1761

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م



المجلد الرابع
المعاملات ورسائل أخرى

(1) أحكام عقود التأمين ومكانها من شريعة الدين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

أما بعد:

فقد طلب مني بعض الأخلاء الأفاضل مشافهة وبطريق الرسائل أن أكتب لهم ما ظهر لي من أحكام عقود التأمين، ومكانها من شريعة الدين، إذ إنها قد تغلغلت في البلدان وتخمرت مشكلتها في الأذهان، واستمر بسببها بين الناس النزاع والخصام، فبعضهم يقول: هي حلال، وبعضهم يقول: هي حرام، ولا بد للعلماء من كشف هذا الظلام، وتحقيق ما ظهر لهم من نصوص فقه الإسلام.

فأرجأت إجابة الطالبين رجاء أن يتصدى لها من هو أطول مني باعًا وأوسع اطلاعًا وأصفى فراغًا؛ لشغل أوقاتي بالأمور القضائية التي من لوازمها شغل الفكر وتشتت الفهم وعدم صفاء الذهن. ثم أخذ يتناوبني قوة العزم في فضل نشر العلم، فينشطني وأحيانًا يعاودني تذكر غموض البحث وخطر الخطأ فيه، فيثبطني، وعلى أثر هذا التردد رأيت أنه قد اشتد مني العزم وزال عني الهم، وعرفت حينئذ أن أمانة العلم توجب علينا البيان وعدم الكتمان، فاغتنمت فرصة الإمكان وكتبت ما حضر بي مما يتعلق بهذا الشأن، مستدلًّا على صحة ما قلت بفقه الإسلام ونصوص الأحكام ما عسى أن يكون كافيًا لبقية الطالبين ورغبة المستفيدين، وضممت إلى التأمين أشياء من العقود والمعاملات الرائجة من جديد في بلدان المسلمين، رجاء شمول النفع بها الناس أجمعين، ونسأله سبحانه أن يفتح لنا فتحًا مبينًا، وأن يرزقنا علمًا نافعًا مبرورًا وعملاً صالحًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

بسم الله، يقول بعض المفكرين: إن مسألة التأمين بأنواعه هي قضية ذات أهمية، وقد راجت بين العالم فينبغي ألا تترك مهملة يموج الناس بعضهم مع بعض فيها بالتضليل والتصويب، بل يجب على المختصين بالعلم والفكر الصحيح أن يدرسوها من نواحيها دراسة عميقة ليخرجوها إلى الناس برأي مجمع عليه، يطمئن المسلم إليه، وبغير هذا يظل الناس منقسمين فيه؛ منهم من يحرمها اتباعًا للمأثور والمشهور، ومنهم من يبيحها رغبة في التيسير، ومسايرة للتطوّر الذي عليه الجمهور.

* * *

الشريعة الإسلامية كفيلة بحلّ جميع مشاكل العالم ما حدث في هذا الزمان وما يحدث بعد أزمان

إن الله سبحانه أنزل كتابه المبين، وبعث نبيه الصادق الأمين بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، وقد نظم حياة الناس أحسن نظام بالعلم والعدل والمصلحة والحكمة والإحسان والإتقان، ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115]، أي صدقًا في الأقوال وعدلاً في الأحكام، فلا تقع مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية بيان حلها وصحيحها من فاسدها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها وبيان الهدى من الضلال فيها، وهو مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.

وقد سمّاه الله: شفاء لسائر الشرور والأضرار، وإزالة الشبه والشكوك والأوهام، وحكمًا قسطًا في قطع النزاع والخصام ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

ففي شريعة الإسلام حل كل ما يختصم فيه اثنان، مع ملاءمتها لكل بيئة وكل زمان ومكان.

لأن دين الإسلام هو دين البشرية كلها، عربهم وعجمهم، مسلمهم وكافرهم: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]، وما كان هذا الدين ليتحمل أمانة رسالة البشرية كلها، إلا وهو يحمل في تعاليمه وأحكامه وقواعده وعقائده ما يجعله كفيلاً وحقيقًا بهذه التسمية، لينتهي بالناس إلى أن يكونوا آمنين على دينهم آمنين على أنفسهم آمنين على أهلهم وأعراضهم وأنسابهم.

فدين الإسلام هو الموصل بمن تمسك به واتبع هداه إلى سعادة الدنيا والآخرة رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله وبقية أركانه الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجّار، وبمثابة محَكِّ التمحيص لصحة الإيمان. بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأنه ليس الإسلام محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.

الإسلام دين السهولة والسماحة واليسر في الأحكام، ليس بحرج ولا أغلال ولا مقيّد عقل مسلم عن الحضارة والتوسع في التجارة المباحة والتفوّق في فنون الزراعة والصناعة، بل هو سبب النجاح وسلّم الفلاح إلى كل ما فيه صلاح لأمور الدنيا والآخرة، يمدح التاجر الصدوق الأمين ويجعله مع النبيين ويحث على الزرع والغرس والصناعة، ويقول: أفضل الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور.

الإسلام دين السلام والأمان، دين العزّة والقوة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام.

دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالطاعة، والإيمان شعار أهله المسلمين المؤمنين عباد الله.

دين يحترم الدماء والأموال ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[1]، ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[2]، أي بموجب الرضا التام، وفي محكم القرآن: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ [البقرة: 188].

دين يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف والتلاطف كالإخوان، وفي التساعد والتعاضد كالبنيان، أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ [التوبة: 71].

دين من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد: ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨ [الحج: 18].

دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أمور الناس أحسن نظام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه ﴿يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩ [الإسراء: 9].

وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء كثيرًا من بلدانهم، كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيّد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا والخمور، فأخذوا يدعون الناس إلى ما يشتهون بأقوال خلابة خداعة، تجعل الماء في صورة النار، والنار في صورة الماء العذب الفرات، وسرعان ما انخدع بها العوام وتغيرت بها العقول والأفهام، وقد وصفهم رسول الله ﷺ بأنهم «دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ قَذَفُوهُ فِيهَا»[3].

إن مدار شريعة الإسلام على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول والأخلاق، فهي مبنية على المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل.

فشرع الجهاد في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، أي حتى لا يفتن المسلم عن دينه لكون الفتنة في الدين أشد من القتل.

وشرع القصاص صيانة للأرواح وحقنًا للدماء حتى لا تسفك إلا بحقها.

وشرع قطع يد السارق صيانة للأموال، بحيث يستتب الأمن بين العباد والبلاد، وتزول عنهم المخاوف والأوجال، ولأن المضار الجزئية الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية.

وشرع حد الخمر صيانة للعقول والأجسام عن عبث أم الخبائث بها.

وشرع حد الزنا والقذف صيانة للأعراض وحفظًا للأنساب، وأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النور: 2].

وهذه الحدود إنما شرعت رحمة من الله لعباده، فهي تنزيل الحكيم العليم، شرعها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها من أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأنها تقلل فشو الشر والمنكر بين الناس، فهي صادرة عن رحمة من الله بعباده لإرادة صلاحهم، أشبه بتأديب الرجل ولده في سبيل منفعته ودفع مضرته، وأشبه بتجريح الطبيب للمريض في سبيل علاجه ومحاولة حصول صحته.

ومن المعلوم عند العقلاء أن المرّ كريه الطعم، ومتى كان حسن العاقبة صار حلوًا.

ففي إقامة الحدود محاربة للجرائم على اختلاف أنواعها للزجر عنها وتطهير المجتمع منها؛ لأن الله يَزع بالسلطان أعظم مما يَزع بالقرآن: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].
وما الدين إلا أن تقام شريعة
وتأمن سبل بيننا وشعاب
وليعتبر المعتبر بالبلدان التي يحكم فيها بشريعة الإسلام وتقام فيها الحدود الشرعية والأحكام، يجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان.

ثم لينظر إلى ضدها من البلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وعطلت فيها الحدود والشرائع والأحكام، كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر والفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ذلك لأن المنكرات على اختلاف أنواعها متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في الأعين شهودها ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

إن المستشرقين وملاحدة المسلمين قد شوّهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، حيث وصفوه بأنه أغلال وأن شرائعه تكاليف شاقة، وأنه لا يتلاءم الحكم به في القرن العشرين، ونحو ذلك من الأباطيل الملفقة الناشئة عن الإلحاد والزندقة؛ لأن أكثر الناس في هذا الزمان قد اعتلت أديانهم واختل توازنهم وتمييزهم بتغلب الشهوات الطائشة على عقولهم فهم يقيمون من عقولهم الفاسدة آراء يعارضون بها أحكام الشريعة الإسلامية، من إقامة الحد على الزاني والسارق وشارب الخمر، ويرون أن السماح للشخص بالزنا وشرب الخمر، أنه من تمام تمتعه بكمال حريته، فلا يسوغ كبته عن مشتهياته. هذا رأيهم، ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71]، فإن الإسلام يحميه كما يحمي غيره من هذه الجرائم، رحمة منه به لمصلحته وصحته، فهو يريد حياته وهم يريدون موته، وإنما استثقلوا شريعة الإسلام لاشتمالها على الأوامر والنواهي والفرائض والحدود[4] والأحكام وسائر أمور الحلال والحرام وكالصلاة والصيام كما قيل:
ثقل الكتاب عليهم لمّا رأوا
تقييده بأوامر ونواهِ
ولا غرابة فإن هؤلاء قد تحللوا من عُقل الدين وحدوده وآدابه، فهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيّد الشهوة من عقل وأدب ودين، فهم يحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12].

* * *

[1] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [2] أخرجه أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [3] أخرجه أحمد من حديث حذيفة. [4] الحدود: هي الزواجر عن الجرائم، وإنما سمي حدًّا لكونه يحد صاحبه عن مواقعة مثله كما يحد غيره أي يحجزه عن مقارفة مثله، وخير الناس من وعظ بغيره؛ ولهذا وردت أحاديث كثيرة في فضل إقامة الحدود، كحديث «حَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» رواه النسائي وابن ماجه والطبراني من حديث أبي المغيرة وابن عمر وابن عباس. وقال: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ»، وفي رواية «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع له» وكان أسامة بن زيد شفع في المرأة التي سرقت المتاع، فقال: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟! وَاللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث عائشة. وقال لصفوان بن أمية لما شفع في الذي سرق رداءه: «هَلَّا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» أخرجه أصحاب السنن من حديث صفوان بن أمية. فالإسلام قائم على محاربة الجرائم بكل أنواعها وتقليلها وتطهير المجتمع منها؛ لأن الله سبحانه يَزعُ بالسلطان أعظم مما يَزَعُ بالقرآن ومن لا يكرم نفسه لا يُكرم ومن يهن الله فما له من مكرم. ومع الأمر بإقامة الحدود فإن الله يحب العفو والستر، ففي الحديث «ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وفي رواية «ادْفَعُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا».

لكلّ حادثٍ حَديث

إن فقهاء الإسلام وجهابذة العلماء الأعلام قد قاموا بتدوين فقه الإسلام أتم قيام، فحفظوا نصوص الأحكام، وبينوا للناس الحلال والحرام، وقرروا أصولاً من القواعد الفقهية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة، بذلوا غاية جهدهم واجتهادهم في تحقيقها وتنقيح مناطها بأمانة الإسناد وغزارة الاستنباط.

وهي وإن لم تنص على كل عقد باسمه، لكنها كافية لحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، إما بالنص أو الاقتضاء أو التضمين أو القياس الصحيح المقتضي لإلحاق النظير بحكم نظيره.

كما في رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث قال: الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق [5].

غير أن الناس يتفاوتون في التحقيق وسياسة التطبيق وفي العلوم والفهوم أعظم من تفاوتهم في العقول والجسوم، و «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

إنه في هذا الزمان، لمّا كثر اختراع الصناعات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، استدعت الحاجة إلى إحداث شركات ومعاملات لم تكن معروفة في السنين السابقة كشركات التأمين بأنواعها والمقاولات على البنيان وبيع الأسهم من الشركات، ومشاكل التعامل بالأوراق النقدية، وغير ذلك من سائر المعاملات المحدثة التي لم تكن معروفة في السنين السابقة، فأشكل على بعض الناس فهمها والإحاطة بحقيقة حكمها لصعوبة تطبيقها على قواعد الفقه المقرّرة في فقه المذاهب المتداولة بأيدي العلماء.

لهذا ظن من ظن أن هذه المعاملات لن يوجد لها أصل يرجع إليه ولا نظير يقاس عليه.

وهذا الاعتقاد ليس بصحيح، فإن كل ما يقع بين الناس من المشاكل في العقود والشروط والشركات وسائر المعاملات المستحدثة، فإن طريق حلها وبيان صحيحها من فاسدها سهل ميسر عن طريق الفقه الإسلامي الصحيح بدون رجوع ولا حاجة إلى الأنظمة والقوانين ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83].

غير أن علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة لحل المشاكل يتوقف على مهارة علمية واسعة وملكة راسخة وسياسة حكيمة لعمل التحقيق وسياسة التطبيق، وذلك بِرَدِّ الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها حتى يجد القاضي طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الصحيح من الفاسد، فالفقه على النحو الذي تحفظ به الحدود والحقوق بميزان العدل والتحقيق ويسلك بالأمة أقوم الطريق إنما يستطيعه من امتلأ قلبه من أحكام علوم القرآن والحديث، ثم عمل عمله في البحث عن هذا التشريع فعرف منها مقاصد الشارع والمصالح والمفاسد بميزانها الصحيح العادل.

لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد في الاستنباط ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تطبيقه وتحقيقه.

لأن دين الإسلام كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، ولم يتحمل أمانة رسالة البشرية كلها إلا وفي علومه وعقائده وقواعده حل مشاكلهم في حاضرهم ومستقبلهم، فلا واقعة إلا ولها حكم مدلول عليها بالنص أو بأصل من الأصول المستحدثة من النصوص.

إذا ثبت هذا، فإننا متى عرفنا تمام المعرفة أن هذه العقود والشروط والشركات المستحدثة، كشركة التأمين وغيرها، أنها قد تغلغلت في البلدان وراجت في الأذهان، ومن لوازمها أن تنشأ عنها المنازعات والخصام ثم الترافع إلى القضاة والحكام، في سبيل إزالة الشقاق وعمل الوفاق؛ لهذا يصير قضاة الشرع ملزمين بتحقيق النظر في حكم هذه المعاملات والاستعداد لكشف ما يشكل منها عند المنازعات.

لأنهم متى سكتوا عن الحكم في هذه القضايا أو أعرضوا عنها، بدعوى التورّع منها أو حكموا فيها بالتحريم بدون دليل وقد راج بين الناس إباحتها، فحينئذ يظن قضاة النظم والقوانين أنه من قصور فقه الإسلام عن حل مثل هذه المشاكل العظام فيسيئون الظن بالإسلام وبالقضاة الشرعيين، ويظنون أنهم إنما يحكمون بمجرّد آرائهم، ومن المعلوم أنهم إذا لم ينظروا في مثل هذه القضايا بعلم وحكمة، فإنه لابد أن ينصرف إلى غيرهم.

ولهذا قيل: إن محاسن الإسلام تختفي بين الجامد والجاحد.

وقد قالوا: إنها إنما دخلت القوانين في بلدان المسلمين، كله من أجل القضاة[6] الضعيفة مداركهم والضيقة أعطانهم والمتحجرة أفهامهم، فكانوا يعاملون الناس بالتعليل والتمليل في أقضيتهم وأحكامهم، فسئم الناس من سوء معاملتهم لهم ولجؤوا إلى القوانين لظنهم أنها تقوم بحل مشاكلهم، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار.

ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أشكو إليك من جلد الفاجر وعجز الثقة[7].

وإن غاية ما نهتم به في هذا البحث هو تفصيل أشياء من العقود والمعاملات الغامضة والرائجة بين الناس، كشركات التأمين على اختلاف أنواعها، وبيع الأسهم من الشركات، واستبضاع السلعة وبيع الأنموذج والتبايع بالأوراق النقدية، وغيرها من المشاكل، فنخرجها للناس من حيز الخفاء والغموض إلى حالة التجلي والظهور بالدلائل القطعية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة، حسبما وصل إليه علمنا، وقد يظهر لغيرنا ما عسى أن يخفى علينا، إذ لا علم لنا إلا ما علمنا ربنا ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ [يوسف: 76].

* * *

[5] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى. [6] لقد عم النقص في هذه الأزمنة في علم الفقه وحملته وقَلَّتْ رغبة الناس في تعلمه بعد إنشاء المدارس والجامعات والكليات العصرية التي من شأنها اختصار حصة العلوم الشرعية، فكان الشخص إذا تخرج من إحدى الجامعات أو الكليات أو تقلد وظيفة القضاء أو الإدارة أو أي وظيفة، انصرف غالبًا بكل جهوده ونشاطه عن البحث والتفتيش والتأليف من كل ما يقتضي تعاهد العلم وزيادته ونفع نفسه والناس به، حتى كان الحصول على الوظيفة هي مبلغ علمه وغاية قصده وبعدها ألقى عصا التسيار عن تعاهد علمه والسعي في توسعته؛ لأن محبة العلم الحقيقي لم تخالط بشاشة قلبه، على أن أحد هؤلاء قد أعطي صحة في الجسم والسمع والبصر وقوة في الحفظ والفهم من كل ما يؤهله إلى التوسع في العلوم والفنون، لكنه يكسل عن استخدام هذه القوى في سبيل ما خلقت له، ويستولي عليه الخمول والاتكال على غيره فيما يعد من واجبه، فيذهب علمه على أثر تعطيله وينسى الكثير مما يحفظه، لكون التعطيل يذهب التحصيل، فيكون بمثابة السيف المدسوس دائمًا في غلافه وقت الحاجة إلى الجهاد به، فإن الجهاد بالحجة والبيان آكد من الجهاد بالسيف والسنان، والعاشق للعلم على الحقيقة يواصل عمله في تعاهد علمه وتوسعته من المحبرة إلى المقبرة. [7] ذكره ابن تيمية في منهاج السنة.

القضاء الشرعي

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا والناس كلهم يتحاكمون إلى الشريعة الإسلامية، راضين بها ومنقادين لحكمها.

لأن الله سبحانه نصب الشريعة الإسلامية لعباده في الدنيا حكمًا قسطًا، تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع.

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36]

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

فالقضاء الشرعي المبني على أساس متين من العلم والحكمة والعدل والقوة والأمانة هو رحمة من الله لعباده وراحة لهم قي قطع النزاع عنهم واستيفاء حقوقهم، إذ هو ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ولولا من يقيمه الله لإنصاف المظلوم وردع الظالم لأكل الناس بعضهم بعضًا، إذ ليس كل أحد يقنع بحقه أو يقف على حده.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
والقضاء وإن كان فيه خطر كبير وآثار تقتضي عنه التحذير[8]، لكن فيه أجرًا كبيرًا لمن خلصت نيته وصلح عمله، إذ هو من القيام لله بالقسط. وكن عالمًا إن القضاء فضيلة
وأجر عظيم للمحق المسدد
لأمر بمعروف وكشف ظلامة
وإصلاح ذات البين مع زجر معتد
إذا بذل الجهدَ المُحِقْ إن يصب يفز
بأجرين والمخطي له واحد قد
ولا بد من قاضٍ لفصل خصومة
مع الخطر البادي العظيم المشدد
والقضاء: هو الإلزام بالأحكام الشرعية، وهو فرض كفاية، وإذا لم يوجد غيره تعين عليه.

والأصل فيه قوله تعالى: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ [ص: 26].

والقضاء هو منصب شريف، إذ هو منصب أنبياء الله ورسله وخلفائه، وكان النبي ﷺ قاضيًا وأبو بكر قاضيًا وعمر قاضيًا وعثمان قاضيًا وعليّ قاضيًا.

ولما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية عكف الصحابة جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين ونشر العلوم الإسلامية وفتح المحاكم الشرعية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام.

فكانوا يتعاهدون القضاء والقضاة، بفتح الأبواب وإزالة الحجاب. ولمّا بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ بابًا وحجابًا يمنعون الدخول عليه إلا بإذن، أرسل محمد بن مسلمة وأمره أن يحرق باب سعد قبل أن يكلم أحدًا من الناس، فمضى محمد بن مسلمة في سبيله حتى دخل العراق فاشترى حزمة حطب وأسندها على باب سعد فأحرقه وقال: عزمة من عزمات عمر وقد نفذتها.

وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري:

أما بعد: فإن القضاء آية محكمة أو سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه فإن أتى به وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيت به بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا في حد أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، فإن الله تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة والخصوم، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.. فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام[9].

فهذه الرسالة هي من فنون الحكم وجوامع الكلم التي يجب على القاضي العدل التخلق بها والتأدب بآدابها لصدورها من الناصح المحدث الملهم والمهذب لرعيته، الذي جعل الله الحق على لسانه فأنطقه بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث أرسى في هذه الرسالة نظم القضاء وقواعده.

ومن أجل خطورة القضاء، قال النبي ﷺ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ» رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة.

وروى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص، قال رسول الله ﷺ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، فأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ، وأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» ونهى رسول الله ﷺ أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان. رواه البخاري عن عائشة.

واشترطوا في القاضي عشر صفات، كونه: بالغًا عاقلاً ذكرًا حرًّا مسلمًا عدلاً سميعًا بصيرًا[10] متكلمًا مجتهدًا ولو في مذهبه. قاله في مختصر المقنع.

إن طريق الإصلاح والعدل للقضاء والقضاة، هو أنه ينبغي للقاضي أن يحتسب في قضائه وأن يبكر في جلوسه لمباشرة عمله ويفتح أبواب محكمته ليتصل به الخصوم والشهود بسهولة ويتسع الوقت لسماع الدعوى وتسجيلها.

ويتأسى بسيرة مدراء الجامعات والكليات والمعاهد، الذين يباشرون أعمالهم وتعليمهم عند طلوع الشمس، فإن بركة اليوم في أوله وقد بورك لهذه الأمة في بكورها، ولأن الناس لسعة الوقت للقضاء أحوج إليه من غيره. ثم يبدأ بالنظر في قضية الأول فالأول من كل من يحضره وما يعرض عليه بدون أن يتقيد بعرض الشرطة للقضية، فيكون كالمحجور عليه إلا بإذنهم؛ لأن فيه تضييقًا على الناس.

ولو خصص للقضاء أعيان من الشرطة يكلفون بمباشرة الحضور عند جلوس القاضي لعرض الأقضية عليه عند جلوسه، لكان أفضل ليتم بذلك مصلحة التبكير، فلا يتعذر القاضي بالشرطة ولا الشرطة بالقاضي.

إن القضاء أمانة والقاضي بمثابة المستأجَر لتأدية هذه الأمانة في الأوقات المفروضة عليه حسب النظام من كل يوم.

فمن عدم الوفاء بهذه الأمانة، كون القاضي يغلق أبواب محكمته عليه ويترك الناس خلفها يغشاهم الذل والصغار، غير مكترث بهم ولا مهتم بأمرهم والنبي ﷺ يقول: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ» رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي.

ومع تحمل هذه الأمانة الكبيرة التي يترتب عليها المسؤولية من الله ومن الناس، فإن أكثر القضاة يضيع زمنًا طويلاً من الأوقات المفروضة عليه فيجعل شهرًا للعمرة وشهرًا للحج وشهرًا لصيام رمضان بمكة، ويوم فيوم لأعذار يذكرها ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام.

فهؤلاء يعتبرون مخالفين لنظام القضاء الشرعي الذي نص عليه الفقهاء من كل المذاهب.

فإن جلوس القاضي في ولاية عمله ومحل قضائه وحكمه أفضل من تطوّعه بحجه وعمرته؛ لأن جلوسه للقضاء يعد من الأمر المفروض عليه، أما تنقله بحجه وعمرته فغير مستحب في حقه وله وجه صحيح في القول بعدم صحته.

ولو نوزع فيما فيه غضاضة عليه من نقص راتبه على حساب غيبته وتعطيل وظيفته لقام وقعد وجدّ واجتهد في المطالبة بتكميله، والله سائل كل شخص عن ولاية عمله ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

* * *

[8] نشير إلى أحاديث وآثار عن السلف كثيرة، يخيل لبعض العلماء أنها خرجت مخرج الذم للقضاء والتحذير منه مطلقًا كحديث «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» رواه أحمد والأربعة من حديث أبي هريرة. وحديث «يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمْرِهِ»، وفي رواية «فِي تَمْرَةٍ» رواه البيهقي. فهذه الأحاديث وما في معناها إنما سيقت لبيان عظم المسؤولية وتحمل الأمانة العظيمة المترتبة على الدخول في القضاء، بحيث يحاسب الإنسان نفسه ويفكر في عظم مسؤوليته، فلا يقدم عليه إلا من وثق من نفسه بالقيام بواجبه، وحتى يحجم عنه من لا يستطيع تحمل أمانته لئلا تذهب حقوق الناس على يده، بسبب تقصيره بولايته. وإلا فإن القضاء في مواطن الحق هو مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر إذ هو من القيام لله بالقسط، وقد فسر بعض العلماء حديث «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» بأنه محمول على ما يلاقيه القاضي من المصاعب والمتاعب والمشقة والأذى من الناس في سبيل القضاء، وتنفيذه حتى مع عدله ما يجعله كأنه ذبح نفسه، حيث عرض نفسه للنكد والكدر وعدم الراحة، إذ لا أشق من القضاء وما يترتب عليه من الأذى، غير أن المكارم منوطة بالمكاره والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب وقد حفت الجنة بالمكاره.
في الحق ثقل وقاضي الأرض ممتحن
يمسي ونصف خصوم الناس يشكونه
زكـوه دهــرًا فلما صار قاضيهم
واستعمل الحق عـادوا لا يزكونه
[9] أخرجه الدارقطني، والبيهقي في السنن الكبرى. [10] إنه من الأمر المشكل على أهل البلاد، وخاصة بلاد الحراثة كونه يولى القضاء فيها من هو أعمى؛ لأنه وإن كان قد يوجد عند هؤلاء من سعة العلم والمعرفة بالحدود ومفاصل الحقوق ما لا يوجد عند الكثيرين من المبصرين، لكنه يفوت عليه الشيء الكثير مما عسى أن يدركه البصير وحسبك بخطر التزوير على خطه وختمه الذي يستبيحه الكثير في قديم الزمان وحديثه ممن له اختصاص بالقاضي فيتصرف في خطه وختمه باسمه؛ لأنه متى كان الغدر في الناس موجودًا فالثقة بكل أحد عجز، والله يقول: ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ٥٠ [الأنعام: 50]. وإنما شرط الفقهاء لولاية القضاء، كونه سميعًا بصيرًا؛ لأن القاضي بداعي الضرورة يحتاج إلى الاستعانة بقوة البصيرة فيما يقتضيه النظر وتوجيه الضرورة مثل دعوى الأضرار والطرق والشفعة والقسمة ومراسم الحدود والحقوق وعرض الأوراق والصكوك، فيعرف منها التحريف والطمس والتبديل بدلاً من أن يتكل في هذه الأمور على غيره فيقلدهم فيما يقولون، إذ ليس المخبر كالمعاين كما ثبت بذلك الحديث. ومما ينبغي أن ننصح به هو التحفظ على رواتب هؤلاء القضاة في حالة الاستغناء عنهم، بحيث توفى لهم رواتبهم كحالتهم السابقة لاستحقاقهم لذلك من جهات عديدة، أو ينقلون برواتبهم إلى أعمال غير متعبة، كالتعليم أو الوعظ أو الإرشاد أو عمل مما يحتاج إليه الناس.

الأنظمة والقوانين

يقول الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٦٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ٦١ [النساء: 60-61].

ويقول: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 49-50].

الأنظمة والقوانين إنما نَظَّمَ مناهجها وقرّر حججها قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، صنعوها بمثابة المصطلح لهم على حسب أديانهم وبلدانهم وأخلاقهم ومذاقهم وعوائدهم، وإنما دخلت على المسلمين من باب العدوى والتقليد الأعمى، وصدق عليهم ما أخبر به رسول الله ﷺ، حيث قال: «لَتَأْخُذَنَّ مَا أَخَذَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»[11]، وصدق عليهم المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

فهي مبنية على عزل الدين عن الدولة، والدين ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

تبيح للناس ما حرم عليهم من الربا والزنا الواقع بالتراضي، وشرب الخمر إذا لم يحصل من شاربها تعدٍّ على الناس، ويعدون السماح بهذه الأشياء من تمام حرية الشخص.

ترفع ولاية الولي الشرعي عن ابنته وموليته ورقابته عليها وتعطيها الحرية التامة تتصرّف كيف شاءت.

تقوم بحماية حرية الرأي[12]، بحيث تبيح لكل ملحد وكافر أن يجهر بكفره وإلحاده، غير محجور عليه في رأيه حتى لو سب الله ورسوله علانية، أو كذب بالقرآن أو الرسول، فهي تحميه على حرية رأيه وفساد اعتقاده، بناءً منهم على عزل الدين عن الدولة.

لهذا تكثر المذاهب الهدامة في البلدان التي يحكم فيها بالأنظمة والقوانين، لعدم العقاب والعتاب عليهم فيما يقولون ويفعلون ومن أمِنَ العقوبة أساء الأدب فينشأ عنها فتنة في الأرض وفساد كبير، بينما الأحكام الشرعية الإسلامية تحمي عقيدة الدين أشد مما تحمي به الدماء والأموال، لكون الشريعة مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول. لهذا ترى البلدان التي يُحكم فيها بشريعة الإسلام ويُؤمر فيها بالمعروف ويُنهى فيها عن المنكر، تجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان، فكانت أعمالهم بارة وأرزاق الله عليهم دارة؛ لأن الدين بحكمته يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، فله سيادة وسيطرة على النفوس لا تماثله النظم والقوانين.
لا ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
أما النظم البشرية مهما بلغت من إدراك وتفوّق، فإنها لن تكفل للبشر سعادتهم ولا حصول الراحة والأمان والاطمئنان لهم ولا حل مشاكلهم على الوجه الأكمل، بل هي بالضد من ذلك كله.

فإنها بِسَيْرِ أعمالها وقانون نظمها تنشئ المشاكل وتسهل ارتكاب الجرائم، من أجل أنه ليس فيها قصاص ولا حد ولا تعزير ما عدا السجن الذي يعده أكثر المجرمين بمثابة الراحة له عن الكد والسعي.

فلا بد للناس من التشريع الإلهي الذي يفوق سائر ما وضعه البشر من الأنظمة والقوانين؛ لأن علم الشريعة وأحكامها محيط بكل ما يحتاج إليه الناس في حاضرهم ومستقبلهم.

والناس إنما يخضعون وينقادون لحكم الشرع لعلمهم واعتقادهم أنه تشريع إلهي وله القوة الفعالة والوازع القوي في نفوس الناس.

فمتى قيل للحَجوج اللَّجوج: هذا مقتضى حكم الله ورسوله؛ وقف على حده وقنع بحقه وعرف أنه لا مجال للجدل مع حكم الله ورسوله.

لهذا تجد القضايا المعقدة والمشاكل العويصة إنما يتوصل إلى حلها عن طريق الفقه الإسلامي، وأكرم به متى كان صادقًا قاضيًا عالمًا حكيمًا.

وما كل من أمسك الكتاب حكيم.

أما إذا كانت هذه المشاكل عن طريق النظم والقوانين، فإنها تأخذ السنين بعد السنين بين حكم واستئناف وحل وإبرام حتى ينزف ما في جيبه من النقود.

إن شريعة الإسلام هي شريعة البشرية كلها ومدارها على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول.

فوقاية الحكومة بها وحفظ رعاياها عن التعدي على الحقوق وانتهاك الحدود أعظم من تسلحها بالحرس والجنود.

لأن القضاء الشرعي من أكبر ما تستعين به الحكومة على سياسة مملكتها وسيادة رعيتها واستقرار الأمن والهدوء في مجتمعها، وقد حذر النبي ﷺ عن سوء عاقبة رفع الأحكام الشرعية عن الأمة، فقال: «ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا»[13]، وصدق الله ورسوله، فإن هذا الحديث بمثابة البرهان القاطع والصبح الساطع الذي يشهد بصحته الحس والواقع.

إن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون الاجتماع لها للتذاكر في شؤون أمتهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان.

وهي أن الأمر الذي فَلَّ حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم في أمر دينهم وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم.

وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته، فإنه الكفيل بإصلاح الدنيا والدين، فهم يتناصحون بهذا ويتواصون بموجبه، ولم يبق سوى التنفيذ وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩ [الأنعام: 89].

* * *

[11] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. [12] إن حرية الرأي قد اشتهرت وانتشرت في البلدان التي أفسد التفرنج تربية أهلها فاستباحوا الجهر بكل ما يَعِنّ بالفكر من آراء الكفر غير محجور على أحدهم في رأيه، لأن المعتقدين لها قد تحللوا عن التقيد بشيء من حدود الدين وحقوقه وشرائعه وبنوا أمرهم على رأيهم فقط واخترعوا هذه التسمية لتكون بمثابة الوقاية عن وقوع العقاب بهم على جريمة كفرهم ومروقهم عن دينهم، فكانوا يجهرون بجحود الرب وإنكار الوحي وبعثة الرسل والتكذيب بالقرآن وبالرسول والتكذيب بالجنة والنار، ثم يعتذرون عن كل ما يقولون ويفعلون بحرية الرأي، كأنها تبرر لهم مساوئ أعمالهم وفساد اعتقادهم، ومع هذا الكفر المتظاهر ترى أحدهم يدَّعي الإسلام بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم ولا يحرم ما حرم الله ورسوله ولا يدين دين الحق، قد خرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين. فهؤلاء عند علماء الإسلام أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على الناس أشد من ضرر اليهود والنصارى؛ لأن الفتنة بهم أشد من أجل أن الناس ينخدعون بهم من أجل انتسابهم لدينهم وكلامهم بلسانهم، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسدهم أخلاقه، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل والمرء على دين خليله وجليسه. إن حرية الرأي إنما تمدح إذا لم تخرج عن حدود الحق كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا»، وقال: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» أما إذا خرجت حرية الرأي عن حدود الحق فإنها تدخل في مسمى الهوى، وإعجاب كل ذي رأي برأيه وقد أخبر الله بأنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، وقال: ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71]. وقال: ﴿فَإِن لَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهۡوَآءَهُمۡۚ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيۡرِ هُدٗى مِّنَ ٱللَّهِۚ [القصص: 50]، وقال: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٢٣ [الجاثية: 23]. إن جهل الناس بكنه حرية الرأي وتساهلهم فيها وسكوتهم عنها مع حقيقة فتكها بالأعمال والأخلاق والآداب. إنه لمما يقود العامة إلى الخروج عن الإيمان وشرائع الإسلام، ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأخلاق والأعمال والأحوال والتضارب في الآراء والأفكار وإعجاب كل ذي رأي برأيه. وعلى قدر انتشار هذه الفكرة يتضخم الجهل والطفور والطغيان ويستفحل الكفر والفسوق والعصيان وتسود الفوضى في الجماعات والأفراد حتى تكون من أقوى عوامل الانحطاط. أما رأيت النصارى في تعليل إباحتهم للزنا واللواط والخمور أن السماح بها يعدونه من إعطاء الشخص كمال حريته، وعلى هذا فَقِسْ. لهذا يجب على علماء المسلمين وعلى الكتّاب السلفيين وعلى القائمين بتحرير الجرائد والمجلات وتعميم نشرها، بأن يبينوا للناس فساد هذه الفكرة الأثيمة وما ينجم عنها من المضار العظيمة وأن القائلين لها إنما يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة ويبثون بينهم عوامل السفه والفساد والضلالة من كل ما يزيغ المسلم عن معتقده الصحيح من صالح الأخلاق والأعمال ويقوده إلى الإلحاد والانحلال. ولكون الذين تبنوا هذه الفكرة قد تحللوا من عُقَل الدين وحدوده وحقوقه فهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين لأنهم يحبون أن يعيشوا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. إن العامة بما طبعوا عليه من السذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة، قد يعتقدون على طول الزمان صحة ما يقوله هؤلاء في حال سكوت العلماء عن بيانها فتتغير بذلك عقولهم وعقائدهم وينقادون لداعي التضليل والتمويه. إن سبب انتشار حرية الرأي في الأمصار خاصة في هذا العصر هو إطلاق السراح للكتّاب المتطرفين في الدين وكتاب الجرائد المستأجرين في ترويج الباطل فترى أحدهم يطعن في صميم الدين فيكذب الرسول ويكذب بالقرآن كله بحجة حرية الرأي بدون أن يردعه أحد ولو تصدى له من يتحامل عليه بالطعن في أخلاقة وأعماله بذكر مساوئه وما عسى أن يكون واقعًا فيه، لأثارها عليه غضبًا وحربًا ولن يرضى بإطلاق حرية الرأي فيه نفسه، وهذا هو حقيقة ما عناه الشاعر بقوله:
يساق للسجن من سب الزعيم ومن
سب الإله فإن الناس أحرار
فمثل هؤلاء يجب قطع دابرهم بإبعادهم عن أوطان المسلمين لئلا يضلوا الناس ويفتنوهم عن دينهم وجناية التحرير الذي يتطلع إليها الصغير والكبير، ويترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، إذ الجناية على الدين أشد من الجناية على الأنفس، والفتنة في الدين أشد من القتل. كما يجب مقاطعة الجرائد التي تقوم بنشر حرية الرأي متى كان هذا الرأي خارجًا عن حدود الحق والعدل لاعتبارها جرثومة فساد ومن أسباب خراب البلاد وضلال العباد؛ لأن حرية الرأي التي يلهج الإباحيون بها هي منصرفة إلى التحلل عن الفرائض والفضائل وإباحة منكرات الأخلاق والرذائل جهارًا، ويعتقدون أن هذه من الكمالات الأوروبية ويقول أحدهم: إن لكل هؤلاء الذين عودونا على التحرر شكر الإنسانية أجمع. ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة: 41].
[13] رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث ابن عمر واللفظ للبيهقي.

الأمر والنهي والتحليل والتحريم

إن القاعدة في التحليل والتحريم وكذا الأمر والنهي هو ألا تُعارَض أحكامها بترخص جافٍ ولا تُعارَض بتشديد غال ولا تُحمَل على علة توهن الانقياد.

أما الترخص الجافي: فهو الذي يتساهل في الأمور المحرمة أو شديدة الشبهة، فيلطفها بخلابة لفظه وخداع غرضه لقصد مسايرة التطوّر كما زعموا، أو لقصد مصانعة الناس على عوائدهم أو مصانعتهم على حسب رغباتهم، فيحلل لهم ما حرم عليهم بدون نص يؤيده ولا قياس يعضده، كالقائلين بإباحة الربا للمحتاج أو جواز المراباة مع الكافر أو نكاح المحلل ونحو ذلك من العقود المحرمة بأصل الشرع.

وأما التشديد الغالي: فهو ما يتخلق به بعض الفقهاء، حيث يحرمون على الناس أشياء من المعاملات أو العادات لم تكن صريحة في التحريم والتي لم يتوصلوا إلى حقيقة العلم بتحريمها، فيحكمون عليها بالتحريم وبالمنع بدون نص صحيح ولا قياس صريح.

وربما تحاملوا بالتفنيد وعدم التسديد على رأي الجريء بقول الحق متى خالف رأيهم أو مذهبهم، فينشرون عنه التجهيل والتسفيه والزراية وعدم الدراية ليوقعوا في قلوب الناس عدم الثقة به وعدم الاعتبار بقوله، وينسبونه للتسرع إلى الفتيا المنهي عنها وإلى عدم الورع والتدين.

وهذا بما أنه من التشديد الغالي، فإنه أيضًا موقف عجز وضيق رحب عما يعرض له من الحقائق التي تخالف رأيه أو مذهبه أو ما عليه أهل بلده فلا ينشرح صدره لقبولها، ويترتب على ذلك من المضار وقوف الناس حيارى أمام هذه المشاكل المستحدثة والعقود المستجدة، فبعض الناس يقول: هي حلال، وبعضهم يقول: هي حرام، والورعون واقفون حيارى ينتظرون ماذا يقوله العلماء فيتبعونهم ويمتثلون أمرهم.

إن العالم التقي والمؤمن القوي الذي يخشى الله في عمله وعلمه متى عرف مظاهر الحق وأسفر له صبحه ووفق لاستنباطه من مظانه، فإنه حينئذ يجب عليه بيانه ويحرم في حقه كتمانه، ولا يهمه أكان موافقًا لرغبة الناس وعوائدهم ومذاهبهم أو كان مخالفًا لهم، بشرط أن يستوثق من نفسه وفي بحثه بالدلائل القطعية والبراهين الجلية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة ببصيرة ناقدة وفكرة صحيحة صادقة وتطبيق سليم، إذ الحق فوق قول كل أحد، ومن كان على الحق فهو الأمر الذي يجب أن يقتدى به، وإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر.

وأما حمل الأمر والنهي على علة توهن الانقياد والعمل، فهي في مثل معارضة أحكام الشرائع بالآراء والعقول، كقولهم في الجاهلية: كيف نأكل مما قتلناه بأنفسنا، ولا نأكل مما قتله الله؟ وكقولهم: كيف حرم الربا، وإنما البيع مثل الربا؟ وغير ذلك من معارضة الأحكام الشرعية بمجرد الآراء[14].

والعبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، مع اعتقاد أن الله سبحانه لم يخبر بما ينفيه العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115] فلا يوجب الله شيئًا إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، فالعقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما أخبر الله به رسوله هو الحق الموافق للعقل والحكمة، أما العقول المضروبة بالخذلان فإنها ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع، فتقع في اضطراب في التفكير وعدم التصديق والعمل.

* * *

[14] قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الرسول ﷺ إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم بعقولنا حكمته ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول ﷺ حتى يعلمه بعقله، فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ [الأنعام: 124]، ومن سلك هذا السبيل فليس قي الحقيقة مؤمنًا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول ﷺ وإخباره وبين عدم وجود الرسول ﷺ وإخباره، وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده... انتهى.

شركات التأمين

اعلم أنها لما كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات لم تكن معروفة في سالف السنين ولم يقع لها ذكر عند الفقهاء المتقدمين.

من ذلك شركات التأمين على اختلاف أنواعها، وهي قضية ذات أهمية وليدة هذا العصر، وقد راجت بين العالم وصارت حديث القوم في سمرهم ومجالسهم، وأخذ بعض الناس يموج في بعض في موضوعها بالتجهيل والتضليل وبالتحريم والتحليل.

وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام فيها من علماء المسلمين هو الشيخ ابن عابدين المتوفى عام (1252هـ) فقد ذكرها في كتابه رد المحتار ونصه:

قال: إنها جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي يدفعون له أجرته ثم يدفعون أيضًا مالاً معلومًا لرجل مقيم في بلاده يسمى ذلك المال (سوكره) على أنه مهما هلك المال الذي في المركب بغرق أو حرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بثمنه في مقابلة ما يأخذه منهم، فإذا هلك من مالهم شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا.. قال: والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك، لأن هذا التزام ما لا يلزم. انتهى.

ويظهر أن مبدأ عملية التأمين هو الخوف من الحوادث والكوارث الشديدة التي تفاجئهم فتجحف بذهاب أنفسهم وأموالهم، فأراد بعض التجار بهذا التأمين التحفظ على ضمان أموالهم كما أراد الآخرون التأمين على بدل حياتهم، وهذا كله لم يكن معروفًا في بلدان المسلمين قبل هذه السنين.

ثم أخذ علماء هذا العصر يتكلمون في موضوعها، حيث دعت الحاجة والضرورة إلى البحث فيها، فلكل حادث حديث، ولكل مقام مقال.

فمنهم من قال بتحريم التأمين بكل أنواعه، ومنهم من أباحه بكل أنواعه، ومنهم من توسط فيه فقال بإباحة شيء ومنع شيء منه.

ولسنا من المجازفين القائلين بإباحته بكل أنواعه ولا من الجافين القائلين بتحريمه بكل أنواعه.

وإنما موقفنا منه موقف التفصيل لأحكامه، ثم التمييز بين حلاله وحرامه. والذي ترجح عندنا هو أن التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن والمصاغ والمتاجر أنه مباح لا محظور فيه، إذ هو من باب ضمان المجهول وما لا يجب وقد نص الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازه.

وهذا نوع منه يقاس عليه لإلحاق النظير بنظيره، كما سيأتي بيانه.

أما التأمين على الحياة، فإنه غير صحيح ولا مباح لأننا لم نجد له محملاً من الصحة لأن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته، فهو نوع من القمار ويدخل في بيع الغرر كبيع الآبق الذي لا يدري أيقدر على تحصيله أم لا، ويدخل في مسمى الربا الذي هو شراء دراهم بدراهم مؤجلة، ويدخل في بيع الدين بالدين، حيث إن المؤمن يدفع قيمة التأمين مقسطة في سبيل الحصول على دراهم أكثر منها مؤجلة، أضف إليه أنها لا تقتضيه الضرورة ولا توجبه المصلحة، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.

* * *

التأمين على السّيارات

إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه بيّن الحلال والحرام بيانًا واضحًا فقال تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وقال: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116]. وقال: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ٥٩ [يونس: 59].

وفي البخاري و مسلم عن النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الحلال المحض بيّن واضح لا مجال للشك فيه، وأن الحرام المحض بيّن لا يختلج في القلب الجهل به ولكن بينهما أمور مشتبهات لا يعلم أكثر الناس حقيقة الحكم فيها، هل هي من الحلال أو من الحرام. ومفهوم الحديث أن القليل من الناس - وهم أهل العلم والمعرفة - يعرفون حكم الله في هذه المشتبهات فيلحقون الحلال بنظيره من الحلال، والحرام بنظيره من الحرام.

فالذي يُخاف عليهم من الوقوع في الحرام عند مقاربتهم للمشتبهات هم العوام الذين تخفى عليهم غوامض الأحكام ويتجاسرون على الأشياء المشتبهات بدون سؤال عن الحلال والحرام، كما أن العلماء ينبغي أن يتركوا المشتبهات عندما يخفى عليهم طريق الحكم فيها، لحديث: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»[15].

ثم إن هذه المشتبهات تقع في العقود والشروط والمبايعات والأنكحة والأطعمة والرضاع، وقد ترجم عليها البخاري في صحيحه، قال: باب تفسير المشبهات، ثم ساق بسنده عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني قد أرضعتكما، فسأل النبي ﷺ فقال: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟»، ففارقها عقبة ونكحت زوجًا غيره.

ثم ذكر حديث عبد الله بن زمعة مع عتبة بن أبي وقاص، حيث قال: فأمر سودة أن تحتجب عنه مع أنه محكوم بكونه أخاها، لكن لمّا رأى قرب شبهه بعتبة بن أبي وقاص أمرها أن تحتجب عنه وهو من باب اتقاء الشبهات. فقال رسول الله ﷺ: «الْوَلَدُ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَمْعَةَ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».

فمن هذه المشتبهات ما يقع مشكلاً مشتبهًا في وقت إلى أن يتصدى له من يخرجه من حيز الاشتباه والغموض إلى حيز التجلي والظهور حتى يصير واضحًا جليًّا لا مجال فيه للاشتباه.

فمن هذا النوع قضية التأمين على السيارات، فهي وإن أشكل على الكثير من الناس حكمها من أجل تجدد حدوثها وغموض أمرها وعدم سبق الحكم من الفقهاء فيها باسمها، فإن لها في الفقه الإسلامي أشباهًا ونظائر ينبغي أن ترد إليها ويؤخذ قياسها منها، كما يرد الفرع إلى أصله والنظير إلى نظيره.

وهذا يعد من القياس الصحيح الذي نزل به الكتاب والسنة وعمل به الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تحقيقه وتطبيقه. كما سيأتي بيانه.

* * *

[15] أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي.

الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل التحريم

ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله، وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الأصل في العقود الصحة والجواز ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح. قال: وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول، ومالك قريب منه[16] انتهى.

وقد نهج هذا المنهج العلامة ابن القيم رحمه الله، قال في الإعلام:

الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك عقودًا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح، فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. انتهى[17].

إذا ثبت هذا، فإن صفة عقد التأمين على حوادث السيارات، وهو أن يتفق الشخص الذي يريد التأمين على سيارته مع شركة التأمين، سواء كان التأمين كاملاً أو ضد الغير، فيدفع قدرًا يسيرًا من المال على تأمينها مدة معلومة من الزمان، كعام كامل بشروط وقيود والتزامات معروفة عند الجميع. من أهمها: كون السائق يحمل رخصة سياقة، فمهما أصيبت هذه السيارة أو أصابت غيرها بشيء من الأضرار في الأنفس والأموال خلال المدة المحدودة، فإن الشركة ملزمة بضمانه بالغًا ما بلغ.

ويستفيد المؤمِّن على سيارته حصول الأمان والاطمئنان على نفسه وعلى سيارته التي يسوقها بنفسه أو يسوقها رجل فقير لا مال له ولا عاقلة، فيستفيد عدم المطالبة والمخاصمة في سائر الحوادث التي تقع بالسيارة متى كان التأمين كاملاً، وتقوم شركة التأمين بإصلاحها عند حدوث شيء من الأضرار بها. ومثل هذا الأمان والاطمئنان يستحق أن يبذل في حصوله نفيس الأثمان.

وليس فيه من المحذور سوى الجهالة بالأضرار التي قد تعظم في بعض الأحوال فتقضي بهلاك بعض النفوس والأموال وقد لا تقع بحال.

وهذه الجهالة مغتفرة فيه كنظائره من سائر الضمانات. فقد ذكر الفقهاء صحة الضمان عن المجهول وعما لا يجب.

قال في المغني: ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالدّيات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام. قال: ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا علمه بالمضمون به لصحة ضمان ما لم يجب.. انتهى.

وهذه هي نفس قضية التأمين على ضمان حوادث السيارات، ثم إن هذه الجهالة في عقد التأمين لا تفضي إلى نزاع أبدًا، لتوطين الشركة أمرها في عقدها على التزام الضمان بالغًا ما بلغ، فلا تحس بدفع ما يلزمها من الغرامة في جنب ما تتحصل عليه من الأرباح الهائلة.

وقد دعت إليها الحاجة والضرورة في أكثر البلدان العربية، بحيث لا يمنح السائق رخصة السياقة إلا في سيارة مؤمنة وإلا اعتبروه مخالفًا لنظام سير البلد، وهذه مما يزول بها شبهة الشك في إباحتها وتتمخض للجواز بلا إشكال.

وفي هذا التأمين مصلحة كبيرة أيضًا، وهي أن المتصرفين بقيادة السيارات هم غالبًا يكونون من الفقراء الذين ليس لهم مال ولا عاقلة، فمتى ذهبت أرواح بعض الناس بسببهم وبسوء تصرفهم فلن تذهب معها دياتهم لورثتهم، بل يجب أن تكون مضمونة بهذه الطريقة.

إذ من المعلوم أن حوادث السيارات تقع دائمًا باستمرار، وأن الحادثة الواحدة تجتاح هلاك العدد الكثير من الناس، ومن الحزم وفعل أولي العزم ملاحظة حفظ دماء الناس وأموالهم.

وهذا التأمين وإن كان يراه الفقير أنه من الشيء الثقيل في نفسه ويعده غرامة مالية عليه حال دفعه لكنه يتحمل عنه عبئًا ثقيلاً من خطر الحوادث، مما يدخل تحت عهدته ومما يتلاشى معها ما يحس به من الغرامة لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية.. والله أعلم.

* * *

[16] ج2 من الفتاوى القديمة ص326. [17] ج2/ص34.

إزالة الشبهات اللاحقة لتأمين السيارات

إن العقود والشروط والشركات والمبايعات كلها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، بخلاف العبادات، فإنها مبنية على التشريع والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، والفرق بينهما هو أن العبادات حق الله، يؤخذ فيها بنصوص الكتاب والسنة.

أما المعاملات، فإنها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، إذ هي من حقوق الآدميين بعضهم مع بعض، بحيث يتعامل بها المسلم مع المسلم والمسلم مع الكافر.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإنه ليس عندنا نص صحيح ولا قياس صريح يقتضي تحريم هذا التأمين يعارض به أصل الإباحة أو يعارض به عموم المصلحة المعلومة بالقطع؛ إذ العقود والشروط عفو حتى يثبت تحريمها بالنص أو بالقياس الصحيح.

والتحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا كما حققه أهل الأصول، وهذه الشركة المنعقدة للتأمين إن رأت في نفسها من مقاصدها أو رآها الناس أنها تجارية استغلالية، لكن حقيقة الأمر فيها والواقع منها أنه يتحصل منها اجتماع المنتفعين منفعتها في نفسها في حصول الأرباح لها ومنفعة الناس بها، فهي شركة تعاونية محلية اجتماعية تشبه شركة الكهرباء والأسمنت وغيرهما، فكل هذه الشركات تدخل في مسمى التعاون بين الناس؛ لأن الشخص غني بإخوانه قوي بأعوانه ويد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فهي من جنس المشاركة بالوجوه ومشاركة الأبدان ومشاركة المفاوضة.

وقد حصل الخلاف قديمًا بين الفقهاء في جواز هذه المشاركات، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها، كما حصل الخلاف في شركة التأمين على حد سواء، ثم زال الخلاف عن هذه الشركات كلها واستقر الأمر على إباحتها على اختلاف أنواعها.

ووجه الإشكال دعوى دخولها في مسمى الجهالة والغرر الذي نهى عنه الشارع.

كما روى مسلم في صحيحه، قال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر[18].

وفسر هذا الغرر المنهي عنه بثلاثة أمور:

أحدها المعدوم: كبيع حبل الحبلة، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع ما ليس عندك ونحوه.

الثاني بيع المعجوز عن تسليمه: كبيع الآبق.

الثالث المجهول المطلق: كبعتك عبدًا من عبيدي أو ما في بيتي، ومنه بيع الحصاة وبيع الملامسة والمنابذة وضربة الغائص وبيع الحظ والنصيب المسمى باليانصيب.

فكل هذه داخلة في بيع الغرر المنهي عنه شرعًا؛ لكونها يقع فيها النزاع غالبًا نظير ما يقع في القمار، فإن هذا العبد الآبق إنما يبيعه صاحبه بدون ثمن مثله مخاطرة، فإن تحصل عليه قال البائع: غبنتني، فإن لم يجده قال المشتري: غبنتني ردّ علي ثمني.

وهذا المعنى منتف في هذه المشاركة التي مبناها على التعاون الاجتماعي الصادر عن طريق الرضا والاختيار بدون غرر ولا خداع.

فجواز المشاركة هذه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محذور، إذ هي مصلحة محضة للناس بلا فساد.

غير أن فيها تسليم شيء من النقود اليسيرة في توطيد تأمين السيارة ومن السهل أن يختصرها الشخص من زائد نفقته كذبيحة يذبحها لأدنى سبب أو بلا سبب؛ لأن كل عمل كهذا فإنه يحتاج بداعي الضرورة إلى مال ينظمه ويقوم بالتزام لوازمه، وليس عندنا ما يمنع بذل المال في التزام الضمان. كما قالوا بجواز: اقترض لي ألفًا ولك منه مائة. وأنه جائز، ومنه ضمان الحارس بأجره.

فصحة هذا الضمان والتزام لوازمه يتمشى على نصوص الإمام أحمد وأصوله.

قال في المغني: دلت مسألة الخرقي على ضمان المجهول كقوله: ما أعطيته فهو عليّ وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البيّنة أو ما يقرّ به لك أو ما يخرجه الحساب، صح الضمان بهذا كله وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.

قال: وفيه صحة ضمان ما لم يجب، وصحة الضمان عن كل من وجب عليه حق، وفيه صحة الضمان في كل حق من الحقوق المالية الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب. انتهى.

وقال في المغني أيضًا:

ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام. قال: ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا العلم بالمضمون به.

وهذه هي نفس قضية ضمان التأمين على السيارات، فإن شركة التأمين تلتزم ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات كما ذكر جوازه صاحب المغني و الشرح الكبير و الإقناع، ولا يقدح في صحته جهل الضامن للمضمون به ولا المضمون عنه. فنصوص الإمام أحمد وأصوله تتسع لقبولها كنظائرها من الضمانات، وكذلك الإمام مالك وأبو حنيفة كما ذكرنا موافقتهما على ذلك.

غير أن الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.

وإنما وقع اللبس فيها على من قال بتحريمها من علماء هذا العصر، كابن عابدين وغيره من جهة أنهم اعتقدوها قمارًا أو جهالة أو غررًا، أو التزام ما لا يلزم أو كونها على عمل مجهول قد يفضي إلى غرامات باهظة.

ويتمسكون بما بلغهم من العمومات اللفظية والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد يظنونها عامة أو مطلقة وهي لا تنطبق في الدلالة والمعنى على ما ذكروا.

أو يعللون بطلان مثل هذا العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس.

والله سبحانه قد أمر عباده بالوفاء بالعقود في قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ [المائدة: 1]. وهو شامل لكل عقد يتعاقده الناس فيما بينهم ويلتزمون الوفاء به، ولم يكن قمارًا ولا ربًا ولا خديعة.

إذ الأصل في العقود الصحة والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه، لكون العقود والشروط والمشاركات من باب الأفعال العادية التي يفعلها المسلم مع الكافر وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع.

فمن أعطى الشركة مالاً على حساب التزام ضمان سيارته بطيب نفس منه والتزمت الشركة لوازمه، فإن مقتضى الشرع يحكم بصحة هذا الضمان، أخذًا من قوله تعالى: ﴿أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ [المائدة: 1]. ومن قوله: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ [النساء: 29]. وفي الحديث «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[19]، وهذا العوض قد خرج عن طيب نفس من مالك السيارة ومن الشركة، فثبت بذلك إباحته وقواعد الشرع لا تمنعه؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه وربما يجبرون بطريق النظام عليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، لأن المال عزيز على النفوس لا تسخو ببذله إلا في سبيل منفعتها، وفي هذا المقام هو في حاجة إلى تأمين سيارته لحصول الاطمئنان والأمان عما عسى أن ينجم عنها من حوادث الزمان.

وبما أن هذه الشركة هي من ضمن العقود التي أمر الله بالوفاء بها، ومن جنس التجارة الواقعة بين الناس بالتراضي، ومن جنس المشاركة بالأبدان والوجوه والمفاوضة، فإنها أيضًا من جنس الصلح الجائز بين المسلمين، لما روى أبو داود والدارقطني عن سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وكثير بن زيد قال فيه يحيى بن معين: هو ثقة. وضعفه في موضع آخر.

وروى الترمذي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله ﷺ قال: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا الحديث يترقى إلى الصحة بتعدد طرقه، مع العمل عليه بإجماع أهل العلم.

فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد للضمان في تأمين حوادث السيارات يعتبر من التعاون المباح وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركات الكهرباء والأسمنت ونحوها، ويدخل في عموم الصلح الجائز بين المسلمين وإباحته تتمشى على ظاهر نصوص مذهب الإمام أحمد.

قال في الإقناع[20]: ويصح ضمان أروش الجنايات نقودًا كانت كقيم المتلفات أو حيوانًا، كالدّيات، لأنها واجبة أو تؤول إلى الوجوب.. انتهى. وسبق قول صاحب المغني.

وهذه تشبه قضية ضمان التأمين على السيارات، حيث تلتزم الشركة ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كأضرار السيارات ونحوها من كل ما هو واجب بالضمان أو يؤول إلى الوجوب ولا يشترط معرفة المضمون عنه ولا المضمون به.

ولا يقدح في صحة هذا الضمان كون المؤمِّن على سيارته يدفع شيئًا من المال، فإن هذا لا يقدح في صحة الضمان والحالة هذه، إذ ليس عندنا ما يمنعه.

ولا يقدح في صحة هذا الضمان تبرع الشركة بدفع الديات وقيم الأضرار والمتلفات بدون رجوع فيه إلى أحد، فإن هذا كله جائز على قواعد المذهب إذ من المعلوم شرعًا وعرفًا أن الجناية تتعلق بالجاني المباشر لها في خاصة العمد وعلى العاقلة في قتل الخطأ فيما زاد على الثلث من الدية، غير أن التزام الشركة بضمان هذه الجنايات وإن عظم أمرها وعدم الرجوع منها على أحد في غرمها أنه صحيح جائز، وهو مما يجعل الجاني الذي لم يتعمد وكذا عاقلته في راحة عن المطالبة والغرامة، وهو خير من كونهم يتكففون الناس في سؤال هذه الغرامة أعطوهم أو منعوهم.

وغاية ما يدرَكون عليها هو الجهالة عن قدر الغرامة، وهي مغتفرة فيها كسائر أمثالها من الضمانات والشركات التي لا تخلو من الجهالة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة، فإن فيها كلها شيئًا من الجهالة. وقد تكلم بعض الفقهاء المتقدمين بعدم جوازها من أجله ثم استقر الأمر على أن مثل هذه الجهالة مغتفرة.

قال في الإقناع: ويصح ضمان ما لم يجب وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التاجر للناس من الديون وهو جائز عند أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة وأحمد.. انتهى.

وقال في الاختيارات: ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة. وتجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازها... لأن ذلك محل اجتهاد.. انتهى.

فهذه المشاركات وما يترتب عليها من الالتزامات التي هي بمعنى الضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التي يجب أن يقاس بعضها على بعض في الإباحة كشركة الأبدان وشركة الوجوه وشركة المفاوضة، ومثله شركة الكهرباء والأسمنت، ولأن حمل معاملة الناس وعقودهم وشروطهم على الصحة حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان.. والله أعلم.

* * *

[18] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [19] أخرجه أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [20] هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوي.

تسامح مذهب الحنابلة في تقبل التأمين على السيارات وكثير من العقود والشروط والمعاملات

إن كل مختص في فهم فقه الأئمة الأربعة، فإنه سيعرف تمام المعرفة أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تستصحب الحكم بصحة عقد التأمين على السيارات وأن جوازها يتمشى على مذهبه، كما يوافقه مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة.

ولا نعني بذلك أن الحنابلة ذكروا هذا العقد باسمه وصفته في كتبهم، بل ولا غيرهم من سائر المذاهب لكونها حديثة الاختراع ولكل حادث حديث.

وإنما نعني أن نصوص الإمام أحمد، تتسع لقبولها كسائر نظائرها من الشركات والضمانات وبيع أسهم الشركات.

لكون الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.

لأن نصوصه وإن لم تنص على كل عقد أو شرط باسمه لكنها كافية لحل جميع مشاكل العقود والشروط والشركات بالنص أو الاقتضاء أو التضمن، غير أنها تحتاج إلى فهم ثاقب وتطبيق سليم وتبحر في فقه النصوص والقصود.

وقد اشتهر عند المتأخرين تسامح مذهب الإمام أبي حنيفة في مسايرة التطوّر في العقود المستحدثة، من أجل أن أصحابه نشروا عنه ذلك وهو صحيح، غير أن مذهب الإمام أحمد يمتاز عليه في كثير من المسائل التي تقتضيها الحاجة وتوجبها المصلحة، من ذلك أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تدل على أن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما دل الدليل على التحريم خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما دل الدليل على الإباحة وهو قول الظاهرية. وهو مذهب الشافعي.

ومنها عقد المساقاة على النخل والشجر بالثلث أو النصف أو بشيء مما يخرج منها أو من غيرها أو بالنقود.

فقد أنكرها الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي وقالا: إنها بيع ما لم يخلق وإنها من الإجارة المجهولة وتفضي إلى الغرر.

أما الإمام أحمد فقد أجازها عملاً بحديث خيبر وكما أن الضرورة والحاجة وعموم المصلحة تقتضي ذلك وعليه العمل في هذا الزمان.

ومنها شركة المفاوضة، وهي أن يفوّض كل واحد منهما إلى شريكه التصرف في ماله مع حضور صاحبه وغيبته، فقد قال الإمام الشافعي: لا يجوز. واتفق الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازها.

ومنها شركة الأبدان، فقد قال الإمام الشافعي بمنعها، واشترط الإمام مالك لصحتها اتحاد الصنعة بين الشريكين.

أما الإمام أحمد، فقد أجازها مع اختلاف الصنعة واتفاقها، كما أجاز الاشتراك على الدابة له نصف وللدابة النصف الثاني.

ومنها شركة الوجوه، فقد قال الإمام مالك والشافعي ببطلانها لكون الاشتراك الصحيح يتعلق على المال وعلى العمل وكلاهما معدومان في هذه المشاركة مع ما فيه من الغرر؛ لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود لا بصناعة ولا بعمل مخصوص. هذا حجة من قال بمنعها كمالك والشافعي.

أما الإمام أحمد، فقد قال بجوازها لأنها عمل من الأعمال فجاز انعقاد الاشتراك عليها.

وهذا هو الظاهر من مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

ومنها شرط الخيار في البيع، فقد قال الإمام مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز الخيار فوق ثلاثة أيام. إلا أن الإمام مالكًا قال: لا يزاد الخيار على ثلاثة أيام إلا بقدر الحاجة، كأن يصل إلى البلد وهو لا يصل إليها إلا فوق ثلاثة أيام.

أما الإمام أحمد، فإنه قال بجواز شرط الخيار على ما يتفقان عليه زادت المدة أو قصرت حتى ولو زاد على الشهر، لأنه حق ثابت بالشرع فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ويحكم بالملك في مدة الخيار للمشتري له غنمه وعليه غرمه.

ومنها إذا باع شيئًا واستثنى نفعه المباح مدة معلومة غير الوطء ودواعيه، كما لو باع بيتًا واستثنى سكناه حولاً أو أكثر.

فقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعي: لا يصح هذا الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى البيع، أشبه ما لو اشترط ألا يسلمه إليه.

أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزوم ما يترتب عليه، لقصة جابر حين باع بعيره على النبي ﷺ واستثنى حملانه إلى المدينة.

وتأخير تسليم المبيع إلى المدة المحدودة لا ينفي صحة البيع كالدار المؤجرة فإنه يصح البيع فيها مع تأخير تسليمها.

ومنها بيع التلجئة وهي إذا خشي إنسان سلطانًا أو ظالمًا أن ينتزع ملكه منه قهرًا فاتفق مع إنسان بأن يظهر للناس أنه اشتراه منه ليحتمي بذلك من هذا الظالم ولا يريد بيعه على الحقيقة، فإن هذا يسمى بيع تلجئة.

وقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعي: هو بيع صحيح، تم بأركانه وشروطه فلزم العقد فيه.

أما الإمام أحمد، فقد قال بعدم لزوم البيع لأنهما لم يقصدا البيع الحقيقي الذي هو انتقال المبيع إلى المشتري، فلم يصح بناءً على ما اتفقا عليه قبل العقد، لكون العقود محمولة على القصود.

ومنها بيع العربون وهو أن يشتري شيئًا فيسلم بعض ثمنه ويقول: إن جئتك ببقية الثمن وإلا فالعربون لك.

فقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هذا لا يصح لأنه بمثابة الخيار المجهول.

أما الإمام أحمد، فقد قال: لا بأس به وفعله عمر وأجازه ابن عمر، وضعّف حديث النهي عن بيع العربون.

ومنها لو اشترطت الزوجة في صلب العقد بألا يتزوج عليها أو ألا يتسرى عليها أو ألا يخرجها من دار أهلها أو بلدها ونحو ذلك.

فقد قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: هذا شرط باطل لحديث «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ»[21]، وحديث «إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»[22]، وهذا الشرط يقتضي تحريم الحلال من التزوج بغيرها أو التسري أو السفر.

أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزومه، وأنه إن لم يَفِ به فلها الخيار بين البقاء أو فسخ النكاح؛ لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»[23]، وحديث: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»[24].

والقول بصحة هذا الشرط ولزومه يروى عن عمر وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعًا.

وتزوج رجل بامرأة واشترطت عليه دارها فأراد نقلها بغير اختيارها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إذًا يطلقننا. فقال عمر: إنما مقاطع الحقوق عند الشروط[25].

فهذه العقود والمشاركات والشروط وما يترتب عليها من الالتزامات والضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التي يقاس بعضها على بعض في الإباحة لملاءمتها للمعاملات المستحدثة في هذا العصر والتي لا توجد عند غيره من الأئمة.

وكل ما يصححه من العقود والشروط، فإن لديه دليلاً خاصًّا من أثر أو قياس لكونه يستنبط دلائل مذهبه من مسنده وقد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي ﷺ وعن الصحابة ما لم يبلغ غيره من الأئمة فقال به.

فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد لضمان تأمين السيارات والطائرات والسفن ونحوها، يعتبر من التعاون المباح ويدخل في حدود التعامل الجائز، وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركة الكهرباء والأسمنت ونحوهما.

لأن حمل معاملة الناس على الصحة، حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان لكون العقد الصحيح عند أهل الأصول هو ما يتعلق به النفوذ من بلوغ المقصود ويعقد به. والباطل بخلافه وهو ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به، وهذا الاشتراك وما يترتب عليه مستكمل لشروط الصحة شرعًا.

ومن تأمل هذا تبين له أن جواز هذا الاشتراك وإباحة ما يترتب عليه من الربح أنه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محظور.

لكون الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وأصول الإمام أحمد ونصوصه وقواعد مذهبه تقبل مثل هذا العقد وتنافي تحريمه.

لكن بعض العلماء في هذا العصر القائلين بمنعه إنما أخذوه من العموميات اللفظية والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد ظنًّا منهم أنه جهالة أو غرر، وما عارضوا به لم يصح عن الشارع القول بموجبه ولم يدخل في عموم المنهي عنه في أصل الشرع ولا في نصوص أحمد وأصوله، لكون الجهالة فيه مغتفرة وليست من الغرر المنهي عنه، بل هي من النوع الجائز كسائر أمثاله من الضمانات والشركات.

وبهذا تندفع الاعتراضات وتبقى الأدلة الشرعية كافية للإقناع العلمي الذي تزول به الشكوك والشبهات.

لهذا يجوز للقاضي الشرعي أن يحكم بصحة هذا العقد ولزوم ما يترتب عليه من الضمان.

ومتى صدر الأمر به من الحكومة يتمحض للحتم والإلزام.

وهو يدخل في ضمن عقد الضمان الذي ذكره الفقهاء من الحنابلة والمالكية والأحناف، حيث قالوا بصحة ضمان ما لم يجب وضمان المجهول وضمان أروش الجنايات، سواء كانت نقودًا أو ديات، وكونه لا يشترط لصحة مثل هذا الضمان معرفة الضامن للمضمون عنه ولا قدر المضمون به، فمتى قابل العاقل بين هذا الضمان الموصوف بما ذكر وبين ضمان التأمين على السيارات وجده منطبقًا عليه بجميع صفاته وإن اختلفت مسمياته، وقواعد الشرع تعطي الشيء حكم نظيره. والله أعلم.

* * *

[21] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث عائشة. [22] أخرجه الترمذي والبيهقي من حديث عمرو بن عوف المزني. [23] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر. [24] أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة. [25] أخرجه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في السنن الكبرى.

التأمين على الحياة وبيان بطلانه بالبراهين والبيانات

إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه نصب أعلامًا وحدودًا للحلال يعرف بها الحلال، وأعلامًا وحدودًا للحرام يعرف بها الحرام، فقال: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرماته، وقال: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119].

وقد أنزل الله الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فالكتاب هو الهادي إلى الحق، والميزان هو الذي توزن به أعمال الخلق فيعرف عدلها من عائلها، وصحيحها من فاسدها، فترد الفروع إلى أصولها ويلحق النظير بنظيره ويعطى حكمه في الجواز والمنع، كما في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حيث قال: ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق [26].. انتهى.

لهذا يعتبر من الجور وعدم العدل إلحاق الحرام بالحلال، وكذا عكسه بحجة رواجه بين الناس أو مسايرته للتطوّر الجديد أو حكم الأنظمة بموجبه ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١ [المؤمنون:71].

لأن كل تعامل أو اشتراك أو اشتراط ينافيه الشرع فهو باطل وإن كان مائة شرط.

إن التأمين على اختلاف أنواعه لا ينبغي أن ينظر إليه بنظرات سلبية سطحية ليس لها غرض إلا في المادة والحصول على المادة والتشجيع على كسب المادة بشتى الطرق الملتوية والحيل المنحرفة عن المكاسب الصحيحة إلى المكاسب الخبيثة.

وربما تحاملوا بالملام والانحناء بالمذام على من قال في الحرام: هو حرام، كأنهم يريدون توسيع الطرق لكسب المال من حلال أو من حرام، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنْ حَرَامِ»[27].

* * *

[26] أخرجه الدارقطني، والبيهقي في السنن الكبرى. [27] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.

صفة عقد التأمين على الحياة

هو أن يأتي من يريد التأمين على حياته إلى شركة التأمين، فيتفق معها على تأمين حياته عشرين عامًا أو أقل أو أكثر، في مقابلة شيء معلوم من النقود، كأربعة آلاف أو أقل أو أكثر، يدفعها مقسطة بين عشر سنين كل سنة يدفع مثلاً أربعمائة ريال، على أنه إن مات في خلال هذه المدة المحدودة، فإن شركة التأمين ملزمة بدفع أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا، على حسب ما يتفقان عليه، حتى ولو لم يكمل دفع الأقساط كلها.

فإن دفع بعض الأقساط ثم عجز عن دفع الباقي ذهب عليه كل ما دفعه. وفيه شروط ومصطلحات بينهما، منها كون الشركة تشترط على نفسها أن تدفع ربحًا خمسة في المائة في حالة استمرار عقد التأمين.

ولا شك أن هذا العقد بهذه الصفة باطل قطعًا، ولن تجد له محملاً من الصحة وإن حذلقه من يحتال لإباحته فإن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته.

منها أنها تسليم دراهم مقسطة في دراهم أكثر منها مؤجلة قد يتحصل عليها وقد تفوت عليه في حالة عجزه عن بعض الأقساط، فحقيقتها أنها شراء دين بدين، وشراء دراهم بدراهم أكثر منها، وتشبه بيع الآبق المنهي عنه في حالة جهالة الحصول على العوض المشروط، وقد يفوت عليه مع رأس ماله ومع ما فيه من الربا وسائر وسائل البطلان، فإنها لا تقتضيه الحاجة ولا توجبه المصلحة ويمجه العقل فضلاً عن الشرع.

والحاصل أن قضية التأمين على الحياة هي من المعاملات المستحدثة الفاسدة لمشابهتها لعقد الميسر حقيقة ومعنى، من باب اجتماع الفرع بالأصل ومساواته له في المعنى والحكم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها.

لأنه بمقتضى تحقيق النظر في حكم هذا العقد، ثم في تطبيقه على ما يشاكله من نظائره، ثم الحكم فيه والميزان العادل غير العائل على ضوء النصوص الصحيحة المبنية على حفظ الدين والنفس والمال. بدراسة عميقة سليمة من الأهواء النفسية والأغراض الشخصية دراسة تبين الأحكام وعللها وشمول مصالحها وترد الأشياء إلى أصولها بدون اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، فإنه حينئذ يتبين بذلك فساد هذا العقد وخروجه عن حدود ميزان العدل والحق.

لأن الحلال هو ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وإنما حرم الله الميسر من أجل أنه أكل للمال بغير حق، مع كونه يورث العداوة والبغضاء على أثر سلب المال بغير حق. والله يقول: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188].

والنبي ﷺ قد فصّل ما أجمله الله في كتابه من شؤون تحريم بعض العقود والمعاملات صيانة للأموال عن التلاعب بها بغير حق، فنهى عن بيع الغرر وهو المجهول العاقبة وغير الموثوق بالحصول عليه، كبيع الآبق، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة وضربة الغائص، وبيع ما ليس عندك، كما حرم الربا والميسر وهو القمار، وكما حرم الخمر شربه وبيعه وأكل ثمنه، كما حرم الخداع والغش والكذب.

كل هذه حرمها الشارع من أجل أنها تفضي إلى مفسدة الميسر الذي يثير العداوة والبغضاء بين الناس والذي هو أكل أموال الناس بالباطل.

وقد أخد الناس تتجارى بهم الأهواء في تأمين الحياة حتى أخذوا يؤَمِّنون على أعضاء الإنسان، فبعضهم يؤُمِّن على يده، وبعضهم يؤَمِّن على رجله، وبعضهم يؤَمِّن على صوته[28]، وحيث قلنا ببطلان التأمين على الحياة من أصله، فإنه مقضي للبطلان في أبعاضه من باب الأولى والأحرى، كما قلنا ببطلان الميسر بكل أنواعه.

وقضية عقد التأمين على الحياة هي من نوع ذلك بمقتضى المطابقة والتضمن. فإن المؤَمِّن على حياته يدفع نقودًا قليلة مقسطة في نقود كثيرة مؤجلة وغير موثوق بالحصول عليها، قد تفوت عليه بعجزه عن دفع بقية الأقساط، وقد يفوت عليه معظمها ببقائه حيًّا إلى نهاية المدة المحدودة.

والفرق بينه وبين التأمين على السيارات والطائرات ونحوهما واضح جدًّا، فإن المؤَمِّن على سيارته لا يريد بتأمينها الحصول على نقود أكثر مما دفع ولا أقل لا في حياته ولا بعد مماته، وإنما يريد الأمان والاطمئنان عن الحوادث منها أو عليها، بحيث تتكفل الشركة بضمان ما وقع عليها فقط، وهذا الأمان والاطمئنان هو مما يستوجب أن يدفع فيه نفيس الأثمان والضامن غارم كما ثبت بذلك الحديث بقوله ﷺ: «العَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ»[29].

فدعوى المبيحين له بأن عقد التأمين على الحياة يقع بالتراضي، وأن شركة التأمين تدفع العوض المتفق عليه بحالة الاختيار بدون إجبار، وأنه لن يثير العداوة والبغضاء كما يثيرها القمار، وأنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف الذين قد تحيط بهم الحاجة والفقر بعد موته. فهذا ليس على إطلاقه ولا يبرر انعقاده.

فدعوى انعقاده بالتراضي يبطله كون العقود المحرمة كلها تقع بالتراضي ولا يحللها رضى المتعاقدين، وقد سبق حكم الله بتحريمها وبطلانها.

وأما دفع الشركة للعوض بمقتضى الرضى بدون أن يقع فيه عداوة ولا بغضاء فهذا ليس على إطلاقه، فمتى أردت أن تعرف عدم صحته فافرض أن رجلاً اتفق مع شخص آخر على تأمين حياته لكون عقد التأمين على الحياة يصح من الفرد مع الفرد كما يصح مع الشركة، إذ الحكم واحد. فاتفق معه على أن يدفع المؤَمِّن على حياته قدر أربعة آلاف أو أقل أو أكثر مقسطة، بحيث يدفع في كل سنة جزءًا منها على حساب تأمين حياته عشرين سنة أو عشر سنين، إن مات في خلال هذه المدة المضروبة لزم الملتزم للضمان خمسون ألفًا أو أربعون على حسب ما يتفقان عليه، بحيث يدفعها إلى ورثة المؤَمِّن لحياته، فبعد إبرام العقد ودفع أول الأقساط توفي المؤَمِّن لحياته أفتراه يدفع هذا القدر الذي التزمه أي أربعين أو خمسين ألفًا إلى الورثة بطريق الرضى والاختيار، أم تراه يتهرب عن الدفع ويعمل ألف حيلة في الامتناع وعدم السماح بالدفع؟ وعلى أثره يقع النزاع بينه وبين خصمه في حالة امتناعه، ثم تنعقد بينهما العداوة والبغضاء أعظم مما يقع بين أهل القمار.

وفي حالة الإصرار على الامتناع تستدعيهما الحاجة والضرورة إلى الترافع إلى القاضي الشرعي ليقطع عنهما النزاع ويريحهما من مشقة الخصام بالحكم بالعدل. أفترى هذا القاضي يحكم بالتزام الملتزم بدفع ما التزم به على نفسه، سواء كان أربعين أو خمسين ألفًا إلى ورثة المؤمِّن على حياته، أم تراه يرد الأشياء إلى أصولها والفروع إلى نصوصها، فيحكم بإرجاع ما قبضه كل واحد منهما، ثم التحاسب فيما لكل واحد منهما أو عليه لا وكس ولا شطط، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩ [البقرة: 279].

وكيف ننسى في مثل هذه القضية حكم رسول الله ﷺ وقضاءه في وجوب رد المال على صاحبه عند تعذر أخذ عوضه؟!

كما روى مسلم في صحيحه عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟».

فهذا حكم رسول الله في مثل هذا العقد الواقع صحيحًا في بداية الأمر وبطريق الرضا والاختيار من كل منهما، ولكنه لمّا لم يقبض عوض ما اشتراه القبض التام الذي يحصل به الانتفاع حكم رسول الله برد الثمن على صاحبه، وكونه لا يحل للبائع أن يأكل مال أخيه بغير حق، والذي لا يحل هو الحرام لكون الأموال محترمة لا يحل أخذها إلا عن طريق الحق.

أفترى شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام وعلى حفظ الدماء والأموال، أفتراه يحكم بفسخ هذا العقد ووجوب رد الثمن على المشتري كاملاً لمّا لم يتحصل على قبض ما اشتراه، ثم يبيح أخذ هذا المال الكثير بدون مقابل من العوض ما عدا الالتزام على نفسه به؟! فلا يقول بصحة هذا العقد وإباحة ما يترتب عليه من العوض إلا من يقول بصحة عقد الميسر، أي القمار وإباحة ما يترتب عليه من المال، إذ هما في الحكم سواء والكل واقع بالتراضي بينهما.

ثم إن العقود المحرمة مقرون بها الشؤم والفشل ومحق الرزق وانتزاع البركة يقود بعضها إلى بعض في الشر كما قيل من أن المعاصي بريد الكفر.

لهذا يظهر من مساوئ مثل هذا العقد أن الورثة من الأولاد والزوجة متى عرفوا من موروثهم تأمين حياته بهذا المال العظيم، أي قدر خمسين ألفًا أو أربعين وخشوا فوات هذا المال بطول حياته وتجاوزه للمدة المحدودة، فإنهم سيعملون عملهم مباشرة أو بالتسبب بالقضاء على حياته حرصًا على الحصول على هذا المال وحذرًا من فواته بطول حياته، لكون المال مغناطيس النفوس يسيل لعابها على حبه والتحيّل على فنون كسبه، مع العلم أن الناس قد ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم وضعف إيمانهم وفاض الغدر والخيانة بينهم.

وقد قص الله علينا خبر من كان قبلنا ليكون لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره.

فقال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَٱدَّٰرَٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٧٢ فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٧٣ [البقرة:72-73]. أي تدافعتم في الخصام.

وذكر ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه هو وارثه فاستبطأ موته فقتله، ثم حمله فوضعه ليلاً على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم، ويقول: أنتم قتلتم عمي. حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال عقلاؤهم وذوو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا نبي الله موسى فيكم؟ فاسألوه، قال: فأتوا نبي الله موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فأمرهم أن يذبحوا بقرة وأن يضربوه ببعضها ففعلوا ذلك فبعثه الله حيًّا سويًّا، فقال: قتلني ابن أخي فلان. فلم يورث قاتل ممن قتله بعد ذلك. ورواه ابن جرير بنحوه.

وتاريخ هذا العصر يحكي عن مثله، وهو أن رجلاً أمَّن حياة والدته لدى شركة التأمين، فبعد إبرام العقد وتسليم بعض الأقساط صنع قنبلة ووضعها تحت كرسي ثم أمر والدته أن تجلس على الكرسي، فثارت بها القنبلة حتى جعلتها قطعًا فذهب إلى شركة التأمين يطالبهم بعوض حياة والدته، فبعد إجراء البحث والتفتيش عرفوا تمام المعرفة أنها خيانة ومكيدة من الولد على والدته حرصًا منه على الحصول على عوض حياتها، وقد اعترف لهم بذلك بعد تحديه بالأمارات والدلائل.

وأما قولهم: إنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف، فإن حسن المقاصد لا يبيح المحرمات ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا [النساء: 135]. فكم من غني خلف أموالاً كثيرة فاجتاحتها أيدي الظلمة وأجلسوهم على حصير الفقر، أو صار هذا المال سببًا في فسقهم وفسادهم. وكم من رجل نشأ فقيرًا فرزقه الله مالاً كثيرًا، وفي الحديث «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله»[30] فاحفظ الله يحفظك أي في دينك ودنياك وفي أهلك وعيالك.

ثم إن القائلين بإباحة التأمين على الحياة لمّا لم يجدوا نصًّا يعتمدون عليه ولا قياسًا يستندون إليه، أخذوا يركبون التعاسيف في الصدر والورود ويستدلون بما يعد بعيدًا عن المقصود، شأن العاجز المبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت، أشبه بمن يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب.

من ذلك استدلالهم ببيع الوفاء، وهو أجنبي عن البحث في الحقيقة والمعنى فلا يمت إليه بصفة ولا صلة.

وصفته عند الأحناف هو أن يضع الرجل عقاره الذي تساوي قيمته ألفًا أو ألفين فيضعه عند رجل في خمسمائة أو أكثر ويكتب عليه بيع وفاء، يريدون من هذه التسمية أن يستحل المرتهن غلة هذا العقار ما دام باقيًا في يده بدون أن يرجع عليه مالكه في شيء من قيمة غلته في مقابلة ما ينتفع صاحبه بالدراهم، وإذا تحصل صاحب العقار على النقود استرجع عقاره بدون منازعة، لاعتقاد الجميع بأنه باق على ملك صاحبه.

وقد حدث هذا التعامل بهذه الصفة في بلدان فارس، قيل: في القرن الخامس. وأفتى الكثير من الفقهاء بكونه رهنًا لا ينصرف إلى غيره وإن سموه بيعًا لكون الاعتبار في العقود بالمقاصد وهما لم يقصدا التبايع الحقيقي وهذا هو الصحيح؛ لأنهما إنما قصدا بهذه التسمية محض التوثقة واستباحة الغلة فقط، والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها.

ثم إنه على فرض صحة ما ذكروا من أنه بيع مستقل بحالته وعلى صفته، فإنه مخالف للقياس في صيغ البيوع الصحيحة وما خالف القياس لا يقاس عليه عند أهل الأصول، مع كونه بعيدًا في القياس عن مشابهة التأمين على الحياة[31].

ثم استشهدوا أيضًا على جوازه بقضية عقد الموالاة عند الأحناف.

وصفته أن يقول رجل لآخر: أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عني. فيصح ذلك عندهم ويرثه إن لم يوجد من يرثه بفرض أو تعصيب أو ذي رحم، ويستدلون عليه بما روي عن تميم الداري، قال: سألت رسول الله عمن أسلم على يد رجل؟ فقال رسول الله ﷺ: «هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ»[32]. وفسروا محياه بالعقل ومماته بالميراث، وينسبون القول به إلى علي وابن عمر وابن مسعود، وهذا الحديث ضعيف جدًّا، قال في المغني: إنه ضعيف لا يصح. وقال الشافعي: الموالاة ليست بشيء.

والإمام أبو حنيفة يعترف على نفسه بأنه مزجي البضاعة من الحديث وقد ظنه صحيحًا فبنى على ظنه القول به وأخذه عنه أصحابه كما في الهداية وبدائع الصنائع وغيرهما، وكان أصل الحديث صحيحًا في بداية الأمر، ثم نسخ الحكم به وانقطع العمل بموجبه.

وأصل الموالاة في بدء الإسلام هو أن النبي ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار فآخى النبي ﷺ بينهم على المؤاساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوي أرحامهم إلى حين وقعة بدر، قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله.

ولهذا يقول الزبير بن العوام: إنا معشر قريش لمّا قدمنا المدينة قدمناها ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخى عمر فلانًا وآخى عثمان رجلاً من بني زريق بن سعد، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، فوالله يا بني لو مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله: ﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦ [الأحزاب: 6]. فرجعنا إلى مواريثنا. وبقيت المناصرة الدينية. ذكره ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم.

فما ينسب إلى عمر وعلي وابن مسعود فمحمول على ذلك في بداية الإسلام وإلا فقد أجمع الصحابة على نسخه، فلم يُحفظ عن أحد منهم القول به ولا الحكم بموجبه.

والوصية بماله كله ممن لا وارث له جائزة في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ولهذا قالوا: وتجوز الوصية بماله كله ممن لا وارث له.

والحكم في الموالاة على العقل هو الحكم في الإرث، على حسب ما ذكرنا وأنه منسوخ، وقد حكم رسول الله ﷺ بإيجاب دية الخطأ على العاقلة كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللهﷺ فقضى رسول الله ﷺ أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وَوَرَّثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يُطَلُّ؟ فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ». من أجل سجعه الذي سجع. فمضى الأمر على هذا وانعقد عليه الإجماع.

فكانت القبيلة تجلس لتوزيع الدية بينهم فيحمّلون كل شخص ما يستحقه على حسب مقدرته وقربه، وهذا من التعاون الواجب بحكم الشرع.

ومن محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد في المعاش والمعاد أن أوجب الله دية الخطأ على من عليه موالاة القاتل ونصرته، حيث إن هذا القاتل هو قريبهم ورحمهم، ولم يتعمد القتل وإنما وقع بغير اختياره وقصده فوجب عليه في خاصة نفسه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله كما أوجب الدية على العاقلة.

ومن المعلوم أن الجناية في الأصل تتعلق بالجاني، فلا يجني جان إلا على نفسه ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ [الأنعام: 164]. أي لا يحمل أحد ذنب الآخر، وكانت الدية في الأصل مائة من الإبل، وفي الغالب أن القاتل لا يستطيع حملها بجملتها فإيجاب الدية مع الكفارة عليه في ماله فيها ضرر عليه لعدم قدرته عليها، وإهدار دم القتيل من غير ضمان فيه ضرر على ورثته.

فكان من محاسن الشريعة أن أوجبت دية الخطأ على أقارب القاتل، أي عاقلته، كما أوجب الله النفقة على الأقارب، فإيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجب الشارع من النفقة على المضطرين ونحوهم، والأقربون هم أحق بالمعروف.

لأن المؤمن كثير بإخوانه غني بأعوانه ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2].

وهذه هي حقيقة التعاون بين الأرحام الواجبة في دين الإسلام.

ولا تحمل العاقلة العمد المحض ولا المال من قيمة عبد ونحوه ولا ما دون ثلث الدية.

والحاصل هو أن الأمة التي يبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال فيكفل أغنياؤهم فقراءهم ويعول أقوياؤهم ضعفاءهم ويعودون بفضل ما أوتوا إلى إخوانهم المعوزين ويعطفون على البائسين والمنكوبين - أنها لا بد أن تتسع تجارتها وأن تتوفر سعادتها وأن تدوم على أفرادها النعمة ما استقاموا على هذه الفضيلة ثم يكونوا مستحقين لسعادة الدنيا والآخرة.

* * *

[28] إن شركة التأمين على الحياة في حالة إبرام العقد مع من يريد تأمين حياته تقوم بعملية الفحص عن صحته وسلامته، فإن كان جسمه غير سليم امتنعوا عن التعاقد معه، أو عرفوا أنه سكير يشرب الخمر امتنعوا عن التعاقد معه على تأمين حياته، لعلمهم أن إدمان السكر يقصم العمر قبل انتهاء العمر المعتاد، ومن صفة الخمر أنها تقصر الأعمار وتولد في الجسم أنواع المضار. [29] أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والدراقطني والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي. [30] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي. [31] نقل مصطفى الزرقا في كتاب التأمين عن محمد يوسف موسى، ص29، قال: ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره، وقال أيضًا ص22: إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التي تفيد المجتمع. قال: والتأمين على الحياة يفيد المؤمّن كما يفيد الشركة.
قال: وأرى شرعًا أنه لا بأس به إذا خلا من الربا. انتهى.
وأخذ الشيخ مصطفى الزرقا يصوب استجادة هذا الاستنباط وكأنه رآه عين الصواب والسداد وجعله بمثابة العدة والعمدة في القياس والاستناد ولا شك أن مشابهة التأمين على الحياة ببيع الوفاء أنه بعيد جدًّا فلا مداناة فضلاً عن المساواة وكيف يقول: إنه لا بأس بالتأمين على الحياة إذا خلا من الربا وهو غارق في الربا إلى الآذان لكون وسائل الربا والبطلان محيطة به من جميع جهاته.
[32] أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده.

بيع أسهم الشركات

إن نظام التعامل والتعاقد في الإسلام لا ينحصر على أشياء معينة من العقود المسماة عند الناس، بل يجوز استحداث عقود أو تعامل تتساير مع العقود الصحيحة مع سلامتها من الربا والميسر وسائر وسائل البطلان.

وفي هذا الزمان لمّا كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات كشركة الكهرباء والأسمنت والأسمدة ونحوها من الشركات الاجتماعية المحلية التي يُفتح الباب فيها لكل مشارك، كُل على حسبه.

بحيث يجتمع في رصيدها مال كثير يقدر بخمسين مليونًا أو أقل أو أكثر، ثم تتوسع هذه الشركة وتنتشر ويكون عندها العقارات والسيارات وسائر الآلات والنقود وغير ذلك من الواردات والصادرات والديون لها وعليها من أجور وحقوق الموظفين وغيرهم.

وإذا أراد شخص أن يخرج بسهمه من الشركة أو مات ميت وله أسهم في الشركة وأراد ورثته أن يبيعوها لحساب تصفية تركته أو لوفاء دينه؛ فمن المعلوم أنه لا يمكن تخليص سهمه في الشركة ناضًّا خالصًا إلا بكلفة ومشقة مما يقتضي توقيف أعمال الشركة وتثمين أموالها وتعطيل سير عملها، لهذا صار من الأمر المصطلح عليه أن كل من أراد أن يخرج بسهمه من الشركة فإنه يجوز له أن يبيعه على غيره ويقوم المشتري مقامه فيما له وعليه.

غير أن بعض أهل العلم يشك في صحة هذا البيع بهذه الصفة بحجة أن المشتري لا يعلم كمية السهم المشترى ناضًّا، وهل فيه ربح أو خسران، وهذا مما يؤكد دخوله في الجهالة أو الغرر أو شراء الدراهم بالدراهم، هذا بعض تعليل من يقول بمنعه.

والصحيح أن بيع الأسهم بهذه الصفة يعتبر جائزًا مباحًا، لكونه من باب المخارجة، وقد أجمع الصحابة على صحتها والعمل بها في قضية مشهورة، حاصلها هو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه توفي عن أربع زوجات إحداهن تماضر الأشجعية وكان قد طلقها في مرض موته، فاستشار عثمان الصحابة فيها فأجمعوا على أنها تستحق الإرث كإحدى الزوجات، فبعد العلم منها بذلك طلبت الخروج من التركة بسهمها، وكان قد خلف أموالاً كثيرة من عقار ونقود وحيوان، ومن ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال من تقطيعه، وخلف ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة. ذكره ابن كثير في التاريخ.

فاتفق ورثته معها على أن يدفعوا لها ثمانين ألف دينار، فقبلت ذلك وجرى الدفع منهم فيه، ولم ينكره أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع منهم على جوازه في زمنهم.

وهذه هي نفس قضية بيع الأسهم من الشركات، سواء سميناه بيعًا أو صلحًا أو معاوضة أو مخارجة، إذ لا مشاحة في الأسماء، مع العلم بالحقيقة. وقال عطاء عن ابن عباس: إنه كان لا يرى بأسًا بالمخارجة يعني الصلح في الميراث. وسميت مخارجة لأن الوارث يُعطَى ما يُصالَح عليه ويُخرِج نفسه من الميراث، والاعتبار في مثل هذه القضية هو بعموم حكمها لا بخصوص سببها فلا يختص الحكم بجوازها بالميراث دون غيره مما يشابهه، بل الحكم في خروج الشخص بسهمه من الشركة كحكم خروج الوارث بسهمه من التركة، سواء وقع بلفظ الصلح أو البيع.

قال الموفق: ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان لا يمكن معرفته للحاجة.

فمتى حصل التبايع فيما لا سبيل إلى معرفته ناضًّا كأسهم الشركات المشتملة على العقارات والسيارات وأنواع كثيرة من الآلات والأثاث والنقود، وبما لها وعليها من حقوق وديون؛ فإنه يصح البيع والحالة هذه، لأنه إنما جاز مع الجهالة لإبراء الذمم وإزالة الخصام، وما روي عن الإمام أحمد من كراهية مخارجة المرأة عن ثُمنها، وأنه لا يصح واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثُمنها ولم يبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة، فمحمول على قصد خديعة المرأة عن حقها في عدم بيان ما خلفه زوجها من التركة.

فكراهة الإمام أحمد لها محمولة على الغش والكتمان من الورثة لمثل هذه المرأة، حيث لم يبين لها ما خلفه زوجها، وهذا شيء منتفٍ في مثل هذه الشركات، كما أنه منتفٍ في قضية ورثة عبد الرحمن بن عوف مع زوجته، وقد سبق إجماع الصحابة على إباحته، وشهادتهم عليه حال وقوعه، مع العلم بجهالة كمية سهمها ناضًّا من كل شيء، لكثرة أمواله من كل الأجناس حتى من جنس الذهب والفضة كما سبق ذكره.

وسواء كانت القيمة من جنس رأس المال أو من غيره، وسواء كان دون رأس ماله أو أكثر منه، لكون الشريك الذي يريد الانفصال يأخذ عوض حقه مع علمه بثبوت أصله، فهو عقد معاوضة كالبيع الصحيح. وغير مانع لصحته جهالة كل من المشتري والبائع لحصول الربح وعدمه، لكونه يصح الصلح عن المجهول، سواء كان عينًا أو دينًا، ولأنه متى صلح الصلح مع العلم بالمبيع ناضًّا بدون رأس ماله أو أكثر منه فلأن يصح مع الجهل به أولى.

وحيث أجمع الصحابة على جوازه في مخارجة امرأة عبد الرحمن بن عوف من جميع مخلفاته حتى الذهب والفضة، فإنه يصح في أسهم الشركة وتدخل النقود تبعًا كحلية السيف؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها فألحقوا النظير بنظيره في حلالها وحرامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، والله أعلم.

* * *

استصناع السّلعَة

إن كل ما يقع بين الناس من المشاكل في العقود والشروط والمعاملات، فإن له صلة وأصلاً من الفقه الإسلامي يرد إليه ويقاس عليه ويؤخذ صحته وفساده من نصوصه وأصوله.

من ذلك استصناع السلعة، أي طلب عمل صنعة من بناء أو نجارة أو حدادة، وهي عبارة عن إجراء عقد اتفاق بين المالك والمقاول على صفة شيء موصوف من بناء بيت أو سفينة أو أبواب أو شبابيك أو صناديق وغير ذلك.

بحيث يقول المالك للمقاول: أريد أن تبني لي عمارة صفتها كذا وارتفاعها كذا وفيها من الدور كذا وكذا. ثم يستقصي أوصافها اللازمة ويتفق معه على قدر معلوم من المال.

فهذا العقد بهذه الصفة يسمى عند الفقهاء: استصناع السلعة.

والظاهر من مذهب الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة، أنه لا يجوز، لأنه من بيع ما ليس عندك المنهي عنه شرعًا.

قال في الإقناع[33]: ولا يصح استصناع السلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم.

وخالف أبو يوسف صاحبه الإمام أبا حنيفة، فقال بجواز العقد في استصناع السلعة فإذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت في العقد لزم من كلا الجانبين وليس لأحد منهما الرجوع.. انتهى.

وعلى قول أبي يوسف هذا استقر عمل الأحناف على القول بصحته، وأدرجوه في مجلة الأحكام للحكم به.

وجرى عرف الناس في سائر الأمصار على العمل به وكأنه السبب الذي جعل الناس يتحدثون بأن مذهب الأحناف يساير التطور ويتسع رحبه للمعاملات الحديثة.

وكل شيء تعومل في استصناعه من بناء دور أو سفينة أو أبواب أو ثياب أو قدور أو شبابيك، فإنه يصح على القول بهذا ولا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حال العقد بخلاف السلم.

وليس للمالك إلا أقل ما تقع عليه الصفة.

وإذا لم يقع المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة في العقد فللمستصنع أي المالك الخيار بين قبوله ورده.

فقول الأئمة بمنعه بحجة أنه من بيع ما ليس عنده غير صحيح، فإن هذا العقد مشبه بالسلم الذي محله الذمة والذي يصح في المعدوم وفيما ليس عنده، كما في البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: كان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية: والزيت - إلى أجل مسمى. قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. لكون السلم محله الذمة.

ثم إن العادة والعرف والضرورة قد فرض التعامل بهذه الصفة على الناس في كل مكان وزمان فرضًا إلزاميًّا لا محيص لهم عنه، ولن يجدوا بدًّا منه لفخامة البنايات وسائر المقاولات التي لا يستطيع المالك أن يستقل بالتصرف فيها إلا بطريق الاتفاق مع المقاولين والفنيين والمهندسين.

ومن المعلوم أن العادة والعرف لهما مدخل في الشرع ويقدمان في بعض الصور على الأصل وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه فقال:

باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن.

قال في الفتح: قال ابن منير وغيره: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضى به على ظواهر الألفاظ.. انتهى.

ثم إن العقود والشروط والمعاملات في البنايات وسائر الصناعات هي من الأفعال العادية لا من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع، إذ الأصل في العقود رضى المتعاقدين، ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بمقتضى التعاقد وليس فيها ربا أو قمار ولا نص في المنع منها.

وقد توسع الناس في الاستصناع في هذا الزمان على اختلاف أنواعه حتى صار من أكبر المعاملات، بحيث يتفقون مع المقاولين ومع الشركات على بناء العمارات العظيمة ذات الطوابق والشقق، وكذا المدارس والمستشفيات والطرق وحتى المساجد والبيوت الصغيرة والكبيرة، كلها إنما تبنى غالبًا على سبيل الاستصناع بالصفات المتفق عليها بينهما. حتى صار من الأمر العرفي الجاري به النظام في كل بلد.

ويوجد في نصوص الفقه ما يقرب من صفته وما ينبغي أن يقاس عليه في القول بصحته، من ذلك عقد السلم، فإنه عقد على موصوف في الذمة معدوم حال العقد بثمن مقبوض.

ومن ذلك البيع بالصفة الذي ذكره فقهاء الحنابلة في كتبهم وحكموا بصحته.

والصفة نوعان: صفة معينة، كأن تقول: أبيعك عبدي الفلاني أو بعيري الفلاني الذي صفته كذا وكذا، ويستقصي في أوصافه كما يستقصي في أوصاف السلم.

والنوع الثاني: الصفة غير المعينة، كأن يقول: أبيعك عبدًا أو بعيرًا صفته كذا وسنه كذا، ويستقصي صفاته كما في السلم.

ويصح العقد في كلا الصفتين بشرط أن يسلم الثمن حال العقد قبل التفرّق ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه، كالبنيان ونحوه، فهذا ونحوه مما ينبغي أن يقاس عليه جواز الاستصناع إذ هو نظيره في الحكم والمعنى خلاف ما ذهب إليه الفقهاء من القول منهم بمنعه.

والأصل في الاستصناع أن يعمل الصانع الصنعة في محله كما يعمل النجار الأبواب في موضع نجارته، والحداد يعمل الشبابيك ونحوها في موضع الحدادة، فإن جاء بها مطابقة للأوصاف أخذها المستوصف، وإن لم تطابق الأوصاف ردها على صاحبها.

أما استصناع البناء، فإنه يزيد إشكالاً من جهتين:

الأول: من جهة كون المقاول يعمله في أرض المالك مما لا سبيل إلى رده إلا بهدمه وإتلافه.

والأمر الثاني: أنه بتجدد الأعصار أخذت مسائل الاستصناع التي يلزم بناؤها على مثل ما ذكره الفقهاء تختلف في مثل هذا العقد، حيث أدخلوا فيها أشياء كثيرة من الشروط والتحديدات والغرامات مما يتغير الحكم بدخولها في عقده، أضف إليه إدخال الكثير من الآلات والأدوات المتنوعة الجليلة والدقيقة مما قد يوجد في بلد العقد وقد لا يوجد.

* * *

[33] هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوي.

تحديد المدة للاستصناع ووضع الغرامة على ما زاد على المدة المضروبة

إن عقد الاتفاق الواقع على بناء العمارات والبيوت والفنادق والمستشفيات وغيرها قد أدخل فيه المتعاملون قيودًا وشروطًا تخرجه عن حكم الاستصناع الجائز الذي ذكره الفقهاء.

من ذلك تحديد مدة الإنجاز ووضع غرامة على ما زاد على المدة المحدودة عن كل يوم كذا وكذا يدفعها المقاول.

وهذه الغرامة بهذه الصفة لم يقل بجوازها أحد من الأئمة الأربعة لا الإمام أحمد ولا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة، وفيها من الأضرار على المقاول ما لا يخفى على عاقل إذ قد تذهب بأعظم مقاولته التي هي بمثابة أجرته وحاصل تجارته، إذ كل المواد الموضوعة في البناء ملك للمقاول.

وقد ذكر الفقهاء من الحنابلة من أنه لا يجوز الجمع بين المدة والعمل في باب الإجارة، وذلك بأن يقول: أريد أن تبني لي دارًا بكذا، بشرط أن تنجز في وقت كذا، لوقوع ما يمنع التنجيز في المدة المضروبة.

وقد قالوا بمنع الجمع بين المدة والعمل في وقت كان البناء فيه سهلاً ميسرًا ولم يكن صعبًا معقدًا.

وحيث إن العادة القديمة في إنشاء المقاولات على البيوت والعمارات وسائر البنايات بأن جميع موادها متساوية متيسرة، بحيث تبنى بالطين والحجارة واللَّبِن وتسقف بالأثل وجريد النخل وتلاص بالطين أو الجص وكل مواد البناء موجودة بداخل البلد أو بمحل العمل والأساتذة والعمال متيسرون وقت الطلب فالبناء كله بسائر أنواعه سهل مبسط غير عسير.

أما الآن وفي هذا الزمان، فقد صارت المقاولات على البنايات ذات الشأن هي من الأمور الصعبة العويصة الشاقة ولا يزال الناس يقومون ويقعدون في المحاكم في خصوص المنازعات والخصومات الناشئة عن الاختلافات في الصفات وتحديد الأوقات وفي الغرامات، ثم إن إدخال الغرامة فيما زاد على المدة المحدودة هي مما أركسها في الجهالة وكانت سببًا في اتساع شقة الخلاف مع الأسباب الناشئة عن عدم التطبيق ودخول الزيادة والنقص والتعديل والتبديل.

وسببه هو أن العمارة الواحدة ذات الشأن والمؤسسة على النظام الحديث يدخل فيها من الآلات والأدوات ما يزيد على خمسين مادة كلها تستجلب غالبًا من الخارج كالبلدان الأوروبية واليابان والهند والصين ونحوها.

مثل الحديد على اختلاف أشكاله وأدوات الكهرباء على اختلاف أنواعها، وكذا السخانات وأنابيب المياه والأدوات الصحية على اختلاف أشكالها، وكذا الأحواض والأصباغ على اختلاف أنواعها والبلاط الثخين والخفيف والأبواب والشبابيك والأسمنت وأشياء كثيرة مما نعرفه وما لا نعرفه.

وكل هذه الآلات والأدوات قد توجد في وقت ولا توجد في وقت آخر مع كونها لا تنضبط غالبًا أوصافها لاختلاف أجناسها.

لهذا رأينا التجار يشكون أزمة تعطيل وصول البضائع التي من جملتها مواد البناء، بحيث يعطون الموعد لوصولها في خلال ستة أشهر، ثم يمضي مع الستة أشهر ستة أشهر أخرى إلى نهاية السنة بدون أن يتحصلوا على وصولها، لأسباب الموانع المقتضية للتأخير من عدم وجود سفن التحميل أو تعطلها أو وقوع إضراب للعمال في بلدها ونحو ذلك.

أضف إلى ذلك أن كل مادة من مواد البناء فإنها تحتاج بطبيعة الحال إلى حذاق وصناع من المهندسين والعارفين لوضع الأشياء في مواضعها اللازمة بها من نجارين وحدادين وصباغين وغيرهم. وليس من الممكن الحصول عليهم وقت طلبهم لكثرة أعمالهم وطلب الناس لهم، فكانوا يعدون الشخص للحضور الأسبوع بعد الأسبوع ومن المعلوم أنه لا يقوم غيرهم مقامهم في إتقان أعمالهم.

وقد لاح الطمع لكثير من المالكين في الغرامة على ما زاد على المدة المحدودة فصاروا يعاملون المقاولين بالترديد والتلديد مما يعرقل سير عملهم بقولهم: هذا لا يصلح وهذا لا يصلح، حرصًا على انسحاب الأيام حتى تزيد على المدة المحدودة فتكثر بسببها الغرامة على المقاول.

لهذه الأسباب صار إنجاز العمل في وقته المحدد يتأخر اضطرارًا لا اختيارًا وحتى التجار الذين لديهم المؤهلات المقتضية لإنجاز عملهم ويبنون لأنفسهم على حسابهم الخاص، فإنهم يقدرون لإنهاء عملهم بعشرة أشهر، ثم يمضي مع العشرة عشرة أخرى بدون إتمامه وإحكامه، وهذا قد صار من الأمر المعروف المألوف عند كافة الناس.

أضف إليه ما يعرض للمقاول من عوز العمال وعدم وجود بعض المواد وكذا ما يعرض له مما يعرقل سير عمله من حوادث الزمان مثل الرياح الشديدة والأمطار والسيول والحر الشديد والبرد الشديد وكل هذه تحكم على المقاول ولا يستطيع أن يحكم عليها.

إذا ثبت هذا، فإن الحكم على المقاول بإلزامه بالغرامة على ما زاد على المدة، مع العلم بهذه الأعذار أنه حكم عليه بالجور وعدم العدل، ونتيجة هذا الحكم هو أن يستبيح المالك أكل مال المقاول وأجرة عمله وعرق جبينه ظلمًا بغير حق؛ لأن الذين فرضوا هذا الشيء سموها غرامة أي ظلمًا ونكالاً.

ولم يصح عن أحد من أئمة المذاهب الأربعة القول بصحته؛ لأن هذا التحديد ووضع الغرامة على ما زاد عليه يقع غالبًا من تكليف ما لا يستطاع كما ذكرنا ذلك والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وإنما وقع منهم على حساب الظن والتخمين في الإنجاز قصدوا به الحث والتحريض، وقد اتفق الأئمة الأربعة على عدم إباحة هذه الغرامة بهذه الصفة. فلا يحكم بإلزامها إلا من يحكم بإباحة الربا والقمار وسائر العقود المنهي عنها مما يتراضى عليه الناس من العقود الفاسدة، والله أعلم.

* * *

إجراء عملية وفاق وإزالة شقاق

إنه عندما تسوء الأوضاع ويستمر النزاع بين المالك والمقاول في البناء المتفق عليه ويتعذر تكميله أو إحكامه إما باختلاف الأوصاف أو عجز المقاول عن الإتمام لفراغ يده من النفقة أو امتناع المالك من بذل الأقساط اللازمة.

ومن المعلوم أن البناء المؤسس يعتبر من مال المقاول غالبًا، كما أن المالك ليس له إلا النقود المدفوعة في حسابه وعند الاختلاف في الأوصاف فإنه ليس للمالك إلا أقل ما يقع عليه الصفة، إذ ما من جيد إلا وفوقه أجود منه.

وحل النزاع وإزالة الخلاف يحصل بإجراء عملية الفسخ بينهما بطريقة سلمية يحفظ بها حق المالك والمقاول بلا وكس ولا شطط ولا ضرر على أحدهما فيها، وذلك بتقويم ما مضى من العمل بالنسبة إلى المقاولة.

فمتى كان المقاول قد أمضى شيئًا من عمل البناء، فإنه يقدر قيمة عمله بالنسبة إلى تقدير مقاولته، فمتى قدر أهل النظر عمل البناء بالنصف من المتفق عليه أُعطي نصف المقاولة، أو قدر بالثلث أُعطي ثلث المقاولة، أو قدر بالربع أُعطي ربع المقاولة، فمتى كانت المقاولة أربعمائة ألف وقدر البناء الذي أمضاه المقاول بأنه ربع المتفق عليه، فإنه يعطى الربع أي مائة ألف ويجري العمل في التقدير والتقويم على هذا الحساب.

لكون الفقهاء والقائلين بجواز استصناع السلعة قالوا: إنها إذا لم تقع على حسب الأوصاف، فإنها ترد إلى صاحبها، كما ذكروا ذلك في بيع الصفة عند اختلافها عن الأوصاف الجاري عليها العقد، فإنها ترد إلى صاحبها.

وهذا محمول على كون الصانع - أي المقاول - يعمل الصنعة في بيته كمثل الأبواب والشبابيك ونحوها.

أما قضية المقاولة على البناء الذي نتكلم عليه والذي يعمل الناس به، فإنه يقع غالبًا في ملك المستصنع - أي المالك - ويتعذر رده عند اختلاف الأوصاف لكون المالك حال البناء ينظر إليه ويتردد عليه دائمًا، فلا يمكن رده وإبطال عمله وهدم بنائه إلا بضرر كبير على المقاول.

لهذا يرجع في تقويم تقديره على حسب ما ذكرنا احتفاظًا بحق كل واحد منهما، ويرجع في العيب والنقص إلى قول أهل المعرفة فيسقط من قيمة المقاولة بحسب ما فيه من النقص والعيب.

فهذا حاصل ما نحكم به، ولكلٍّ رأيه على حسب مبلغ علمه، إذ القضية اجتهادية، والله أعلم.

* * *

بيع الأنموذج

يلتحق ببيع الصفة واستصناع السلعة بيع الأنموذج، إذ هو من جنسهما، والأنموذج هو أن يريه شيئًا ويتفق معه على أن المبيع من جنسه.

وقد جرى عمل الناس في هذا الزمان على التبايع بطريق الأنموذج، بحيث تعرض نماذج المبيع على التجار، ثم تستورد من الخارج على حساب ذلك ولا شك أن هذا أبعد عن الجهالة والغرر من بيع الصفة ومن عقد استصناع السلعة، فمتى قيل بجواز التبايع بهما فهذا من باب الأولى.

والظاهر من مذهب الحنابلة عدم جواز بيع الأنموذج، قاله في الإقناع وحاشية المقنع.

فمتى قلنا: إن من شرط صحة البيع معرفة المبيع برؤية أو صفة تكفي في السلم، فإن بيع الأنموذج يعتبر من المعلوم بالرؤية أشبه بوجه الصبرة الدال على معرفة ما تحتها، ومتى اختلف المبيع عن صفة المرئي رده على صاحبه، كما قلنا في تغير الصفة وظهور العيب في المبيع.

قال في الموطأ للإمام مالك: الأمر عندنا في الرجل يقدم له أصناف من البز ونحوه فيقرأ عليه برنامجه ويقول: في كل عدل كذا وكذا ملحفة بصرية وكذا وكذا ريطة[34] سابرية ذرعها كذا وكذا، ويسمي لهم أصنافًا من البز بأجناسه، ويقول: اشتروا مني على هذه الصفة فيشترون منه الأعدال على ما وصفه لهم، ثم يفتحونها ويستغلون ثمنها ويندمون. قال مالك: أرى ذلك لازمًا لهم إذا كان موافقًا للبرنامج الذي باعهم عليه. قال مالك: هذا هو الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا يجيزونه بينهم إذا كان المتاع موافقًا للبرنامج ولم يكن مخالفًا له.

فإن البرنامج لم يزل من بيوع الناس الجائزة والتجارة بينهم التي لا يرون بها بأسًا؛ لأن بيع الأعدال على البرنامج بدون نشر لا يراد به الغرر ولا يشبه بيع الملامسة المنهي عنه... انتهى.

وقد صارت عامة معاملات الناس عليه، والله أعلم.

* * *

[34] الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن رفقين. والجمع: رِيَط ورِياط. قاله في مختار الصحاح.

الأوراق المالية الجاري بها التعامل في هذه الأزمنة

إن كل عارف بنصوص الفقه وأصوله يتبين له أن هذه الأوراق الجاري بها التعامل قد قامت مقام التعامل بالنقود المعدنية من الذهب والفضة وانطبق عليها حكمهما، سواء بسواء في منع بيع بعضها ببعض نَساء وفي ضمانها بالإتلاف وفي وجوب زكاتها، وغير ذلك من سائر الأحكام.

وكان تعامل الناس في قديم الزمان منذ خلق الله الدنيا بالذهب والفضة، ولهما المكانة العالية والقيمة الغالية في نفوس الناس؛ لأنهما قيم نفائس الأموال والمعاملات والأرزاق، كما أنهما من زينة الحياة وجلب الخيرات، يقول الله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ [آل عمران: 14]. ويقول: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ ٣٤ [التوبة: 34].

وقال عن أهل الكهف: ﴿فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ [الكهف: 19].

والورق من الفضة كما حكى عن نبي الله يوسف: ﴿وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۢ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ ٢٠ [يوسف: 20].

والدراهم من الفضة وقال: ﴿۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗا [آل عمران: 75]. والدينار من الذهب، فهما العملتان الدارجتان عند الأمم قبلنا.

فمن حكمة الله ورحمته وجود هذين النقدين وعزتهما في النفوس، وعجز الناس عن صنعة ما يشبههما أو يقوم مقامهما في عزتهما ونفاستهما، على أن أهل الكيمياء قد بذلوا جهدهم وغاية اجتهادهم للحصول على مثلهما فلم يظفروا بذلك[35].

وقد جرى التعامل بهما زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه وأصحابه باسم الدنانير من الذهب والدراهم من الفضة. فأما الدراهم فنوعان: صحاح ومكسرة، فالصحاح يتبايعون بها عددًا والمكسرة يتبايعون بها وزنًا.

فاستقر عمل الناس ومعاملتهم على الذهب والفضة قديمًا وحديثًا، فكانوا يظنون كل الظن أنه لا غنى للناس عنهما، وأنه لن يقوم غيرهما في التعامل وقيم الأموال مقامهما أبدًا.

حتى روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ ما يدل على عدم التعامل بهما في آخر الزمان، وأن الناس يتبايعون بينهم بدون ذهب ولا فضة.

فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: كيف بكم إذا لم تجتبوا دينارًا ولا درهمًا - وفي رواية: لا صفراء ولا بيضاء - فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنًا يا أبا هريرة؟ فقال: والذي نفس أبي هريرة بيده إنه قول الصادق الصدوق.

فقد وقع مصداق ما أخبر به، بينما السامعون لهذا الحديث قد استغربوا سماعه واستبعدوا وقوعه لظنهم أنه لن تستقيم أعمال الناس ولا معاملتهم بدون ذهب ولا فضة، فوقع كما أخبر. نظيره خبره عن أرض العرب، وأنها لا تقوم الساعة حتى تكون أرض العرب مروجًا وأنهارًا وكانت توصف في الأزمنة السابقة بالأرض العابسة اليابسة قليلة الماء والنماء.

إن أسبق تاريخ عرفناه عن ابتداء اختراع الأوراق المالية والتعامل بها هو ما ذكره ابن بطوطة في رحلته إلى الصين[36].

قال: وأهل الصين لا يتبايعون إلا بقطع كاغد على قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وإذا تمزقت الكواغد في يد إنسان حملت إلى دار تشبه دار السكة وأبدلت بكاغد جديد بدون أن يعطي شيئًا من العوض عليها، وإذا مضى إنسان إلى السوق بدراهم فضة أو دنانير ذهبًا، يريد شراء شيء لم يؤخذ منه ولم يلتفت إليه حتى يصرفه بالبالشت - أي نقود الكاغد - ثم يشتري به ما أراد... انتهى.

فهذا هو أول تاريخ عثرنا عليه في التعامل بورق الكاغد.

أما بلدان أوروبا فيظهر من تاريخهم أن أسبق من استعمله فرنسا، ويسمى بلسانهم (بنك نوت)، ففي أشهر القواميس للغة الفرنسية، لصاحبه لاروس قال في تعريفه:

ورقة البنك هي ورقة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع على حاملها وهو يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية من الذهب والفضة، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها... انتهى.

فاستقر عمل الناس في التبايع بينهم بالأوراق النقدية كنقود معدنية، وذلك في كل مكان ولكل زمان دولة ورجال. وصارت هذه النقود بمثابة الأجناس المتنوعة أشبه الذهب والفضة فلكل دولة نقود تسمى باسمها، فيجوز التبايع بين هذه النقود متفاضلاً بشرط الحلول والتقابض حال العقد، ولا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة كالذهب مع الفضة، كما سيأتي بيانه.

* * *

[35] إن كلمة الكيمياء كلمة عبرانية يراد بها حق وباطل، أما الباطل فقد قالوا في تعريفه: إنه علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصها، وإفادتها خواص لم تكن لها كأن يجعل الحصى ذهبًا. وأول من تكلم في هذا العلم ووضع فيه الكتب خالد بن يزيد بن معاوية وأخذه عنه تلميذه جابر بن حيان وهو أول من نشره، وقد أنكر المحققون من العلماء هذا العلم الموهوم وبينوا بطلانه، لأن قلب الحصا ذهبًا لا يمكن أبدًا، وأنشدوا في ذلك:
كجوهر الكيمياء ليس يرى
من ناله والأنام في طلبه
ولما درس بعض المغترين بكتب جابر بن حيان ورأى أنها لا تفيدهم علمًا ولا تعود عليهم بطائل، كتب عليها:
هذا الذي بمقاله
غر الأوائل والأواخر
ما أنت إلا كاسر
كذب الذي سماك جابر

وكثير من مشاهير الأدباء قد فتنوا بطلب هذا العلم الباطل حرصًا على حصول المال من غير طريق الكسب المعتاد؛ ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: من طلب المال بالإكسير افتقر، والإكسير شيء يزعمون أنه إذا وضع على الحصا انقلب ذهبًا، ولما عجز بعض المغترين بطلبه عن إدراكه أخذوا يعللون عن عدم نجاحهم بمقاومة الحكام لهم، ويقول الطغرائي:
ولولا ولاة الجور أصبحت والحصا
بكفي أنى شئت در وياقوت
وهو كاذب في ذلك، بل سبب عدم نجاحه بطلانه في نفس الأمر والواقع؛ لأن هذا العمل بهذه الصفة مبني على الآمال والأماني الكاذبة التي هي رأس أموال المفاليس فهم يطلبون المال بالكيمياء ولا يزيدهم هذا الطلب إلا فقرًا، وهذا العلم وهذا العمل قد أنكرته العقول وترفعت عن الاعتراف بصحته وقد قيل:
أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب
أن يصنعوا ذهبًا إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة
إلا من الفضة المعروفة النسب
أما الكيمياء الصحيح: فهو العلم الذي يبحث عن المعادن والنباتات وطبقات الأرض، وما أودع الله فيها من الذهب والفضة والبترول وسائر الكنوز والنباتات والأدوية، وسائر المنافع باستخدام الوسائل من كل ما يؤهلهم إلى الوصول إلى الغاية وإدراك المقصد حتى توصلوا به إلى ما تحصلوا عليه من مطالبهم ومعارفهم النافعة؛ من المخترعات والصناعات الباهرة والأدوية الطبية وغير ذلك من الاختراعات النافعة، حتى صار اللؤلؤ الصناعي يشبه الطبيعي والدهن الصناعي يشبه الطبيعي والصوف الصناعي يشبه الطبيعي كله من ثمرة العلم بالكيمياء الصحيح الذي يشهد بصحته الحس والواقع، حيث دخلوا على العلم به من بابه واستخدموا في الحصول عليه سائر وسائله وأسبابه، وما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما علموا.
[36] ص160 الجزء2 من الرحلة. واسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، رحل إلى الهند والسند والصين وكثير من الأقطار وإلى اليمن والحجاز ثم استوطن فارس وانتهى من تحرير رحلته في 757 هجرية. وترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة لكنه لم يذكر تاريخ وفاته، كما أننا لم نعثر عليها والله أعلم.

البيان في حكم التبايع نسيئة بالأوراق الجاري بها التعامل في هذا الزمان

إن للعلماء أقوالاً مختلفة في الحكم في الأوراق المتعامل بها، أي فيما يتعلق بالتعامل بها وفي تحقيق المناط في إلحاقها بشيء من العقود المتعامل بها وفي حكم زكاتها، وفي حكم بيع بعضها ببعض نسيئة.

فبعض الفقهاء ألحقها بالعروض وبعضهم ألحقها بالسند على البنوك.

ويظهر أن هذه الأقوال صدرت منهم حال ابتداء اختراع التعامل بها وعدم الثقة بها في ابتداء أمرها، حيث جعلها بعضهم بمثابة العروض وبعضهم جعلها بمثابة الدين على البنوك الذي لا يثق به حتى يقبضه، فهي سند على نقود دين لم تقبض، هذا حاصل الأقوال منهم حالة ابتدائها وهو اجتهاد منهم يؤجرون عليه غير أن الاجتهاد يتبدل كما قال عمر في مسألة المشركة: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي[37].

إن حاصل الأوراق المالية في ابتداء أمرها حال اختراع التعامل بها كانت تصدرها الحكومات على اختلاف أجناسها، وتلتزم دفع المبلغ المكتوب عليها ذهبًا كان أو فضة، فحامل ورقة الذهب يقبض ذهبًا وحامل ورقة الفضة يقبض فضة من غير تأخير، فجرى العمل بذلك أزمانًا متعددة.

أما الآن وفي هذا الزمان، فقد زال هذا الالتزام؛ لأن الحكومات على اختلاف أجناسها أخذت تسك أوراق العملة بدون ملاحظة لما لديها من ذهب أو فضة، فهي تتمشى على عز الدولة وقوتها وسياستها في نظام تقوية عملتها، مما يقتضي الثقة بها وقبول البنوك لها.

إذ ليس في الإمكان الآن أن تدفع الحكومة ما لديها من ذهب وفضة إلى من بأيديهم الأوراق المتعامل بها، وإنما تحتفظ بالذهب والفضة في خزائنها، مع التزامها لسير عملتها وتعزيزها في التعامل بها كذهب وفضة.

ومن نظر إلى الأشياء بعين المعقول وطبقها على قواعد النصوص والأصول يتبين له بطريق الوضوح أن حكمة التشريع تقتضي جعل هذه الأوراق المتعامل بها بمثابة الذهب والفضة على حد سواء، بحيث تجعل ميزانًا للتعامل كالنقود المعدنية في البياعات وفي الديات وقيم المتلفات وأروش الجنايات وفي دخول الربا عليها ووجوب الزكاة فيها.

وليس عندنا ما يمنع جواز اختراع الناس لنقود من القرطاس أو النحاس أو الرصاص، يتعاملون بها كتعاملهم بالذهب والفضة، لا سيما إذا كانت هذه العملة مضمونة عن طريق الحكومة والبنوك فيتعلق بها من الأحكام وأمور الحلال والحرام ما يتعلق بالذهب والفضة والفلوس على حد سواء.

وبذلك يتبين أن الأوراق المالية على اختلاف أجناسها تقوم مقام الذهب والفضة في المنع من بيع بعضها ببعض نسيئة، وينطبق عليها - حكمًا ومعنى - ما ينطبق على بيع الذهب والفضة نسيئة؛ لما روى الخمسة وصححه الحاكم عن ابن عمر، قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ»، وفي البخاري و مسلم عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب، قالا: نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالورق دينًا. وفي البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».

وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» يعني هاك وهات[38].

ولهما من حديث عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وزنًا بوزن، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»، فكل هذه النصوص تتظاهر وتتفق على وجوب الحلول والتقابض حال العقد في النقدين. وإنما خص النبيﷺ الذهب والفضة بالذكر لكونهما المعيار الثابت في التعامل بهما في زمنه، حيث جُعلا قيمًا للأموال والمتلفات والديات وأروش الجنايات وبعض الكفارات.

وليس الحكم مخصوصًا بهما ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما ويعمل عملهما في الثمنية؛ لكون الحكمة في منع بيع بعضها ببعض نسيئة لم يكن من أجل نفاستهما أو صلاحيتهما للسبك والتحلي أو جعلهما خزانة نفيسة مدخرة، كل هذا لم يكن مرادًا من مقاصد الشارع، لأن هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله وعند رسوله، إذ هي والقرطاس سواء.

وإنما الحكمة هو عموم المصلحة في استقرار العملة وثباتها، بحيث لا تجعل كالعروض تهبط وترتفع ويزول منها الاستقرار والثبات الذي أُريد بها من أثمان المبيعات وقيم المتلفات والديات وأروش الجنايات والكفارات، ولهذا نهى رسول الله ﷺ عن كسر السكة الرائجة بين المسلمين.

وهذا مما يؤيد القول في علة المنع من بيع بعضها ببعض نسيئة، وأنه الثمنية كما هو الظاهر من قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، ورجح هذا القول العلامة ابن القيم في الإعلام، وقال: إنه أصوب الأقوال وأعدلها وهو أرجح من قول من قال: إن العلة فيهما كونهما موزونين كما هو الظاهر من مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد.

والقواعد الشرعية والقياس الصحيح يعطي النظير حكم نظيره ويسوي بينهما في الحكم ويمنع التفريق بينهما والاستدلال بالملزوم على لازمه وتعديه هذا الخصوص إلى العموم، لأن الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولما قامت الحجة على الناس في سائر أحكام الكتاب والسنة.

كما أن الصحابة رضي الله عنهم يقيسون الأشياء بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويلحقون بعضها ببعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم قاعدة تحقيقه وتطبيقه.

فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها، فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الدنانير بالدراهم ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة رحمة منه بأمته، ومن المستحيل أن يشرع من التبايع بهذه الأوراق النقدية ما يسقط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حرمه من التوصل إلى الربا - الذي لعن آكله ومؤكله وآذنه بحرب من الله ورسوله وشدد فيه الوعيد - لما يشتمل عليه من المفسدة في الدنيا والدين، ومع هذا يتحايل بعض الناس في التوصل إلى هذا الأمر المحرم بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم أن حكم النظير حكم نظيره وإنكار التفريق بين المتماثلين، فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل.

فالذهب والفضة مع الأوراق المتعامل بها وإن اختلفا جنسًا، فقد اتفقا حقيقة ومعنى لاعتبار كل منهما قيمة للأموال وتضمن بالإتلاف، ومتى كان الربوي يشارك مقابله في المعنى فإنه يشاركه في حكمة المنع، إذ لا يمكن أن ينهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالفضة دينًا، ثم يرخص فيما يماثلهما ويقوم مقامهما في الثمنية إذ الأحكام الشرعية تعطي النظير حكم نظيره.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العُمَل بعضها ببعض نسيئة هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الدراهم بالدنانير نسيئة.

لأن التبايع بهذه الصفة يفسد استقرار هذا النقد في الثمنية ويلحقه بعروض التجارة المعرض للارتفاع والهبوط وعدم الثبات والاستقرار، فيختل بذلك نظام التعامل من التقديرات للديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات وبعض الكفارات.

وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي هو ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. ولم ينه عن شيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وقد ظهر من ضرر هذا أنه يقود فاعله إلى ربا الفضل ثم إلى ربا النسيئة، ثم يترتب عليه المضرة الكبيرة من تراكم الديون على المعسر لسهولة الاستدانة بهذه الصفة.

ولأن صاحب الدراهم متى انفتح له باب الطمع في بيعها بدراهم مؤجلة خف عليه تحصيل الزيادة عن طريق الربا بدون تعب ولا مشقة، فيعامل بذلك المعسر وغير المعسر، فيفضي إلى انقطاع منافع الناس بالتجارات والأرباح المباحة، وينقطع المعروف بين الناس من القرض الذي يراد به الإرفاق والإحسان للمحتاج وقد قيل: إنه أفضل من الصدقة لكونه يقع عن حاجة. وقد أوجب الله إنظار المعسر بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ [البقرة: 280]. فقلب الدَّيْن عليه ربًا.

ولأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود سهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل ثم يقوده إلى ربا النسيئة ثم إلى المأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ.

إن المشاهدة في الحاضرين هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين.

لقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة رأيناهم قد وقعوا في ربا الفضل ثم قادهم إلى ربا النسيئة، وأخذت البنوك ترابي عليهم وهم نائمون على فرشهم؛ لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة -أي الجاهلية- الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن ولعن رسول الله ﷺ آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه من بين الأنام، وحقيقته أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء قالوا له: إما أن تقضي وإما أن ترابي، فيزيد من الربح ويمد له في الأجل حتى يصير القليل من الدين كثيرًا، ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء ولم يحرمه الله ورسوله إلا رحمة بالأمة لكونه يقوّض بالتجارات ويوقع في الأزمات والحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات[39].

وقد شوهد بالاعتبار أن كثيرًا من التجار الذين كانوا يخوضون في استدانة النقود من البنوك بلا مبالاة، لقصد التوسع في التجارات رأيناهم يجرون الويلات على أثر الويلات من جرّاء أضرار المراباة.

إذ قد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات وعدم إنفاقها في سائر الأوقات، أضف إليه ما يعرض لهم من حوادث الزمان فيعجزون عن وفاء ما عليهم من الديون فتضاعف عليهم البنوك على سبيل التدريج ما استدانوه حتى تستأصل حاصل ما بأيديهم من الأموال والعقارات، وصدق الله العظيم ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276]. ولهذا حمى النبي ﷺ هذا الحمى وسد الطرق التي تفضي إليه فحذر عن مقاربته رحمة منه بأمته ولا يجني جان إلا على نفسه وكل امرئٍ بما كسب رهين.

وسر الحكمة أن من قال بجواز بيع أوراق العملة بعضها ببعض نسيئة، واعتبرها كعروض، فقد فتح للناس باب الربا على مصراعيه وأباحه لهم بنوعيه وقادهم إلى فعل ما نهاهم عنه رسول الله.

لكن ها هنا أمر ينبغي أن لا نغفل عنه لعموم البلوى به.

وهو أن التجار الذين يستوردون أصناف البضائع من الخارج مثل البلدان الأوروبية وأمريكا واليابان والصين والهند وغيرها، فإنهم بداعي الضرورة يحتاجون إلى فتح اعتماد عن طريق أحد البنوك فيشترون النقود التي يريدون تحويلها بما يسمونها العملة الصعبة من البنوك، بحيث تدفع في محل ما يستوردون منه البضائع بنقود حاضرة ويأخذ صاحب البنك عليها شيئًا من النقود اليسيرة في سبيل قيامه بإجراء عملية التحويل كأجرة.

وهي نفس قضية شراء النقود الغائبة بنقود حاضرة لكنها أقل منها ضررًا وخطرًا لأنها ليست من البيع بالنسيئة الذي نهى عنه النبي ﷺ وإنما هي من باب شراء نقود بنقود حاضرة ثم إجراء عملية التحويل في هذه النقود إلى البلد الذي يريده.

فلو قيل بالمنع لتعطلت أعمال الناس ومعاملاتهم وكسدت تجاراتهم، إذ من المعلوم أن السفر بالنقد ممنوع.

ومن نصوص الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما.

لهذا نرى أنه لا بأس لهؤلاء التجار من شراء النقود الغائبة بالنقود الحاضرة لدعاء الحاجة إلى ذلك، فيشتري من النقود قدر حاجته قليلاً كان أو كثيرًا، كما يجوز للتاجر والصراف البيع عليه بهذه الصفة وتكون هذه القضية كالمستثناة للضرورة لثبات الرخصة الشرعية في أشياء من ربا الفضل مما تدعو إليه الحاجة، كبيع العرايا بخرصها من التمر مع جهالة التماثل وكبيع السيف بفضة، إذ لو قلنا بالمنع تمشيًا مع النهي بدون نظر إلى الضرورة لتعطلت أعمال الناس ومعاملاتهم[40]. والله أعلم.

[37] أخرجه الدارقطني والدارمي والبيهقي في الكبرى. [38] قد حصل الخلاف قديمًا بين الصحابة في بيع الربوي بجنسه متفاضلاً إذا كان حاضرًا، كصاع تمر بصاعين. وممن روي عنه القول بذلك ابن عمر وابن عباس، واستدل ابن عباس على الجواز بما روى البخاري في صحيحه، عن أسامة بن زيد، أن النبي ﷺ قال: «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» ورواه مسلم في صحيحه بلفظ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ولما حدثهم أبو سعيد الخدري بقول النبي ﷺ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ» وحدثهم بقصة العامل حين جاء إلى النبي ﷺ بتمر جنيب، فقال رسول الله ﷺ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال رسول الله ﷺ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»، فعند ذلك رجع الصحابة كلهم إلى قول أبي سعيد حتى ابن عباس، فقد شك بعضهم في رجوعه، والصحيح أنه رجع، وقال: أنتم أعرف منا بهذا أستغفر الله. ثم كان ينهى عنه أشد النهي. قاله في فتح الباري. والجمع بين هذا الحديث وبين حديث «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»، أي الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد هو في ربا النسيئة كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد. مع أن فيها علماء غيره، ومنه: لا سيف إلا ذو الفقار. و: لا فتى إلا علي. ومثل حديث: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ»، فهو نفي الأكمل لا نفي الأصل. على أن حديث أسامة مفهوم وحديث أبى سعيد منطوق والمنطوق مقدم على المفهوم. قاله في الفتح. [39] قال العلامة ابن القيم في الإعلام: الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم. والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي. فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذا حل الدين قالوا: إما أن تقضي وإما أن ترابي، فيؤخر قضاء دينه من أجل عسرته ويزيده في المال وكلما أخّره زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق للدين يصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له أو عوض يقبضه ويزيد مال المرابي فيأكل مال أخيه بالباطل، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم هذا الربا ولعن آكله ومؤكله وآذن متعاطيه بحرب من الله ورسوله ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره؛ ولهذا كان من أكبر الكبائر. انتهى (الإعلام: ص265/ج2). [40] قال العلامة ابن القيم في الإعلام (ص267- ج2): وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع فمنعوا منه لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا دراهم بدراهم أكثر منها تدرّجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة وهذه حكمة معقولة تسد عليهم باب المفسدة، وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان أي النقود بجنسها متفاضلاً أو نسيئة؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ويقودهم إلى ربا النسأ في الجنس والجنسين وربا الفضل في الجنس الواحد وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر أي ربا الفضل تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يُبَح شيء من ربا النسيئة. أما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كالعرايا؛ لأن ما حرم سدًّا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، بل إن ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال سدًّا لذريعة التشبه بالنساء، وقد أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه، كما رخص النبي ﷺ للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لباس الحرير من حكّة كانت بهما وكذلك عرفجة بن أسعد، قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من ذهب، وكذا ينبغي أن يباح بيع الحلية المصنوعة صياغة مباحة بأكثر من وزنها وتجعل الزيادة في مقابلة الصنعة.

زكاة الأوراق المالية

إن الأوراق المتعامل بها هي بمثابة النقود من الذهب والفضة على حد سواء في سائر أحكامها من زكاتها وغير ذلك.

وإنما سميت الزكاة زكاة من أجل أنها تزكي المال أي تنميه وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه كما أنها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103]. وقد صارت الأوراق المتعامل بها من أنفَس أموال التجار.

إن حكمة التشريع توجب الاحتفاظ بحق الفقير في ضمن الاحتفاظ بمال الغني؛ لأننا نجد البنوك مكدسة بالأوراق المالية وديعة للناس وبعضهم يحتفظ بماله في خزانة بيته وتبقى السنين الطويلة لا يؤدى منها الحق الواجب عليه من زكاتها.

وزكاة الأوراق هي بمثابة زكاة النقود من الذهب والفضة، فمتى ملك الإنسان من هذه الأوراق ما يقدر بمائتي ريال وحال عليها الحول وجب عليه فيها الزكاة ثم يجري الحساب على ذلك في أربعمائة عشرة ريالات وفي أربعة آلاف مائة ريال وفي أربعين ألفًا ألف واحد.

فحكم الورق المالي حكم الذهب والفضة في الزكاة؛ لأنه يتعامل بها كالنقدين تمامًا وعليها يحمل قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح، قال: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي وَعَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ»[41]، والرقاع: هي الأوراق المتعامل بها على اختلاف أجناسها.

ومن له وديعة نقود في البنك أو عند تاجر من التجار، فإنه يجب عليه زكاتها عند رأس الحول، سواء زكاها من الوديعة نفسها أو من النقود التي معه لكون الزكاة تجب في الذمة، فهؤلاء الذين يودعون النقود في البنوك ثم لا يؤدون زكاتها هم آثمون عاصون، وجدير بهذه النقود التي لا تؤدى زكاتها أن تنتزع منها البركة ويحل بها الشؤم والفشل ويحرم صاحبها من الانتفاع بها في الدنيا ويعذب بها في الآخرة، لأنها ما بقيت الزكاة في مال إلا أهلكته وكل ما لا تؤدى زكاته فإنه يعذب به ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥ [التوبة: 35].

أما الأسهم في الشركات كشركة الأسمنت وشركة الكهرباء وشركة الأسمدة وشركة الملاحة وسائر الشركات، فإنه يجب فيها على صاحبها الزكاة عند رأس كل حول، بحيث يخرج زكاة رأس ماله بالغًا ما بلغ، وإذا تحصل فيما بعد على شيء من الربح زكاه من حين يقبضه؛ لأن ربح التجارة ملحق بالتجارة.

وإن كانت قيمة الأسهم منخفضة عن رأس المال لكساد الشركة، بحيث إن سهم الألف لا يساوي في السوق إلا تسعمائة، فإنه يخرج زكاة تسعمائة فقط ويجري الحساب على ذلك.

والعقار قد أصبح في هذا الزمان من أنفَس مال التجار وأخذ الناس يصرفون جل أموالهم في بناء العقارات كأنهم رأوها أنفع لهم وأحفظ لمالهم، حتى إن أحدهم ليؤجر العمارة الواحدة بمائة ألف وأكثر وأقل، وما كان شرع الإسلام المبني على حفظ مصالح الخاص والعام ليهمل هذا المال الكثير بدون إيجاب حق فيه للمسكين والفقير، والله تعالى يقول: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103]. مع العلم أن الفقراء هم شركاء الأغنياء في قدر الحق الذي أوجبه الله في مالهم، والنبي ﷺ أمر أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع، وما أعد للكري فهو بمثابة ما أعد للبيع والشراء أشبه بالحلي المعد للكرى، فإن فيه الزكاة بإجماع العلماء.

ولسنا نقول بوجوب تثمين العقار وإخراج الزكاة حسب ما بلغت قيمته كعروض التجارة، فإن في هذا إجحافًا بالملاك ولا نقول بإخلائه من الزكاة، فإن فيه إجحافًا بالفقراء والمساكين.

وإنما القول الوسط في هذا المقام الهام أن ننحى به منحى النخيل والأراضي الزراعية المعدة للزرع متى زرعت أخرج زكاة الزرع من غلتها بالغة ما بلغت وإن لم تزرع ولم يحصل منها غلة فلا شيء فيها.

وكذلك العقار المعد للإيجار متى استؤجر أخرج زكاته من غلته حسب زيادتها ونقصها، فمتى كان الإيجار أربعة آلاف ففيه مائة ريال، أو أربعين ألفًا ففيه ألف واحد، ويجري الحساب على هذا المنوال، بحيث يخرج ربع العشر من الغلة بالغة ما بلغت، سواء أخرج زكاته عند رأس الحول وسواء أخرجها عندما يقبضها ولو عند كل شهر عملاً بقوله تعالى: ﴿وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦ [الأنعام: 141]. إذ الحكم واحد لا يختلف، والزكاة ربع العشر من كل ما يقبضه.

والأراضي المشتراة للتجارة حكمها حكم عروض التجارة، بحيث يخرج زكاتها عند رأس الحول على قدر قيمتها في ذلك اليوم فمتى قُدِّرت الأرض بأربعين ألفًا أخرج زكاة الأربعين ألفًا، ألفًا واحدًا.

أما المصاغات من الذهب الموجود عند النساء المثريات الذي يتخذنه خزينة لا زينة فيجب فيه الزكاة على قدر قيمته التي تساويه في السوق، فمتى قدر ثمنه بألف أخرج زكاة الألف، أي خمسة وعشرين ريالاً أو كان أقل أو أكثر، فبحسابه فزكِّي عن هذا الذهب بنقود الأوراق الجاري بها التعامل.

وليس على المسلم زكاة في السيارة التي يركبها ولا في السيارة التي يعيش عياله من كسبها ولا الآلات والأدوات التي يستعملها في سبيل التكسب بها كالحراثات والتركتورات والرافعات إذا كان كسبها لا يزيد عن قوته وقوت عياله قياسًا على العوامل التي أسقط النبي ﷺ الزكاة عنها، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وقد حصل الفراغ من تأليفه بتاريخ 11 شعبان سنة 1393هـ.

* * *

[41] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

(2) تحريم الربا بأنواعه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات وتنزل البركات وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان وجمله بالعقل وشرفه بالإيمان وأوجد له جميع ما يحتاجه من المآكل والمشارب المباحة على اختلاف الأنواع والألوان. وقال: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ [سبأ: 15]. ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ [طه: 81]. فأمر الله عباده بأن يأكلوا من رزق ربهم ما يشتهونه من الأكل الحلال والمشروبات المباحة وأن لا يطغوا فيه بأن يتناولوه من طريق الحرام.

فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بما يسخطه سبحانه، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.

وفي القرآن المنزل ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ[الطلاق:1]. وحدود الله محرماته كما في الحديث.. فمن اكتسب المال من حله وأدى منه واجب حقه فنعم المعونة هو وبورك له فيه، ومن اكتسبه من غير حله لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل فلا يشبع، وهذا أمر محسوس يشهد به الواقع الملموس، فإن الذين يكتسبون المال من الطرق المحرمة.. كالخيانة والسرقة والرشوة والمعاملة في المشروبات المحرمة أو يتحيل على الناس في شراء الشيء ولا يؤدي إليهم ثمنه أو يستأجر الأجير فيستوفي عمله ولا يؤدي إليه أجرته، فمن فعل ذلك فقد عصى ربه وأذل نفسه وتسبب في نقص رزقه وكان كالذئب يأكل ولا يشبع، وكسبه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء ويرجع إلى الوراء ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276].

فكل مال اكتسب من حرام فهو ربا وعاقبته إلى قلته كما في حديث ابن مسعود أن النبيﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، أو يَخْلُفُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ»[42].

أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع الحلال هو بيع المسلم للمسلم بلا غش ولا تدليس ولا خديعة ولا خيانة ولا غرر ولا ربا.. فهذا البيع بهذه الصفة من أفضل الكسب كما في الحديث أن النبي ﷺ سئل عن أفضل الكسب فقال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ».

فعمل الرجل بيده لسائر الحرف المباحة كالزراعة والصناعة محبوب عند الله فإن الله يحب المؤمن المحترف ويبغض الفارغ البطال.. وفي الحديث «مَنْ غَرَسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلاَ اعْتِدَاءٍ فَإِنَّ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، فَهُوَ يَجْرِي لَهُ هَذَا الْأَجْرُ حَتَّى وَلَوْ زَالَ عَنْ مُلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ».

والربا المحرم أنواع: أشده وأشره ربا النسيئة.. وهو أن يستدين النقود من البنوك أو من بعض التجار ومتى حل الدين ولم يجد وفاء مدوا في الأجل وزادوا ربحًا في الثمن على حد ما كان يقال في الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن ترابي.. فيربو المال على المدين حتى يصير كثيرًا. وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن ولعن رسول الله ﷺ آكله وموكله وشاهديه من بين الأنام.

وهذا الربا محرم في سائر الكتب وعند جميع الشرائع ويكفر مستحله عند جميع علماء المسلمين؛ لأن ضرر هذا الربا يقوض بالتجارات ويوقع في الحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات.. فكم سلب من نعمة وكم جلب من نقمة وكم خرب من دار وكم أخلى دارًا من أهلها فما بقى منهم ديار.

فالمتعاطي للربا يسرع إليه الفقر والفاقة ويحيق به البؤس والمسكنة ويلازمه الهم والغم ويندم حيث لا ينفعه الندم، وحسب المرابي في الشر كونه محاربًا لربه في حياته وبعد وفاته.. يقول الله تعالى: ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ [البقرة: 278-279]. وقد وصف الله المرابي في فساد تصرفاته بالمجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ [البقرة: 275]. وعدوا من هذا النوع قلب الدين على المعسر ولو ببيعه عروضًا وسلعًا لكونهما نفس ما نهى الله عنه.

والنوع الثاني: ربا الفضل وهو ما يفعله بعض الناس بحيث يستدين من البنك مائة ألف نقودًا بمائة ألف وتسعة آلاف مؤجلة إلى سنة. وقد حرمه الله على لسان نبيه لكونه يقود إلى ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، وهو ما يتعامل به الناس اليوم، بحيث يستدينون النقود من البنوك لتوسيع تجارتهم فيحل الدين وليس عندهم وفاء.. فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فراشهم فترابي بأصل الدين وبالربح حتى يكون القليل كثيرًا.

وشرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، قد حرم هذا العمل بدليل أنه حرم بيع الذهب بالفضة إلى أجل.. فقال ﷺ «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» متفق عليه من حديث أبي سعيد.

فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة وكونه ينطبق عليها ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» وكما روى البخاري ومسلم عن عمر أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» يعني يدًا بيد، فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نسيئة، وقد روى الخمسة وصححه الحاكم عن ابن عمر قال: قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ».

وليس الحكم مخصوصًا بهما ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما ويعمل عملهما في القيمة والثمينة، فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره وتسوي بينهما في الحكم وتمنع التفريق بينهما لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.

فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها في النقود المبدلة عن الذهب والفضة.

فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الدنانير بالدراهم ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة رحمة منه بأمته. لهذا نرى بعض الناس يتحيل إلى التوصل إلى هذا الأمر المحرم وإباحة تعاطيه بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم بأن حكم النظير حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العملات بعضها ببعض نسيئة هي نفس ما نهى عنه رسول الله من بيع الدراهم بالدنانير نسيئة.

وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.. وإن لم تظهر مضرته في الحال فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
إن صاحب الدراهم كصاحب البنك وغيره متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل ثم يجري المراباة بها فإنه يتحصل على الزيادة بطريق الربا بدون تعب ولا مشقه ولا رضا من المدين فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله.. بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ [البقرة: 280].

لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولا في ربا الفضل ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ.

وإن المشاهدة في الحاضرين هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين... فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة لقصد التوسع في التجارات أو شراء الأراضي والعقارات أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على إثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات وعدم نفاقها في سائر الأوقات.

أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان كإثارة الحروب أو الحريق وغيرها مما يؤذن بالكساد والركود فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276]. فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فراشهم.

لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء زادوا في الربح ومدوا في الأجل، فترابي بالدين وبربحه حتى يصير القليل كثيرًا؛ ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.

وقد حمى النبي ﷺ هذا الحمى وسد الطرق التي تفضي إليه وحذر أشد التحذير من مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه وكل امرئ بما كسب رهين.

لقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر والتحذير والوعيد الشديد من جريمة الربا ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات.. فمنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٣٠ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيٓ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢ [آل عمران: 130-132]. ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة هو أن يعامل به كل أحد فيرابي بأصل الدين وبالربح.

فأمر الله المؤمنين بتقواه وأن ينتهوا عما حرم الله ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر واجتناب النهي.. ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ [البقرة: 275]. ففي هذه الآية بيان بفساد سيرة المرابين وسوء سريرتهم وأنهم كالمجانين في تعاملهم بالربا وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم والحرام هو ما حرموه، ثم هم يتحيلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا.. فيرتكبون ما ارتكبت اليهود فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.

ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح وأنه متى جاءته موعظة هدى تردعه عن هذا الردى فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته فإننا لا نقول له: اخرج من مالك كله وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ من معاملته ﴿وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.

فمتى أسلم شخص مرابٍ وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص وجب أن يتخلى عن الربا منها أي الزيادة على رأس المال بإسقاطه لاعتبار أنه ملك الغير، ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها التي هي الربا الزائد على رأس المال لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩ [البقرة: 279]. وهذا معنى قول النبيﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»[43]، يعني بذلك إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة. ومثله صاحب البنك متى كان يعامل الناس بالربا وبالبيع المباح ثم تاب من تعاطي الربا فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى أصحابها، وما جهله مما طال عليه الزمان فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة وله ما سلف وأمره إلى الله.

﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ من معاملته ﴿وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ﴿... وَمَنۡ عَادَ إلى معاملته بالربا وأصر على معصيته ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥.

ثم أخبر سبحانه بسوء عاقبة الربا وأن مصيره إلى قلته وإلى انتزاع بركته من يد صاحبه أو من يد ورثته مهما طال الزمان أو قصر، إذ إن الفشل ومحق الرزق مقرون به؛ فقال سبحانه: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276]. وكل مال اكتسب من حرام فهو ربا.

ثم أعلن سبحانه الحرب على المرابين، فقال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ - أي ولم تنتهوا عن التعامل بالربا وعن أكله أضعافًا مضاعفة- ﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ [البقرة: 279]. لاعتبار أن المرابي عدو الله، ومن ذا الذي يطيق غضب الله ومحاربته.. لهذا قلنا: إنه لم يرد في جريمة من كبائر الذنوب أشد مما ورد في جريمة الربا.

لهذا عده رسول الله ﷺ من الموبقات التي توبق صاحبها في الإثم.. ثم توبقه في النار ولعن آكل الربا وموكله.

حرم الله الربا رحمة منه بعباده ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.. فهو أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر سواء فعله لضرورة أو لغير ضرورة، لكونه لو قيل بإباحته للضرورة لسهل على الناس تعاطيه بحجة الضرورة إذ كل أحد سيعرض له في حال حياته وماله شيء من الضرورة.

والنبي ﷺ خطب الناس بعرفة في حجة الوداع قبل موته بثلاثة أشهر فقال في خطبته: «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[44]. مع العلم أن الناس في ذلك الزمان في غاية الحاجة والضرورة فلم يبح تعاطيه لأحد ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ [الطلاق: 2-3]. ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ [الطلاق: 4]. فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
فإياك إياك الربا فلَدِرْهَمٌ
أشد عقابًا من زناك بنُهَّدِ
وتمحق أموال الرباء وإن نمت
ويربو قليل الحل في صدق موعد
ومما يلتحق بالربا التبايع في الأعيان المحرمة كالخمر ولحم الخنزير والصور المجسمة. فروى البخاري ومسلم من حديث جابر أن النبي ﷺ خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ» يعني الصور المجسمة على صورة الآدمي، فحرام بيعها وحرام اتخاذها في الدور فلا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة، وكذا بيع الخمر فإن الله سبحانه إذا حرم شيئًا حرم بيعه وأخذ ثمنه.

فقد لعن رسول الله ﷺ الخمر شاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه.. كل هؤلاء شملتهم اللعنة لتساعدهم على فعل هذه الفاحشة المحرمة وكله من الكسب الحرام الذي عاقبته إلى قلته. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

* * *

[42] أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود. [43] أخرجه مسلم من حديث جابر. [44] أخرجه مسلم من حديث جابر.

(3) الأحكام الشرعية ومنافاتها للقوانين الوضعية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام.

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه أنزل كتابه المبين وبعث رسوله محمدًا الصادق الأمين رحمة للعالمين وهدى للناس أجمعين.. فجاء بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، وقد سماه الله شفاء لعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، فقال سبحانه: ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

كما وصف رسوله بأنه رحمة للعالمين -أي الخلق أجمعين- فقال سبحانه: ﴿َمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء: 107]. كما أنه دين الخلق أجمعين.. قال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. وكتب سبحانه الرحمة والفلاح الذي هو الفوز والنجاح بخير الدنيا والآخرة لمن تمسك بهديه وحكم بشريعته.. فقال سبحانه: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ [الأعراف: 156-157].

فبما أن محمدًا رسول الله وخاتم المرسلين، فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع، فلا يجوز لأحد أن يحكم أو يتحاكم إلى غير شريعته، ولما رأى النبي ﷺ في يد عمر قطعة من التوراة قال له: «يَا عُمَرُ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَلَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي»[45].

كما قيل من أن عيسى عليه الصلاة والسلام متى نزل في آخر الزمان فإنه يحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وهو معدود من أمته.

وقد نصب سبحانه شريعة الإسلام لجميع الناس في الدنيا بمثابة الحكم القسط تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع وهو القرآن والسنة. يقول الله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء: 59].

وقد اتفق العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته. فهما ميزان القسط التي توزن بهما الأقوال والأعمال ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36]. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

إن لسلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين الفخر العميم والفضل العظيم، حيث بنوا للناس مجدًا شامخًا من فقه دين الشريعة الإسلامية المستنبط من نصوص الكتاب والسنة، وما تشتمل عليه من العقائد والقواعد والأحكام وأمور الحلال والحرام، قد بذلوا في تصحيحها وتمحيصها غاية جهدهم ونهاية وسعهم على حسب المناسبات.. فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام.

وقد قام بوضعها وأسس نظمها عدول أعلام وجهابذة علماء الإسلام، فأفنوا أعمارهم في سبيل الحفاظ على فقه هذا الدين وعلى صيانة هذا الكنز الثمين وعلى تهذيبه وتربيته وتبويبه، بحيث يدخل على كل قضية من بابها ويقف على حقيقة العلم بها من وسائلها وأسبابها، فانتفع الناس بعلمهم وحمدوا عاقبة أمرهم، وذلك من لدن عصر نزول القرآن إلى هذا الزمان، فنجح به كل من جرب العمل بموجبه.. فهو كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، فلا تقع مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها وبيان الهدى من الضلال فيها. كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية ما يدحضها ويبين بطلانها.

ولقد مر على هذه الأنظمة الشرعية أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وكل علماء المذاهب الأربعة متفقة على العمل بأصول عقائدها وقواعدها وفرائضها وفضائلها وحدودها وحلالها وحرامها، وليس فيها مادة واحدة يمكن حذفها ولا موضع واحد يحتاج إلى تعديل أو تبديل أو تغييره بغيره أو إزالة شيء من قوانين الشرع عن مكانه أو إلغائه للاستغناء عنه.. فهي باقية ما بقي الدهر صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الزمان والأحوال.

بينما القوانين الوضعية قد وُضِعت مرارًا وغُيِّرت مرارًا تمشيًا مع رغبة أهلها وتطوير أحوالهم وتغيير عاداتهم، وقد اعترف بذلك علماؤهم وقد أصبحوا اليوم فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم، ويتمنى الكثير منهم الرجوع إلى شريعة الإسلام لتنقذهم من مهالكهم وفوضى مدنيتهم.. ولا يزال ينكشف لهم عامًا بعد عام ضرورة حاجتهم إلى العمل بشريعة الإسلام. كما عملوا بها في إباحة الطلاق الذي هو محرم في شريعتهم، ويطالب بعضهم الآن بإباحة التعدد للزوجات وكذا الحكم بتحريم الخمر رجوعًا إلى شريعة الإسلام وكانوا يرونه مباحًا في عقيدتهم، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.

ولما ظهرت بدعة الشيوعية الاشتراكية، ضج من الخوف منها جميع الدول الكبرى، مثل: إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وأمريكا، خوفًا من أن تقوض تجاراتهم ومصانعهم وشركاتهم.. فأصدرت إنجلترا قرارًا في إحدى مجلاتها قائلة: إنه لا يستطيع أحد أن يقوم في وجه هذه الفكرة مع كثرة أنصارها وأعوانها سوى شريعة القرآن الذي فيه ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ [النحل: 71]. وفيه ﴿وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗا [الزخرف: 32]. وإنه يجب تعميم إدخال هذه الفقرات في سائر المدارس النصرانية حتى يتعلمها الشباب والشابات.

كما أنهم في هذا الزمان لما ابتلوا بالكوارث والفتن وانتشار الفواحش من القتل والنهب والسرقات وهتك الأعراض واختطاف النساء والأولاد وحرق الحوانيت المملوءة بالأموال والتجارات، أخذوا ينادون ويندبون شريعة الإسلام ويقولون: سلام الله على دين الإسلام الذي يحكم بقتل القاتل وقطع يد السارق والقبض على أيدي الجناة ويجعل الناس آمنين في دورهم وأوطانهم.. لأن الناس اليوم يتخبطون في ظلمات من الشقاوة وفنون من الجاهلية والهمجية وقد غرقوا في بحار التحلل وعبادة المال وبعدوا كل البعد عن ساحل السلامة ووسائل الراحة والنجاة.

لكون دين الإسلام هو دين البشرية كلها، عربهم وعجمهم ويهودهم ونصاراهم، فهو الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.

إن الشريعة الإسلامية هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، لأنها تهذب الأخلاق وتطهر الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق ومدارها على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.. فهي مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض.

ومتى استعرض العاقل المقاصد العالية التي هدى إليها القرآن والسنة والتي هي معرض اهتمام العلماء والعقلاء في هذه الأزمنة يجدها تدور على إصلاح الأفراد وإصلاح المجتمع وإصلاح العقائد وتطهيرها عن الشرك والبدع والخرافات، وإصلاح العبادات وإصلاح الأخلاق والمعاملات وإصلاح الشؤون الزوجية بما يسمونه الأحوال الشخصية، وإصلاح نظام القضاء والسياسة الحكيمة وإصلاح الشؤون المالية ومراعاة تثميرها بحسن تدبيرها وعدم تبذيرها، وتوسعة التجارات ورقيها في سبيل حلها مع أداء واجباتها.. وإصلاح الشؤون الحربية واحترام العهود ووجوب الوفاء بها، وفضل الصدق والأمانة وتحرير العقول والأفكار في سبيل ما ينفعها ودفع ما يضرها ومحاربة الجرائم على اختلاف أنواعها.

كما شرع القصاص والحد والتعزير لمصلحة استتباب الأمن وحصول السعادة والراحة لجميع المواطنين الذين يعيشون في ظل الشريعة الإسلامية وينتفعون ويتمتعون بالعمل بها.

وقد دخلت هذه الأعمال كلها في فقه الإسلام من كتاب الله العظيم وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم.

فهذا هو دستور المسلمين وقانون فرائضهم وفضائلهم ومنهاج سيرتهم وسيرهم، يستضيئون فيه بنور الله ويحكمون بما أنزل الله.. يقول سبحانه: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 49-50].

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا والمحاكم الشرعية مفتوحة في مشارق الدنيا ومغاربها، يتحاكم جميع الناس إليها، مسلمهم وكافرهم، ويقومون راضين بحكمها لاعتبار أنها محاكم شرعية عدلية دينية ومحاكم راحة ورحمة، فهم يعتزون بها حتى إن بعض ملوك المسلمين يسمون أنفسهم عبيدًا للشريعة.

كما شكا رجل إلى صلاح الدين الأيوبي خصمًا له. فقال صلاح الدين: لقد نصبنا المحاكم الشرعية لتحكم بينك وبين خصمك، لك أو عليك، وما أنا إلا عبد للشريعة أنفذ ما تحكم به.

ومن المشاهد بالاعتبار أن للقضاء الشرعي سيطرة فعالة على قلوب الناس وأن الناس يخضعون وينقادون لحكم الشرع لعلمهم واعتقادهم أنه شريعة دينهم فله القوة الفعالة والوازع القوي في نفوس الناس، بحيث يوقف كل أحد على حده ويقنعه بحقه ويقوم الخصم اللدود سامعًا مطيعًا له.

فمتى قيل للخصم اللَّجوج: هذا حكم الله ورسوله؛ وقف على حده وقنع بحقه وعلم بأنه لا مجال للجدل معه، فلا بد للناس من التشريع الإلهي الذي يفوق سائر ما وضعه الناس من الأنظمة والقوانين لكون علم الشريعة وأحكامها محيطًا وكفيلاً بحل جميع مشاكل العالم في حاضرهم ومستقبلهم. أما النظم البشرية، فمهما بلغت من إدراك وتفوق، فإنها لن تكفل للبشر سعادتهم ولا حصول الراحة والأمان والاطمئنان لهم ولا حل مشاكلهم على الوجه الأكمل، بل هي على الضد من ذلك. فإنها بِسَيْرِ أعمالها وقانون أحكامها تنشئ المشاكل وتسهل ارتكاب الجرائم من أجل أنه ليس فيها قصاص ولا حد ولا تعزير، ما عدا السجن الذي يعده أكثر المجرمين بمثابة الراحة عن الكد والتعب.. فالمحاكم الشرعية المبنية على أساس من العلم والعقل والعدل والسياسة الحكيمة، هي أكبر معين للحاكم والأمير، على سياسة مملكته وسيادة رعيته لكونه يتقي بها عذل العوام والإنحاء عليه بالملام فيما يتعلق بالقضاء والأحكام، فيسود بين الناس الأمان والاطمئنان.

إنه قد يوجد في القاضي الشرعي شيء من النقص أو التقصير، إما في العلم أو الحلم أو الجنف في الحكم لكونه بشرًا يعتريه من النقص ما يعتري سائر البشر.. إذ ليس من شرطه الكمال وأي الناس المهذب. فمن الحزم وفعل أولي العزم استبدال من هو أصلح منه به لكون التبديل قد يقتضي التعديل.

أما إبدال شريعة القوانين بشريعة الدين، فإنه يعد من الضلال المبين، ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50]. وقد سميت الأحكام بالشرائع واحدها شريعة لقول الله سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

وإنما سميت محاكم شرعية لكون الناس يشرعونها: أي يشربون منها ثم ينصرفون راضين بها، وقد أعطي القاضي الشرعي سعة وفرجًا عن الوقوع في الحرج في الحكم متى بذل غاية جهده ووسعه في حكمه. فإن له مع إصابته أجرين ومع خطئه أجرًا، كما ثبت ذلك في القرآن في قضية حكم داود وسليمان وكما ثبت ذلك في الصحيحين والحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.

ومن عادة القاضي الشرعي أنه يحتسب راحة الناس بقطع النزاع عنهم، فمتى تبين له الحق وأسفر له صبحه حكم به بدون تأخير وبدون أن يأخذه في الحكم به لومة لائم. وعليه مراعاة تقوى الله فيما تولاه، وأن لا يطمع شريف في حيفه وجوره ولا ييأس ضعيف من عدله، ويخلد كل قضية في السجل لحفظها والرجوع لها وقت الحاجة إليها.

ومن عادة القاضي الشرعي أنه لا يأخذ على قضائه أجرًا إلا ما جُعِل له من بيت المال، ولا ينبغي أن يمنعه قضاؤه وحكمه بالأمس متى تبين له خطؤه، وأن الحق في خلافه أن يرجع عنه، ويستأنف الحكم من جديد فيعطي صاحب الحق حقه حتى ولو بعد حلف المحكوم له، فإن اليمين لا تزيل الحق عن مستحقه، وإنما تقطع النزاع في وقته، بخلاف نظم محاكم القوانين الوضعية، فإنها مؤسسة على تطويل الدعوى وتمديدها بين نقض وإبرام وحكم واستئناف، وقد دخل فيها المحامون الذين يصنعون الدعاوى ويحبون أن تتصل الخصومة ولا تنفصم. وعلى إثر هذا التعليل والتمليل وصرف المال في سبيل اتصال الدعوى سئم الناس منها واشتد بغضهم لها وصار صاحب الحق يتخلى عن حقه الواضح استبقاء لراحته وتوفير ماليته.

إن القضاء الشرعي يتناول الحكم في أمر الدين وفي الأنفس وفي الأموال وفي الأعراض والعقول مع ملائمتها لكل بيئة وكل زمان ومكان؛ لأن شريعة الإسلام وما تشتمل عليه من الأحكام وأمور الحلال والحرام هي شريعة البشر كلهم، عربهم وعجمهم ومسلمهم وكافرهم وما كان هذا الدين ليتحمل أمانة رسالة البشرية كلها إلا وهو يحمل في تعاليمه وأحكامه وقواعده وعقائده ما يجعله كفيلاً وحقيقًا بهذه التسمية لينتهي بالناس إلى أن يكونوا آمنين على دينهم آمنين على أنفسهم، آمنين على أهلهم وأعراضهم آمنين على أموالهم.

أما محاكم القوانين الوضعية، فإنها من البلاء المبين على الناس أجمعين؛ لأنها محض آراء قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الزنا والربا والقمار وشرب الخمر ولا يدينون دين الحق، وهي مبنية على عزل الدين عن الدولة وعلى كون الرضا شريعة المتعاقدين.. فهي تبيح للناس ما حرم الله عليهم من أكل الربا أضعافًا مضاعفة، وكما تبيح الزنا الواقع بالتراضي إذا لم يطالب زوجها أو أحد أقاربها بمنعها، وكما تبيح شرب الخمر إذا لم يتعد بالسكر على أحد.

ومعنى إباحتها لهذه الجرائم: أنها لا تعاقبه عليها بطريق الحكم، بل تحميه وتحكم بصحة ربا النسيئة الذي اتفق الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على تحريمه، فهي تلزم بدفعه إلى المرابي من بنك غيره. وتبيح لكل ملحد وكافر، بأن يجهر بعقيدته غير محجور عليه في رأيه ويحمونه على ذلك كله، وبذلك تنتشر المذاهب الهدامة والعقائد الباطلة في كل بلد تسودها المحاكم القانونية.

كما ظهرت وانتشرت عقيدة البهائية والقاديانية في الهند تحت حماية الإنجليز لدعوى أنها من حرية الرأي التي يحترمونها. هذا هو الأصل في قانون فرنسا، الذي يقتبس منه الناس قوانين الأحكام في البلدان العربية، وقد يحذف منه شيء ويزاد شيء من الموافقة لشريعة الإسلام، لكنها بمجملها لا تتقيد بحكم شريعة الدين ولا تبالي بمخالفته.

كما أنها لا تعاقب الجناة مهما كبرت الجناية أو صغرت إلا بالسجن.. لهذا تكثر الحوادث في كل بلد تسوده المحاكم القانونية حتى تغص السجون بالجناة.. من أنواع القتل والنهب والسرقة وهتك الأعراض واختطاف النساء والأولاد وتحريق الحوانيت المملوءة بالأموال ويقع بهم ما حذرهم منه النبي ﷺ حيث قال: «ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا»[46].

وهذا بمثابة الدليل القاطع والبرهان الساطع الذي يشهد به الحس والواقع. يقول الله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ [فصلت: 53].

وليعتبر العاقل بالبلدان التي أغلقت فيها محاكم شريعة الإسلام، واستبدل أهلها بها محاكم القوانين ولينظر كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق.

ثم لينظر إلى البلدان التي يحكم فيها بشريعة الإسلام، يجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، يتمتعون بعيشة راضية مرضية وأخلاق كريمة زكية، قد فازوا وحصلوا على ما وعدهم به ربهم في قوله سبحانه: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ [طه: 123].

ثم إن المحاكم القانونية إنما فتحت في البلدان العربية في القرن العشرين الميلادي، الذي ضعف فيه العلم وساد فيه الجهل وامتد سلطان الإنجليز على البلدان العربية ففتحوا هذه المحاكم على كره من أهلها وألزموا الناس بالتحاكم إليها، فأصاب الناس من أكدارها وعموم أضرارها ما لا يحتسبون. والضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها.

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة شريعة الإسلام، وشنعوا عليها بحكمها بالقصاص بقتل القاتل عند طلب ورثة الدم لذلك. وقطع يد السارق وجلد شارب الخمر والزاني والقاذف والتعزير بالجلد على الجرائم تطهيرًا للفاعل وزجرًا له عن معاودة جريمته وعظة للناس.. فإن خير الناس من وعظ بغيره. وهذه الأعمال تعتبر من محاسن الإسلام وعموم مصالحه.

فهم ينسبون إقامة الحد إلى القساوة والوحشية، وقد جعلها الله تطهيرًا ورحمة، لأن من لا يكرم نفسه لا يُكرم. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18]. والمضار الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، أشبه بتجريح الطبيب في سبيل صحة المصاب بمرض..

كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأبدان بالعلل
فهؤلاء الذين يعيبون القضاء الشرعي بإقامة الحدود هم قوم يَزِنون الأشياء بموازين عائلة غير عادلة، ويحكمون عليها بعقول معتلة ومختلة لا تميز بين المحاسن والمساوئ، ولا بين المصالح والمفاسد، وهم القوم الذين صنعوا القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين من بين شيوخ ونساء وصبيان وحوامل وبهائم في سبيل الخضوع لحكم جائر.. فهذه هي القساوة والوحشية.

وقد اقتضت سنة الله في خلقه التي تظهر جلية لكل دارس لتاريخ الأمم وأسباب رقيها وسقوطها وانهيارها، أن الدولة التي تصر على المنكرات والمعاصي، وتظهر علانية بدون إنكار منهم أن الله يهلكها في الدنيا بالضعف والشقاق وإثارة الفتن وخراب العمران فتضعف قوتها وتزول منَعتُها ويتمزق شمل ملكها ويستولي عليها من يطمع فيها ويذيقها عذاب الذل والهوان.

إن مما يقوي الرجاء وينشط الأمل حينما نسمع بأن حكام المسلمين، والزعماء المفكرين في حالة المناسبات للجمعيات التي يعقدونها للتذاكر في شؤون أُممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ومحاربة الجرائم فيما بينهم نراهم يتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان منهم.. وهي أن الأمر الذي فل حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم بالقيام بواجبات دينهم، وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم، وأن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الله.. دين الإسلام، وتمسكهم بأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه وفضائله والتحاكم إلى شريعته.. فإن هذا هو الكفيل بإصلاح دينهم ودنياهم، فهم يتواصون ويتناصحون بهذا ولم يبق سوى التنفيذ.

إذ لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.. ولا أدري من الذي يحوز قصب السبق ويحظى بالفخر والفضل في التقدم إلى العمل به كي يقتدي به نظراؤه.. والفضل للمتقدم.

فإن وقاية الحكومة ورقيها واعتزازها بالحكم الشرعي الذي يحفظ رعاياها عن التعدي على الحقوق وانتهاك الحدود، إنه أعظم من تسلحها بالعدد الكثير من الحرس والجنود إذ القضاء الشرعي هو من أكبر ما تستعين به الحكومة على سياسة مملكتها وسيادة رعيتها واستقرار الأمن والهدوء في مجتمعها، وتقليل الجرائم في حدود ممالكها، لكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في الخير والشر وفي الصلاح والفساد فيسود الأمن والاطمئنان بين جميع الناس فيما بينهم.

ولا ينبغي أن يفوتنا التنبيه بمقتضى ما يتعلق بشأن القضاء والقضاة، وأن القضاء الشرعي أمانة الله في عنق المتولي له وهو منصب شريف.. منصب الأنبياء والخلفاء الراشدين، فقد كان رسول الله ﷺ قاضيًا وأبو بكر قاضيًا وعمر قاضيًا وعثمان قاضيًا وعلي قاضيًا، لكون القضاء في مواطن الحق هو مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر..

فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦ [ص: 26].

شرع القضاء الشرعي رحمة للناس وراحة لهم في قطع النزاع عنهم وإزالة الشقاق بينهم وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وردع الظالم ونصر المظلوم.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
فمن واجب القاضي أن يحتسب راحة الناس ورحمتهم بقطع النزاع عنهم وأن يحتسب التبكير في الجلوس للناس ليتمكن من إنجاز القضايا، وأن يفتح باب المحكمة على مصراعيه ليتصل به كل محتاج إليه، ثم يبدأ النظر في قضايا الناس الأول فالأول، كما نص على ذلك الفقهاء في أحكام القضاء، وليعلم أنه كالمستأجر لهذا الشأن عدد الساعات التي يجري بها نظام الحكومة الرسمي.

فهؤلاء القضاة الذين يغلقون أبواب المحاكم عليهم ويتركون الناس خلف الأبواب، يغشاهم الذل والصغار، وربما لا يفتح باب المحكمة إلا بعد مضي ثلاث ساعات أو أربع ساعات من أول النهار، لعدم احتفاله بأمر الناس وضعف الرقابة عليه.. وربما يمضي أكثر وقته في مصالح نفسه الخاصة، فشهر للحج وشهر للعمرة وشهر للمصيف في الطائف، ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام وهو بالحقيقة مستأجر شرعًا وعرفًا لحل مشاكلهم.

فهؤلاء بالحقيقة يعتبرون مخالفين لنصوص مذهبهم ونظام دينهم.. فإن جلوس القاضي في محل عمله لفصل القضاء بين الناس هو أمر واجب عليه وهو مستأجر له، وهو أفضل من تطوعه بحجه وعمرته وصيامه بمكة، لكون هذه ليست بواجبة عليه وقد لا تصح منه والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تحريرًا في 8 جمادى الآخرة 1397هـ.

* * *

[45] أخرجه أحمد من حديث جابر. [46] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر.

(4) كلمة الحق في الاحتفال بمولد سيد الخلق

[رد سماحة الشيخ على رسالة: الاحتفال بذكر النعم واجب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة مُبَرَّأَةً من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه واختاره لحمل نبوته وتبليغ رسالته، فأوحى إليه ما أوحاه، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وعملوا بمقتضاه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قدَّم إليَّ أحد العلماء الكرام رسالة قد أبدى إنكاره لما تضمنته من الكلام وتحريف آيات القرآن، وطلب مني بإيعاز من أهل بلدها بأن أعلق عليها ما عسى أن ينتفع به أهل الإسلام نصيحة لله وللخاص والعام.

وهذه الرسالة عنوانها الاحتفال بذكر النعم واجب، وقد سمى مؤلفها نفسه بالعلامة السيد حامد المحضار!!

فبعد التصفح مني لمبناها من مبدئِها إلى منتهاها والوقوف على حقيقة مغزاها ومعناها، تبين لي بطريق الوضوح بأنها دعاية سافرة إلى وجوب الاحتفال بالمولد النبوي! وكان اعتماده واستناده في تأييد هذه البدعة بدعة أخرى قد اخترعها بنفسه، بدون أن يسبقه إلى القول بها أحد من علماء المسلمين! وهي بدعة الاحتفال بالنعم، وأنه واجب، فاستدل للبدعة ببدعة وللمنكر بمنكر وزور! فعلى مَن سَنَّها وزر مَن عمل بها إلى يوم الحشر والنشور.

ثم أخذ يركب في سبيل تعلية باطله وتحلية عاطله فنونًا من التضليل والتعاسيف في التأويل والاستدلال بما ليس له فيه دليل والزيغ عن سواء السبيل.

ويدل فحوى كلامه على نقص علمه وقصور رأيه وفهمه، وأنه حائر مبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت، وبما أنه يُخشى أن ينخدع بهذه التسمية بعض العوام وضعفة العقول والأفهام، فيظنوها حقًّا وهي بالحقيقة باطل، أحببت أن أبين ما تحت هذه الكلمة من الضلال وسوء الاعتقاد في الأقوال، فإن غايتها الضلال، وإنه بهذا العنوان قد طبع رسالته بطابع البطلان، حيث جعل الاحتفال بالنعم واجبًا على الناس! وهي بدعة منه ولم نر من سبقه إلى القول به ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤ [الأحقاف: 4]. وينبغي أن نفهم معنى هذا الاحتفال الذي حكم بوجوبه على الناس لغة وعرفًا، إذ الواجب هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، قال في القاموس: الاحتفال: الاجتماع، مأخوذ من حفل القوم واحتفلوا إذا اجتمعوا واحتشدوا، ومحفل القوم ومحتفلهم: مجتمعهم، وفي الصحاح بمعنى ذلك.

فقوله: إن الاحتفال بالنعم واجب، هو بدع من القول وزور وليس له مستند من المأثور، ولم يقل به عالم مشهور، فإن نعم الله على العباد كثيرة ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآ [النحل:18]. فلو أن كل نعمة ينعم الله بها على عباده يجب الاحتفال لها لعطل الناس منافعهم ومتاجرهم وبيعهم وشراءهم في سبيل الاحتفال لكل نعمة فتنقلب النعم في حقهم نقمًا.

وإنما الواجب الشكر عند حلول النعم وزوال النقم، والشكر هو الاعتراف بالنعمة باطنًا والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها في مرضاة وليها ومسريها، وكان النبي ﷺ إذا جاءه أمر يُسَرُّ به خرّ ساجدًا شكرًا لله على ذلك. فمتى أنعم الله على العبد بالصحة والعافية فمن واجبه أن يستعمل صحته في طاعة ربه والمحافظة على أداء واجباته من صلاته وصيامه وسائر ما خلق لأجله، مع مراعاة ما ينفعه في دنياه من وسائل الكسب وسعة الرزق وطلب الحلال المباح ومن كل ما لا يضر بدينه، فإن هذا من واجبات عمله ويدخل في عموم شكر صحته، وإذا أنعم الله عليه بالغنى بالمال، فمن واجبه أن يقوم بأداء زكاته وصلة أقاربه والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فإن هذا هو عنوان شكر النعم المستلزم لنموها وبركتها وثباتها ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧ [إبراهيم: 7]. وإذا أنعم الله على الإنسان بالعلم وبالذكاء والفطنة والمعرفة، وجب عليه أن يصرف هذا العلم في سبيل ما ينفع الناس من اتباع السنن واجتناب البدع، بدلاً من أن يشوّق الناس إلى مثل هذه البدع بالدلائل البعيدة في سبيل تأييده وتمهيده لها.

إن من طبيعة البدعة على اختلاف أنواعها التمدد والتفجر، ثم التنقل من بلد إلى بلد على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، حيث إنها تبتدئ بالأفراد على سبيل الاستحسان، ثم بالجماعات، ثم تقود إلى ما هو شر منها، بحيث تكون الآخرة شرًّا من الأولى، ويكون كل عام شرًّا من الذي قبله، ثم ينشأ عن البدعة فنون من البدع تقود إلى ما هو شر منها، كما رأيت من فعل هذا الكاتب، حيث حمله تعصبه على تأييد بدعة الاحتفال بالمولد النبوي إلى القول منه بالاحتفال بالنعم وهي بدعة جديدة لم نر من سبقه إلى القول بها، وقد استباح تحريف القرآن وصرفه عن المعنى المراد منه في سبيل إثبات هذه البدع بالدلائل البعيدة في سبيل تأييده وتمهيده.

وقد قال العلماء: إنه ما ظهرت بدعة إلا رفع مقابلها من السنة، فتمسُّكٌ بسنّة خير من إحداث بدعة.

وأكثر ما يفسد الإسلام زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ولولا من يقيمه الله من العلماء الصالحين لدفع ضرر الملحدين ودحض حجج المبطلين لفسد الدين، ولكن الله سبحانه بفضله ورحمته لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وهذا الاحتفال بالمولد الذي يبالغ الكاتب في تحسينه وتأييده، يفحش في مكان دون مكان وزمان بعد زمان، حتى أشيع في بعض البلدان أن من لم يحضر المولد فإنه كافر!! وأن من لم يقم عند ذكر الرسول ﷺ فليس بمسلم!! وهذا من فنون تنوع البدع، وكل بلد لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، وليس فيها رقابة دينية تمنع محدثات الأمور والبدع، فإن من اللازم أن تنشأ فيها فنون من البدع والمذاهب الهدامة من كل ما يزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح ويقودهم إلى الإلحاد والتعطيل لعدم ما يمنع إنشاء هذه الأشياء من أصلها؛ لأن إنكارها هو مما يقلل فشوها وانتشارها، ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤ [آل عمران: 104].

ومبنى الشريعة على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض فهي قائمة على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.

أما الاحتفال بالنعم أو بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام أو بالإسراء به، فإنها كلها من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فهي من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله ﷺ وقال: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[47] لكون البدعة في اللغة هي الزيادة في الدين بعد كماله، وفسرت بأنها ما فُعل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع، وهذا الوصف منطبق على الاحتفال بالمولد أو الإسراء أو الاحتفال للنعم.

وأكثر من يشيدها وينشطها هم العلماء القاصرة أفهامهم والناقصة علومهم مما يجعل العامة يغترون بهم وينبعثون على أثرهم، وباستمرار فعلهم لها خاصة في هذا اليوم المعين يستقر في نفوسهم فضلها أو فرضها، والعامي مشتق من العمى، وقد قيل: ويل للعامة من علماء السوء. وقد وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه العامة، فقال: إن أكثر الناس همج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئون بنور العلم ولم يلجؤوا من الدين إلى ركن وثيق أقرب شبهًا بهم الأنعام السائبة، اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله على عباده أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، يقيم الله بهم حججه على عباده حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم ([48]. انتهى.

وشبهوا غلط العالم بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير، وقد وصف النبي ﷺ طريق الهدى وطريق الضلال، وأن على كل طريق من طرق الضلال شيطان يدعو إلى بدعته. وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود، قال: خط رسول الله ﷺ خطًّا مستقيمًا فقال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ» ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ» ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ [الأنعام: 153]. وقد سُمِع من بعض العلماء المضللين في محفل محشود ومجمع مشهود عُقِدَ لذكرى مولد الرسول، فقال للحاضرين: إن من لم يقم عند ذكر الرسول فليس بمسلم!! فلينظر العاقل إلى هذه الكلمة التي طاش بها عقله وهواه فجعل فيها الحق باطلاً والباطل حقًّا، وقد قيل:
وعبادة الأهواء في تطويحها
بالدين فوق عبادة الأصنام
وقد قال أنس بن مالك: إنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ وكانوا لا يقومون إذا رأوه، لما يعلمون من كراهيته لذلك، بل يجلس حيث ينتهي به المجلس[49]. وهذه سنة رسول الله ﷺ وسيرة أصحابه في حياته، فما بالك بذلك بعد موته، وما هو إلا محض الغلو الذي نهى عنه، وروى أبو داود بسند جيد عن عبد الله ابن الشخير، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبيﷺ فقلنا: أنت سيدنا. فقال: «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى». قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ».

وعن أنس رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ ولَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أَنَا مُحَمَّدُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رواه النسائي بسند جيد.

﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ [الأحزاب:21]. فالرسول حَمَى حِمى التوحيد وسد طرق البدع والغلو فيه بالإطناب في المدح بالشعر أو النثر، لكون الإطناب في المدح ليس من هديه، وقد ورد النهي الشديد عنه وكذلك الصحابة من بعده بالغوا في حماية الدين وسد طرق البدع، لكون البدع بريد الشرك، وأول ما دخل الشرك على الناس هو بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثانًا يعبدونها، ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أناسًا يتسللون لواذًا جماعة وفرادى إلى شجرة، قال: ما هؤلاء يذهبون؟ قالوا: يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي ﷺ الصحابة تحتها ويصلون فيها. فقال عمر: اقطعوها، فإنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم، حتى جعلوا آثارهم معابد، فأمر بقطعها، فقطعت فكان آخر العهد بها[50]، فرحم الله عمر الفاروق، فإنه لو ترك هذه الشجرة بحالها لصارت وثنًا يعبد من دون الله، بدعوى محبة رسول الله ﷺ كما سنوا بدعة المولد والإسراء، بدعوى محبة رسول الله ﷺ.

لكون البدع كبدعة المولد وغيرها تبدأ بالأفراد، ثم تشتهر وتنتشر بالجماعات، فتنتقل من بلد إلى بلد، لكون الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر، وفي نفوس الناس قبول للباطل، بحيث تألفه ويتمركز فيها محبته، وقد حُفت النار بالشهوات، كما حُفت الجنة بالمكاره.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ بمثابة الحماة دون دخول البدع على الدين؛ لأن كل بدعة تحدث، فإنه يُرفع مقابلها من السنة، فاقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، فمن ذلك ما روى الدارمي، قال: أخبرنا الحكم بن مبارك، أنبأنا عمر بن يحيى، قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أ َخَرَج أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، فجلس معنا فلما خرج ابن مسعود، قال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد أمرًا أنكرته. قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصًى، فيقول: كبروا مائة؛ فيكبرون مائة، ويقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة؛ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا أنتظر أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يحصوا سيئاتهم وضمنت لهم بأن لا يضيع شيء من حسناتهم. ثم مضى ووقف عليهم، فقال: يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، والذي نفسي بيده إنكم مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. فقال: وكم من مريد للخير لم يصبه. إن رسول الله ﷺ حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله لعل أكثرهم منكم. قال عمر بن سلمة: لقد رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج، انتهى.

ولن تجد أفصح ولا أنصح من رسول الله في إنذاره وتحذيره عن البدع. فقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله ﷺ إذا خطبنا احمرت عيناه واشتد غضبه وعلا صوته، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ويقول: «إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ؛ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»[51].

رجعنا إلى مناقشة صاحب الرسالة على علاته ووضوح زلاته ويظهر أنه متعصب في الجهالة، غير عارف بحقائق الدلالة، مع ما به من الغرور على مساوئ أقواله.

فتراه يقول: إنك حين تقرأ هذه الرسالة باستيعاب يحملك على أن تحسب لكاتبها ألف حساب وتوقن أنك أمام فكر عميق وسيولة في التحقيق والتدقيق!!

فالجواب أن نقول: إنه لما نشر هذا الإعلان لإعلام الخاص والعام، بأن لديه الفكر العميق وسيولة علم في التحقيق والتدقيق، أصغينا إليه الآذان وأفرغنا له الأذهان، وتتبعنا ما عسى أن يورده من عميق الفكر والبيان والدليل والبرهان، فنتبعه على الرغم منا والإذعان؛ لأن واجب المسلم قبول الحق والانقياد له، لكننا لما بحرنا عميق فكره وجدناه سرابًا بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وأنه من بعد تتبعنا لهذه الرسالة والوقوف على حقيقة ما تقتضيه من الدلالة وجدناها أضغاث أحلام ولم توف بشيء من حقيقة البيان أو الدليل والبرهان، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. سبكناه[52] ونحسبه لجينا[53]
فأبدى الكير عن خبث الحديد
إنه لم يأت على صحة ما يقول بدليل صحيح من المنقول أو المعقول، ولم يأت بقول أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من علماء المسلمين.

وإنما رمى بهذه الكلمة على سبيل الغرور والجزاف غير موزونة بمعيار الصحة والصدق والإنصاف، ثم أخذ يركب لتحقيقها التعاسيف في الصدور والورود، ويستدل لها بما يعد بعيدًا عن المقصود، ديدن الحائر المبهوت، يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.
أقام يعمل أيامًا رويته
فشبه الماء بعد الجهد بالماء
ثم قال: إن كثيرًا من أئمة علماء الإسلام من الحفاظ والفقهاء وأصحاب السير كتبوا عن المولد النبوي وما سبقه من الإرهاصات وما ترتب عليه من البركات، مما يحتاج كل قادر على التأسي بهم في هذا الميدان.

فالجواب: أن هذا حق وقد أراد به الباطل، فإن كل متصد للدعوة إلى الباطل فإنه يقدم أمام دعوته من الترويج بالحق ما يستدعي ستر الباطل تحته وقبوله معه لكون الناس لا يقبلون الباطل المحض، وإنما يقبلونه إذا كان ملبوسًا بحق، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١ [آل عمران: 71]. فلبس الحق بالباطل هو تغطيته به، بحيث يظهر للناس أنه حق وهو في الحقيقة باطل، ومن لوازم هذا اللبس كتمان الحق وعدم بيانه، لعلمه أنه لو بيّن الحق لم يتم مقصوده في تنفيذ الباطل، وهذا كله منطبق على تصرف هذا الكاتب وإن سمى نفسه بالإمام العلامة! فكان فيه حظ وافر ونصيب كبير من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨ ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٩ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ١٠ [الحج: 8-10].

فأخبر الله سبحانه، أن من الناس من يجادل في الله بغير علم نقلي يرشده إلى التحقيق، ولا هدى عقلي يهتدي به لسلوك أقوم طريق، ولا كتاب منير ينقل منه ويقتدي به، بل هو مسلوب الرواية والدراية ومصروف من الهداية ﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ: أي متكبرًا عن قول الحق وقبوله ليضل الناس عنه، فجمع بين الضلال والإضلال، ثم إن أكثر علماء الإسلام والحفاظ وأهل السير كتبوا في مولد رسول الله وبينوا حمل أمه آمنة بنت وهب به وذكروا ولادته ورضاعه، وخروجه رضيعًا إلى الصحراء مع مرضعته حليمة السعدية كسائر أولاد قريش لكونهم يستمجدون رضاع نساء البوادي لأولادهم، وذكروا نشأته وحضانة عمه أبي طالب له، ومبدأ نبوته وحماية أبي طالب له ودخوله مع عمه في الشعب ومعارضة قومه لدعوته، كل هذا يكتبونه ويقرؤونه في المساجد وفي المدارس وفي المجالس وفي كل الحالات وسائر الأوقات بعقل وأدب واحترام، لا يقصدون بكتابتهم تشييد أو تنشيط هذه الاجتماعات والاحتفالات التي أحدثها الناس، فإن علماء السلف متفقون على أنها من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله أشد النهي، لكونها محدثة في الدين وتقود إلى ما هو شر منها، فإن البدع بريد الكفر، وحسبك أنه قد شاع في بعض البلدان أن من لم يحضر المولد فإنه كافر! ومن لم يقم عند ذكر ولادته فإنه كافر!! فكل هذا وأمثاله نتيجة هذه البدعة. وإنما يقصدون في ذكر مولده الاحتفاظ بتاريخه، إذ هو نبي الرحمة، ولم نجد في شيء من الكتب المعتمدة القول باستحباب التجمع والاحتفال بمولده ولا في اليوم الذي أُسري به، ولم نجد من علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين من يقول: إن الاحتفال بالنعم واجب كما يقوله هذا الكاتب ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤ [الأحقاف: 4].

ثم قال: وهذا أوان الشروع في مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي وتأييده بالأدلة العقلية والنقلية والاجتماعية بما لم يسبق له مثيل، وذلك أن ميلاد محمد صلوات الله وسلامه عليه نعمة وكذلك ميلاد أنبياء الله وحملة رسالاته، ولقد نوه القرآن بميلاد مريم وابنها ونوّه بميلاد يحيى بن زكريا، ولقد احتفل القرآن بميلادهم وإليك بعض الآيات التي احتفلت بميلاد من سبق ذكرهم، ثم ساق في استدلاله صدر سورة آل عمران وبعض آيات من صدر سورة المائدة. انتهى كلامه.

فالجواب: أن نقول: إن كل ما ذكره من الأدلة العقلية والنقلية والاجتماعية في مشروعية الاحتفال بالنعم، فكله من الكذب المكشوف المفترى على الله وعلى كتابه ودينه، قصد به نصر رأيه وإعلاء كلمته واستباح لأجله صرف القرآن عن المعنى المراد به بتحريفه عن مواضعه، فكان كما قيل:
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشروط فكان ذا بطلان
وإن هذه الآيات التي سردها والأقوال التي أسندها واستدل بها، كلها خارجة عن موضوع البحث الذي يريد تأييده، فلا يتعلق به بصلة، ولكنه مزجى البضاعة من معرفة الصناعة، إذ موضوع البحث مشروعية الاحتفال بمولد الرسول وبمولد سائر الأنبياء، وبما أن الاحتفال هو التجمع والتحشد، ولا أدري من أين أخذ وقوع هذا الاحتفال بمريم وعيسى ويحيى بن زكريا! وأين مكانه ومتى زمانه؟ وهل وقع في السماء من الرب مع ملائكته أو في الأرض! وأين الدليل الشرعي في صحته ومكانه؟ ولكنه لجهله العريق وجفائه العميق يوهم الناس أن الاحتفال بمولد الرسول أنه مجمع عليه بالمعقول والمنقول وهو كذب وزور، فكل العلماء المحققين بريئون مما يقول، فهو لجهله لا يفرق بين المشروع وغير المشروع ولا بين ما فُعِل للعادة أو للعبادة.

وقد قيل: إن أفضل الكلام ما جلَّى الحقائق وهدى لأقوم الطرائق، وهذا الكاتب قد اعتاد إلقاء مثل هذه الجمل من كيس نفسه على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف؛ لأنه قد صرف جُلَّ عقله وعمله واهتمامه إلى تأييد رأيه والتمويه على الناس بصحته، وهو باطل من أصله ولم يورد حرفًا واحدًا لصحته، وكأنه يملي كتابه على قطيع من البقر لا على علماء من نقاد البشر، الذين يعرفون المعروف وينكرون المنكر، والحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، إذ لولا من يقيمه الله لحماية الدين ودحض شبه الملحدين ودفع بدع المبتدعين لفسد الدين.

والمقصود أن بركة الرسول ﷺ على أمته لا تعد ولا تحصى، وأنه رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين، وقد امتن الله ببعثته على المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل عمران: 164]. فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.

ولما قسم رسول الله ﷺ غنائم حنين وأعطى المؤلفة كل واحد مائة من الإبل فوقع في نفس الأنصار شيء من ذلك وقالوا: يعطي غنائمنا صناديد العرب ويَدَعُنا. فسمع رسول الله ﷺ بخبرهم فجمعهم ثم قال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي؟» وفي كل كلمة يقولون: الله ورسوله أَمَنُّ، ثم قال: «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ بِالْمَالِ، وَتَنْصَرِفُوْنَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟». قالوا: قد رضينا، قد رضينا.[54] وسيأتي الكلام على هذه الآية فيما بعد إن شاء الله.

إن رسول الله ﷺ لم يطلب من أمته على هدايته ودعوته مِنَّةً ولا على عمله مكافأة وأجرًا إلا بالدعاء وكثرة الصلاة والتسليم عليه ثم بمتابعته بامتثال أمره واجتناب نهيه؛ لقوله ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»[55]، وألاّ يعبدوا الله إلا بما شرع لا بمجرد الاستحسان والبدع، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٨٦ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٨٧ [ص:86-87]. فليس من شأن الرسول ولا من هديه الإطراء والمبالغة في مدحه بشعر شوقي أو غيره، بل هذا من منهياته، فقد قال ﷺ: «لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». رواه البخاري ومسلم. والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والثناء، وقد قدمنا قول عبد الله بن الشخير، لما قدم في وفد بني عامر، فقالوا: أنت سيدنا وأفضلنا، فقال: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ ولَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ، عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ». مع العلم أنه سيد الأولين والآخرين على الإطلاق، وأنه أفضل الناس على الإطلاق، ومع هذا قال: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ»، كله حرص منه ﷺ على حفظ أصل الدين لئلا يتجارى بهم الهوى في حبه إلى الغلو الذي نهى عنه بقوله: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»[56] لأنها إنما عبدت قبور الأنبياء بالغلو في محبتهم.

فهذا قوله في حياته وينطبق على حالته بعد وفاته؛ لأن ما كرهه في حياته فإنه يكرهه بعد وفاته، كما كره العلماء رفع الصوت عند قبره.

وقد بالغ هذا الكاتب في مدح شوقي على شعره ورفع عقيرته بمدحه، حيث إنه قد وافق هواه في الإطراء، ومتى جاء سيل الله بطل نهر معقل.

ثم قال: قد يعترض معترض ويقول قائل: إنه ليس فيما ذكرتموه سابقًا دليل ناصع على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على النحو المعروف. ونحن نقول: إن هذا الاعتراض لا يصلح ردًّا لمشروعية الاحتفال بنعم الله ومنها ميلاد محمد عليه الصلاة والسلام!!

والجواب: إن من عادة الله في خلقه أن كل من أسر سريرة أو استبطن عقيدة، فإن الله سبحانه يظهر سر عمله وعقيدته على فلتات خطابه وصفحات كتابه، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه وعادم الخير لا يعطيه، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ [محمد: 30]. وهذا الكاتب قد اعترف على نفسه بما عسى أن يقول الناس فيه بأنه ليس فيما يورده دليل صحيح على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي لا من القرآن ولا من قول الرسول ولا من قول أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المذاهب! فهذا مجرد اعترافه على نفسه وهو واقع والناس صادقون فيما يقولون: فمن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من طبيب داؤه من دوائه وعلته من حميته، بل ثبت عن رسول الله ﷺ ما يدل على صريح النهي عنه حيث قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»[57] وهذا من محدثات الأمور بإجماع علماء المسلمين وإن سماه من سماه بدعة حسنة، فليس في الشرع بدعة حسنة، بل كل بدعة سيئة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ثم إنه حاول الفرار من هذه البدعة إلى بدعة أخرى وهي أشنع منها وهي بدعة الاحتفال بالنعم، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإن استدلاله بالاحتفال بالنعم هو استدلال فاسد بالنص والقياس ولم يقل أحد ممن يُحتج به: إنها سنة أو بدعة حسنة، وحسبنا شهادته على نفسه بأنه ليس فيما يورده دليل صحيح على مشروعية هذا ولا ذاك، فكان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا!! وغايته أنه يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط عشواء، والعالم النحرير والمفكر البصير إنما يستدل بالدلائل المنقولة والمعقولة مما يشهد علماء المسلمين بصحته؛ لأنها أوقع في القلوب وأليق بالقبول، لأن العلماء يحاربون البدع بالسنة، أما القول الخارج عن معيار الصحة من سائر أقوال الناس، فإن كل أحد يقدر على رده والمقابلة بضده، فيكون استدلال بدعة ببدعة يزداد بها الطين بلة.
إذا استشفيت من داء بداء
فأكثر ما أعلك ما شفاك
إنه متى ساء الفهم ساءت النتيجة، وإذا ساءت النتيجة فسدت الغاية، لقد رأينا هذا الكاتب -هداه الله- لما تقحم الخوض في موضع سُنيَّةِ الاحتفال بالمولد النبوي وجعله بدعة حسنة، ولم يجد دليلاً واضحًا يؤيده ولا نصًّا صريحًا يسنده اضطره انتصاره لهذه البدعة إلى بدعة أخرى قد سنها بنفسه ابتداء ولم نعلم من سبقه إلى القول بها وهي الاحتفال بالنعم، ثم استباح في تأييدهما صرف القرآن عن مواضعه إلى غير المعنى المراد منه، ليقيم من ذلك حجة على الاحتفال بالنعم والاحتفال بالمولد النبوي، فأكثر في سبيل ذلك من الصدر والورود والاستدلال بما يعد بعيدًا عن المقصود، ديدن الحائر المبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت! ويظهر أنه مزجى البضاعة من هذه الصناعة، فليس للشريعة مُعَظِّمًا ولا للقرآن محترِمًا ولا للحديث موقِّرًا، فانظر إلى كلامه في سائر كتابه تجده لا طالب أثر ولا متبع خبر ولا مناضلاً عن سنة ولا راغبًا أو مُرَغِّبًا في أسوة حسنة، يتلاعب بالقرآن العظيم ويحاول أن يجعل منه أمثالاً للبدع السيئة ليخدع بها العوام وضعفة القول والأفهام.
وإذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في لباس صديق
ثم قال: ولدينا دليل آخر مدني أنصاري نقله إمام السنة أحمد بن حنبل وحكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، قال أحمد: ثبت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله ﷺ قالوا: لو نظرنا يومًا فاجتمعنا وذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا، فقالوا: يوم السبت. قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم. قالوا: الأحد. قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم. قالوا: فيوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة، فذبح لهم شاة فكفتهم. انتهى.

فالجواب: أننا بحمد الله نؤمن بالكتاب كله من كل ما ثبت عن الله ورسوله، ولسنا ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وهذا الذي ذكره من اجتماع الأنصار يطالبون بيوم يجتمعون فيه لعبادة ربهم هو صحيح كما وصف، وأما صلاتهم الجمعة، فإنما وقع بأمر من النبي ﷺ لما تتابع المهاجرون إلى المدينة، أمر مصعب بن عمير، بأن يصلي بهم الجمعة ويترجح أنها فرضت الجمعة مع فرض سائر الصلوات، والله سبحانه قد افترض الصلوات الخمس وآكدها صلاة الجمعة والتي هي عيد الأسبوع والتي هي أفضل من عيد الأضحى وعيد الفطر، فاختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة، نحن الآخِرون السابقون». وفي رواية «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له» فافترضت الجمعة على النبي ﷺ بمكة كسائر الصلوات الخمس، لكنه لم يتمكن من إقامتها بمكة من أجل أن المشركين يمنعونه من ذلك، ولما هاجر بعض أصحابه إلى المدينة أمر النبي ﷺ مصعب بن عمير بأن يصلي الجمعة بالناس.

قال عبد الرحمن بن كعب -وكان قائد أبيه بعدما عمي- قال: كان أبي إذا سمع أذان الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت: يا أبت إنك إذا سمعت أذان الجمعة ترحمت لأسعد بن زرارة. قال: نعم أي بني إنه أول من جمع بنا في حرة بني بياضة في نقيع الخضمات فذبح لنا شاة فتغدينا عنده، قلت: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين. رواه أبو داود وابن ماجه.

وقد استدل به من اشترط لصحة الجمعة حضور أربعين من أهل وجوبها وليس فيه دليل قاطع على اشتراط هذا العدد؛ لأنها قضية حال وافق كونهم أربعين بدون تحديد لهذا العدد منه عليه الصلاة والسلام والصحيح أن الجمعة تصح ولو بدون أربعين ولو بدون اثني عشر من أهل وجوبها ومن غيرهم.

أما أول جمعة صلاها النبي ﷺ مباشرة منه، فهي في مسجد بني عبد الأشهل بالمدينة، حين قدم مهاجرًا فوافق قدومه يوم الجمعة فنزل على أبي أيوب الأنصاري فصلى بالناس.

وسميت جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع، وأن أهل الإسلام يجتمعون فيها في كل أسبوع مرة يتفرغون فيها لعبادة ربهم، وأنزل الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٩[الجمعة:9]. لهذا حرّم الفقهاء تعدد الجمع لغير ضرورة، والنبي ﷺ قال: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: مَمْلُوكٍ، وَامْرَأَةٍ، وَصَبِيٍّ، وَمَرِيضٍ». رواه أبو داود من حديث طارق بن شهاب، وقال: لم يسمع طارق من النبي ﷺ، رواه الحاكم عن طارق عن أبي موسى.

وهذا الاجتماع هو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد تواترت الأحاديث الكثيرة في فضلها والمحافظة على فعلها والوعيد الشديد في تركها، فروى مسلم عن ابن عمر، قال: سمعت النبي ﷺ يقول على أعواد منبره: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدَعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» فلا يقاس هذا الاجتماع المشروع على الاجتماع للمولد الذي ليس له أصل من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل الصحابة والتابعين ولم يقل بمشروعيته أحد من أئمة المذاهب، ويترتب عليه مفاسد كثيرة فكيف يقاس على يوم الجمعة الذي يجتمع فيه المسلمون لعبادة ربهم؟ منهم المصلي ومنهم التالي للقرآن ومنهم المسبح والمستغفر، وإذا قام الخطيب يذكرهم استمعوا له وأنصتوا، ولهذا كره للرجل أن يتخطى رقاب الناس وأن يتكلم والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، أو من قال لصاحبه: أنصت. فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، والجمعة الصحيحة تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام، فهذا الاجتماع بهذه الصفة هو شرع الله الحكيم ودينه القويم الذي قال الله فيه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

أما الاجتماع للاحتفال بمولد الرسول أو الإسراء والمعراج أو الاحتفال بالنعم، فإنه من شريعة المخلوقين، ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ [الشورى: 21]،فكيف يقاس شرع الله الحكيم بشريعة المخلوقين الذي قام بتشريعه علماء الضلال فتبعهم العامة عليه؛ لظنهم أنه دين وحق وهو باطل في نفس الأمر والواقع؟ إذ لو كان خيرًا لسبقونا إليه، ثم إن أكثر هؤلاء يخدعون العوام ويغشونهم ويلبسون عليهم باسم الدين فيجعلون لهم الباطل حقًّا والبدعة سنة، بسبب ما يترتب على هذا الاحتفال من المآكل الشهية، كما يقول هذا بأنه مشروع بالأدلة العقلية والنقلية والاجتماعية، ثم يقيسه على اجتماع الناس للجمعة والعيد ويجعل صوم النبي يوم عاشوراء، حيث أنجى الله فيه موسى وقومه أنه من الاحتفال بالنعم، وكذا صوم النبي للاثنين الذي ولد فيه أنه من الاحتفال بالنعم، فيا سبحان الله، متى كان الاحتفال بالنعم مشروعًا؟ وفي أي كتاب وجده؟ أو أي عالم قال به؟ وإذا كان الاحتفال هو التجمع ومحفل القوم مجتمعهم، فأين هذا من ذاك؟ وكأنه يملي كتابه من تفكير منامه، لا من عقله، يقول الله: ﴿وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡ‍ِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡ‍ِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ [الأحقاف: 26]. وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده، والمقابلة بضده، والعامي بلا شك ينخدع بمثل هذه الأقوال ويعتقد مشروعيته بالقرآن، لا سيما إذا نمقه قائله بزخرف القول وخداع الألفاظ، بحيث تروج صحته في أذهان العوام وضعفة العقول والأفهام. كما قيل:
في زخرف القول تزيين لباطله
والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحًا وذمًّا وما جاوزت وصفهما
حسن البيان يرى الظلماء كالنورِ
ثم قال: إن حديث «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» معارض أو مخصص بحديث أوضح منه وأكثر طرقًا وهو حديث «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله.

فالجواب أن نقول: لقد عرف هذا الكاتب أن عملهم في الاحتفال بمولد الرسول أنه بدعة، لكنه أراد أن يزيل اسم هذه البدعة بحديث «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً» إلى آخره، فمتى تحقق أنه بدعة حسبما شهد به على نفسه فإن رسول الله ﷺ قال: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[58] وهي نكرة مضافة تعم كل بدعة، فليس في الشرع بدعة حسنة، بل إن البدعة تنافي السنة وتنافي الحسنة وكل بدعة سيئة، ولو كان عند هؤلاء محبة صحيحة للرسول لاتبعوا أمره واجتنبوا نهيه، وحيث تقرر عنده أنها لم تكن معروفة زمن النبي ﷺ ولا زمن أصحابه، فإنها تعتبر زيادة في الدين ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ [الشورى: 21].

والبدعة هي ما فُعِل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع، فهي زيادة في الدين بعد تمامه، وهي بدع من القول وزور، وقد قيل: اتبعوا ولا تبتدعوا، قالوا: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ﷺ ولا أصحابه، فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً فيما يتعلق بشأن العبادة والقُرَب الدينية.
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
فالبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا العبادات.

ثم قال: إن الاحتفال بالمولد النبوي إنما يكون بذكر الله والصلاة على رسول الله وذكر سيرته وفضله وبإطعام الطعام وإفشاء السلام والتقاء الإخوان على رياض جنة الذكر.

فالجواب أن نقول: إن كل بدعة على اختلاف أنواعها، فإن طبيعتها التمدد من الذكر إلى فنون من المنكر؛ لأن البدع بريد الكفر، ورُبَّ مريد للخير لا يدركه وإنما حذر النبي ﷺ عنها وحرص الصحابة على إزالتها، حيث قطع عمر بن الخطاب الشجرة التي كانوا يصلون تحتها ويقولون: إن النبي ﷺ بايع الصحابة تحتها، ومثله نهي ابن مسعود وأبي موسى الأشعري للجماعة الذين يجتمعون ويقول أحدهم: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، ويقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فزجرهم ابن مسعود وقال لهم: احصوا سيئاتكم ونحن كفلاء بألا يضيع من حسناتكم شيء.

وإنما دخلت الوثنية على العرب بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثانًا يعبدونها، وما أحدث قوم بدعة إلا رُفِع مكانها من السنة، فتمسُّكٌ بسنة خير من إحداث بدعة.

إنه لو كان عملُ هؤلاء صحيحًا في محبة الرسول ﷺ لاتبعوا أمره واجتنبوا نهيه وأكثروا من الصلاة والتسليم عليه وهم في بيوتهم وطرقهم، ولكن هذه المآكل الشهية التي أشار إليها الكاتب بقوله: إنهم يطعمون في هذا المحفل الطعام ويلتقي عليه الإخوان... فإن هذا هو أكبر عامل لتشييد هذه البدعة، فإن البراطيل تنصر الأباطيل.

وأما حديث «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فإن السنة الطريقة تطلق على العمل الحسن وعلى العمل السيئ، والكل وارد في الكتاب والسنة، أما السنة الحسنة ففي قوله: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ [الأحزاب: 21]. ومنه قول النبي ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوْا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»[59] ومعنى سنة الخلفاء أي طريقة الخلفاء الراشدين.

نظيره قول عمر بن عبد العزيز: لقد سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننًا، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتاب الله وقوةٌ في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي ومن استنصر بها فهو المنصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.

فلا يظن أحد أن الخلفاء الراشدين يسنون للناس سننًا من العبادات تخالف أمر الرسول ونهيه؛ لأن التشريع خالص حق الله ورسوله.

أما السنة السيئة، فقد جاء بها الحديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْهُ»، وقالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فَمَنْ؟» يعني طرق اليهود والنصارى. ومثله ما روى مسلم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «أعتى الناس على الله ثلاثة: من قتل غير قاتله، أو قتل لدخل الجاهلية، أو ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية، في عملها وقولها»، ومثله حديث: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»[60].

فقول النبي ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» يفسره ما ثبت في الحديث نفسه الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله أنه قال: كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه وسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة فدخل وخرج ثم أقبل وأدبر، ثم خطب الناس فقال: «﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَ [النساء: 1] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ». حتى قال: «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». فتتابع الناس فجاء رجل بصاع تمر فلمزه المنافقون وقالوا: إن الله غني عن صاع هذا، ثم جاء رجل بصرة دنانير كادت كفه أن تعجز عنها، فقالوا: مراءٍ، حتى اجتمع عند رسول الله ﷺ كومان من الطعام وكان إذا سر استنار وجهه، فقال: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[61] يريد بذلك صاحب الصرة. وتتابع الناس بعده على القدوة في الصدقة، ولهذا قال العلماء: إن الإعلان بالصدقة متى كان يقتدى به أفضل من إخفائها، يقول الله تعالى: ﴿إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ [البقرة: 271]. فمدح كلا الحالتين.

فليس في الحديث دليل على صحة ما يرمي إليه الكاتب من تسمية البدع بالسنة الحسنة أو البدعة الحسنة.

وإذا أردنا أن نفسر السنة الحسنة لم نجد لها تفسيرًا أوضح ولا أفصح من تفسير النبي ﷺ لها في هذا الحديث، وقضية الرجل الذي تصدق بصرة الدنانير وأخذ الناس يتبعونه في الصدقة كل على حسبه والفضل للمتقدم، وإذا أردنا أن نعرف السنة السيئة لم نجد لها تفسيرًا أقرب من تفسيرها بالاحتفال بالمولد النبوي، سنة الفاطميين من أهل مصر، ثم تبعهم الناس على ضلالهم؛ لأن الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر.

وذكر صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح ويجعلون لهم عيدًا يعطلون فيه المتاجر والبيع والشراء، أخذوا يقتدون بهم في تعظيمهم المولد النبوي، ثم اشتهر وانتشر في البلدان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، ومن عادة البدع على اختلاف أنواعها أن يقود بعضها إلى البعض حتى تكون الآخرة شر من الأولى، فقد نشأ عن هذه البدعة بدعة أخرى سنها الكاتب وهي بدعة الاحتفال بالنعم، حيث يزعم أنه واجب! فالاحتفال بالمولد هو من سنة الفاطميين ليس من سنة الدين ويرجع إلى اتباع النصارى في مثل عيدهم، فهو من تقليدهم والتشبه بهم وليس من عمل السلف الصالح، وبهذا نعرف بأنه لا تعارض بين قوله: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» وبين قوله: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وأن الكل حق ومعنى السنة الطريقة وسنة الرسول طريقته.

كما أن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل من اتبعه، إذ ليس ذلك الصحابي هو الذي ابتدع الصدقة ابتداء من غير سبق الشرع بها، فإن الصدقة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع على هذه الأمة وعلى سائر الأمم قبلها، كما قال تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ ٨٣ [البقرة: 83].

لقد علمنا من هؤلاء المشايخ الذين يتصدون للجلوس في صدر المحفل النبوي ويتبعهم الناس في عملهم ويقولون: إنه سنة حسنة أو بدعة حسنة، يبرهن بزعمهم عن محبة الرسول وتعظيمه في قلوب العوام، فإن هذا القول والفعل باطل قطعًا، فإنه بالاستمرار على فعله كل عام يصير سنة عند العوام متى غيرت قالوا: غيرت السنة، فيلحقون في الدين ما ليس منه وما لم يأذن به الله ورسوله. فتمسُّكٌ بالسنة خير من إحداث بدعة.

وقد علق الناس على هذه البدعة ما يستدعي قبولها وإقبال الناس إليها من ذلك قولهم: إن من يحضر المولد النبوي فإنه يصح في جسمه ويعافى في ولده ويسعد بالأرباح الطائلة في ماله، وينشرون بين الناس بأن الرسول يحضر محفل المولد ويعرف الحاضرين، ويقولون بوجوب القيام عند ذكره وعند ولادته، وأن من لم يحضره فإنه يبتلى بالمرض في جسده وأولاده ويخسر في ماله ولا يدخل شفاعة الرسول.

وحسبك ما أملاه هذا الكاتب من تمثيله بصلاة الجمعة والعيد وبصيام عاشوراء والاثنين وغير ذلك، ثم استباحة صرف الآيات القرآنية عن المعنى المراد منها بتحريفها إلى غير معناها في سبيل نصر رأيه وتقوية باطله.

وإن من طبيعة البدع على اختلاف أنظطواعها كهذه البدعة وغيرها أنها تتوسع وتتفجر إلى فنون من الشر، فإذا أردت أن تبحث عن حقيقة ذلك فاسأل عن بدعة المولد وعما يفعله الناس فيها في مصر ولبنان وسوريا والعراق وإيران، وأنهم قد أحدثوا فيها أشياء كثيرة من الغلو والإطراء والبكاء والنياحة وضرب الخدود والقيام والقعود وضرب الدفوف وشرب الخمور واختلاط الرجال بالنساء وأنواعًا من المفاسد!! حتى ألحقوا مولده بلهو الحديث؛ لأن كل ما نهى عنه رسول الله ﷺ، فإن مفسدته راجحة ومضرته واضحة، وإن لم يظهر ضررها حالاً فإنه سيظهر بعد حين، لا يقال: إن الاحتفال بالمولد سنة فجهلها الصحابة والسلف الصالح ولا أنهم علموها فتركوا العمل بها، كل هذا لا ينطبق عليهم والدين كامل قبلها وقد قيل:
ثلاثة تشقى بهن الدار
المولد والمأتم والزار
ثم قال: لا ريب أن مضاعفة الأجور العظيمة إنما كانت للاتباع في الابتداع الحسن الذي هو الاستنان الحسن لحديث «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[62] وهذا الحديث قاضٍ على كل ما يقوله خصوم البدعة الحسنة وهو يدك دكًّا قولهم: إن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، وقولهم: لو كان خيرًا لسبقونا إليه، ولا ريب أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة وسنة حسنة وفق الله لها من سنها وعمل بها وجعل له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

فالجواب أن نقول:
ألا تسألن المرء ماذا يحاول
أَنَحْبٌ فيقضى أم ضلال وباطل
إنه في آخر الزمان يصير العلم جهلاً والجهل علمًا والبدعة سنة والسنة بدعة، ينشأ على هذا الصغير ويهرم عليه الكبير، حتى إذا غيرت البدعة قالوا: غيرت السنة، وهذا الكاتب مبتلى بقلب الحقائق في المعقول والمنقول، فيجعل البدعة سنة والسنة بدعة، ويجعل المأزور على تأسيس البدع مأجورًا، فيحرف الكلم عن مواضعه ويخالف الحق مخالفة غير خافية على أحد، لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس بعقله ولن يخر فريسة لتعاليمه السخيفة سوى همجي رعديد قليل العلم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة ولا يروج إلا على من هو أجهل الناس وأقلهم معرفة وعلمًا.

يزيف الحق القويم ويزخرف الباطل الذميم ويصد عن الصراط المستقيم ويقول: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ٥١ [النساء: 51]. وحسبنا اعترافه على نفسه، بأن الاحتفال بالمولد بدعة، وقد أراد التهرب من مسمى هذه البدعة بقوله: إنها بدعة حسنة ثم أفرغ الثناء على من سن هذه البدعة وحكم له بأجور من عمل بها عكس ما حكم به النبي ﷺ فقد حكم حكمًا يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع، وهو أن كل بدعة ضلالة، ولا ندري هل نقدم حكم رسول الله أم حكم صاحب الرسالة؟! فإن بدعة الفعل والزور لن تنقلب عملاً صالحًا مبرورًا إذ الأسماء لا تغير الحقائق عن مسمياتها، والبدعة في اللغة هي: الزيادة في الدين بعد كماله، وفسروها أيضًا بأنها: ما فُعِل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع.

فليس في شريعة الإسلام بدعة حسنة قطعًا وإن غلط بعض العلماء في ذلك، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وإن الوسائل لها أحكام المقاصد، فكل ما نهى عنه رسول الله ﷺ من محدثات الأمور، فإن مضرته واضحة ومفسدته راجحة وإن لم تظهر للناس في الحال، فإنها ستصير إلى ذلك في مستقبل الزمان، فلا راد لحكم رسول الله ﷺ ولا مبدل لكلماته.

وإنما قطع عمر الشجرة التي كان الناس يتحرون الصلاة تحتها وهي الشجرة التي بايع النبيﷺ الصحابة تحتها، لعلمه أن هذه الصلاة في خاصة هذا المكان ستؤول إلى فتنة من عبادة هذه الشجرة، لأن ما أهلك من قبلنا وأوقعهم في الشرك هو تتبعهم آثار أنبيائهم حتى جعلوا قبورهم أوثانًا يعبدونها والدفع أيسر من الرفع، واقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.

وهذا الكاتب مبتلى بقلب الحقائق في المعقول والمنقول وفي تأويله للقرآن وأحاديث الرسولﷺ، فيجعل من ابتدع بدعة ضلالة مما ليس له أصل في كتاب الله ولا عن سنة رسول اللهﷺ ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المذاهب الأربعة أنه مصيب في عمله وأنه قد سن للناس سنة حسنة له أجرها وأجر من عملها، فهو يسير على نسبة عكسية من قول الرسول ﷺ وحكمه، كما أن من دعا إلى الضلالة فإن عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وصدق الله ورسوله وكذب من افترى عليه وزاد في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله.

وهؤلاء الذين يجادلون في إثبات سنية المولد هم يعرفون من المفاسد المترتبة عليه أكثر مما نعرف، لكنهم يجحدونها لكون هذا الاجتماع كما أشار إليه الكاتب من أنه يلتقي فيه الإخوان ويطعم فيه الطعام، وحبك الشيء يعمي ويصم والبراطيل تنصر الأباطيل.

ولقد كان من الحزم وفعل أولي العزم في حق هذا الكاتب أن يصرف شيئًا من جهده وجهاده ونشاطه إلى دعوة الناس إلى ما دعاهم إليه كتاب ربهم وسنة نبيهم بالوصية منه في سلوك طريق السلف الصالح ونهي الناس عن البدع الفاشية والظلمات الغاشية، ويفسر لهم النصوص التي جعلت قبور الصالحين والأنبياء أوثانًا وأن سببه هو الغلو في الدين والغلو في الأنبياء والصالحين، وينهى عن اتخاذ القبور مساجد وعن تعليتها وبناء القباب فوقها، وإيقاد السرج عليها، وينهى عن الذبح للقبر والذبح للجن والذبح للزار، وأنه شرك بالله، ويأمر بالوقوف عند حدود السنن واجتناب البدع، ويأمر بالمحافظة على فرائض الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام والإكثار من الدعاء والتضرع وكثرة الصلاة على النبي ﷺ في كل الحالات وسائر الأوقات، فإنها من أجَلِّ الطاعات وأفضل القربات، وأن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[63]، فلو ذكِّر الناس بمثل هذا لكان أفضل له وأعظم لأجره ولكان له أجر من عمل به.
أنادي فلا ألقى مجيبًا سوى الصدى
وأحسب أن الحي ليس بآهل
وأما الاستدلال بجمع الصحابة للقرآن على البدعة الحسنة. فجوابه: أن جمع القرآن ليس من البدعة الحسنة في شيء، بل هو من الأمر المحتم المفروض على خاصة الصحابة وعلى كافة الأمة لو تركوه أثموا.

لأن حفظ القرآن عن ضياعه ونسيانه واجب، وكان القرآن ينزل على النبي تدريجيًّا حسب الوقائع، وقالوا: ﴿... لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا٣٢ وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا٣٣ [الفرقان: 32-33]. فبقي مفرقًا في صدور الرجال وفي الصحف والرقاع واللخاف، فلما كانت وقعة اليمامة في قتال مسيلمة وأصحابه واستحر القتل في القراء من الصحابة ففزع عمر من الخوف على ضياع القرآن أو ضياع شيء منه بموت حملته، وأخذ يراجع أبا بكر ويطالبه بجمعه، وكأن أبا بكر استثقل ذلك لعدم سبق جمعه من النبي ﷺ ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر كما شرح له صدر عمر وكذلك سائر الصحابة رأوه أمرًا واجبًا تقتضيه المصلحة.

فوكلوا أمر تتبعه وجمعه إلى ثلاثة من قراء الصحابة يرأسهم زيد بن ثابت فجمعوا القرآن وبقي آية منه، يقول زيد بن ثابت: كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها وهي قوله: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري فوضعتها في محلها[64].

فهذا الجمع للقرآن هو من الأمر الواجب على الصحابة لكونه لا يتم الانتفاع التام بالقرآن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لكون القرآن في أحكامه وبيان حلاله وحرامه وأمره ونهيه مرتبط بعضه ببعض، وكذلك سعة شريعته وشموله على سائر ما ينفع الناس في أمر دينهم ودنياهم، فمصلحة جمعه راجحة ومنفعته واضحة وهم في حالة جمعه لم يأتوا بشيء زائد على أصله لا في لفظه ولا معناه ومبنى الشريعة على حماية الدين وحفظه، وهذا من بابه فهو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع، وقد تكفل سبحانه بجمعه في قوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩ [الحجر: 9].

ثم إن القرآن بفحوى لفظه وخطابه يوجب أن يكون مجموعًا بمقتضى شرع الله وقدره، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 17]. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة، فكان إذا نزل عليه جبريل يحرك شفتيه خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ أي جمعه في صدرك ثم تقرأه، ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ أي أوحيناه ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨، أي فاستمع وأنصت له، فحكم سبحانه بجمع القرآن المستلزم لحفظه وضبطه، كما تولى سبحانه حفظه بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩ فجمعه هو من عناية حفظ الله له، بخلاف الكتب السماوية النازلة على سائر الأنبياء، فقد استحفظ أهلها عليها فحصل فيها التبديل والتغيير لعدم عناية أمتهم بحفظ دينهم، كما قال تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩ [البقرة: 79].

ومن صفة هذه الأمة أن أناجيلها في صدورها ولا بد مع طول الزمان أن ينسى الإنسان شيئًا منه؛ لأن من طبيعة الإنسان النسيان، وقيل: إنه إنما سمي إنسانًا من أجل نسيه، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا ١١٥ [طه: 115]. وأنشدوا في هذا المعنى:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
ولو لم يكن مجموعًا لمراجعة ما عسى أن ينسوا منه لفات عليهم أكثره، لا سيما في آخر الزمان عند زهد الناس في حفظ القرآن في صدورهم.

ثم إن قوله: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢ [البقرة: 2]. وقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ [البقرة: 185]. أي هدى للناس إلى سبيل الحق والرشاد والمنهج السوي، وقوله: ﴿وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ، يعني البينات الدالة على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه، والفرقان هو الفصل بين الحق والباطل ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ١ [إبراهيم: 1]. ﴿كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ [هود: 1]. ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤ [فصلت: 3-4]. ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩ [ص: 29]. يدل على أن الكتاب إنما يعني به مجموع المكتوب في المصحف الإمام لسبق علم الله بجمعه فلا ينطبق هذا الوصف بهذا الاسم على سورة مفردة من سوره كسورة ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ ١ أو سورة ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١.

إذ لولا هذا الجمع للقرآن الذي هو من واجب هذه الأمة ومن ضرورات حفظهم لدينهم وكتاب ربهم لذهب وتفرق وتمزق وزالت الثقة، لاحتمال دخول فيه ما ليس منه، كما دخل في الكتب قبله، ولو أهمل الصحابة جمْعه لصاروا آثمين.

وكان أول ما أنزل الله من وحيه الأمر بالكتابة فقال سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5].

وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه مما يتعلق بترك أبي بكر المبادرة بإجابة عمر إلى جمعه، وذلك أن بعض المسائل المستغربة تحدث زمن الصحابة ومن بعدهم فجأة فتتفرق الآراء وقد ينسون فيها حكم الله وهو معهم لكنه يغيب عنهم حال المحاضرة، ثم يعود إليهم بغوص أحدهم إلى استنباط العلم به، فمن ذلك موت النبي ﷺ قد أنكره الكثيرون وارتدت العرب من أجله، وقالوا: لو كان نبيًّا لم يمت، وكان أبو بكر غائبًا بالسُّنْح في عوالي المدينة عند زوجة له، فلما سمع بالخبر جاء فكشف عن وجه النبي ﷺ وقبَّله وقال: ما أطيبك حيًّا وميتًا، ثم صعد المنبر فأقبل الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤ [آل عمران: 144].

قال عمر: فلما سمعت الآية انقطع لها ظهري كأني لم أسمعها قبل اليوم وتحققت أن رسول الله ﷺ قد مات، فما بقي رجل ولا امرأة في المدينة إلا يتلو هذه الآية بعد استنباط أبي بكر لها. والحكماء يحبون الرأي الخمير ويكرهون الرأي الفطير.

وأما عدم جمع النبي ﷺ للقرآن في حياته، فإن الأمر فيه معقول، وذلك أن القرآن ينزل تدريجيًا منجمًا على حسب الوقائع وقد استحر نزوله وتتابع قرب وفاة رسول الله ﷺ فنزل عليه وهو واقف بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3]. وليس بعد التمام إلا النقص وذلك في حجة الوداع، وأخذ يودع الناس فيها ويقول: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا»[65] فسميت حجة الوداع من أجل ذلك.

ثم أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [سورة‌النصر]. ففي هذه السورة إشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسره بذلك ابن عباس، يعني يا محمد إذا جاء نصر الله والفتح: يعني فتح مكة، وكان العرب قد تريثوا في دخول الإسلام إلى فتح مكة ويقولون: إن كان نبيًّا فسيعلو قريشًا ويفتح مكة، وإن لم يكن نبيًّا فستغلبه قريش، فلما فتح مكة عنوة أخذ الناس يدخلون في الدين أفواجًا وسمي عام التسع بعام الوفود، وكان آخر ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]. من آخر سورة البقرة، وتوفي رسول الله ﷺ بعدها بتسع ليال، وهذا هو السبب لعدم جمعه للقرآن.

ومثله لما منع العرب زكاة أموالهم وعزم أبو بكر أن يقاتلهم على منعها فعارضه الصحابة على رأيه، وقالوا: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا». فقال لهم أبو بكر: إن الزكاة من حق لا إله إلا الله. قال عمر: فعلمنا أنه الحق فاتبعناه، ولما بلغ عمر أن أناسًا يفضلونه على أبي بكر، قام في الناس فقال: أما إني سأخبرك عني وعن أبي بكر: إنه لما مات رسول الله ارتدت العرب بأسرها فمنعت شاءها وبعيرها فاتفق رأينا أصحاب محمد أن أتينا إلى أبي بكر الصديق وقلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله كان يقاتل الناس بالوحي والملائكة يمده الله بهم وقد انقطع ذلك اليوم فالزم بيتك فإنه لا طاقة لك بقتال العرب كلهم. فقال: أَوَكلّكم رأيه على هذا؟ قلنا: نعم. فقال: والله لأن أَخِرّ من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي، أيها الناس إن قل عددكم وكثر عدوكم ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن اللهُ هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الصدق، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ [الأنبياء: 18]. ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩ [البقرة: 249]. وتالله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه واستعنت الله عليهم وهو خير معين[66].

وهكذا سائر ما يقع بين المتقدمين والمتأخرين من الحوادث المفاجئة التي تعزب فيها الأفهام؛ لأن الحفظ يحضر ويغيب ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ والناس يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فتأخذ العيون والآذان من الكلام على قدر العقول والأذهان فيتحدث كل إنسان بما فهمه على حسب ما وصل إليه علمه وعادم العلم لا يعطيه وكل إناء ينضح بما فيه.

فمن واجب الكاتب أن يبدي غوامض البحث بالتحقيق ويكشف مشاكله ودلائله بصناعة التطبيق مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق؛ لأن الحق مضمون له البقاء وأما الزبد فيذهب جفاء فيكون مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا هوى.
غموض الحق حين تذب عنه
يقلل ناصر الخصم المحق
تضل عن التحقيق فهوم قوم
فتقضي للمجل على المدق
ثم قال: إن عمر بن الخطاب قال في الأذان الأول يوم الجمعة: نحن ابتدعناه بعد وفاة النبيﷺ... إلخ.

فالجواب: أن الأذان الأول يوم الجمعة أول من أمر به هو عثمان بن عفان، حين كثر الناس في المدينة وأراد أن ينبههم على المبادرة إليها بهذا النداء وليس في خلافة عمر، ولم يثبت هذا القول عن عمر، وإنما قال نحو هذه الكلمة في صلاة التراويح جماعة، والأذان هو من ذكر الله عز وجل شرع لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وقد جاز أن يُؤذَّن للفجر من الليل ليوقظ بذلك النائم وينبه الغافل، والأذان الأول للجمعة يشبه هذا وقد عده الشاطبي صاحب الاعتصام من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع.

ثم إن الأذان يستحب عند الحريق وعند الغيلان وفي أذن المولود، والشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، فمصلحته راجحة ومنفعته واضحة ولا يترتب عليه أي شيء من المفاسد، فكما شرع لدخول وقت الصلاة، فقد شرع أيضًا لغير دخولها، إذ هو نداء إلى الصلاة أشبه بالمحتسب يمر بالجلوس وهم غافلون فيقول لهم: قوموا إلى الصلاة بصوت رفيع، أفيقال: إن هذا بدعة؟!

ثم هنا أمور أوجبت الضرورة فعلها وإن لم تكن مفعولة على عهد النبي ﷺ فمن ذلك تعدد الجمعة في البلد الواحد، فإنه لم يكن في عهد النبي ﷺ ولا في بلده تصلى الجمعة إلا في مسجد واحد، وقد أوجبت الضرورة من بعده تعدد الجُمَع من أجل كثرة الناس ليتم قيام الناس بأداء هذا الواجب والضرورة تقدر بقدرها، وهذا مصلحة راجحة ومنفعة واضحة، وهو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع، وهو نظير الأذان الأول يوم الجمعة، ومثله استدلالهم بصلاة التراويح ويقولون: إنها بدعة حسنة وهذا خطأ في الفهم وفي التعبير، فإنه ليس في الشرع بدعة حسنة وإن قال به من قاله، بل كل بدعة ضلالة كما أخبر النبي ﷺ بذلك، فإن قوله: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» هو مُنَكَّرٌ مضاف فيعم، ومثله قولهم في صلاة التراويح جماعة: إنها بدعة حسنة.

وصلاة التراويح سنة حسنة سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً وإقرارًا، ففي البخاري عن عائشة، أن رسول الله ﷺ خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله ﷺ فصلى وصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: «أما بعد، فإنه لم يخفَ عليَّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، قال ابن شهاب: ثم كان الأمر كذلك على خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.

وفي البخاري أيضًا عن ابن شهاب عن ابن الزبير عن عبد الرحمن ابن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في ليلة من رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.

فدل هذا الحديث على أن صلاة التراويح سنة سنها رسول الله ﷺ وأنه إنما امتنع من مواصلة العمل على فعلها بهم جماعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها، فترك الخروج إبقاء عليهم ورحمة بهم، ولم يقل: إن فعلها جماعة غير جائز، أو إنها بدعة، وقد زال هذا المحذور في تحتمها عليهم بموته ﷺ وبقي الاستحباب، وقد أشار النبي ﷺ إليها بقوله: «مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[67] وهي داخلة في عموم قوله ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البخاري ومسلم. وفي قوله: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه. وهذه المغفرة وهذا التكفير إنما يراد بهما مغفرة صغائر الذنوب.

وسميت صلاة التراويح من أجل أنهم يطيلون القيام والركوع والسجود فيها، حتى إنهم يعتمدون على العصي من طول القيام. وهو مأخوذ من قول عائشة: كان رسول الله ﷺ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يستريح. كما ورد في بعض روايات الحديث.

وقالت: ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث. متفق عليه.

فكان الناس في زمن النبي ﷺ يصلونها أوزاعًا متفرقين، الرجل مع الرجل والرجل مع الرجلين والرجل ومعه الرهط زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر، حتى كان زمن عمر، فقال: أما إني لو جمعت هؤلاء على إمام واحد، لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب والنساء على تميم الداري وذكر ابن حجر في فتح الباري، أن أبي ابن كعب صلى بهم تلك الليلة ثماني ركعات وأوتر بثلاث، طبق ما فعله النبي ﷺ ولا مشاحة في زيادة عدد الركعات إلى عشرين ركعة، مع اختصار القيام والركوع والسجود كما عليه عمل أئمة المذاهب، إذ هي من التطوّع المطلق الذي لم يقيد بعدد.

والمقصود أن التراويح سنة سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، وإقرارًا. فلا يجوز تسميتها بالبدعة الحسنة، وإنما هي سنة حسنة، وكل بدعة فإنها سيئة فلا تقاس على الاحتفال ببدعة المولد الذي لا يزال علماء السنة في كل عصر ومصر ينكرونها وينهون أشد النهي عنها وعن الحضور لها.

وبما أن الناس يتهموننا بالتشديد في إنكار الاحتفال بالمولد النبوي، ويزعمون أنه بدعة حسنة وأنه لا يبالي في إنكاره إلا العلماء النجديون أو من يسمونهم بالوهابيين.

لهذا نورد من أقوال علماء أهل السنة من سكنة الأمصار ما يدل على أن العلماء المحققين قد أنكروا بدعته وعدم سنيته.

منهم السيد محمد رشيد رضا، علامة مصر وصاحب المنار، والمعروف بطول الباع وسعة الاطلاع في العلوم النقلية والعقلية والاعتقادية، ودونك نص السؤال المرفق بالجواب عنه.

سئل محمد رشيد رضا رحمه الله رقم 765 - ص2111- ج5 من فتاوى المنار: هل يجوز للإنسان حضور حفلة مولد النبي ﷺ؟ وإذا لم يحضر، هل يعد كافرًا؟ ومن لم يقم أثناء قراءة المولد، أي عند سماع قول مرحبًا بالنبي.. إلخ، هل يعد كافرًا أيضًا؟ لأن العلويين في جاوة يعقدون حفلات كثيرة في كل سنة وفي أماكن متعددة وأوقات مخصوصة، يذبحون لها الذبائح وتشد لها الرحال من أماكن بعيدة ويلقنون الناس في أثناء الحفلات، أن من يحضر المولد ولم يقم عند سماع مرحبًا.. إلخ، فهو كافر! أفتونا مأجورين وأبقاكم الله عونًا للحق.

فأجاب محمد رشيد رضا رحمه الله قائلاً:

ج: سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي، هل هو بدعة أم له أصل؟ فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن جرد عمله في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة. ومن لا فلا.

وأقول[68]: إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل، فقد كان أحفظ حفاظ السنة والآثار، ولكنه لم يُؤتَ ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط، فحسبنا من فتواه ما تعلق بالنقل، وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم أنه يأتي في هذا الدين بخير مما جاء به رسول الله ﷺ وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل، فقد زعم أنهﷺ لم يؤد رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى وقد أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
وأما قول الحافظ: إن من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها، كان عمله بدعة حسنة ومن لا فلا، ففيه نظر، ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة النبي ﷺ في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته، والصدقات وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص بالهيئة والوقت المخصوص وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع، بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب المطلوبة شرعًا، وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى، وزيادة فيه وتعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم، فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه، كأنه من قواعد العقائد المعلومة من الدين بالضرورة؟ أليس يعد في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه؟ فإن الزيادة في ضروريات الدين القطعية وشعائره كالنقص منها يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين عن الله تعالى، القائل فيه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ [المائدة: 3]. فهو تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له، ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان دينهم ناقصًا أو كفارًا. وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم قد تركوا التضحية في عيد النحر لئلا يظن الناس أنها واجبة، كما ذكره الإمام الشاطبي في الاعتصام (ص276) وغيره، أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه الحفلات المولدية، وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن لئلا يظن العوام أنها من الفرائض التي يأثم فاعلها أو يكفر تاركها، كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين المذكورين في السؤال؟ فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب على رسول الله ﷺ في سيرته وأقواله وأفعاله، كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات؟

وأما القيام عند ذكر وضع أمه له ﷺ وإنشاد بعض الشعر أو الأغاني في ذلك، فهو من جملة هذه البدع، وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم، فقال عند ذكر الإنكار على من يقوم عند قراءة: ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ [النحل: 1]. لما ورد في ذلك سبب قد زال ما نصه: ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده ﷺ ووضع أمه له من القيام وهو أيضًا بدعة لم يرد فيه شيء على أن العوام إنما يفعلون ذلك تعظيمًا له. انتهى.

فهذا ملخص كلام علماء الإسلام وأن الاحتفال بالمولد بدعة ويقود إلى بدعة أخرى وهي الاحتفال بالنعم، لكون البدع يقود بعضها إلى بعض.

واعلم أن كل بلد لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر وليس فيها رقابة دينية تمنع محدثات البدع والمنكرات، فإنه من اللازم أن تنشأ فيها المذاهب الهدامة والبدع المنحرفة والملل والنحل المختلفة، لكون السكوت عن مثل هذه الأشياء هو مما يسبب إنشاءها وفشوها وانتشارها والوقاية خير من العلاج والدفع أيسر من الرفع، أما إنكار البدع والمنكرات فإنه مما يقلل فشوها وانتشارها وقمع المؤسسين لها، والله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251]. يقول الله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ [التوبة: 71]. وقد ضرب النبي ﷺ مثلاً لعمل المنكرات والمخالفات والسكوت عنها أو الأخذ بأيدي من فعلها. ففي البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ قال: «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر - والواقع فيها - أي الذي يعمل المنكرات والمخالفات - كمثل قوم استهموا سفينة فكان بعضهم في أعلاها - أي السطح - وبعضهم في أسفلها - أي الخن - فأراد الذين في أسفلها أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه الماء من عندهم قال: فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا». وهذا المثال مطابق للواقع وأنه يخشى أن يغرق الناس في المنكرات ثم في العذاب عليها عند سكوتهم عنها ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗ [الأنفال: 25].

وقد امتن الله على المسلمين في القرون الوسطى، أي القرن السابع والثامن بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله فقد نشأ في عصر اضطراب وقلق، وكان المسلمون عرضة لغارات الصليبيين والتتار، وكانوا متفرقين في النزعات والمذاهب والآراء، فحمل ابن تيمية رحمه الله راية الإسلام بالحجة والبيان والسنة والقرآن والسيف والسنان، مما يجعله في مقدمة الأبطال الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فهو بطل دين وعلم ومن أعلام الفكر العالي، قد اجتمع فيه سعة العلم وصحة العقيدة وعزة الإيمان حتى أنطق الله ألسنة الناس بتسميته شيخ الإسلام.

ولم يسجل التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها بعد رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه أكثر مما سجل له من قوة الإبداع وتجلية الحق والبصيرة في النقد والعدالة في الحكم ومطابقة النقل للعقل، وحتى النصارى فقد شاركوا المسلمين في التراجم الواسعة في فضله وسعة علمه وذكائه، ثم تصدى لمحاربة سائر البدع على اختلاف أنواعها، فغزاها في عقر دارها وفند آراء المؤيدين لها، كما فند آراء الذين يستشفعون بالمقبورين من الأنبياء والصالحين، وكما رد على القدرية القائلين بالجبر ونفاة المشيئة والقدرة عن الله، وكما رد على الجهمية نفاة الصفات ونفاة الكلام، القائلين بخلق القرآن، قائلاً: إن الكلام صفة كمال والله موصوف بالكمال، وقال: إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذات المخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١ [الشورى: 11]. وكما رد على الفلاسفة وعلى الصوفية وعلى أهل الكلام والمنطق، وكما رد على النصارى وعلى الشيعة في كتابة منهاج السنة وهو دائرة علوم إسلامية، فاستطاع إقناع كل طائفة بالدليل القاطع حتى من قواعدهم أنفسهم، فهدم أصول الفلسفة بفؤوس الفلسفة وأهل التصوف بنفس التصوف وأهل الكلام بمعرفة علوم أهل الكلام، فرد على كل فريق بما استحقه من قول الحق ونصيحة الخلق، لأنه رحمه الله قد نهل من كل مناهل العلوم والمعرفة، فهو ذو الخبرة الدقيقة في فهم الحديث رواية ودراية، والمعرفة التامة بالرجال وطبقاتهم وجرحهم وتعديلهم وهو البصير بالتفسير واستنباط معاني كتاب الله بالفهم الدقيق.

وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين ومذاهب الأئمة الأربعة وتمييز الصحيح من الضعيف من أقوالهم، فلا يوجد له فيه نظير، وكذا معرفته بالملل والنحل وأصول أهل الكلام وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها، ودقها وجلها، وحسبنا شهادة الذهبي في وصف حالته في حياته وهو المطيل لصحبته وإدمان محبته.

قال الذهبي رحمه الله فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة، ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، قال ما نصه:

كان يقضى من شيخ الإسلام بالعجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل لها ورجح، فما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه.

وأما أصول الديانة ورد أقوال المخالفين، فكان لا يشق غباره فيها، ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوَّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.

قال: ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، تعتريه حدة ولكن يقهرها بالحلم، ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه إلى ربه، وكان مع سعة علمه وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم، تذرع بسببها عداوة في النفوس، وإلا فلو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع، وإن كبار العلماء خاضعون لعلومه معترفون بندور خطئه، وإنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له، وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع لا يؤتى من سوء فهم، فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسألة بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج بالقرآن وبالحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه وأجران على إصابته. انتهى (ج1 - ص150).

وأقول: لقد حاول حساده من المعاصرين له، ممن يرون في أنفسهم أنهم أكبر سنًّا وقدرًا منه أن يقمعوا نور علمه وتعاليمه بالقوة، وأن يطفئوا نور الله الذي آتاه بالوشاية به إلى السلطان التي أوجبت دخوله السجن مرة بعد أخرى، وقد أغلظ عليه السبكي بالكلام على فتواه بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، وأن اليمين بالطلاق هي يمين مكفرة وليست بطلاق فبالغ السبكي في الرد عليه وتخطئته في ذلك.

ولما كتب الذهبي إلى السبكي، يعاتبه على تحامله بالكلام على شيخ الإسلام فأجابه السبكي قائلاً:

وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين، فالمملوك يتحقق كبير قدره وغزارة بحره وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه في ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان. انتهى. (ج1 - ص151).

ومثله أبو حيان، فقد كان يحب شيخ الإسلام ويعترف بفضله وسعة علمه، وقد امتدحه بأبيات، منها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
داع إلى الله فرد ماله وزر
حبر تسربل منه دهره حبرا
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر الحق إذ آثاره اندرست
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
ثم إن أبا حيان بعد هذا الكلام ناظر شيخ الإسلام في مسألة نحوية، فقال أبو حيان: إن في كتاب سيبويه أن الصواب فيها كذا وكذا، فقال شيخ الإسلام: إن سيبويه ليس بنبي النحو وقد غلط في كتابه في أكثر من ثمانين موضعًا لا تعرفها أنت ولا أبوك. فقام أبو حيان مغضبًا وفارق شيخ الإسلام، وصار يتحامل عليه في تفسيره البحر المحيط عند هذه الكلمة النحوية.

ونتيجة الأمر هو ما قاله عمر بن الوردي، يندب شيخ الإسلام ويعاتب المعادين له، وأن حقيقة الأمر هو الحسد منهم له على ما آتاه الله من فضله فقال:
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
تقي الدين أحمد خير حبر
خروق المعضلات به تخاط
همُ حسدوه لما لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائفه كسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
والمقصود أن التاريخ الصادق صفى خلاصة محنة شيخ الإسلام وخصومه فأنطق الله ألسنة الناس بتسميته شيخ الإسلام وتقي الدين، فإنه لم يسم بذلك نفسه، وإنما سماه الناس به.

إن أكثر الناس لا يتحمل الصبر على مخالفة رأيه ومذهبه، ويتحامل بالذم على من ارتفع عليه في العلم حسدًا له على ما آتاه الله من فضله، ويضطرب عند مخالفته ولو في مسألة فرعية، لا إنكار في الخلاف في مثلها، فتراه يتحامل باللوم فيفند رأيه ويصغر أمره ويحاول الحط من قدره، ليثبت في نفوس العوام عدم الاعتداد بقوله، ولا يزال هذا الحسد موجودًا في الناس من قديم الزمان وحديثه.

ومن العجب أنه لا يزال يوجد أناس يتظاهرون لعداوة شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نسبوا عن رجل من أهل الخليج، وأنه في خاصة هذا الزمان أحرق كتب شيخ الإسلام عداوة وحقدًا، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تخلق فاعله بالإلحاد العريق والجهل العميق.
كم سيد متفضل قد سبه
من لا يساوي طعنة في نعله
إن مكتبات المسلمين وحتى مكتبات النصارى مملوءة من كتب شيخ الإسلام، فلن يبرد غلة هذا الملحد ما صنعه من إحراق كتبه، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨ [الصف: 8].

يا محنة الإسلام والقرآن من
جهل الصديق وبغي ذي طغيان
وأخو الجهالة في خفارة جهله
والجهل قد يأتي من الكفران
تبًّا لهاتيك العقول فإنها
والله قد مسخت على الأبدان
قل لي متى سلم الرسول وصحبه
والتابعون لهم على الإحسان
من جاهل ومعاند ومنافق
ومحارب بالبغي والطغيان[69]

* * *

[47] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية. [48] أخرجه أبو نعيم في الحلية بنحوه من حديث علي. [49] أخرجه الترمذي من حديث أنس وقال: حسن صحيح. [50] أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما. [51] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [52] سبكناه: من السبك. [53] لجينا: الفضة. [54] أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [55] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [56] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس. [57] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث العرباض بن سارية. [58] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [59] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية. [60] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [61] أخرجه مسلم من حديث جرير. [62] أخرجه مسلم من حديث جرير. [63] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمر، والطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك. [64] أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت. [65] أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث جابر. [66] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [67] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي ذر. [68] هذا من قول محمد رشيد رضا. [69] هذا الشعر للعلامة ابن القيم من كتابه الكافية الشافية.

الأدب الشرعي في مولد النبي ﷺ

روى الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي، عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ».

وهذا هو أصح حديث وأصرحه في هذا المعنى، فمعنى «إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ»: أي في كتابة المقادير، فإن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذه الكتابة: هي عبارة عن سبق علم الله بنبوته، وأنه خاتم النبيين والمرسلين، وأنه لا نبي بعده. وأما دعوة إبراهيم: فهي قوله: ﴿رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ [البقرة: 129]. وأما بشرى عيسى: فهي قوله: ﴿وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُ [الصف: 6]. فالرسول اسمه أحمد واسمه محمد. وأما رؤيا أمه آمنة، فإنها رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام. فهذه رؤيا منام، وقد وقعت بالعيان، فإنه الهدى والنور التام، عصمة لمن تمسك بهديه، ونجاة لمن اتبعه ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 15-16].

ولد النبي ﷺ لثمان من ربيع الأول، وقيل: لاثنتي عشرة منه في قول المؤرخين وعاش أربعين سنة لم يُوحَ إليه بشيء، وكل ما يذكره قصاص المولد من أنه ولد وهو ساجد أو أنه خرج معه نور صفته كذا وكذا، أو أن آدم خلق من نور محمد، وأن جميع الوحوش البرية والبحرية بشر بعضها بعضًا بالحمل به، وأن مريم حضرت مولده، وأن الرسول يحضر حفلة المولد ويعرف الحاضرين به، فكل هذه وما في معناها فإنها من الموضوعات التي لا صحة لها؛ ولهذا قال في معرض الاحتجاج على قومه: ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦ [يونس:16]. وهذا العمر هو أربعون سنة، وبعد الأربعين فاجأه الحق ونزل عليه الوحي بغار حراء.

ولا شك أن مقام بعثته ونزول الوحي بنبوته أنه أعلى وأجَلُّ وأعظم وأفضل من مقام ولادته، إذ إنه ولد كما يولد سائر الناس وفضله الله بالبعثة والرسالة على سائر الناس، والله سبحانه إنما امتن على عباده المؤمنين بنبوته وبعثته، لا بمجرد ولادته، فقال تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل عمران: 164].

فساق سبحانه هذه الآية مساق الامتنان على عباده المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128].

نظيره قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣ [الجمعة: 2-3].

فبعث الله نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء.

بعثه الله على حين فترة من الرسل، وقد فشت ببن الناس الجهالة وخيمت عليهم الضلالة، وصار لكل قوم آلهة يعبدونها من دون الله، فهم يعبدون الأشجار والأحجار والقبور، فبَصَّرَ الناس من العمى وأنقذهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة وفتح به أعينًا عمياء وآذانًا صمّاء، وقلوبًا غلفًا، فدخل الناس ببركة بعثته في دين الله أفواجًا طائعين مختارين.

فقوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يريد بالأميين: العرب سموا بالأميين، لكون الأمية، وهي عدم المعرفة للقراءة والكتابة سائدة بينهم ليس عندهم مدارس ولا كتب، أشبه بالعرب المتنقلة، وإنما تعلموا العلم والكتابة بعد نزول القرآن وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وأول ما أنزل الله عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. فهي تمهيد للانتباه لتعم العلم والكتابة، وسمى الله نبيه محمدًا ﷺ أميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، يقول الله: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 157]. وأمية الرسول هي معجزة من معجزات نبوّته، كما قيل: كفاك بالأمي معجزة، وإنما اختار الله له الأمية كرامة وعصمة؛ لئلا تتطرق الظنون الكاذبة إليه أو على القرآن النازل عليه، بحيث يقولون: تعلمه من كذا أو كتبه من كتاب كذا.

يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49].

ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ أي القرآنية ويفسرها لهم ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن.

ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتطهرها وتنشر في العالمين فخرها، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.

ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ، فالكتاب: القرآن، والحكمة: السنة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤.

أي إن العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا في شر وشقاء وضلالة عمياء، يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم نساء وأموال بعض، وكانوا مضطهدين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

ولم تعرفهم الأمم وتخضع لهم وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام فكانوا والإسلام هم الصدر المقدم والسيد المرهوب بين الأمم.

فالإسلام والعمل به على التمام أنشأ العرب نشأة مستأنفة، خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن القساوة والغلظة إلى اللين والرحمة، ومن الجفاء والأمية إلى الحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة وعلم ومجد وعرفان.

وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55]. وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار، بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم ستر عورته وشبع جوعته، كما في صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه قال: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله ﷺ، ما لنا طعام نأكله إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، وإني التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما منا أحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله حقيرًا. وقد ذكرهم الله بهذه النعمة مقرونًا بذكر ما سبق لهم من البلاء والبأساء وضيق العيش، فقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦ [الأنفال: 26].

قال قتادة: كان العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا أذل الناس ذلًّا وأشقاهم عيشًا وأجوعهم بطونًا وأعراهم ظهورًا وأبينهم ضلالاً، يُؤكلون ولا يأكلون والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر.

وقد بشرهم رسول الله ﷺ بهذا الفتح وسعة الرزق قبل حصوله، كما في البخاري أن النبيﷺ كان عند أم حرام بنت ملحان، فضحك، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: «عُرِضَ عَلَيَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ثَبَجِ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». فقالت أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أَنْتِ مِنْهُمْ»، فخرجت غازية مع زوجها عبادة بن الصامت، فسقطت عن دابتها فماتت رضي الله عنها.

والمقصود، أن رسول الله ﷺ لم يشرع لأمته تعظيم مولده بمثل هذا الاحتفال والتجمع فيه، ثم إلقاء الخطب والأشعار فيه، بل ثبت عنه ما يدل على كراهيته لذلك، ففي الصحيح أن النبيﷺ قال: «لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[70] والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح، وكان يقول: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»[71].

لهذا لم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أئمة المذاهب المتبوعين مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابهم، فلم يثبت عنهم تعظيم مولد الرسول ﷺ ولا التجمع في يومه ولا يوم الإسراء والمعراج، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

وذكر صاحب الإبداع في مضار الابتداع أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح، ويجعلونه عيدًا يعطلون فيه الأعمال والمتاجر، أرادوا أن يضاهئوهم على بدعتهم بتعظيم مولد الرسول ﷺ، فقابلوا بدعة ببدعة ومنكرًا بزور، وعلى من سنها وزر من عمل بها إلى يوم الحشر والنشور.

فتعظيم المولد النبوي ليس من الإسلام ولا من عمل السلف الصالح الكرام، وإنما هو من تقليد النصارى والتشبه بهم.

لقد علمنا أن بعض المنتسبين إلى العلم يحبذون المولد للناس، ويقولون: إنها بدعة حسنة تبرهن عن محبة الرسول ﷺ وتعظيمه في قلوب العوام، لما يترتب عليه من اجتماع الإخوان وإطعام الطعام وإفشاء السلام ويوهمون الناس بأنها بدعة حسنة.

وهذا القول باطل قطعًا، فإنه ليس في الشرع بدعة حسنة، بل «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»، وبالاستمرار على فعلها كل عام فإنه يستقر فرضها أو فضلها في نفوس العوام، متى غيرت أو أزيلت قالوا: غيرت السنة وقد علقوا عليها من الأقوال ما يستدعي إقبال الناس إليها، فكانوا يقولون: إن من يحضر المولد، فإنه يحصل له من الربح كذا ويعافى في جسده وعياله ونحو ذلك من الإرجاف، ومن لم يحضر المولد، فإنه يخسر في ماله ويصاب بالأضرار والأمراض في جسده وعياله. وفي بعض البلدان يُكَفِّرون كل من لم يحضر المولد أو كل من لم يقم عند ذكره.

ومن طبيعة البدعة التمدد والتفجر، ثم التنقل من بلد إلى بلد، بحيث تشتهر وتنتشر والدفع أيسر من الرفع، ونحمد الله أن كنا في عافية من هذه البدعة، فلا تُفعَلْ في بلداننا؛ لأنها من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله ﷺ.

ومثله ما يفعله الناس في رجب باسم الإسراء والمعراج، فكل هذه من البدع التي يقود بعضها إلى بعض، حتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى وتكون في كل عام شرًّا من الذي قبله.

فهذا الكاتب لمّا بالغ في تأييد بدعة المولد واستباح من أجلها تحريف الآيات إلى غير المعنى المراد منها، فقاده غلوه إلى بدعة أخرى، هي أكبر وأنكر، وهي الاحتفال بالنعم وجعله واجبًا على الناس، ولم يسبقه إلى القول به أحد قبله؛ لأن من طبيعة البدع على اختلاف أنواعها التمدد والتفجر، ثم الانتشار، ومن طبيعة نفوس أكثر الناس محبة الباطل وتمركزه فيها، فقد حُفت النار بالشهوات.

فهذا المولد في الأمصار يُفعَل فيه أشياء من المنكرات، من ضرب الدفوف والمعازف وشرب الخمور واجتماع الرجال مع النساء، وغير ذلك من المفاسد ويسندون هذه الأفعال إلى محبة الرسول ﷺ، وهي تنافي محبته.
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إن العبادات الشرعية مبنية على التوفيق والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، فكل عبادة لم يتعبدها رسول الله ﷺ ولا أصحابه، فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً فيما يتعلق بشؤون القرب الدينية، والبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا العبادات، لقد علمنا أن هؤلاء الذين يحتفلون بالمولد وينفقون النفقات الكثيرة في سبيله، أن قصدهم محبة الرسول ﷺ وتعظيمه بإحياء ذكرى مولده كل عام، فهذا هو الظاهر من أمرهم.

غير أنه يجب أن نعلم بأن حسن المقاصد لا يبيح فعل البدع وأن المحبة الطبيعية لا تغني عن المحبة الدينية شيئًا. فهذا أبو طالب عم النبي ﷺ كان يحب رسول الله ﷺ أشد الحب، وقد تربى رسول الله ﷺ في حجره وبالغ في حمايته ونصرته، وشهد بصدق نبوته، لكنه لما لم يطع رسول اللهﷺ في أمره ولم يجتنب نهيه ولم يتبعه على دينه، مات على كفره، ونُهِىَ رسول الله ﷺ عن أن يستغفر له، وأنزل الله في التعزية والتسلية عن عدم إسلامه قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦ [القصص: 56].

ولما ادعى أناس محبة الله ورسوله، أنزل الله عليهم آية المحبة ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ [آل عمران: 31]. فكل من ادعى محبة الله ورسوله ولم يوافقه في أمره ولم ينته عن نهيه فدعواه باطلة.

* * *

[70] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [71] أخرجه النسائي من حديث ابن عباس.

حق الرسول على أمته

إن معنى شهادة أن محمدًا رسول الله هي طاعة الرسول ﷺ فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يُعبَد الله إلا بما شرع لا بمجرد الاستحسان والبدع وأن يكثروا من الصلاة والتسليم عليه في كل حالاتهم وسائر أوقاتهم، فإن الصلاة عليه هي من أفضل القربات وأجل الطاعات، ومن صلى عليه مرة، صلى الله عليه بها عشرًا، والصلاة عليه هي دعاء له من أمته، فقد أمر رسول الله ﷺ بأن نكثر من الصلاة عليه في الصلاة وخارج الصلاة، فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد. وفي مذهب الإمام أحمد بن حنبل: أن الصلاة عليه ركن لا تصح الصلاة بدونه وعند الأئمة الثلاثة أنها مستحبة وليست بواجبة.

كما أمرنا أن نصلي عليه بعد إجابة المؤذن، وأن نسأل له الوسيلة، فقال: «إِذَا سَمِعْتُمْ اَلنِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ اَلْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»[72]. وعن جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.

فالرسول ﷺ أمر أمته بأن يدعوا له مع دعائهم ولا يدعوه من دون الله أبدًا، بل يخلصوا دعاءهم كله لربهم حرصًا منه على قطع مادة دعائه أو التوسل به؛ لأن الذي يُدعَى له لا يُدعَى من دون الله، ثم لنعلم أن من يصلي ويسلم على رسول الله ﷺ وهو بأقصى مشارق الأرض ومغاربها ومن يصلي ويسلم عليه عند حافة قبره أنهما في التبليغ سواء؛ لأن الله قد وكل ملائكة يبلغونه كل من صلى عليه من أمته، فهذا التزاحم عند قبره لا معنى له، إذ التبليغ حاصل من دونه. وروى أبو داود بسند جيد، عن أبي هريرة، قال رسول الله ﷺ: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ».

وعن عليّ بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه وجده أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته عن أبي عن جدي رسول الله ﷺ أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوْا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ عليَّ يَبْلُغُنِي أين كُنْتُمْ».

فنحن نشهد بالله، لقد نصح رسول الله ﷺ أمته وأدى أمانته وأن الحج صحيح بدون زيارة قبره، وأما حديث «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي»[73]، فقد اتفق علماء الحديث على أنه مكذوب على رسول الله ﷺ، وهو ينافي قوله: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا» - أي تعتادون مجيئه- «وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ». وقال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»[74] أن يُتضرع إليه ويُسأل كأن يقول: يا محمد اشفع لي ونحو ذلك من وسائل التوسل به.

وعن جبير بن مطعم، قال: جاء رجل من الأعراب إلى النبي ﷺ فقال: إنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. فقال رسول الله: «سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ» فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: «إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ»[75].

وقال: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»[76].

وفي البخاري و مسلم، أن النبي ﷺ قال: «لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والثناء.

فقد بلغ ونصح وحذر وأنذر، والحمد لله رب العالمين وسلام على عباده المرسلين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

[72] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [73] أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن الجوزي في الموضوعات، وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة. [74] أخرجه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار. [75] أخرجه أبو داود من حديث جبير بن مطعم. [76] أخرجه النسائي من حديث ابن عباس.

في وفاة رسول الله ﷺ

الحمد لله الكريم المنان، خلق الإنسان من عدم ثم قال له: كن فكان، كل يوم هو في شأن، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ [المؤمن: 39]. فسمى الله الدنيا متاعًا، والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه برهة، ثم ينقطع عنه مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ [التوبة: 38]. فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على زوالها فتتبدل صحتها بالسقم ونعيمها بالبؤس وحياتها بالموت وعمارها بالخراب واجتماع أهلها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب.

وهذا الموت الذي يفزع الناس منه والذي أفسد على أهل الدنيا نعيمهم في الدنيا، ليس هو فناء أبدًا، لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ [النجم: 31]. فلا يجزع من الموت ويفزع من هوله إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، فهذا الذي يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الفوت وهول المطلع فيندم، حيث لا ينفعه الندم ويقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦ [الفجر: 24-26].

إن الناس في الدنيا بمثابة الغرباء الذين يعرفون بأن لهم دارًا غير دار الدنيا فهم يجمعون لها ويعملون عملهم في تمهيد الانتقال إليها؛ لأن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه، فيحب الموت لمحبته للقاء ربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، وقد قال الصحابة: يا رسول الله كلنا يكره الموت. قال: «ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بُشِّر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بُشِّر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» [77].

مكث النبي أربعين سنة من عمره لم يُوحَ إليه بشيء، ثم فاجأه الحق بعد الأربعين وهو بغار حراء، فأنزل الله ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. ثم استمر الوحي وتتابع، فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة ظهر له أمارات اقتراب أجله وارتحاله من الدنيا إلى لقاء ربه، فحج بالناس تلك السنة وأنزل الله عليه وهو واقف بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3]. فليس بعد التمام إلا النقص.
إذا تم شيء بدا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم
وفي يوم عرفة، أشار النبي ﷺ للناس في خطبته باقتراب أجله، فقال: «لَعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[78] فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها وخطبهم الخطبة العظيمة، فقال فيها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ: رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع رسول الله بإصبعه إلى السماء يقول: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» - ثلاثًا- رواه مسلم.

وفي وسط أيام التشريق أنزل الله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [سورة النصر]. ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسرها ابن عباس، معناه: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ يا محمد ﴿وَٱلۡفَتۡحُ ١ يعني فتح مكة ﴿وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ طائعين مختارين، فإنه حينئذ قد اقترب أجلك، فتأهب للقائنا، ﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣، فكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه السورة لا يقوم ولا يقعد إلا قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي».

ولما وصل إلى المدينة خطب الناس، فقال في خطبته: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ، بَيْنَ أَنْ يُعطِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فقام أبو بكر فاعتنقه، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال بعض الصحابة: فعجبنا من أبي بكر، كيف يخبر رسول الله عن رجل خيره الله بين أن يعطيه من زهرة الدنيا وزينتها وبين ما عند الله وأبو بكر يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا؟ فكان رسول الله ﷺ هو المخير بين البقاء في زهرة الدنيا وزينتها وبين ما عند الله، وكان أبو بكر هو أعلمنا به[79].

وكان رسول الله ﷺ يعتكف كل سنة العشر الأواخر من رمضان، فاعتكف تلك السنة عشرين يومًا، وكان يعرض القرآن على جبريل كل سنة مرة، فعرضه تلك السنة مرتين، وفي آخر شهر صفر في السنة العاشرة من الهجرة ابتدأ الوجع برسول الله ﷺ ودخل رسول الله على عائشة وهي مضطجعة على حصير وهي تقول: وارأساه، فقال لها: «وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ». فقالت: كأني بك في ذلك اليوم وأنت عروس ببعض نسائك. ثم قال: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ»[80]. ثم استمر به الوجع، فدخلت عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها فسارّها فبكت ثم سارها مرة أخرى فضحكت فقيل لها في ذلك. فقالت: أما إذ سارني فبكيت، فإنه قال لي: «إني سأموت من وجعي هذا فاصبري واحتسبي» فبكيت عند ذلك، وأما إذ سارني الثانية فضحكت، فإنه قال لي: «إِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي»[81] فضحكت. فتوفيت رضي الله عنها بعد أبيها بأربعة أشهر.

وكان رسول الله ﷺ يقول في مرضه: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»[82]. وقيل له: إن الناس ينتظرونك. فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلَّ بِالنَّاسِ، يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ». ولما كشف رسول الله ﷺ ستر الحجرة ورأى الناس صفوفًا يصلون اشتاق إلى الخروج إليهم ليصلي معهم، فدعا عليًّا والعباس فأمرهما أن يحملاه فخرجا به يحملانه ورجلاه تخطان بالأرض، فوضعاه جنب أبي بكر حتى كاد الناس أن يفتتنوا في صلاتهم من الفرح برؤيته، ثم رجع إلى البيت فلم يخرج حتى توفي ﷺ[83]. وكان آخر ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]. من آخر سورة البقرة، توفي بعدها بتسع ليال، لليلتين خلتا من ربيع الأول، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي علي وهو ابن ثلاث وستين سنة رضي الله عنهم وهذا السن هو معرك المنايا. يقول الله: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ ٣٥ [الأنبياء: 34-35]. ووصى رسول الله ﷺ في مرضه بثلاث، فقال: «أنفذوا جيش أسامة، وأجيزوا الوفد بما كنت أجيزه، وأخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب»[84].

وكان رسول الله ﷺ يقسم لنسائه في مرضه، فيأمر من يحمله إلى المرأة في يومها ونوبتها حرصًا منه على العدل والمساواة، وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟»، حرصًا على أن يكون عند عائشة، ولما علم نساؤه أنه يحب أن يكون عند عائشة، أذِنّ له في أن يُمَرَّضَ عند عائشة، فبقي في بيت عائشة فكانت تقول: توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري، وأخذ يعالج من شدة النزع حتى قالت عائشة: ما كنت أغبط أحدًا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من رسول الله ﷺ وكان يمسح العرق عن وجهه ويقول: «إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٌ، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»[85]. ولما توفي رسول اللهﷺ اضطرب الناس اضطرابًا شديدًا، فبعضهم يقول: توفي، وبعضهم يقول: لم يمت، وكان أبو بكر غائبًا في عوالي المدينة عند امرأة من نسائه فلما علم بالخبر جاء فكشف عن وجه رسول اللهﷺ، فقبّله وقال: ما أطيبك حيًّا وميتًا[86]، ثم خرج إلى المسجد والناس فيه أوزاع متفرقون يبكون، فصعد المنبر وأقبل الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤ [آل عمران: 144]. قال عمر: فلما تلا هذه الآية انقطع لها ظهري حتى كأني لم أسمع بها قبل اليوم، وتيقنت أن رسول الله قد مات، ولم يبق في المدينة رجل ولا امرأة إلا ويتلو هذه الآية[87].

وكان رسول الله ﷺ قد جهز جيشًا، فأمّر عليهم أسامة بن زيد، وكان عمر بن الخطاب في جملة هذا الجيش، فنزلوا بالجرف بالقرب من المدينة ينتظرون حالة رسول الله ﷺ، وهل يبرأ من مرضه، فلما توفي وقع الاضطراب في المدينة، حيث ارتدت العرب عن الدين، وقالوا: إنه لو كان نبيًّا لم يمت، فجعل الصحابة على سكك المدينة رجالاً يحرسونها، فلما اشتد الأمر بهم جاء الصحابة إلى أبي بكر، وطلبوا منه أن يرد إليهم جيش أسامة، ليتقووا به على دفاع المرتدين، فقال أبو بكر: والله لا أحل لواء عقده رسول الله ﷺ حتى ولو رأيت نساء رسول الله ﷺ تخطف من بين أيدينا. فقالوا: أما إذ أبيت فأذن لعمر أن يرجع إلينا. قال: أما عمر وحده فلا بأس، فمضى أسامة بجيشه في سبيله، فكان في جيشه البركة والعز والنصر للمسلمين، فكانوا لا يمرون بأحد من المرتدين إلا ردوهم إلى دينهم.

ثم إن جماعة الصحابة اشتغلوا بعقد البيعة حرصًا على حفظ البيضة وجمع شمل المسلمين، فبايعوا أبا بكر طائعين مختارين، وقالوا: رضيك رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ وكان رسول الله ﷺ قد قال لهم: «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[88].

وفي اليوم الثاني من موته أخذوا يشتغلون في تجهيزه، فتولى تغسيله علي والعباس رضي الله عنهما وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله ﷺ إلا نساؤه[89]. لكون المرأة يجوز لها أن تغسل زوجها، كما يجوز للزوج أن يغسل امرأته، وبعد الفراغ من تجهيزه قدموه للصلاة عليه، فصلى عليه الرجال أولاً، ثم صلى عليه الغلمان، ثم صلى عليه النساء، وكان قد قال لهم: «إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيْهِ»[90]، فدفن في بيت عائشة، ثم توفي أبو بكر بعده، فدفن بجواره، ثم توفي عمر، وكان قد طلب من عائشة أن تسمح له بأن يدفن مع صاحبيه فسمحت له بذلك، وكانت عائشة قد رأت في منامها أنه سقط في بيتها ثلاثة أقمار، فوقع تأويل رؤياها بذلك، وجاءت التعزية: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء من كل فائت وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فهذا ملخص وفاة رسول الله ﷺ، وأخبر أن أعمال أمته تُعرَض عليه فيُسر باستقامتهم ومحافظتهم على طاعة ربهم، ويسوؤه مخالفتهم ومعصيتهم لربهم، ونعوذ بالله من أعمال نُخزَى بها عند ربنا ونبينا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

حرر في 18 من ربيع الثاني

سنة 1396هـ.

* * *

[77] أخرجه أبو يعلى من حديث أنس. [78] متفق عليه من حديث أبي عمر. [79] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [80] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [81] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [82] أخرجه أبو داود من حديث علي. [83] متفق عليه من حديث عائشة. [84] أخرجه - بنحوه - البخاري ومسلم من حديث ابن عباس. [85] متفق عليه من حديث عائشة. [86] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [87] أخرجه البخاري من حديث أبي بكر. [88] أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ». [89] أخرجه أبو داود وأحمد وابن ماجه من حديث عائشة. [90] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس بلفظ «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ». وأخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر بلفظ: «لَنْ يُقْبَرَ نَبِيٌّ إِلَّا حَيْثُ يَمُوتُ».

(5) حكمة التفاضل في الميراث بين الذكور والإناث

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

أما بعد:

لقد نشرت المجلة الإسلامية بالمدينة المنورة وغيرها من المجلات العربية عن أحد الملاحدة الذين يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتسبون إلى أهله وهم لهم أعداء قوله:

إن إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر في الميراث إن ذلك ليس من المنطق، وإنه نقص يجب البدار إلى إزالته لأنه لا يناسب تطور المجتمع وإنه ينبغي للحكام أن يطوروا الأحكام حسب تطور المجتمع.

وأقول: إنها متى فسدت الفطر والعقول لم يبق لضلالها حد معقول.

ولولا أن بدعة القول بمساواة الأنثى للذكر قد شاعت وانتشرت وصارت موضع لجاج وجدل، وأخذ يتلقفها إنسان عن إنسان، وتتنقل من مكان إلى مكان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، فلولا ذلك لما تكلفنا الخوض في تطويل الكلام في موضوعها، إذ هي من القضايا الجلية التي لا مجال للجدل في مثلها، وقد فطر الله جميع المسلمين على الإيمان بها والقسم في تركاتهم على حكمها منذ أن بعث الله نبيه محمدًا ﷺ إلى يومنا هذا، ولا عبرة بمن فسق عن أمر ربه واتبع هواه، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 49-50]. لأن الله سبحانه قد فصل فيها الكلام بأحسن تبيان فقال تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡ‍َٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓ [النساء: 32]. فنهى الله الرجل أن يتمنى بأن يكون كحالة المرأة وكذا المرأة أن تكون كحالة الرجل، ويسأل الجميع ربهم من فضله.

إن العقائد الباطلة الإلحادية يجب أن تحارب بالعقائد الصحيحة الدينية، لأن لكل داء دواء، فدحر الباطل بالحق هو مما يقلل فشو الباطل وعدم انتشاره واشتهاره؛ لأن الباطل لا يقوى إلا في حال رقدة الحق عنه فإذا انتبه له مزقه. يقول الله تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞ [الأنبياء: 18].

وبما أن الإسلام اعتقاد وقول وعمل فكذلك الكفر هو اعتقاد وقول وعمل.

وقد أجمع العلماء على كفر من استباح المساواة في الميراث بين الذكور والإناث فيما ورد فيه التفاضل في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ؛ لأنه كفر بالكتاب وبما أرسل الله به رسله وخروج عن شريعة الله إلى حكم الطاغوت، والله سبحانه قد فرض الفرائض وفصل الأحكام وبيَّن للناس الحلال والحرام وليس بعد بيان الله من بيان[91].

﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٧ [النساء: 7].

فكفى الله المؤمنين في كتابه المبين تفصيل القسم في الإرث بين الفريقين فأعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس، ولا منقوص، ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

إن التشريع هو خالص حق الله ورسوله ليس لأحد التدخل فيه بمقتضى الاطراد العرفي ولا الاقتضاء العقلي؛ إذ العقل البشري لن يصلح جعله ميزانًا للحق والعدل.

﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71].

إن الإسلام قد ابتلي بأقوام ينتسبون إليه وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه ويقوضون مبانيه، يقلبون حقائقه في المعقول والمنقول فيجعلون الباطل حقًّا والحق باطلاً والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا والعلم جهلاً والجهل علمًا، يحاولون رفع المرأة عن مستواها الذي خلقت له ويساوونها بالرجل فيما فرض الله فيه التفاضل بينهما في الميراث تأسيًا بالنصارى الذين انطبعت فيهم أخلاقهم، فتبعوهم على طرائقهم وقلدوهم في عقائدهم، يلتقطون لفظهم كلما لفظوا ويتبعون ضلالهم أينما انبعثوا، ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ٥١ [النساء: 51].

إن وظيفة المؤمنين الاستماع والاتباع لا الاستحسان ولا الابتداع ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ [الأعراف: 3]. والشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، ومنها المواريث الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، كلها تنزيل الحكيم العليم شرعها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد وأنها من أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية، فلا مجال للرأي فيما أثبت الله فيه التفاضل بين الذكور والإناث، ﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ [آل عمران: 83]. ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

فالإلزام بالحكم بالمساواة هو حكم جائر بحيث يلزم المسلمين بأن يتوارثوا الأموال بغير حق وبغير ما أنزل الله، فيأكل بعضهم أموال بعض. فتغيير الفرائض التي فرضها الله في كتابه هو تغيير لدين الله يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ [الشورى: 21]. وقد أمر الله نبيه باتباع ما شرعه وعدم الالتفات إلى ما يخالفه وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

سميت الشريعة شريعة لكون الناس يشرعونها وينصرفون عنها راضين بها مأخوذة من شرعة الماء التي يردها الناس.

فقوله: إن إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر إن ذلك ليس من المنطق!! فهذا القول ينبض بالضغن ويفيض بالحقد والطعن على الدين وعلى كتاب الله المبين، وقد قال بعض العلماء: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكِبْرٍ في نفسه. ثم تلا قوله تعالى: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ [الأعراف: 146].

لهذا يجب أن نسأل عن هذا المنطق الذي عناه والذي حاول أن يبطل به حكم الله أهو المنطق اليوناني؟ والذي قال فيه بعض علماء الإسلام: إن من تمنطق فقد تزندق. وأنشدوا:
واعجبًا لمنطق اليونانِ
كم فيه من إفك ومن بهتانِ
مخبط لجيد الأذهانِ
ومفسد لفطرة الإنسانِ
مضطرب الأصول والمعاني
على شفا هار بناه الباني[92]
والمنطق الذي عنى هو منبثق عن الفلسفة التي غايتها ضلال وسفه.

فقوله: إن هذا التقسيم نقص يجب البدار إلى إزالته!! فوصف شريعة الإسلام بالنقص وهو الناقص لا محالة؛ لأنه يحاول ويتمنى تغيير الشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، ليدفع الناس إلى الفوضى والإباحية، بحيث يعيشون عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام، فهذا غاية ما يتمناه هذا الإنسان، وقد حيل بين العير وبين النزوان، ولأجله استدعى حكام الإسلام إلى تطوير الأحكام.

فمعنى التطوير التغيير بجعلهم الحرام حلالاً، والواجب ليس بواجب. نفس ما يفعله النصارى، فقد أجازوا لعلمائهم القسيسين بأن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون؛ لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، من ذلك الصيام كان مشروعًا في ملتهم قيل: صيام خمسين يومًا، فلما رأى القسيسون أن الصيام تطول مدته عليهم، وأنه يَحُول بينهم وبين شهواتهم أخذوا يسقطون منه عشرًا عشرًا حتى أسقطوه بجملته وجعلوا صومهم عن مجرد الفاكهة فقط، فهذا هو التطوير الذي يريده منا.

وإن أرادوا فتنة أبينا

وهذا صريح منه بالجهر بالكفر والعدوان للإسلام.

إن دين الإسلام قد ابتلي بأقوام لا خلاق لهم، ينتسبون إلى الإسلام ويتسمون بأنهم من أهله وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، قد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥ [النساء: 115]. وقد قيل:
الدين يشكو بليهْ
من فرقة فلسفيهْ
لا ترى الشرع إلا
سياسة مدنيهْ
ويؤثرون عليه
مناهج فلسفيهْ
إن الشريعة الإسلامية مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، ولولا هذه الشرائع لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق.

وقد قال رجل من الفلاسفة من عظماء النصارى اسمه هربرت: إن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين، وبناءَها على أساس العلم والعقل، وإن الأمة التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا يحد ضررها. انتهى.

فمتى وُجِدَ من يبارز الدين بالعداء ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته ويدعو إلى الإعراض عنه وعدم التقيد بحدوده وفرائضه ويسعى جهده في تغيير شرائعه وأحكامه، فأولئك هم بغاة الشر ونواة الفتنة والمحاربون لله ورسوله ودينه، ساقهم حادي الغواية وقادهم داعي العماية إلى اكتساح دين الإسلام ودين قومهم العرب الذي شرفوا به على سائر الأمم في مشارق الأرض ومغاربها. كأنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم بأن لا يروا للإسلام والمسلمين حقًّا إلا خذلوه ولا يروا للنصارى باطلاً إلا نصروه بزخرف القول وخداع الألفاظ.
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن دين الإسلام ليس مقصورًا على الصلاة والزكاة والصيام فحسب بل كل ما يحتوي عليه القرآن من التعليمات والفرائض والحدود والأحكام والأمر والنهي والحلال والحرام وقسمة المواريث على حسب ما يستحقه كل فرد بحسبه.

فكل هذه تعتبر من الدين القويم، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36].

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

﴿أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ ٨٣ [آل عمران: 83].

إن الإسلام رفع حالة المرأة من الرق والاضطهاد والظلم وحرمانها نصيبها من الميراث؛ لكون العرب في جاهليتهم كانوا لا يورثون النساء ولا الأولاد الصغار ويقولون: لا نورث إلا من يحمل السلاح معنا ويقاتل عدونا. فرفعها الإسلام إلى حالة العز والإكرام والاحترام، وأن لها كامل التصرف في مالها حين تبلغ رشيدة، وأنها أحق بمالها من ولدها ووالدها وزوجها والناس أجمعين، وأنه لا يحق لأبيها فمن دونه أن يجبرها على نكاح من لا ترغب في نكاحه سواء كانت بكرًا أو ثيبًا وسواء كان الخاطب قريبًا أو بعيدًا ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞ [البقرة: 228]. أي درجة السيادة المشار إليها بقوله: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ [النساء: 34]. وأن لها نصف ما يرثه أخوها حسب سنة الله وفريضته في القرآن.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال رسول الله ﷺ: «يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ». فنزلت آية المواريث ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: 11]. فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَلِأُمِّهِمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ».

قال العلماء: إن هذه أول تركة قسمت في الإسلام، وقد أوصى الله المؤمنين في كتابه المبين فيما يَرِثُونه ويُوَرِّثونه فقال: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١ [النساء: 11].

ثم قال: ﴿۞وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ ١٢ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤ [النساء: 12-14].

ثم قال سبحانه: ﴿يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ١٧٦ [النساء: 176]. وهذه الآية تسمى آية الكلالة فالمستفتى فيها هو الرسول ﷺ والمفتي هو الله سبحانه الذي لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته.

فهذا التفضيل هو حكم الله وفريضة الله ووصية الله وفتوى من الله وأنها من حدود الله التي نصبها لعباده؛ ولهذا ختمها الله تعالى بقوله: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤ [النساء: 13-14].

إن دلالة القرآن على تفصيل هذه الأحكام هي دلالة سمعية عقلية قطعية لا تعترضها الشبهات ولا تتناولها الاحتمالات ولا ينصرف القلب عنها بعد فهمها؛ لأن هذا هو العلم الذي يطمئن إليه القلب وتسكن عنده النفس وتستنير به البصيرة وتقوى به الحجة، من قال به صدق ومن خاصم به فلح ومن حكم به عدل ومن ابتغى غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.

وهذه الآيات كلها محكمات لا نسخ فيها خاصة فيما يتعلق بالتقسيم بين الورثة، وهي تعتبر من أسس التشريع الدائم العام الذي لا يتغير ولا يتبدل بتغير الزمان والمكان وقد عمل بها النبيﷺ والخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون وأئمة المذاهب الأربعة وجميع علماء المسلمين وعامتهم في سائر الأعصار والأمصار، وقد أكد الله هذا الحكم بتأكيدات لا يوجد مثلها في غير هذه المواريث لعلمه سبحانه بما سيقع فيها من الخلط والخبط والتحريف والتغيير، وهي بجملتها توجب العمل بها وعدم العدول عنها.

فذكر بأنها فريضة من الله مرتين، وذكر بأنها وصية من الله مرتين، وذكر بأنها فتوى من الله مرة، وذكر بأن هذا التقسيم وتفصيل الأسهم أنه من حدود الله التي يجب الوقوف على حدها، فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ثم أكد ذلك بقوله: ﴿يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْ [النساء: 176]. أي لئلا تضلوا، فالحكم بمساواة الذكر بالأنثى فيما فرض الله فيه هو من الضلال المبين.

ثم إن قوله: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: 11]. هو خطاب عام موجه إلى جميع المكلفين من الأمة وخاصة القضاة الذين يتولون قسمة التركات بين الورثة وتنفيذ الوصايا ونزع الديون. فلم يَكِلْ سبحانه تقسيم مال الشخص إلى تصرفه بنفسه رحمة منه بعباده حتى أوصى الله بما أوصى به من هذا التقسيم في تفصيل الأسهم فهي بمثابة الحدود المنصوبة للناس بحيث لا يجوز لأحد أن يتجاوزها.

والوصية هي العهد والميثاق من الله لعباده في تنفيذ ما وصاهم به، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه. وهذه الوصية من الله ليست كوصية بعضنا لبعض بحيث يجوز فيها التبديل والتغيير والمحو والإزالة بل هي وصية ثابتة لازمة ودائمة عامة لا يجوز تبديلها، ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. من اهتدى بها ووقف على حدودها فهو المهتدي ومن خالف واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا ولهذا قال: ﴿ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١ [النساء: 11]. فنزع سبحانه بهذه الآية ما يحوك في قلوب أكثر الناس من خوف أحدهم على عياله الصغار أو على بناته الضعاف من الفقر، كما نزع من قلب الشخص ما يجد في نفسه من محبة بعض أولاده وزوجته ومحاولته الجَنَفَ لهم بالزيادة على مستحقهم، فهذا خروج عن سنة الله؛ لأن الله تعالى سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ﴿فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓ [البقرة: 181].

فمن واجب المؤمن أن يقف على حدود فرائض الله وأن يكل أمر ورثته إلى الله ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا [النساء: 135].

وقد اقتضت حكمة الله أن المبرور بالجَنَفِ مضرور، وأن المحروم من حقه مرحوم أي تسبق له الرحمة من الله؛ ولهذا ختمها بقوله: ﴿فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِ [النساء: 11]. فدلت هذه الآيات دلالة واضحة جلية على أن من زاد على حكم الله أو نقص أو حكم بمساواة الأنثى بالذكر فيما فرض الله فيه التفاضل فقد ضل ضلالاً مبينًا وأنه ظلم المرأة بإعطائها فوق حقها كما ظلم سائر الورثة بنقصهم عن مستحقهم الذي فرضه الله تعالى لهم.

لقد ثبت في شريعة الإسلام مساواة النساء للرجال في العبادات، وفي المعاملات وفي الحدود. وكذلك فيما يتوارثون بطريق الرحم المجردة كالإخوة والأخوات من الأم وكذا ذوي الأرحام فإن هؤلاء يستوي ذكرهم وأنثاهم وهذه هي من الحدود والحقوق المفصلة في الشريعة الإسلامية.

ثم لنعلم أن الله سبحانه حكيم في شرعه وقدره فلا يشرع شيئًا من الفرائض والأحكام إلا لحكمة ورحمة سواء أدركوا سر الحكمة أو جهلوها، ولا يزال العلماء يتكلمون في حكمة الشيء الواحد إلى ثلاثة أقوال وأربعة فيمكن إدراك تلك الأقوال أو بعضها لسر الحكمة ويمكن عجزها عنها، إذ ليست العقول بقادرة على إدراك أسرار جميع الحكم والمصالح، فإن من الحكم ما يعجز البشر عن إدراك أسرارها لكنهم مع عجزهم يؤمنون بكل ما شرع الله إيمانًا جازمًا وأن الله سبحانه لم يخبر بما ينفيه العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115].

من ذلك شرعه في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين.

والحكمة فيه أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه وعياله وأنه أصل عمود النسب والمطالب بالنفقة على زوجه وعياله ما تناسلوا بل وعلى سائر من يرثه من أقاربه الفقراء.

بخلاف الأنثى فإنها ما دامت في بيت أهلها فإنهم ينفقون عليها ومتى تزوجت أنفق عليها زوجها. فالذكر هو العنصر الأكبر والعامل الأقدر في المجتمع، وهو المنوط به الدفاع والحماية والرعاية بحيث يسعى على امرأته وعياله بما يحتاجون إليه من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسيدة عشيرة ومربية للبنين والبنات لما جبلت عليه من العطف واللطف والصبر على مزاولة التربية فهي بمثابة الملكة المحشومة في بيتها تعمل عملها في إصلاح شؤون بيتها وتهدي وتتصدق بالمعروف وزوجها مع فخره وعلو قدره يقيم نفسه مقام الخادم لها في جلب ما تحتاجه، وقد حكم النبي ﷺ بين علي وفاطمة على أن فاطمة عليها الخدمة داخل البيت وعليٌّ عليه جلب ما تحتاجه خارج البيت، وهذا الحكم يرفع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع إذ هو حكم رسول الله ﷺ، وإذا جاء سيل الله بطل نهر معقل.

وهذا يعد من باب توزيع العمل ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞ [البقرة: 228].

إن الأحكام الدينية ومنها المواريث الشرعية هي تنزيل الحكيم العليم فلا مجال للرأي فيما أثبت الله فيها من التفضيل، إذ العبادة هي ما ثبتت بطريق شرعي من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. إذ من المعلوم أنه لا يسوغ لمسلم الخروج عن شريعة القرآن وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.

ولا يسوغ لعاقل مسلم أن يتبع كل نزعة تستحسن أو تستهجن من كل ما يخالف دين الحق من الكتاب والسنة وهذا معروف ولا يجهله أحد.

إن كل من عرف فضل الإسلام وشمول نفعه وعدله في حكمه وقسمه بين عباده فيما يورثونه ويرثونه، وأنه قد أعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص، وأنه عدل الله في أرضه ورحمته لعباده قد فرض الفرائض وسن الأحكام وبيَّن للناس الحلال والحرام وأمر ببر الوالدين وصلة الأرحام. وأنزل الله تعالى: ﴿ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ١٠ [الممتحنة: 10].

فلا يحل لشخص يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفر بماله عن وارثه بحيث يوصي بحرمانه، ولا أن يوصي بماله كله ولو في سبيل الصدقة والعتق، ولا أن يوصي بما يزيد على الثلث ولا أن يوصي لوارثه بشيء. ومن نظر إلى الأمم من غير المسلمين وخاصة النصارى وسأل عما يفعلون فيما يخلفونه عرف حينئذ أن منهم من يوصي بماله كله مع كثرته للكلاب تطعم به حتى ينفد ثم تنفذ وصيته حتى لو كان أبوه أو أمه أو أولاده في أشد الحاجة والفقر. وهل هذا إلا محض الجنون والخبال والضلال والغاية في إفساد المال وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام. والله تعالى يقول: ﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ [الأنفال: 75]. وهم وإن افتخروا على الناس بالنبوغ والتفوق في العلم والفنون والصنائع والمخترعات وسائر أمور الحياة من كل ما يشبه خوارق العادات. لكنهم يرجعون القهقرى إلى الأخلاق السيئة والعادات الرذيلة على نسبة عكسية من ارتقائهم في العلوم المادية، فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل وجرأة على اقتراف الجرائم حتى عدوا الزنا من مكملات حرية المرأة التي جوّز لها أن تتمتع بها، فلا يعدونه جريمة وكذلك اللواط بين الرجال فقد أباحوه قانونًا فليس بحرام عندهم مع العلم أن هذه كلها محرمة في شريعة المسيح.

فنقضوا بذلك ميثاق الزوجية الشرعية وعقوا الوالدين وقطعوا الأرحام ونبذوا هداية الأديان وصاروا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من دين وأدب وعرف وعقل حتى أخذ بعضهم يرجع إلى عيشة العراء والأحوال المزرية تقليدًا للبهائم السائبة ويقولون: ما الإنسان إلا أحد الحيوان. وفي النهاية أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم وتهديهم.

والحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. إن دين الإسلام هو دين البشرية كلها مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم يهوديهم ونصرانيهم ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. فهو الدين العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية. الصالح لكل زمان ومكان. قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان فلا يوجب شيئًا من الواجبات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة ولا يحرم شيئًا من المحرمات إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة. فهو الدين الحكم القسط الذي يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق.

وما كان هذا الدين ليتحمل أمانة البشرية كلها إلا وهو يحمل في تعاليمه وأحكامه وقواعده وعقائده ما يجعله كفيلاً وحقيقًا بهذه التسمية لينتهي بالناس إلى الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة ليكونوا مستقيمين آمنين على دينهم وأنفسهم وأهلهم وأعراضهم بحيث يسود الإخاء والمحبة بينهم فهو خير لهم مما يجمعون.

إن الدنيا بلا دين هي غاية البلاء والشقاء على أهلها وعلى الناس أجمعين.. فإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فانظر إلى الدول الكبرى وما أوتيت من العلم والمقدرة الجبارة على اختراع الصنائع الباهرة والفنون المتنوعة حتى استطاعوا أن يصعدوا بوسائل علمهم وأعمالهم إلى سطح القمر، وقد أزمعوا على الصعود إلى ما هو أعلى منه وأبعد حيث لم تقف همتهم ولا نهمتهم على حد.

فأوجدوا للناس من الفنون والمخترعات وسائر أمور الحياة ما يكاد يلحقها بخوارق العادات حتى غاصوا بوسائل علمهم في قعر البحار وحتى تخاطبوا بالكلام الفصيح من أقصى الأقطار، وهم دائمًا يستمرون في جلب المنافع والمضار، وقد بذلوا الآن غاية جهدهم ونشاطهم ومكرهم وكيدهم في اختراع فنون السلاح الفتاك الذي ينادي بشقائهم وشقاء الناس معهم ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ [الرعد: 31]. وقد صرفوا جل ما لهم في هذا السبيل وتبعهم ملوك العرب في جلب السلاح للاتقاء والتقوية به. فمن جنون سلاحهم ما تقضي القنبلة الواحدة منه بفناء الملايين من الآدميين من غير المحاربين من بين شيوخ ونساء وأطفال وبهائم فضلاً عن تدميرها لمناطق ومدن بأكملها وبما عليها، وصار علمهم وعملهم أشد جناية عليهم وعلى جميع الناس معهم ونعوذ بالله من علم لا ينفع.

وقد تحققوا وأيقنوا بمواقع الخطر عليهم أنفسهم وأنه يهددهم ليلاً ونهارًا. وأشدهم قوة وحضارة هي أشدهم خوفًا على أمنها وأمتها. لهذا أخذوا يعقدون الاجتماعات على إثر الاجتماعات لتبادل الآراء في القضاء على أشدها خطرًا كالقنبلة الذرية وما شاكلها استبقاء لحياتهم وحياة الناس معهم، فهم يتفقون على استحسان هذا لكنهم لا يثق بعضهم ببعض في الوفاء به وما كان عهدهم إلا أن تكون أمة هي أربى من أمة. وبذلك يعلم أن هذا العلم والاختراع الذي تفوقوا فيه والخالي عن الدين أنه حقيقة في الشقاء على الناس أجمعين.

فمن الواجب على الملوك والعلماء والعقلاء الذين يتألمون من انتشار المفاسد المادية التي تطاير شررها وتفاقم شرها أن يعنوا بدعوة جميع الشعوب إلى دين الإسلام الذي هو دينهم الحقيقي ودين جميع الناس معهم والذين لا تكمل حضارتهم بدون هدايته، فهو الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم لاشتماله على جميع ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الديني والدنيوي والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي، وقد كذب من ادعى عزل الدين عن الدولة لقول الله تعالى: ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩ [الأنعام: 89].

والمقصود أن إنكار حكم الله في تفضيل الذكور على الإناث في الميراث أنه ردة عن دين الإسلام، وقد عد العلماء من نواقض الإسلام من ادعى أن حكم المخلوق أعدل من حكم الله. فقد شرع الله الدين رحمة للعالمين بقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء:107].

ومتى عزلت الرحمة عن الأمة حل محلها العقوبة والشدة والنقمة كما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

وهذا الرجل لما ضل عن الحق في نفسه بث دعاية السوء في الناس ليضلهم معه فكان فيه حظ وافر ونصيب كبير من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨ ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٩ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ١٠ [الحج: 8-10].

ففي هذه الآيات دلالة مطابقة والتزام لحالة هذا الرجل وإلحاده ومن كان على طريقته ومثاله. فإن قوله ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ أي أن بعض الناس ﴿يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ أي علم نقلي يرشده إلى التحقيق ﴿وَلَا هُدٗى عقلي يهتدي به لسلوك أقوم طريق ﴿وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨ ينقل عنه ويستدل به بل هو مسلوب الرواية والدراية ومصروف عن الهداية ﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ أي قد ازور بجانبه عن الحق تكبرًا عليه وإعراضًا عنه. وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه. ثم تلا قوله تعالى ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ [الأعراف: 146].

وهذا معنى قوله: ﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فاللام لام العاقبة ويحتمل أن تكون للتعليل لأن ما قبلها سبب لحصول ما بعدها، يعني أن جحوده للحق وجداله بالباطل مؤد إلى غرض أراده، وذلك أنه لما ضل عن الحق في نفسه بث دعاية السوء في الناس ليضلهم معه فجمع بين الضلال والإضلال ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٥٧ [البقرة: 257].

ولهذا قال في جزائه العاجل: ﴿لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ أي ذل وهو أن يخزى به في حياته ﴿وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٩ أي بعد وفاته ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ أي بما كتبته من بث الدعاية إلى فنون الضلالة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ [المجادلة: 5]. أي أُذِلوا وخُذِلوا. يقال: كَبَتَ الله العدو إذا خذله. وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ ٢٠ كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓ [المجادلة: 20-21]. ومعنى يحادون الله ورسوله أي أنهم في حد والله ورسوله في حد. نظيره قوله: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ [النساء: 115]. أي يكون في شق والرسول في شق.

وهذا الخزي وهذا الكبت وهذا الذل هو ضربة لازب في حق كل من تصدى للدعوة إلى الباطل ليضل الناس عن الحق.

واقتضت حكمة الله في خلقه أن كل من تصدى للدعوة إلى الضلال بالتأليف والنشر وتأسيس المقالات الباطلة فإنه يصاب بالخزي والذل والهوان في حياته ويحتقب الناس بغضه وعداوته ويخلد له الذكر الخامل والسمعة السيئة بعد وفاته، بحيث يغطي أولاده وأقاربه وجوههم عند ذكره وتبقى كتب الإسلام والسنة تنادي بخزيه، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ.
والخير أبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
يقول الله تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ [التوبة: 12]. فكل واحد منهم موجبه للقتل والقتال نكث الأيمان والطعن في الدين وهي أشد وأشر من الأولى، وإنما شرع الجهاد في سبيل الله لحماية الدين والأنفس؛ ولهذا سماهم الله أئمة الكفر من أجل أن الناس يأتمون بهم في ضلالهم. لأن الناس يأتم بعضهم ببعض في الخير والشر. وللخير أئمة يقتدي بهم الناس فيه. قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤ [السجدة: 24]. فهؤلاء هم القادة إلى الخير وهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. ومنه قوله: ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا ٧٤ [الفرقان: 74].

وللشر أئمة يقتدي بهم الناس فيه كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ ٤١ وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِينَ ٤٢ [القصص: 41-42].

وفي الصحيحين عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟. قال: «نَعَمْ». قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ». قلت: وما دخنه. قال: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هُدَايَ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ قَذَفُوهُ فِيهَا». قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» الحديث.

والله سبحانه قد فاوت بين خلقه فجعل منهم من هو أفضل من الملائكة وجعل منهم من هو شر من الشياطين، ونعوذ بالله من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس أي يوسوس بالشر في صدور الناس.
وللخير أهل يعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامعُ
وللشر أهل يعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابعُ
وليعتبر المعتبر بعلماء الضلال الذين بالغوا في الجدال بالباطل بالتأليف والنشر لصد الناس عن الحق مثل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وبشر المريسي والحلاج وابن عربي صاحب الفصوص وغيرهم ومن المتأخرين مثل صاحب الأغلال وطه حسين وأشباههما فلا يذكرون إلا بأسوأ الذكر، وبقيت كتبهم وكتب أهل الإسلام في الرد عليهم بمثابة المثالب عليهم تنادي بخزيهم وذلهم وضلالهم، وفي الغالب أنهم يندمون على سوء ما قدموه وما كتبوه أشد الندم في آخر حياتهم وخاصة عند الإشراف على مماتهم كما قيل من أن طه حسين تاب وندم في آخر حياته وقد قيل:
إذا كنت من فرط السفاه معطلاً
فيا جاهل اعلم أنني غير جاحد
أخاف من الله العقوبة آجلاً
وأعلم أن الأمر في يد واحد
فإني رأيت الملحدين تعودهم
ندامتهم عند الأكف اللواحد
وبضد هؤلاء مشاهير علماء الإسلام ومصابيح الظلام الذين جادلوا وجاهدوا في نصر الحق ونصح الخلق وحماية الدين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وابن كثير والحافظ ابن حجر والذهبي والشاطبي وابن جرير والبغوي ومن قبلهم البخاري ومسلم وسائر أئمة الحديث وكذا أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم حيث خلدهم التاريخ بالذكر الجميل والثناء الحسن الذي يُذكَرون به مدى الدهر، أجسامهم مفقودة وآثارهم وأذكارهم في القلوب موجودة.
ماتوا ولم تمت مكارمهم
حتى كأنهم بين الناس أحياء
فهؤلاء هم أئمة الهدى الذين قال الله فيهم: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣ [الأنبياء: 73]. فهم أنفع الناس للناس، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وكل عالم ومعلم متى نُشِرَ كتب أحدهم استُغفِر له وسُئِلَ الله له العفو والمغفرة، ثم إن هذا العلم الذي كتبوه ونشروه فإنه يجري ثوابه لهم ما انتفع به أحد من خلق الله إذ هو من الباقيات الصالحات؛ ولهذا قيل: مصنف الشخص ولده المخلد.

والمقصود أن دعوته الحكام إلى تطوير الأحكام أنها دعوة إلحاد خاطئة لا تستحق أن يصاغ لها؛ لأن أكثر ما يفسد الدين هو زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين.

وقالوا: صنفان من الناس إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس؛ العلماء والأمراء.

والناس متفاوتون في الأغراض والأعمال والغايات كما أنهم متفاوتون في العقائد والأعمال والنيات وكل امرئ بما كسب رهين.

والنبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ»[93].

ولما قرأ النبي ﷺ قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٨١ [الأعراف: 181]. قال رسول الله ﷺ: «هذه لكم وقد مضى للقوم بين أيديكم مثلها»، ثم قرأ: ﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٥٩ [الأعراف: 159].

إن مدار الشريعة على حماية الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول وآكدها حماية الدين الذي هو دين الحق ودين جميع الخلق.

﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]. ولا إسلام إلا بالعمل بشريعته وأحكامه وصلاته وزكاته وصيامه وأمور حلاله وحرامه.

فمتى وُجِد من يبارز الدين بالعداء ويجهر بالطعن فيه ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته، ويدعو الناس إلى الإعراض عنه وعدم التقيد به ويدعو إلى تغيير شرائعه وأحكامه ويرمي القلوب بالتشكيك فيه والتكذيب به وإنكار الوحي وبعثة الرسل وما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين الدالة على صدقهم كعصا موسى وما أثبته الله في كتابه من كرامات الأولياء الخارقة للعادة كقصة أهل الكهف وغيرها وينسبها إلى أساطير الأولين ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٥ قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦ [الفرقان: 5-6]. فالمنكرون لهذه أو المكذبون بها هم أئمة الكفر ونواة الشر وثوار الفتنة والمحاربون لله ورسوله ودينه وعباده المؤمنين.

ومتى خرجت أمثال هذه الكفريات من حاكم مطاع أو رئيس متبع فإن الابتلاء بها أشد والفتنة بها أشر؛ لكون العامة مقلدة في عقائدهم لرؤسائهم على حد ما قيل: «النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ» وقد حكى الله عن أهل النار أنهم قالوا: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧ [الأحزاب: 67].

وفي كتاب النبي ﷺ لهرقل عظيم الروم:

«مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِينَ»[94] يعني الأتباع.

إنه لمما يسرني ويسر كل مسلم غيور على الدين حينما نسمع بأن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون الاجتماع لها للتذاكر في شؤون أممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان منهم.

وهي أن الأمر الذي فل حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم بالعمل بهداية دينهم وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم.

وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته فهو الكفيل بإصلاح دينهم ودنياهم.

فهم يتناصحون بهذا ويتواصون به ولم يبق عليهم سوى التنفيذ وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.

وإن من ثمرة هذا الاجتماع كون أحد هؤلاء الأمراء متى شذ عن الدين وتبين منه بوادر السوء بالطعن فيه لصد الناس عنه فإنه يجب مناصحته بالجد رجاء رجوعه إلى دينه القويم وسلوك الصراط المستقيم، لأن هذا من واجبات الدين وهو محض نفع لهذا الملتوي من الحق، بحيث إن هذه النصيحة قد تقيم أوده وتصلح فاسده، ولأن الطعن في الدين أشد وأشر من الطعن في نحور عباد الله المؤمنين ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ. فإن أصر على تمرده وإلحاده وجب على أمراء المسلمين إنكارهم له وكراهيتهم لقوله وفعله، ثم ينزعوا أيديهم عن يده لاعتبار أنه ليس منهم ولا هم منه، ولأن الردة عن الإسلام تقطع النسب بين الرجل وأهله، إذ المرتد شر من الكافر الأصلي، فإن إنكارهم لذلك وإظهار الكراهية له هو مما يوجب رجوعه وعدم إصراره، فيعود نفع هذا الإنكار عليه نفسه وعلى كافة الناس معه، وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه ويدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية بدله لزعمهم أن أحكام شريعة الدين لا يتلاءم الحكم بها مع القرن العشرين. وكان لقولهم هذا في نفوس الرؤساء أشد الأثر مما يقتضي نفرتهم عن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية واستبدالهم بها القوانين الوضعية، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار. فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأن شرائع الإسلام تهذب أخلاقهم وتطهرهم عن كفرهم ونفاقهم، ثم تحثهم على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، ولولاها لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام واستباحوا الجهر بمنكرات الكفر والفسوق والعصيان كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال؟!

وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

يا معشر العرب إن الله قد أعزكم بالإسلام ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم الله.

إن لفساد الدين عوامل ساعدت على ضعفه ثم على ضعف أهله وكل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا في دخول الضعف منه على العباد، وقد اختلف المؤرخون في سبب دخول هذا الضعف وبدايته فقيل: سببه إهمال الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والاعتياض عن هذا كله بالركون إلى الدنيا والاطمئنان فيها.

ويستدلون لذلك بما روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَتِ الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا». قالوا: يا رسول الله أومن قلة نحن يومئذ؟. قال: «لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل ينزع الله مهابة عدوكم منكم ويسكنكم مهابتهم ويلقي الله في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن يا رسول الله قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».

وقيل: إن سبب الضعف هو الإخلال بعدة الحرب وقوته التي تعين على تنفيذ الحق والإلزام به وتحمي حوزته من توثب الأعداء عليه.

وقيل: سببه من أجل الفتن الواقعة بين أمراء المسلمين فتسرب الأعداء إلى بلادهم في حال اضطرابهم وتحاربهم، وقد يلتجئ بهم من يرى أنه مغلوب على أمره فيقودهم إلى بلاد المسلمين.

وقيل: إنه من أجل التخصيص بالولاية لمن ليس بكفء ونبذ المشاورة الشرعية التي أمر الله بها.

وقيل: إنه من أجل الأئمة المضلين أي الأمراء المستبدين الذين التووا عن طريق الحق القويم والصراط المستقيم وتنكبوا طريق رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه وألزموا الناس بمخالفة شريعة الدين فتبعهم الناس على ضلالهم وفساد اعتقادهم حتى صارت البدعة سنة والمنكر معروفًا، وهو نفس ما خافه النبي ﷺ على أمته حيث قال: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ». رواه البرقاني في صحيحه عن ثوبان.

ولعل هذه هي أعظمها ضررًا وأشدها خطرًا ومنه بدأ هذا النقص الواقع حتى اتسع الخرق على الراقع.

إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاط وصار فتنة للذين كفروا ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا [الممتحنة: 5]. وإذا صح وصلح صار آلة قوة ونشاط، كما شهدت جميع التآريخ العربية والغربية للإسلام لما كان صحيحًا بأنه لا طاقة لأحد من الدول بمصارعته ولا محيص لهم عن التزام طاعته، سواء قلنا بحمل الجمع على الجمع أو بحمل الأفراد على الأفراد حتى كانوا هم الصدر المقدم والسيد المرهوب عند جميع الأمم وأنجز لهم مصداق ما وعدهم الله بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧ [الروم: 47]. وقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا [المؤمن: 51]. وقوله: ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ [محمد: 7]. ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق ورعايته ابتغاء مرضات الله ومثوبته.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
والحاصل أن ضعف المسلمين في هذه القرون الأخيرة لم يكن من الدين وإنما هو من أجل الجهل بالدين أو من أجل الإعراض عنه أو من أجل عدم إجراء أحكامه كما ينبغي. ولن يزول عنهم هذا الضعف إلا بمراجعة الدين نفسه وائتلاف أخلاقهم بأخلاقه وتقاذفهم في أغراضه وغاياته ولن ينهضوا إلا بذلك الدين نفسه الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

إن الدين متى صح صار من أقوى القواعد في إصلاح الدنيا واستقامتها وحصول السعادة فيها لأنه يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة وبين مصالح الروح والجسد، ويوصل من تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة، رأسه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلوات الخمس المفروضة، وإيتاء الزكاة الواجبة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام عند الاستطاعة. وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

فليس الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال فلا إسلام بدون عمل.

ثم إن هذا الضعف في المسلمين والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم بل تقع ثم تزول فهي وصف عارض كالأمراض الطبيعية وربما صحت الأبدان بالعلل. فقد تقع في مكان دون مكان وفي زمان دون زمان. وقد تقع ثم تزول ويعود الدين والمسلمون إلى قوة ونشاط وانتشار كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ حين ارتد العرب عنه ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد بجواثى عبد القيس المعروف بالإحساء وعلى أثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره كما قال أنس بن مالك: إنه لما توفي رسول الله ﷺ كنا كالغنم المطيرة فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة. وأما قول النبي ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»[95] وقد اتخذ بعض الناس هذا الحديث بمثابة التحذير للأمم والتخذيل للهمم بحيث يجعلونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ولأئمة المسلمين، حتى كأن الرسول بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف في المسلمين والغربة للدين وحتى لا يسعى أحد منهم بحوله وبجهده وجهاده لدفع هذا الضعف أو رفعه وهذا خطأ واضح لفهم الحديث.

فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما قصد به التمسك بالدين وعدم الاغترار بضعف العمل به في آخر الزمان فقد قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ».

فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار ليتأهبوا بالحزم وفعل أولي العزم عن وسائل التعويق ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، وقد ثبت في الصحيح أنه «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[96].

و «إن الله لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»[97] «وَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[98] وأن «مثل هذه الأمة مثل المطر كما يرجى الخير من أوله يرجى في آخره»[99] فكل هذه الآثار تدل على تقلب الأحوال وأن الدين لا يزال باقيًا دائمًا، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة قد ظن بالله ظن السوء، وهذه الآثار لا تنافي حديث «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» فإن معناه أن الإسلام يكون في بعض الأحيان غريبًا ذليلاً ثم يكون عزيزًا منتشرًا كما قدمنا.

ولا تزال المصارعة قائمة بين الحق والباطل والعاقبة للمتقين.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمنِ
فالعاقل لا يستوحش طرق الإسلام لقلة السالكين ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

[91] إن أول من أحدث بدعة القول بمساواة الذكور والإناث في الميراث هي تركيا حين اختارت القانون السويسري وأحلته محل الأحكام الشرعية وذلك بعد استيلاء كمال أتاتورك على الحكم. وقد كان يهوديًّا من الدونمة وكانت هذه الفكرة من تغيير الشرائع الدينية هي من أقوى أسباب انحطاط تركيا وتمزق ملكها ثم انتقلت هذه الفكرة بطريق العدوى والتقليد الأعمى إلى تونس ثم إلى الصومال وحصل على أثرها ما حصل من قتل علماء الصومال. ونص ما جاء في جريدة الأهرام في العدد الصادر بتاريخ 22 رمضان سنة 1344هـ: ليعلم القراء أن وزارة الحقانية في أنقرة انتهت من ترجمة قانون سويسرا المدني وعرضته على المجلس الوطني الكبير ليوافق عليه، فيحل في المحاكم التركية محل مجلة الأحكام الشرعية المأخوذة من الفقه الحنفي من ذلك مسألة نصيب المرأة من الإرث بالنسبة إلى الرجل. ففي مجلة الأحكام الشرعية جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل فجاء القانون الذي سنه الكماليون. انتهى. فعطل هذا الحكم الشرعي وجعل نصيب المرأة كنصيب الرجل تمامًا. [92] للعلامة ابن القيم رحمه الله من مفتاح دار السعادة. [93] رواه أحمد من حديث ابن مسعود. [94] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [95] رواه مسلم من حديث أبي هريرة ورواه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود وفيه: قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ». وأخرجه أبو بكر الآجري وعنده قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ». ورواه الترمذي بلفظ: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سَنَّتِي». [96] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية والمغيرة بن شعبة وأخرجه مسلم من حديث ثوبان وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله. [97] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة والحاكم في المستدرك. [98] رواه أبو حاتم من حديث الخولاني. [99] رواه الترمذي عن أنس قال. قال رسول الله ﷺ: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ».

فساد اعتقاد حريَّة الرأي

حرية الرأي هي من محدثات الأمور في هذا العصر كحدوث الشيوعية والبهائية والقاديانية فهي من محدثات الأمور وشر الأمور محدثاتها، وكلها من الفتن التي يرقق بعضها بعضًا الآخرة شر من الأولى، وحقيقة الحرية في عرفهم استباحة الجهر بكل ما يعن بالفكر من آراء الكفر؛ لأنهم قد تحللوا عن التقيد بحدود الدين وحقوقه، وبنوا لهم من حرية الرأي ما يحاولون به حقن دمائهم وحرمة مالهم حتى ولو كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، ومن المعلوم بالاختيار أنه قد انتشرت حرية الرأي في الأمصار التي أفسد التفرنج تربية أهلها فكانوا يجهرون بالكفر بالله وإنكار وجود الخالق، وإنكار الوحي، وبعثة الرسل، أو يطعنون في نبوة محمد ﷺ. وفي القرآن النازل عليه، وينكرون البعث للجزاء والحساب ويكذبون بالجنة والنار، ثم يعتذرون عن كل ما يقولون بدعوى حرية الرأي كأنها تبرر لهم سوء مقاصدهم، ومع هذا الكفر المتظاهر فترى أحدهم يدعي الإسلام بمعنى الجنسية لا بمعنى التزام أحكامه الشرعية. وقد أخبر الله سبحانه بأنه لم يخلق الإنسان سدى أي مهملاً يتصرف كيف شاء. قال تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ [القيامة: 36]. أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى بل خلقه مقيدًا بحدود وحقوق وأمر ونهي.

وبما أن الإسلام اعتقاد وقول وعمل فكذلك الكفر هو قول واعتقاد وعمل فهؤلاء عند العلماء يعتبرون مرتدين عن دين الإسلام لعدم تقيدهم بالأحكام وأمور الحلال والحرام ويسمون بالإباحيين الذين ليس لهم خلق ولا دين ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهايم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.

إن جهل الناس بكنه حرية الرأي وحقيقة مضارها للأخلاق والأعمال والعقائد، لمما يقود العامة إلى الخروج عن الأخلاق الفاضلة وعن حدود الدين وآدابه ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأخلاق والأعمال والأحوال والتضارب في الآراء والأفكار، وعلى قدر انتشار هذه الفكرة يتضخم الجهل ويستفحل الكفر وتسود الفوضى في الجماعات والأفراد حتى تكون من أقوى عوامل الانحطاط وفساد العقائد والأعمال؛ لهذا كان من الواجب على علماء المسلمين وعلى القائمين بتحرير الجرائد وتعميم نشرها أن يبنوا للناس فساد هذه الفكرة وما ينجم عنها من المضار في الأخلاق والأعمال وأنهم يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة ويبثون بين الناس عوامل الفساد والسفاهة من كل ما يزيغهم عن معتقدهم الصحيح ويقودهم إلى الإلحاد والتعطيل أو إلى الفوضى اللادينية، والأخلاق البهيمية لكون أحدهم يفضل الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين. والعامة بما طبعوا عليه من الجهالة والسذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة قد يعتقدون صحة ما يقول هؤلاء خصوصًا عند سكوت العلماء عن مساوئها. فتتغير بذلك عقولهم وعقائدهم وينقادون إلى داعي التضليل والتمويه.

ومما يسبب انتشار حرية الرأي إطلاق السراح للكتاب وكتاب الجرائد المعروفين بترويج الباطل، فتراه يطعن في الأديان ويكذب بالرسول والقرآن كله بحجة حرية الرأي، ولو تصدى لأحدهم من يتحامل عليه بالطعن فيه وفي أخلاقه بذكر معايبه ومثالبه، والطعن في عرض أهله بحجة حرية الرأي - ولو كان صادقًا في طعنه - لأثارها عليه غضبًا وحربًا وهذا هو حقيقة ما عناه الشاعر بقوله:
يُقاد للسجن من سبَّ الزعيم ومن
سب الإله فإن الناس أحرارُ
لكون حرية الرأي يصغي إليها وينقاد لها من يظنها حقًّا وهي بالحقيقة باطل لكونها عرضة للتلاعب وللتحليل والتحريم والتحريف بمجرد الهوى ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون:71]. ثم إن هؤلاء الذين تبنوا هذه الفكرة وجعلوها لهم عقيدة وطريقة هم الذين سلطوا على استعباد الناس بالنار والحديد وسخروهم في مصالحهم كالعبيد فهم يسلبون الناس حريتهم باسم الحرية.

لهذا يجب مقاطعة الجرائد التي تقوم بنشر آرائهم لاعتبارها جرثومة فساد ومن أسباب خراب البلاد وضلال العباد.

إن جناية التحرير التي يتطلع إليها كل الناس الذكر والأنثى والكبير والصغير يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير إذ الجناية على الدين أشد من الجناية على الأنفس والفتنة في الدين أشد من القتل، وإن الحرية التي يلهج الإباحيون بتحبيرها هي منصرفة إلى التحلل عن الفرائض والفضائل وإباحة ارتكاب منكرات الأخلاق والرذائل جهارًا، ويعتقدون أن هذه من الكمالات الأوروبية، ويقول أحدهم: إن لكل هؤلاء الذين عودونا على التحرر شكر الإنسانية أجمع، فهم غالبًا لا يصلون ولا يصومون ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق قد رضوا بأن يعيشوا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. ولهذه الأسباب أصبح سوء الطباع وفساد الأوضاع ساريًا في أخلاقهم، فدخل عليهم بسببه من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق. وكم جر هذا الاعتقاد إلى سقوط الفرائض والفضائل والتخلق بمنكرات الأخلاق والرذائل، لأن الشرائع الدينية هي التي تهذب الأخلاق وتطيب الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق، وكل من هرب عن التقيد بعبودية الرحمن فإنه لا بد أن يسترقه الشيطان على حد ما قيل:
هربوا من الرق الذي خُلقوا له
فبُلوا برق الكفر والشيطانِ
إن من شرط صحة حرية الرأي أن لا يتجاوز بها حدود الحق والعدل، سواء كان فيما يتعامل به في نفسه مع أهله وماله وعياله، أو فيما يتعامل به مع سائر الناس، وإلا كان متعديًا ظالمًا؛ لأن الحرية الفكرية عند بعضهم هي أن تجهر بشتم عقيدة الأمم والاستخفاف بدينها أو كتابها المقدس فإن لم تفعل كنت جامدًا لا تفهم الحرية ولا تؤمن بها.

والحرية الشخصية عند بعضهم هي أن تفعل ما تشاء وترتكب من المنكرات ما تشتهي غير مبال بالناس.

إن العلماء والعقلاء يعرفون الفرق بين الحرية الصحيحة وبين الحرية التي هي الفوضوية في الأخلاق والآداب والرذائل.

فإن أحدًا لا يستطيع أن يكون حرًّا في كل شيء وأنه يسوغ له أن يتصرف كيف يشاء ويفعل ما يشاء ويخرج إلى الطريق عريانًا كما يريد بحجة الحرية الشخصية، وبذلك تسقط حرمة الحدود والتشريع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويصبح الناس كالحيوانات في سبيل أهوائهم وشهواتهم، فالنصارى الذين سنوا للناس حرية الرأي أصبحوا وهم يقاسون منها الأنكاد والأكدار والشرور والأضرار، حيث اعتنق سفهاؤهم هذه الفكرة فصالوا بها على خرق الأنظمة والقوانين والأشياء المحرمة في عرفهم بدعوى حرية الرأي.

إنه يجب أن نعرف الفرق بين الحرية الصحيحة وبين الفوضى، وأن الحرية الصحيحة هي التصرف في حدود حقك المباح لك بحيث لا تطغى على حق الآخرين، ولا تخرج عن سنة العدل والعرف، حتى فيما يخص الإنسان في نفسه وأهله وماله. والفوضى هي طغيانك على حق الآخرين أو التصرف بما يعد خارجًا عن سنن نظام العدل والآداب كأن يحرق ماله أو يقسمه بين الناس ولو بطريق الصدقة والتبذير.

وقد أراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله فمنعه النبي ﷺ من ذلك وأراد بعضهم أن يبيع عقاره ويشتري بثمنه خيلاً وسلاحًا يجاهد بها في سبيل الله فنهاهم عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[100]، وأعتق رجل عند موته ستة أعبد ولم يكن له مال غيرهم فأقرع النبي ﷺ بينهم فأعتق اثنين واسترق أربعة وقال فيه قولاً شديدًا[101].

وشرع الإسلام يضرب على يد السفيه الذي لا يحسن حفظ ماله ولا تثميره، ويحجر عليه في هذا التصرف لحظ نفسه. والنبي ﷺ قال: «مَنْ تَرَدَّى جَبَلاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا بِهَا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا». رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

لا يقال: إن هذا تصرف منه في نفسه والإنسان حر في تصرفه فإن الشرع يعتبر نفس هذا كنفوس الناس التي يجب حمايتها بالتحفظ على حياتها ويخشى أن يتأسى به غيره في فساد تصرفه، ولهذا شرع عدم الصلاة على جنازة من قتل نفسه ردعًا للناس عن سوء فعله.

فالحرية لا تكون صحيحة إلا في حالة حدود الحق والعدل فما خرج عن ذلك فهو جور وفوضى وحرية مجنونة والجنون فنون.

ولضمان الحرية الصحيحة وعقد نظامها واحترامها نزلت الشرائع والديانات وسنت القوانين والأنظمة وشرعت الحدود والتعزيرات لتقليل جرائم العدوان ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرماته ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ ومن لا يكرم نفسه لا يكرَم وقد ضرب رسول الله ﷺ مثلاً يبين فيه الحد الفاصل بين الحرية الصحيحة والفوضى الهمجية.

فقال: «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر- والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فكان بعضهم في أعلاها -أي في السطح- وبعضهم في أسفلها -أي في الخن- وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أخذ الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا خرقًا نأخذ منه الماء». قال: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا»[102].

فهؤلاء لما أرادوا أن يستعملوا حريتهم في سبيل ما يضرهم ويضر غيرهم شرع منعهم بالقوة إبقاء لهم وللسفينة ومن فيها ولكون المحسن شريك للمسيء في المأثم والمغرم.

إن الشريعة الإسلامية المبنية على جلب المصالح ودفع المضار تمنع المضار، تمنع القمار في الأندية وتعاقب المقامرين إذا اجتمعوا سرًّا كما تمنع شرب الخمر وبيعها، وكما تمنع بيوت البغاء السري ولو كانت الفاحشة تفعل بحيث لا يراها الناس، كما يجب منع العدوان على أي أحد من الناس في نفسه وماله، فكل من يجاهر بمخالفة أمر الله وارتكاب محارم الله فإن الشريعة تعاقبه في الدنيا بما يسمى الحد أو التعزير قبل عقاب الآخرة، والشريعة مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض. والنبي ﷺ قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فقال: يا رسول الله أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ»[103].

فالاعتداء على عقيدة المسلمين أو آداب دينهم باسم الحرية بأن يتعرض لذم الدين والطعن فيه بما يستدعي صد الناس عنه والفتنة فيه، فهذا لا شك أنه أشد من الاعتداء على الأنفس والأموال إذ الفتنة في الدين أشد من القتل، فليس من شأن الحرية أن تسعى بتسميم عقول الناس وإفساد فطرهم وأديانهم؛ لهذا أوجب الله على المؤمنين القائمين على الناس بالقسط أن يردوا كل من شذ في أخلاقه وتصرفاته بدعوى الحرية، أن يردوه إلى حظيرة الحق ويلزموه بالوقوف على حدود الشرع والعدل والأنظمة والقوانين إذ القيام بذلك أمانة في أعناق العلماء والأمراء والناصحين المصلحين. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩ [العنكبوت: 69].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 24 جمادى الأولى سنة 1396هـ.

* * *

[100] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [101] رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن الحصين. [102] أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير. [103] أخرجه البخاري من حديث أنس.

(6) رسالة الخليج في منع الاختلاط

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إلى الأمراء وإلى الوزراء وإلى العقلاء المفكرين من المسلمين:

سلام الله ورحمته عليهم أجمعين، وأسأل الله لي ولهم التوفيق للتمسك بالدين وطاعة رب العالمين، وأن يعيذنا وإياهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإن الدين النصيحة لله ولدينه وعباده المؤمنين، وقد أوجب الله علينا بنص القرآن أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان، وإن دين الإسلام هو دين كامل وشرع شريف شامل، مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، فلا يحرم شيئًا من المحرمات، إلا لأنه ضار بفاعله وبالناس مباشرة، أو تسببًا، ومدار سياسة الإسلام على ستة أمور، أحدها: حفظ الدين، والثاني: حفظ الأنفس، والثالث: حفظ الأموال، والرابع: حفظ الأنساب، والخامس: حفظ العقول، والسادس: حفظ الأعراض: أي حفظ الفروج.

ومن أجل حفظ الأعراض، حرم الله الزنا وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم إبداء زينة المرأة المسلمة لغير زوجها ومحارمها، ونهى عن الخلوة بها وعن سفرها بغير محرم، وعن النظر إليها بشهوة، كل هذه الأمور حرمها لكونها تفضي إلى الفاحشة الكبرى، والوسائل لها أحكام المقاصد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فالشرع الحكيم حَمى حِمى الأعراض وسد الطرق التي تفضي إلى السفه والفساد والإخلال بنظام النكاح الحلال وقال: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩ [البقرة: 229]. وحدود الله محرماته.

إن الأمراء والعلماء والوزراء يجب أن يكونوا بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن الإلحاد وتسرب دخول الفساد على العباد، لاعتبار أنهم متكاتفون متكافلون في جلب المصالح ودفع المضار، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.

فمتى قصر هؤلاء بواجبهم وتكاسلوا عن حماية دينهم ووطنهم وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم والحوانيت تفتح لبيعها، وتركوا بلدهم معطنًا لمراتع الفسوق، فلم يأخذوا على أيدي سفهائهم في منعهم عما يضرهم، فإنه بذلك يتحقق خراب البلاد وفساد العباد، وخاصة النساء والأولاد، فتسود الفوضى وهتك الأعراض ويصابون بفتنة في الأرض وفساد كبير؛ لأن بقاء الأمم ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦ [الإسراء: 16]. والمراد بالهلاك هنا هو هلاك الأخلاق؛ لأنه أضر من هلاك الأبدان، ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ.

إن العقلاء لا ينبغي لهم أن يغتروا بكثرة الأصوات في طلب ما هو محض الضرر عليهم في أخلاقهم، فإن كثرة الأصوات ليست بحجة في إباحة المحرمات مع قيام الدليل والبرهان على البطلان، ولأن كثرة الأصوات تنشأ غالبًا عن الهوى والحب للشيء. والله تعالى يقول: ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ١١٦ [الأنعام: 116]. وأكثر الناس في هذا الزمان يفضلون التحلل عن عقل الدين وأخلاقه وآدابه وحلاله وحرامه، ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.

واعتبروا بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام وترك أهلها فرائض الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الأخلاق والعصيان، وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم للعمل في دنياهم، واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، فانظروا كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق؟ قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض فذهبت منهم الديانة وفشت من بينهم الخيانة، واستشرت الفوضى والفساد، فاعتبروا بسوء حالهم وفساد أعمالهم، فإن خير الناس من وعظ بغيره، وقد ضرب النبي ﷺ لكم مثلاً فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، فقال: «مَثَل القائم في حدود الله - الذين ينكرون المنكرات ويسعون في إزالتها، ويأخذون بأيدي سفهائهم عن مواقعتها- ومَثَل الواقع في المنكرات، كمثل قوم ركبوا في سفينة فصار بعضهم في أعلاها -أي في السطح- وبعضهم في أسفلها -أي في الخن- فأراد الذين في أسفلها أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه ماء البحر من عندهم»، قال: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يصنعون هلكوا وهلكوا جميعًا»[104].

وهذا مَثَلٌ مطابق للواقع، فإن إنكار المنكرات نجاة للمنكرين والفاعلين والناس أجمعين؛ لأن إنكارها هو مما يقلل فشوها وانتشارها، وإذا خفيت المعصية لم تضر إلا صاحبها. أما السكوت عن إنكار المنكرات، فإنه مدعاة إلى الغرق فيها، لكون السكوت عنها هو مما يسبب فشوها وانتشارها، والمحسن شريك للمسيء، إذا لم ينهه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا -أَيْ: تَلْزَمُوْنَهُ بِهِ إِلْزَامًا- أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدهِ»[105].

وإن هذا الاختلاط بين الشباب والشابات، واحتكاك بعضهم ببعض جنبًا إلى جنب، وجريان الحديث والمزاح من بينهم، ثم المصاحبة والخلوة كما تقتضيه المجالسة والمؤانسة، فإن هذا العمل ضار في ذاته ومؤد إلى الفاحشة الكبرى في غايته وسوء عاقبته؛ لأنه يعد من أقوى الأسباب والوسائل لإفساد البنات المصونات وتمكن الفسّاق من إغوائهن بنصب حبائل المكر والخداع لهن.

والفسّاق هم الذين يحرصون أشد الحرص على مثل هذا الاختلاط لينالوا أغراضهم ويشبعوا شهواتهم من التمتع بالنظر إلى البنات المصونات عنهم طول الحياة، والصيانة نعم العون على العفاف والحصانة، فإن من العصمة ألا تقدر، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.

إلى متى نغش أنفسنا أو نغش بناتنا وأهل ملتنا، ونتعامى عما يترتب على هذا الاختلاط من فساد الآداب ومساوئ الأخلاق، فالنظرة هي نظرة في مبدئها لكنها تكون خطرة في القلب، ثم تكون خطوة بالقدم، ثم تكون خطيئة، وكم نظرة أورثت صاحبها حسرة، وهي تحسب من مقدمات الزنا لما في البخاري، أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»؛ ولهذا أمر الله المؤمنين، بأن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، وكما أمر المؤمنات بأن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن. وكما أمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن وأن لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.

أيها الإخوان المسلمون:

إن تحويل النساء المسلمات عن الآداب الإسلامية والعادات العربية إلى اتباع تقليد النصارى في أخلاقهم وزيهم وعاداتهم إنه مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية والأخلاق الدينية، وتقويض لدعائم الشرف والحياء والستر وفتح لباب السفاح والفساد.

فليس ضرره مقصورًا على عصيان النساء لأمر الله في إبداء زينتهن للأجانب في هذا المقام، وجرأتهن في اختلاطهن بالأغيار وما ينجم عنه من فنون الأضرار على الدين والشرف والعرض فحسب، بل إن ضرره يتعدى بطريق العدوى والتقليد الأعمى من طور إلى طور ومن بلد إلى بلد إذا لم يوجد من يعارضه، بمنعه من القائمين على الناس بالإصلاح والعدل؛ لأن الأخلاق تتعادل والطباع تتناقل كما هو المعروف من انتشار البدع والأخلاق السيئة، ولهذا مدح النبي ﷺ المتمسكين بدينهم عند فساد الناس، فقال: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا أَفْسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ» وهم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير. والرجل الصالح يصلح الله به أهله وكثيرًا من أهل بلده، وإن أكثر ما يجني على الناس بالشر ويوقعهم في فعل المنكر، هو تقليد بعضهم لبعض، لكون الناس في تقليدهم للغير يسهل في نفوسهم فعل ما يسوء فعله ولا قدوة في الشر، فقد قيل: لا تستوحش طرق الإسلام من قلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين التاركين لأخلاق الدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103].

إن تحويل النساء المسلمات عن أخلاقهن الدينية إنه يقع بتأثير روح أخلاق أجنبية غايتها تحويل المسلمات عن دينهن وجميل أخلاقهن إلى اتباع الأوروبيات وتقليدهن في عاداتهن، ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰ [البقرة:120]. فتقليد المسلمين لغير المسلمين في مثل هذا الاختلاط هو مدعاة إلى فتنة في الأرض وفساد كبير، ولن يخفى ضرره على من له مسكة من عقل أو دين، ولكن الهوى يعمي ويعم.

وحتى النصارى على كفرهم أصبحوا وهم يعانون الشقاء ويشْكُون منه الويلات على إثر الويلات، من جراء إفساده لأخلاق البنين والبنات وسائر البيوت والعائلات، فهم يتمنون الخروج منه وأن تكون حالتهم في صيانة عائلتهم كحالة المسلمين.

وإن العرب المسلمين في تقليدهم لغيرهم فيه شبه الطفل الصغير مع الرجل الأحمق الفاجر، يحسب الطفل أن كل ما يفعله هذا الأحمق أنه مفيد له، فإذا رآه يشرب الدخان شربه، أو رآه يشرب الخمر شربه، وهكذا الأمة الجاهلة بمصالحها والضعيفة في دينها ومداركها، تحسب أن كل ما يفعله النصارى أنه مفيد لها فتقلدها على غير بصيرة من أمرها، لاعتقادها أنه محض التمدن والتجدد، وجهلت أن رؤساء الأمم أصبحوا وهم قلقون من هذا الاختلاط وما ينجم عنه من فنون المضار وفساد الأخلاق إلى حالة أن بعض رؤسائهم امتنع عن الزواج، لما يشاهده من سوء الطباع وفساد الأوضاع، ويقول: كيف أتزوج امرأة يأخذ بيدها خدنها من الشباب إلى الصحراء والمغارات فتبقى عنده اليومين والثلاثة ولا أقدر على إنقاذها منه ولا صدّه عنها؟! وقال آخر: إني أغبط المسلمين على أشياء أهمها عندي صونهم لنسائهم.

إن كل ما قلنا فإنه يعد من البراهين التي لا مجال للجدل في صحتها لو كان للمسلمين رؤساء عقلاء يأخذون بأيدي سفهائهم عن إقرار مثل هذا فيأطرونهم على الحق أطرًا، أي يلزمونهم به إلزامًا، فيدبرون أمر بلدهم بحسن رأيهم ورعايتهم، ويتعاونون على جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم ولكنهم وللأسف أصبحوا فوضى لا سراة لهم.
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحوا
فإن تولوا فبالأشرار تنقادُ
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
وقد قال الحكماء: صنفان من الناس إذا صلحا صلح سائر الناس، وإذا فسدا فسد سائر الناس: العلماء والأمراء.

يا معشر المسلمين العرب، إني نذير لكم من شر قد اقترب، إنكم على ملة إسلامية ليست يهودية ولا نصرانية، دينها المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وقد بعث نبيكم ليتمم لكم مكارم الأخلاق.

وإن هذا الاختلاط يعد من مساوئ الأخلاق، وليس من خلق أهل الإسلام في شيء، بل ولا من خلق العرب في جاهليتهم، فإن العرب على شركهم يتهالكون في حفظ أحسابهم وأنسابهم وصيانة نسائهم، فهم أباة العار وحماة الحرم، حتى إن الزنا يعد قليلاً عندهم كما قالت هند: أَوَتزني الحرة يا رسول الله؟ [106]، استبعادًا لوقوع الزنا من الحرائر، وإنما يعرف من أخلاق الإماء، ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ [النساء: 34]. فمتى زالت قوامة الرجل ورقابته على موليته وأمنت غيرته ساءت طباعها وفسدت أوضاعها ووقعت فيما يكره فعله.

إن مبدأ بدعة الاختلاط إنما نشأت من النصارى الأوروبيين، وكان في شريعتهم تحريم الزنا ودواعيه، لكنهم من أجل غلوهم في نسائهم اخترعوا بدعة الاختلاط بين الشباب والشابات، تمشيًا مع شهوة نسائهم ليزيلوا بها الحياء والحشمة والنفرة بين الجنسين، ثم استرسلوا معهن في توسيع النطاق في الانطلاق في مساوئ الأخلاق، فأعطوا المرأة كمال حريتها تتصرف في نفسها كيف شاءت ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان، فلها أن تعاشر من شاءت من الأخدان وعلى إثر هذا جرى القانون في عرفهم بإباحة الزنا واللواط، وصار كالشيء العادي الذي لا تعاب به المرأة إلى حالة أنهم صاروا يمدحون المرأة المجربة، أي التي تأتي بولد أو ولدين من غير زوج، فهذه هي كمال الحرية التي ينوه بمدحها النصارى، وهي تفرق شمل أهل البيت وتلطخهم بالتهمة لمخالفتها لشرف الصيانة الإسلامية الجامعة بين الكمال والجمال.

وبحسب العاقل أن يعرف مبدأ الاختلاط وغايته وسوء عاقبته، وأن الدعاة إليه يريدون أن تكون نساؤهم وبناتهم وأهل بلدهم كحالة المرأة الغربية، فإن لم يريدوا ذلك، فإن التقليد والاتباع يصيرهن إليه اضطرارًا لا اختيارًا، والدفع للمنكرات قبل وقوعها أيسر من رفعها بعد وقوعها، وحسبك من شر سماعه فما بالك برؤيته.

أما دخول هذا الاختلاط على بعض بلدان العرب المسلمين، فإن سببه معروف وأصله ضعف الدين، فإنه لما كثر اختلاط العرب المسلمين بالنصارى الأوروبيين وكثر احتكاكهم بهم وتعلموا في مدارسهم وشاهدوا ما شاهدوه من اختلاط نسائهم برجالهم، تأثروا بكثرة المشاهدة حتى زال بها الإحساس عنهم؛ لأن رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في العين شهودها ذهبت وحشتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك سبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

ولهذا السبب أخذوا يقتبسون من أخلاق النصارى تدريجيًّا لضعف الوازع الديني في نفوسهم؛ لهذه الأسباب أخذت بعض البلدان العربية تنادي بعملية الاختلاط في الجامعات إتباعًا لكثرة الأصوات، وترتب على أثره من التوسع في المفاسد والمنكرات وهتك الأعراض وحدوث الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق ما لا يخفى على أحد، وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال، ونقل عن صاحب المنار قوله: إن القائمين على عملية المطالبة بالاختلاط في مصر هم المنحلون عن دين الإسلام وآدابه وأخلاقه، والذين يودون لو مرق جميع المسلمين منه، ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.

وساعد على هذا كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة والصور الشنيعة والفواحش الفظيعة التي تعبث بالعقول وتوقع في الفضول والتي هي بمثابة الدروس تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخليّ شجيًّا تساوره الهموم والغموم، ويبتلى بطول التفكير الذي من لوازمه السهر وحرمان لذة النوم الذي جعله الله راحة ورحمة للناس ومن أسباب الصحة لأجسامهم.

فهي بمثابة شَرَك الكيد وحبائل الصيد للقلوب الضعيفة من الشباب والنساء اللاتي وصفهن رسول الله ﷺ في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من أصوات الغناء والألحان المطربة هو مما يعلم بالحس والمشاهدة أنه يغري النفوس ويهيجها على الاندفاع إلى ما يشاهدونه فيها من تعاشق وتعانق ومجاراة ومباراة، حتى يضعف الإيمان وحتى يصير محبًّا للفسوق والعصيان، فيغرق في حضيض الذل والهوان، فهي من الأعمال الضارة التي تفسد عليهم عقائدهم وعفافهم وآدابهم وتقطع روابط الزوجية فيما بينهم وتدنيهم من الإباحة المطلقة.

ولم يزل حكماء الإسلام ورؤساء الأنام يشْكُون منها الويلات على إثر الويلات، من جراء ما أفسدت عليهم من أخلاق البنين والبنات وسائر بيوت العائلات، تفسد منهم الأديان وتدعو إلى الافتتان، وإنها والله لم توجد في بيتي ولم أشاهدها بعيني وإنما بلغني من ضررها ما يبلغ العذراء في خدرها، فمتى كان القائم ببث أفلامها ممن لا حظ لهم في الأخلاق والدين، ويحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين فإنها حينئذ يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، والحاصل أنها من منكرات الأخلاق ومن مضلات الفتن التي كان النبي ﷺ يستعيذ منها، ومع الابتلاء بها، فإنني أنصح المراقبين عليها في عرض ما يجمل وينفع من الأخلاق الفاضلة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض منكرات الأخلاق الساقطة والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإذا لم تستحي فاصنع ما شئت.

والحاصل أنه يجب على الحكومة نصب رقابة عدلية لها حظ من الأخلاق الدينية، تمنع نشر الفواحش الموحشة، وتمنع نشر ما يقبح منظره ويسوء خيره صيانة لكرامة الناس واتقاء فتنتهم واستبقاء حسن سمعتهم.

ومثله إطلاق السراح لكتاب الجرائد والمجلات الماجنة الخليعة، الذين يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة، ويبثون بينهم عوامل الفساد والسفاهة، فهم كما قال تعالى: ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ [آل عمران: 118]. فهم في لحن قولهم يحبون انتشار الفوضى اللادينية والأخلاق البهيمية، لكون أحدهم يفضل الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين. فجناية التحرير الذي يتطلع إليها الصغير والكبير يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، لكون العامة بما طبعوا عليه من السذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة قد يغترون بما يقول هؤلاء ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم؛ لأن من أوتي قدرة على صف الكلام قدر أن يغش به العوام وضعفة القول والأفهام، والمنافقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيهم القرآن، ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡ [التوبة: 47]. فهم يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم، وقد وصفهم النبي ﷺ بأنهم الدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.

ثم إنه في هذا الزمان انتشرت العقيدة الشيوعية اللادينية، حيث تسمم بها قلوب كثير من الشباب في هذا الزمان، وجعلوها طريقة لهم وعقيدة، ومن عقائدها: وجوب الاشتراك بين الناس في الأبضاع والأموال، ويجعلون النساء بمثابة السوائب اللاتي لا يحق لشخص أن يختص بواحدة منهن دون الثاني لا زوج ولا غيره، ويتمنون تنفيذ هذا الاعتقاد ليتوصلوا به إلى نيل أغراضهم وإشباع شهواتهم، لولا معارضة المصلحين القائمين في الناس بالإصلاح والعدل لمنع هذه الفكرة التي لا تبقي شيئًا من الدين ولا من الأخلاق ولا من الأموال، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].

والحاصل أن هذا الاختلاط الذي ننصح بمنعه وعدم إقراره أنه يفضي بأهله إلى شر غاية وأسوأ حالة، فلا ينبغي أن نغتر بمن ساء فهمه وزل قدمه في الغرق في إثمه، فإنه لا قدوة في الشر، فإن غشيان النساء لهذه الجامعات من أقوى الوسائل لتعرّف الفساق بهن وإغوائهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء، فلا ينبغي أن نغش أنفسنا ونتعامى عما يترتب عليه من فساد الأخلاق والآداب.

تدخل البنت العذراء المصونة المحصنة هذا المجتمع المختلط وهي في غاية من النزاهة والعفّة، فتقعد مقعد المرأة البرزة، بحيث تكون في متناول كل ساقط وفاسق، فيوجه السفهاء والفسقة إليها أنظارهم وأفكارهم، ويسترسلون معها في حديث الهزل والغزل، ويعملون لها وسائل الإغراء والإغواء، لا سيما إذا كانت ذا حسب وجمال، فلا تلبث قليلا حتى تلقي عن نفسها جلباب الحياء والحشمة وتزول عنها العفّة وتنحل منها رابطة العصمة، ثم تميل إلى الفاحشة المحرمة؛ لأنها ناقصة عقل ودين، ومشبهة عقولهن بالقوارير، والشباب قطعة من الجنون، ومن العصمة أن لا تقدر والمعصوم من عصمه الله، ومتى كثر الإمساس قل الإحساس.

والمسؤولون عن هذا أمام الله والناس هم الأمراء والزعماء، الذين يجب عليهم منع طريقة اختلاط الجنسين اتقاء الفتنة. وقد قرر العلماء بأن المجموع الذي يتضمن المحظور يكون محظورًا، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام فلأجله يجب النهي والانتهاء عن مثل هذا؛ لأنه يجر إلى فنون من المضار المتنوعة متى اعتادها النساء أصبحن لا يرين بها بأسًا.

إن أكبر أمر تخسره المسلمة الخفرة في هذا الاختلاط هو خسرانها للحياء الذي هو بمثابة السياج لصيانتها وعصمتها، فالحياء يحسبه بعض الناس هينًا وهو عند الله عظيم، وفي البخاري، أن النبي ﷺ قال: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ». وقال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ». لأن الحياء ينحصر في فعل ما يجملها ويزينها، واجتناب ما يدنسها ويشينها، والحياء مقرون به البهاء والجلال والجمال، كما أن عدم الحياء من لوازمه ذهاب البهاء والجمال والجلال، ترى المرأة الملقية لجلباب الحياء في صورة قبيحة وقحة مترجلة لا تدري أهي رجل أو امرأة.

وإذا أردت أن تعرف خسارة فقد الحياء فانظر إلى بعض البلدان التي هجر نساؤها الحياء وتجافين عن التخلق به واعتقدن أن الإنسان حيوان، ترى فيهم العجب من فساد الأخلاق والآداب ونكوص الطباع وفساد الأوضاع، والإخلاد إلى سفاسف الشرور والفجور، فلا تبالي بما فعلت أو فعل بها، شبه الحيوان، فلا تستحيي من الله ولا من خلقه، ولا ترغب في أن يبقى لها شرف أو ذكر جميل تذكر به، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»[107].

وإن قلنا: إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح وتعلم سائر العلوم والفنون كالرجال، فهدا صحيح والعلم النافع مطلوب ومرغوب فيه في حق الرجال والنساء، لكن من العلم ما يكون جهلاً، وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع، ولا يستعيذ الرسول ﷺ إلا من الشر، وهذا العلم النافع يمكن تحصيلها له وحدها وفي بلدها، بمراجعة الكتب والفنون وسائر المؤلفات وبسؤال العلماء عن المشكلات، لأن هذا هو طريق حصول العلم للرجال والنساء، فالراسخون في العلم والمتوسعون فيه إنما يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه بهذه الطريقة، فلماذا تترك المرأة هذا؟ ثم تحرص ويحرص أهلها على السفر الذي حرمه الشارع، بقوله: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» رواه البخاري ومسلم، خصوصًا السفر البعيد الذي تتعرّض فيه إلى الأخطار والأضرار، ثم إلى الافتتان بها، الناشئ عن الخلوة بها واختلاطهن بالرجال في الملاهي والمجتمعات وسائر الأحوال والأوقات، تقليدًا بما يسمونه تحرير المرأة عن رق أهلها وزوجها.

فبالله قل لي: ماذا ينفع العائلة المسلمة من سفر ابنتهم إلى مدرسة نصرانية، تتربى بأخلاقهم ومساوئ آدابهم؟! وإن أكبر ما تستفيده هي اللغة الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب بها أمها ولا أباها ولا أخواتها، أو تتعلم ألحان الغناء والرقص، وإذا رجعت إلى أهلها رجعت إليهم بغير الأخلاق والآداب التي يعرفونها منها فترى أهلها كأنهم عالم غير العالم الذي نشأت فيه، وتحمل في نفسها الكبر والازدراء والاحتقار لأهلها، فتعيب عليهم في كل ما يزاولونه من معيشتهم وأخلاقهم وآدابهم وعوائدهم، فتثور العداوة والبغضاء والتنافر بينها وبينهم في كل شيء، وغايتها أنها تبغض أهلها وأقاربها وتبغض كل ما أحبوا وألفوا، ويبغضونها، أفلا يكون سفرها للتعلم على هذه الحالة شقاء وضلالة وقطعًا لأواصر العائلة وبذر شقاق ونفاق بين أفراد عائلتها؟! وما تستفيده من الدريهمات في مرتباتها، فإنها ستكون أبعد وأبعد عن أهلها، أولم يكن الأوفق والأليق لهذه البنت ولأهلها أن تتعلم مبادئ العلوم الشريفة عند أهلها وفي مدارس بلدها وأهل ملتها لتستعين بالبيئة والمجتمع على تحسين تربيتها لتكون في بيت زوجها وأهلها صالحة مصلحة، تعاملهم بالحفاء والوفاء، بدون نفرة ولا جفاء، فتكون مثالاً صالحًا لأخواتها وأقاربها، قادرة على إدارة شؤون بيتها وكاليد الكريمة لزوجها والصدر الرحيب لجيرانها وأقاربها، فتعيش سيدة بيت وسيدة عشيرة ولا يوفق لهذا إلا خيار النساء عقلاً وأدبًا ودينًا، لأن الإصلاح الصحيح هو إصلاح النشء بتربية الأخلاق والآداب الدينية.

نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير أزواجهن ومحارمهن، ومن المعلوم أن المرأة في حالة هذا الاختلاط ستظهر محاسنها ومفاتن جسمها، فتبدي يديها إلى قريب العضد وبها أسورة الذهب وساعة الذهب، وتبدي رجليها إلى نصف الساق وتكشف عن رأسها ورقبتها وقلائدها وحلق الأذنين، ولن تذهب إلى هذا المجتمع إلا بعد تكلفها بتجميل نفسها من الأصباغ والأدهان العطرية لعلمها أن الشباب سينظرون إليها، فهل يشتبه على عاقل بعد هذا تحريم إبداء هذه الزينة مع الرجال الأجانب؟ إذ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه، وتحريم المساعدة لأهله، بل وفي تحريم إقرارهم عليه والسكوت عن الإنكار عليهم، ولا حاجة إلى تطويل الكلام في مفاسده الكثيرة وما يئول إليه، فإنها بديهة بطريق العقل والاختبار، والمفتونون بالتقليد يعلمون من مضاره المتولدة عنه أكثر مما ذكرنا، لكنهم يستحبون العمى على الهدى، ﴿... وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ [الأعراف: 146]. فهم يفضلون ترك هذه الآداب الإسلامية والأخلاق العربية ويهزؤون بمن يفعلها وبمن يخالف رأيهم في تركها من كل ما يسمونه تمدنًا وتجديدًا.
عمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن الغيرة على المحارم تعد من شيم ذي الفضائل والمكارم، فالغيور مهاب ومن لا غيرة فيه مهان، والغيرة الواقعة في محلها هي بمثابة السلاح لوقاية حياة الشخص وحماية أهله؛ لأن الغيرة الممدوحة هي كراهة القبائح وبغضها والنفرة منها ومن أهلها، وكلما اشتد حفظ الإنسان لصيانة نفسه وأهله قويت غيرته واشتدت شكيمته، بحيث لا تخلو بواديه الأراجيل.

وكلما كثرت ملابسته للقبائح وخاصة الزنا وتوابعه، فإنها تنطفئ من قلبه حرارة الغيرة، فلا يستنكر معها فعل القبيح لا من نفسه ولا من أهله، بل ربما يلطف فعل الفاحشة ويزينها لغيره، كما يفعل الديوث الذي يقر السوء في أهله ولهذا صارت الجنة عليه حرامًا، كما ثبت بذلك الحديث، أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ»[108]، والديوث هو الذي يقر أهله على عمل السوء؛ لأن من يهن في نفسه وأخلاقه، فإنه يسهل عليه الهوان.

فالفاسدة أخلاقهم وبيوتهم يحبون أن تفسد أخلاق الناس وبيوتهم لينطفئ بذلك عارهم ويختفي ذلهم وصغارهم، فمثل هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم، والغيرة من الدين ومن لا غيرة له لا دين له؛ لأن من لوازم عدم الغيرة الرضا بانتهاك حدود الله ومحرماته، ولمّا قال رجل للنبي ﷺ: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا على امرأته رجلاً، ماذا يصنع؟ إن قتله قتلتموه، وإن تركه ذهب، فقال سعد بن عبادة: أمّا أنا لو وجدته لضربته بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله ﷺ: «أَمَا تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي»[109]، فمدح سعدًا على غيرته الواقعة في محلها.

إن الرجل العاقل والمفكر الحازم، يجب عليه أن يراقب العواقب، وأن يقابل بين المصالح والمفاسد، فإن لهذه القضية ما بعدها، إذ المنكرات يقود بعضها إلى بعض وتكون الآخرة شرًّا من الأولى، فعند نجاح القائلين بإباحة الاختلاط في مثل هذه القضية، فإنه يقودهم إلى المطالبة بإباحة الرقص، ثم المطالبة بإعطاء المرأة كمال حريتها تتصرّف كيف شاءت ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان، كفعل المرأة الأوروبية، وكأن هذا هو هدفهم الأكبر وبعمله يعملون.

إن عذر دعاة الاختلاط هو الحرص على حصول العلم والتعلم من كل الرجال والنساء، مع اختصار مصرف النفقة في سبيله، وهذا سهل ميسر وليس بعذر يبيح أكل الميتة للمضطر، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ [الطلاق: 4]. فالحكومة القائمة بالمصارف على كافة شؤون المعارف ومنها الجامعات، فإنها لن تعجز عن النفقة في حالة انفصال كل جنس عن الآخر.

وأما القول بدعوى الحرص منهم على حصول العلم كما يزعمون، فإن الاختلاط يعد من أسباب موانع العلم، وتعويق حصوله، إذ هو ضار بالمتعلمين والمتعلمات، لكونه يغري الشباب والشابات بالفتنة ويولعهم باللذة ويصرفهم عن فهم العلم وتعلمه؛ لأن من طبيعة النفوس أنها متى أخذت بمبادئ الأمور المستلذة من النظرة والمحادثة، فإنها تسترسل بأفكارها ويشتد شغفها بها وتتدرج بشتى الوسائل ونصب الحبائل إلى أن تصل إلى غايتها منها وتكون قبل وصول الغاية في هَمٍّ وبلبال وشغل فكر وبال، تهيم به داعية الشهوة بدافع من التأثر العصبي الناشئ عن المشاهدة والمحادثة، حتى يضيع الكثير من وقته ودروسه في شغل قلبه بالتفكير وحتى يضيع السعي في كسبه ومعيشة أهله، وقد يذهب ماله وعقاره في سبيل متابعته لشهوته مع ما يصاب به من توقع الأنكاد والأكدار الناشئ عن عداوة الأغيار.

وقد لا يكتفي بشغفه بواحدة فقط، بل يتنقل في مراتع الفسوق من واحدة إلى أخرى حتى ينصرف كل الانصراف عن زوجته الشرعية التي كان يحبها قبل معاشرته لغيرها، فيكتفي بالمسافحة واتخاذ الأخدان عن زوجته الحلال مع فساده لغيرها، وفي هذا من المضار ما لا يخفى على أحد. وإن فاعله يحرم من السعادة الزوجية التي ملاكها قناعة كل واحد منهما بصاحبه، وكذلك المرأة إذا اعتادت ذلك فإنها تنبو بنظرها عن زوجها، وتلتحق بالشاردات عن أهلهن، وفي هذا من الشقاء والجناية على النفس والنسل والأهل وخراب البيوت وحرمان السعادة ما لا يخفى على عاقل ولكن الهوى يعمي ويصم. وقد روي في الحديث «لعن الذَّوَّاقِيْنَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالذَّوَّاقَاتِ مِنَ النِّسَاءِ»[110].

أيها العقلاء، اعتبروا وفكروا واعلموا أن المسلمين ما نكبوا في مجتمعهم وأخلاقهم إلا بعدما نكبوا في نظام عائلتهم وفساد تربيتهم لنسائهم وأبنائهم التربية الدينية الصحيحة المبنية على التحلي بالفضائل والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل.

وبسبب إهمالهم لحسن تربيتهم وفساد تعليمهم ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، وأخذوا يتناسون التعاليم الإسلامية والأخلاق العربية؛ لأنه إذا ساء التعليم ساء العمل، وإذا ساء العمل ساءت النتيجة، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة:41].

فهذه محض نصيحتي لكم، قصدت بها نفعكم ودفع ما يضركم، وإني أرجو أن تقع منكم بموقع القبول والتنفيذ والإصلاح والتعديل وإلا فستذكرون ما أقول لكم والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم، وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* * *

[104] أصل الحديث أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير. [105] أخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة بن اليمان. [106] أخرجه أبو يعلى من حديث عائشة. [107] أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود. [108] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. [109] أخرجه البخاري من حديث سعد بن عبادة. [110] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبو موسى الأشعري بلفظ: «إِنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلَا الذَّوَّاقَاتِ».

(7) الأخلاق الحميدة للمرأة المسلمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا [التحريم: 6]. فأمر الله عباده بأن يقوا أنفسهم وأهليهم من عذاب النار، فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فما نحل رجل أهله وأولاده أفضل من أن ينحلهم أدبًا حسنًا يهذبهم به على الصلاح والتقى، ويردعهم به عن السفه والفساد والردى، فالرجل راع على أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وبناتها ومسؤولة عن رعيتها، كما ثبت بذلك الحديث، فمتى كان الرجل راعيًا على أهله وعياله، فإن من واجبه أن يرعاهم بالمحافظة على الفرائض والفضائل وينهاهم عن منكرات الأخلاق والرذائل ويأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه، ليتربوا على محبة الصلاة بمداومتهم عليها ومزاولتهم لفعلها، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها ومجاهدته عليها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، لأنها أم الفضائل والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل.

وكذلك المرأة، بما أنها راعية على بيت زوجها وعلى بناتها ومسؤولة عن رعيتها، فإن من واجبها أن تربي بناتها على الحياء والستر والصيانة والنهي عن التكشف والخلاعة وعلى الأمر بالطهارة وبالصلاة في وقتها، فإن الصلاة تقيم اعوجاجها وتصلح فسادها وتذكرها بالله الكريم الأكبر، وتصدها عن الفحشاء والمنكر.

إن الله سبحانه خلق الناس متفاوتين ولا يزالون مختلفين، فمنهم المسلم ومنهم الكافر، ومنهم البر ومنهم الفاجر، ومنهم الصالح ومنهم الفاسق، فمتى ترك الفاجر يتظاهر بكفره وإلحاده، والفاسق يتظاهر بفسقه وفساده بمرأى من الناس ومسمع، فإن هذا والله غاية الفساد للمجتمع، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل، وإنما ينتشر الشر غالبًا بسبب فشوه ثم الاقتداء من بعض الناس لبعض فيه؛ لأن رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، لأن المنكرات متى كثر على القلوب ورودها وتكرر في العين شهودها ذهبت عظتها من القلوب شيئًا فشيئًا، حتى يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس، وغايتها أن يغرق الناس في الفساد على سبيل العدوى والتقليد الأعمى من بعضهم لبعض.

من ذلك أن المرأة متى تركت تمشي في الأسواق بصورة خليعة كاشفة الرأس والرقبة والصدر، تبدي يديها إلى العضد أو الإبط ورجليها إلى نصف الساق بمرأى من الناس ومسمع، بدون أن تنهى وتمنع، فإنه بتكرار النظر إلى هذا المنكر تزول وحشته عن القلوب حتى يكون من المعروف المألوف، يشب على فعله الصغار ويهرم عليه الكبار.

لهذا يجب على النساء المسلمات تهذيب أنفسهن وتمرين بناتهن على اللباس السابغ الساتر، حتى تشب إحداهن على محبته ومن شب على شيء شاب على حبه، وقد أخبر النبي ﷺ بأنه: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»[111] وصدق الله ورسوله، فقد رأينا اختلافًا كثيرًا في الأخلاق واختلافًا كثيرًا في العقائد والأعمال.

من هذا الاختلاف أننا مكثنا زمانًا طويلا ونحن نرى النساء يتمتعن بحالة مرضية وأخلاق كريمة زكية، رأيناهن حتى الصغار منهن يرفلن في حلل ساترة وثياب واسعة سابغة تغطي بها جميع جسمها وتغطي بالخمار الساتر جميع رأسها ورقبتها وقلائدها، تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه من واجب دينها وأنه شرط لصحة صلاتها، وأن إسباغ الستر عليها هو عنوان شرفها وفضلها وعلامة مجدها وظرفها، فلو رأين من تبدي يديها إلى المرفقين أو الإبط ورجليها إلى نصف الساق وتمشي حاسرة الرأس والوجه والرقبة بغير خمار لابتدرنها بالضرب، فضلاً عن السب، ولحسبنها ساقطة شرف ومروءة وعديمة خلق ودين، ليست من نساء المسلمين، لأنها لبسة منكرة يمجها العقل فضلاً عن الدين، وحتى النصارى على كفرهم بدأوا يتراجعون عن هذا اللباس الضيق القصير ويدعون نساءهم إلى استعمال الثياب الواسعة السابغة وينشرون فضلها في مجلاتهم وجرائدهم، ويصورونها في السينمات ويرغبون نساءهم في استعمالها، وأنها من أسباب الصحة للجسم وخصوصًا للحوامل، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.

وفي هذا الزمان، لمّا كثر اختلاط النساء المسلمات بالنساء المتفرنجات من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، طفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة المزرية القبيحة، لبسة العري والعار ولبسة الذل والصغار ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

وأخذت هذه اللبسة تسري في بيوت الأسر والعوائل الفاضلة، يتحلى بها الكبار ويتربى عليها الصغار، على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، والرؤساء وأرباب البيوت ساكتون واجمون لا يريدون أن يغيروا شيئًا من هذه الأزياء، من كل ما تشتهيه النساء، وساعد على ذلك كثرة ما يشاهدونه من عرض الأفلام الخليعة التي هي من الفتن التي تعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فتعمي نور القلب وتطفئ نور بصيرته، بحيث يرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا.

فيا معشر النساء المسلمات: إن الله سبحانه شرفكن بالإسلام، وفضلكن به على سائر نساء الأنام، متى قمتن بالعمل به على التمام، وإن المرأة بدينها وأخلاقها، لا بزيها وجمالها، الْزَمْنَ لباس الشرف والحشمة، لباس الظرف والفضيلة، لباس الحياء والستر، وهو اللباس الواسع السابغ، لباس الجلال والجمال، لباس الحياء والوقار، لباس الحرائر التقيّات الأطهار، ولا ينجرف بكن الهوى والتقليد الأعمى إلى مشابهة نساء الكفار، ولا تنخدعن بالدعاة إلى النار، الذين يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، ويحسنون لكم ما يسوء فعله في حقكم.

فحذار، حذار أن تكن من نساء أهل النار اللاتي وصفهن رسول الله ﷺ بأنهن الكاسيات العاريات المائلات المميلات، لا يجدن عرف الجنة- يعني ريحها- فللمسلمة دينها وسترها وللكافرة خلاعتها وكفرها، ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ [البقرة: 221]. الآية.

إن في كتاب الله لأعظم مزدجر عن عمل كل منكر، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ [الأحزاب: 59]. فأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب يشبه الرداء أو العباءة تغطي به جميع جسمها إلا ما تبصر به الطريق من فتح عينها ونحوه، وهو من شأن الحرائر، بحيث يعرفن بالتستر فيحترمن، وهذا نص قاطع في وجوب ستر المرأة الحرة جميع جسمها حتى وجهها. وفي الآية الأخرى: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ [النور: 31]. فأمر الله نبيه بأن يبلغ نساءه والنساء المؤمنات بما يجب عليهن شرعًا من آداب اللباس والتستر، بأن يغضضن من أبصارهن عن النظر إلى الرجال الأجانب، لكون النظر سهمًا مسمومًا من سهام إبليس وما نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع.

وهو معدود من مقدمات الزنا، سواء في ذلك الرجل أو المرأة، ولهذا قال بعده: ﴿وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ [النور: 31]. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»، ولمّا قال النبي ﷺ: «لَا تَلِجُوا عَلَى الْمُغِيبَاتِ»[112]. قال رجل من الأنصار: يا رسول الله؟ أرأيت الحمو؟ يعني أقارب الزوج، قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»[113]؛ لأنه ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، كما ثبت بذلك الحديث، ثم قال: ﴿وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ [النور: 31]. حتى ذكر المحارم.

فنهى الله النساء المؤمنات عن إبداء زينتهن للرجال الأجانب إلا المحارم، فهل يشتبه بعد هذا إبداء تحريم الزينة مع ما هو شر منها من الاختلاط بالشباب الأجانب والخلوة بها أو سفرها لأقصى البقاع وحدها، لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه والمساعدة لأهله ولا في تحريم إقراره وعدم إنكاره.

ثم قال: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ، والخمار هو ما يوضع على الرأس ويدار على الرقبة والصدر، ومن شرطه أن يستر ما تحته، ويتأكد ذلك في الصلاة، بحيث يجب على المرأة المسلمة أن تستر جميع جسمها في الصلاة، ما عدا الوجه والكفين حتى ولو كانت في غرفة مظلمة أو في الليل، فالله أحق أن يستحيا منه، وهذا شرط لصحة الصلاة، لقول النبي ﷺ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ -أَيْ: بَالِغٍ- إِلَّا بِخِمَارٍ»[114]، أما الخمار الشفاف الرقيق الذي لا يستر ما تحته، فإن وجوده كعدمه، فلا تصح الصلاة معه، ويرحم الله نساء الأنصار، لمّا نزل قوله: ﴿وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. عَمَدْنَ إلى مروط ثخينة فشققنها على رؤوسهن فخرجن وهن لا يعرفهن أحد من التستر، ذكر معناه البخاري في صحيحه.

وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا٣٤[115]، فهذا والله الخطاب اللطيف والتهذيب الظريف، يأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بالتبع بأن يقرن في بيوتهن؛ لأن أشرف حالة المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها ملازمة لمهنتها من خياطتها أو نشازتها أو كتابتها وقراءتها أو خدمة بيتها وعيالها لا يكثر خروجها واطلاعها.

لأن ثقل القدم من المرأة في بيتها فضيلة وكثرة الدخول والخروج رذيلة، وقد حكم النبي ﷺ بين علي وفاطمة، أن على فاطمة خدمة داخل البيت وعلى عليّ جلب ما تحتاجه خارج البيت، وقد وصف الله نساء الجنة بما تتصف به الحرائر العفائف في الدنيا، فوصفهن بالبيض المكنون ووصفهن بالمقصورات في الخيام.

ثم قال: ﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ[116]، فنهى عن تبرج الجاهلية الأولى، وهو ما يفعله النساء في هذا الزمان في بعض البلدان من كون المرأة تظهر جسمها، فتبدي يديها إلى العضد أو الإبط ورجليها إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس والوجه والرقبة بغير خمار وتلبس عند الناس الثوب الضيق القصير الذي يميز أعضاء جسمها، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، ولم يكن معروفًا في نساء المسلمين، بل ولا في نساء العرب على شركهم، وإنما كان معروفًا من زي نساء النصارى والعجم، ولمّا قال رجل للحسن: إني أرى نساء العجم بادية صدورهن ووجوههن، فماذا أفعل؟ فقال له الحسن: اصرف بصرك عنهن.

وفي هذا الزمان، لمّا ضعف من بعض النساء الإيمان زدن في الخلاعة والتبرج على تكشف العجم والنصارى وعلى تبرج الجاهلية الأولى، وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها أوغلت في التبرج وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين ومشبهة عقولهن بالقوارير، وقد ابتلي بهذا الشباب الطائش الذي يفتخر أحدهم بخلاعة زوجته وتبرجها في الأسواق بزيها المزري لا يثنيها وجل ولا يلويها خجل، وربما ذهب بها إلى أصدقائه من الأغيار ليمتعهم بالنظر إليها ونظرها إليهم ويربط الصداقة بينها وبينهم فيوقعها في الفتنة والافتتان بها، وهذا غاية في سقوط المروءة وذهاب الحياء والغيرة لا يصدر مثله إلا من شخص مهين عديم المروءة والدين.
ومن يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن الستر والصيانة هما من أعظم العون على العفاف والحصانة، فإن من العصمة ألا تقدر، وقد أبدى النصارى ببغيهم الحسد للمسلمين على سترهم لنسائهم فبثوا من الأفلام الخليعة التي تغزو الناس في عقر دورهم من كل ما يدعو النساء إلى الافتتان ويضعف منهن الإيمان، وقد قيل: حسبك من شر سماعه، فما بالك برؤيته.
إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها
أكلت بلا عوض ولا أثمان
ثم قال: ﴿... وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣ وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا٣٤ [الأحزاب: 33-34].

فأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بأن يقمن الصلاة، أي يأتين بها في وقتها مقومة معدلة بخشوع وخضوع في السجود والركوع؛ لأن لب الصلاة الخشوع في الركوع والسجود، ولأن الصلاة من آ كد العبادات وهي من أكبر ما يستعان بها على حسن تربية البنين والبنات؛ لأنها عمود الديانة ورأس الأمانة، تهدي إلى فعل الفضائل وتكف عن منكرات الأخلاق والرذائل، تنبت في القلب محبة الرب والتقرّب إليه بطاعته، ولا إسلام ولا دين لمن ترك الصلاة، فكل امرأة يدعوها زوجها إلى الصلاة فتعصيه ولا تطيعه وتصر على ترك الصلاة، فإنه يجب عليه فراقها، لاعتبار أن ترك الصلاة كفر، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10].

ويقول: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ [الأحزاب: 34].

فهذه الآية وما قبلها وردت مورد الخصوص لأزواج النبي، ومعناها العموم لسائر المؤمنات، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه كسائر نظائره.

وهذه الآية تعتبر من أقوى الدلائل على تعلم المرأة لأحكام الكتاب والسنة وسائر العلوم الشرعية، إذ هي كالرجل في ذلك، ولأن العلم الصحيح النافع يكسبها جميل الأخلاق والآداب ويرقيها إلى الشرف والكمال ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ [المجادلة: 11].

وأما ما يذكر عن نهي النساء عن الكتابة، فإن الحديث مكذوب على رسول الله ﷺ ولفظه عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «لَا تُسْكِنُوهُنَّ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الْمِغْزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ» [117]. فهذا حديث لا يصح وقد حقق العلماء بطلانه، وأنه مكذوب على رسول الله، فسقط الاحتجاج به، وقول الحق: هو أن المرأة كالرجل في تعلم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق وقوانين الصحة وتدبير المنزل وتربية العيال ومبادئ العلوم والفنون من العقائد الصحيحة والتفاسير والسير والتاريخ وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها تخرج به عن حضيض جهلها ولا يجادل في حسنه عاقل مع التزام الحشمة والصيانة، وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب.

وقد كان لنساء الصحابة والتابعين من هذا العلم الحظ الأوفر والنصيب الأكبر، فمنهن المُحَدِّثات ومنهن الفقيهات، وللعلماء مؤلفات في أخبار علوم النساء لا يمكن حصرها في هذا المختصر، وحتى المصاحف ذات الخط الجميل في الشام والعراق تقع غالبًا بخط النساء، وكثير منهن يوصفن بالنبوغ والبلاغة غير المتكلفة، ونحن نشير إلى طرف يسير منها.

من ذلك أن عائشة أم المؤمنين كان الصحابة يسألونها من وراء حجاب عما يشكل عليهم من الأحاديث وتفسير الآيات، وعن الأحكام وأمور الحلال والحرام، وكانت تستدرك على الصحابة كثيرًا من القضايا وهي معدودة من حفاظ الصحابة الذين أكثروا من الأحاديث عن رسول الله ﷺ وهم سبعة: ابن عباس وابن عمر وأنس ابن مالك وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وعائشة، رضي الله عنهم، ولا يكون مكثرًا حتى يحفظ عن رسول الله ﷺ فوق ألف حديث، وهي كذلك، وقد اشتهرت بالبلاغة والنبوغ والحفظ، فمن بلاغتها ما رواه ابن عساكر في تاريخه عن جعفر بن عون، عن أبيه، عن عائشة ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: إنه لمّا ألقى الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجًا ومن كل فرقة أرسالاً وأشتاتًا، اختار الله لنبيّه ما عنده، فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان رواقه ومد طنبه ونصب حبائله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون وإني والصدّيق بين أظهرهم، فقام حاسرًا ومشمرًا فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشر الإسلام على غره ولم شعثه بطيه، وأقام أوده بثقافه، فوقذ النفاق بوطأته وانتاش الدين فنعشه، فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمته بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطاب لله أُمٌّ حفلت له ودرّت عليه، لقد أوحدت به فقبح الكفر وشرد الشرك وبعج الأرض فقاءت أكلها ولفظت خبيثها ترؤمه ويصد عنها وتتصدى له ويأباها، ثم ورع فيها وودعها كما صحبها فأروني ماذا تريبون وأي يومي أبي تنقمون، أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه عنكم وقد نظم لكم أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. انتهى.

فهذه نبذة يسيرة، تدل الناظر على سعة علم نساء الصحابة وما وفقن له من الفصاحة والإصابة، مع حسن سبك الكلام المتضمن لجميل البلاغة والبيان، وأن لهن العناية التامة بتعلم العلوم النافعة وتعليمها مع العمل بها.

وقد ظهر أثر بركة علمهن على أخلاقهن وحسن آدابهن، لأنه متى صلح العلم والتعلم صلح العمل، وإذا فسد العلم والتعلم ساء العمل، وإذا ساء العمل ساءت النتيجة، لأن من العلم ما يكون جهلا، وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع ولا يستعيذ إلا من الشر، فمن العلم الذي لا ينفع والذي هو داخل في ضمن الجهل تعلم المرأة للرقص والغناء والتمثيليات السمجة التي هي غاية في الكذب، وتصوير رسم الحيوانات الحية، ثم يندفع بها سوء علمها وفساد عملها إلى السفر للتعلم وحدها، فتخرج من بيت أهلها متهتكة متبرجة، تغشى دور الفجور ومحلات الفسوق ومسارح اللهو واللعب والخمور والسينمات، مع تركها للفرائض والواجبات من الصلوات، لأن هذا هو منتهى تعلم البنين والبنات في هذا الزمان.

إن الأصل في التعلم الصحيح هو إصلاح النشء بتربية الأخلاق والآداب الدينية بما يجعل المرأة صالحة مصلحة، ثم تعلم العلوم النافعة؛ لأن الغرض من تعليم البنات هو تربية أنفسهن وتهذيب أخلاقهن على المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وهن أقبل الناس لتعليم الدين والأخلاق والخير وفيهن أتم الاستعداد للاستماع والاتباع لو وفقن للمعلمين والمعلمات المرشدين الصالحين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

إن في تعليم الإسلام ما يضمن السعادة والراحة للبنات ولسائر البيوت والعائلات، لأن دين الإسلام يعلمهن فضيلة الستر والعفاف وفضيلة التواضع في المأكل واللباس، وينهى عن المغالاة فيما يسمى الكماليات، مما يعد خارجًا عن الضروريات، ويأمر بالاقتصاد في النكاح وينهى عن المغالاة في المهور، ويقول: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ كَبِيْرٌ»[118]، ويأمر بالاقتصاد في النفقة بحسن التدبير، وينهى عن الإسراف والتبذير، حتى ولو كان على نهر جار، ويأمر بالتودد إلى الأرحام والجيران، وحسن معاشرة الناس بالإحسان وبإفشاء السلام وطيب الكلام، وينهى عن إطلاق اللسان باللعن والسب، لاعتبار أن الأم مدرسة لأولادها في الخير والشر، فمتى كانت بذيئة اللسان تعلم ذلك أولادها منها وصاروا يتقاذفون باللعن فيما بينهم، ثم تعليمهن النظافة في الجسم والثياب والمنزل والعيال، وإن النظافة من الإيمان، ومن أسباب الصحة للأبدان.

والناس يعرفون ظرف المرأة بنظافة جسمها ونظافة بيتها وعيالها، وإن أشرف حالة المرأة أن تكون قاعدة في عقر بيتها ملازمة لمهنتها من خياطتها أو مغزلها أو خدمة بيتها وعيالها، لا يكثر خروجها واطلاعها؛ لأن بقاء المرأة في بيتها فضيلة وكثرة دخولها وخروجها رذيلة، ويأمرها برعاية حقوق زوجها، وحسن صحبته ومعاشرته ولزوم طاعته بالمعروف، وألا تكلفه ما يشق عليه من متطلباته بالكماليات التي قد لا يستطيع الحصول عليها إلا بمشقة، وألا تأذن في دخول بيته لمن يكره دخوله من رجل أو امرأة، وألا تخلو مع رجل ليس بمحرم لها.

فهذه هي التعاليم الإسلامية والأخلاق الدينية التي تجعل المرأة صالحة مصلحة في بيتها وبيئتها وحسن تربيتها لأولادها وبناتها وتجعلها سعيدة في حياتها وبعد وفاتها، ولا يوفق للعمل بهذه المزايا الفاضلة والوصايا النافعة إلا خيار النساء علمًا وعقلاً وأدبًا ودينًا.

وإنما نكب المسلمون وأصيبوا بالنقص من فساد الأخلاق والأعمال كله من أجل إهمالهم لحسن تربية أولادهم وبناتهم التربية الدينية النافعة التي تجعل المرأة سيدة بيت وسيدة عشيرة.

إن دعاة التفرنج وعشاق التبرج الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين يظنون من رأيهم القصير وعزمهم الحقير أن الحضارة والتمدن والرقي والتقدم أنه في تشييد القصور ومعاقرة الخمور ومجاراة النصارى في الحرية والخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق ومن الغباوة أطباق وغرهم بالله الغرور.

تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة وسقطوا في هوات المذلة ورضوا بأخلاق المذمة، التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم صاروا مثالا للمعايب ورشقًا لنبال المثالب وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.

نسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا هو، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرر في 21 جمادى الأولى عام 1394 هـ.

* * *

[111] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية. [112] رواه أحمد والترمذي من حديث جابر بن عبد الله. [113] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». [114] رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه واللفظ لأبي داود من حديث عائشة. [115] سورة الأحزاب: 33-34. [116] سورة الأحزاب: 33. [117] أخرجه الحاكم والطبراني في الأوسط. [118] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.

(8) نهاية المرأة الغربية بداية المرأة العربية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لقد أفادت التجارب المشهود لها بعين الاعتبار والصحة أن خروج المرأة من بيتها هو عنوان خراب البيت وضياع العيال وانقطاع وشائج الألفة والمحبة بينها وبين زوجها مع فساد أخلاقها. وقد أخذ عقلاء النصارى يشكون الويلات على إثر الويلات من جراء فساد أخلاق البنين والبنات، وذلك أن البنت الغربية متى بلغت ست عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة خرجت من بيت أهلها، وقد يخرجها أهلها حين تقبلها الأعمال ثم تتفق مع شاب يشاكلها وتعتزل معه يعملان ويأكلان، وتمكث البنت بالسنة والسنتين لا تسأل عن أهلها ولا يسألون عنها ولا ترغب في الزواج الشرعي فإن تزوجت فإنها لا ترغب في أن تحبل، لكون الحبل يعوقها عن الكسب، كما أن الرجل لا يرغب أن يحمل أعباء تكفل العيال والمطالبة بمؤنتهم ومؤنة أمهم.

وأكثرهم يتمتع بالمرأة عن طريق الزنا، وأخذوا يتحاشون عن النكاح الشرعي تباعدًا عن مسؤولية نفقة العيال لعلم أحدهم أن ولده ليس له بولد وأن ابنته ليست له ببنت لكون وشائج القرابة متقطعة فيما بينهم، وعلى إثر هذا صاروا يرغبون في اقتناء الكلاب يتسلون بها عن تربية الأولاد ولنسائهم معها مآرب أخرى. وعلى إثر هذا انصرف الشباب والشابات عن التعلم في المدارس للصنائع وغيرها التي عليها مدار قوتهم ورقيهم وثروتهم حتى قل مالهم وانقرض نسلهم وتعطلت صنائعهم.

فهذه الحالة المزرية هي نهاية المدنية والحرية التي يفتخر بها الغرب، حتى صاروا لا يعدون الزنا جريمة لكونه بزعمهم من كمال الحرية التي تتمتع بها المرأة، إلا إذا زنى بها مكرهة أو زنى بها على فراش الزوج، مع العلم أن الزنا محرم في شريعتهم، ولا نقول: إنهم كلهم بهذه الصفة، وإنما نقول: إن هذا هو الأمر الغالب على أخلاقهم والعادة السائدة من بينهم، وإلا فقد يوجد بيوت يلتزم أهلها العفاف والحشمة والقيام بخدمة المنزل وحسن التربية ورعاية حق الزوج واحترامه، لكن مثل هذا قليل عندهم جدًّا، ولا يزال عقلاؤهم وكتابهم والكاتبات المفكرات من نسائهم ينحون بالملام وتوجيه المذام على سوء تربية نسائهم وفساد أخلاقهن.

إن المرأة لن تبلغ كمالها الحقيقي إلا بالتربية الإسلامية التي تطبع في قلبها ملكة محبة الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل.

وإن من عوائدهم السيئة السائدة فيما بينهم كون الرجل إذا خطب امرأة سواء أكان صادقًا في رغبته أو مخادعًا، فإنه يمارس التجربة معها، ولا نقول: في شيء دون شيء بل في كل شيء. فيخلو بها حتى في بيت أهلها وهم ينظرون إليهما، وتسير معه مصاحبة له وتنام معه كفعل الرجل مع زوجته على حد سواء.

ثم يظهر وسائل الإغراء فيوهمها بغناه ثم يظهر لها حسن أخلاقه وقد يذكر لها أن حسابه في البنك يبلغ كذا وكذا على سبيل الخداع. ولا يزال دأبه معها السنة والسنتين على سبيل التجربة وباسم أنها خطيبته، حتى إذا التاط قلبها بحبه وسال لعابها على حصول ما يعدها ويمنيها به، انصرف عنها وفارقها لتعلقه بأخرى غيرها فيفعل مع الثانية كما فعل مع الأولى من تنقله في اللذات وتنوع المشتهيات ولعدم رغبته في الزواج الشرعي تهربًا من تبعاته ومسئوليته.

* * *

الرجَال قوَّامُون على النسَاء

إن قضية المرأة بمقتضى دخولها مع الزوج بالنكاح الشرعي تعتبر بأنها قد دخلت في العقد برضاها واختيارها على التزام رئاسة الزوج عليها بدون هضم ولا ضيم ولا إسقاط لها عن كرامتها ولا عن إنسانيتها، وقد سمى الله الزوج سيدًا في كتابه الحكيم فقال تعالى: ﴿وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِ [يوسف: 25]. كما سماها الله الصاحبة بالجنب، وقد أثبت الله سبحانه القوامة للرجال على النساء فقال: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ [النساء: 34]. وهذه القوامة وهذه السيادة هي المعنية بقوله: ﴿بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ من كون الرجل أقدر من المرأة على الحماية والرعاية والكسب، ﴿وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ أي بما بذل لها من المهر والنفقة عليها وهي المشار إليها بقوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞ [البقرة: 228]. إذ ليس الذكر كالأنثى. فبعض العلماء قال: إنه من أجل ضعفها ونقص رأيها في تصرفها كما هو الغالب على أكثر طبائع النساء، ولا ينفي هذا وجود بعض النساء الذكيات العاقلات اللاتي لهن حظ من القوة والكياسة وحسن التصرف والسياسة، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم والعقل والذكاء والفطنة والقدرة على الكسب، وهذه تعد من النادر الذي لا يبنى عليه قاعدة لأن النادر لا حكم له، وإنما الاعتبار بالأغلب والعادة السائدة من طبائع النساء، والنساء طوال القرون الطويلة والى حد الآن مهما بلغت إحداهن من الذكاء والفطنة فإنهن يعتقدن ويعرفن شدة حاجتهن إلى الرجال في الرعاية والحماية والقيام بالكفالة والكفاية حتى إن النساء في بعض الأمم يعطين الرجل المهور ويشاطرنه النفقة ليكن تحت رئاسته ورعايته، للعلم بشدة حاجتهن إليه وكون رعاية الرجل بالمرأة على قدر حظوتها عنده وميله إليها، وقد قيل: «مسكينة امرأة بلا زوج» وتدعى الأيم والأرملة بحيث تحيط بها الكآبة والمسكنة، فالمرأة التي يأخذها الحرص على العمل للكسب أو على العلم والتعليم إلى أن تفني زهرة شبابها بدون زوج ولا أولاد، فإنها في الغالب تندم في آخر عمرها أشد الندم وتبدي الحسرة والأسف على ما فات من دهرها بدون زوج يؤنسها وبدون نسل يرثها، وتذكر به بعد موتها.

لهذا يعد من الشطح والشطط وقوع هذا الجدال والصخب من أنصار المرأة بالباطل حيث يطالبونها بالخروج من بيتها للعمل ويحسنون لها ذلك مع معرفة كل عاقل بما ينجم عن هذا الشيوع من الأضرار والمفاسد الكبار وإهمالها حقوق زوجها وتربية عيالها وإصلاح شؤون بيتها، فهم يضرونها من حيث يريدون نفعها، ويريدون جعلها بمثابة الأنعام السائبة التي تسرح وترتع حيث شاءت كحالة المرأة الغربية على حد سواء. نريد حياتها ويريدون موتها.
أبتغي إصلاح سعدى بجهدي
وهي تسعى جهدها في فسادي
ولما تنبه أهل أوروبا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية وترقية معيشتهم المدنية وعرفوا فساد تربية نسائهم وفساد تعلمهن وأن الأدواء الاجتماعية والأمراض المدنية، قد ظهر أثرها بشدة على حضارتهم، وصارت تهددهم بفساد أحوالهم وقلة مالهم وانقراض نسلهم وعيالهم وتقويض دعائم صنائعهم وأعمالهم، وقد ظهر أثر ذلك جليًّا في الغرب بحيث دخل عليهم هذا الضعف وقلة النسل تدريجيًّا، فلما عرف ذلك بعض كتابهم وبعض الكاتبات الذكيات من النساء أخذوا يصرخون بفضل دين الإسلام ويتمنون الرجوع إلى تعاليمه وتربية نسائهم عليه، ودونك الشاهد المشاهد للواقع والحق ما شهدت به الأعداء، ونحن نسوق بعض أقوالهم للاتعاظ بها وأخذ الاعتبار منها وخير الناس من وعظ بغيره.

قال العلامة الإنجليزي (سامويل سمايلس) وهو من أركان النهضة الإنجليزية: إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل، مهما نشأ عنه من الثروة فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه يهاجم هيكل المنزل ويقوض أركان الأسرة ويمزق الروابط الاجتماعية ويسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم، وصار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية، مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام باحتياجاتهم البيتية.

ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والمحبة اللطيفة، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وصارت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالبًا التواضع الفكري والتوادد الزوجي والأخلاق التي عليها مدار حفظ الفضيلة[119].

ونشرت جريدة (لاغوس ويكلي ركورد) نقلا عن جريدة (لندن ثروت) قائلة: إن البلاء كل البلاء في خروج المرأة من بيتها إلى التماس أعمال الرجال، وعلى أثرها يكثر الشاردات عن أهلهن واللقطاء من الأولاد غير الشرعيين فيصبحون كلًّا وعالة وعارًا على المجتمع، فإن مزاحمة المرأة للرجال ستحل بنا الدمار. ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل وعليه ما ليس عليها؟[120].

ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس أني رود) في جريدة (الإسترن ميل): لأن يشتغل بناتنا في البيوت خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد. ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة تتنعم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها[121].

ونشرت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة (الإيكوما) وهذا نص المقالة: إن الاختلاط يألفه الرجال وقد طمعت المرأة فيه بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط يكون كثرة أولاد الزنا، وهنا البلاء العظيم على المرأة فالرجل الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء وتذوق مرارة الذل والمهانة والاضطهاد من الحمل وثقله والوحم ودواره، أما آن لنا أن نبحث عما يخفف إذا لم نقل عما يزيل هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟

يا أيها الوالدان، لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل ومصيرهن إلى ما ذكرنا.

علموهن الابتعاد عن الرجال. أخبروهن بالكيد الكامن لهن بالمرصاد. لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنا أنه يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا هن المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية لإسقاط الحمل لرأينا أضعاف ما نرى الآن. لقد أدت بنا هذه الحالة إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان حتى أصبح رجال مقاطعات بلادنا لا يقبلون المرأة زوجة شرعية، وهذا غاية الهبوط بالمدنية. انتهى[122].

وإنما سقنا هذه المقالات التي هي بمثابة الشهادات لإقناع الشباب والشابات المفتونين بتقليد أوروبا في عاداتها وفساد أخلاقها والسير على منهاج أعمالها في التساهل في الفسق كدأب المتفرنجين في التسليم للأمم القوية والتقليد لها.

وقد قلنا في رسالة الخليج في منع الاختلاط: إن هذا الاختلاط يجب منعه وعدم إقراره لأنه يفضي بأهله إلى أشر غاية وأسوأ حالة فلا ينبغي أن نغتر بمن ساء فهمه وزل قدمه في الغرق في إثمه، فإنه لا قدوة في الشر، فإن غشيان النساء لهذه الجامعات والأعمال والمعامل من أقوى الوسائل لتعرف الفساق بهن وإغوائهن، والفساق هم يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء فلا ينبغي أن نغش أنفسنا، ونتعامى عما يترتب عليه من فساد الأخلاق والآداب.

تدخل البنت العذراء المصونة المحصنة هذا المجتمع المختلط وهي في غاية من النزاهة والعفة والحياء فتقعد مقعد المرأة البرزة، بحيث تكون في متناول كل ساقط وفاسق فيوجه السفهاء والفسقة إليها أنظارهم وأفكارهم ويسترسلون معها في حديث الهزل والغزل ويعملون لها وسائل الإغراء والإغواء لا سيما إذا كانت ذا حسب وجمال فلا تلبث قليلاً حتى تلقي عن نفسها جلباب الحياء والحشمة، وتزول عنها العفة وتنحل منها رابطة العصمة، ثم تميل إلى الفاحشة المحرمة لأنها ناقصة عقل ودين ومشبهة عقولهن بالقوارير والشباب قطعة من الجنون. ومن العصمة ألا تقدر والمعصوم من عصمه الله. ومتى كثر الإمساس قل الإحساس.
قالت عهدتك مجنونًا فقلت لها
إن الشباب جنون برؤه الكبر
والمسؤولون عن هذا أمام الله والناس هم الأمراء والزعماء الذين يجب عليهم منع اختلاط الجنسين اتقاء الفتنة، وقد قرر العلماء أن المجموع الذي يتضمن المحظور يكون محظورًا. وأن الوسائل لها أحكام المقاصد وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. فلأجله يجب النهي والانتهاء عن مثل هذا لأنه يجر إلى فنون من المضار المتنوعة متى اعتادها النساء أصبحن لا يرون بها بأسًا وزال بها عنهن الأدب والحشمة والعفة والدين.

إن أكبر أمر تخسره المسلمة الخفرة في هذا الاختلاط هو خسرانها للحياء الذي هو بمثابة السياج لصيانتها وعصمتها. فالحياء يحسبه بعض الناس هينًا وهو عند الله عظيم. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» وقال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» لأن الحياء ينحصر في فعل ما يجملها ويزينها واجتناب ما يدنسها ويشينها، والحياء مقرون به البهاء والجلال والجمال كما أن عدم الحياء من لوازمه ذهاب البهاء والجمال والجلال، ترى المرأة الملقية لجلباب الحياء في صورة قبيحة وقحة مترجلة لا تدري أهي رجل أو امرأة وقد قيل:
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاء
إن الحياء كله خير وحسن لكنه في النساء أحسن.

وإذا أردت أن تعرف خسارة فقد الحياء فانظر إلى بعض البلدان التي هجر نساؤها الحياء وتجافين عن التخلق به، واعتقدن أن الإنسان حيوان ترى فيهن العجب من فساد الأخلاق والآداب ونكوس الطباع وفساد الأوضاع والإخلاد إلى سفاسف الشرور والفجور فلا تبالي بما فعلت أو فعل بها، شبه الحيوان، فلا تستحيي من الله ولا من خلقه ولا ترغب في أن يبقى لها شرف أو ذكر جميل تذكر به في حياتها أو بعد وفاتها، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»[123].

نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير أزواجهن أو محارمهن، ومن المعلوم أن المرأة في حالة هذا الاختلاط ستظهر محاسنها ومفاتن جسمها فتبدي يديها إلى قريب العضد وبها أسورة الذهب وساعة الذهب وتبدي رجليها إلى نصف الساق وتكشف عن رأسها ورقبتها وقلائدها وحلق الآذان، ولن تذهب إلى هذا المجتمع إلا بعد تكلفها بتجميل نفسها من الأصباغ والأدهان العطرية، لعلمها أن الشباب سينظرون إليها، فهل يشتبه على عاقل بعد هذا تحريم إبداء هذه الزينة مع الرجال الأجانب، إذ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل وتحريم التعاون عليه وتحريم المساعدة لأهله، بل ولا في تحريم إقرارهم عليه والسكوت عن الإنكار عليهم، ولا حاجة إلى تطويل الكلام في مفاسده وما يؤول إليه فإنها بديهة بطريق العقل والاختبار.

والمفتونون بالتقليد يعلمون من مضاره المتولدة عنه أكثر مما ذكرنا لكنهم يستحبون العمى على الهدى ﴿وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ [الأعراف: 146]. فهم يفضلون ترك هذه الآداب الإسلامية والأخلاق العربية ويهزؤون بمن يفعلها وبمن يخالف رأيهم في تركها من كل ما يسمونه تمدنًا وتجديدًا...
عُمْي القلوب عَرَوْا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن الغيرة على المحارم تعد من شيم ذوي الفضائل والمكارم، فالغيور مهاب ومن لا غيرة فيه مهان، والغيرة الواقعة في محلها هي بمثابة السلاح لوقاية حياة الشخص وحماية أهله، وكلما اشتد حفظ الإنسان لصيانة نفسه وأهله قويت غيرته واشتدت شكيمته بحيث لا تخلو بواديه الأراجيل.

وكلما كثرت ملابسته للقبائح وخاصة الزنا وتوابعه فإنها تنطفئ من قلبه حرارة الغيرة فلا يستنكر معها فعل القبيح، لا من نفسه ولا من أهله، بل ربما يلطف فعل الفاحشة ويزينها لغيره كما يفعل الديوث الذي يقر السوء في أهله، ولهذا صارت الجنة عليه حرامًا كما ثبت بذلك الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ»[124] والديوث هو الذي يقر أهله على عمل السوء؛ لأن من يهن في نفسه وأخلاقه فإنه يسهل عليه الهوان.

فالفاسدة أخلاقهم وبيوتهم يحبون أن تفسد أخلاق الناس وبيوتهم لينطفئ بذلك عارهم ويختفي ذلهم وصغارهم، فمثل هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش في بلدهم. والغيرة من الدين ومن لا غيرة له لا دين له لأن من لوازم عدم الغيرة الرضاء بانتهاك حدود الله ومحرماته.

إن الرجل العاقل والمفكر الحازم يجب عليه أن يراقب العواقب وأن يقابل بين المصالح والمفاسد، فإن لهذه القضية ما بعدها إذ المنكرات يقود بعضها إلى بعض وحتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى، فعند نجاح القائلين بإباحة الاختلاط فإنه يقودهم إلى المطالبة بإباحة الرقص ثم المطالبة بإعطاء المرأة كمال حريتها تتصرف بنفسها كيف شاءت ليس لزوجها ولا لأبيها عليها من سلطان كفعل المرأة الأوروبية، وكأن هذا هو هدفهم الأكبر وبعمله يعملون.

أيها العقلاء اعتبروا وفكروا واعلموا أن المسلمين إنما نكبوا في مجتمعهم وأخلاقهم بعدما نكبوا في نظام عائلتهم وفساد تربيتهم لنسائهم وأبنائهم التربية الدينية الصحيحة المبنية على التحلي بالفضائل والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل.

وبسبب إهمالهم لحسن تربيتهم وفساد تعليمهم ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم. وأخذوا يتناسون التعاليم الإسلامية والأخلاق العربية لأنه إذا ساء التعليم ساء العمل وإذا ساء العمل ساءت النتيجة ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة: 41].

فهذه محض نصيحتي لكم قصدت بها نفعكم ودفع ما يضركم والله خليفتي عليكم وأستودع الله دينكم وأمانتكم وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حرر في 4 جمادى الآخرة سنة 1396هـ.

* * *

[119] دائرة المعارف فريد وجدي 63908. [120] ص 481 م4 من مجلة المنار. [121] نشرت في مقالة عنوانها الرجال والنساء ص481 من مجلة المنار 4. [122] ص 482 من المجلد الرابع من مجلة المنار. [123] أخرجه أبو داود من حديث أبي مسعود. [124] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.

(9) الحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أما بعد:

فقد عرض علي مقالة أصدرتها مجلة العربي بالكويت في عددها رقم 232: ربيع الأول عام 1398هـ الموافق شهر مارس 1978م وهي صادرة من فضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي كرد منه على الدكتور حسان حتحوت.

تتضمن استفتاء علماء فقه الشريعة على عملية شتل الجنين وهو أن يجامع الرجل الغريب امرأته التي هي غير صالحة للحمل ثم ينقل ماءه منها إلى امرأة ذات زوج بطريقة فنية فينمو إلى نهاية وضعه، ويكون الجنين ابنًا لهذا الرجل الغريب الذي لقح به منيه وابنًا لزوجته. أما الأم التي حملت به وولدته وكذا زوجها الذي ولد الجنين على فراشه فإنهما يعتبران أجنبيين منه وتنقطع صلته بينهما فلا يرثهما ولا يرثانه، وتكون أمه الحقيقية هي التي أتت بالمني وزوجها أي صاحب المني هو أبوه الحقيقي، ويطلب رأي الفقه الشرعي في موضوعه.

[رأي الشيخ يوسف القرضاوي بشأن شتل الجنين، والرد عليه]

فأجاب الشيخ يوسف القرضاوي في ردّه وفي مقدمة مقالته ببطلان التلقيح الصناعي، وهو أن يؤخذ مني الرجل الغريب ويوضع في فرج المرأة ذات الزوج قائلاً: إن هذا حرام بطريق اليقين لكونه يلتقي مع الزنا في اتجاه واحد، حيث إنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب. ثم استطرق في كلامه عملية الشتل فأنحى عليها بالملام، وتوجيه المذام، وبيّن ما يَنجُم عنها من المساوئ والإجرام، مما يقتضي إلحاقها بالأمر الحرام، وكونه لا يُرحِّب بها شرع الإسلام بكلام استقصى فيه غاية الغرض والمرام، مما يوافق أحكام شرع الإسلام.

فلو اقتصر على حده ولم يتجاوزه إلى ضده، لقلنا: قرطس فأصاب وَوُفق للحكمة وفصل الخطاب. قال: والذي أرى أن الفقه الإسلامي لا يرحب بهذا الأمر المبتدع ولا يرضى عن فعله وآثاره.

لكنه تصدى لهدم ما بناه ومحو محاسن ما كتبت يداه، فعاد إلى إصدار حكم منه في القضية يتضمن جواز هذه العملية لاعتبار أنه أحد فقهاء الشريعة الإسلامية الذين وجه إليهم الخطاب، فعقد للحكم فصلاً سماه: (ضوابط وأحكام) فعاد إلى القول بإباحته بعد جزمه بتحريمه من كون الجنين متى نشأَ من هذه النطفة فإنه يكون ابنًا للرجل الذي أخذ منه قطرة المني وتكون زوجته التي لم تحمل ولم تلد هي أم الجنين الحقيقية، أما أمُّه التي حملت به وولدته فإنها ليست له بأم فلا يرثها ولا ترثه بزعمه، وكذلك زوجها الذي ولد الغلام على فراشه فإنه ليس أبا للجنين بزعمه وشرط لعملية الشتل:

 أن يكون مع امرأة ذات زوج.

 وأن يكون بإذن زوجها ورضاه.

 وأن تستبرئ حالة التلقيح أي تعتد عن زوجها للعلم ببراءة رحمها.

ثم أخذ يخلط ويخبط في الأحكام، وأمور الحلال والحرام، بدون بينة ولا برهان، بل بكلام يعد من الفضول، تمجّه العقول، ويناقض النصوص والأصول، قد أبطل به صريح حكمه بعد إحكامه وعاد إلى نقضه بعد إبرامه فكان ﴿كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا [النحل:92].

وبما أن الباطل شجون يستدعي بعضه بعضًا وحيث فتح الشيخ باب هذه الفتنة فإنه سيأتي من يبني على حكمه فيقول بجواز عملية التلقيح مع الأبكار العذارى، ومع الثيبات الخليات من الأزواج لكون الحكم في الجميع واحدًا فيتسع الخرق على الراقع.

وإنني بمقتضى الرد عليه أتكلم في بطلان التلقيح بنوعيه:

 نوع التلقيح بمني الرجل الغريب بلا واسطة.

 ونوع الشتل.

فكلا الأمرين في البطلان سيان، إذ الأمر فيهما يدور على نقل مني رجل غريب في رحم امرأة غريبة منه ليست بزوجته والتي من واجبها أن تصون نفسها عن اختلاط ماء الغير بها، إذ هو نظير الزنا ونفس التلقيح الصناعي بلا فرق.

فلو بقي الأمر فيها مستورًا غير منشور لآثرنا غلق بابه على خبيئة خطئه واضطرابه، ولم نتعرض لنشر هذا الشر وأسبابه، لكن القضية صارت منشورة وحكمه فيها مشهور حتى صارت حديث الجمهور في مجالسهم ومدارسهم فأخذوا يخوضون في موضوع حقيقته، وفي غرابة الحكم بإباحته.

لهذا وجب علينا حتمًا أن نبيّن للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم وما شرعه لهم نبيّهم في موضوع هذه القضية نفسها فإن شريعة الإسلام كفيلة بحل المشاكل كلها، والله سبحانه قد أوجب على العلماء البيان وحرم عليهم الكتمان.

قال الشيخ يوسف في تفصيل ما حكم به مع فرض وقوعه فقال: (ضوابط وأحكام) إن من الشروط أن تكون الحاضنة أي التي يوضع فيها التلقيح:

أولاً: ذات زوج.

وثانيًا: أن يكون هذا الفعل برضى الزوج.

ثالثًا: يجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها خشية أن يكون قد علق برحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تضمن براءة رحمها منعًا لاختلاط الأنساب.

رابعًا: نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها طوال مدة الحمل والنفاس على أب الطفل، أي الملقح للبويضة، أو على وليه من بعده، لأنها غذت الجنين من دمها، فلا بد أن تعوّض عما فقدته ثم استدل بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّ [الطلاق: 6].

خامسًا: جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت من هنا من باب قياس الأولى أي للمرأة الأجنبية صاحبة المني.

أما زوج المرأة الحاضنة، أي زوج التي حملت وولدت فليس له أي علاقة بالجنين. انتهى كلام الشيخ يوسف.

وأقول: إن هذا التقرير الصادر منه هو صريح في الحكم منه لصحة عملية الشتل مع العلم أنه عالم يُقتدى به وينتهي أكثر الناس إلى رأيه، وفي هذا الرأي من التغرير المخالف لتقريره السابق ما لا يخفى على أحدٍ.

وحكمه بهذا هو حكم باطل في نفس الأمر والواقع.
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشروط فكان ذا بطلان[125]
إن الأصل الفاسد لا يقاس عليه، إذ القياس على الفاسد فاسد، وهذا الحكم إنما نشأ من عدم تفكير وحسن تدبير فهو خطرات من وساوس فكرته ليس له أصل يستند إليه ولا نظير يقاس عليه، وهو مخالف للحق والحقيقة والنبي ﷺ يقول: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[126] وحاصله: أنه رأي منه، وليس برواية، والرأي يخطئ ويصيب.

إن الشيخ يوسف أشار في مقدمة مقالته أن الدكتور حسان حتحوت تساهل في إباحة الشتل نظرة منه إلى رحمة المرأة الفاقدة للأولاد، وقد وقع الشيخ يوسف في نفس ما عاب به حسان حتحوت من القول بإباحة هذا الفعل، الذي جزم سابقًا بتحريمه، وكأنه خرج منه مخرج المسانعة والمصانعة لهذه المرأة، وللقوم الذين يحبون أن تشيع مثل هذه الفاحشة بين الناس، فأحب أن يتقدم بالقول بإباحتها تنشيطًا لهم على الإتيان بما هو أكبر وأنكر منها، وأظن أنه لم يسبق إلى القول بإباحتها أحد.

وما أسرع ما نسي هذا الإنسان، وأين قوله:

إذا كان الإسلام قد حرّم التبني، وانتساب الإنسان إلى غير أبيه فأجدر به أن يحرم التلقيح المذكور لأنه يلتقي مع الزنا في اتجاه واحد ويفضي إلى اختلاط الأنساب.

فهذا الذي نطق به هو الحجة لنا عليه، ولا نقبل نقضه بما يخالفه، ومتى كان هذا قوله في التلقيح الصناعي وأنه حرام بيقين فإن الشتل مثله إذ التلقيح الصناعي هو نقل مني الرجل الغريب إلى المرأة ذات الزوج بلا واسطة.

أما الشتل فإنه ينقل إليها بواسطة مروره على المرأة الفاقدة للأولاد ولن يتغير هذا المني عن حالته بمروره عليها، وما ذكروه من تلقيح البويضة فإنه سيكون من رحم المرأة المنقول المني إليها فينتهي ويستقر برحمها، ومني الرجل هو الأصل في إيجاد الجنين، يقول الله تعالى: ﴿أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٣٨ [القيامة: 37-38]. ومثله كل فحل، فقد ثبت بمقتضى التجربة في البهائم وخاصة البقر أنها تحمل بمجرد نقل مني الثور إلى فرجها، بدون مروره على شيء آخر.

فمتى علم ذلك فإن التلقيح بالشتل يثبت له من العلل والمساوئ ما ثبت للتلقيح الصناعي، إذ حقيقته نقل مني رجل غريب إلى رحم امرأة ليست له زوجة، والتي من واجبها صيانة رحمها عن مشاركة الأغيار، فيترتب عليه اختلاط نسب أجنبي بنسب أهلي إذ هذا المقصود الأكبر في تحريم الزنا، وانتساب الرجل إلى غير أبيه وأمه، وهو واقع في التلقيح بنوعيه.

وما كنا نسمع بهذا الشيء قبل اليوم، ولكن الناس متى بعدوا عن الدين فإنهم يتوسعون في البدع والزور وأعمال الشرور والفجور ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. ومتى كان هذا التلقيح زنا فكيف يطلب فيه إذن الزوج به ورضاه عنه، فإنه متى رضي به وأذن فيه فإنه ديوث، يقر السوء على أهله، وتعتبر امرأته زانية، لأنه متى ذكر العلماء في حكمة تحريم الزنا أنه منع لاختلاط الأنساب، فالمقصود الأكبر في وسيلة اختلاط الأنساب هو نقل مني رجل غريب إلى رحم امرأة ليست له بزوجة بأي طريقة، أو بأي صفة يصل فيها المني إلى غايته من رحم هذه المرأة فيتخلق منه إنسان يلتحق بنسب المرأة الأجنبية ونسب زوجها وهو رجل أجنبي عنهما، فيترتب عليه اختلاط نسب أجنبي بنسب أهلي، إذ هذا المقصود الأكبر في تحريم الزنا، وهو حقيقة التلقيح بنوعيه في إيصال مني الرجل الغريب إلى امرأة ذات زوج. إن هذا لشيء عجاب.

* * *

[125] انظر (توضيح المقاصد في شرح قصيدة ابن القيم) للشيخ أحمد بن عيسى 1/38. [126] متفق عليه من حديث عائشة.

حكم الفقه الإسلامي في موضوع القضية

إن الشريعة الإسلامية بأحكامها كفيلة بحل مشاكل العالم؛ ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان. فلو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. لكن الغوص إلى استنباط الحكم من مظانه يحتاج إلى علم واسع، وفكر ثاقب، ودراسة عميقة متخصصة في معرفة العلوم والفنون، فلا يقع بين الناس مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر ومعضلات الدهر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها. كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية ما يدحضها ويبين بطلانها.

والشريعة مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض أي الأنساب والعقول التي حرم الخمر من أجل حفظها وحمايتها، ذلك بأن دين الإسلام قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان.

وقد اختلف العلماء فيما يثبت به لحوق نسب الولد بأبيه فمنهم من قال: إنه يلتحق بأبيه بمجرد العقد الصحيح بأمه، فمتى أمكن دخوله بالمرأة التي عقد عليها فإنه يلتحق به الولد الذي حملت به وولدته سواء عُلم دخوله بها أو لم يعلم؛ احتياطًا لحفظ الفراش والنسب، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة، والمالكية، والشافعية، واشترطوا لصحة إلحاقه مُضي ستة أشهر فأكثر من عقده بها. ومنهم من قال: لا يلتحق به نسبه إلا بعد الدخول المحقق بزوجته أم ولده، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، وهو الصحيح المعمول به. فبعد تحقق الدخول بها فإن كل حمل تحبل به فإنه يحكم به لأبيه حكمًا احتياطيًّا جازمًا صيانة للفراش والنسب، حتى لو فرض أنها حملت به زنا أو بطريق الغصب، أو وطء الشبهة، فإنه يحكم به لأبيه الذي هو زوج أمه، ولا ينظر إلى ما يخالفه، ويفهم منه التحاقه بطريق التلقيح بنوعيه، أي التلقيح الصناعي والشتلي. فيكون الولد لأبيه أي زوج أمه التي حملت به وولدته، فلا يتغير هذا الحكم عن أصله لكون الأحكام مبنية على الظاهر، والله يتولى الحكم في السرائر إذ ليس كل الناس خرجوا من أصلاب آبائهم.

وقد حكم رسول الله ﷺ بهذا الحكم في مثل هذه القضية عند فرض وقوعها فلا حكم لأحد بعد حكمه ومتى جاء سيل الله بطل نهر معقل.

ففي البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ويعني بالعاهر الزاني، ويعني بالفراش الزوجة التي في عصمة الزوج فإن حملت بهذا الغلام فإنه يحكم به لزوجها المذكور حرصا على رعاية حفظ النسب وحماية حرمة النكاح الشرعي.

وتسمية المرأة فراشًا هو جار على ألسنة العرب لكونه يفترشها عند إرادة قضاء حاجته منها. كما قيل:
إذا رمتها كانت فراشًا يقلني
وعند الفراغ منها خادم يتملق
كما أن الله سماها حرثًا في قوله: ﴿نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ [البقرة: 223]. وهذا الحديث أي قوله: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» هو نص في الحكم في هذه القضية وهو قاعدة عامة كلية من قواعد الشرع، يحفظ به حرمة النكاح، وطريق اللحاق بالنسب جوازًا وعدمًا. فهو يوجب قطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع في مثل هذه القضية، فمتى حملت امرأة ذات زوج بالتلقيح الصناعي، أو الشتل، أو الزنا، أو الغصب، أو الوطء بالشبهة فإن حملها يعتبر للزوج ولزوجته التي حملت به ووضعته، ولا علاقة للغاصب أو الزاني أو المأخوذ منه المني فيه.

وهذا الحديث يفسره ما ذكر بسببه، فقد روى البخاري أنه تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة عند النبي ﷺ في ولد جارية زمعة، فقال سعد: إنه ابن أخي عتبة عهد إلي أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه فقبضته، فقال عبد بن زمعة: إنه أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي. فقال رسول الله ﷺ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ»[127]. لما رأى قرب شبهه بعتبة مع العلم أنه أخو سودة لأبيها في ظاهر الحكم. وقد أدرجه البخاري في باب اتقاء الشبهات من صحيحه، فلم يكن وطء عتبة لهذه المرأة مغيرًا للحكم في الولد.

إن الأصل الباطل يتفرع عنه فنون من الباطل، وإن التلقيح بالشتل هو نفس التلقيح الصناعي، ما عدا أن التلقيح الصناعي هو نقل مني الرجل الغريب إلى المرأة ذات الزوج بلا واسطة فينشأ عنه الولد.

أما التلقيح بطريق الشتل فإنه يكون بواسطة امرأة الرجل الغريب التي هي غير صالحة للحمل، فيمر عليها وينقل منها إلى المرأة ذات الزوج الصالحة للحمل، ومرور هذه النطفة بها لا يغير شيئًا من أوصافها، ولا ينبغي أن يقاس على شتل الشجر بعد نموه وكبره فينقل إلى مكان آخر فإن هذا شيء وذاك شيء آخر، مع العلم أنه لم يثبت التاريخ وجوده، وإنما ثبت وجود التلقيح الصناعي عن طريق الحيوان، حيث يلقح البقر في الثور بطريقة فنية بحيث يوضع المني في شيء شبه الأنبوب، ويولج في فرج البقرة فتلقح.

وليس ما يصلح للحيوان يعتبر صالحًا لبني الإنسان. وهذه النطفة تنتقل من طور إلى طور ومن حال إلى حال، فهي شبه البذر للإنسان، يقول الله سبحانه: ﴿يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖ [الزمر: 6]. ويقول سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى [الحج: 5].

وهذا معنى ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نطفة، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ -أَيْ: أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَالْعَلَقَةُ قَطْرَةُ دَمٍ- ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ –أَيْ: قِطْعَةُ لَحْمٍ- ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» أي في الشهر الخامس.

وهذا الشتل إما أن يكون في حالة كونه نطفة، أو في حالة كونه علقة، أو في حالة كونه مضغة، فإنه يحكم بأنه للأم التي حملت به وولدته وزوجها هو أبوه الذي وُلد هذا الغلام على فراشه لحديث: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ».

ويعتبر التلقيح بطريق الشتل بمثابة العرق الظالم، أي لا حقَّ لمدعيه لقول النبي ﷺ: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ». وهذا من حديث رواه أبو داود وأهل السنن أن رجلين اختصما عند النبي ﷺ في أرض غرس أحدهما فيها نخلاً والأرض للآخر، فقضى رسول الله ﷺ للأرض لصاحبها وقال: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ».

وقد سمى الله المرأة حرثًا فقال: ﴿نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ [البقرة: 223]. فكل ما تحمل به المرأة ذات الزوج بأي طريقة فإنه ينسب إلى زوجها لكونه نماء حرثه وقد ولد على فراشه ولأن نكاحه لها هو مما يزيد في نمو الولد في بطنها.

وقد مر النبي ﷺ على رجل ومُجِحٍّ عند باب فسطاط فقال: «لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا؟». فقالوا: نعم. فقال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا، يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يَطَؤُهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَكَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟»[128].

ثم نهى أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره.

وخلاصة البحث: أنه لو نقل بطريق الشتل وهو نطفة أو علقة أي قطعة دم، أو مضغة وهو قطعة لحم، فنما في بطن المرأة ذات الزوج حتى نُفخ فيه الروح وحتى أتمت مدة حملها به فوضعته، فإنه يكون ولدًا لها ولزوجها لعموم حديث «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ».

وهي قاعدة شاملة حتى لو طابت نفس الأم التي حملت به، وطابت نفس الأب بجعله للمرأة التي لم تحمل ولم تلد ولزوجها، فإنه لا يجوز ذلك لكونه حرًّا لا تجوز هبته، ولما يترتب على هذا التصرف من قطع صلته بنسب أبيه، وقطع صلته بأمه التي قاست الشدة والمشقة حيث حملته كرهًا ووضعته كرهًا، فيقطع نسبه بها ويجعلها أجنبية عنه، وهو من باب قطع ما أمر الله به أن يوصل. ثم يلحق بأب أجنبي ليس بأب له فينسب إلى غير أبيه. وفي الحديث: «مَنْ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»[129].

ومن قواعد الفقه: أنه لا شبهة مع فراش، أي لا حكم لأي وطء وقع من الزنا، أو الشبهة، أو الإكراه، أو الشتل، أو التلقيح الصناعي. فمهما كان من ذلك فإن الولد للزوج الذي ولد على فراشه، والأم الحقيقية هي أمه التي حملت به ووضعته.

وقد ذكر الفقهاء صورة في نقل المني، وهي ما لو استلطفت امرأة ذات زوج بمني رجل غريب، أو برداء فيه مني فحملت من ذلك، فهذا القول قد سيق مساق التوسع في تقرير ما لا يقع، وإلا فإن المني متى ظهر للهواء فإنه يفسد بذلك ويبطل حقيقته، فلا حجة لدعوى المرأة المحتجة به.

وقد كفانا رسول الله ﷺ وشفانا من كف هذه الفتنة التي أكثر الناس من الخوض في موضوعها فقال: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ».

وحرم التبني وهو واقع فيه بكل حالاته، كما حرم انتساب الرجل إلى غير أبيه، وهو واقع فيه.

إن حاكم القضية يروّج في أذهان الناس أن العلم أثبت أن هذا المني الذي ينقل بطريق الشتل أنه جنين، وهو تدليس منه على الأذهان، وتلبيس على ضعفة العقول والأفهام، وإلا فإن موضوع الحكم والكلام هو في المني الذي يلقح به الإنسان بويضة المرأة فلا يسمى جنينًا، وإنما يسمى منيًّا كما قال سبحانه: ﴿فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ ٥ خُلِقَ مِن مَّآءٖ دَافِقٖ ٦ [الطارق: 5-6]. وقال: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٣٨ فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٣٩ [القيامة: 36-39].

ثم إنه في حالة كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة قد تقذفه الرحم كما قال سبحانه: ﴿مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ [الحج: 5]. فلا يكون جنينًا حتى ينفخ فيه الروح.

قال في القاموس: (والجنين) هو الولد في البطن، سمي جنينًا لاستجنانه، أي استتاره في الرحم. أما كون المني يصير جنينًا بإذن الله فهذا مما تعرفه العجائز فضلاً عن العلم، ولم تأت هذه المرأة بجنين حي تنقله ثم تدسه في فرج المرأة ذات الزوج، وقبل مضي الأطوار الثلاثة يعتبر كحكم الميت حتى ينفخ فيه الروح فيكون إنسانًا حيًّا. ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له.

ومثله تسمية الحامل حاضنة، فإن هذا من باب قلب الحقائق، فإنه لا حضانة إلا للطفل الصغير متى خرج إلى الوجود حيًّا، وما دام في بطن أمه فإنه يسمى حملاً، وأمه حاملاً، ولا يقال: حاضنة. والله أعلم.

حرر في 10 رجب سنة 1398هـ

* * *

[127] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [128] أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء. [129] أخرجه أبو يعلى من حديث سعد.

(10) فصل الخطاب في ذبائح أهل الكتاب

مقدمة الرسالة

إن في هذه الرسالة من دقائق الفقه وحقائقه ما عسى ألا تجده موضحًا في غيرها، لكنها تحتاج إلى علم واسع، ودراسة عميقة، وتحرر عن تقييدات فقهاء المذاهب، وها هي معروضة عليك، وموضوعة بين يديك، وليس المخبر كالمعاين، ولن يقدح في صحتها وصلاحيتها مخالفتها لما عليه أئمة المذاهب والفقهاء، فإن هؤلاء الأئمة أنفسهم ينهون أشد النهي عن تقليدهم، ويأمرون بأخذ الدلائل من أصل منبعها الصافي، أي: الكتاب والسنة اللذين جعلهما الله بمثابة الحكم العدل، يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان الخلاف إلى مواقع الإجماع. وكل اعتراض لا يبنى على هذين الأصلين فإنه يعتبر بطريق الشرع أنه ممنوع غير مسموع؛ لأن من استبان له الحق، لم يكن له أن يدعه لقول أحد من الخلق كما قيل:
أبنْ ليَ قول الحق في وجه سامع
ودعه فنور الحق يسري ويشرقُ
سيؤنسه رفقًا فينسى نفاره
كما نسي القيد الموثق مطلق

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» الحديث.

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الناس في حياتهم تعرض لهم أنواع من المشاكل والمشتبهات لا يدري أكثر الناس عنها أهي من الحرام أو من الحلال، ومن الواجب على العامة عند وقوع هذه المشاكل والمشتبهات أن يسألوا عنها من يثقون بعلمه وتقواه، ليكشف لهم مشكلها، إذ العامي لا يجب عليه أن يتقيد بمذهبه، وإنما يجب عليه أن يسأل من يثق به؛ لقول الله سبحانه: ﴿... فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ [النحل: 43-44]. والعامي لا مذهب له، ومن قلّد فيها عالمًا قام سالمًا.

وقد دل الحديث عل أن أكثر الناس لا يعرفون حقيقة الحكم الشرعي في كثير من المتشابهات، ولم يقل كل الناس، بل يوجد أناس وهم قلّة وهم الراسخون في العلم والمعرفة، فيعرفون حكم الشرع في هذه المتشابهات بحيث يوجهون إليها أنظارهم وأفكارهم، ويستنبطون الحكم فيها من كتاب ربهم وسنة نبيهم، فيلحقون النظير بنظيره، فيزيلون عنها ما غشيها من الشك والإشكال ويجعلونها جلية للعيان.

لكنه متى تصدى للخوض في هذه المشكلة أحد العوام، بدون معرفة ولا حكمة، وبدون بصيرة من كتاب ربه وسنة نبيّه، فإنما يفسد أكثر مما يصلح، ويكون خوضه في موضوعها من المضار والمفاسد الكبار، بحيث يحرّم على الناس ما أحل الله لهم، فيلحق الحلال بالحرام، ويجعل الناس يشكون في مأكلهم؛ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ [النحل: 116].

ثم إن العلماء أنفسهم تتفاوت أنظارهم في بعض هذه المتشابهات، فمنهم من يُلحقها بالحرام بشبهة دليل يدعيه، ومنهم من يُلحقها بالحلال، لكون العلماء يتفاوتون في الأفهام، وفي الغوص على فقه المعاني والأحكام، أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فالمجتهد المصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أعوذ بك من معضلة ليس لها أبو الحسن [130]. يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

فمن هذه المشتبهات ما وقع السؤال عنه في هذا الزمان وما كثر فيه الخوض بين الناس من كثرة القيل والقال، وذلك في ذبائح أهل الكتاب، وتنوّع كيفية ذبحهم الحيوان والدجاج، وهل هو حلال أم حرام؟ ونحن على دين كفيل بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، فلا تقع مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83]. لكون دين الإسلام هو دين البشرية كلها، مسلمهم وكافرهم ويهودهم ونصرانيهم، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. ويقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. فشريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم كلها، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان.

والله سبحانه قد فصّل في كتابه ما حرم على الناس فقال: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وتفصيل المحرمات يعرف من قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3]. وإنما خصّ المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، مع العلم أنها من أقسام الميتة، إذا لم تُذك وبها حياة مستقرة، لكون بعض العرب في الجاهلية يأكلونها وهي ميتة، ويقولون: كيف نأكل ما قتلناه ولا نأكل ما قتل الله؟! فحرم سبحانه أكل هذه الأنواع بعد موتها إلا ما ذكي منها أي وبه حياة مستقرة. فقوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ هو خطاب لجميع البشر على حسب عُرفهم وعاداتهم في تذكيتهم لذبائحهم، إذ ليس عندنا ما يدل على قصر التذكية وحصرها في قطع الحلقوم والمريء، حسبما شرطه الفقهاءُ، إلا أنها جرت العادة بذلك في الإسلام وزمن الجاهلية، لكون هذه الكيفية أسرع وأسهل لإزهاق روح الحيوان، لكون الحلقوم والمريء هما مجرى النفس والطعام والشراب، ولأن هذه الكيفية هي أبقى وأسلم للجلد الذي له قيمة في زمانهم، حتى كانوا يسلخون جلود الميتة وينتفعون بها، ودباغها طهورها. أما ذكاة المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فيكفي في تذكيتها وإباحة أكلها أن يذكيها وبها رمق من الحياة، فروى ابن جرير عن الحسن أنه قال: إذا طرَفت بعينها، أو ضربت بذنبها أو رجلها فقد حلَّ أكلها.

فذبح أهل الكتاب على أي صفة يفعلونه، وكذا ذبائحهم كلها تندرج في عموم قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ، وقوله: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وكل ذبيحة أو ذبائح من حيوان أو دجاج تجلب إلى الناس وهي مجهولة، لا يعلم من ذبحها، ولا كيفية ذبحها، فإنها تندرج في عموم الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة: أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا»، فكأنه بهذا يرى أن التسمية على الذبح واجبة على المسلمين لا غيرهم.

لقد رأينا بعض كتّاب المقالات يسخرون من بعض العلماء، حينما يسألون عن هذه المشكلة، فيجيبون بصريح هذه الآية، وهي قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ، وبحديث: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا»، ﴿فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ [التوبة: 79]. وأن هذا هو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وما خرج عن موضوع هذا الجواب فإنه تكلف وكثرة كلام بدون جدوى ولا فائدة. وما يشعرني أن إطلاق القرآن لإباحة ذبائح أهل الكتاب بدون قيد ولا شرط أنه رحمة من الله لعباده، لعموم الابتلاء بكثرة اختلاط المسلمين بهم وشدة حاجتهم إلى ذبائحهم في كل زمان ومكان، فأباح أكل ذبائحهم مع علمه بما كانوا يفعلونه من صفة الذبح، وما سكت القرآن عن تحريمه فهو الحلال، لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[131]. فذبائح الكفار هي مما سكت القرآن عن تحريمها رحمة للناس غير نسيان فكانت حلالاً.

إن هذه المشكلة تليدة الأصل، وليست وليدة هذا العصر، ولقد طرق موضوع الكلام فيها كثير من العلماء قبلنا، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة، فمنهم المتشدد، ومنهم المعتدل المتسامح، وأسمح المذاهب في هذه المسألة هو مذهب المالكية، فقد ذكروا في المدونة أنه سئل مالك عما ذبحوه للكنيسة أو غيرها، فقال: أكره ذلك ولا أحرم. وقال: إن الله أباح لنا ذبائحهم وقد علم ما يفعلونه.

وقال القاضي ابن العربي المالكي في كتابه أحكام القرآن على قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. قال: وسئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل يجوز أن نأكل معه منها؟ فقلت: نعم. كلوا منها، فإنها طعام أحبارهم ورهبانهم وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله سبحانه أباح لنا طعامهم مطلقًا، وليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم.

وكل من تأمل الأدلة بإخلاص نيّة، وصلاح طويّة، يتبين له أن أظهر الأقوال وأعدلها هو قول الذين يبيحون أكل طعامهم المباح أكله عندنا، بخلاف لحم الخنزير، وإن عدُّوه من طعامهم، فإنه محرم عليهم في شريعة التوراة، فلا تأكله اليهود، وإنما تأكله النصارى، بناء على فتوى أحد القسيسين، وهو بالحقيقة محرم عليهم، وليس من طعامهم.

* * *

[130] أخرجه ابن سعد في طبقاته عن سعيد بن المسيب. [131] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

هل تغيير اليهود والنصَارى لأديانهم مقتضٍ لتغيير الحكم في إباحة ذبائحهم؟

لقد رأينا في بعض المقالات عن بعض الكتّاب يقول: هل بقي الآن أحد على كتابه من اليهود والنصارى؟ فإن وجد، فهل يحل للمسلم أن يأكل ذبيحته كيفما ذبحها؟ إذ إنه من المعروف أن طرق الذبح قد تنوّعت، وأصبح بعضها لا يوافق الطريقة الشرعية للذبح؛ من إراقة الدم، وقطع الودجين، وتوجيه الذبيحة إلى القبلة، وغير ذلك من القواعد الشرعية المنصوص عليها.

وأقول: إن بعض الناس يعترض على هذه الإباحة المطلقة، بحجة أنهم غيّروا وبدلوا دينهم، وهذا القول إنما نشأ عن الجهل، وعدم العلم بالأحكام الشرعية، فإن الله سبحانه أحل ذبائح أهل الكتاب على الحال التي كانوا عليها من التنزيل ومما فعلوه من التغيير والتبديل، حيث يكذبون بالقرآن وبالرسول، وهم شعوب شتى كما في الحديث: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»[132]، فأطلق سبحانه إباحة طعامهم، أي ذبائحهم، مع علمه بأنهم مغيّرون لدينهم وشريعتهم، وهذا التغيير والتبديل واقع منهم زمن الرسول، وزمن نزول القرآن، فلا معنى للاحتجاج به. وكون الرجل كتابيًّا يعرف من عقيدته بنفسه لا من أصل نسبه. وهذه المشكلة قد وقعت للصحابة رضي الله عنهم في نصارى بني تغلب بالشام، ومعلوم أنهم من العرب وقد تنصروا، وقد أجمع الصحابة على إلحاقهم بالنصارى في إباحة أكل ذبائحهم، وحل نكاح نسائهم، ما عدا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال في معارضته: إنه ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر[133]. فقالوا: حسبنا أنهم صاروا نصارى، فالتحق بهم جميع أعمال النصارى وعاداتهم. فقوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. يدل بمقتضاه وفحواه على الإباحة المطلقة الأصلية، أي فيجوز الأكل من لحومهم ودجاجهم كيفما ذكّوها، وعلى أي صفة كانت، بلا قيد ولا شرط، ويستثنى من ذلك ما حرمه الشرع على المسلمين كالخنزير.

ولما كانت التذكية المعتادة في الغالب لصغار الحيوانات المقدور عليها هي الذبح الذي من شرطه قطع الحلقوم والمريء والودجين، كثر التعبير به، فجعله الفقهاءُ هو الأصل، وظنوه مقصودًا بالذات لمعنى فيه، فعلل بعضهم مشروعية الذبح أنه يخرج الدم من البدن، لكن الشرع الإسلامي أباح أكل بعض الحيوان بدون التذكية المعتادة، فمن ذلك البعير النادّ، أي الشارد، أو التيس الشارد، فيرميه صاحبه بسهم أو رصاصة، بحيث تقع في أي موضع من جسده، فيموت، فيأكله صاحبه، كما ثبت بذلك الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فندّ بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا»، وما استدل به جمهور السلف على جواز أكل ما رمي بالسهم أو الرصاص، فجرح في أي موضع من جسده، ومنها صيد المعراض متى خرق بحده، فقتل، فيأكله صاحبه، ومثله صيد الصقر والشاهين، متى صاد حبارى وغيرها، فقتلها، فوجدها صاحبه ميتة فيأكلها بدون تذكية لها، ومثله صيد الكلب. وقد أنزل الله فيه: ﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. وهذه نزلت في الكلب المعلَّم يرسله صاحبه إلى الصيد، فيصيد ظبيًا أو أرنبًا فيقتلها، ويأتي صاحبه إلى هذا الصيد فيجده ميتًا، فيأكله بدون التذكية المعتادة، أفلا نجعل ما ذبحه أهل الكتاب بمثابة ما ذبحته الصقور والكلاب، بحيث نأكله ولا نسأل عن التذكية، إذ الكل مباح من الله، وقد أجاز النبي ﷺ القتل بالحجر الحاد، كما أجاز أكل صيد المعراض إذا خزق بطرفه، وقال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»[134].

وكل من تأمل نصوص الشريعة وقصودها، يتبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ لا يحرّم على الناس إلا ما فيه ضرر عليهم أو على الحيوان، كما حرّم تعذيب الحيوان بالوقذ، أو بإحراقه، أو قطع شيء منه وهو حي، وقال: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ»[135]، وقال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[136].

فمتى كان الذبح بطريقة الكهرباء أسهل على الحيوان، فإن الشرع لا يحرمه متى أنهر الدم، ولكل وقت حالة تناسبه، فإذا تيسر الذبح بسكين حاد لم يعدل عنها إلى غيرها إلا في حالة كون السكين لا تغني في الشيء الكثير، وإذا تيسر في الذبح انهار الدم، فإنه يكون أسهل للحيوان، وأقل إيلامًا له.

ولأهل الكتاب عادات في صفة ذبحهم لا يلزم أن توافق عادات المسلمين في ذبحهم؛ لأن الله سبحانه أباح ذبائحهم بدون قيد ولا شرط، وقد علم ما هم يفعلون.

* * *

[132] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة. [133] أخرجه الشافعي في الأم عن عبيدة السلماني. [134] متفق عليه من حديث رافع بن خديج. [135] أخرجه ابن ماجه من حديث تميم الداري. [136] رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس.

فتوى صاحب المنار في ذبائح أهل الكتاب[137]

قال: إن المسألة ليست من المسائل التعبّدية، وإنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره؛ إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من عبادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه. ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا، وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين دخلوا في دينهم، لا سيما النصرانية، وأراد الله تعالى أن نجاملهم، ولا نعاملهم معاملة المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد، كما أباح لنا التزوّج منهم، مع علمه بما هم عليه من نزعات الشرك التي صرّح فيها بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨ [يونس: 18]. على أنه حرّم علينا التزوّج بالمشركات بالنص الصريح، ولم يحرّم علينا طعام المشركين بالنص الصريح، بل حرّم ما أهل به لغير الله، فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام قطعي في المشركين، وهو لم يمنع من التزوّج بالكتابية.

ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة صرّح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته، فإن ذبيحته تؤكل، مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة، فإن ذبيحته لا تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري، وما نقلناه في المنار عنه وعن غيره كاف في هذا الباب. وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه- سبحانه- من مجاملتهم ومحاسنتهم.

فهذه هي الحكمة في حل طعامهم، لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو يطبخون بكيفية مخصوصة، ولو كان يجوز لنا أن نقيّد نصوص الكتاب المطلقة بمثل هذا التقييد، لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر، فنقيّد بما كان عليه أهل العصر الأوّل في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم على ذلك. وهذا حرج عظيم، وتحكم لم يقل به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم المطلق يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وجه للبحث عن عدد الذين أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد، ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صُلي فيه عند التشريع، والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.

ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء، فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم تكن في حل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك. وقد سمّوا الذبيحة موقوذة، وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال قولاً مخالفًا للشرع؛ لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل، ولا يميزون بين الحق والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه. وهذه هي لذة الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ولذلك لم يورد الذين كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيد بالكتاب والسنة، وفقه الشريعة وأسرارها، والمأثور عن سلفها، لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم، واشتغالهم بالسفاسف، وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم، ساع في إقالتهم من عترتهم، وإنجائهم من هلكتهم، حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم، حيث خذ بما صفا، ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له والله الموفق. انتهى كلامه.

وأقول: إن بعض الناس قد أجلبوا وأرجفوا على الناس بتشنيع ذبح أهل الكتاب للحيوان والدجاج، وتحريم أكل ذبائحهم، فكانوا يصفون ذبحهم بأوصاف متنوعة، كلها لا تعتمد على شيء من اليقين والصحة، وإنما هي من قبيل: قالوا أو زعموا، وفي الحديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[138].

فيصفون الحيوان بالصعق، أي بضربهم له حتى يموت. ويصفون الدجاج بإلقائه في الماء المحرق حتى يموت، وقد يبالغ في التنفير من له غرض خاص فيه كبعض التجار، يحاولون تأسيس مصنع لذبح الدجاج وبيعه، فتراه يحذر الناس من أكل اللحم الحرام، ليصرف الناس إلى الإقبال على عمله. وكم داع للخير وهو يدعو إلى نفسه.

وإن هذه المؤسسات لذبح الحيوان والدجاج في البلدان الأوروبية قد تحصّلوا وتوصّلوا إلى آلات كهربائية، تريحهم وتريح الحيوان والدجاج معهم بحيث يحصدون بها ألف دجاجة في طرفة بصر. وزعموا أن أصغر مصنع عندهم ينتج في الساعة الواحدة ألفي دجاجة مذبوحة ومنظفة ومغلفة، ولو أرادوا الذبح بالأيدي لما استطاعوا في الساعة الواحدة تنظيم عشر دجاجات؛ لأنهم بزعمهم يعيشون الآن في زمان السرعة. ولقد سافر أحد الأشخاص من المملكة العربية السعودية لقصد مشاهدته لعملية ذبحهم للحيوان والدجاج، فمنعوه من الاتصال بعملهم، لزعمهم أن السفارات من سائر الدول الإسلامية هي التي تتولى الكشف والإشراف على العمل، ومعاينة الذبح، وليس لأحد غيرهم غرض ولا مصلحة في التدخل في معاينة الذبح وكيفيته، وكانوا يحملون من السفارات شهادات بصحة ذبحهم، ويكتبون على كل مغلف دجاجة: (ذبح على الطريقة الإسلامية).

وعلى كل حال فإنه متى أباح الله لنا ذبائح أهل الكتاب بدون قيد ولا شرط، فإنه يباح لنا أن نأكلها بأي طريقة ذبحوها، فلا ينبغي أن نتكلف الكشف والتفتيش عن كيفيته، حتى لو فرض أن تذكيته وقعت على الأمر المكروه، أو الحرام، فإننا غير آثمين بأكله، لدخوله في الخطأ الداخل تحت العفو ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا [البقرة: 286]. قال الله تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ»[139].

وذكر ابن جرير عن أبي الدرداء وابن زيد: أنهما سُئلا عما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم، فأفتيا بأكله. قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن شيئًا. وسئل أبو الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها: (جرجس) فأهدوا لنا منه، أفنأكله؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا، إنما هم أهل كتاب، وطعامهم حل لنا، فأمر بأكله. وروى ابن جرير وغيره عن ابن عباس مثله. ولما أهدت المرأة اليهودية النبي ﷺ تلك الشاة التي دست فيها السم فأكلها النبي وأصحابه ولم يسأل عن كيفية ذبحها.

وحدثني أحد الأمراء الفضلاء، قال: شهدت جزر البقر في سويسرا ومعي جماعة من أصحابي، قال: فكانوا يأتون بالثيران، فوصفها بالعظمة في جسامتها، فيوقفون الثور الذي قدم للذبح، فيأتي الرجل بمقرعة من حديد فيضربه على قمة رأسه فيسقط مغشيًّا عليه فيعاجله الرجل بذبحه مع نحره كذبحنا له على حد سواء.. وهذه الضربة لا يقصدون بها قتله، وإنما يقصدون بها سكونه عن قوة الحركة والنفار مع بقاء حياته.

وصار المرجفون يصفون هذا الفعل بالصعق وبالوقذ، كما يصفون الدجاج بأنهم يلقونه في الماء المحرق وهو حيّ، وكل هذه الأقوال لا تتركز على دليل ولا على صحة من اليقين، كيف وصاحب المقالة الذي بالغ في التنفير عن الدجاج، فوصف عملهم في معملهم، وأنهم قد وضعوا لهم بركة تتلقى سوائل الدجاج، مما يدل على أن هناك دمًا يسيل من الدجاج بعد ذبحه. وكما أن التاريخ القديم يثبت عملية الأطباء القدامى متى أرادوا أن يعملوا عملية جراحية قاسية، أو قص عظم، أو بتر عضو، وأحبوا أن يغيب شعور الجريح عن التألم، أخذوا يضربونه بمقارع الحديد على رأسه حتى يغيب شعوره عنهم، ثم يعملون عملهم في التجريح والتقطيع، وهي نفس ما يفعلونه في ضربهم رأس الثور حتى يسقط مغشيًّا عليه كالميت.

وعن عدي بن حاتم أن النبي ﷺ قال: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْته قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ بِهِ غَيْرَ أَثَرَ سَهْمِك فَكُلْ إنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ». متفق عليه.

وروى البخاري عن عدي قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد المعراض، فقال: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإن أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلاَ تَأْكُلْ».

ففي هذه الأحاديث دليل على سماحة رسول الله ﷺ في التوسع في إباحة ما قتله الكلب، وما قتله الصقر من كل ما لا يقدر على تذكيته، لقوله سبحانه: ﴿يَسۡ‍َٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. أفلا نجعل ما قتله الإنسان بحدِّ المعراض وما قتلته الصقور والكلاب بمثابة ما قتله أهل الكتاب، فنأكله ولا نسأل عنه لاعتبار الكل حلالاً من الله؛ لأنه لا يكون تحريم لشيء إلا بخبر صريح يدل عليه، من كتاب الله، وسنة رسوله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. فليس بعد تفصيل الله تأويل. وقد روى البزار والحاكم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعًا، قال: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا»، ثم تلا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤ [مريم: 64]. وقد اشتهر هذا الحديث عن سلمان أيضًا.. ويدل له ما روى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[140]، فكل ما سكت القرآن والسنة عن بيان تحريمه فهو حلال من الله لعباده.

* * *

[137] فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا- المجلد الأول- ص 353. [138] رواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن مسعود، ورواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة. [139] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [140] أخرجه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني.

اللحوم والدجاج المستورد من البلدان الشيوعية

لقد قلنا: إنه متى جلب لنا شيء من اللحوم والدجاج من إحدى البلدان المجهولة، فإنه يجوز لنا أن نسمي الله، ثم نأكلها ولا نسأل عنها، اعتمادًا على أصل الإباحة، ولدخولها في عموم حديث: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا» رواه البخاري.

وجاء عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص إلى حوض فيه ماء وعنده صاحبه، فقال عمرو: يا صاحب الحوض، هل ترد على مائك الكلاب والسباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، نحن نرد على الكلاب والسباع وترد علينا.[141] فأبقى عمر الماء على حالة الطهور كحالته السابقة.

وإن الشيوعيين من أهل الصين غالبهم كفار بوذيون، وقد اختلط بهم كثير من شتى الأمم، ففيهم يهود ونصارى، ومجوس وصابئون ومشركون، وفيهم من المسلمين عدد كثير حتى قيل: إن المسلمين فيهم يبلغون خمسين مليونًا، وقيل: خمسة وستين مليونًا[142]، والله أعلم.

وقد فتح المسلمون بلدان فارس والروم، وهي مختلطة من شتى الأمم، فكانوا يأكلون لحومهم ولا يسألون عن كيفية ذبحها، ولا عمن ذبحها، ولم ينصبوا مراقبين على القصّابين. فهؤلاء الشيوعيون لا يطلق عليهم لقب المشركين، لكون القرآن عندما يذكر أهل الأديان يذكر المشركين صنفًا غير صنف سائر الكفار، كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ [الحج: 17].

فعطف الذين أشركوا على سائر الأمم والعطف يقتضي المغايرة.

ثم إن لقب الشيوعية هي اسم لنحلة الاشتراكية العلمية، أي التي لا دين لها، افترضها عليهم زعماؤهم قهرًا وقسرًا، وأكثرهم لها كارهون. فهي تشمل جميع من بالصين من مسلم وكافر. فلا يتعلق بها شيء من تحريم الذبائح أو حلها، وإنما يتعلق الكلام في التحريم بما انتحلوه من الكفر بالله.

* * *

[141] أخرجه مالك من حديث عمر بن الخطاب. [142] نشرت مجلة المجتمع في عددها 425 بتاريخ 25 محرم 1399هـ. أن عدد المسلمين بالصين 65 مليون مسلم يحافظون على إسلامهم وشخصيتهم.

حكم ذبائح الكفار والمشركين

إن هذه المسألة مبنية على تحريم ما ذبحه الكافر والمشرك لأكله، أو الإكرام به، وهل يحل للمسلم أكله أو لا؟

فعند العلماء وأئمة المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز أكل ما ذكاه الكافر أو المشرك، حتى ولو سمّى الله على تذكيته، لاعتبار أن تسميته حابطة تبعًا لإحباط عمله، فيكون كمن لم يسمّ الله عليه. فعدم إباحة ما ذكاه المشرك هو أمر قد راج بين الصحابة.

ومعلوم أن قول الصحابي من شرط قبوله كونه لا يخالف نصًّا صحيحًا، والله سبحانه قد أوجب الرد عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله، لا إلى قول أحد غيرهما، وحصر المحرّمات في القرآن، وخاصة في آية المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، وفيها تحريم الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أُهل به لغير الله، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحريم ما ذبح على النصب، ولم يذكر تحريم ما ذبحه الكافر والمشرك، وما كان ربك نسيًّا.

وعلى كل حال فإنني مع الصحابة، ومن أتباع الصحابة في تحريم ما حرّموه من ذبيحة المشرك الوثني. كما اشتهر ذلك عنهم. فمتى علمت ذلك تبين لك أن لفظ الشرك والمشركين لا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا محمد ﷺ ولا بالقرآن النازل عليه، ولم يدخلوا في دينه؛ لأن الشرك المطلق في القرآن ينصرف إلى المشركين الوثنيين؛ كمشركي العرب من أهل الحجاز ونجد وأمثالهم.

وحيث لم يثبت تحريم ذبائح الكفار لا في الكتاب ولا في السنة؛ فإننا نقتصر على تحريم ذبائح المشركين الوثنيين تمشيًا مع الصحابة، ولا نعديه إلى غيرهم من تحريم ذبائح سائر الكافرين؛ لعدم ما يدل على ذلك.

وما يقال في بلدان الصين من وقوع الاختلاط فيه بين سائر الأمم والأديان، فكذا يقال مثله في بلدان الروس والألمان واليابان وأمثالهم، فلم نجد لتحريم ذبائحهم نصًّا يجب المصير إليه، لا في القرآن ولا في السنة.

وإنني بمقتضى التتبع للدلائل من الكتاب والسنة لم أجد لتحريم ما ذبحه الكافر أصلاً يعتمد عليه، وإن المحرّمات في القرآن هي ما نص الله عليها بقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بِ‍َٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ ١١٨ وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ.. إلى قوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام:118-121].

وهذه المحرّمات التي أشار إليها بقوله: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. يعني بذلك قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3]. وهي من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها، ولم يذكر فيها تحريم ما ذبحه الكافر.

فقوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ يعود إلى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فكلها متى أدركها صاحبها وبها حياة مستقرة وذبحها فإنها حلال، فإن فاتت عليه، وماتت قبل أن يدركها، فهي حرام، كتحريم الميتة حتف أنفها، فلا تبيحها التذكية. وهذه الآية توافق آية سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام:145]. وهي نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى دليل. فالدم الحرام هو الدم المسفوح، بخلاف ما يوجد في خلال اللحم، فإنه حلال. ومثلها آية النحل، وهي قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ [النحل: 114-115].

فهذه محرّمات القرآن.

وقد حرّمت السنة كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرّمت أكل لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس. وفي أكلها الخلاف المشهور بين الصحابة ومن بعدهم.

وقد اتفق الفقهاء على مشروعية ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة، ولكن اختلفوا: هل هي واجبة، وشرط لحل الذبيحة، أو هي مستحبة، أي ليست بشرط لحل الذبيحة؟ فقول الجمهور ومنهم الإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد: أن التسمية شرط في حل أكلها؛ واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121].

فإن تركت التسمية عمدًا لم تحل، وكانت كالميتة، وإن تركت سهوًا فإنها مباحة الأكل.

وذهب الإمام الشافعي وأصحابه إلى أن التسمية مستحبة، وليست بواجبة، وإن تركها عامدًا أو ساهيًا أكلت. وليس في أكلها حرج. وهي رواية عن الإمام أحمد ومالك. واحتجوا بقوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145].

فهذه هي المحرمات، ولم يدخل فيها متروك التسمية. وقالوا: إن الله أحل لنا طعام أهل الكتاب، والمعروف عنهم أنهم لا يسمّون على ذبحهم. وقالوا: إن معنى ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ، أي لا تأكلوا مما ذُبح لغير الله، فهذه توجيهات الإمام الشافعي، ومن قال بقوله. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121]. يعني الميتة.

فمتى تأملنا نصوص القرآن والسنة؛ نجدها متوافقة على تحريم ما أُهل به لغير الله، وعلى ما لم يذكر اسم الله عليه. وفي التسمية الخلاف المشهور كما ذكرنا، وكذا تحريم الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير.

أما تحريم ذبح الكافر متى ذبح للبيع، أو ذبح لإرادة الأكل، فإننا لم نجد لتحريمها أصلاً في القرآن والسنة، سوى ما شاع على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم من قولهم بتحريم ذبيحة المشرك الوثني، واستنبط بعض العلماء تحريمها من قوله: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. قالوا: فتخصيص إباحة ذبائح أهل الكتاب مما يدل على تحريم ذبائح غيرهم من سائر الكفار. وليس هذا بدليل يجب الأخذ به، فلا معنى للاحتجاج بمفهومه.

فلو كان كذلك لقلنا في قوله: ﴿وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡ [المائدة: 5]. أي أن ذبائحنا وطعامنا حل لأهل الكتاب، وحرام على غيرهم، ولم يقل بذلك أحد فيما نعلمه.

وإننا متى بحثنا في القرآن فإننا نجد فيه صريح الجواب وفصل الخطاب في إباحة ذبائح سائر الكفار من كل ما ذبحوه للأكل أو البيع. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. وقال: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21].

وقال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗا [الأنعام: 142]. فالحمولة ما يحمل عليه ويتبلغ به من بلد إلى بلد، والفرش هو ما يفرش ويؤكل.

وهذا الخطاب المتضمن لإباحة أكل لحوم الأنعام وشرب لبنها هو عام لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ولم يقل أحد من العلماء والفقهاء والمفسرين: إن هذه إباحة مختصة بالمسلمين دون الكافرين؛ لأن هذه من أمور الدنيا المشتركة بين المسلمين والكفار والمتقين والفجّار، كما قال سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ [الإسراء: 70]. فلم يبح سبحانه لجميع بني آدم التنعم بالطيبات في الدنيا من أكل اللحم وشرب اللبن وأكل سائر الفواكه والخيرات إلا وهو ملتزم الإباحة لما يترتب عليه من الذبح للحيوان، لا فرق في ذلك بين المسلمين والكفار.

ولا ينبغي أن ننخدع بنقل فقهاء المذاهب بقولهم بتحريم ما ذبحه الكفار مع قولهم بإباحة أكل لحم الحيوان في حق كل مسلم وكافر. وإنما استفاض القول بهذا بسبب تقليد الفقهاء وأئمة المذاهب من بعضهم لبعض وهم ينهون عن تقليدهم؛ لأنه قد خفي عليهم ما عسى أن يظهر لغيرهم.

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله مخالفة الفقهاء السنن الصحيحة الصريحة فيما يزيد على ثمانين مسألة، كما خالف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أئمة المذاهب الأربعة في سبع عشرة مسألة مشهورة ولم ينكر عليه في ذلك أحد.

والكلام هنا هو في ذبح الكافر للحيوان لإرادة الأكل أو البيع وأنه جائز وحلال بلا شك..

* * *

فصْـل

ويظهر أن القول بتحريم ذبائح المشركين اشتهر بين الصحابة؛ لمبالغتهم في تحريم الشرك، والتنفير عن الذبح لغير الله، فكانوا لا يقربون الأكل من ذبائح المشركين؛ لكونها مظنة لذلك. ويحتمل أنهم قالوا ذلك في سبيل دعوتهم إلى دين الإسلام، حيث إنهم اشتد بغضهم للشرك والمشركين، وهم بنو العم والعشيرة، فأرادوا هجرهم بعدم إجابة دعوتهم، وتحريم ذبائحهم، فيحدث لهم بذلك شيء من الانكسار والذل، مما يرجى أن يحدو بهم إلى الالتجاء باعتناق الإسلام واعتقاده، ولأن من سياسة دين الإسلام التشديد في معاملة مشركي العرب، حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام. وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم إلى دين الإسلام، وبيان سماحته معهم. وإلا فإن الله سبحانه قال: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121]. سواء فسرناه بمتروك التسمية، أو الميتة، أو بما ذبح لغير الله من الأصنام والقبور، ثم قال: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ [الأنعام: 119].

وإن سبب إباحة الذبيحة بالتذكية؛ هو البعد عن مشابهة المشركين في أكلهم الميتة من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، حيث كانوا يستبيحون أكل هذه الأنواع بعد موتها، ويقولون: كيف نأكل ما قتلنا ولا نأكل ما قتل الله؟

وإن سبب وجوب التسمية على الذبح والصيد هو إبعاد المسلمين عن مشابهة المشركين، أو مشاركتهم في الذبح لغير الله، وإهلالهم بالذبح لأصنامهم والمقبورين منهم. وكانوا يرفعون أصواتهم بالإهلال بها لأصنامهم، فأحب القرآن أن يطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك الذي هو شائع ومنتشر بينهم. وقد اعتادوا النطق عند الذبح بذكر أصنامهم، كاللات والعزى ومناة وهبل، وأصنام متعددة ومتنوعة، فهم غارقون في محبتها، وتقديم القرابين لها. ولما قدم وفد خولان على النبي ﷺ فقال لهم: «ما فعل عم أنس؟». وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه عم أنس. فقالوا: أبدلنا الله به ما جئت به. وقد بقيت منا بقايا من شيوخ كبار وعجائز متمسكين به، وإننا منه في شر وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» فقالوا: لقد رأيتنا أسنتنا - أي أجدبنا - سنة حتى كنا نأكل الرّمّة، فجمعنا ما قدرنا عليه من المال حتى اشترينا مائة ثور، فنحرناها كلها قربانًا لعم أنس، وتركنا السباع ترتادها، وتتردد عليها، ونحن والله أحوج إليها من السباع[143]. فجاءنا الغيثُ من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يواري الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس.... فرجعوا إلى قومهم، فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عم أنس.

ولهذا أكثر الله سبحانه من تحريم ما أُهل به لغير الله، وقد بقي في الناس بقايا من أثر الجاهلية الأولى، وعادات الشرك والمشركين، وذلك في ذبحهم حين يستجدون سكنى بيت، فيذبحون على عتبته ذبيحة أو ذبائح للجن لا يسمّون الله عليها، فهي مما أُهل به لغير الله، حرام أكلها. ومثله: ما ذبح للزار في سبيل رضائه؟ فهي مما أُهل به لغير الله. ومن الشرك بالله: الذبح لغير الله. وقد لعن رسول الله ﷺ من ذبح لغير الله.

وحاصل الأمر: أن بلدان الشيوعية، كسائر بلدان الكفار الذين لا يدينون بدين الإسلام. وحيث لم نجد لذبحهم وذبائحهم التي تذبح للأكل أو البيع نصًّا صريحًا يحرمها، كما حرّم سبحانه نكاح المشركين والمشركات في قوله: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]. وفي قوله: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ [البقرة: 221]. وتحريم نكاح المشركات لا يستلزم تحريم ذبائحهم، ولكل شيء حكمه.

وقد فتح الصحابة بلدان الروم وفارس، وهي تغص من شتى الأمم الكافرة، فكانوا يأكلون ذبائحهم، وجبنهم، ويدهنون بدهنهم، ولم يثبت عنهم نصب مراقبين على الجزّارين ليميزوا بين ذبيحة أهل الكتاب وذبيحة غيرهم، لكون الأصل في الذبائح المجهولة الإباحة.

ثم إنني بعد كتابتي لما ذكر رأيت في تفسير المنار التصريح بهذه المسألة قائلا[144]:

أخذ الجمهور من مفهوم قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. أن طعام الوثنيين- أي ذبائحهم- لا يحل للمسلمين، أخذًا منهم بمفهوم اللقب، كما يحتج بعض الشافعية به، والجمهور لا يحتجون به. والقرآن لم يحرّم طعام الوثنيين، ولا طعام مشركي العرب مطلقًا، كما حرّم نكاح نسائهم، بل حرّم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم.

وإن الصابئين والمجوس لا يطلق عليهم لقب المشركين؛ لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين والذين أشركوا صنفًا، واليهود والنصارى والصابئين والمجوس أصنافًا أخرى، يعطف أحدها على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة.

إذا علمت هذا: تبين لك أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين يتناول جميع الذين كفروا بنبينا وبالقرآن النازل عليه، ولم يدخلوا في دينه؛ وأن للاجتهاد مجالاً في جعل لفظ المشركين في القرآن خاصًّا بوثنيي العرب، فلا يكون استحلال ذبائحهم كفرًا، ولا خروجًا عن دين الإسلام. قال: ولسنا نقول بهذا بنظريات اجتهادية من عند أنفسنا، وإنما نقوله بما غفلوا عنه من كتاب الله، لظنهم أن أئمتهم من الفقهاء قد أحاطوا بكل شيء علمًا، وخفي عليهم أن كثيرًا من العلماء من أمثالهم قد خالفوهم في كثير من المسائل، ومن فوقهم من الصحابة والتابعين، والأصل هو الإباحة في الأشياء، حتى يرد الأمر بالنهي عنها، فيجب رد الأمر إلى الكتاب العزيز، وإلى السنة المطهرة. انتهى كلامه.

فقوله: إن بعض العلماء قد خالفوا أئمة المذاهب في كثير من المسائل، يشير بهذا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنه قد خالف الأئمة الأربعة في سبع عشرة مسألة معروفة مشتهرة، ولو طالت به الحياة لاستظهر في خلافهم ما هو أكثر منها. ومثله العلامة ابن القيم رحمه الله فقد ذكر في كتابه إعلام الموقعين أن الفقهاء قد ردوا كثيرًا من السنن الصحيحة الصريحة لمخالفتها لمذهبهم، وما عليه فقهاؤهم، وقد قيل: كم ترك أول لآخر، وسبحان من لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.

ثم إن هذه المسألة تعطي العالم العاقل شيئًا من التأني والتريث عن المبالغة بالجزم في تحريم ما لم يحط بعلمه، وتنهى عن الغلو والإفراط في التحريم بدون دليل.

وأكثر الذين يبالغون في التشنيع والتشديد في التحريم لمثل هذا الدجاج، هم يرونه من باب الورع عن أكل اللحم الحرام، وفي الغالب لن يستطيعوا التنزّه عن أكله، وإن تعففوا عنه في خاصة أنفسهم، فلن يستطيعوا التنزّه عنه في عامة أهلهم وعيالهم، ومن يأكل هذا اللحم وهو يعتقد إباحة حله، خير ممن يأكله وهو يعتقد تحريمه.

وقد وقعت مناظرة بيني وبين أحد العلماء المشهورين بالفقه في لحم هذا الدجاج، وكان هذا العالم يميل إلى كراهته، ويرجح القول بتحريمه، بناء على ما بلغه في صفة تذكيته، وبعد أن أوردت عليه ما عسى أن يحضرني من الدلائل المقتضية لإباحته، رأيته كأنه اقتنع بها، فقال قبل أن يقوم من المجلس: إني أقول بالتحريم، وإن الثلاجة في بيتي مملوءة من الدجاج المستورد من الخارج. وهكذا أكثر أحوال المتشددين.

إن الحاجات هي أُم الاختراعات، وإن غرق الناس في هذه اللحوم قد أكثر من سؤالهم عنها: أهي حلال أم من الحرام؟ لهذا وجب علينا بيان حكمها بما ظهر لنا من دلائل السنة والكتاب لإزالة ما غشيها من الشك والارتياب. والله الموفق للصواب.

* * *

[143] ذكره العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) في فصل وفود العرب. [144] تفسير المنار- المجلد السادس- ص 185.

الأدهان والجبن المستورد مِن بُلدان أهل الكتاب وغيرهم

إنه قد شاع بين الناس القول بتحريم الأدهان النباتية وغيرها، بحجة أنه يوجد فيها شيء من دهن الخنزير، كما أشاعوا أيضًا عن الجبن المجلوب من بلدانهم، وأن فيه شيئًا من جبن الخنزير، فهذه الأدهان وهذا الجبن محكوم بطهارتها وإباحة أكلها كسائر الأدهان الطبيعية، ومتى علم فيهما شيء من دهن الخنزير أو جبنه عن طريق اليقين فإنه يجب اجتنابها، ولا ينبغي أن يعتمد في التحليل والتحريم قول العامة، إذ إن أكثر أقوالهم لا يعتمد على شيء من اليقين، لكن تعرف نجاستها بالكتابة المرقومة عليها، فمتى كتب عليها أن بها جزءًا من دهن الخنزير أو جبنه، وجب اجتنابها.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في صفحة 153 من المجلد الثاني من الفتاوى القديمة.. قال ما نصه:

إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة، وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو الأئمة، فإن هذا من فعل أهل الجهل والأهواء.

قال: وإذا تنازع اثنان في لحوم أهل الكتاب، أحدهما يقول بالإباحة والآخر يقول بالتحريم، فإن القول هو قول من يدعي الإباحة، إذ هي الأصل.

ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم، فمن أنكر ذلك قد خالف إجماع المسلمين.

قال: وهذه الوجوه تثبت بيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، وأن مثل هذه المسألة ونحوها من مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فإنه خلاف إجماع المسلمين.

فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، فليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر قول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سمّوا عليها غير الله. وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا، ونحو ذلك من المسائل الاجتهادية. وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين. فمن صار إلى قول منهم مقلّدًا لقائله، لم يكن له أن ينكر على من خالفه، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول بغير حجة، بل إن من كان مقلدًا لمذهبه لزمه حل ربقة التقليد عن عنقه، فلا يرجح ولا يزيف ولا يصوّب.

ومن كان عنده شيء من العلم والبيان فليقل به، ويجب أن يستمع ما يتبين أنه الحق، ويرد ما تبين أنه الباطل.. والله سبحانه قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، فمن لم يعرف إلا قول عالم واحد، وحجته دون قول العلماء وحجتهم، فإنه من العوام المقلّدين، لا من العلماء المجتهدين الذين يرجحون.. والله الموفق.. انتهى.

وعلى كل حال، فإن هذه المسألة ليست من أصول دين الإسلام، ولا من عقائده وقواعده، وإنما هي مسألة فرعية يقع الخلاف دائمًا بين العلماء فيما هو أكبر منها، لا سيما على قول من يقول: إن الذبح من العادات..

والله يعلم أنني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرّص في الأحكام، ولا الاستهانة بأمور الحلال والحرام، وإنما بنيت ما قلت على صريح الدلائل من الكتاب والسنة، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله. وقد يظهر لقارئه ما عسى أن يخفى على قائله: ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ [يوسف: 76].

فأيما عالم تبين له من الحق خلاف ما قلت بمقتضى الدلائل الواضحة من الكتاب والسنة، فإن من واجبه أن يبينه للناس ولا يكتمه، فإن الحق فوق قول كل أحد، والحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع، وسبحان من لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير.

وفي الختام، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرّمه الله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ولا تغلوا في دينكم ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ [النحل: 116].

والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

الرَّد على المعترضين

الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمد رسول الله.

أما بعد:

فقد وصل إليّ رسالة من باريس، يسأل صاحبها عن مسائل مما يتعلق برسالتنا فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب.

قائلا: إنني تلقيت رسالتك فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، فرأيت فيها في صفحة 25 قولك: (وقد فتح الصحابة بلدان الروم وفارس وهي تغص بشتى الأمم الكافرة، فكانوا يأكلون ذبائحهم) فسألتك عن مصدر هذه المعلومات.

فأجبته قائلا: اعلم أخي أن من جهل شيئًا بادر بإنكاره وتكذيبه، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، وأن الأمانة في النقل توجب على الناقل أن ينص الحديث إلى أهله كما قيل:
ونُص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
وأنا أحيلك في ذلك إلى نقل الثقة الثبت العالم بالمعقول والمنقول وبالتاريخ والسير، أعني شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله فقد قال في المجلد الثاني من الفتاوى الكبرى في مسألة ذبائح أهل الكتاب ص 153، قال: إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو أئمة المذاهب، فإن هذا من فعل أهل الأهواء والجهل. ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم. فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين. انتهى.

إنك لو أعطيت الرسالة حقها من التأمل والتدبر، لوجدت فيها صريح ما ذكرنا. وقد كانت بلدان النصارى في قديم الزمان وحديثه مختلطة بشتى الأمم الكافرة.

وأما قولك: وهل يوجد في ذلك الزمان دكاكين تباع فيها اللحوم؟ فالجواب: أن هذا سؤال واقع في غير موقعه الصحيح، إذ من المعلوم أن أحوال الناس متجانسة، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإن الدكاكين موجودة زمن الصحابة وقبلهم، ولا يزال لها ذكر في الكتب والعلوم الشرعية، وتسمى الحوانيت، ولم يزل من قديم الزمان البيع فيها، كما قالوا: إن عمر بن الخطاب حرق الحوانيت التي يباع فيها الخمر.

وليس من شأن علم الفقه والأصول أن يذكر ما تشتمل عليه الحوانيت من صغير وكبير، وجليل وحقير، حتى يذكر بيعها اللحم. إذ لا يتعلق بذكره حكم، فإن اللحم الحلال بيعه حلال. وكان ابن عباس يعطي خادمه دراهم يوم عيد الأضحى يشتري بها له لحمًا ويقول له: إن سألك أحد عن هذا اللحم قل: هذه أُضحية ابن عباس. ذكرها ابن قدامة صاحب المغني في كتاب الأضاحي.

ثم قلت: وهل القاضي ابن العربي رسول الله حتى يقبل كل ما أدى إليه اجتهاده، إذ المجتهد يخطئ ويصيب.

وأقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن العربي وغيرهما من سائر الأئمة ليسوا بأرباب ولا أنبياء، ولكنهم مجتهدون، يؤخذ من قولهم ويترك، ومع هذا فإنهم أعرف مني ومنك بالمعقول والمنقول، وأقرب إلى فهم النصوص والأصول، لكن العلماء المؤلفين عندما يخوضون في بحور العلوم الواسعة، ويتعرضون فيها للمشاكل الغامضة التي من شأنها أن يخفى التحقيق فيها على بعض العلماء المشاهير فضلا عن العامة، فهم يسوقون أقوالهم مساق الاستئناس والتقوية حذرًا من دعوى الشذوذ بها، فهم يحتجون بها على سبيل الاعتضاد لا الاعتماد، عملا بقوله سبحانه: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44]. ولقول النبي ﷺ في صاحب الشجة: «هَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»[145] وكان بعض الصحابة قد تصدوا للإفتاء والنبي ﷺ حي.

وأنا أزيدك بحثًا مما عسى أن يزيدك علمًا، وذلك أن النبي ﷺ والذين أسلموا معه بمكة، وهم كبراء المهاجرين وعلماؤهم، مكثوا بمكة عشر سنين وهم يأكلون من اللحوم مما يأكله ويذكيه أهل مكة على كفرهم، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه نهى الصحابة عن أكل لحومهم، بل ثبت عنه في حديث الهجرة أنه لما أتى أُم معبد في خيمتها، وهي على دين قومها: الشرك، فكان أول ما بدأها به أن قال: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ لَحْمٍ أَوْ لَبَنٍ؟». فقالت: والله لو كان عندنا شيء من ذلك لم نحوجكم إلى القرى[146]. وكان القوم مسنتين (مجدبين) ذكره ابن هشام، وابن كثير. إنه لم يسألها عن اللحم إلا ليأكله، مع علمه ببقاء جاهليتها.

ولقد رأيت في فتاوى بعض علماء هذا العصر، لما طرق موضوع الكلام على تحريم ذبائح الشيوعيين، علل ذلك بأن الله سبحانه أباح ذبائح الأنعام للمؤمنين وأهل الكتاب يتنعمون بها في حياتهم، بخلاف الكافر الذي ينكر وجود الرب، ويجحد رسالاته، فإن الله سبحانه لم يعطه الحق في أن يذبح ويأكل من هذه الحيوانات والدجاج المخلوقة، إذ ليس له الحق في أن يزهق روح حيوان، وليس عنده إذْنٌ من الله في إباحة أكله فلا يحل ذبحه وذبيحته. ومن هنا نعلم أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا هذا الدجاج واللحوم التي تجلب من عند الشيوعيين، فقد ذبحها قوم ينكرون وجود الله عز وجل. انتهى.

وأقول: إن هذا العالم- عفا الله عنه- قد حصر جواز الذبح للحيوان والطيور والانتفاع بأكله لخواص المسلمين وأهل الكتاب، بخلاف الكفار. فإنهم بزعمه لا يجوز لهم أن يذبحوا، ولا أن يأكلوا، ولو لخاصة أنفسهم أو بني جنسهم، وهذا خطأ فهم يغفر الله له. ومن كان هذا غاية اعتقاده، وكونه علة التحريم لما ذبحه الكافر، فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر، فإن الحيوانات والطيور وذبحها والتمتع بأكلها هي من أُمور الدنيا التي يشترك فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر؛ فإن الله سبحانه خلق البهائم كرامة ونعمة لجميع الناس، مسلمهم وكافرهم، كسائر الثمرات والخيرات، يقول الله تعالى: ﴿كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠ [الإسراء: 20]. وقال: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [الأعراف: 32]. للمؤمنين فلا يشاركهم فيها غيرهم. ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21]. والخطاب لجميع الناس، فصرح القرآن بإباحة أكل هذا الحيوان لجميع الناس على حد سواء. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. والخطاب لجميع الناس مسلمهم وكافرهم.

والله سبحانه لم يبح أكل لحوم الأنعام لجميع الناس مسلمهم وكافرهم إلا وهو مستلزم لإباحة ذبحه لكل مسلم وكافر، لكونه من التمتع بأمور الدنيا كالألبان والثمرات وسائر أنواع الخيرات. وكذا السمك، صيده وأكله، إذ صيده بمثابة تذكيته المباحة في حق كل مسلم وكافر، فلا معنى لاختصاص المؤمنين بها دون غيرهم، ولا عبرة بغفلة العلماء والأئمة عن مثل هذه المسألة، إذ كلهم مجمعون على أن من استبان له الحق، فإنه يجب عليه اتباعه، وإن خالف جميع الناس، إذ لا يترك حق لانفراد قائله، كما أنه لا يقبل باطل لكثرة ناقله. وكما قال سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ [الإسراء: 70].

واللحم وإباحته هو من أطيب الطيبات، كاللبن والثمرات، وسائر الخيرات المخلوقة بطريق الاشتراك بالتنعم بها بين المسلمين والكفار. وفي دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فقال الله: ﴿وَمَن كَفَرَ [البقرة: 126]. أي فإنني أرزقه من الثمرات وأنواع الطيبات، فلا نجد دليلاً قاطعًا من الكتاب والسنة يحرّم ذبح الكافر للحيوان والدجاج، ولا يحرم أكل ما ذبحه الكفار، سوى أقوال لا تقوم عليها الحجة، كقول هذا المفتي ونحوه من أقوال الفقهاء المتقدمين التي يتناقلونها بينهم بدون دليل.

والحق فوق قول كل أحد، ولا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، خصوصًا عند من يرى أن الذبح من العادات لا من العبادات، إلا إذا قصد به العبادة، كذبح الأضحية، والنسك، والعقيقة، والمنذورة لله. وإن قصد به الشرك، كالذبح للقبر أو الولي، أو الجن، أو الزار، فإنه حرام ذبحه وأكله، لكونه مما أُهل به لغير الله. وقد نهى الله عباده عن أن يقولوا في الشيء: هذا حرام بدون يقين من التحريم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116]. وقال: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119].

وهذه المحرمات التي فصّلها القرآن هي المذكورة في قوله سبحانه: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ [النحل: 114-115].

فبدأها بقوله: ﴿إِنَّمَا وهي أداة حصر، كأنه لا حرام غيرها، كما حصر بقوله: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145].

ثم عاد إلى بيان تحريم ذلك في سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها. قال: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3].

فهذا التحريم في هذه الآية هو نفس التحريم في الآيات قبلها، إلا أن فيها تقسيم أنواع الميتة، وأن منها ما يموت حتف أنفه، ومنها ما يموت بسبب الخنق بالحبل وغيره. ومنها ما يموت بمثقل، ويسمى بالوقيذ وهو المقتول بالمعراض والدبوس وغير ذلك، فإن قتل بحده فخرق حل أكله. ومنها المتردية من جبل أو سطح عال، ومنها ما أكلته السباع، فكل هذه متى ماتت فقد فاتت على صاحبها وحرّم أكلها، فإن أدركها صاحبها وبها حياة مستقرة، كأن تومئ بطرفها أو ذنبها، فذكاها، حلّ أكلها.

وإنما حرمت هذه الأنواع من أجل أن فيها تعذيب الحيوان عند إرادة ذبحه للأكل، وفي الحديث «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس.

لقد كان النبي الكريم، والرسول الرؤوف الرحيم، يراعي الإحسان إلى الحيوان برحمته في راحته عند ذبحه، بسرعة إزهاق روحه، حتى يموت فيستريح، فقال: «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، وإن القصد هو إخراج روحه حتى لا يحس بالسلخ والطبخ. وإن الناس في هذا الزمان، وخاصة في بلدان النصارى، قد أحدثوا للذبح عملية مريحة، يرون أنها أرفق وأسهل للحيوان عند ذبحه، وخاصة الدجاج، فهم يصفّون ألفًا، أو عشرة آلاف دجاجة على سلك كهربائي، فيسلطون عليه تيار الكهرباء، فتموت كلها في لمحة البصر. وهذه عملية غاية في الراحة عند الذبح، وهو عمل مقصود للتذكية عندهم. لكن المسلمين ينكرون هذا الذبح بهذه الصفة، حيث لا يرون عليه أثر الدم، فهم يلحقونه بالميتة. ولأن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» متفق عليه[147].

فالقتل بالظفر وبالسن هو تعذيب للحيوان، مضاد لراحته ورحمته عند ذبحه، ويظهر من الحديث أن ذكر الدم جرى مجرى العادة عند الناس وكونها لا يمكن أن تؤكل ويحل لحمها إلا بالتذكية المعتادة، التي من لوازمها خروج الدم وقطع الحلقوم والمريء بآلة حادة. وقد أجاز النبيﷺ ذبح المرأة لشاة بحجر ولم يسأل عن كيفية ذبحها. على أن خروج الدم ليس هو المبيح لأكلها، فلو طعنها بفخذها أو في بطنها، فظهر دمها، فماتت، لم يحل أكلها إذا كانت مقدورًا عليها؛ لأن هذه الصفة تعذيب للحيوان بغير حق. ويستثنى غير المقدور عليها كالبعير الناد، والتيس الشارد، والمتردية في البئر، فإنه إذا طعنها في أي موضع من جسدها أُبيح أكلها.

وقد ثبت بالكتاب وبالسنة جواز أكل نوع من الحيوان بدون تذكية، وبدون خروج الدم، وهو ما صاده الصقر، أو صاده الكلب المعلم، وذكر اسم الله عليه، فإنه يباح أكله، وإن لم يجرح، لقوله سبحانه: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتَّهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَهُ»[148]. وقد بسطت الكلام وذكرت أقوال العلماء في متروك التسمية في رسالة فصل الخطاب. فليراجع، حيث فسرها بعض العلماء بالميتة، وفسرها بعضهم بالمذبوح للأصنام والقبور.

وقلت أيضًا في الرسالة: أفلا نجعل ما ذبحه أهل الكتاب بمثابة ما قتلته الصقور والكلاب، بحيث نسمي الله عليه ونأكله، ولا نسأل عنه، حتى ولو لم نجد عليه أثر الدم، لكون القتل بالكهرباء هو تذكية مقصودة لراحة الحيوان والدجاج، بإزهاق روحه بسهولة، فيقول بعض الفقهاء: إن الدم متى بقي في الجسم ولم يخرج منه فإنه ينجس اللحم، فهذا ليس بصحيح، فإن الدم متى بقي في الجسم فإن حكمه حكم اللحم طهارة ونجاسة، والله سبحانه إنما حرّم على الناس الدم المسفوح، وقد ذكرنا إباحة ما صاده الصقر والكلب وإن لم يجرحا.

والحاصل: أن الذبح بالكهرباء جائز، ويترتب عليه صحة مقتضاها من إباحة أكلها. وقد أهدت اليهودية إلى النبي ﷺ الشاة المشوية، فأكلها وأصحابه، ولم يسأل عن كيفية تذكيتها.

وقد جاءت السنة بتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وأكل الحمر الإنسية، وفي الجميع الخلاف المشهور عند الأئمة.

كيف يستدلون بحديث قوم حديثي عهد بجاهلية وهم مسلمون وليسوا بكفار على جواز ذبائح غير المسلمين؟

فالجواب: أن هذا الحديث مشهور، وله دخل في أُصول الأحكام، وأمور الحلال والحرام. رواه البخاري ومسلم عن عائشة أُم المؤمنين: أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا».

وهذا دليل قاطع على أن جميع الأشياء المجهولة يرجع فيها إلى أصل الإباحة حتى يثبت دليل التحريم.

ولما جاء عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص إلى صاحب حوض فيه ماء فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض، هل يرد على حوضك الكلاب والسباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا. وكذا يقال في المياه المتحجرة في الطرق وكونها محكومًا عليها بالطهارة. وكذلك اللحوم والدجاج والأدهان والألبان، وسائر ما يجلب من الخارج، فكل هذه محكوم بطهارتها وإباحة أكلها، فهي داخلة في عموم قوله: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا».

ولم يكلفنا الله ولا رسوله البحث والتفتيش عما خفي علينا. وحيث يقول بعض الناس: إن في بعض الأدهان دهن خنزير، وإنهم يقتلون الحيوان بالصعق، بأن يضربه على رأسه حتى يموت، وإنهم يقتلون الدجاج بإلقائه في الماء المحرق وهو حي حتى يموت، فكل هذا من الدجل الذي يتلقفه بعضهم عن بعض، على سبيل: قالوا وزعموا.. وفي الحديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[149].

والصحيح أنهم إنما يضربون الحيوان - وخاصة الثيران- على رأسها بالدبوس، لغيبوبة إحساسه عن قوة الحركة والاضطراب، ثم يذكونه بالسكين وهو حي سوي، وكذلك الدجاج إنما يلقون به في الماء الحار بعد قتله بالكهرباء، وهو أمر جائز بدون ملام، إذ ليس بجرح ميت إيلام. أما الذين يحتجون بتحريم ما ذبحه الكفار فليس عندهم سوى مفهوم قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وهذا مفهوم لقب، ولا يحتج به عند الجمهور، ولو كان حجة لقلنا في قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡ [المائدة: 5]: إن ذبائح المسلمين حلال على أهل الكتاب وحرام على غيرهم، ولم يقل بذلك أحد، فبطل الاحتجاج به.

أما لو علمنا بطريق اليقين أنهم يلقونه في الماء الحار وهو حي حتى يموت، فإن هذا تعذيب له بغير حق، والله قد كتب الإحسان على كل شيء، فهو عمل حرام، حتى عند النصارى، فإنهم أشد رفقًا بالحيوانات، ولديهم جمعيات للرفق بالحيوان، ويوقعون الجزاءات والعقوبات على من يقع منه التعدي على الحيوان. ومع هذا كله فإننا لا نتكلف البحث عما خفي علينا. فلو تصدى شخص للسؤال عن كل ما يقدم إليه من اللحم، أو عما يشتريه، فإنه يعجز لا محالة عن الوقوف على اليقين فيه، يسأل عن ذابحه أهو كتابي أو مشرك؟ ثم يسأل: هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ ثم يسأل: هل قطع منه الحلقوم والمريء المشروط لصحة تذكيته عند الفقهاء أم لا؟

فلو فعل ذلك لعده الناس مجنونًا، لكونه غاية في التكلف، والنبي ﷺ قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قالها ثلاثًا[150]. ويكفي عن هذا كله في إباحة أكله أن يقول: باسم الله. ثم يأكل، فإن التسمية تقتضي تطهيره وإباحة أكله. وقد أهدت اليهودية للنبي ﷺ شاة مصلية، فأكل منها وأصحابه، ولم يسأل عن كيفية ذبحها ولا عن ذابحها، وقد قدمنا فيما سبق: أن الذبح هو من العادات وأمور الحياة التي يشترك فيها البر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا ما استثنى الله من كتابه ورسوله في سنته من المحرمات. وقد قال مفتي المنار: إن مسألة الذبح والذبائح ليست من المسائل التعبدية، وإنه لا شيء من فروعها يتعلق بروح الدين وجوهره إلا تحريم الذبح لغير الله، لأن هذا من عادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم الله علينا أن نشاركهم فيها، كما حرم علينا التزوج بالمشركات بالنص الصريح في قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّ [البقرة: 221]. وقال: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]. ولم يحرم علينا ذبائح المشركين بالنص الصريح، بل حرم علينا ما أُهل به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام، انتهى.

ثم إن السائل أورد علينا خبرًا زعمه حديثًا، وهو قوله في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ألا تأكلوا ذبائحهم، ولا تنكحوا نساءهم، وزعم أنه رأى ذلك في فتوح البلدان للبلاذري، وفي تاريخ ابن جرير.

فأجبته بأن هذا النص المقتضي للتحليل والتحريم لا ينبغي أن يؤخذ من التاريخ، إذ إن التواريخ على اختلافها مبنية على القصص والأخبار، فيدخل التساهل في النقل، ويدخل فيها الكذب والزيادة والنقص كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كلَّ ما
جمع الرواة وخط كل بنان
وقد حقق علماء الحديث عدم صحة هذا، وكونه لم يثبت فيه إلا قوله: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ». يعني في أخذ الجزية منهم، وهو حديث منقطع. قال ابن حجر العسقلاني في قوله: غير ألا تأكلوا ذبائحهم ولا تنكحوا نساءهم. قال: فهذه مدرجة وليست من أصل الحديث... والصحابة إنما حصل الكلام بينهم في ضرب الجزية على المجوس، حيث قال بعضهم: إنهم وثنيون يعبدون النار، فلا يجوز أخذ الجزية منهم، فشهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر.

وأما تحريم ذبائحهم فلم يثبت تحريمها بنص صحيح، غير أن الصحابة لمّا هداهم الله إلى الإسلام صاروا يبغضون المشركين وذبائحهم، ويظنونها مما ذبح لغير الله، ويمتنعون عن أكل طعامهم، ويتلون قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ [التوبة: 28].

ولما قدم أبو سفيان المدينة لمحاولة تجديد صلح الحديبية، فنزل على ابنته أُم حبيبة زوج النبيﷺ فجلس على حصير فطوته من تحته، فقال لها: أرغبت بي عن هذا الحصير؟ أم رغبت به عني؟ قالت: بل رغبت به عنك، إنه فراش رسول الله ﷺ وأنت مشرك نجس.[151] حسبت بدن المشرك وثيابه نجسة، والله سبحانه إنما عنى نجس الاعتقاد.

ولو كان كل ما ذبحه الكفار لإرادة الأكل أو البيع حرامًا كتحريم الميتة ولحم الخنزير، لما سكت القرآن والسنة عن بيان ذلك، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه مع العلم بكثرة اختلاط المسلمين بسائر أمم الكافرين من وثنيين وشيوعيين ومجوس وصابئين في كل زمان ومكان، من قديم الزمان وحديثه. وما يشعرني أن سكوت القرآن والسنة عن تحريم ما ذبحه الكفار على اختلاف مللهم، أنه رحمة من الله لعباده، لعموم البلوى بكثرة اختلاط المسلمين بهم، وشدة حاجتهم إلى ذبحهم وذبائحهم؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدارقطني بإسناد حسن.

فكل ما سكت القرآن والسنة عن تحريمه فإنه حلال قطعًا. والله يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وحيث لم نجد تفصيل التحريم لما ذبحه الكفار في الكتاب ولا في السنة علمنا حينئذ أنه مباح قطعًا، فإن الحلال هو ما أحل الله ورسوله، والحرام ما حرّم الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، أي حلال، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ولا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، ولا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.. والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

[145] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [146] انظر السيرة لابن هشام. [147] متفق عليه من حديث رافع بن خديج. [148] انظر نحوه (مسلم) كتاب الصيد والذبائح عن عدي بن حاتم وعن أبي ثعلبة الخشني. [149] رواه البخاري في (الأدب المفرد) عن ابن مسعود، ورواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة. [150] رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. [151] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.

استدراك

ثم إنني بعد فراغي من كتابة هذه الرسالة رأيت كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية يحقّق فيه صحة ما قلنا في إباحة ذبائح الكفار والمشركين، فأحببت تعليقه بهذه الحاشية إتمامًا للفائدة.

فقال في ج 21 من مجموعة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ص 576:

فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجِّسون ذبائح قومهم، وكذلك النبي ﷺ لم يُنقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذُبح للأصنام، أمّا ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يجتنبه. ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل الذين أسلموا ما لا قِبل لهم به، فإن عامة أهل البلد مشركون، وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا إلا من طعامهم وخبزهم وفي أوانيهم، لقِلَّتهم وضعفهم وفقرهم. ثم الأصل عدم التحريم حينئذٍ، فمن ادعاه احتاج إلى دليل. انتهى.

جمادى الأولى 1400 هـ.

(11) الرد على المشتهري بشأن اللحوم المستوردة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لقد جرى مني على سبيل العادة أني لا أنشر كتابًا ولا رسالة إلا وأتبعها سؤال العلماء عنها.. وأُطالبهم بأن يمعنوا النظر فيها... من ذلك أنني لما ألفت رسالة يسر الإسلام في جواز رمي الجمار قبل الزوال أتبعتها بسؤال علماء الرياض الكرام برسالة موجهة مني إليهم حاصلها:

أما بعد:

فإني أرفع لعامة العلماء الأعلام ومصابيح الظلام التعريف عن تأليفي للمنسك اللطيف الذي سميته يسر الإسلام وبيان أشياء من مناسك حج بيت الله الحرام أرسلت لكم عددًا منه متبوعًا بالمسؤولية عنه لقول الله تعالى: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ [النحل: 43-44]. لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيه مفاصل الإنصاف والعدل ولم أنزع إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل ولكنني أعرف أني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وأنتم من الفقه والإتقان بمكان تعرفون النصوص ولا تخفى عليكم القصود، وهذا المسؤول عنه بين أيديكم معروض والقول منكم بما يستحقه مفروض، فعلى كل أخ مخلص ناصح أن يجيل فيه النظر بإمعان وتفكر، وذلك بأن يعيد دراسته ويعجم عود فراسته ليتضح له على الجلية معناه ويقف على حقيقة مغزاه، فإن تبين أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية وجئت قولاً إدًّا وجرت عن الحق قصدًا، وجب عليه أن يسددني من الهفوة ويسندني من الكبوة، ويكشف لي بكتاب عن وجه ما يخفى علي من الصواب؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع. والقصد واحد والغاية متساوية، وكل على حسبه من العلم بكتاب ربه وسنة نبيه. والله يعلم - وهو عند لسان كل قائل وقلبه- أني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام، ولا التقول في أُمور الحلال والحرام، وإنما بنيت أُصول ما قصدت على النصوص الجلية والبراهين القطعية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله.

* * *

مقال ينافي الإنصاف في مجلة الاعتصام

والموجب لذلك هو أنني رأيت مقالات على صفحات مجلة الاعتصام القاهرية طرحها الشيخ عبد اللطيف مشتهري حول موضوع (حكم الإسلام في الطيور واللحوم المستوردة) أمام جميع المحققين من علماء المسلمين ليصل الناس إلى وجه الصواب.

وقد تناولني في هذه المقالات بكلمات تدل على الجنف والجفا، وتنافي الإنصاف والحفا. قد جعل فيها الجد عبثًا، والتبر خبثًا، والصحيح ضعيفًا.

فمن ذلك قوله:

إن كثيرًا من علماء المسلمين الذين يجهلون حقيقة الحال راحوا يوفقون بين نصوص الشريعة وهذه اللحوم المستوردة كالشيخ محمد عبده ورشيد رضا والدكتور يوسف القرضاوي... وآخر من قرأنا له الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بقطر في رسالته فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب وقد أباح فيها ذبائح الكفار والملحدين جملة بل هو يلغي الإجماع. ثم ألحق ذلك بقوله في عدد آخر من المجلة: وعلى العلماء المتجاهلين ما يجري حولهم أن يقرؤوا رسالة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية والتي يرد فيها على المحلل لما حرم الله المدعو عبد الله ابن زيد آل محمود بدولة قطر، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة.

وأقول: إن إشاعة هذه الشناعة التي هي حقيقة في إشاعة الفاحشة الكبرى على عالم معروف بالدعوة إلى الله هي أشد وأشر من إشاعة فاحشة الزنا، والله يقول: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ [النور: 19].

والعلماء أعراضهم مسمومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة. وقد مدح الله المؤمنين الذين إذا بغي عليهم هم ينتصرون فقال: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١ [الشورى: 41]. ومن صفة المؤمنين أنهم يكرهون أن يذلوا فإذا قدروا عفوا.

ثم إن رميه هذا العالم بتحليل ما حرم الله يتنافى مع قوله: إن الموضوع يجب أن يبحث بعيدًا عن العنف وخشونة التعبير فأي عنف وأي خشونة أكبر من قوله في هذا العالم أنه المحلل لما حرم الله؟!

فجوابنا في كل ما ألصقه بنا أن نقول: ﴿مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦ [النور: 16]. لقد كان من عزمي ألا أرد على أحد تكلم في شيء من كتبي، ولكن المشتهري قد جاوز سيله الزبى، وأخذ يهرف بما لا يعرف، ولا بد للمصدور من أن ينفث.
عداتي لهم فضل علي ومنة
فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
همُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

تجاوز حدود الأدب في النقد والمناظرة

ثم إنه قد أساء الأدب في النقد والمناظرة، يتناقض بين بناء وهدم، فحينًا تراه يقول: معاذ الله أن نحلل أو نحرم دون يقين بسند من كتاب أو سنة، ومن إجماع أو قياس صحيح، والله يقول: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116].

ثم هو يتناقض ويجزم بالتحريم قائلاً:

على العلماء المتجاهلين ما يجري حولهم أن يقرؤوا رسالة ابن حميد، والتي يرد بها على المحلل لما حرم الله المدعو عبد الله بن زيد آل محمود بدولة قطر، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة.

وأقول: إن قول المشتهري هذا يدل على أنه يقول بالجزم بالتحريم، والامتناع عن تناول هذه اللحوم. وهو يتناقض مع قوله: إنه باق على الحياد، لا يقول بالتحريم.

ثم يقال له: إنك وصفت الشيخ ابن محمود بأنه المحلل لما حرم الله، وهو لم ينفرد بهذا القول عن غيره بل شاركه في القول علماء أجلاء يُقتدَى بقولهم ويُنتهَى إلى رأيهم، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن العربي إمام المالكية، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا صاحب المنار، ويوسف القرضاوي، ومحمد نجيب المطيعي، فهؤلاء هم العلماء الذين ملؤوا الدنيا من المؤلفات التي تدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وكلهم يبيحون أكل اللحوم المستوردة من أهل الكتاب.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتْنَا يا جريرُ المجامعُ
ومن لوازم قول المشتهري أن هؤلاء العلماء يحللون ما حرم الله.

ثم يقول في موضع آخر: وسبق أن قررت أننا من أنصار التيسير على الناس وكم أفتينا بحلها اعتمادًا على قاعدة: مجهول الأصل حلال. وذبائح الكتابي حلال.

وأقول: إن الرجل يتقلب مع الأهواء، ويخبط خبط العشواء، وهو من المقلدين الذين يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، والمقلد لا يعد من أهل العلم وقد شبهوه بالجنيبة[152] التي تقاد، وقد قيل في ذلك:
إذا العلم لم يفرج لك الشك لم تزل
جنيبًا كما استتلى الجنيبة قائد
أما ما أشار إليه من رد العلامة الشيخ ابن حميد علي فأهلاً وسهلاً فهو حبيبي في الأصل، وزميلي في الطلب، وأحمل له الود المكين وأُعامله بالإجلال والتكريم. فهو وإن رد علي أو رددت عليه فما هو إلا بمثابة حديث الفكاهة في الآداب تجري بين الأحباب ويبقى الود ما بقي العتاب. غير أنه لا يخفى على العقلاء أنه ليس كل رد صوابًا، فقد رأينا كثيرًا من الناس يردون الحق بالباطل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فلا فخر بمجرد الرد وإنما الفخر بصواب النقد. بحيث يقال: قرطس فأصاب.
فكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
ثم إن الشيخ المشتهري قد أقام نفسه مقام إمام العلماء وحاكم الحكام، فقد أشار إلى أنه يتلقى كل يوم عشرات الأسئلة ويلاحقه في الدروس والملاحظات جمهور غفير يتساءلون، فهو يَعِدُ الناس ويمنيهم بأنه سيأتيهم بفصل الخطاب في التحليل والتحريم.... وكلامه يدور على محور التحريم.. وقد استوفز لينادي الناس بالتحريم، فلو قال بالتحريم لقلنا له: لا سمعًا لك ولا طاعة، إذ ليس كل داع بأهل أن يصاخ له:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
................................
ثم إن الحكم بتحريم مثل هذه اللحوم والدجاج على الناس مع قوة الشبهة فيها هي أعظم جرمًا وأشد إثمًا من القول بإباحتها. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لو تنازع اثنان في هذه اللحوم، فقال أحدهما: إنها حرام، وقال الآخر: إنها حلال، فإن القول هو صحة من يقول: إنها حلال إذ الأصل الإباحة.

ثم إن قوله بأن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الذي يحلل ما حرم الله، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة، فهو لم يثبت دليلاً نقليًّا أو عقليًّا يؤكد بتحليلي لما حرم الله، إذ الشبهة قوية، والقائلون بالتحليل هم أسعد الناس بالدليل إذ الأصل الإباحة، ولا يوزن بهؤلاء سائر ما ينقله عن الطلاب والغوغاء أو عن رجل في نجران، أو عن علي صالح العود التونسي المقيم بفرنسا، فإننا لو جعلنا هؤلاء في كفة الميزان، وجعلنا أولئك العلماء الأجلاء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحدث عنه المشتهري معترفًا بفضله، وأنه الإمام المجتهد رأس مدرسة تحرير العقول من الخرافات والعالم الذي لا يشق له غبار، لو جعلنا هؤلاء في الكفة الثانية لثقل ميزان هؤلاء العلماء وخف ميزان أولئك الغوغاء.

إذ مبنى أمر هؤلاء على قالوا وزعموا. والنبي ﷺ قال: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[153].

وقد أوردنا في رسالتنا المسماة فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب شهادة الشهود العدول المشاهدين لجزر البقر في سويسرا وأعدلهم عندي الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع قاضي قطر سابقًا ثم الشيخ علي بن عبد الله الثاني حاكم قطر سابقًا، ثم أحمد بن يوسف الجابر ثم ثلاثون رجلاً من أتباع الحاكم. فكلهم شهدوا بما شاهدوه من أنهم يأتون بالأبقار والثيران ويذكرون من عظمتها وضخامة أجسامها فيوقفونها مخطومة ثم يقوم الجزار فيضرب الثور بين قرنيه بدبوس فيسقط مغشيًّا عليه، فيعاجلونه بالذبح وهو حي سوي، فعند ذلك قال هؤلاء: نشهد بأن القائلين: إنهم يقتلون الحيوان بالصعق أو بالضرب، أنهم كاذبون في أقوالهم. لهذا اطمأن جميع أهل البلاد على إباحة ما يأكلونه من اللحوم والدجاج ولم يخالطهم شك في صحة ذلك، فمن أراد أن يحرمها على نفسه فهو حر في تصرفه ولا حق له أن يحرمها على غيره.

كما أن الأمر الثابت في قتلهم للدجاج أنهم يصفون الأُلوف على سلك معلقة بأرجلها، ثم يسلطون عليها التيار الكهربائي فتذبح جميعًا في لمحة بصر، ثم يقذفون بها بعد ذبحها في الماء الحار. هذا هو الأمر الصحيح في ذبحها، وهذا العمل بهذه الصفة هو قتل مقصود لإباحة أكل لحمها عندهم، فمتى كانوا يفعلون ذلك ويعتادون أكله فإنه حلال لنا بنص القرآن في قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وإن لم يخرج منه الدم، ولا ينبغي لنا أن ننقب عما يعلفونها به؛ إذ العلف يستحيل في حواصل الطير وكروش الأنعام، وما من إنسان إلا وبطنه مجوف على الغائط والبول والدم، وجسمه مع ذلك طاهر. أما لو علمنا بطريق اليقين أنهم يضربون البقر بالدبابيس حتى تموت، ويلقون الدجاج في الماء الحار وهو حي فإن هذا تعذيب له بغير حق ويوجب تحريمه كالمنخنقة والموقوذة. والنصارى هم أشد رفقًا بالحيوان ويجعلون الجزاء على من يسيء إليه. ومع هذا فإن الله سبحانه لم يكلفنا البحث عما خفي علينا.

ثم أين هذا الإجماع الذي يذكر المشتهري أن الشيخ ابن محمود خرقه؟

[152] الجَنِيبة: الدابة تُقاد. [153] أخرجه أبو داود من حديث أبي مسعود.

شبهة الإجماع وردها

إنه ما من إجماع إلا وفيه خلاف فيما يتعلق بالأحكام وأُمور الحلال والحرام، وليس معنى الإجماع أنه الإحاطة بجميع أقوال العلماء في مشارق الأرض ومغاربها، فإن هذا من الأمر المتعذر ولا يمكن إدراكه.

أما الإجماع عند الفقهاء فإنه عبارة عن إجماع أئمة المذاهب الأربعة، فيجمعون على قول أو فعل، فقد يكون إجماعهم صحيحًا وقد يكون الصحيح في خلافه. وقد عرض شيخ الإسلام على علماء المسلمين سبع عشرة مسألة خرق فيها الإجماع ولم يعنفه فيها أحد من العلماء، بل رجع الكثير من علماء المذاهب إلى العمل ببعض اختياراته التي خرق بها الإجماع؛ من ذلك أن أئمة المذاهب الأربعة أجمعوا على أن الطلاق بالثلاث متى وقع بلفظ واحد فإنه يصير طلاقًا بائنًا لا تحل لمطلقها إلا بعد نكاح زوج غيره، وجرى العمل بهذا زمنًا طويلاً في أكثر المحاكم الشرعية الإسلامية. ثم إنه ترجح لهم بعدُ صحةُ قول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أفتى بجعله عن واحدة وأنه هو الإجماع زمن الصحابة وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.

ويقول شيخ الإسلام: إنه لا يزال يوجد من يفتي به من العلماء عن واحدة في كل زمان.

وفي النهاية استقر عمل الناس على الحكم به في سائر المحاكم الشرعية وسائر البلدان العربية ما عدا المملكة السعودية.

ثم إن الحق يخرق الإجماع، فليس هو بسد حائل دون العالم المتحرر عن التقليد متى خرق هذا الإجماع بنص ودليل؛ إذ الحق يحكم على الإجماع والإجماع لا يحكم على الحق.
وقل للعيون الرمد إياكِ أن ترَيْ
سنا الشمس واستغشِي ظلام اللياليا
وسامح ولا تعتب عليها وخلها
فإن أنكرتْ حقًّا فقل خل ذا ليا
ولم يوجب الله الرد عند التنازع إلى الإجماع لكونه غير كفيل بحل المشاكل، وإنما أوجب عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النساء: 59].

ثم قال المشتهري: إن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود قد أباح في رسالته ذبائح الكفار والملحدين جملة.

حكم ذبيحة الكافر

وأقول: لقد قلت بهذا ولا أعتذر، فمالي أراكم عنها معرضين؟! فوالله لأرمين بها بين أكتافكم، وهذه المسألة من جملة المسائل التي غفل عنها العلماء المتقدمون وتبعهم على غفلتهم عنها علماء هذا العصر.

وإن الحلال هو ما أحله الله ورسوله، والحرام هو ما حرمه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو. ولم يثبت عندنا في كتاب الله ولا في سنة رسوله تحريم ذبائح الكفار.

وما يشعرني أن سكوت القرآن والسنة عن تحريمها هو رحمة من الله لعباده مع عظم البلوى بكثرة اختلاط المسلمين بسائر أمم الكافرين.

وقد قال أحد العلماء في محاضرة له: إن الكافر لا يحق له أن يذبح ولا أن يأكل. وهي غلطة سامحه الله عليها، فإن الذبح وأكل المذبوح هو من أُمور الدنيا التي يشترك فيها المسلم والكافر والبر والفاجر، يقول الله تعالى: ﴿كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠ [الإسراء: 20].

فالذبح هو من العادات لا من العبادات إلا إذا قصد به العبادة كذبح النسك والأضحية والعقيقة والمنذورة لله. أما إذا قصد به الشرك كالذبح للصنم أو للجن أو للقبر أو الزار فإنه شرك حرام ذبحه وأكله وبيعه.

أما إذا كان الذبح للأكل أو البيع فإنه من العادات وأمور الدنيا التي يشترك فيها جميع الناس برهم وفاجرهم ومسلمهم وكافرهم، أشبه بأكل الثمار وشرب الألبان وسائر ما يتنعم به الناس من أُمور الدنيا، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. والخطاب لجميع الناس، وهذا الامتنان بها عام لجميعهم، ولم يبح الأكل إلا وهو مستلزم لإباحة الذبح من مسلم وكافر، نظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21]. والخطاب لجميع الناس، وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗا [الأنعام: 142]. فالحمولة هو ما يحمل عليه، والفرش هو ما يؤكل.

وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الشبهة التي علقت بالناس هو أن الصحابة لما كانوا في جاهليتهم يذبحون للأصنام بكثرة ويذبحون على قبور موتاهم حتى يقول أحد الشعراء:
وإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم الهجان وكل طرف سابح
فلما كانت هذه الأعمال الشركية سائدة بين الصحابة زمن الجاهلية، فبعد أن أسلموا اشتد بغضهم للشرك والمشركين، فكانوا كلما قُدِّمَ لهم ذبحٌ من أحد المشركين تورعوا عنه لظنهم أنه مما أهل به لغير الله، هذا هو أصل تعففهم عن ذبائح الكفار.

لا دليل على تحريم ما ذبحه الكفار

والصحيح أنه ليس عندنا دليل واضح من القرآن والسنة يدل على تحريم ما ذبحه الكفار.

وقد أقام النبي ﷺ وأصحابه في مكة ثلاث عشرة سنة وهم يأكلون مما ذبحه أهل مكة على شركهم.

وفي سفر هجرته ﷺ لما أتى على أُم معبد، قال لها: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ لَحْمٍ أَوْ لَبَنٍ؟»[154] ولم يسأل عن اللحم إلا ليأكله، وبقي في دار هجرته بالمدينة، ولم يثبت عنه حرف واحد في تحريم ما يذبحه المشركون.

وهنا شبهة قد احتج بها بعض أهل العلم علينا، وهو حديث عن عبد الرحمن ابن عوف: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ أَنْ لَا تَنْكِحُوا نِسَاءَهُمْ، وَلَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَهم». ويزعم أنه وجد هذا في فتوح البلدان للبلاذري. وحقق ابن حجر في فتح الباري أن قوله: غير ألا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم. أنها مدرجة في الحديث من بعض الرواة، وليست من كلام الرسول ﷺ.

وحقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته قاعدة قتال الكفار قائلاً: إن الوارد: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. وهذا الحديث منقطع فإن جعفرًا رواه عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، وأبوه لم يدرك عبد الرحمن بن عوف، وإنما تكلموا بها في الجزية لا في غيرها.

[154] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة.

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية

وفي الختام فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في صفحة 53 من المجلد الثاني من الفتاوى القديمة ما نصه:

إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو الأئمة، فإن هذا من فعل أهل الجهل والأهواء. ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم، فمن أنكر فقد خالف إجماع المسلمين.

قال: وهذه الوجوه تثبت بيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، وأن مثل هذه المسألة ونحوها من مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل... فإنه خلاف إجماع المسلمين.

فهذا حاصل ما اهتدينا لرده... والله ولي التوفيق.

* * *

(12) حكمة الرب في خلق القمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وجمله بالعقل وشرفه بالإيمان وفضله بالعلم على سائر الحيوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مبرأَة من الشرك والشكوك والأوهام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥ [يونس: 5].

فأخبر الله سبحانه أنه جعل الشمس ضياء تضيء للناس من طلوعها إلى غروبها، ويترتب على انتشار ضيائها المصالح العديدة والحكم المفيدة: من صحة الأبدان وغرائس الأشجار ونضج الثمار وتسخين البحار وإجراء الأنهار وسائر ما يترتب عليها من المنافع الكبار ورفع المضار. تشع بضيائها على أقوام كل النهار ثم تغرب عنهم وتطلع على آخرين غيرهم، بسير متقن، مسخرة له لا تتجاوزه ولا تقصر عنه، وطريق سيرها في الصيف غير طريقه في الشتاء لاختلاف الفصول من صيف إلى شتاء ثم خريف وربيع ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍ [النمل: 88].

ثم قال: ﴿وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا أي جعل القمر نورًا يضيء للناس في ليلهم وفي سيرهم وسمرهم، ويبصرون بنوره ما يعرض لهم، وقدره منازل، فهو يبدو حين يستهل كالخيط الدقيق، ثم يتزايد جرمه ونوره بانتقاله من منزلة إلى منزلة حتى ينتهي إلى حالة إبداره أي كماله وتمامه، وفي حالة تزايده من طلوعه إلى إبداره. والبحر يمد بالزيادة تبعًا لزيادة القمر إلى أن ينتصف الشهر، فعند ذلك يأْخذ المد غايته ويبلغ من الاضطراب والطفور نهايته، فيعظم هيجانه وتشتد أمواجه.

فإذا نقص القمر بعد منتصف الشهر بدأ النقص في مد البحر بحسبه، وهذه من الحقائق التي هي بتقدير الخالق ﴿فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ ١٤ [المؤمنون: 14].

وللقمر ثمانٍ وعشرون منزلة، ينزل كل ليلة منها منزلة غير منزلته الأولى، سميت بأَسماء النجوم المجاورة لها وهي: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك الأعزل، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد الأخبية، وسعد السعود، والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، والرشا، ثم يختفي غالبًا ليلة أو ليلتين وتسمى السرار والمحاق.

رتب الله القمر على هذه المنازل لمصلحة الناس وهي ما عناه بقوله: ﴿وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَ [يونس: 5]. وبعد المنزلة عن المنزلة مسافة بعيدة لا يعلم قدر مساحتها ولا بعد مسافتها إلا الله عز وجل.

أضف إلى ذلك أن الهلال إذا استهل ثم أبدر فإنه يستهل ويبدر على الدنيا أي المعمورة كلها في وقت واحد، وإذا غاب فإنه يغيب عن الدنيا كلها، باستثناء كون بعض البلدان يرونه أول يوم وآخرون لا يرونه، فإن هذا يرجع إلى مراقبته وتفاوت الأبصار في رؤيته. وقد قيل: إنه يرجع إلى اختلاف المطالع، وهو قول ضعيف جدًّا؛ فإن الله بحكمته نصب الشهر في السماء بقدرته لعموم منفعته لجميع الناس بحيث يجري حسابهم على دخوله وخروجه، وليس كالشمس تطلع على قوم وتغيب عن آخرين؛ لهذا صار من العسير معرفة الحساب بالشهر الشمسي بخلاف الشهر الهلالي؛ فإنه ميسر لكل أحد بحيث يعرفون كل شهر باسمه من ابتداء دخوله إلى خروجه، يشترك في معرفته العالم والعامي، والكاتب والأمي، والحضري والبدوي، حتى إنهم ليعرفون كم مضى من الشهر بمعرفة منزلة القمر، وبذلك تعرف الأشهر الحُرُم وأشهر الحج وشهر الصوم وأشهر عِدَدِ النساء وغير ذلك من الأحكام التي رتبها الله على الشهر الهلالي.

يقول الله تعالى: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]. سمي الهلال هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي الشهر شهرًا لاشتهاره، وكان سبب نزول هذه الآية على ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم أو ابن غنيمة سألا رسول اللهﷺ وقالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم فيستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت هذه الآية ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ فعدل بهم سبحانه عن الإجابة عن جرم الهلال إلى الإخبار بحكمته، ففيه الإخبار بالصفات عن الذات، كأنه قال: عليكم أن تسألوا عن الحكمة والمصلحة التي خلق الله الهلال لها بدون أن تتكلفوا البحث والكشف عن ماهية الهلال، ولم يأْمر الله بشيءٍ إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولم ينه عن شيء إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة. لهذا رأينا الناس في هذا الزمان وفي هذه الأيام لما اشتغلوا بالبحث عن ماهية القمر وتحدثوا بوصول هؤلاء إليه، أحدث لهم هذا الخبر شيئًا من القلق والاضطراب في الأفكار والعقائد والفتنة في الدين، وطاشت بذلك أحلام الأكثرين لظنهم أنها هزيمة للدين وأنها تقضي بتكذيب نصوص القرآن المبين ونصوص الأحاديث الثابتة عن رسول الله الصادق الأمين، إلى غير ذلك مما يتلقونه من مفتريات الملحدين. وكان من واجب المسلم عند سماع هذا الهذيان هو التثبت والاطمئنان وعدم تزعزع الإيمان، لاعتقاد أنهم لم يأْتوا بما يناقض القرآن. وقد مدح الله في كتابه أهل الاستقامة والثبات، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات.

وأكثر الناس ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لعدم رزانته واستقامته وعدم علمه ومعرفته بأَحكام الرب وقدرته.

وما يشعرني أن تسلط هؤلاء على الصعود إلى القمر أنه جرى بطريق القضاء والقدر ليمتحن الله به من يثبت على إيمانه ودينه، ممن ينقلب على عقبيه، كما جرت الفتنة زمن النبي ﷺ في تحويل القبلة، فقال السفهاء من الناس: ﴿مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَا [البقرة: 142]. إذًا صلاتهم السابقة فاسدة وكيف أقروا عليها وهي باطلة، فهلك في هذه الفتنة من هلك، وكذلك هزيمتهم يوم أحد حين قالوا: لو كانوا على الحق ما هزموا. وكذلك الفتنة بموت النبيﷺ، حيث قالوا: لو كان رسولاً لم يمت، فارتدت العرب من أجل فشو هذا الخبر.

غير أن هذه الفتن بمثابة الغيم الذي يخيم على القلوب ويحول بين القلوب وبين رؤية الأمر على حقيقته، وسرعان ما ينجلي هذا الغيم وينقشع لأن الحق أبلج والباطل رجرج.
لله در الحادثات فإِنها
صدأ الجبان وصيقل الأحرار
فهذا الخبر في وصول هؤلاء إلى القمر حاصله خبر شخص عن فعل نفسه، بما يقتضي مدحه ونجاحه في مهمة عمله سواء أكان صادقًا أو كاذبًا، فضجت بخبره الأصوات وتجاوبت به الإذاعات حتى صار كالخبر اليقين في نفوس الأكثرين.

ونحن بكلامنا هذا لا ننفي وصولهم إليه ولا نثبته إذ ليس من الأمر المستحيل وقوعه عند توفر الأسباب التي تؤهلهم إلى وصوله وإنما غايته أننا نستبعد إمكانيته، والاستبعاد للشيء لا ينفي وقوعه بالكلية، كما أن عدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه، وكل شيءٍ مرهون بيقينه، ومن طبيعة الإنسان أنه إذا جَهِلَ شيئًا ولم يحط بعلمه ولم يقبله عقله فإنه يسرع بتكذيبه وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، فلو تحدث متحدث قبل اليوم أن أهل المشرق يتخاطبون مع أهل المغرب وأن من في بلدان أوروبا يتكلم مع من في نجد أو الحجاز بحيث يكلم أحدهما صاحبه بصوت جلي غير خفي وبينهما الجبال الشاهقة والبحار الواسعة والسحب المضطربة والأهوية المتقصفة كل هذه لم تعد حائلة دون سماع أحدهما لخطاب الآخر. فلو تحدث متحدث بذلك قبل وقوعه وقبل وقوف جميع الناس على حقيقته لما صدق به أحد، لاستبعادهم لإِمكانيته، ولن تسعَ عقولهم قبوله.

فنحن لا نكابر في إنكار ما أدركه هؤلاء من علم الكون وما اكتشفوه من الأسرار والآيات، وما سيكتشفونه فيما هو آتٍ من كل ما يؤهلهم إلى الوصول إلى الغايات الداخلة تحت حدود مقدرتهم.

فقد رأى الناس ما صنعوه من الطائرات الهوائية من تجارية وحربية حيث تحلق في الأجواء حتى تتجاوز محيط الهواء، وغواصاتهم البحرية تغوص في قعر البحار بحيث يعلوها بمن فيها الماء والأمواج، ويتخاطبون من أصقاع البقاع، وحسبك ما في الكهرباء من الأسرار والمنافع الكبار، كل هذه من الحقائق التي لا مجال للشك فيها، خلق الله موادها يوم خلق السماوات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس لها، والمكتشفون يعترفون بأَن ما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما يعرفون، وأنهم كلما أوغلوا في الكشف عن شيءٍ تبين لهم من جهلهم ما لم يكونوا يحتسبون، وما أحسن ما قيل:
كلما أَدبني الدهر
أَراني نقص عقلي
وكلما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي[155]
إذا ثبت هذا فإن من جملة ما صنعوه لهذا الغرض - أي لغرض الوصول إلى القمر - الآلة المسماة عندهم بالمركبة الفضائية، وهي بزعمهم أسبق من سهم الرامي حيث زعموا أنها تقطع في الساعة الواحدة مسافة من العلو تقدر بأربعين ألف كيلو مترًا (40.000 كم) وقد مكثوا في صعودهم أيامًا وليالي قيل أربعة أيام بلياليها في حالة الصعود، وكانوا قبل ذلك بعشر سنين يقومون ويقعدون ويجرون التجارب على إثر التجارب لمحاولة الوصول إلى ما تحصلوا عليه إلى أن نجحوا في مهمة عملهم بزعمهم.

والقمر هو أدنى الأجرام العلوية مما يلي الأرض، فهو يضيء على أهل الأرض من جهته التي تلي الأَرض، كما قيل من أنه يضيء على أهل السماء من جهته التي تلي السماء، والله أعلم، يقول الله: ﴿وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦ [النوح: 16].

والقمر هو مستقل في فلكه بنفسه غير مغروز في السماء حسبما يتوهمه بعض الناس، وإِنما بينه وبين السماء فضاء أمسكه الرب بقدرته الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولإِن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن القمر هو أدنى الأجرام العلوية مما يلي الأرض، وليس عندنا ما يقتضي أن العلم به والوصول إليه أنه من علم الغيب الذي لا يحيط به أحد، وقد استخدموا هذا المركب الفضائي الذي يسبق سهم الرامي والذي مكث في الصعود إليه أيامًا وليالي، فإذًا لن نستبعد وصولهم إليه بعد استعمالهم لهذه الأسباب التي تؤهلهم من وصولهم إلى مقصدهم، وقد ذكر الله الأسباب وذكر النجاح فيها في أربع آيات متواليات فقال: ﴿وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٨٣ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٨٤ فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٥ [الكهف: 83-85]. وفي الآية الثالثة: ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٩ [الكهف: 89]. وفي الآية الرابعة: ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٢ [الكهف: 92]. فذكر الله عن ذي القرنين من اتباعه للأسباب والوسائل التي تمكن بها من السيادة على جميع الأرض وأهلها، قال ابن عباس: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٨٤. أي من كل شيءٍ علمًا [156]. يتسبب به إلى ما يريد؛ لأَن السبب في اللغة هو كل شيءٍ يتوصل به إلى غيره، فالإسلام دين العلم والعقل والفكر والحكمة، يأْمر باستخدام الأَسباب والاحتفال بها، كما قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
ومن طبيعة النفوس التطلع إلى كل مستور عنها من كل ما تظنه في متناولها، أو أنه مما ستدركه بوسائل عملها حتى ولو كان عندها ما يغنيها ويكفيها، كما قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت لها سعة
لها إلى الشيء لم تظفر به نظر
فإن قيل: من أين لكم أن القمر أدنى الأجرام العلوية، وأنه مستقل في فلكه، وأن بينه وبين السماء فضاء، والله يقول: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا ٦١ [الفرقان: 61].

فالجواب: أن السماء تطلق في القرآن ويراد بها ما علا وارتفع ومنه قوله: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡ [إبراهيم: 32]. ومعلوم أَن المطر إنما ينزل من السحاب لا من السماء، وقال: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤ [إبراهيم: 24]. وهذه الشجرة هي النخلة. وتطلق ويراد بها السماوات العلى وهي السقف المرفوع. فالله جعل في السماء بروجًا أي نجومًا وجعل فيها سراجًا وهي الشمس، وجعل فيها قمرًا منيرًا، وليست الشمس والقمر والنجوم كلها في فلك واحد وإنما هي متباينة المنازل، فكل واحد منها يسير في فلكه المرسوم له بقدرة الله وحكمته.

وقد اتفق أرباب الهيئة من المتقدمين وكذلك علماء الفلك من المتأخرين على أن القمر هو أدنى الأجرام العلوية مما يلي الأرض، وأن بينه وبين السماء فضاء واسعًا، أدركوا ذلك بوسائل علمهم الدقيقة وبكشوفهم ومراصدهم التي تقرب لهم البعيد وترسمه على صفته، فصار عندهم بمثابة العلم اليقيني الذي يدرك بالمشاهدة والحس حتى لم يختلف فيه اثنان منهم، ولأجل رجحان ظنهم في أن وصوله في استطاعتهم عملوا عملهم في الصعود إليه، سواء قلنا: إنهم وصلوا أو فشلوا، ولا يلزم أن نقول في كل ما نقلوه لنا: إنه باطل لا حقيقة له إلا إذا كان مصادمًا لنص صريح من الكتاب والسنة، فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حزم وابن الجوزي يستدلون من أقوال أهل الهيئة ما يرونه موافقًا للحق؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن علم الهيئة الذي هو أعظم علومهم الرياضية العقلية هو العلم بالأفلاك وحركاتها، فالحس لا يرى إلا حركة الأجسام المعينة، فيرى الشمس تتحرك والقمر يتحرك والكواكب تتحرك، هذا الذي يعلم بالحس، وأما كون بعض الأفلاك فوق بعض فقد علموه بكسوف الأعلى الأسفل، فلما رأوا القمر يكسف سائر الأفلاك استدلوا بذلك على أنه تحت الجميع. قال: فالعلم بقدر حركاتها وكسوف بعضها البعض ونحو ذلك مداره على الأرصاد. انتهى.

وقد نقل ابن القيم في مفتاح دار السعادة عن أرباب الهيئة في شأن الشمس والقمر والنجوم ما حاصله، قال: اتفق أرباب الهيئة على أن الشمس بقدر الأرض مائة مرة ونيفًا وستين مرة، وأن الكواكب التي نراها أصغرها بقدر الأرض، وبهذا يعرف ارتفاعها وبعدها. وقال: أنت ترى الكوكب كأنه لا يسير وهو من أول جزء من طلوعه إلى تمام طلوعه يكون فلكه قد قطع بقدر مسافة الأرض مائة مرة وذلك بقدر لحظة واحد. انتهى.

فالعلم بهذا مشهور عند المتقدمين كما أن أرباب الفلك يحققونه الآن، ولهذا قيل: والنجم تستصغر الأَبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر[157] وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "إن ما علم بالحساب وطريق الفلك علمًا صحيحًا فإنه لا ينافي ما جاء به السمع أي الكتاب والسنة، كما أن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافي معقولاً صحيحًا، وقد أشكل على كثير من الناس حيث يرون أن ما يقال: إنه معلوم بالعقل إنه مخالف لما يقال: إنه معلوم بالسمع، وأوجب ذلك أن كذبت طائفة بما لم تحط بعلمه، حتى آل الأمر بقوم أن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم فيه حجة لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك من نصر الشريعة، وكان ما أنكروه معلومًا بالأدلة الشرعية، وصار ما فعلوه هو مما جرأ الملحدين على الطعن في الدين وعلمائه. فهؤلاء لا الحق نصروا ولا الباطل كسروا. انتهى كلامه رحمه الله.

إذا ثبت هذا فإن لفظ العلوم الرياضية يستعمل في ثلاثة أنواع: أحدها (رياضة الأبدان) بالحركة والمشي، والثاني (رياضة النفوس) بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة، والثالث (رياضة الأذهان) بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة وهذا هو المراد هنا.

وأما استدلال بعض الناس بقوله تعالى: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ ٣٣ [الرحمن: 33]. ويزعمون أن السلطان المذكور في هذه الآية هو (العلم) وأنهم وصلوا به إلى السماء، فهذا الاستدلال باطل قطعًا ولا يمت للمعنى المراد من الآية بصلة لا بطريق المنطوق ولا المفهوم، وإنما حقيقته تحريف للكلم عن مواضعه، فإن النفوذ في اللغة هو جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه، يقال: نفذ السهم الرمية إذا خرقها وخرج من الجانب الآخر، ويقال: نفذ الرجل القوم إذا مشى وسطهم، ونفذهم جازهم وتخلفهم، قاله في القاموس.

فنفوذ أقطار السماوات هو مثل نفوذ النبي ﷺ لها ليلة الإسراء حينما تجاوزها من سماء إلى سماء في صحبة جبريل عليه السلام، يستأْذن له جبريل عند كل سماء فيقولون له: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل. فيقولون: من معك؟ فيقول: معي محمد، فيقولون: أَأُرسل إليه؟ فيقول: نعم. فيقولون: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء. ثم يصعد إلى السماء الثانية ثم الثالثة حتى انتهى إلى السابعة، فهذا هو حقيقة النفوذ لأقطار السماوات حقيقة، وأما معنى صعود هؤلاء فإنه بمثابة صعود الطائرة على السواء، وهم لم يصلوا في صعودهم إلى السماء وإنما وصلوا بزعمهم إلى سطح القمر، والقمر شيء والسماء شيء آخر، وما أشده من بأس وأعظمه من مكر ﴿وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ ٤٦ [إبراهيم: 46]. وللمفسرين في الآية معنيان: أحدهما أن هذا الخطاب واقع على الجن والإنس في حالة الدنيا، وذلك حينما يكور بالشمس، ويخسف بالقمر، وتنزل الملائكة من السماء، فيفزع الجن إلى الإنس ويحاولون الفرار والهرب من هذا الفزع، ولات حين مفر. والقول الثاني أنه خطاب لهم في الآخرة وذلك حين يأمر الله بحشر عصاة الجن والإنس ويقال لهم: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ ٣٣ [الرحمن: 33]. وهذا القول هو أقرب للصواب، يدل له الآية التي بعده وهي قوله: ﴿يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ ٣٥ [الرحمن: 35]. فإن إرسال النار إنما يقع في الآخرة، والسلطان قيل: العذر، وقيل: البينة، وقيل: الحجة، وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا: ﴿وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسٗا شَدِيدٗا وَشُهُبٗا ٨ [الجن: 8]. فهؤلاء الجن صعدوا إلى السماء فلمسوها لكنهم لم ينفذوا من أقطارها لأنهم وجدوها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا.

وقد حاول الصعود إلى السماء قبل هؤلاء أناس كما روي عن أبي إسحاق: أن جبارًا من الجبابرة قيل: إنه النمرود بن كنعان وهو الذي حاج إبراهيم في ربه، أنه قال: لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات، فعمد إلى فراخ نسور فأمر أن تطعم اللحم حتى إذا اشتدت وعضلت أي غلظت فأمر أن يتخذ تابوت يسع رجلين وأن يجعل فيه عصًا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جوع النسور وجلس هو وصاحب له في التابوت، وأثار النسور فلما رأت اللحم طلبته من فوقها فجعلت ترفع التابوت بقوتها وبشدة نهمتها إلى اللحم حتى بلغت به ما شاء الله، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى. فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب، ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى، فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدًا، فقال: نكس العصا. فنكسها من تحت فانقضت النسور بالنزول تطلب اللحم من أسفل حتى وقع التابوت بمن فيه على الأرض. انتهى، فهذا يحاول المحال من صعوده إلى السماء وهي السقف المرفوع والسقف المحفوظ.

كما قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ ٣٢ [الأنبياء:32]. أي محفوظًا بالملائكة التي تحرسها.

والمقصود أن هذا الخبر في وصول هؤلاء إلى القمر هو مما يزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا في معرفة هذا النظام السماوي القائم بقدرة الله وحكمته وعموم منفعته لجميع خلقه.

فأنت ترى هذا القمر المضيء بنوره الساطع مع هذا البعد الشاسع والفضاء الواسع، حتى إنه ليحسبه الرائي وقت إبداره كسراج وهاج في بيت أحدهم مع ارتفاع ذاته الارتفاع الهائل الذي لا يخطر ببال أكثر الناس، والذي مكث هذا المركب الفضائي أيامًا وليالي وهو يصعد بالسرعة الزائدة التي قدروا سرعته في الساعة الواحدة بأربعين ألفًا من الكيلومترات (40.000 كم) وهل هذا البعد الشاسع مع دنو نوره الساطع إلا آية باهرة سواء قلنا: إن نوره مقتبس من الشمس أو من ذاته بنفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وأمر آخر وهو إظهاره المعجزة التي أخبر بها النبي ﷺ، كما روى الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ مَسَافَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» والمقادير المذكورة في مثل هذا الحديث تحمل على دبيب الأقدام ومسير الجمال بالأثقال، وهذه المسافة الساحقة التي قطعوها هي من الأرض إلى القمر لا غير، ومن المحتمل أن يكون من القمر إلى السماء أبعد من هذا، وبذلك تتضح المعجزة التي أخبر بها النبي ﷺ في بعد مسافة ما بين السماء والأرض، فدعوى بعض الناس أن القمر آية من آيات الله لا يدان لأحد بوصوله جوابه: نعم إن القمر آية من آيات الله لا يستطيع أحد تغييره عن صفته التي خلقه الله عليها، ولا أن يخلقوا مثل خلقه، وكونه آية لا يمنع من وصوله، كما أن السحاب آية من آيات الله كما قال تعالى: ﴿وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ [البقرة: 164]. وقد مكث أكثر الناس زمانًا وهم لا يظنون أن أحدًا من خلق الله يصل إلى منتهى السحاب من أجل أنه آية من آيات الله إلى أن حدثت الطائرات الجوية التي تخترق السحاب حتى ترتفع عنه ويمطر المطر من تحتها.

فقل لهؤلاء المرتابين: مَنْ خلق هذا القمر وأودعه هذا النور الساطع مع البعد الشاسع غير الله عز وجل؟ ومن وضعه بهذا الموضع العالي اللائق به غير الله عز وجل؟ ومن أمسكه بقدرته بدون عمد نراها غير الله عز وجل؟ ومن جعله يتنقل من حالة الصغر إلى حالة الكبر ومن منزلة إلى منزلة غير الله عز وجل؟ ومن جعله يضيء على جميع الناس في مشارق الأَرض ومغاربها غير الله عز وجل؟ ﴿هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ١١ [لقمان: 11]. يقول الله: ﴿وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ ٣٧ وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 37-40].

وقد دعا الله عباده إلى النظر والاعتبار في مخلوقاته ليزدادوا بذلك إيمانًا ويقينًا ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١ [آل عمران: 190-191]. ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١ [يونس: 101]. نعم إنها لا تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، فالآيات والعبر والتفكر المعتبر إنما تستفيد به النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق والمتوجهة إلى طلبه واتباعه، أما النفوس الشريرة كالطبيعيين الذين ينسبون كل شيءٍ للطبيعة وينسبون آيات الله ومخلوقاته في أرضه وسماواته إلى الطبيعة ويسميهم العلماء عبّاد الطبيعة فإِن الآيات والعبر لا تزيدهم إِلا نفورًا واستكبارًا وإلا جحودًا وعنادًا ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ١٤ [النمل: 14].

* * *

[155] البيتان للإمام الشافعي. [156] أخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس. [157] البيت لأبي العلاء المعري.

حكمة صلاة الكسوف

ومما يلحق بهذا الكلام ويجب التنبيه عليه للخاص والعام ما ينسب إلى بعض سفهاء الأحلام وضعفاء الأديان من طعنهم في صلاة الكسوف الثابتة مشروعيتها بالدلائل القطعية من دين الإسلام.

وذلك أن صلاة الكسوف هي نوع من الصلوات، وهي من آكد نوافل العبادات، شرعت الجماعة لها وأجمع العلماء على مشروعيتها على اختلاف بينهم هل تصلى جماعة أو فرادى. وقد صلاها النبي ﷺ جماعة فمن أنكر مشروعيتها فهو كافر لأن مسنونيتها معلومة بالدلائل القطعية من دين الإسلام.

انخسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ حين مات ابنه إبراهيم فقال الناس: انخسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله ﷺ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»[158].

فهذه الصلاة يستحب فعلها عند وجود سببها، كما تصلى صلاة العيدين عند وجود سببهما وكما تصلى صلاة الاستسقاء لطلب السقيا، وكما تصلى صلاة الاستخارة لطلب خير الأمرين؛ لأن العبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، قال الله: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر: 7].

فالذي أمر بصلاة الكسوف عند وجود سببها هو الذي أمرنا أن نصلي الفجر عند طلوع الفجر، وأمرنا أن نصلي المغرب بعد أن تغرب الشمس إذ الكل لله عز وجل، إلا أن هاتين فريضة وتلك نافلة، وقد استنبط العلماء مشروعيتها من قوله تعالى: ﴿فَإِنِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔمُونَ۩ ٣٨ [فصلت: 38].

إن الناس يعرفون سبب كسوف الشمس والقمر، فالفلكيون وغيرهم يرون أن السبب في كسوف الشمس هو توسط القمر بين الأرض والشمس، وأن خسوف القمر هو حيلولة الأرض بين القمر والشمس؛ لأن الكسوف للقمر عبارة عن ذهاب ضوئه وفلكه دون فلك الشمس، والأرض كرة فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس كسحابة تمر تحته إلى أن يتجاوزها من الجانب الآخر، فهذا ملخص كلام الفلكيين في سبب الكسوف والخسوف[159]، وقد عمموا التعليم بذلك في سائر المدارس العربية.

فمعرفة الناس لهذا السبب أضعف في نفوسهم شيئًا من حكمته وحكمة التخويف به والصلاة له، والسبب شيء وامتثال الأمر عند وجوده شيء آخر، وذلك أن الله سبحانه يحب من عباده أن يكونوا منتبهين دائمًا لعبادته والعمل للقائه والخوف من عقابه، لا سيما عند رؤية ما يذكرهم بالساعة وأهوال القيامة من كسوف وخسوف، حتى لا تستولي الغفلة واللهو عليهم فيؤخذوا على غرة وغفلة، يقول الله تعالى: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡ

[الأنبياء: 1-3].

فالكسوف يذكر بقيام الساعة وأهوال الآخرة: ﴿... وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ١٧ يَسۡتَعۡجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِهَاۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشۡفِقُونَ مِنۡهَا وَيَعۡلَمُونَ أَنَّهَا ٱلۡحَقُّۗ أَلَآ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فِي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٍ١٨ [الشورى: 17-18]. فالكسوف الأكبر للشمس والقمر يأتي على قرب ما نشاهده من الكسوف في الدنيا؛ لأن أول ما يبدأ به من أهوال الساعة هو خسوف الشمس والقمر، ثم تتناثر النجوم؛ لأن الله سبحانه إذا تم قضاؤه بفناء الدنيا وأراد أن يخلي الناس عنها وأن ينقلهم إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ [النجم: 31]. فعند ذلك يخسف بالشمس والقمر ويزيل النجوم، فتتناثر شبه من يريد هدم بيته فيزيل عنه سائر الأنوار والتجميلات، فيفك المصابيح ويزيل المراوح والمكيفات وسائر ما ينقل من التجميلات ثم يدك أعلاه على أسفله، يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13]. لهذا حث النبي ﷺ على الاستعداد لهذا الأمر عند ذكره وقبل وقوعه وذلك بفعل الصلاة المشروعة له التي هي من آكد التطوعات، كما أمر بالصدقات وأفعال الخيرات وقال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُوْنَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنَىً مُطْغِيًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟»[160].

نسأل الله أن يعمنا بعفوه، وأن يسبغ علينا واسع فضله، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في اليوم الثاني عشر من شهر جمادى الآخرة عام 1389 هجرية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[158] متفق عليه من حديث جابر. [159] المحققون من العلماء يقولون بهذا السبب ويقولون بجواز معرفة وقت الكسوف قبل وقوعه لكونه مما يدرك بالحساب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وابن القيم وابن حزم وغيرهم وكل ذلك بقضاء الله وقدره. [160] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.

(13) منع تصوير شخصية الرسول ﷺ وكلامه وحركاته

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل عمران: 164].

فأخبر الله سبحانه بأنه امتن على عباده المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. فبصر الناس من العمى وأنقذهم من الجاهلية، ويتلو عليهم آياته القرآنية ويفسرها لهم تفسيرًا يزكي به أخلاقهم ويطهر أعراقهم، فزكى أخلاقهم بالفرائض والفضائل وطهرها عن الشرك ومنكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن الشرائع الدينية هي التي تزكي النفوس وتطهرها وتنشر في العالمين فخرها، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، أي أن العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا في شر وشقاء وضلالة عمياء يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم نساء بعض، يقتلون أولادهم خشية الفقر ويئدون بناتهم خشية العار، فكانوا أشقى الناس عيشًا وأجوعهم بطونًا وأعراهم ظهورًا وأبينهم ضلالاً، وكانوا مضطهدين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، ولم تخشع لهم الأمم وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

فالإسلام والعمل بالقرآن هو الذي نفخ في العرب روح العزة والقوة والنظام، فأنشأ العرب نشأة مستأنفة خرجوا بعدها من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون ويدعون إلى اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي فسرعان ما دخلت محبته في قلوب الخاص والعام حتى دخلوا في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، فانتقلوا بهداية القرآن وبدعوة محمد عليه الصلاة والسلام من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والغلظة والأمية إلى العلم والحضارة والمدنية، ومن القساوة والشدة إلى اللين والرحمة، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا سمحة جديدة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ومجد وعلم وعرفان.

وقد أنجز لهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55]. وصدق الله وعده ونصر عبده فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إن الله قد أعزكم بالإسلام ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم الله[161].

وأنزل الله في يوم عرفة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3].

إن المحبة الصحيحة الصادقة للرسول عليه الصلاة والسلام توجب اتباعه فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع، ولما ادعى أناس محبة الله ورسوله أنزل الله عليهم آية المحبة ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران: 31]. فدعوى محبة الرسول مع مخالفة أمره تعتبر محبة كاذبة بالحس والوجدان وبالسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه ففضحته شواهد الامتحان.
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
فمحبة الرسول مع انتهاك حرمته بتنقصه واستهانة كرامته بالتمثيل بشخصيته أو صوته أو حركته تعتبر محبة كاذبة؛ لأن قبح الجفاء ينافي الحفاء ولأن المحبة الطبيعية لا تغني عن المحبة الدينية شيئًا، فهذا أبو طالب عم رسول الله ﷺ كان يحب الرسول أشد الحب ويحميه وينصره ويعترف برسالته ولكنه لما لم يتبع رسول الله على دينه ولم يطعه في أمره فصار في ضحضاح من نار يغلي منها دماغه؛ لأن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولما قال النبي ﷺ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»[162] أنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ [التوبة: 113]. وقد كتب الله رحمته للذين يتبعون رسول الله في أمره ويجتنبون نهيه فقال تعالى: ﴿... وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 156-158].

إن بعض الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام ويدعون محبة الرسول عليه الصلاة والسلام لكنهم يعملون عمل من يبغض الرسول ويعملون عملهم في إسقاط عظمته وحرمته وكرامته من القلوب، من ذلك ما سمعناه في هذه الأيام من الخبر المسيء لكل مؤمن غيور وذلك من إعلان بعض الشركات السينمائية عن عزمها على إنتاج فيلم سينمائي عن النبي ﷺ وحياته وتعاليمه، وكان منشأ هذه الفكرة ومبدأ هذه العزيمة هو من القوم الذين اتخذوا دينهم هزوًا ولعبًا وغرتهم الحياة الدنيا، فهم يحاولون التكسب بعرض صورة الرسول وحياته في السينما ولا يبالون بما يترتب عليها من فساد أخلاق الناظرين من سائر العالمين، وما يترتب عليها من ضرر الدنيا والدين والتهجم على رسول رب العالمين.

وهذا العمل بهذه الصفة يعتبر من باب فتح الفتنة على الدين وعلى رسول رب العالمين؛ إذ الكذب على رسول الله ﷺ ليس كالكذب على غيره، وهذا الفيلم هو صريح في محض الكذب على رسول الله، فإنهم لم يروا شخص رسول الله ولم يسمعوا كلامه ولم يروا حركاته وتصرفاته، فكل ما صوروه عنه من هذا القبيل فإنه كذب محض مناف للدين طبق ما نهى عنه رسول رب العالمين.

واليهود والنصارى والمشركون الوثنيون يحترمون الخوض في هذا الموضوع قداسة للرسول وكرامة لأمته، فلا يذكر عن هؤلاء أنهم مثلوا بصورته لكنهم متى بلغهم أن المسلمين أنفسهم قد فتحوا هذا الباب وأخذوا يمثلون بصورة نبيهم وحركاته وتعاليمه في السينما فإن أعداء الإسلام حينئذ سيدخلون من هذا الباب ويستبيحون هتك هذا الحجاب فيزيدون بكل ما يشتهون والبادئ بالشر أظلم، وإلا فكيف يسوغ للمسلمين أن يبدأوا بفتح هذا الباب لأقوام لا غرض لهم إلا محض التكسب بعرض صورة حياة رسول الله ﷺ وأفعاله وصوته وحركاته فيدخلونها في ضمن الألعاب السحرية التي تعبث بالعقول وتوقع في الفضول ويزيدون عليها ما يشاؤون ويشتهون.

فدعوى المخترعين لتمثيل قصصه عليه الصلاة والسلام في تبرير استباحة عملهم بأنه درس وعظ ديني مؤثر فإنه باطل وتدليس وتلبيس على الناس، فليس الأمر كذلك بل الصحيح أنها توضع وضعًا مزريًا مما يحط قدره وعظمته في نفوس الناس فليست بوعظ مؤثر أبدًا.

وجمهور المسلمين من العلماء والعوام في سائر أنحاء العالم يعدون تمثيل النبي محمد عليه الصلاة والسلام إهانة له ومزريًا بقدره وقداسته وكرامته، وكذا تمثيل سائر الأنبياء، ولا عبرة بشذوذ بعض القائلين بالجواز لزعمهم أن تمثيل الأنبياء ليس بإهانة لهم ولا مزريًا بأقدارهم، فإن هؤلاء يعتبرون من الأفراد القلائل الذين غلبت عليهم التقاليد الأجنبية بكثرة عرض أفلامها على مناظرهم حتى أزالت عن عقولهم التمييز بين الحق والباطل والنافع والضار وحتى صاروا يفضلون هذه العادات السيئة على الآداب الإسلامية.

إنه متى كان الملوك والأمراء وكبار العلماء من أهل الدين لا يسمحون لأحد أن يمثل بأشخاصهم وأصواتهم وحركاتهم ويعدون ذلك زراية وسخرية بهم وحطًّا من أقدارهم ويعاقبون من فعله، فما بالك بتمثيل شخصية الرسول أو أحد من الأنبياء والتمثيل بصوته وحركته، أليس أحق أن يحترم ويمنع منه لأنه يحط من قداسة قدره في أنفس العوام وعلى طول الزمان يضعف الإيمان به فلا يؤمنون إلا بما يشاهدونه من صورته المكذوبة، لكون الممثلين إذا أرادوا أن يمثلوا أحدًا من الأنبياء كإبراهيم ويوسف ومحمد عليهم الصلاة والسلام عمدوا إلى رجل من جفاة الأعراب وافر الشعر كث اللحية فأوقفوه ليأخذوا صورته، ثم خاطبوه بالرسالة قائلين: يا رسول الله ما قولك في كذا وكذا فيقول: كذا وكذا، ولا يزالون يرددون عرض هذا التمثيل على مناظر الناس وأسماعهم حتى تزول بذلك عظمتهم وهيبتهم من القلوب، والرسول بشر ميزه الله بالرسالة وألقى الله عليه الهيبة والجلال والجمال وأن كل من رآه هابه وكل من رآه أحبه. كما قال عبد الله بن سلام: لما قدم النبي المدينة ورأيت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب[163]. فتمثيل شخصيته تغيير في حالته وعظمته وهيبته يؤدي إلى إسقاط حرمته وكرامته، فهي إلى المهانة أقرب منها إلى المهابة لأنها كذب محض في مبناها ومعناها، والنبي ﷺ قال: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار». رواه البخاري ومسلم وغيرهما من رواية سعيد بن زيد[164].

فدعوى المنتجين لهذا الفيلم بأن الرسول عليه السلام وأهل بيته لن يظهروا لا صوتًا ولا صورة فهذا قول منهم ولا يلزم أن يتقيدوا به دائمًا، ولا أن يتقيد به غيرهم متى كان الباب مفتوحًا والمجال مفسوحًا، ومن العادة أن كل مشروع يشتمل على أمر محرم كهذا بحيث تشمئز منه نفوس الناس وتنكره قلوبهم فإنهم يلطفونه في ابتدائه بما يستدعي قبوله وعدم النفرة منه بأنواع من التلبيس والتدليس بالحق ثم يتدرج من سيئ إلى أسوأ حتى ينتهي إلى غايته في الشر، وملاك الأمر خواتمه. وأما قولهم بأنه صدر في إباحته فتوى من بعض العلماء فلا يبعد وقوع هذه الفتوى، وما كل فتوى تستحق القبول والعمل بها، وما كل من أمسك الكتاب حكيم، وكم كلمة قالت لصاحبها: دعني.
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها
وقد شبهوا زلة العالم بغرق السفينة يغرق بغرقها الخلق الكثير، وأكثر ما يهدم الإسلام زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين، وأخبر النبي ﷺ أن الناس في آخر الزمان تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، ومن نوع هذه الأهواء ما نحن بصدد الكلام في موضوعه والذي نستبعد وقوعه من العرب المسلمين في نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام ﴿فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 157].

لقد أنكر جميع علماء المسلمين هذا العمل وأيدوا بشاعته ووجوب منعه ونهوا عنه أشد النهي، وحذروا من التطرق من جهة هذا الجسر الذي يفضي إلى الأخطار الدينية الجسيمة التي تنجم عن هذا المشروع قائلين: إننا نحن المسلمين متى تساهلنا بفتح هذا الباب لتصوير شخصية محمد رسول الله ﷺ في الأفلام السينمائية فلن نستطيع سده بعد اليوم على غير المسلمين، وستعمل الشركات الأجنبية عملها في بلاد العالم في إنتاج أفلام سينمائية كثيرة عن حياة الرسول، وإن الشركات السينمائية لن تقف في أفلامها عند حدود التعظيم والتقديس لشخصية الرسول بل سوف تنتج على ذوقها وحسب رغباتها التجارية وبدافع من اليهود أفلامًا تتخيرها من القصص الكاذبة التي افتراها اليهود والمشركون وغيرهم من أعداء الإسلام على النبي ﷺ في حياته الخاصة وحياته السياسية، وإن الدول الأجنبية لا تسمح أبدًا للشركات السينمائية في إخراج أفلام عن شخصية محمد رسول الله احترامًا منها لمشاعر المسلمين في العالم وحفاظًا على حسن علاقاتها مع الدول الإسلامية.

أما إذا فتحنا نحن المسلمين هذا الباب بأنفسنا فإننا لا نستطيع بعد ذلك مطالبة الدول الأجنبية بمنع الشركات السينمائية في بلادها من إخراج أفلام أخرى، ويفتح الباب على مصراعيه للمفتريات والأكاذيب على الرسول، ويصبح الجدل عقيمًا حول صحة ذلك أو عدم صحته، وإن الوسيلة الوحيدة لحماية كرامة رسول الله عن هذه المفتريات والإسرائيليات هي أن نسد نحن المسلمين باب هذه الفتنة سدًّا للذريعة ونمتنع عن إخراج فيلم سينمائي عن شخصية النبي ﷺ، وإذا لم نفعل فسوف يؤدي فتح هذا الباب إلى كوارث وفتن عمياء، وعلى كل مسلم وخاصة العلماء فرض لازم من قول الحق، والأمر بالخير والنهي عن الشر، وإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

نسأل الله الهدى والسداد ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأفعال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

حرر في 12 شعبان سنة 1396هـ.

* * *

[161] أخرجه ابن المبارك في الزهد عن طارق بن شهاب. [162] متفق عليه من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه. [163] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عبدالله بن سلام. [164] ومثله القرآن الكريم فإنه نزل بلسان عربي مبين، فلو حاول أحد أن يغيره عن لغته لزالت بلاغته وذهبت عظمته وتغيرت أحكامه وحكمته وزال عن صفة كونه قرآنًا، لأن ترجمته بأي لغة من اللغات الأجنبية توقعه في التشويه والتشويش، ولا يمكن لأحد أن يأتي في الترجمة بمثل لغته وبلاغته، فلا تسمى ترجمته قرآنًا بإجماع علماء الإسلام، بل إنها تبتعد كل البعد عن معاني القرآن. وكذا تصوير شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام فإنها تبعد عن صفته وعن جلاله وجميل خلقته.

(14) جواز الاقتطاف من المسجد والمقبرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله.

أما بعد:

فإنه من المعروف المألوف عند كل إنسان وفي كل مكان، أن أحوال الناس في البلدان تتطور من حال إلى حال، فتقوى أحيانًا وتضعف أحيانًا، وعلى أثر النماء والقوة تتسع في العمران، فيبدو لها حالات، ويتجدد لها حاجات غير حالاتهم وحاجاتهم في سالف الأزمان؛ لأن الله سبحانه يدبر أمر عباده فيبتليهم أحيانًا بالفقر ونقص الأرزاق، واختلال الأحوال وقلة المال، وأحيانًا يبتليهم ببسط الرزق، وفيض المال واتساع العمران، وكثرة السكان، على حسب ما يعرض لهم من أسباب النمو والفناء والفقر والغناء، ولكل زمان دولة ورجال.

وقد كانت البلدان العربية المتجاورة، وهي المقاطعة الشرقية وبلدان الخليج وعمان، كانت توصف هذه البلدان في قديم الزمان بأنها البلدان العابسة اليابسة قليلة المال سيئة الحال، ومضى اتصافها بذلك أحقابًا من الأزمان يتمتع أهلها بشظف من العيش وقلة من المال، تشبه عيشتهم حالة الصحابة قبل أن يفتح في زمنهم شيء من البلدان، وكانت موارد الثروة عندهم قليلة جدًّا، والعمال عاطلون، وقد يعمل أحدهم اليوم كله بشبع بطنه، وبأجرة زهيدة، وعمدة كسبهم من غياصة البحر لاستخراج اللؤلؤ وهو من أشق الأعمال، وغالب كسبهم منه لا يزيد على قوت سنتهم، وقد يصيب منه بعضهم ويخطئ أكثرهم. لهذا تجد غالبيتهم موقرين من الديون، وعلى أثر هذا الضعف تجد مساكنهم متواضعة في غاية من الرثاثة، مبنية بالطين ومسقفة بالخشب وجريد النخل. أما قلة الغبطة وكساد القيمة في العقارات في هذه البلدان، فلا تسأل عنه، فقد كانت في غاية من السقوط والهوان إلى حد النهاية من أجل كساد غلتها لتلاشي أحوال الناس، وعدم الوجود للنقود، فكانوا يتبايعون البيوت بالعشرات من الريالات والبيوت النفيسة يتبايعونها بالمائة والمائتين من الريالات، وما يباع بمائة ريال في ذلك الزمان، فإنه يباع الآن بما يعادل مائتي ألف وثلاثمائة ألف ريال.

وهذا الضعف والكساد قد استمر بهم إلى نهاية الستين والثلاثمائة وألف هجرية، وعلى هذا الضعف إذا مات أحدهم دفنوه بالقرب من البلد أو بالقرب من بيته؛ لهذا تجد المقابر في هذه القرى متوزعة في كل جهة، غير محتازة في مكان واحد، ويكون في البلدة الصغيرة عشر مقابر وعشرون مقبرة؛ لرخص مساحة الأرض في نفوسهم، وضعف أملهم في نفاستها، مع قصر نظرهم عن وسائل الصحة، وعمل الوقاية الذي يتطلب منهم إبعاد المقبرة عن الأحياء إلى حالة أن بعض البلدان تجد فيها المقبرة متصلة بسوق البلد بدون حائل، والسوق هو موضع زحمة الناس واجتماعهم وبيعهم وشرائهم، وإنما سمي سوقًا من أجل أن الناس يقفون فيه على سوقهم.

وكانت طرقهم مجانسة لحالة بيوتهم، ضيقة ملتوية على قدر ما يجوزها البعير والحمار، لكون وسائل النقل للأحمال والأثقال مقصورة على البعير والحمار، فاستمر عملهم طيلة السنين على هذا الصنيع، لا ينظرون إلى سعة طريق ولا إلى إزالة وسائل التعويق.

وفي عام الستين بعد الثلاثمائة وألف هجرية، الموافق لعام اثنين وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية، بدأت حركة نشاط هذه البلدان ببدء نجاح استنباط البترول فيها، وهو كما يعرفه الناس بأنه عظيم الشأن والموصوف بالذهب الأسود في لسان كل إنسان، فارتفع به ضعف هذه البلدان، وتوافد إليها العمال والصناع والسكان من كل مكان، فاتسع بها العمران وبدأ بها تنظيم الشوارع والبنيان، وتوفرت بها وسائل الراحة والرفاهية لكل إنسان، من إدخال الماء والكهرباء في بيوت الخاص والعام، وهذا يعد من الفتح لزهرة الدنيا وزينتها، وفيه ما فيه من المنافع والمضار، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ». قيل: وما بركات الأرض؟ قال: «زَهْرَةُ الدُّنْيَا». فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فصمت رسول الله حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، ثم قال: «أين السائل؟» قال: أنا. قال: «إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرَ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امتلأت خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ».

ففي هذا الحديث خاف النبي ﷺ على أمته مما يخرج الله لهم من بركات الأرض وزينتها، فسماه بركة وخيرًا وخاف على أمته منه، فالمال خير إذا استعمل في سبيل ما خلق لأجله، بأن أخذه من حقه وصرفه في حقه واستعان به على طاعة ربه وتمتع به إلى ما هو خير منه في آخرته، فيكون في حقه حسنات ورفع درجات في الجنات، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور ورفيع الدرجات، ويكون شرًّا في حق من يأخذه من غير حقه ويصرفه في غير حقه ويمنع الحق الواجب لله فيه، من زكاة وصدقة وصلة، فالفعل السيئ فيه هو الذي يجعله شرًّا وإلا فإنه خير وبركة وزينة، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [الأعراف: 32].

فكل ما خلق الله في الدنيا من صنوف الذهب والفضة والمعادن الخامدة والسيالة والجواهر والحيوانات وأصناف الثمرات، وسائر الفواكه والخيرات، كل هذه خلقها الله كرامة ونعمة لابن آدم، يتنعم بها في دنياه ويتمتع بها إلى ما هو خير منها لآخرته، ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ [سبأ: 15]. ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓ [العنكبوت: 17]. ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81]. فأمر الله عباده بالأكل من طيبات ما رزقهم وحذرهم من الطغيان فيه، وهو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان، بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، فكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث، من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال الناس السيئة فيه؛ لأن أفعال الناس في الدنيا تقع غالبًا على الأمر المكروه أو الأمر الحرام، من أكلهم الربا وشربهم الخمور وتوسعهم في أعمال الفجور والشرور.

فالذم ينصرف إلى هذه الأعمال لا إلى نفس المال. وحيث وجد هذا الثراءُ الطائل في مكان، فإنه المعشوق المرموق مغناطيس النفوس، ومن ضرورة وجوده يتطلب المراكب والآلات التي تحمله وتسيره، لكون إبل العرب أصبحت لا تطيق حمل ثروتهم، فاحتاجوا إلى جلب آلات الحديد من قطارات وسيارات وحفارات وتراكتورات وسائر الآلات والأدوات، وكل سوق فإنه يجلب إليه ما نفق فيه.

لهذا السبب غزت الحضارة الغربية هذه البلدان العربية، بعددها وعددها وحديدها ومراكبها المعدة لحمل الأثقال والتي تشبه في ضخامتها وعظمتها القصور، وهذه المراكب تحتاج بطبيعة الحال إلى طرق واسعة ومساحات فسيحة تلائمها، وتأمن الاصطدام بما يسايرها من أمثالها ومن يلقاها معاكسًا لسيرها، كما يأمن الناس من أضرارها، على أن الطرق الواسعة أصبحت من ضروريات السكان ومن مصالح الخاص والعام، كما أنها من مفاخر البلدان، والله جميل يحب الجمال، وهذه الأشياء التي عادت من ضروريات هذا الزمان ما كان الناس يحتاجون إليها في سالف الأزمان، وقد قيل: «إن الحاجات هي أم الاختراعات وإن الضروريات تستدعي التسهيلات». لهذا صار من مفاخر الحضارة والمدنية فتح الشوارع الواسعة المتخللة للبلد وخارجها لكون حكمة تخطيط الشوارع وصلبها واتساعها وتسهيل السير عليها، هي من لوازم الحضارة للسكان. ولقد كان لسلفنا الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين الحظ الوافر والسبق الطائل إلى هذا الشأن، فقاموا بتنظيمه أتم قيام.

من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا عزم على تخطيط الكوفة وكان سببها على ما ذكر ابن جرير في التاريخ ج 4 ص189، أن المسلمين لمّا فتحوا المدائن وسكنوها استوخموها، فنحفت أجسامهم وتغيرت ألوانهم وكبرت بطونهم وآذاهم الغبار والذباب، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إليه عمر وقال: إن العرب لا يصلح لهم المكان إلا ما صلح للبعير والشاء، فارتد لهم منزلاً بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم بحر ولا جسر. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبًا، فمرا على أرض الكوفة وهي حصباءُ في رملة حمراء فأعجبتهما وكتبا إلى سعد يخبرانه بذلك، فسار إليها سعد بنفسه في أول شهر المحرم سنة سبع عشرة من الهجرة فنظر إليها فأعجبته، فكان أول ما بدأ به تأسيس المسجد، وأمر سعد رجلاً راميًا شديد الرمي فرمى من المسجد إلى أربع الجهات، وحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وأذن لهم سعد بأن يعمروا بيوتهم ويدعوا للطريق المنهج سعة أربعين ذراعًا، وللطريق الذي دون ذلك ثلاثين ذراعًا، وللطريق الصغير عشرين ذراعًا، وللأزقة سبعة أذرع، والقطائع أي الأراضي التي تجعل بيوتًا ستين ذراعًا، وجعل المسجد مائتي ذراع. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية نحو ذلك.

وقبل هذا بسنتين أي عام 15 هجريًّا أرسل عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان لتخطيط البصرة، وأرسل معه عبد الرحمن بن أبي بكرة، وزياد بن أبيه، وأمره أن يخططها، فعمل تخطيطها، وكانت أرضًا ذات حجارة غليظة، فأجرى التخطيط فيها على نحو ذلك، وكان أول من غرس فيها النخل عبد الرحمن بن أبي بكرة ولم يسبقه إلى ذلك أحد، ذكره صاحب معجم البلدان.

فهذا مشروع عمل الصحابة في تنظيم البلدان وتخطيط الطرق قبل أن يوجد في زمنهم شيء من القطارات أو السيارات أو الآلات الضخمة، كما يوجد في هذا الزمان، لكنهم ينظرون برأي الحزم وفعل أولي العزم إلى ما عسى أن يقع بعد ألف عام كنظرهم إلى وقت الآن؛ لعلمهم أن للإسلام الاعتناء التام بتنظيم البلدان وفتح الطرق الواسعة وتنظيفها، إلى حالة أن إماطة الأذى عن الطريق يعد من شعب الإيمان، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، والله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم. أي طرقكم.

هذا وإن تنظيم البلدان بالعدل وتنظيفها عن الظلم هو أكبر ما يهتم به الإسلام ويوصي به الخاص والعام، لكون الظلم والعدوان مؤذنًا بخراب العمران ونفرة السكان؛ لأنه متى حصل على الناس الاعتداء في أموالهم بأخذها وعدم أداء ثمنها، فإنهم بذلك تضعف آمالهم وتنقبض أيديهم عن السعي والكسب وجلب الحاجات والتوسع في التجارات، لعدم الثقة وضعف الأمل في الوفاء بالعقد، فيكسد السوق من أجل ذلك؛ لأن استقرار العمران ووفرة السكان ونفاق أسواق البلدان إنما هو بالثقة والأمانة والاطمئنان، وعمل الوسائل في تسهيل موارد الثروة والتجارة ومصادرها، والمسلم إذا دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء عرف أنه قد دخل معه في عهد وأمانة، والله يأمر بالوفاء بالعقود وأداء الأمانات إلى أهلها، كما في الصحيح عن حذيفة بن اليمان أنه قال: لقد مضى علي زمان لا أبالي أي الناس بايعت؛ إن كان مسلمًا رد مالي إلى دينه - أي ثمن ما يشتريه - وإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا رده إلي ساعيه.[165] أي السلطان عليه، وذلك لوجود الثقة والأمانة وقوة الوازع، ومتى فقدت الثقة والأمانة من البلد كسدت أسواقها وانتقضت أحوالها وآذنت بخرابها ولو بعد حين. وكتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب بلده ويطلب منه مالاً يعمرها به، فكتب إليه: أما بعد، فقد كتبت إلي تذكر خراب بلدك وتطلب مالاً تعمرها به، فإذا أتاك كتابي هذا فخطها بالعدل ونق طرقها من الظلم، فإنه عمارها، والسلام.

وأما عثمان بن عفان، فإنه لمّا أراد أن يوسع في المسجد النبوي، حيث ضاق بالناس، فعزم على أخذ البيوت المجاورة له، حسب ما تبلغ من أثمانها، فامتنع بعض الناس عن الموافقة عن بيع بيوتهم، فألزمهم بالموافقة ووضع أثمانها في بيت المال، وأشهد عليها الصحابة، ثم هدمها كرهًا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، لكون المضار الجزئية تغتفر في جنب المصالح العمومية، ولأن المدينة بما فيها من المساجد والطرق موضوعة لعموم الناس لا للخواص، فمتى شذ أحد عن الموافقة لفساد طبعه أو سوء طمعه ألزم بالموافقة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لاعتباره من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع وأحكامه.

كما قضى رسول الله ﷺ بانتزاع الشقص المشفوع من يد مشتريه بثمنه لمصلحة الجار ودفع ضرره، فما بالك بمصلحة عموم الناس ودفع الضرر عنهم. ولمّا اشتكى رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وقال: إن لأبي لبابة نخلة في حائطي، وإنه يدخل علي وأنا غافل مع أهلي، وطلبتها منه بالثمن وامتنع عني، فدعا رسول الله أبا لبابة، وقال: «بعه هذه النخلة بنخلة مثلها». قال: لا. قال: «بنخلتين؟» قال: لا، فقال رسول الله ﷺ: «اذهب فأخرج له نخلة مثل نخلته مما تلي حائطه، واضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار»[166].

والحاصل أن دين الإسلام مبني على جب المصالح ودفع المضار، وأنه له النظر العالي في هذا الشأن، لأنه ليس بحرج ولا إغلال، ولا عقبة كؤود دون الإصلاح والكمال، فلا يمنع أهله من الحضارة ولا التجول في التجارة المباحة، لأن الإسلام عدل الله في أرضه، ورحمته لعباده، لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية.

وإنما تضيع مصالحه وتختفي محاسنه بين الجاحد والجامد، وإلا فإنه صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام.

ذلك بأنها لمّا انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين، وترقية العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية، وتعميم الأحكام الشرعية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن وأنشأوا المساجد ونشروا العلوم والمعارف، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نظرية جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.

والمقصود أن الناس العام منهم والخاص، قد استقر في نفوسهم استحسان فتح هذه الطرق وتوسعتها، وقد عرفوا تمام المعرفة عموم مصلحتها، وذاقوا حلاوة منفعتها، ولأجله استسلموا لهدم ما يعرض لها من عقارات رفيعة أو وضيعة، يبقى النظر في المواضع المحترمة، مثل المسجد والمقبرة متى صمد الطريق إليهما أو إلى أحدهما والتي يتعاظم الناس التصرف فيها بهدمها، ومسؤولية البيان وعدم الكتمان مطلوب من كل عالم، ولا يذهب العلم حتى يكون مكتومًا. وقد قلنا: إن دين الإسلام مبني على جلب المصالح ودفع المضار، وإنه صالح لكل زمان ومكان، وقد نظم حياة الناس أحسن نظام بطريق العدل والإصلاح والإتقان، ونحن لا نذكر في هذا المقام شيئًا إلا مرفقًا بدليله، حسب مبلغ علمنا، ولا علم لنا إلا ما علمنا ربنا، وقد يخفى علينا ما قد يظهر لغيرنا، ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ [يوسف: 76].

* * *

[165] متفق عليه من حديث حذيفة بن اليمان. [166] أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث واسع بن حَبان.

المسَاجد

المساجد هي أشرف بقاع الأرض وأعظم حرمة من المقابر وغيرها؛ لأنها بيوت الله، ﴿أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ ٣٦ رِجَالٞ [النور: 36-37]. ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ [البقرة: 114]. وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» [167]، فمتى حصل مندوحة عن المسجد كان من الواجب احترامه باستبقائه على حالته، أما إذا صمد إليه الطريق حسب التخطيط الجاري على البلد، فإن التصرّف بهدمه جائز متى تحقق استبداله بغيره، كما يجوز في بيوت الناس من الأرامل واليتامى والأوقاف وغيرهم، لكون المفاسد الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، ولأنه لا يراد من هدمه إزالته، بإزالة التعبد فيه، وإنما يراد إبداله بمثله أو بما هو أصلح منه فيستفيد الناس المصلحتين معًا؛ بقاء المسجد وسعة الطريق، والكل لله وفي سبيل مصالح عباد الله، وقد جرى العمل بهذا من الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين، ولم ينكره أحد منهم.

من ذلك أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن بيت المال بالكوفة قد نقب وسرق، فكتب إليه يأمره بأن يهدم المسجد ويجعله سوقًا، وأن يجعل السوق هو المسجد، ويكون بيت المال في قبلته، فإنه لا يزال في المسجد مصلى، وكتب إلى ابن مسعود بذلك، وكان عامله على القضاء بالكوفة. ذكره ابن جرير في التاريخ، وفعلاً هدم المسجد وجعله سوقًا وجعل السوق هو المسجد، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، لكونه من التصرف الحسن الملائم لمقاصد الشرع ومحاسنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن إبدال المسجد لمصلحة راجحة مثل أن يبدل بخير منه أو يبنى بدله مسجد آخر أصلح منه لأهل البلد، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء، واحتج أحمد بأن عمر نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر وصار المسجد الأول سوقًا للتمارين. قاله في المسائل الماردانية. وحيث جاز مثل هذا التصرف في المسجد، فإن كل شيء دونه، وتكون المقابر أولى بالجواز كما سيأتي بيانه.

* * *

[167] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

المقابر

قد تقدم الكلام على صفة عمل الناس في المقابر في غابر الأزمان، وأنهم كانوا يدفنون موتاهم بالقرب من بيوتهم، حتى إنك لتجد في القرية الصغيرة عشر مقابر وعشرين مقبرة متخللة لجهات البلد، لهذا كان من الضروري عند تخطيط الشوارع أن يمر الطريق على بعضها، ويتحاشى حكام المسلمين التصرف فيها إلا بالاستناد إلى فتوى عالم أو علماء يتقون بها عذل العوام، والإنحاء بالملام، فقد ثبت في صحيح الآثار وفي السير والأخبار أن رسول الله ﷺ لمّا هاجر إلى المدينة اختار الله لمسجده مكانًا بركت فيه ناقته، وكان مربدًا لرجلين من الأنصار هما: سهل وسهيل، فقال: «ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ». فقالا: لا نطلب ثمنه إلا من الله، بل نهبه لك يا رسول الله، وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله ﷺ بالقبور فنبشت وبالنخل والشجر فقطعت ثم بناه مسجدًا[168]. وهذا أمر ثابت لا مجال للشك في صحته.

لكن قد يظن بعض من سمعه من العلماء أن هذا التصرف من النبي ﷺ في نبش قبور المشركين من هذا المكان أنه من أجل كونهم مشركين، كما يفهم من عبارة بعض الفقهاء، قال في الإقناع للحجاوي: ويجوز نبش قبور المشركين وجعلها مسجدًا، كما فعل رسول الله، والصحيح أن هذا النبش اقتضته الحاجة وعموم المصلحة لا لكونهم مشركين، ولأن القبور لا تجامع المسجد بحال، فقد لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، فاقتضى شرعه تطهير هذه البقعة من هذه القبور بنبشها قبل تمهيدها مسجدًا، والمقتضي لذلك هو الحاجة، وعموم المصلحة، وإلا فإن النبي ﷺ لم يتعرض لنبش قبر أحد من المشركين من أجل جريمة شركه، كيف وهؤلاء من مشركي الفترة ولهم حالة غير حالة من بلغته الدعوة، فهذا التصرف يستدل به على جواز نبش القبر أو القبور للحاجة وعموم المصلحة حتى ولو كانت قبورًا للمسلمين، وقد علم الصحابة ذلك وعملوا به في قبور الشهداء الذين هم أشرف المقبورين.

من ذلك أن عين حمزة التي يشرب منها أهل المدينة إنما أحدثها معاوية في خلافته وأمر بنقل الشهداء من موضعها، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب لم ينتنوا حتى أصابت المسجات رجل أحدهم فانبعثت دمًا (قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول صفحة 14 من الطبعة القديمة).

وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز نبش القبر وتحويله إلى مكان غيره للحاجة، قال في الإقناع للحجاوي: ويجوز نبش الميت لغرض صحيح كتحسين كفنه، ولبقعة خير من بقعته، وإفراده عمن دفن معه. انتهى.

وفي البخاري عن جابر قال: كان أبي أول قتيل قتل يوم أحد، فدفن مع رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجته وجعلته في قبر على حدة، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه.

فقولهم: إنه يجوز نبش الميت والموتى لغرض صحيح يدل بمنطوقه على جواز نبشه عندما يعرض لجهة الطريق لكون هذا غرضًا صحيحًا كما هو ظاهر المذهب، إذًا الحاجة إلى استقامة الطريق الذي هو من مصلحة جميع الناس أشد من الحاجة إلى ما ذكروا، والقول بهذا يتمشى على تقدير بقاء عظام الميت أو لحمه، أما إذا ذهبت عظامه وصارت ترابًا فإنه يجوز الانتفاع بالقبر مطلقًا في الحاجة وبدون حاجة، فبعض العلماء قدّره بمائة سنة، والصحيح عدم التقدير بهذا الحد، لكون حالة الميت تختلف باختلاف محل قبره، فبعض المقابر حصينة حارة، يبلى الميت بها بسرعة، وبعض المقابر رملية يبقى الميت فيها مائة سنة، فكونه يبلى إنما يعرف بالمشاهدة.

فإن قيل: إن القبر وقف على الميت لا يجوز التصرف فيه حتى يبلى وتذهب عظامه، قلنا: نعم، فهذا هو الحكم فيه عند عدم الحاجة إليه، لكن متى دعت الحاجة إلى أخذه لسعة الطريق أو توسيع المسجد، جاز ذلك كما فعل الصحابة، كما قلنا: إن بيت المسلم محترم لا يجوز التصرّف فيه بدون إذنه. وكذا المسجد والأوقاف الخيرية والأهلية، ومثله القبر فمتى دعت الحاجة إلى استعمال المقبرة لسعة السوق أو الطريق أو لراحة الأحياء وسلامة أرواحهم، والوقاية من اصطدام السيارات التي هي مراكب الحديد والتي ينجم عنها الضرر والبأس الشديد، فإن هذا جائز شرعًا وعرفًا، كما يخرج الحي عن بيته ويهدم بغير رضاه واختياره، لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكما يجوز هدم المسجد لتوسعة الطريق فهذا أولى بالجواز، لكون حاجة الحي مقدمة على حاجة الميت، كما نص الفقهاء، فمن عنده خرقة يحتاج إليها ميت لتكفينه وحي يستر بها عورته؛ تدفع إلى الحي، أما كون الحي يدفع له التعويض عن بيته بخلاف صاحب القبر فهذا لا يمنع من الفرق؛ إذ الحي محتاج إلى بيت يستر عورته وأهله، بخلاف صاحب القبر، فإنه لا حاجة له بثمن قبره، وإنما حاجته أن تستر عظامه في محل يشبه القبر.

يبقى الكلام فيما إذا كانت الحاجة أو الطريق يستدعي التعرّض لقبور كثيرة، فهل الأولى نبشها ونقل العظام إلى مكان آخر، أو تسطيحها ويبقى الميت على حاله في محله؟

فالجواب أنه من القواعد المقررة جواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ومن المعلوم أن نبش القبور فيه شيء من البشاعة، بحيث تنفر منه طباع الناس ويعدونه هتكًا لحرمة الميت، أما تسويتها والانتفاع بسطحها، فإنه ألطف وأستر، وأما نبش النبي ﷺ لقبور المشركين فإنه قد أعده مسجدًا فلزم تطهيره من قبورهم، وكذلك الصحابة في قبور الشهداء في إجراء عين حمزة، فإنهم حفروا المجاري فوصلت إلى القبور وهم رطاب لم ينتنوا، فلزم نبشهم ونقلهم إلى مكان آخر، وليس كذلك الطريق حينما يتعرّض للقبور، فإن استبقاء الميت على حاله في محله مع الانتفاع بسطح قبره لا يضر بكرامته ولا يهتك حرمته، وفيه الجمع بين مصلحة الحي والميت، وغاية ما يمنعه هو الأحاديث الواردة في النهي عن القعود على القبر والوطء عليه، كما روى مسلم قال: نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه[169]. وروى مسلم أيضًا عن أبي مرثد الغنوي أن النبي ﷺ قال: «لَا تَجْلِسُوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا»، وعن أبي هريرة أن النبيﷺ قال: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، وَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ مُسْلِمٍ» رواه مسلم. فهذه الأحاديث في النهي عن الجلوس والوطء على القبر قد حمل الفقهاء من الحنابلة والشافعية والأحناف هذا النهي على الكراهة، وهذا هو مقتضى تعبير الحنابلة في كتبهم، قال في الروض المربع: ويكره الجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه. وفي الإقناع و المنتهى نحو ذلك.

قال النووي في المجموع: وأرادوا به كراهة التنزيه. وفي الإقناع و المنتهى نحو ذلك. وحكي عن الإمام مالك أنه قال: لا يكره الوطءُ على القبر، قاله في المجموع أيضًا. ومتى كان النهي عن الجلوس والوطء للكراهة، فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة، ولأجله قلنا بترجيح تسوية قبر الميت والانتفاع بسطح قبره مع بقاء الميت على حاله في محله، ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر هذه التسوية في جواب سؤال عن مسجد فيه قبر، وهل تجوز الصلاة فيه، فقال: لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غير، إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدًا، وإن كان المسجد بني بعد القبر، فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل. انتهى من المجلد الثاني من الفتاوى - الطبعة القديمة- ص192. فقد عرفت كيف ذكر تسوية القبر بإذهاب صورته ولم يبق ما يعارضه مما يمنعه سوى الأحاديث الواردة بالنهي عن الوطء عليه والجلوس عليه ونحو ذلك، وقد قلنا: إن النهي فيها للكراهة، والكراهة تزول بأدنى حاجة.

ثم إنه لم يكن المراد من هذا النهي تأذي الميت بما يفعل الناس بقبره من وطء وغيره، كما يتصوره بعض الناس، فإن الميت لا يحس بشيء من ذلك أبدًا، إذ هو ميت، وما لجرح بميت إيلام، حتى لو أن رجلاً حيًّا اضطجع باللحد وردم عليه بالحجارة، ثم سوى التراب عليه كما يفعل بالميت، فإنه لن يحس بوطء قبره ولا بدوسه لكثافة التراب فوقه، فما بالك بالميت. فنهي النبي ﷺ عن الوطء عليه وقوله: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ، كَكَسْرِهِ حَيًّا»، رواه أبو داود. وقوله: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» رواه البخاري، وقوله: «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ»[170]، إنما مراد النهي في هذا الحكم هو بيان حرمة المسلم حيًّا وميتًا، وأن احترام قبره عنوان احترام شخصه، كما أن مهانته تدل على مهانته.

ولهذا نرى العرب في شركهم ينحرون الجزر على قبر من يعظمونه كما أن الشعراء يشيدون بمدح قبر من يحبونه، وكذلك الجبابرة الظلمة يحرقون جثث من يبغضونه ويرمون بالحجارة قبر من يبغضونه، كما كانت العرب ترجم قبر أبي رغال، وكان قائد فيل الحبشة إلى مكة لهدم الكعبة. ولمّا بلغ عمر بن الخطاب أن غيلان بن سلمة طلق نساءه، وقسّم ماله بين أولاده، على إثر مرض أصابه، دعاه عمر فقال: إني أرى الشيطان نفخ في صدرك أنك تموت من مرضك، فطلقت نساءك وقسمت مالك بين عيالك، فوالله لتراجعن نساءَك ولتردن مالك أو لآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال[171].

والحاصل أن الميت لا يحس بما يفعله الحي بقبره، لا من نعيم ولا من عذاب أليم، لكونه ميتًا قد انقطع عنه الإحساس، وإنما يحس بما يصل إليه من الله من نعيم أو عذاب أليم، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الرجلين يدفنان في القبر الواحد، فيكون على أحدهما روضة من رياض الجنة، وعلى الثاني حفرة من حفر النار، بدون أن يحس أحدهما بعذاب الآخر أو نعيمه. كما اتفقوا أيضًا على أن الرجل لو احترق حتى صار هباءً منبثًّا أو أكله سباع البر أو حيتان البحر، فإنه لا بد أن يمتحن عن سؤال القبر، كما روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ قال: «كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُوا نِصْفِي فِي البَحْرِ، وَنِصْفِي فِي البَرِّ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلَ بِهِ بَنُوهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ؛ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَالْبَرَّ؛ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ»[172] الحديث.

* * *

[168] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [169] أخرجه مسلم من حديث جابر. [170] رواه أبو داود عن ابن عمر. [171] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن عمر. [172] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.

الرُّوح وما يتعَلّق بهَا

اختلف العلماء في عذاب القبر، هل هو على الجسم والروح أو على الروح فقط، ورجحوا كونه على الجسم والروح وأن الجسم يفنى حتى يصير ترابًا، ولسنا من الفكرة التي يحكيها بعض أهل الكلام من قولهم: إن تراب الأرض متكوّن من أجسام الموتى، وأنشدوا في ذلك:
رويدًا بأخفاف المطي فإنما
تداس جباه في الثرى وخدود
فإن هذه الفكرة لا يوافقها العقل ولا يصدقها النقل. والقول الصحيح هو أن الروح تبقى بعد مفارقتها للبدن منعمة أو معذبة، فهي من الأشياء التي لا يعتريها الفناء، وقد نظمها بعضهم فقال:
ثمانية حكم البقاء يعمها
من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
وأشار بالعجب إلى عجب الذنب كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «يَبْلَى مِنِ ابْنِ آدَمَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا عَجَبُ الذَّنَبِ»[173]. وهو قدر الذرة. ومعنى يبلى، أي يذهب ويضمحل، وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواح غيبية، يفسرها ما روى الإمام أحمد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ، وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ، قَالُوْا: يَا لَيْتَ إخواننا الأحياء يَعْلَمُوْنَ مَا صَنَعَ اللهُ بِنَا، لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠ [آل عمران: 169-170].

قال ابن كثير في التفسير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها وتأكل من ثمارها، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أهل المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله ﷺ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»، ومعنى يعلق أي يأكل. وأشار إلى بقاء الروح لأنها الأصل في الإنسان لا في حياته ولا بعد موته، أما البدن فإنه يذهب ويضمحل حتى يصير ترابًا إلى أن ينشئه الله خلقًا جديدًا حين يبعثه.

أما الأرواح فإنها تبقى كما ثبتت في حديث الإسراء أن النبي ﷺ صلى بالأنبياء، وهو إنما صلى بأرواحهم وإلا فإن أجسامهم بالأرض ما عدا عيسى عليه السلام. وكذلك المراجعة الحاصلة بين النبي ﷺ وبين موسى عليه السلام ليلة الإسراء إنما هي بينه وبين روح موسى، ويلتحق بهذا ما ورد من عرض أعمال الأحياء على الأموات، وكونهم يسرهم ما كان حسنًا ويسوؤهم ما كان قبيحًا، وكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة[174]، وكان عمه، فهذا العرض ونحوه هو عرض الأعمال على الأرواح لا على القبور، ومنه ما ورد في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[175]، وقال: «لَا تَتَّخِذُوْا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أين كُنْتُمْ»[176]. فمن يصلي ويسلم على رسول الله بحافة قبره الشريف ومن يصلي عليه في أقصى بقاع الأرض هما في التبليغ سواء، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.

ومن الدليل على بقاء الأرواح وتخاطب أرواح الموتى مع الأحياء وإحساس كل منهما بالآخر ما يراه الإنسان في منامه من تخاطبه مع الأموات ويرى الرؤيا الصادقة ثم تأتي كفلق الصبح، لهذا يصبح مسرورًا حينما يرى أن أحدًا من الموتى أو الأحياء قد بشره بخبر أو أعطاه خيرًا، وهذه هي عاجل بشرى المؤمن، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «ذَهَبَتِ النُّبُوَّاتُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ». قالوا: ما المبشرات؟ قال: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الرَّجُلُ، أَوْ تُرَى لَهُ»[177]. وهذه الرؤيا الصادقة هي بمثابة الأنموذج لالتقاء أرواح الأحياء بالأموات وإحساس كل منهما بصاحبه، وقد سمى الله النوم وفاة في قوله: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّى [الزمر: 42].

ولا ينبغي لنا أن نتكلف الزيادة على هذا فيما يتعلق بأرواح الموتى والتقائها بأرواح الأحياء؛ لأن الأرواح بمثابة الخيل تتشام في الهوى. أما مشروعية السلام على القبور، فقد ثبت أن النبي ﷺ قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الْآخِرَةَ».[178] وفي رواية: «تزهدكم في الدنيا»، فرؤية القبر تذكر بساكنه، وإن كان قد اضمحل جسمه حتى صار ترابًا، فرسول الله قد زار قبور أصحابه للدعاء والاستغفار لهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الهدي: كان رسول الله ﷺ إذا زار قبور أصحابه إنما يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وأمرهم أن يقولوا: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ».[179] وكان يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يفعل عند الصلاة عليها. فقوله: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ» هو دعاء لهم بالسلامة والعافية من العذاب؛ لأن السلام دعاء بالسلامة، نظيره قول المصلي في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهي تشمل كل عبد صالح حي أو ميت، والسلام على رسول الله دعاء له، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠ [الحشر: 10]. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين حرر في الحادي عشر من شوال لعام 1393هـ.

[173] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [174] ذكره صاحب إحياء علوم الدين. [175] أخرجه أبو داود من حديث أوس بن أوس. [176] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [177] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد. [178] أخرجه الإمام أحمد من حديث علي. [179] أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.

(15) مَحقُ التبايع بالحرام وسوء عاقبته

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان، وجمَّله بالعقل وشرفه بالإيمان، وأوجد له جميع ما يحتاجه من المآكل والمشارب المباحة على اختلاف الأنواع والألوان. وقال: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ [سبأ: 15]. وقال: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ [طه:81]. فأمر الله عباده بأن يأكلوا من رزق ربهم ما يشتهونه من الأكل الحلال والمشروبات المباحة، وألا يطغوا فيه بأن يتناولوه من طريق الحرام.

فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بما يسخط الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.

وفي القرآن المنزل: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [الطلاق:1]. وحدود الله محرماته كما في الحديث: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا»[180] فمن اكتسب المال من حلِّه وأدى منه واجب حقه فنعم المعونة هو وبورك فيه، ومن اكتسبه من غير حله لم يُبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وهذا أمر محسوس يشهد به الواقع الملموس، فإن الذين يكتسبون المال من الطرق المحرمة كالخيانة والسرقة والرشوة والربا والقمار والمعاملة في المشروبات المحرمة، أو يتحايل على الناس في شراء الشيء ولا يؤدي إليهم ثمنه، أو يستأجر الأجير فيستوفي عمله ولا يؤدي أجرته، فمن فعل ذلك فقد عصى ربه وأذل نفسه وتسبب في نقص رزقه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وكسبه بمثابة الزَّبَد الذي يذهب جفاءً ويرجع إلى الوراء... ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276].

فكل مال اكتُسب من ربا فهو حرام وعاقبته إلى قلته كما في حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، أو يَخْلُفُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ». رواه أحمد وغيره.

[180] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أبي الدرداء.

ذكرى في تحريم الربا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد

أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع الحلال هو كل بيع لا غش فيه ولا تدليس ولا خيانة ولا غرر ولا ربا... فهذا البيع بهذه الصفة من أفضل الكسب، كما في الحديث أن النبي ﷺ سئل: أي الكسب أفضل؟ فقال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ». رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورواته ثقات.

فعمل الرجل بيده لسائر الحرف المباحة كالزراعة والصناعة محبوب عند الله، فإن الله يحب المؤمن المحترف ويبغض الفارغ البطال... وفي الحديث: «مَنْ غَرْسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، فَإِنَّ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ»[181]. فهو يجري له هذا الأجر حتى ولو زال عن ملكه ببيع أو عطاء.

والربا المحرم أنواع: أشده وأشره: ربا النسيئة، وهو الزيادة التي يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين، كمن يستدين النقود من البنوك أو من بعض التجار، ومتى حل الدين ولم يجد وفاء مدوا في الأجل وزادوا ربحًا في الثمن، على حد ما يقال في الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن ترابي.. فيربو المال على المدين حتى يصير كثيرًا، وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، ولعن رسول الله آكله ومُوكله وشاهديه من بين الأنام.

وهذا الربا محرم في سائر الكتب وعند جميع الشرائع، ويكفر مستحله عند جميع علماء المسلمين.

لأن ضرر هذا الربا يقوض بالتجارات ويوقع في الأزمات ويهدم بيوت الأسر والعائلات.. فكم سلب من نعمة وكم جلب من نقمة، وكم خَرّب من دار وكم أخلى دارًا من أهلها فما بقي منهم ديّار.

فالمتعاطي للربا يسرع إليه الفقر والفاقة، ويحيق به البؤس والمسكنة، ويلازمه الهم والغم ويندم حيث لا ينفعه الندم، وحسب المرابي في الشر كونه محاربًا لربه في حياته وبعد وفاته.. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ [البقرة: 278-279].

وقد وصف الله المرابي في فساد تصرفاته بالمجنون الذي يتخبطه الشيطان من المسِّ.. ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ [البقرة: 275]. وعدوا من هذا النوع قلب الدَّين على المعسر ولو ببيعه عروضًا وسلعًا لكونهما نفس ما نهى الله عنه.

والنوع الثاني: ربا الفضل، وهو بيع النقود بالنقود أو الطعام بالطعام[182] مع الزيادة، ومنه ما يفعله بعض الناس بحيث يستدين من البنك مائة نقدًا بمائة وعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة. وقد حرمه الله على لسان نبيه لكونه يقود إلى ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، وهو ما يتعامل به الناس اليوم، بحيث يستدينون النقود من البنوك لتوسيع تجارتهم فيحل الدين وليس عندهم وفاء... فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم، فترابي بأصل الدين وبالربح حتى يكون القليل كثيرًا.

وشَرْع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، قد حرم هذا العمل، بدليل أنه حرم بيع الذهب بالذهب إلى أجل.. فقال ﷺ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ»... متفق عليه من حديث أبي سعيد.

فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ، وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة، وكونه ينطبق عليه ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ»، وكما روى البخاري ومسلم عن عمر أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» يعني يدًا بيد. فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نسيئة. وقد روى الخمسة وصححه الحاكم عن ابن عمر قال: قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا، وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ».

وليس الحكم مخصوصًا بهما ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما ويعمل عملهما في القيمة والثمنية. وقد ثبت في الطعام مثل ذلك من المنع عن بيع أحد النوعين بالآخر نسيئة أو متفاضلاً؛ لما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله ﷺ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ صاعًا من هذا بالصاعين والثلاثة. فقال رسول الله: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وقال في الميزان مثل ذلك، فهذا نوع ربا الفضل بالطعام، فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره وتسوي بينهما في الحكم، وتمنع التفريق بينهما لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.

فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها في النقود المبدلة عن الذهب والفضة؛ فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الدنانير بالدراهم، ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة رحمة منه بأمته. وكل ثمن لم يقبض في الحال فإنه يعد نسيئة ويدخل في عموم النهي؛ لهذا نرى بعض الناس يتحايل من أجل التوصل إلى هذا الأمر المحرم وإباحة تعاطيه بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم أن حكم النظير حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العُمَلِ بعضها ببعض نسيئة هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الدراهم بالدنانير نسيئة.

وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وإن لم تظهر مضرته في الحال فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
إن صاحب الدراهم كصاحب البنك وغيره متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل ثم يجري المراباة بها فإنه يتحصل على الزيادة بطريق الربا بدون تعب ولا مشقة ولا رضى من المدين، فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ [البقرة: 280]. لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ كما في الحديث عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان رسول الله ﷺ يقول في دبر الصلاة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ». فقلت: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ به من المأثم والمغرم. فقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ أَثِمَ، وَحَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[183].

وإن المشاهدة في الحاضرين هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين، فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة لقصد التوسع في التجارات أو شراء الأراضي والعقارات أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على إثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات وعدم نفاقها في سائر الأوقات.

أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان، كإثارة الحروب أو الحريق وغيرها مما يؤذن بالكساد والركود، فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون، فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276]. فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم.

لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء زادوا في الربح ومدوا في الأجل، فترابي بالدين وبربحه حتى يصير القليل كثيرًا، ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.

وقد حَمى النبي ﷺ هذا الحمى، وسد الطرق التي تفضي إليه، وحذر أشد الحذر من مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه وكل امرئ بما كسب رهين.

لقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر والتحذير والوعيد الشديد عن جريمة الربا ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات... فمنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٣٠ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيٓ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢ [آل عمران: 130-132].

ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة هو أن يعامل به كل أحد فيرابي بأصل الدين وبالربح.

فأمر الله المؤمنين بتقواه، وأن ينتهوا عما حرم الله، ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر واجتناب النهي.. ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ [البقرة: 275]. ففي هذه الآية بيان بفساد سيرة المرابين وسوء سريرتهم، وأنهم كالمجانين في كسبهم بالربا وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم والحرام هو ما حُرِموه، ثم هم يتحايلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا فيرتكبون ما ارتكبت اليهود فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.

ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح، وأنه متى جاءته موعظة من ربه أو من نبيه تردعه عن هذا الردى فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته فإننا لا نقول له: اخرج من مالك كله وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ [البقرة: 275]. من معاملته وأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.

فمتى أسلم شخص مراب وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص وجب أن يتخلى عن الربا منها أي الزيادة على رأس المال بإسقاطه، لاعتبار أنه ملك الغير، ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم، فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها التي هي الربا الزائد على رأس المال لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩ [البقرة: 279]. وهذا معنى قول النبيﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»[184] يعني بذلك إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة. ومثله صاحب البنك متى كان يعامل الناس بالربا وبالبيع المباح ثم تاب من تعاطي الربا، فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى صاحبه، وما جهله مما طال عليه الزمان فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة وله ما سلف وأمره إلى الله.

وأما من عاد إلى معاملته بالربا وأصر على معصيته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

ثم أخبر سبحانه بسوء عاقبة الربا وأن مصيره إلى قلته وإلى انتزاع بركته من يد صاحبه أو من يد ورثته مهما طال الزمان أو قصر، إذ إن الفشل ومَحْق الرزق مقرون به. فقال سبحانه: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276]. وكل مال اكتسب من ربا فهو حرام.

ثم أعلن سبحانه الحرب على المرابين، فقال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ أي ولم تنتهوا عن التعامل بالربا وعن أكله أضعافًا مضاعفة ﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ [البقرة: 279]. لاعتبار أن المرابي عدو لله ومن ذا الذي يطيق غضب الله ومحاربته... لهذا قلنا: إنه لم يرد في جريمة من كبائر الذنوب أشد مما ورد في جريمة الربا.

لهذا عده رسول الله ﷺ من الموبقات التي توبق صاحبها في الإثم ثم توبقه في النار، ولعن آكل الربا وموكله. لقد حرم الله الربا رحمة منه بعباده، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، فهو أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر سواء فعله لضرورة أو لغير ضرورة، لكونه لو قيل بإباحته للضرورة لسهل على الناس تعاطيه بحجة الضرورة، إذ كل أحد سيعرض له في حال حياته وماله شيء من الضرورة.

والنبي ﷺ خطب الناس بعرفة في حجة الوداع قبل موته بثلاثة أشهر فقال في خطبته: «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[185] مع العلم أن الناس في ذلك الزمان في غاية الحاجة والضرورة والفقر، ولم يبح تعاطيه لأحد. ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ [الطلاق: 2-3].

﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ [الطلاق: 4]. فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
فإيَّاك إيَّاك الربا فَلَدِرهَم
أشَدُّ عِقابًا من زِنَاكَ بِنُهَّدِ
وتمحقُ أموالُ الرباء وإن نَمتْ
ويربو قليلُ الحِلِّ في صدق موعد
وقد حدث في هذا الزمان في خاصة بعض البلدان بيوع مبتدعة تؤذن بالإفلاس وشر العواقب، ويسمونها البورصة، وهي حقيقة في القمار بلا شك وأكل للمال بالباطل، وأول من ابتدعها في المنطقة هم أهل الكويت، ثم سرت بطريق العدوى والتقليد الأعمى إلى بعض البلدان المجاورة. وحقيقتها أنهم يتعاملون في أشياء لا حقيقة لوجودها، كعدد كثير من الذهب وعدد كثير من الفضة وهو لا يوجد شيء منهما بين أيديهم، وكذا أو كذا من النحاس والملايين من جنيهات الذهب والملايين من الدولارات والملايين من الجنيه الإسترليني وأسهم شركات لا وجود لها، وكذا الأسهم من شركات متنوعة لم تنشأ بعد، وإنما يحققونها في الأذهان دون الأعيان، ويُقوون عزم الناس في التبايع بهذه الأشياء التي لا وجود لها بقولهم: مدار البيع على الثقة، يريدون من هذه الكلمة عدم التفكر في أصل هذا البيع، لعلم الجميع أنه لا وجود له وإنما يحققونه في الأذهان دون الأعيان. ثم يأخذ من بيده شيء من هذه الأسهم أو من هذه الأوراق النقدية النيطان فيه فيعرضها للسوم ويبيعها، ثم يقع التناوب فيها بالبيع من واحد إلى آخر، وكل هذا حرام، وكسبه حرام، لكونه غررًا ومجهولاً. ومنه نقود الذهب والفضة الني يجب فيه الحلول والتقابض عند البيع.

وحدثني أحد التجار أنه قال لأحد المتبايعين فيها: ما هذا التبايع الذي أرى أنه لا أصل له، لعدم وجود شيء منه في الحاضر؟ فأجابه بقوله: إننا نخرج من بيوتنا ونترك عقولنا في البيوت، ثم نخرج إلى سوق المناخ فنتعامل بلا عقول. فهذا الرجل حكى صفة الحال من هذا التبايع الحرام وقد وقعوا في ما نهى الله عنه بقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]. ومن صفة الحرام أنه معقود به مَحْقُ الرزق وانتزاع البركة ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ [البقرة: 276]. وكل مال أخذ من طريق الربا فهو حرام، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»[186].

وهذا التبايع في الأسهم التي لا وجود لأصلها، وفي الأوراق النقدية بحيث تدور بين الناس من واحد إلى آخر حرام. والنبي ﷺ نهى عن بيع الذهب بالفضة إلا يدًا بيد، وحتى الموزونات التي تشترى جزافًا فقد كان الصحابة يضربون من يبيعها حتى يحوزها إلى رحله، فما بالك بالنقود التي نهى رسول الله ﷺ عن بيع بعضها ببعض نسيئة: فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ»[187]. فما بالك بهذا التبايع الذي يتعاطاه الناس بالنقود بمجرد الأذهان دون الأعيان فإنها أشد تحريمًا.

وقد سبق منا القول بتحريمه، وأنه حرام بلا شك بالكتاب والسنة لأنه ربا وقمار، فإن الذي نهى عنه النبي ﷺ من العقود منه ما يدخل في جنس الربا المحرم في القرآن، ومنه ما يدخل في جنس الميسر الذي هو القمار، وبيع الغرر هو من نوع القمار والميسر، فالأُجرة والثمن إذا كانت غررًا مثل ما يوصف ولم يُر ولم يُعلم جنسه كان ذلك غررًا وقمارًا. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢ [المائدة:0-92].

فبدأ سبحانه هذه الآية بدعوة أهل الإيمان الذين يستجيبون لداعي القرآن، وبيّن فيها ما حرم عليهم من الخمر والميسر، وهو القمار، وكونهما رجسًا - والرجس هو النجس الخبيث - وكونهما من عمل الشيطان، ولهذا قال: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ فعبر عنهما بالمجانبة وهي المباعدة، كأنه يقول: كونوا في جانب وهما في جانب، لكونهما من عمل الشيطان، فلا يدمن على محبتهما إلا شيطان مثلهما. ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ فعلمنا بهذا أن المتعاطي لهما بعيد عن الفلاح، ساقط في السفه والفساد. ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ. وهي واقعة قطعًا، فإن من غلبك فقد غبنك مالك، فتضمر له العداوة والبغضاء، وهي محققة في الخمر بسوء تصرفه وكذلك القمار. ومن الأمر الأكيد كون متعاطيهما لا يتحرك قلبه لفعل الصلاة الواجبة، بل هم في غفلة ساهون، ولهذا ختم هذا النهي بقوله: ﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١. وقد قال الصحابة: سمعًا وطاعة لله ورسوله قد انتهينا قد انتهينا.

ومن صفة المقامر ما أخبر الله عنه من كونه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، لكون المقامر تنصرف قواه العقلية في الولوع به حتى لا يبقى في قلبه بقية يذكر الله فيها، أو يتنبه لفعل الصلاة رجاء ثوابها والخوف من عقاب تركها، ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية، ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19]. فوصف سبحانه المتعاطي للقمار بالخسران المبين؛ لأن من صار مغلوبًا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه، برجاء أنه ربما صار غالبًا فيه، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شيء من المال فيعود بخسارة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم.

ومن مضرات الميسر -أي القمار- أنه يفسد أخلاق الذين يعيشون في التلاعب به، بحيث تتعود أنفسهم الكسل عن السعي في سبل المكاسب المعتادة لانتظارهم الرزق والتجارة من الأسباب الوهمية، فيتركون الزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران.

ومنها -وهو أشهرها- تخريب البيوت فجاءة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها في ليلة واحدة بلعب القمار، فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك، وقد قيل: ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر، والله أعلم. وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[181] أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء. [182] والأصل فيه ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: استعمل النبي ﷺ رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب -أي نوع طيب- فقال رسول الله ﷺ: «حديث أبي سعيد الخدري قال: استعمل النبي » فقال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة. فقال رسول ﷺ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ». أي: اشتر بالدراهم جنيبًا. [183] متفق عليه من حديث عائشة. [184] أخرجه مسلم من حديث جابر. [185] أخرجه مسلم من حديث جابر. [186] أخرجه هناد في الزهد من حديث عبد الله بن مسعود. [187] أخرجه مالك في الموطأ من حديث أبي سعيد الخدري.

(16) قولهم: العقد شريعة المتعاقدين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ونستعين بالله ونصلي ونسلم على محمد رسول الله.

أما بعد:

لقد سمعت من قذائف القوانين قول بعضهم العقد شريعة المتعاقدين يعنون بذلك العقد الذي ينظمه القانون المدني، ويبنون حكمهم عليه مع قطع نظرهم عما يجيزه الشرع أو يحرمه، فلا قيمة لأحكام الشرع عندهم أو في عرفهم. فهذه الكلمة بهذه الصفة تفتح باب الشر فتجعل الحلال حرامًا، فالزنا في عرفهم وقانونهم متى وقع بطريق الرضا فهو جائز قطعًا، وكذلك اللواط بين الذكور، ومثله أكل الربا أضعافًا مضاعفة فإنهم يرونه في عرفهم جائزًا قطعًا، وكذا القمار وبيع الخمر وشراؤه وبيع الخنزير فكل هذا يرونه جائزًا وحلالاً. لكون القانون المدني مقتبسًا من القانون الفرنسي الرائج الآن في البلدان العربية، والذي يتصدر الحكم بموجبه القضاة المدنيون، وهذا كله باطل ولا يعتد به ولا نفاذ لحكمه بطريق الشرع، لقول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[188]. وقال: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ»[189].

وسمعت من بعضهم قولهم: الرضا شريعة المتعاقدين وهذه الكلمة بهذه الصفة لا تبقي من الإسلام وأمور الحلال والحرام ولا تذر. والله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتُبه وشرع أحكامه وبيَّن حلاله وحرامه ليقوم الناس بالقسط، أي بالعدل، فقال سبحانه: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ [الحديد: 25]. فالكتاب هو الهادي إلى الصواب، والميزان هو العادل يبين الهدى من الضلال.

إن قولهم: الرضا شريعة المتعاقدين هي حملة على القرآن والسنة وأحكام الشريعة الإسلامية، ومثله قولهم: العقد شريعة المتعاقدين فليس كل عقد يسوغ أن يكون شريعة للناس، فإن العقد منه الحق ومنه الباطل. والحق أن شريعة المتعاقدين هو حكم الله ورسوله، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النساء: 59].

ومثله قول الرسول ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»[190]. ومثله: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»[191]. وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ». الحديث. لكن القليل من الناس هم الراسخون في العلم والفهم يعرفون هذه المتشابهات، فيلحقون الحلال بالحلال والحرام بالحرام بمقتضى الدلائل والأحكام، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً.

ثم إن الأصل في العقود (الإباحة) حتى يقوم دليل التحريم، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الأصل في العقود والشروط (الحَظْرُ) إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله.

وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الأصل في العقود الصحة والجواز ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح، قال: وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول ومالك قريب منه. انتهى.

وقد نهج هذا المنهج العلامة ابن القيم رحمه الله، قال في الإعلام: الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان، حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك عقودًا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله، بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. انتهى.

فهذه القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله الحكيم يجب أن تُرد إلى شرع الله الحكيم، فقد أعطى الله كل ذي حق حقه وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ [المائدة: 1]. يعني المباحة في شرع الله، أما القوانين الوضعية فإنه لا قيمة لها في شرع الله الحكيم، كما قيل:
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشروط فكان ذا بطلان
والنبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»[192]. وحدود الله: محرماته، والبشر محكومون وليسوا بحاكمين، وإنما سُمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب:36]. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[193]. وقال: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ»[194].

إن كلمة العقد شريعة المتعاقدين هي كلمة كفر، واعتقادها كفر والعمل بها كفر، تزيغ المسلمين عن معتقدهم الصحيح ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فهي تنقض عرى الإسلام عروة عروة بحيث يكون الناس بها أشر من الجاهلية الأولى، فيستبيحون نكاح الأمهات والبنات بناء على الرضا الواقع بينهم.

وقد ذكّرتني هذه القاعدة الطاغية الباغية خصومة بين أخوين شقيقين يرث أحدهما الآخر، فاشتد الخصام بينهما فتواثقا وتكاتبا على أنه لا يرث أحدهما الآخر، فأشعرتهما بحكم الله ورسوله وأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا يحق لشخص أن يقطع صلة الإرث الذي شرعه الله، فهذا الاتفاق باطل، وكتابته باطلة، ومن مات منهما ورثه أخوه رغم أنفه.

وقد لعن رسول الله ﷺ المُحلِّل والمُحَلَّلَ له وسماه (التيس المستعار) مع كون هذا النكاح وقع بالتراضي، ومثله نكاح المحارم وذوات الأزواج.

والحق أن يقال: إن الرضا الذي لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً، أشبه (الشرط) فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. ومثله الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً.

ثم إن كتب الفقه الإسلامي من شتى المذاهب لا تغادر صغيرة ولا كبيرة مما عسى أن يقع فيها النزاع بين الناس، وهي مقتبسة من القرآن والسنة ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83]. فبالغوا في استنباط الأحكام وتصنيفها على حسب اجتهادهم، المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومٌ إن بَنَوا أحسنوا البُنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
والنبي ﷺ لعن بائع الخمر ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه، وكل هؤلاء وقع بطريق التراضي بينهم فشملتهم اللعنة. ومثله حديث: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.[195] لوقوع الرضا بينهم في عمله فشملتهم اللعنة أيضًا.

ولما قسم سبحانه المواريث بين الورثة وأعطى كل ذي حق حقه ختمها بقوله: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٣ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٤ [النساء: 13-14].

والحاصل أن قولهم: الرضا شريعة المتعاقدين. هي كلمة باطلة والحقيقة أنها صيغت لتكون مفتاحًا لكل شر، وهي معنى قولهم: «العقد شريعة المتعاقدين» فإنهم لا يعنون فيها العقد الصحيح الذي لا يخالف فيها أيّ مسلم، وإنما يعنون بها العقد على أي صفة وقع، فهي من شريعة قوانين الخارجين عن الدين الذين لا يرجون عند الله ثوابًا ولا يخافون عقابًا: ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50]. ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]. وقال: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ [المائدة: 49].

إن كثرة استمرار هذه الكلمة على أسماع الناس وأبصارهم ورَوجان كتب القوانين من بينهم، قد أثّرت فيهم شيئًا من التهاون في منكرات الجرائم ككبيرة الزنا، فقد كان في صدر الإسلام يُرجم الزاني المُحصَن متى ثبت الزنا عليه باعترافه أو بالبينة ولا تأخذهم فيه لومة لائم، ومن يُهنِ الله فما له من مكرم وقال: ﴿وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢ [النور: 2]. وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله بعث نبيه بالكتاب وكان فيما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها فرجم رسول الله الزاني المحصن ورجمنا معه، وإني أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله. فيضل بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق على من زنى إذا أحصن إذا كانت البينة أو الحَبَل أو الاعتراف. رواه البخاري.

وإن أكبر تأثير وقع بالناس من تهاونهم بهذه الجريمة هو كثرة الابتلاء بها وتعاقب القوانين على عدم العقاب عليها، لكون المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها؛ ذهبت عظمتها عن القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.

فالحكم بالقوانين ونصب القضاة لتنفيذها وروجان كتبها بين الناس يعود بالضرر وفساد الأخلاق على خاصة الشباب وعامة العباد والبلاد كما قيل:
الدين يشكو بلية
من فرقة فلسفية
لا ترى الشرع إلا
سياسة مدنية
ويؤثرون عليه
مناهج جدلية
إن هؤلاء الشباب من أبناء المسلمين متى تخرج أحدهم من إحدى المدارس الأجنبية رجع إلى أهله وبلده وأخذ يبث جراثيم تلك التعاليم السيئة التي حملها من المدرسة، حتى يصير فتنة على أهله وأقاربه وسائر من يقاربه كما قال تعالى في حق الغلام: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١ [الكهف: 80-81].

إن عقيدة الإلحاد هي جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد هؤلاء الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الفجور والطغيان ومجاوزة الحد في الكفر والكبر والفسوق والعصيان، فيمقت الدين ويهزأ بالمصلين الراكعين الساجدين، حتى كأنه إنما تعلم العلم لمحاربة الدين وأهله من أجل أنه لم ينطبع في قلبه محبته ولم يذق حلاوة حكمته، وإنما كان حظه من العلم محض دراسته حبرًا على ورق، ثم زال عن قلبه بزواله عنه حتى لم يبق معه أثر منه.

ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم وأمنوا من العقاب فيما يقولون فإنهم حينئذ يفيضون بفنون من الطعن في الدين بإلقاء الشبهات والتشكيكات التي تزيغ العوام وضعفة العقول والأفهام عن معتقدهم الصحيح وعن دينهم المستقيم، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل فيصيرون فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا.

وحتى الذين لا يعتقدون اعتقادهم ولا يساهمون في آرائهم فإنهم لن يسلموا من مضار أفكارهم، وأقل شيء كون الضعف والوهن يلم بأركان عقائدهم، ثم يسري هذا الفساد وسوء الاعتقاد إلى أهلهم وأولادهم؛ لأن أكثر الناس مقلدة في دينهم، بحيث يقلد بعضهم بعضًا في الأخلاق والعقائد، وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه، ثم قرأ: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ [الأعراف: 146].

وقد قال بعض الحكماء في أخلاق الكتاب: قد قال أهل الفطن: إن محض العمى هو التقليد في الزندقة؛ لأنها إذا رسخت في قلب امرئ تقليدًا فإنها تطيل جرأته على الدين وأهله ويتغلق على أهل الجدل إفهامه. انتهى. وقد قيل:
عُمي العيون عموا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115]. أي صدقًا في الأقوال وعدلاً في الأحكام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم. وقد جعل الله شريعة الإسلام بمثابة الخاتمة للشرائع قبلها، فهي شريعة كافة البشر عربهم وعجمهم، يقول الله: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٨ [سبأ: 28]. وقال: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. فشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة والحنان والإحسان ليست بحرج ولا أغلال، يقول الله: ﴿... وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 156-158].

وصار أكثر الناس في هذا الزمان بمثابة من يعطي صاحبه تمرة فيسخطها فيعطيه جمرة، وإن الناس باستبدالهم القوانين عن أحكام شريعة الدين هم بمثابة من يفرّ من الرمضاء إلى النار.

إن الله سبحانه لما قسم الميراث بين الناس في سورة النساء ختمها بقوله: ﴿وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ١٧٦ [النساء: 176]. أي: لئلا تضلوا، فالحكم بمساواة الأنثى للذكر فيما فرض الله في التفاضل بين الأولاد والبنات وبين الإخوة والأخوات هو كفر بما أنزل الله من الكتاب وضلال مبين: ﴿وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٥ [يونس: 25].

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا وقضاتهم يحكمون بينهم بالشريعة الإسلامية التي جعلها الله لجميع خلقه شرعة ومنهاجًا، وإنما الشريعة من أجل أنها مقتبسة من كتاب الله وسنة رسوله فهي الشريعة التي جعلها الله لجميع خلقه في قوله سبحانه: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى: 13].

وفي بداية القرن العشرين ضعف العلم وعُدم الراسخون في الفقه وأخذ الناس يعللون القضاة بدعوى أنهم يعللون الأحكام، ولا يهتمون بأمر الناس، فتعلقت قلوبهم بالقوانين وهي لم تكن موجودة في البلدان الإسلامية قبل ذلك الوقت، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا وشرب الخمور ولا تعاقب على شيء من ذلك، فأثرت في النادر شيئًا من الذل والضعف في مجتمعهم، وإنما ضعف المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه ويدعون إلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، ولأجله صاروا جديرين بزوال النعم والإلزام بالنقم لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد وقع بهم ما حذرهم نبيهم بقوله: «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهما شديدًا». رواه ابن ماجه والبيهقي. والله أعلم.

* * *

[188] متفق عليه من حديث عائشة. [189] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. [190] أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن عوف. [191] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [192] أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى من حديث أبي ثعلبة الخشني. [193] متفق عليه من حديث عائشة. [194] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. [195] رواه البخاري عن أبي جحيفة.