقى المقام بجنب الكعبة، ويحجر لمن يصلي خلفه موضع يطوف الطائفون من ورائه، ويوسع لهم المطاف من خلف.

وهذا نظير الطريقة الأخرى التي يشير بها بعضهم الآن، وأبعد منها عن الخلل، وقد أعرض عنها من عمله حجة واختار تأخير المقام عن موضعه الأصلي.

وإذا كانت الحال الآن كالحال حينئذ، فالذي ينبغي هو الاقتداء بالحجة، وتأخير المقام.

وإذا ساغ لهذه العلة تأخيره عن موضعه الأصلي فلأن يسوغ لأجلها تأخيره عن موضعه الثاني أولى.

الثاني: أن تلك الطريقة لا تفي بالمقصود؛ لأن حاصلها أن يكون للمطاف في ذلك الموضع فرع يُسلك وراء المقام وموضع المصلين فيه.

وهذا مظنة أن يحرص أكثر الطائفين على أن يسلكوا أمام المقام كالعادة، واختصارًا للمسافة. ويحرص على ذلك المطوفون، وخلف المطوف جماعة لا يجدون بدًّا من متابعته، فيبقي الزحام قريبًا مما كان.

الثالث: أنه إن أحيط موضع المصلين خلف المقام بحاجز شق الدخول إليه والخروج منه. وإن لم يحجز كان مظنة أن يسلكه بعض الطائفين اختصارًا للمسافة فيقع الخلل في العبادتين.

وإنما كان يمنعهم من ذلك فيما مضى - مع بعد المسافة- توهمهم أن الطواف لا يصح إلا في المطاف.

وسيزول هذا الوهم عند توسعة المطاف من خلفه.

وبقيت أوجه أخرى، كتقديم حق المصلين على حق بعض الطائفين وتطويل المسافة عليهم، واحتمال أن يضيق الموضع الذي يخصص للمصلين خلف المقام؛ لأنهم يكثرون في بعض الأوقات، ويحرص كثير منهم على المكث هناك للدعاء وغير ذلك.

وبالجملة فلا ريب أنه إذا تحققت العلة، ولم يكن هناك مانع من تأخير المقام فتأخيره هو الطريقة المثلى.

* * *

هل هناك مانع...؟

يبدي بعض الفضلاء معارضات، يرى أنها تشتمل على موانع، وسأذكرها مع ما لها وما عليها، وأسأل الله التوفيق.

يقول بعض الناس: ذكر جماعة من المفسرين ما يدل على أن المقام ليس هو الحَجَر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن. وتأخير البقعة غير ممكن، فإذا نقل الحجر عنها، فإما أن يفوت العمل بالآية، وإما أن يبقى الحكم للبقعة؛ لأنها موضع الصلاة.

وأقول: إن النظر في هذا يقتضي بسط ما يتعلق بالمقام، وسأشرح ذلك في فصول.

* * *

[178] أخرجه الإمام مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم من حديث جابر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [179] متفق عليه من حديث صفية بنت حيي.

الفصل الأول: ما هو المقام؟

عامة ما ورد فيه ذكر المقام من الأحاديث والآثار وكلام السلف والأئمة - ويأتي كثير منها- يبين أن مقام إبراهيم الذي في المسجد هو الحجر المعروف، غير أن بعض من روي عنه هذا رُوي عنه تفسير المقام في الآية بأنه الحج كله، أو المشاعر.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يبين عدم الخلاف وأن من قال الحج كله أو المشاعر إنما أراد أن الآية، كما تنص على شرع الصلاة إلى هذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم لعبادة ربه عز وجل - كما يأتي- فهي تدل على شرع العبادة في كل موضع قام فيه إبراهيم للعبادة، على ما بينه الشرع، وذلك هو الحج والمشاعر. ولهذا جاء عنهم في تفسير كلمة ﴿مُصَلّٗىۖ قولان:

الأول: قبلة يصلون خلفه، أو يصلون عنده.

الثاني: مدعى.

فالأول بالنسبة إلى الحجر، والثاني -كما أفاده ابن جرير- بالنسبة إلى المشاعر؛ لأن الدعاء مشروع عندها كلها، بل يجمع العبادات المختلفة المشروعة فيها، إذ المطلوب بتلك العبادات هو ما يطلب بالدعاء من رضوان الله ومغفرته، وخير الدنيا والآخرة، فالدعاءُ عبادة، والعبادة دعاء.

فأما ما ذكر في المعارضة من بعض المفسرين، فأولهم - على ما أعلم- الزمخشري، وتبعه بعض من بعده.

والزمخشري - على حسن معرفته بالعربية- قليل الحظ من السنة. ورأى أنه لا يكون الحجر مصلى على الحقيقة، إلا إذا كانت الصلاة عليه وذلك غير مشروع، ولا ممكن. لأنه يصغر عن ذلك.

ولو وُفق الزمخشري للصواب لجعل هذا قرينة على أن المراد بكلمة ﴿مُصَلّٗىۖ قبلة، كما قاله السلف، أي: يصلى إليه، كما بينه النبي ﷺ وعمل به أصحابه فمن بعدهم.

ومن العلاقات المعتبرة في المجاز: المجاورة، وهي ثابتة هنا، فإن الصلاة إذا وقعت إلى الحجر فهي بجواره.

ووجه آخر: وهو أن تكون كلمة مُصَلّٗىۖ اسم مفعول والأصل: مصلى إليه، حذف حرف الجر فاتصل الضمير واستتر كما يقول ابن جني في مزمل من قول امرئ القيس:
كأن أبانًا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
أن الأصل مزمل به فحذف حرف الجر فاتصل الضمير واستتر. والنكتة على الوجهين هي: - والله أعلم- التنبيه على أن المزية للحجر لقيام إبراهيم عليه للعبادة. والمشروع لهذه الأمة التأسي به.

والقيام على الحجر لمثل عبادة إبراهيم لا يمكن إلا نادرًا، فعوض عنه بما يمكن دائمًا، وهو القيام للصلاة، وهو يصغر عن الصلاة عليه، ودفنه - ليتسع مع بعض ما حوله للصلاة- يؤدي إلى اندثاره.

ولماذا التكلف؟

وإنما المقصود: أن يكون للقيام في الصلاة تعلق به فشرعت الصلاة إليه.

وعبارة الزمخشري مقام ابراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه.

ويبطل هذا القول - مع ما تقدم- أن المذكور في الآية مقام واحد، لا مقامان، وأن وضع الرِّجل على الحجر بدون قيام حقيقي لا يكفي لأن يطلق عليه كلمة مقام على الحقيقة، وأن الذي كان من إبراهيم علي الحجر، فسمي لأجله مقام إبراهيم قيام حقيقي، لا وضْع رِجل فقط، وأن الموضع الذي قام فيه على الحجر ليس هو موضعه الآن. وأن المقام كان أولاً بلصق الكعبة، وكان الحكم معه، ثم حول إلى موضعه الآن فتحول الحكم معه.

وسيأتي إثبات هذا كله في فصول إن شاء الله تعالى.

* * *

الفصل الثاني: لماذا سمي الحجر مقام إبراهيم؟

أعلى ما جاء في هذا: ما أخرجه البخاري وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في خبر مجيء إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام وأمه إلى مكة وما جرى بعد ذلك - وفيه ذكر بناء البيت حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه وهو يبني.

وفي رواية أخرى: حتى إذا ارتفع وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على المقام.

وعند ابن جرير، بسند صحيح يلاقي سند البخاري الثاني: فلما ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة قام على حجر، فهو المقام.

وفي فتح الباري: أن الفاكهي أخرج نحو هذه القصة من حديث عثمان، وفيه: فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه، ويرفعه له إسماعيل، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه - يعني الحجر الأسود- موضعه، وأخذ المقام فقال: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم.

قال في الفتح: روى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم.

وفي أول الخبر عند البخاري عن كثير بن كثير، قال: إني وعثمان بن أبي سليمان جلوس مع سعيد بن جبير فقال: ما هكذا حدثني ابن عباس، ولكنه قال.

وفي فتح الباري ج6 - ص283 بيان ما نفاه سعيد بن جبير. ذكر ذلك عن روايتي الفاكهي والأزرقي وغيرهما.

وفيه: أنهم سألوا سعيد بن جبير عن أشياء، قال: قال رجل: أحق ما سمعنا في المقام - مقام إبراهيم- أن إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته ألّا ينزل بمكة حتى يرجع. فقربت إليه امرأة إسماعيل المقام. فوضع رجله عليه حتى لا ينزل؟ فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا.

والخبر - وفيه قريب من هذا- عند الأزرقي (ج2 - ص24) وفي آخره: فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر، فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت، يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم عليه السلام، وقيامه عليه.

وقصة مجيء إبراهيم ولقائه امرأة إسماعيل قد ذكرها ابن عباس، وليس فيها ما يحكي من وضع رجله على الحجر، وكان مجيئه ذلك قبل بناء البيت.

فهب أنه ثبت وضعه رجله على الحجر وهو على دابته فليس هذا بقيام على الحجر، ولا هو في عبادة، فلا يناسب مزية للحجر، وإنما القيام الحقيقي على الحجر الذي يناسب مزية له هو ما وقع بعد ذلك من قيامه عليه لبناء الكعبة ثم للأذان بالحج.

فهذا هو الثابت في وجه تسمية الحجر مقام إبراهيم.

* * *

الفصل الثالث: أين وضع إبراهيم المقام أخيرًا؟

تقدم في الفصل السابق من حديث عثمان رضي الله عنه: فجعله لاصقًا بالبيت.

وقد ظهر أن منشأ مزيته - وهي أثر قدمي إبراهيم- هو قيامه عليه لبناء البيت.

فالظاهر أن يكون إبراهيم أبقاه إلى جانب البيت في ذلك الموضع الظاهر - وهو عن يمنة الباب- لتشاهد الآية ويُعرف تعلقه بالبيت.

وجاء عن بعض الصحابة - وهو نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه- أنه رآه في عهد عبد المطلب ملصقًا بالبيت وسنده ضعيف.

ويأتي أنه كان في عهد النبي ﷺ ملصقًا بالبيت.

ويأتي بيان أن ذلك في الموضع المسامت له الآن.

وإقرار النبي ﷺ له هناك، يصلي هو وأصحابه خلفه بدون بيان أن له موضعًا آخر يدل على أن ذلك هو موضعه الأصلي.

ولم أجد ما يخالف هذا من السنة والآثار الثابتة عن الصحابة ولا ما هو صريح في خلافه من أقوال التابعين.

إلا أن المحب الطبري قال في القرى ص309: قال مالك في المدونة: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل، فكان ذلك في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر رضي الله عنه، فلما ولي عمر رضي الله عنه رده بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قيس بها حتى أخروه، وعمر هو الذي نصب معالم الحرم بعد أن بحث عن ذلك.

هذا آخر كلامه في المدونة فيما نقله صاحب التهذيب مختصر المدونة.

ولم أجد أصل ذلك الكلام في مظنته من المدونة المطبوعة.

ثم قال المحب: وقال الفقيه سند بن عنان المالكي في كتابه المترجم بالطراز - وهو شرح للمدونة - وروى أشهب عن مالك قال: سمعت من يقول من أهل العلم: إن إبراهيم عليه السلام أقام هذا المقام، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ، وأبي بكر رضي الله عنه وقبل ذلك، وإنما أُلصق إليه لمكان السيل مخافة أن يذهب به، فلما ولي عمر رضي الله عنه أخرج خيوطًا كانت في خزانة الكعبة، وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهلية، إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر، وأخره إلى موضعه إلى اليوم. قال مالك: والذي حمل عمر.

إن بين سند بن عنان وبين أشهب نحو ثلاثمائة سنة فإن صح عن مالك فهذا الذي أخبره بالحكاية لم يذكر مستنده، ولا أحسبه استند إلا إلى حكاية مجملة وقعت له عن تحويل عمر رضي الله عنه للمقام وما جرى بعد ذلك، فقال ما قال.

وسيأتي - إن شاء الله- تحقيق تلك القضية بما يتضح به أن ليس فيها دلالة على ما ذكر.

وعلى كل حال فهذه الحكاية المنقطعة لا تصلح لمقاومة ما تقدم من الأدلة. والله المستعان.

فالذي تعطيه الأدلة أن إبراهيم عليه السلام وضع المقام عند جدار الكعبة في الموضع المسامت له الآن.

* * *

الفصل الرابع: أين كان موضعه في عهد النبي ﷺ؟

في هذا ثلاثة أقوال:

الأول: أنه كان في موضعه الذي هو به الآن، والأدلة الصحيحة الواضحة ترد هذا القول، كما يأتي في القول الثالث.

ولكني أذكر ما جاء في هذا، مع النظر فيه ليعرف.

أخرج الأزرقي عن ابن أبي مليكة قال: موضع المقام، هذا الذي هو به اليوم، هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي ﷺ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر رضي الله عنه. فجُعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر. فرده بمحضر من الناس.

سند الأزرقي رجاله ثقات، وابن أبي مليكة من ثقات التابعين، لكن الأزرقي نفسه لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل، ولم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم، بل قال الفاسي في ترجمته من العقد الثمين: لم أر من ترجمه.

فهو - على قاعدة أئمة الحديث- مجهول الحال، وقد تفرد بهذه الحكاية والله أعلم.

وقال الأزرقي أيضًا: حدثني جدي حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن أبيه عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام... ربما دفعت المقام من موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقال له: سيل أم نهشل، فاحتمل المقام من موضعه فذهب به حتى وجد بأسفل مكة. فأتي به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر رضي الله عنه فزعًا. فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُمي موضعه وعفاه السيل. فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام. فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك. فقد كنت أخشى عليه هذا فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت، فقال له عمر: فاجلس عندي وأرسل إليها، فأتي بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا. فسأل الناس وشاورهم، فقالوا: نعم هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر رضي الله عنه، وحق عنده: أمر به، فأعلم ببناء ربضه تحت المقام، ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم.

جد الأزرقي، وداود، وابن جريج، وكثير بن كثير: ثقات، لكن له عدة علل:

الأولى: حال الأزرقي كما مر.

الثانية: أن ابن جريج - على إمامته- مشهور بالتدليس ولم يصرح هنا بالسماع من كثير بن كثير.

الثالثة: أنه قد صح عن ابن جريج قوله: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا.. فذكر ما سيأتي في القول الثالث، على وجه يشعر باعتماده له.

الرابعة: أن كثير بن المطلب مجهول الحال. ولا يخرجه عن ذلك ذكر ابن حبان له في الثقات على قاعدته التي لا يوافقه عليها الجمهور.

وقد روى ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا فذكر ابن عيينة أنه سأل كثير بن كثير عنه؟ فقال ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي.

وروى غير ابن عيينة عن ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا قريبًا من الأول، ولعله هو. راجع المسند ج6 - ص399 فإن كان حديثًا واحدًا فليس لكثير بن المطلب في الكتب الستة والمسند شيء.

نعم، أخرج ابن حبان في صحيحه الحديث الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن كثير بن كثير. وفيه ما يقتضي أنه حديث آخر، لكن الوليد شامي، ورواية أهل الشام عن زهير أنكرها الأئمة؛ لأن زهيرًا حدثهم من حفظه، فغلط وخلط.

الخامسة: أنه لما جرى ذكر المطلب في القصة ذكر بما ظاهره أن المخبر غيره فقال له المطلب بن أبي وداعة السهمي... فقال له عمر...

وهذا يريب في قوله في السند: عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن أبيه عن جده ويشعر بأن الحكاية منقطعة.

وقال الأزرقي: حدثني ابن أبي عمر، قال: حدثنا ابن عيينة، عن حبيب بن أبي الأشرس قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر رضي الله عنه الردم بأعلى مكة فاحتمل المقام من مكانه فلم يدر أين موضعه. فلما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين، قد كنت قدرته وذرعته بمقاط. وتخوفت عليه هذا؛ من الحجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه. فقال: ائت به. فجاء به ووضعه في موضعه هذا. وعمل عمر الردم عند ذلك.

قال سفيان: فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه: إن المقام كان عند سقع البيت. فأما موضعه الذي هو موضعه فوضعه الآن. وأما ما يقوله الناس: إنه كان هنالك موضعه، فلا.

قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن أبي الأشرس هذا لا أميز أحدهما عن صاحبه.

الأزرقي قد تقدم حاله.

لكن قال الفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص206: وروى الفاكهي عن عمرو ابن دينار وسفيان بن عيينة مثل ما حكاه عنهما الأزرقي بالمعنى.

أقول: ليته ساق خبر الفاكهي؛ فإن الفاكهي، وإن كان كالأزرقي في أنه لم يوثقه أحد من المتقدمين ولا ذكره، فقد أثنى عليه الفاسي في ترجمته من العقد الثمين ونزهه عن أن يكون مجروحًا. وفضل كتابه على كتاب الأزرقي تفضيلاً بالغًا، ومع هذا فالأخبار التي يتفقان في الجملة على روايتها نجد الفاسي، ومن قبله المحب الطبري يعنيان غالبًا بنقل رواية الأزرقي، ويسكتان عن رواية الفاكهي، أو يشيران إليها إشارة فقط.

وأحسب الحامل لهما على ذلك حسن سياق الأزرقي وقد قيل لشعبة رحمه الله: ما لك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سفيان، وقد كان حسن الحديث؟! قال: من حسنها فررت.

ويريبني من الأزرقي حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها، ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين.

ويريبني أيضًا منه تحمسه لهذا القول، فقد روي في ج2 - ص23 عن ابن أبي عمر بسند واه إلى أبي سعيد الخدري، أنه سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام. فقال: كانت الحجارة... وذكر الخبر وفيه في ذكر النبي ﷺ، فصلى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثم قدم مكة، فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة.

وقد روى الفاكهي هذا الخبر كما ذكره الفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص206 ولم يسق الفاسي سنده ولا متنه بتمامه، إنما ذكر قطعة منه هي بلفظها في رواية الأزرقي.

ثم قال: وفيه: إن النبي ﷺ قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام، وهو ملصق بالبيت، حتى توفي رسول الله ﷺ.

أسقط الأزرقي في روايته قوله: وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ، وجعل موضعها: ما كان بمكة.

وقال في ج2 - ص27: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن صفوان. قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابدي - وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع - بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. قال: فحوله. ثم صلى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال عبد الله بن السائب: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي، قال: فلما قضى صلاته قال عمر: أحسنت. فكنت أول من صلى خلف المقام حين حُول إلى موضعه. عبد الله بن السائب القائل.

ولم ترق الأزرقي كلمة حُول، فعقبه بقوله: حدثني جدي، قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن السائب - وكان يصلي بأهل مكة- فقال: أنا أول من صلى خلف المقام حين رد في موضعه هذا...

هذا وأما بقية السند بعد الأزرقي: فشيخه ابن أبي عمر سيأتي، وسفيان بن عيينة إمام، وحبيب بن أبي الأشرس ضعيف. راجع ترجمته في الميزان و لسانه. وعمرو بن دينار ثقة جليل. لكن لا يُدرى ما قال. نعم، يستفاد إجمالاً أنه قد ذكر ما تعلق بالتقدير.

فأما ما ذكر في هذه الرواية من رأي ابن عيينة فقد ثبت ما يناقضه برواية ابن أبي حاتم الرازي - وهو إمام- عن أبيه - وهو من كبار الأئمة المثبتين- عن ابن أبي عمر شيخ الأزرقي، عن ابن عيينة نفسه، وسيأتي.

وأبو حاتم هو القائل في ابن أبي عمر هذا؛ شيخه وشيخ للأزرقي: كان شيخًا صالحًا، وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا حدث به عن ابن عيينة وكان صدوقًا.

أقول: ابن أبي عمر ثقة فيما يرويه عنه أبو حاتم ومسلم ونحوهما من المثبتين؛ لأنهم يحتاطون وينظرون في أصوله، وإنما تخشى غفلته فيما يرويه عنه من دونهم، ولاسيما أمثال الأزرقي.

القول الثاني:

قال بعضهم: كان المقام لاصقًا بالكعبة في عهد النبي ﷺ، حتى أخّره هو ﷺ إلى موضعه الآن.

ذكر ابن كثير: أن ابن مردويه روى بسنده إلى شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام؛ فأنزل الله ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله ﷺ إلى هذا.

أشار ابن كثير إلى ضعفه.

وقال ابن حجر في الفتح ج 8 - ص29 أخرج ابن مردويه بسند ضعيف فذكره.

أقول: شريك من النبلاء إلا أنه يخطئ كثيرًا ويدلس، وإبراهيم بن مهاجر صدوق كثير الخطأ يحدث بما لا يحفظ فيغلط.

وقد صح عن مجاهد أن عمر هو الذي حول المقام كما سيأتي.

وفي شفاء الغرام ج1 - ص206 ذكر موسى بن عقبة في مغازيه... قال موسى بن عقبة: وكان - زعموا- أن المقام لاصق بالكعبة، فأخره رسول الله ﷺ في مكانه هذا.

موسى بن عقبة ثقة أدرك بعض الصحابة، لكن ذكروا أنه تتبع المغازي بعد كبر سنه، فربما يسمع ممن هو دونه، وقد قال: زعموا.

القول الثالث:

قال آخرون: كان المقام في عهد النبي ﷺ وبعده لاصقًا بالكعبة حتى حوله عمر رضي الله عنه.

قال ابن كثير: قال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقال ابن حجر في الفتح ج 8 - ص129: كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت، إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا.

ونقل الفاسي عن كتاب الأوائل لأبي عروبة - أراه الحراني حافظ ثقة- عن سلمة - أراه ابن شبيب ثقة - عن عبد الرزاق- فذكر السندين اللذين ذكرهما ابن كثير وقال في متن الأول: إن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام، فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبل الكعبة.

وقال في الثاني عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه.

قال الفاسي: انتهى باختصار قصة رد عمر للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطلب بن أبي وداعة السهمي في موضعه الذي حرره المطلب. فلا أدري أخبر آخر هذا عن مجاهد، أم هو ذاك الخبر اختصره عبد الرزاق في مصنفه وحدث به سلمة من حفظه، أم ماذا؟

وعلى كل حال فالذي نقله ابن كثير وابن حجر عن مصنف عبد الرزاق ثابت. فيتعين حمل هذه الرواية على ما لا يخالفه.

وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: من له علم بموضع المقام حيث كان؟ فقال أبو وداعة بن هبيرة السهمي: عندي يا أمير المؤمنين، قدرته إلى الباب، وقدرته إلى ركن الحجر، وقدرته إلى الركن الأسود، وقدرته إلى زمزم. فقال عمر: هاته. فأخذه عمر فرده إلى موضعه اليوم للمقدار الذي جاء به أبو وداعة.

لا أدري ما سنده.

وبقية الروايات في هذا تذكر المطلب بن أبي وداعة لا أبا وداعة نفسه.

وقال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: أخبرنا ابن أبي عمر العدني، قال: قال سفيان -يعني ابن عيينة- وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله ﷺ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي ﷺ، وبعد نزول قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.

وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله.

قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا؟

وقال ابن حجر في الفتح ج8 - ص129: أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة قال: كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله ﷺ فحوله عمر فجاء سيل فذهب به، فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا؟

هذا بغاية من الصحة عن سفيان بن عيينة، كما تقدم أواخر الكلام على القول الأول.

تمحيص هذه الأقوال:

قد ينتصر للأول بأن عمر رضي الله عنه، لم يكن ليخالف النبي ﷺ.

وما معنى تقدير المطلب وتحري عمر؟

فالظاهر أن المقام لم يزل بموضعه اليوم، فقدره المطلب منه فذهب به السيل وطمس موضعه فجعل بجنب الكعبة حتى يقدم عمر. فقدم وتحرى وردّه حيث كان.

وكأن هذه القضية بلغت بعض الناس مجملة - أنه كان بجنب الكعبة وأن عمر نقله إلى موضعه اليوم- فتوهموا أنه كان بجنب الكعبة منذ قديم، فراحوا يخبرون بذلك.

وينتصر للثاني بأن أولئك الأئمة لم يكونوا ليتوهموا بدون أصل، فلعل النبي ﷺ حول المقام أخيرًا، ولم يبلغهم ذلك. وثبت عندهم أنه قد كان في عهد النبي ﷺ بجنب الكعبة فاستصحبوا ذلك، والباقي كما مر.

وينتصر للثالث بأنه قد يقع من عمر رضي الله عنه ما هو في الصورة مخالفة، وهو في الحقيقة موافقة، بالنظر إلى مقاصد الشرع، واختلاف الأحوال. وقد يخفى علينا وجه ذلك، ولكنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لا يجمعون إلا على حق.

وتقدير المطلب، وتحري عمر - إن صح - فقد يخفى علينا سببه. وإذا كان محتملاً، فليس لنا أن نجعل جهلنا به حجة على توهيم أولئك الأئمة، وهم هم. ومنهم: عطاء وقدمه وفضل علمه بالمناسك، ومجاهد وقدمه وفضل علمه بالتفسير، ومالك، وابن عيينة وهما هما.

ولم تكن قضية المطلب لتخفى على أئمة مكة - عطاء، ومجاهد، وابن عيينة- بل قد ذكرها الأخيران فيما روي عنهما، والمخالف لهؤلاء ليس مثلهم، ولا قريبًا منهم فهو أحق بالوهم.

أقول: قد أغنانا الله - وله الحمد- عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمن لا يمكن أن يظن به التوهم.

أخرج البيهقي من طريق أبي ثابت - وهو محمد بن عبيد الله المدني ثقة من شيوخ البخاري في صحيحه - عن الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن المقام كان زمان رسول الله ﷺ، وزمان أبي بكر رضي الله عنه، ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر رضي الله عنه.

ذكره ابن كثير في تفسيره بسند البيهقي، ورجاله ثقات.

وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح.

وذكره ابن حجر في الفتح. وقال: بسند قوي.

وذكر الفاسي في شفاء الغرام، أن الفاكهي روى عن يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ قال عبد العزيز: أراه عن عائشة، أن المقام كان في زمن النبي ﷺ إلى سقع البيت.

يعقوب بن حميد متكلم فيه، ووثقه بعضهم والاعتماد على حديث أبي ثابت.

وقال البخاري في صحيحه في أبواب القبلة: باب قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن رجل طاف بالبيت للعمرة ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي ﷺ فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة. الحديث.

ثم حديث ابن عمر وحديث ابن عباس رضي الله عنهم في دخول النبي ﷺ الكعبة.

وفي الأول: ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين.

وفي الثاني: فلما خرج ركع ركعتين في قُبل الكعبة وقال: «هذه القبلة».

والقدوم الذي ذكره ابن عمر في حديثه الأول: كان في عمرة؛ لأن ابن عمر أجاب به السائل عن العمرة، وأراها عمرة القضاء.

وفي المسند ج4 - ص355 من حديث ابن أبي أوفى: اعتمر النبي ﷺ فطاف بالبيت وطفنا معه، وصلى خلف المقام وصلينا معه.

وسنده بغاية الصحة.

وقد أخرجه البخاري مختصرًا في باب عمرة القضاء من المغازي.

وذكر ابن حجر هناك من صرح فيه بقوله: في عمرة القضاء، وسياقه واضح في ذلك.

ولفظ: وجه الكعبة ورد في عدة أخبار تقدمت.

وفي القرى ص315 عن ابن عمر: البيت كله قبلة، قبلته وجهه. نسبه إلى سعيد بن منصور.

والمراد في تلك الأخبار - كما يقضي به سياقها- تارة جدارها المقابل لموضع المقام الآن، وتارة ما بجانب هذا الجدار من المطاف.

والأخبار التي أطلقته على هذا تبين أنه ليس منه موضع المقام الآن، بل هو الموضع الذي كان فيه المقام قبل أن يحوله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الآن.

ولفظ: قُبل الكعبة. في حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو أيضًا ذاك الموضع.

وابن عباس إنما سمع هذا الحديث من أسامة، رضي الله عنه، كما بينه ابن حجر في الفتح، وراويه عن ابن عباس عطاء، يرويه عطاء تارة عن ابن عباس عن أسامة، وتارة عن أسامة نفسه.

وقد تقدم قول عطاء: إن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبل الكعبة.

بل ثبت في حديث عطاء عن أسامة - عند النسائي بسند رجاله ثقات-... ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين وقال: «هذه القبلة».

ويؤيد ذلك ما في السيرة عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله ﷺ لما نزل مكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها.

محمد بن جعفر وعبيد الله من رجال الصحيح، وابن إسحاق حسن الحديث.

فهذا الخبر يدل على أن صلاته ﷺ، بعد خروجه كانت ركعتي الطواف، ومن سنته ﷺ أن يصليهما خلف المقام.

فأما صلاته في الكعبة - على القول بها- فهي تحيتها.

ثبت بما تقدم أن صلاته ﷺ عقب خروجه من الكعبة كانت خلف المقام، وأن المقام حينئذ كان عند جدار الكعبة.

لما دخل النبي ﷺ الكعبة كان ابن عمر غائبًا فبلغه ذلك، فأقبل يركب أعناق الرجال المسند ج6 - ص13 فجاء وقد خرج النبي ﷺ، وبلال في الكعبة لما يخرج، فكان هم ابن عمر أن يزاحم ليسأل بلالاً: ماذا صنع النبي ﷺ في الكعبة؟

وفي تلك الأثناء صلى النبي - صلوات الله وسلامه عليه- خارج الكعبة.

فكأن ابن عمر اشتغل بالمزاحمة والمسائلة، فلم يحقق أإلى المقام صلى النبي ﷺ، أم عن يساره أم عن يمينه؟ فاقتصر على قوله: في وجه الكعبة.

فأما ما في أكثر روايات حديث أسامة رضي الله عنه: في قبل الكعبة. فيظهر أن ذلك مراعاة لقوله عقب ذلك وقال: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ».

خشي أن يتوهم أن الإشارة إلى المقام، مع قول الله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فعدل إلى قوله: في قبل الكعبة. ليعلم أن الإشارة إليها، أو إلى ذلك الموضع منها، كما يأتي.

في صحيح مسلم عن جابر- في حجة الوداع، بعد ذكر الطواف-: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم... فجعل المقام بينه وبين القبلة.

هكذا في عدة نسخ من الصحيح وكتب أخرى، وذكره الطبري في القرى ص310 بلفظ: ثم تقدم. وكذا نقله الفاسي عنه.

وزعم الطبري: أنه يشعر بأن المقام لم يكن حينئذ ملصقًا بالكعبة ولم يصنع شيئًا.

أما كلمة تقدم - إن صحت- فدلالتها على الملاصقة أقرب؛ لأنه كان في الطواف، فأنهاه عند الركن، فإذا واصل مشيه بعد ذلك إلى يمنة الباب، فهذا تقدم، ولو كان المقام حينئذ في موضعه الآن لكان المشي إليه مشيًا عن الكعبة، فكان حقه أن يقال: تأخر.

وأما قوله: فجعل المقام بينه وبين الكعبة. فلا يخفى أن المصلى إذا كان بلصق الكعبة، إما أن يكون عن يمينه أو يساره، أو خلفه. فإذا كان خلفه فقد جعله بينه وبين الكعبة.

فقد ثبت بما تقدم - لا سيما حديث عائشة رضي الله عنها- صحة القول الثالث الذي عليه أئمة مكة؛ عطاء ومجاهد، وابن عيينة، مع أن الإنصاف يقضي بأن قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجة في مثل هذا المطلب والله أعلم.

* * *

الفصل الخامس: لماذا حول عمر رضي الله عنه المقام؟

قد تقدم أول الرسالة ما تقدم.

علم عمر رضي الله عنه أن أئمة المسلمين مأمورون بتهيئة ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلين، ليتمكنوا من أداء عبادتهم على الوجه المطلوب بدون خلل ولا حرج.

وعلم أن هذه التهيئة تختلف باختلاف عدد هؤلاء.

وعلم أنهم قد كثروا في عهده، وينتظر أن يزدادوا كثرة، فلم تبق التهيئة التي كانت كافية قبل ذلك كافية في عهده.

ورأى أن عليه أن يجعلها كافية، فإن كان ذلك لا يتم إلا بتغيير يتم به المقصود الشرعي، ولا يفوت به مقصود شرعي آخر، فقد علم أن الشريعة تقتضي مثل هذا التغيير فليس ذلك بمخالفة للنبي ﷺ، بل هو عين الموافقة وشواهد هذا كثيرة، وأمثلته من عمل عمر رضي الله عنه وغيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم معروفة، فهذه حجة بينة لعمر رضي الله عنه.

هذه الحجة لا تبيح له من التغيير إلا ما لا بد منه.

وللمقام حقوق:

الأول: القرب من الكعبة.

الثاني: البقاء في المسجد الذي حولها[180].

الثالث: البقاء على سمت الموضع الذي هو عليه.

فقد تقدم في حديث ابن عباس وأسامة رضي الله عنهم قول النبي ﷺ - بعد صلاته إلى المقام-: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ».

قال ابن حجر في الفتح: الإشارة إلى الكعبة... أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي هذا موقف الإمام...

وفي المسند ج5 - ص209 حديث أسامة: ثم خرج فأقبل على القبلة، وهو على الباب، فقال: «هذه القبلة هذه القبلة». مرتين أو ثلاثًا.

فقد يجمع بين الروايتين بأنه قال هذه الكلمة: «هذه القبلة» عند خروجه، ثم قالها عقب صلاته.

فتكون الأولى إشارة إلى الكعبة، والثانية: إشارة إلى موقف الإمام.

وهذا الثاني محمول على الندب كما في الفتح، وهو ظاهر.

وجرى العمل على اختيار وقوف الإمام على ذاك السمت؛ إما خلف المقام، وإما أمامه.

وبعد كثرة الناس وتضايق ما خلف المقام بقي العمل على اختيار وقوف الإمام قدام المقام.

وفي المسند ج7 - ص14 في ذكر موضع صلاة النبي ﷺ في الكعبة: وجعل المقام خلف ظهره.

وذكر المحب الطبري في القرى ص312 وما بعدها والفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص219 أخبارًا وآثارًا تتعلق بذاك الموضع.

منها: من سنن سعيد بن منصور عن ابن عباس أنه قال وهو قاعد قبالة البيت والمقام: البيت كله قبلة، وهذه قبلته.

وقد تقدم في الفصلين الثاني والثالث ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام انتهى إلى ذلك الموضع في قيامه على المقام لبناء البيت. وقام عليه وهو فيه للأذان بالحج.

فالبيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام قبلة، والجانب الذي كان القيام فيه - وهو ما بين الحِجر والحَجر- خاص في ذلك.

والموضع الذي كان القيام عنده أخص.

وشرعت الصلاة إلى المقام؛ لأن عليه كان القيام.

فارتباطه بذاك الموضع من جدار الكعبة واضح، وتعلق الصلاة بأن تكون إلى القبلة أبلغ، وأهم من تعلقها بأن تكون قرب القبلة.

التغيير الذي لا بد منه يقتصر على التخفيف، من الحق الأول للمقام، وهو القرب من الكعبة، ولعله أخف حقوقه، وبذلك عمل عمر؛ أخر المقام بقدر الحاجة محافظًا على الحقين الأخيرين؛ بقاء المقام في المسجد على السمت الخاص.

تقدم في قول ابن عيينة الثابت عنه: فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي ﷺ، وبعد قولة تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125].

لماذا زاد ابن عيينة وبعد قوله تعالى... مع أن ذلك معلوم قطعًا مما قبله؟

لا يبعد أن يكون ابن عيينة أومأ إلى سبب تأخير عمر للمقام؛ لأن الآية أمرت بالصلاة خلفه، وبقاؤه بجانب الكعبة - والناس بين مصل خلفه وطائف- يلزمه عند كثرة الناس أن يقع الخلل والحرج في العبادتين كما مر.

وأخرج الفاكهي - بسند ضعيف- عن سعيد بن جبير: كان المقام في وجه الكعبة... فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطؤوه بأقدامهم، فأخره إلى موضعه الذي هو به اليوم، حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة. نقله الفاسي في شفاء الغرام ج1 - ص207 بسنده.

وقال الفاسي: ذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري في كتابه دلائل القبلة... وهناك - بجنب الكعبة- كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلى النبي ﷺ عنده حين فرغ من طوافه ركعتين... ثم نقله ﷺ إلى الموضع الذي هو فيه الآن؛ لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف حين كثر الناس. وليدور الصف حول الكعبة ويروا الإمام من كل وجه.

وذكر ابن فضل العمري في مسالك الأبصار ج1 - ص103 مثل هذا الكلام.

والمقصود منه ذكر العلة، وإنما كثر الناس في عهد عمر.

وقوله: وليدور الصف... مبني على ما كان عليه العمل من وقوف الإمام خلف المقام.

وقال ابن حجر في الفتح ج8 - ص119 في الكلام على قول البخاري في تفسير سورة البقرة باب ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى بعد تثبيت تحويل عمر رضي الله عنه للمقام: ولم تنكر الصحابة فعل عمر، ولا من بعدهم، فصار إجماعًا، وكأن عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى.

[وأول من عمل عليه المقصورة الآن][181].

قوله: فصار إجماعًا. قد عرفت مستنده.

وكل من المستند والإجماع يدل على أنه إذا وجد مثل ذلك المقتضي اقتضى فعل مثل ما فعل عمر رضي الله عنه.

وقوله: وتهيأ له ذلك... لعل الإشارة إلى عدم الإنكار، أي أنه قد يكون في الصحابة ومن بعدهم من يخفى عليه المقتضي. ولكن منعه من الإنكار علمه بأن عمر رضي الله عنه - مع مكانته في العلم والدين- هو الذي أشار باتخاذ المقام مصلى، فله فضل علم بالمقام وحكمه فهذا قريب.

فأما ما يتوهم أن مشورة عمر تعطيه دون غيره حقًّا بأن يغير بدون حجة، أو بحجة غير تامة فهذا باطل قطعًا.

وحجة عمر رضي الله عنه بحمد الله تعالى تامة عامة.

* * *

[180] ما يزيد على المسجد القديم فله حكمه، كما يصح فيه الطواف وغير ذلك. [181] هذه العبارة التي بين المعقوفين وقعت في نسخة الفتح المطبوعة متصلة بما قبلها كأنها تتمة له. وإنما هي ابتداء كلام لا أشك أن ابن حجر ترك بعدها بياضًا. لأنه لم يعرف من أول من عمل المقصورة. وإنما عملت بعد عمر بنحو ستمائة سنة. راجع شفاء الغرام وغيره.

الفصل السادس: متى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟

ولماذا قدره المطلب، واحتاج عمر إلى تقديره؟

لم أقف على ما يعلم به تاريخ التحويل.

غير أنه قد يظن بأنه حوله عند زيادته في المسجد الحرام؛ لأن السبب واحد وهو كثرة الناس؛ ولأن تأخير المقام يستدعي توسعة المسجد خلفه.

وقد زعم الواقدي - كما حكاه ابن جرير في تاريخه - أن الزيادة كانت سنة سبع عشرة، وأن عمر رضي الله عنه اعتمر في رجب، ومكث بمكة عشرين يومًا لأجل الزيادة وغيرها، وحال الواقدي معروفة.

وفي خبر الأزرقي المتقدم في الفصل الرابع: أنه لما ذهب السيل بالمقام أرسلوا إلى عمر فجاء مسرعًا وقدم بعمرة في رمضان.

ورأيت بعضهم ذكر أن ذلك كان سنة سبع عشرة والعلم عند الله تعالى.

ومر في خبر الأزرقي: كانت السيول تدخل المسجد الحرام ربما رفعت المقام من موضعه، وربما نَحَّتْه إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فعلى فرض صحة هذا يلزم أن يكون التحويل قبل مدة أقلها ثلاث سنين أو نحوها.

وقد تقدم النظر في حال هذا الخبر.

وأما ما تقدم عن مجاهد: كان المقام إلى جنب البيت وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه. ثم ذكر قصة عمر والمطلب - ولم يسق الفاسي لفظها كما تقدم - فالجميع بين هذا وبين ما صح عن مجاهد، ونقله ابن كثير وابن حجر عن مصنف عبد الرزاق، وبقية الأدلة وطرق القصة: أن المقام كان إلى جنب البيت، فأخره عمر فخافوا عليه من السيول، فقدره المطلب.

وهذا هو المفهوم من رواية أبي حاتم عن ابن أبي عمر عن ابن عيينة.

والذي يظهر أن المقام لما كان بجنب الكعبة أولاً كان بمأمن من السيل، إما لأنه كان قد نشب في الأرض، إذ لم تكن مبلطة، وإما لغير ذلك. فلما حوله عمر رضي الله عنه رأى المطلب أنه أصبح عرضة للسيل.

قد تقدم في الفصل السابق بيان ارتباطه بالسمت الخاص الذي كان عليه وهو عند الكعبة، وأبقي عليه عند تحويله.

وتقدم بيان مزية ذاك السمت وسببه وهو يقتضي أن يكون قدر ذاك السمت موقف رجل واحد، وهو مقدار طول المقام.

فكأن المقام مع مزيته علامة محددة لذاك السمت. علم المطلب هذا، أو رأى احتياط عمر رضي الله عنه عند تحويله المقام للمحافظة على السمت. ورأى أن المقام لما كان عند البيت كان السمت معلومًا على التحديد بالمقام نفسه.

وكذلك لما حول المقام على السمت بقي السمت معلومًا على التحديد بالمقام نفسه، لكن إذا جرف السيل المقام وعفى موضعه ولم يكن هناك تقدير محفوظ، أشكل تحديد السمت، وكثرت رؤية الناس للمقام في الموضعين لا تضمن معرفة التحديد يقينًا.

واعتبر ذلك إن شئت في منزلك، اعمد إلى صندوق مثلاً باق منذ مدة في موضع واحد إلى جنب جدار مع خلو ما عن يمينه ويساره، قد شاهده عيالك مراتٍ لا تحصى فقدر في غيبتهم موضعه بخيط مثلاً. ثم حوله إلى موضع آخر غير مسامت للأول، واكنس موضعه ثم ادعهم واطلب منهم تحديد موضعه الأول، وانظر النتيجة.

من الجائز أن يكون قد اتفق لبعضهم الانتباه لعلامة خاصة تبقي في الأرض أو الجدار، لكن هذا احتمال فقط.

لهذا - والله أعلم- قدر المطلب موضع المقام.

ولهذا سأل عمر رضي الله عنه الناس وأخذ بتقدير المطلب.

هذا ما ظهر لي في توجيه ما اتفقت عليه روايات قصة المطلب على وجه يوافق حديث عائشة رضي الله عنها وقول أئمة مكة، مع بعد أن يكون النبي ﷺ هو الذي حوله ولم ينقل ذلك، ولا عرفه أئمة مكة.

على أنه لو ترجح أن النبي ﷺ هو الذي حوله لكانت الحجة لاختيار تأخيره الآن بحالها، بل أقوى.

فأما القول بأن موضعه الآن هو موضعه الأصلي: فهو من الضعف بحيث لا يحتاج إلى فرض صحته وما يتبع ذلك، والله أعلم.

المعارضة الثانية:

قد يقال: ثبت عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال لها: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ –لما بَنَوْا الْكَعْبَةَ- اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» قالت: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قال: « لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ»». لفظ البخاري.

وفي رواية له: «وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافَ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ...».

وتأخير المقام عن موضعه مما تنكره قلوب الناس فينبغي اجتنابه.

والجواب من أوجه:

الأول: أن بقاء الكعبة على بناء قريش لم يترتب عليه - فيما يتعلق بالعبادات- خلل ولا حرج، ولذلك لم يأمر رسول الله ﷺ كبار أصحابه ببنائها حين يبعد العهد بالجاهلية، وإنما أخبر عائشة رضي الله عنها لأنها رغبت في دخول الكعبة، فأرشدها إلى أن تصلي في الحِجر، وبين لها أن بعضه -أو كله- من الكعبة، قصرت قريش دونه.

ولا أرى عائشة رضي الله عنها كانت ترى إعادة بنائها على القواعد أمرًا ذا بال فإنه لم ينقل: أنها أرسلت إلى عمر أو عثمان رضي الله عنهم تخبرهم بما سمعت.

وفي صحيح مسلم عنها، أنه ﷺ قال لها: «فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوها بَعْدِي فَهَلُمِّي لأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ» أي من الحِجر.

وصرح بعض أهل العلم بأن إعادة بنائها على القواعد كان هو الأولى فقط.

وترجم البخاري في كتاب العلم لهذا الحديث: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه.

وإبقاء المقام في موضعه - بعد كثرة الناس هذه الكثرة التي عرفناها وينتظر ازديادها- يترتب عليه الخلل والحرج كما تقدم.

الوجه الثاني: أن الإنكار الذي خشيه رسول الله ﷺ مفسدة عظيمة، إذ هو إنكار قلوب بعض من دخل في الإسلام، ولما يؤمن قلبه.

وإنكار هؤلاء هو - والله أعلم- ارتيابهم في صدق قوله إذا قال ﷺ لهم: «إن البناء الموجود يومئذ ليس على قواعد إبراهيم».

يقولون: لا نعرف قواعد إبراهيم إلا ما عليه البناء الآن ولم يكن أسلافنا ليغيروا بناء إبراهيم، فيؤدي ذلك إلى تمكن الكفر في قلوبهم.

ولهذا - والله أعلم- لم يعلن النبي ﷺ القول، إنما أخبر به أم المؤمنين.

وإلى هذا - والله أعلم- تشير ترجمة البخاري في كتاب العلم كما مر آنفًا.

فأما تفسير بعض الشراح إنكار قلوبهم بأن ينسبوه إلى الفخر دونهم، فلا يخفى ضعفه، وأي مفسدة في هذا؟ وقد كان ميسورًا أن يشركهم في البناء، أو يكله إليهم ويدع الفخر لهم.

والحامل لهذا القائل على ما قاله: ظنه أن المراد بقومها الذين قصروا هم الذين بنوه البناء الأخير الذي حضره النبي ﷺ، وكان قبل البعثة بخمس سنين، فيما قيل، فرأى ذاك القائل أنه لا مجال للارتياب في صدق القول؛ لأن العهد قريب وأكثرهم شاهدوا ذلك.

والظاهر أن التقصير كان قديمًا، وقد ورد أن قريشًا بنت الكعبة في عهد قصي، فلعل التقصير وقع حينئذ وإنما بنوها أخيرًا على ما كانت عليه من عهد قصي، وجهل التقصير لطول المدة.

والمقصود أن الإنكار الذي خشيه رسول الله ﷺ مفسدة عظيمة لا يقاربها إنكار بعض الناس تأخير المقام، والعالم تُعْرَض عليه الحجة فيزول إنكاره والجاهل تبع له.

وقد جرت العادة بأن الناس يستنكرون خلاف ما ألفوه ولكنه إذا عُمل به وظهرت مصلحته انقلب الإنكار رضًا وشكرًا.

الوجه الثالث: أن المقام نفسه أخر في صدر الإسلام عن موضعه الأصلي بجنب الكعبة للعلة الداعية إلى تأخيره الآن نفسها. وكان من المحتمل قبل تأخيره أن تنكره قلوب بعض الناس، فلم يلتفت إلى ذلك.

المعارضة الثالثة:

قد يقال: استقر المقام في هذا الموضع قرابة أربعة عشر قرنًا، ولا شك أن الحجاج كثروا في بعض السنين، وازدحموا في المطاف، ولم يخطر ببال أحد تأخير المقام وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمر فيه، إن لم يكن على وجه الوجوب فعلى وجه الاستحباب؛ لأن تأخيره لو كان جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، مع وجود الكثرة والزحام في كثير من الأعوام.

أقول: قد تقدم بيان العلة التي اقتضت تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام من موضعه الأصلي، وهي أن الطائفين والمصلين خلف المقام كثروا في عهدهم، وكان ينتظر أن يستمر ذلك ويزدادوا في مستقبلهم إلى ما شاء الله ورأوا أن بقاء المقام بجنب البيت يؤدي مع تلك الكثرة إلى دخول الخلل والحرج على الفريقين والعبادتين، ويستمر ذلك إلى ما شاء الله، وذلك مخالف للتهيئة المأمور بها.

وأرى هذه العلة متحققة الآن على وجه لم يتحقق منذ تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام إلى هذا العهد الأغر.

ويمكن استثبات هذا بسؤال الخبراء بالتاريخ.

فإذا ثبت هذا، فإعراض من بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرة ثانية محمول على أنه لعدم تحقق العلة.

وكما أن إعراض النبي ﷺ عن تأخير المقام لما تبين أنه لعدم تحقق العلة في عهده: لم يمنع الصحابة من تأخيره عند تحقق العلة من بعده، فهكذا هذا. ولا يختلف الحال بقصر المدة وطولها.

على أنه لو فرض أن هذه العلة تحققت بتمامها فيما بين عصر الصحابة وعصرنا، ففي أي عصر؟

وهل استكملت - بالسكوت حينئذ- شرائع الإجماع؟

وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في تحفته أن الحاكم النيسابوري - وهو من أكابر القرن الرابع ولد سنة 321- قال عند ذكر الحديث في النهي عن الكتابة على القبور: ليس العمل عليه، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. فرده ابن حجر وقال: ويرد بمنع هذه الكلية، وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر السبلة، كما هو مشاهد، لا سيما بالحرمين ومصر، وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي. قال: قلت: هو إجماع فعلي وهو حجة كما صرحوا به. قلت: ممنوع، بل هو أكثري فقط، إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحل حجيته -كما هو ظاهر- إنما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطل ذلك منذ أزمنة.

ويقول ابن حجر الهيتمي: هذا في الكتابة والبناء على القبور، وذلك شائع ذائع، لا يخفى على عالم، وكذلك النهي عنه.

فأما تحقق العلة حول الكعبة: فإن فرض وقوعه فيما مضى فلم يعلم به من علماء ذاك العصر إلا القليل. ومن الممتنع أن يقوم إجماع صحيح يمنع من العمل بما يأمر به القرآن، أو مما أجمع على مثله أصحاب رسول الله ﷺ.

* * *

تلخيص وتوضيح

يتلخص مما تقدم أن الآيتين اللتين صدرتُ بهما الرسالة وغيرهما من الأدلة تأمر بتهيئة ما حول البيت للطائفين - مبدوءًا بهم- وللعاكفين والمصلين، وأن المقصود من التهيئة لهذه الفرق تمكينها من أداء تلك العبادات على وجهها بدون خلل ولا حرج.

إن هذه التهيئة تختلف باختلاف قلة تلك الفرق وكثرتها.

ففي يوم الفتح كان المهم إزالة الشرك وآثاره، وفي حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان الناس قليلاً يكفيهم المسجد القديم ولا يؤدي بقاء المقام في موضعه الأصلي بلصق الكعبة وصلاة من يصلي خلفه، إلى تضييق على الطائفين ولا خلل في العبادتين.

وفي حجة النبي ﷺ كثر الحاجون لأجل الحج معه ﷺ، ولم يكن ينتظر أن تستمر تلك الكثرة في السنين التي تلي ذلك، وكان تأخير المقام حينئذ يستدعي توسعة المسجد ليتسع ما خلف المقام للعاكفين والمصلين، وكانت بيوت قريش ملاصقة للمسجد، وتوسعته تقتضي هدم بيوتهم، وعهدهم بالشرك قريب، وتنفيرهم حينئذ يخشى منه مفسدة عظمى لدنو وفاة النبي ﷺ، فلذلك لم يوسع النبي ﷺ المسجد، وخيم هو وأصحابه بالأبطح وكان يصلي هناك.

فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه، كثر الناس كثرة يتوقع استمرارها في السنين المقبلة، وتمكن الإسلام من صدور الناس، ولم يبق خشية من نفرة من عساه أن ينفر ممن يهدم بيته، فهدم عمر ما احتاج إلى هدمه من بيوتهم ووسع المسجد بقدر الحاجة حينئذ، وأخر المقام وزاد من بعده في توسعة المسجد ليخلو المسجد القديم للطائفين.

ثم لا نعلم كثرة الحجاج والعمار بعد ذلك بقدر ما كثروا في هذه السنين، والنظر ينفي ذلك، كما تقدم في أول الرسالة.

وكانوا إذا كثروا في سنة لم ينتظر أن تستمر مثل تلك الكثرة فيما يليها من السنين.

وكان المقام في القرون الأولى بارزًا، لم يكن عليه بناء، ولا بالقرب منه بناء.

فكان من السهل على الطائفين عند الكثرة أن يطوفوا من ورائه، ويكف غيرهم في ذاك الوقت عن الصلاة خلفه، إذ كان يغلب على الناس معرفة أن إيذاء الطائف والمصلي خلف المقام لغيره حرام، وأن المندوب والمستحب إذا لزم من فعله مكروه ذهب أجره، فكيف إذا لزم منه الحرام؟ وأن من ترك المندوب اجتنابًا للمكروه أو الحرام ثبت له أجر ذلك المندوب أو أعظم منه.

وما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما من المزاحمة على استلام الحجر الأسود، إنما معناه: أنه كان يحتمل إيذاء الناس له، إن آذاه أحد منهم ولا يؤذيهم هو، بل كان ينتظر حتى يجد فرجة فيتقدم إليها فيزاحمه الناس من خلفه، فيصبر حتى يجد فرجة أخرى فيتقدم، وهكذا كان جمهور الصحابة وأفاضل التابعين يتجنبون المزاحمة.

إن الحجاج والعمار قد كثروا في عصرنا كثرة لا عهد بها، وينتظر استمرارها وازديادها عامًا فعامًا، وأصبح المطاف يضيق بالطائفين في موسم الحج ضيقًا شديدًا، يؤدي إلى الحرج والخلل، كما أشرت إليه أول الرسالة ولا تتم التهيئة المأمور بها إلا بتأخير المقام، كما تقدم بيانه أيضًا.

فصارت الحال أشد مما كانت عليه حين أخر عمر رضي الله عنه المقام.

إن الحكم المتعلق بالمقام - وهو اتخاذه مصلى، أي يصلى إليه - لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة، وقام عليه فيه للأذان بالحج، ونزلت الآية ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125]، وهو فيه، وصلى إليه النبي ﷺ مرارًا، تلا في بعضها الآية، وهو فيه.

فلما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تأخيره، وانتقال الحكم - وهو الصلاة إليه- ثبت قطعًا أن الحكم يتعلق به، لا بالموضع، إلا أنه يراعى ما راعوه من بقائه على السمت الخاص في المسجد، قريبًا من الكعبة القرب الذي لا يؤدي إلى ضيق ما أمامه على الطائفين.

إننا نقطع بأن تأخير الصحابة للمقام كان عملاً بكتاب الله تعالى الآمر بالتهيئة للطائفين أولاً، وللعاكفين والمصلين بعدهم، واتباعًا لسنة رسول الله ﷺ حق الاتباع بالنظر إلى المقصود الشرعي الحقيقي، وأنه لا يخدش في ذلك أن فيه مخالفة صورية.

فكذلك إذا تحقق مثل ذاك المقتضى فالعمل بمثل عمل الصحابة - مع رعاية ما راعوه - هو عمل بكتاب الله عز وجل واتباع لسنة نبيه ﷺ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإجماع المسلمين الإجماع المتيقن ولا يخدش في ذلك أن فيه مخالفة صورية، وكما يقول أهل العلم: إن الحكم يدور مع علته.

وبعد... ففي علماء المسلمين - بحمد الله عز وجل- من هم أعلم مني وأعرف، ولا أكاد أكون - بالنسبة إليهم- طالب علم، ولاسيما سماحة المفتي الأكبر إمام العصر في العلم والتحقيق والمعرفة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مد الله تعالى في حياته، وهو المرجع الأخير في هذا الأمر وأمثاله.

وإنما كتبت ما كتبت ليعرض على سماحته، فما رآه فهو الأولى بالحق، والحقيق بالقبول.

وكما قلت في أول هذه الرسالة: ما كان فيه من صواب فمن فضل الله علي وعلى الناس، وما كان فيها من خطأ فمني، وأسأل الله التوفيق والمغفرة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين، وإمام المهتدين محمد وعلى آله أجمعين.

* * *

(7) الأمراء المسلطون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من أضاع أمره وعصاه.

أما بعد:

فإن الله سبحانه بحكمه وعدله قد نصب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم فمن أسر سريرة ألبسه الله رداءها علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. قال تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ [محمد: 29-30]. وقد قيل: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وفي البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلَا وَهِىَ الْقَلْبُ». وهذه المضغة التي عناها الرسول ﷺ لا يعني بها تلك اللحمة المركبة في الإنسان بما يسمونها القلب، وإنما يعني بها ما يشتمل عليه القلب من الإيمان واعتقاد التوحيد أو ضد ذلك من اعتقاد الكفر والإلحاد.

ومتى صلح الاعتقاد صلح العمل، أو فسد الاعتقاد فسد العمل؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه، وكان حَلْفُ النبي ﷺ: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ»[182]، ويقول: «إِنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّبِّ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ»، ولهذا قيل:
وما سمّي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
والقلب هنا هو المسمى بالعقل.

فقد يكون العقل صحيحًا وهو الذي يعقل عن الله مراده؛ أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
والعقل في معنى العقال ولفظه
فالخير يعقل والسفاه يحُله
وقد يكون العقل سقيمًا أو معدومًا أشبه عقل البهائم، وهذا العقل كثيرًا ما ينفيه القرآن عن المشركين وعن التاركين للأوامر الدينية والمرتكبين للمحرمات الشرعية، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ [الأعراف: 179]، فلم يقتصر سبحانه على جعلهم مثل الأنعام بل جعلهم أضل؛ لكونهم لم يستعملوا مواهب عقولهم فيما خلقت له من عبادة ربهم فكانوا أضل من الأنعام، لكون الأنعام خلقت بطبيعتها جاهلة. وعليه يحمل قول بعضهم عن حمار توما.
قال حمار الحكيم توما
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط
وصاحبي جاهل مركب
وحكى الله سبحانه عن أهل النار: ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١١ [الملك: 10-11]، وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44].

وقد قيل:
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ٥٨ [المائدة: 58]، فنفى الله عنهم العقل الصحيح بسخريتهم بالدين وهزؤهم بالمصلين، ثم عدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفوز والنجاح بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، والنبي ﷺ قال: «من دُعيَ إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[183].

ثم إن العلماء أخذوا من قوله ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»[184] بأن القلب بما أنه ملك الأعضاء ومسلط على الجسم في صلاحه وفساده كذلك الإمام، أي الحاكم، فإنه متى كان تقيًّا عدلاً سرت العدالة في أُمته ورعيته، ومتى كان ملحدًا سرى خُلق الإلحاد في رعيته على حد ما قيل: متى صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية. لكون الرعية مع السلطان بمثابة الأعضاء مع اللسان تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا. ولهذا صار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله الإمام العادل.

والعدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وله وضعت الموازين، وهو الآلف المألوف، المؤمن من كل مخوف به تآلفت القلوب والتأمت الشعوب وشمل الناس الصلاح، فاتصلت بهم أسباب النجاح والفلاح، وشمل الناس التناصف والتعاطف. والعدل مأخوذ من العدل والاستواء المجانب للجنف والالتواء. وحقيقته وضع الأمور في مواضعها وأخذ الأموال من حلها وصرفها في حقها. والمقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا.

فجدير بمن ملّكه الله بلاده وحكّمه على عباده أن يكون لنفسه مالكًا، وللهوى تاركًا. وللحق في حالة الرضا والغضب مؤثرًا ومظهرًا. فإذا فعل ذلك ألزم النفوس طاعته والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه. وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حَلُّ
وأحسن سيرة تبقى لوالٍ
مدى الأيام إحسان وعدل
وفي كتاب النبي ﷺ لهرقل: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ»[185] أي الأتباع. ولهذا يقول العلماء: إن أكثر ما يفسد دين الإسلام هو العلماء الضالون والأمراء المسلّطون. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إن أكثر ما يفسد الإسلام هو زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين[186]. ومن شعر عبد الله المبارك:
وهل أفسد الدّين إلا الملوك
وأحبار سوءٍ ورُهبانُها
والنبي ﷺ قال: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ»[187] ولهذا قال بعض السلف: لو أن لي دعوة مستجابة لصرفتها إلى السلطان؛ لأنه متى صلح أصلح الله به الناس، وإذا فسد فسد به الناس، وقد نجم في هذا الزمان أميران متكافئان في الطغيان وفي الجهر بالإلحاد ومحاولة إفساد عقائد العباد، أحدهما يقول: ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين. ويقول: إنه يجب على الحكام تطوير الأحكام فيجعلون الواجب ليس بواجب والحرام ليس بحرام، كما حكم بجواز فطر العمال في رمضان، ويقول فيما أثبته القرآن من تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث أنه ليس من المنطق، وأنه يجب مساواة الأنثى بالذكر، وعلى كل حال فقد عملت رسالة في الرد على هذا سميتها: حكمة التفاضل في الميراث بين الذكور والإناث وفيها من بيان حكم التشريع ما عسى أن يشفي العليل ويروي الغليل، ويهدي المستريب إلى سواء السبيل ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا [المائدة: 41].

وأما الحاكم الثاني فقد ثبت عنه قوله: إنني لا أعتد ولا أعتبر إلا بالسنة العملية أما السنة القولية فلا أعتبرها، وزعموا بأنه صلى العصر بجماعة ركعتين، فقال له بعض الحاضرين: إن العصر أربع. فقال: إن الله أمر بإقامة الصلاة وقد أقمناها ولم يذكر العدد. وزعموا بأنه يقول: إن ﴿قُلۡ في قوله: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١ [الاخلاص: 1]، و﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ١ [الناس: 1]، و ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ١ [الفلق: 1]. إنها زائدة، فينبغي أن تحذف، ويقرأ: هو الله أحد، وأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، فياليت شعري، ماذا يقول في قوله سبحانه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]، عندما يذكر الوعظ بعموم بعثته إلى كافة الناس فإنه عندما يخاطب الناس ويقول لهم: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا فإن الناس سيقولون له: كذبت. لست برسول الله، إنما ذاك محمد بن عبد الله وزعموا بأن له مؤلفًا سيخرجه للناس، مما عسى أن يتعلق بهذه الكفريات مما يدل على أنه مرجوج أهوج، يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط العشواء، كما قيل:
يسوسون الأمور بغير رأي
فينفذ أمرهم ويقال ساسة
فأفَّ من الحياة وأفَّ منِّي
ومن زمن رئاسته خساسة
وقد أفردت للرد على هذا برسالة سميتها: سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهي شقيقة القرآن. والأصل في هذا هو قلة نصيب هؤلاء من الدين؛ لأنه ما كان في شخص إلا زانه وما نزع من شخص إلا شانه، وكل إناء ينضح بما فيه وعادم الدين لا يعطيه.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
وإن مما ندرك على بعض أمراء العرب المسلمين في هذا الزمان وفي بعض البلدان، إظهار كراهيتهم للدين وعدم احتفالهم به ونفرتهم عن حمله، وقد عملوا عملهم وسعوا سعيهم في تقليل حصته من المدارس والجامعات إلى حالة أنهم لا يعتبرون الامتحان فيه ولا يحتفلون بحصة العلوم الشرعية ولا النجاح فيها كأنهم يحاولون إسقاطها من جملة العلوم المعتبرة، تمشيًا مع آراء الأساتذة القليلة حظهم من الدين، وإلا فمن المعلوم أن علم الدين يهذب الأخلاق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق. إن التهذيب على الدين هو أكبر ما يستعين به الحاكم على سياسة مملكته وسيادة رعيته، فالبلدان المتدينة بدين صحيح نراها آخذة بحظ وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان، يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. وهذا داءٌ دوي وخلق رديّ، قد سرى وتسرب إلى أكثر البلدان العربية بطريق العدوى والتقليد الأعمى، وهو يؤثر في عدم رغبة الطلاب على الحرص على حصوله والتوسع في فنونه لسقوطه عن رتبة الاعتبار فلا تضاف درجاته إلى مجموع درجات النجاح، ويترتب على ذلك كسل الطلاب في تحصيله وعدم التوسع فيه، وهو عمل يؤذن بانقراض العلم واستبداله بالجهل إلى حالة أنهم أيضًا تصدوا إلى فصل القائمين بتعليمه من المدارس والجامعات وألحقوهم بالأعمال الطفيفة التي ليس لها قيمة والتي لا يستفاد من علمهم فيها، وحرموهم ما يستحقونه من الرتب العالية ومن البعثات النافعة لكونهم يخصون بها من هو على عقيدتهم وطريقتهم. أُمور يذوب لها قلب المسلم، فكان هؤلاء الأمراء في محاربتهم لعلم الدين بمثابة المريض الأحمق، الذي يعاف الدواء وينفر من استعماله من أجل أنه علاج دائه.
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من مغبتها الحليم
إنه متى فُقد علم الدين والعمل به، فإنه يسود الجهل وتسود الفوضى، وإذا ساد الجهل ساءت النتيجة. لهذا رأينا بعض هؤلاء الأمراء المسلطين، قد فرضوا على الناس فرضًا إلزاميًّا الحكم بالاشتراكية الماركسية التي استباحوا بها أكل أموال المؤمنين والمؤمنات بغير حق، وخاصة التجار، فقد سحبوا أموالهم منهم وألحقوهم بالفقراء العجزة، وأخذوا يتمتعون بأموالهم هم وأعوانهم.

والله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ [النساء: 29]، وقال: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]. والنبي ﷺ كان يقول في المجامع العظام: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[188] قرن المال بالأنفس، لكون المال عديل الروح، وقال ﷺ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ»[189] وكأنه يشاهد سوء ما وقع في هذا الزمان من استباحة بعضهم أكل أموال بعض بغير حق وهو عمل مقرون بسوء العاقبة على جميع الناس.

وأكبر من هذا وأنكر، اعتقادهم إباحة هذا العمل، وقد أجمع علماء المسلمين على كفر من استباح أمرًا محرّمًا، كمن استباح ترك الصلوات المفروضة أو استباح الفطر في نهار رمضان بغير عذر، أو استباح فعل الزنا أو الربا أو شرب الخمر، ومثله من استباح أخذ أموال الناس بغير حق وحسبك ما يترتب على أخذ أموال الناس من المضار والمفاسد الكبار، وكونه مؤذنًا بالخراب والدمار وغلاء الأسعار ونقص الأرزاق والثمرات، ثم تعميم الفاقة والفقر لسائر الطبقات.
مُلَّ المقام فكم أعاشر أُمةً
حكمت بغير كتابها أمراؤها
ظلموا الرعية فاستجازوا سبيها
ورعوْا مصالحها وهم أجراؤها
وإن نحلة الاشتراكية السيئة إنما دخلت بلدان المسلمين عن طريق الأمراء المسلطين الذين متى صلحوا صلح سائر الناس، ومتى فسدوا فسد سائر الناس، فهم يحرمون الأموال على أهلها التي هي نتيجة سعيهم وعرق جبينهم ويبيحونها لأنفسهم، وإن دين الإسلام بريء من هذه الاشتراكية الشيوعية التي تقضي بتعميم جميع أموال الناس بغير حق حتى أجلسوا الأغنياء على حصير الفاقة والفقر، كما أنه بريء من الرأسمالية المادية وأتباعها الذين جعلوا التحليق بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم هو ربهم وإلههم، وتركوا لأجلها فرائض ربهم؛ من صلاتهم وزكاتهم ونسوا أمر آخرتهم. وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 19].

وقد روى الحاكم والطبراني وابن حبان في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: «سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ، وَلَعَنَهُمُ كُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٌ الدعوة: الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ على أُمتي بِالْجَبَرُوتِ لِيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ وَيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ اللهُ» ويدل له ما روى البخاري عن أبي هريرة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ««إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»».

أشار في هذا الحديث إلى الساعة الصغرى التي هي هلاك الناس في حياتهم قبل وفاتهم، وذلك حين يسود الناسَ الجهل والجهال، وحين يتولى أمر الناس من ليس بكفء فيسومهم سوء العذاب من أنواع المكاره والكوارث حتى تذوب قلوبهم وتهلك أخلاقهم، إذ من المعلوم أن هلاك الأخلاق أضر من هلاك الأبدان، والفتنة أشد من القتل فيتمنون الموت لكونهم في حالة الأموات كما قال سبحانه: ﴿وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ [ابراهيم: 17]، فهذه هي الساعة التي أخبر النبي ﷺ عنها حينما يوسّد الأمر إلى غير أهله.

فمتى رأيت دولة هؤلاء الأمراء قد أقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت فبطن الأرض والله خير من ظهرها.

وفي البخاري عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «يأتي على الناس زمان يمر المسلم فيه بالقبر ويقول: يا ليتني كنت صاحب هذا القبر».

من ذلك أن الرجل الجندي المسخر في حدود عمله يحفظ الأمن والأموال وحقن الدماء وحراسة البلاد؛ ثم يسعى سعيه ويعمل عمله في الانقلاب على من قبله ممن هو من أهل الحكم والسياسة، فإن هذا يعتقد في نفسه أن الناس لن يخضعوا له ويسمعوا ويطيعوا بأمره حتى يسومهم سوء العذاب، ويذيقهم مسًّا من القتل والكبت والتنكيل ويكونون كما قيل:
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تنقاد
فتقوم على الناس الساعة التي فيها هلاكهم كما يدل له الحديث: ««إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قال: كيف إضاعتها؟ فقال: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»»[190].

إنه لممّا يسرني ويسر كل شخص يهتم بأمر المسلمين، حينما نسمع بأن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون لها الاجتماعات للتذاكر في شؤون أُممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان؛ وهي أن الأمر الذي فل حدّهم وشتّت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم في أمر دينهم، وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم ﷺ، وأن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته. فإنه الكفيل بإصلاح الدنيا والدين، فهم يتناصحون ويتواصون بموجبه ولم يبق سوى التنفيذ، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ [الأنعام: 89].

والحاصل أن أُمراء المسلمين يجب أن يكونوا متكاتفين متكافلين ﴿بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ [التوبة: 71]، فلو أنهم حينما يرون أحدهم قد زاغ قلمه أو زلّ قدمه، وشذّ بأخلاقه واعتقاده إلى مخالفة دين الحق، فلو بادروا إلى نصيحته والأخذ بيده بجدّ في القول ولو بقطع حبل الاتصال به، فلو فعلوا ذلك لنفعوه ونفعوا الناس معه، حتى يتعظ به غيره فيرتدع عن الجهر بسوء ما يعتقده، بدلاً عن أن تبقى تعاليمه السيئة وراثة بين الناس يتلقّفها بعضهم عن بعض، ولأن نصيحة الخلق بالحق ليست مخصوصة بالعلماء دون الأمراء، بل هي من الأمراء أبلغ وأعلق في قلوب المنصوحين.

ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ [التوبة: 71].

* * *

[182] رواه البخاري من حديث ابن عمر. [183] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عائشة موقوفا، بلفظ: من سمع النداء فلم يجب فلم يرد خيرا ولم يرد به. [184] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [185] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [186] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن زياد بن حدير. [187] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ثوبان. [188] أخرجه مسلم بلفظ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ...» من حديث جابر بن عبد الله. [189] رواه الدارقطني وقال في الإرواء: صحيح. [190] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.

العدل والإمام العادل

العدل هو قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وله وضعت الموازين، وهو الإلف المألوف المؤمن من كل مخوف. به تألفت القلوب والتأمت الشعوب وشمل الناس الصلاح واتصلت بهم أسباب النجاح والفلاح، وهو مأخوذ من العدل والاستواء المجانب للجنف والجور والالتواء، وحقيقته وضع الأمور في مواضعها وأخذ الأموال من حلها وصرفها في حقها، فحقيق بمن ملّكه الله بلاده وحكّمه على عباده أن يكون لنفسه مالكًا وللغيظ كاظمًا وللظلم تاركًا وللعدل في حالة السراء والضراء مظهرًا ومؤثرًا، فإذا فعل ذلك ألزم القلوب طاعته والنفوس محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، والمقسطون -أي العادلون- في حكمهم وأهليهم وما ولّوا على منابر من نور عن يمين الرحمن.
ولا غنى لأمة الإسلام
يذب عنها كل ذي جحود

في كل عصـر كان عن إمام
ويعتني بالغزو والحدود

وقد قيل: السلطان ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].

ولهذا.. حث النبي ﷺ على السمع والطاعة ونهى عن الخروج عن الجماعة، وقال: «من رأى من أميره ما يكره، فليصبر ولا ينزعن يدًا من الطاعة»[191]، وقد بايع الصحابة النبي ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى إثرة علينا، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان. والشاهد من ذلك هو قولهم: وعلى إثرة علينا. وهو الاستئثار بالشيء دون الآخرين، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان، أما الكافر المحض فلن يكون أميرًا على المسلمين، إلا أن يقهرهم بسيفه، فما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، ومتى قهرهم بسيفه، فإنهم حينئذ لا عمل لمكره. وقد قال بعض السلف: ملك غشوم خير من فتنة تدوم.

وكل من سبر التاريخ والنقول، ثم رمقها بعين المعقول، فإنه يتبين له بطريق اليقين، أن الخروج على أئمة العدل والقضاء عليهم بالعزل مهما كان فيهم من النقص والتقصير، فإنه أصل كل محنة وبلية وشر على العباد في أمر دينهم ودنياهم، وأن الناس يكونون بعد الانقلاب أسوأَ حالا منهم قبله، وإنما ضعف المسلمون وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجله. ففشت بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وهذا التطاحن لن يرتفع عنهم إلا بمراجعة دينهم، الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

إن الكمال التام في الصفات والأفعال متعذر من كل أمير، وأي الناس المهذب، كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه، ولكن المنصف، هو من يغتفر قليل خطأ صاحبه في جنب كثير من صوابه، وعلى كل حال، فإن ركود الولاية وكف الفتنة عنها مهما كان فيها من النقص والتقصير، فإنها رحمة من الله للعباد والبلاد، كما قيل:
إن الولاية حبل الله فاعتصموا
منه بعروته الوثقى لمن دانا
لولا الولاية لم تؤمَن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة
في ديننا رحمة منه ودنيانا
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين عن رب العالمين:

إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.

وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ».

وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعة»، ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر قد طلبوا إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه.

فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأشد منه حرم إنكاره، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرّم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرّية وأخذ الأموال، فدعهم.. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.

* * *

[191] في رواية مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي: «أَلَا مَنْ وَلِىَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِى شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِى مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ».