مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م
المجلد الثالث
قضايا معاصرة
هذه الرسالة تبحث في مسألة قد طال فيها الجدل بين العلماء مع العلماء، وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب، فكل إنسان يعبر عنها بما يعتقد في نفسه، وهي مسألة الجهاد المشروع في الإسلام، وما سببه وموجبه، وكيف كانت سيرة النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيه، ومن يستحق القتال ومن لا يستحقه، وكون الإسلام يسالم من يسالمه، وإثبات الأمر اليقين في ذلك، وإزاحة الشك والإشكال والكذب، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غيرها من كل ما يقطع النزاع، ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، وكل عالم نحرير، وكل أديب حاذق بصير، فإنه لن يستغني عن مراجعتها والتزود من فنون ثمرتها. لكنه يحتاج إلى فهم حاذق وفكر ناقد ودراسة عميقة خالية عن التعصب للشيوخ والمذاهب، ولا أقول بعصمته، فقد يخفى على قائله ما عسى أن يظهر لقارئه، وفوق كل ذي علم عليم.
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد الله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد:
فقد حصل النزاع بين بعض الإخوان والمشايخ الكرام في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار، وأن القتال إنما شرع للدفاع عن الدين، وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه.
فاستنكر هذا القول واستكبره بعض العلماء المتأخرين، حتى خرج لإنكاره كتابان من عالمين جليلين يحققان فيهما أن هذه الرسالة مكذوبة على شيخ الإسلام، وأنها ليست من كلامه لاعتقادهما أن القتال سببه الكفر. وعلى أثر هذا التكذيب للرسالة ساءت السمعة بسائر رسائل شيخ الإسلام رحمه الله.
ونحن بكلامنا في تحقيق هذه الرسالة لسنا نريد التصدي للانتصار لشيخ الإسلام في كل ما يقوله في الرسالة وغير الرسالة، وإنما نؤم علم الحق متى رُفِعَ لنا لنكون تحت لوائه ومن أنصاره وأعوانه.
لقد عشنا زمانًا طويلاً ونحن نعتقد ما يعتقده بعض العلماء وأكثر العوام من أن قتال الكفار سببه الكفر، وأن الكفار يقاتلون حتى يسلموا، لكننا بعد توسعنا في علم الكتاب والسنة، والوقوف على سيرة الرسول ﷺ وأصحابه في حروبهم وفتوحهم للبلدان، تبدل رأينا وتحققنا بأن القتال في الإسلام إنما شرع دفاعًا عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين. قال شيخ الإسلام في رسالته: الصحيح أن القتال شرع لأجل الحرب لا لأجل الكفر، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وهو مقتضى الاعتبار، وذلك أنه لو كان الكفر هو الموجب للقتال لم يجز إقرار كافر بالجزية. انتهى.
فمن زعم أن لشيخ الإسلام كلامًا يخالف هذا في السياسة الشرعية أو في الجواب الصحيح فقد غلط عليه وأدلى بما لم يحط بعلمه.
وقد قال بعض العلماء من المتأخرين: إن دعوى القتال للإكراه على الدين إنما دخل على المسلمين عن طريق النصارى، حيث كانوا يشنعون به دائمًا على الإسلام والمسلمين، ويجعلونه في مقدمة تبشيرهم إلى دينهم، وينشرونه في كتبهم ويلقنونه للطلاب في مدارسهم، لقصد تنفير الناس عن دين الإسلام واحتقاب العداوة لأهله، فهو أكبر مطاعن النصارى على الإسلام وعلى المسلمين. فسرى هذا إلى اعتقاد بعض العلماء وأكثر العامة؛ لظنهم أنه صحيح واقع، ومن طبيعة البشر كراهة اسم الإكراه والإجبار مهما كانت عاقبته، وصاروا يتناقلون هذا القول في كتبهم حتى رسخ في قلوب العامة وبعض العلماء.
وإننا متى قلنا بهذا القول فقد اشتركنا مع القسيسين والمبشرين في التنفير من الدين، وإنه ينبغي لنا متى تصدينا للدعوة إلى دين الإسلام أن نصف الإسلام بما هو أهله، وبما هو معلوم عن محاسنه، واتصافه بالرأفة والرحمة لسائر الناس؛ لقول الله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107] - أي للخلق أجمعين - بدلاً من أن نصفه بالعقاب والشدة لكل من لقيه من الكفار. فنصفه بأنه دين البشرية كلهم عربهم وعجمهم لا دين لهم سواه؛ لقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [البقرة: 85].
فهو دين الله الذي ارتضاه لجميع خلقه، فقال سبحانه: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3] لأنه دين الرحمة المهداة من الله لجميع الناس بواسطة محمد ﷺ. فهو دين الحق الذي نظم أحوال الناس في حياتهم وبعد وفاتهم أحسن تنظيم. صالح لكل زمان ومكان، وقد سماه الله سلمًا فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208] فهو يحب السلم ويكره الحرب إلا في حالة الضرورة.
فلا يكره أحدًا على الدخول فيه لكون الدين هداية اختيارية لا إكراه فيها ولا إجبار، يقول الله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]، ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ﴾ فيؤمن به وبأمره ونهيه، ﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا﴾ [الأنعام: 125] عن أمره ونهيه وفرائضه ونوافله.
إن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته ويقطع السبيل في منع إبلاغها للناس، فإنهم بمنعهم إبلاغها يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين؛ لأن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين وتبشير جميع خلقه به فقال سبحانه: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19] فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعوا أهلها إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على دمائهم وأموالهم، وقد فتح المسلمون كثيرًا من البلدان بهذه الصفة، مما يسمى صلحًا.
أما إذا نصبت لهم المدافع، ووجهت نحوهم أفواه البنادق، وسلت في وجوههم السيوف، ومنع الدعاة منعًا باتًّا عن حرية نشر دعوتهم وعن الاتصال بالناس في إبلاغهم دين الله الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم، فإنهم يعتبرون حينئذٍ معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين.
فعند ذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله، وفي سبيل إبلاغ دين الله حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193] وقال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191].
﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4] فقتالهم والحالة هذه هو في سبيل الله، ولا يبالون بما أصابهم في ذات الله؛ لأن الله سبحانه قد اشترى من المؤمنين أنفسهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فهم يتمنون الشهادة في سبيل الله كما يتمنى أكثر الناس الحياة؛ لعلمهم أن لهم حياة أخرى هي أبقى وأرقى من حياتهم في الدنيا، وقد باعوا أنفسهم لله في سبيل الحصول عليها، يقول سبحانه: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١١﴾ [التوبة: 111]، فهذا طريق دعوتنا إلى دين الإسلام.
وقد سئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال ﷺ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى.
يبقى الكلام في البحث عن حقيقة رسالة شيخ الإسلام في قتال الكفار وعدم نسبتها إليه، فقد تحصلت والحمد لله على هذه الرسالة، ووقفت على حقيقة ما تقتضيه من الدلالة، فوجدتها صحيحة في معناها وحسنة في مبناها، ويظهر من دلائل استنباطاته وبراهين بيناته أنها خرجت من مشكاة معلوماته، وكل متخصص بدراسة كتبه فإنه سيعرف منها ما عرفنا؛ لكون عباراته لا يماثلها كلام غيره، وقد وافق العلامة ابن القيم شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القضية، وحقق أن الإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، وأنه يسالم من سالم، كما سيأتي كلامه مستوفى عن قريب إن شاء الله.
فدعوى التزوير بعيدة جدًّا عنها، فلا تحوم التهمة والشك حولها، وقد قال في كتابه السياسة الشرعية ما يوافق قوله في هذه الرسالة حيث قال: إن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، فمن لم يمنع مسلمًا من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. كما سيأتي كلامه مستوفى في موضعه.
وقد قيض الله سبحانه لحفظ رسائل شيخ الإسلام وكتبه علماء جهابذة نقادًا في زمانه يحبهم ويحبونه، فكانوا يعتنون أشد الاعتناء بنقل كتبه ورسائله ثم نشرها في الآفاق، كما قيض الله له أميرًا عدلاً في زمانه، كان يحث العلماء على التحفظ بكتب شيخ الإسلام والاعتناء بنقلها. وأشد من بالغ في هذا الأمر هو العالم الإمام شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فقد وجه نداء إلى العلماء في زمانه قرب وفاة شيخ الإسلام قائلاً فيه: لا تنسوا تقريرات شيخنا الحاذق الناقد الصادق قدس الله روحه، فالطريق في حقه هو الاجتهاد العظيم في كتابة مؤلفاته الصغار والكبار على جليتها وحالها من غير اختصار ولا تصرف فيها، ولو وجد فيها كثير من التكرار، ومقابلتها بنظائرها، ثم إشاعتها ونشرها لعموم الانتفاع بها. واحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله -يعني ابن القيم- وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموا لهذا الأمر المهم الجليل أكثر ما تقدرون عليه؛ لأنه قد بقي وحيدا في فنه، فريدًا في دهره، ولا يقوم غيره مقامه من سائر الجماعات، وكل أحوال الوجود لا بد فيها من العوارض والأنكاد، فاحتسبوا مساعدته عند الله واكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم، وأنا أستودع الله دينه ودينكم، وما عنده وعندكم، والسلام عليكم. انتهى.
وأقول عن شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله: إن كل عالم مخلص خلي من الغرض والهوى يعترف بكبر قدره، وغزارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف.
ولا ينفرد بمسألة كمسألة قتال الكفار أو غيرها بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج على ما يقول بالقرآن والحديث والقياس.
ولم يسجل التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها بعد رسول الله وخلفائه وأصحابه أكثر مما سجل له من قوة الإبداع، وتجلية الحق، والبصيرة في النقد، والعدالة في الحكم، ومطابقة النقل للعقل.
وقد تصدى لمحاربة البدع على اختلاف أنواعها حيث غزاها في عقر دارها وفند آراء المؤيدين لها.
عاش رحمه الله في زمان قد تفرق أهله في النزاعات والمذاهب والآراء، فحمل راية الإسلام بالحجة والبيان، والسنة والقرآن، والسيف والسنان، مما جعله في مقدمة الأبطال الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فهو بطل دين، وعلم من أعلام الفكر العالي بآرائه الحرة التي لا تخرج غالبًا عن حدود الحق، ولكنه لم يسلم من أذى الخلق في زمانه وفي هذا الزمان، سنة الله في ابتلاء المجاهدين في سبيله، يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١﴾ [محمد: 31].
إن الناس يستفيدون من المتحررة آراؤهم والمستقلة أفكارهم في حدود الحق كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأشباههما، أكثر مما يستفيدون من المقلدة لشيوخهم وعلماء مذاهبهم؛ إذ المستقل بفكره هو من يستفيد من بحث غيره بصيرة وفكرة وزيادة معرفة، ولا يقلدهم في كل قول يقولونه، وإنما يعمل بما ظهر له من الحق، فعدم وجود المستقلين ضار بالإسلام والمسلمين؛ لأنهم حملة الحجة والبرهان. والمقلد لا حجة له، وإنما غاية علمه وعمله أن ينقل حجة غيره، فإذا طرأت شبهة على الدين كهذه لم يجد جوابًا لها منقولاً عمن يقلدهم من الفقهاء، فيبقى حائرًا محجوجًا مبهوتًا، أو يستدل بما لم يحط بعلمه.
ولم يتناول دُرة الحق غائصٌ
من الناسِ إلا بالروية والفكر
إن طريق الانتفاع بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المجتهدين هو أن يفرغ الإنسان قلبه مما يعتقده قديمًا مما قد يظن في نفسه أنه حق، ثم يقدر الاحتمال لعدم صحة ما يعتقده، فينظر من جديد في الأدلة التي يوردها المجتهد بدون أن يتلقاها بالنفرة والكراهية الشديدة لها، فإن الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء لم يكد يسمعه ولا يبصره، فيفوت عليه مقصوده وثمرته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار:اختلف العلماء في قتال الكفار وهل سببه المقاتلة أو مجرد الكفر على قولين مشهورين للعلماء.
أحدهما: سبب المقاتلة هو الاعتداء على الدين وأهله، وهذا هو قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم.
والثاني: أن سببه الكفر، وهو قول الشافعي، وربما علل به بعض أصحاب أحمد من أن السبب في القتال مجرد الكفر.
قال: وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة:190].
فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال، وقوله: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾ فسره بعض العلماء بقتال من لم يقاتل وبالمثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والرهبان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان، فدل على أن قتال من لم يقاتل عدوان، وهذه الآية هي محكمة وليست منسوخة على قول الجمهور، ثم استدل بقوله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193] قال: والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه كما كان المشركون يفتنون كل من أسلم عن دينه بصده عنه، ولهذا قال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191].
وقوله: ﴿وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ وهذا يحصل إذا ظهرت كلمة الإسلام وكان حكم الله ورسوله غالبًا، فإنه قد صار الدين لله. وأما قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»[1]. هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم. وليس المراد منه أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية، فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه لم يفعل هذا قط بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله. انتهى.
وقال أيضًا في السياسة الشرعية: وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين. وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمنى ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال الله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة: 190] وفي السنن أن النبي ﷺ مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه وقد وقف عليها الناس، فقال: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ». وفيها أيضًا عنه ﷺ أنه كان يقول: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً». وذلك أن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، والفتنة أكبر من القتل، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. انتهى.
إن الإسلام جعله الله رحمة للعالمين، وقد حرم حرب الاعتداء والظلم، وقصر الحرب المشروعة على تقرير المصالح ودفع المفاسد؛ لأن الإسلام هو دين السلم والسلام، ولا يمكن تمتع العالم بالسعادة والراحة والرحمة إلا بهداية الإسلام، وقد أمر الله عباده بأن يؤثروا السلم على الحرب، فقال تعالى: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61]؛ لأن الإسلام يكره إراقة الدماء إلا لضرورة تقتضيها المصالح ودفع المضار، والضرورة تقدر بقدرها. ولهذا أمر الله عباده المؤمنين بأن يشدوا الحملة بالقوة والشدة في حالة قتال عدوهم، وأن يتصفوا بما وصفهم الله به بقوله: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡ﴾ [الفتح: 29].
ومتى كان الغلب لهم في القتال واستولوا على عدوهم فإنه ينبغي أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر، ثم ينظروا في أمر الأسرى على سبيل التخيير، إما بالمن عليهم بإطلاقهم بدون فداء كما منّ رسول الله على قريش وأهل مكة فقال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[2]. وإما بأخذ الفداء منهم كما أخذ النبي من أسرى بدر، قال تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَا﴾ [محمد:4]، ولم يقل: فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ولا تطلقوهم حتى يسلموا أو يقتلوا، كما يقوله من يرى أن القتال سببه الكفر.
وقد أذاع أعداء الإسلام فيما تجنوا به على الإسلام أن القرآن يأمر أتباعه بأن يقتلوا الكفار حيثما لقوهم مستدلين بمثل هذه الآية، حتى إن علماء النصارى والمبشرين منهم يلقون هذا الكلام في معرض طعنهم على الإسلام لقصد التنفير عنه وعن المنتسبين إليه.
وإنما المراد من هذه الآية وأمثالها هو لقاء المحاربين للدين وللمسلمين لكون الكفار في شرع الإسلام ثلاثة أصناف: محاربون للمسلمين فيقتلون حيثما ثقفوا كما يفعلون بنا. ومعاهدون ومنهم المسالمون فلا نتعرض لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه. وذميون لهم ما للمسلمين، فالإسلام يسوي بينهم وبين المسلمين في جميع أحكامه القضائية؛ يوجب حمايتهم والدفاع عنهم حتى بالقتال، وحرمة مالهم ودمائهم كحرمة المسلمين ودمائهم، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
وقد رُفع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله مسألة حاصلها هو: أنه تخاصم رجل مسلم مع رجل نصراني في قضية فلم يجد النصراني عند المسلم ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به المسلم ضربًا وقال: هذا جواب مسألتك. فقال النصراني: صدق قومنا إذ يقولون: إنما قام الإسلام بالسيف ولم يقم بالكتاب. فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب.
قال: فشمر المجيب عن ساعد العزم ونهض على ساق الجد ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، فإن هذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى الضعف. وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
ولأجل هذه القضية عمل العلامة ابن القيم عمله في تأليف كتابه هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى وجعله كالجواب للقائلين: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف ولم يقم بالكتاب، وكلامه فيه يوافق ويطابق كلام شيخ الإسلام في رسالته قتال الكفار كما تراه مفصلاً فيما يلي:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله[3]: أكثر الأمم دخولاً في الإسلام طوعًا ورغبةً واختيارًا لا كرهًا ولا اضطرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ رسولاً إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف قد طبقوا الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أممًا وسلبهم الملك والعز.
وأما النصارى فكانوا أطبق الأرض فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والجزيرة وأرض نجران وغيرها من البلاد.
وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها.
وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم.
وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها، وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة. ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة.
وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان، كما قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧﴾ [الحج: 17]، فلما بعث الله رسوله ﷺ استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر أهل هذه الأديان طوعًا واختيارًا، ولم يكره أحدًا على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه؛ امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وهذا نفي في معنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول كل من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار فلا يكرهون على الدخول في الدين. بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.
وكل من تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله وأما من هادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته، ولم ينقض عهده بل أمره الله أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 7]، ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهدهم وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم. وكذلك لما عاهد قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بالقتال حتى بدؤوا هم بقتاله، نقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر.
والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقًّا، فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية ثم دخلوا في دين الإسلام من غير رغبة ولا رهبة. فلم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال ضعف المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفقتهم بالمال والبدن، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام، لا لرياسة ولا لمال، بل ينخلع من الرياسة والمال، ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه. وهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام، ثم صاروا مسلمين إلا النادر، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلى الله فأطبقوا على الإسلام، ولم يتخلف منهم إلا النادر، وصارت بلادهم بلاد إسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة.
فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، حيث دخلوا في دين الله أفواجًا. حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد تبين أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم على الكفر أقل القليل. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
* * *
[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [2] سيرة ابن هشام 2/412. [3] من هداية الحيارى (ص22).
إن الجهاد هو سنام الإسلام، وهو قولي وفعلي، يكون باللسان وبالحجة والبيان والسنة والقرآن، ويكون بالسيف والسنان. والجهاد باللسان وبالحجة والبيان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان، ولهذا أمر الله به في السور المكيات قبل أن يفرض القتال، فقال تعالى: ﴿وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢﴾ [الفرقان: 52]، فأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادًا كبيرًا.
وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والبيان نظير قوله: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣﴾ [النساء: 63]؛ أي يبلغ من أفهامهم ويعلق بأذهانهم، ومنه علم البلاغة، فالجهاد باللسان وبالحجة هو جهاد أنبياء الله ورسله وخاصة عباده، إذ تطهير سبيل الله ودينه وشرعه واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ومن الجهاد في سبيل الله جهاد الإنسان نفسه على فعل الأوامر وترك النواهي، ثم جهاد أهله وعياله على المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، ثم أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لكل أحد حسب استطاعته، ومنه تعلم العلم وتعليمه وكتابته والدعوة إليه، كل هذا من الجهاد في سبيل الله، وروى الترمذي عن فضالة ابن عبيد أن النبي ﷺ قال: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وقال رسول الله ﷺ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»[4].
كما يجب على العلماء جهاد عقائد الإلحاد والملحدين المضلين الذين يضلون الناس بالشبهات والتشكيكات من كل ما يزيغهم عن معتقدهم الصحيح، ثم يقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل.
ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر الكافرين، ودحض حجج المبطلين، لفسد الدين. وعن كعب بن مالك مرفوعًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ». رواه في شرح السنة، وعن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ». رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم.
فبدء القتال إنما يكون بالحجة والبرهان، لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة إلى دين الله الذي أوجب الله أن ينذر به ويبلغ جميع خلقه فقال الله تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، ومتى هُدِّد الدعاة أو قُتلوا أو مُنِعوا من دخول البلد لنشر الدعوة وتبليغ الهداية، فإنهم بمنعهم لهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين، فعلينا أن نقاتلهم لحماية الدعوة والدعاة لا للإكراه على الدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس:99]؛ لأن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والدفاع عن الدين أوجب من الدفاع عن الأنفس والأموال، فكيف إذا اجتمع الاعتداء على الدين وعلى الأنفس والأموال، فالإسلام لم يدع إلى قتال اليهود والنصارى إذا هم أذعنوا لبذل الجزية التي هي بمثابة الرمز للعقد والعهد ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشكهم وتشكيكهم.
* * *
[4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: غريب.
إن الله سبحانه لما أوحى إلى نبيه ورسوله محمد ﷺ وأظهر دعوته إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، فتألبت عليه قريش بالعداوة لولا أن أقاربه من بني هاشم وخاصة عمه أبا طالب حيث أصروا على منعه وعدم تمكينهم منه، وما زالوا يكيدون له حتى ائتمروا على قتله بصفة يضيع بها دمه، وذلك بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً فيضربونه بسيوفهم معًا في وقت واحد حتى يضيع بينهم دمه. فأطلع الله نبيه على كيدهم وأنزل الله ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30]؛ هذا وجميع عرب الحجاز ونجد مع قريش عليه، فهاجر النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، وهاجر السابقون الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج بمكة، وقد بايعوا النبي ﷺ على أن يمنعوه من كل من يعتدي عليه كما يمنعون أهلهم وأولادهم وأنفسهم، ولذلك صار حربًا لقريش خاصة وللعرب عامة، وصاروا يعدون أنفسهم محاربين له لا يقصرون عن كل ما يستطيعون من أذى ينالونه به وبأصحابه إلا فعلوه.
وكان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة والعفو والصفح والصبر على أذى المشركين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم تكن الحال إذ ذاك مناسبة للقتال لقلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، وكونهم في بلد حرام لم يكن القتال فيه مناسبًا، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي ﷺ بمكة فقالوا: يا رسول الله، كنا أعزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: «إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ». فلما حوله الله إلى المدينة وصارت لهم دار منعة وأنصار فرض الله عليهم القتال، فجزع بعضهم من فرضه وخافوا من مواجهة الأعداء خوفًا شديدًا؛ لأن فيه سفك الدماء ويتم الأولاد وتأيم النساء، فكانوا يكرهون فرضه عليهم بعد أن كانوا يتمنون قتال المشركين، فأنزل الله ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧ أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ﴾ [النساء: 77-78].
وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال هي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 39-41]. قال العوفي عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وهي أول آية نزلت في القتال.
ثم إن المشركين هم الذين بدؤوا المسلمين بالقتال لإرجاعهم عن دينهم، ولو لم يبدؤوا في كل وقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وتمالؤهم على قتله، وفتنة المؤمنين في دينهم وإيذائهم بضربهم وأخذ أموالهم ومنعهم من الدعوة إلى سبيل ربهم، وكانوا ينهون الناس عن استماع القرآن خشية الإيمان به كما قال تعالى: ﴿وَهُمۡ يَنۡهَوۡنَ عَنۡهُ وَيَنَۡٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٢٦﴾ [الأنعام: 26]؛ لكان كل ذلك كافيًا في اعتبارهم معتدين، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30]. وحسبك من الأذى كونهم وضعوا سلى الجزور على رأس رسول الله ﷺ وهو ساجد. فقتال النبي ﷺ لهم كله مدافعة عن الحق وأهله. وكذلك كانت حروب الصحابة لأجل حماية الدعوة ومنع الفتنة وحماية المسلمين من تغلب القوم الكافرين، والله تعالى يقول: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]، أي حتى لا يفتن المسلم في دينه ولا يمنع من الدعوة إليه. فهذا هو الغاية من القتال بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، وعبادة المسلمين ربهم، وإعلائهم كلمته، وتنفيذ شريعته، وبذلك يكون الجهاد لله وفي سبيل الله، وتكون كلمة الله هي العليا، ولا عبرة بما يهذي به العوام وبعض العلماء، حيث يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأنهم في فتوحهم يجعلون القرآن في يد والسيف في اليد الأخرى، ومن لم يؤمن بالقرآن حكموا فيه السيف، فهذا لا أصل له، والقرآن بجملته وتفاصيله يرده، فلا إكراه في الدين، ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]. وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢﴾ [الغاشية: 21-22]؛ أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلبهم.
فهذا القتال وإن ظنه بعضهم هجومًا لكنه حقيقة في الدفاع لشرهم، وقتال الدفاع لا يشترط أن يعلن به في كل حركة ولا في كل معركة؛ إذ العدو يترقب الفرصة لمواثبة عدوه، ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ لَن تَنفَعَكُمۡ أَرۡحَامُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡۚ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَفۡصِلُ بَيۡنَكُمۡ﴾ [الممتحنة: 2-3]. فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ [التوبة: 5]، وهذه الآيات هي معنى قول النبي ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
ويريد بهذا الأمر عرب الجزيرة، بحيث لا يبقى فيها إلا دين الإسلام. بخلاف اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، فإنهم لا يُطالبون بمدلول الحديث من الإقرار بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإنما يُكتفى منهم بالجزية فقط، ثم يقرون على دينهم الباطل. وألحق بعض العلماء بهم المشركين في غير جزيرة العرب، فإنه يُكتفى منهم بأخذ الجزية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ويدل له حديث بريدة في صحيح مسلم حيث قال: «فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ». وسيأتي بتمامه في موضعه.
ولما عزم النبي ﷺ على فتح مكة أخفى سفره، فكتب حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بذلك، فأنزل الله سورة (الممتحنة) وفيها التصريح بالنهي عن موالاة المشركين، وخص هذا النهي بالذين قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، ثم قال: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 8-9].
وقال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]، وحتى لانتهاء الغاية بحيث يكون ما بعده نقيضًا لما قبله كأنه يقول: متى زالت الفتن عن الدين وعن عباد الله المؤمنين فلا قتال.
فالقتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. فمعناه الصحيح قتال الذين يفتنون المسلم في دينه، ويصدونه عن سبيل ربه، ونشر الدعوة إلى دينه، وهذا هو القتال في سبيل حرية الدعوة إلى الله وإلى دينه.
وكل من نظر بعين البصيرة إلى مقاصد الشريعة علم أن الدين إنما اشتهر وانتشر بالدعوة والتبليغ لا بالإكراه والإلزام، فقد قال الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وهي محكمة وليست منسوخة في قول جمهور العلماء.
وسبب نزول النهي عن الإكراه معلوم؛ وهو أن رجلاً من الأنصار من بني سالم بن عوف له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلمًا، فقال للنبي ﷺ: ألا أستكرههما على الإسلام فإنهما أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾، وفيها روايات متعددة بمعنى ذلك، وأن الابنين متهودان.
ثم إن الحرب شر عظيم يترتب عليها سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، وأن القرآن لم يأذن بالجهاد إلا للضرورة التي هي المدافعة عن الحق الذي يعتقد الموحد أن فيه سعادته وسعادة البشر كلهم، فالحرب ضرورة يقتضيها جلب المصالح ودفع المفاسد، والسلم هو الأصل الذي يترتب عليه راحة الناس واطمئنانهم.
وقد سمى الله الإسلام سلمًا فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]؛ أي في الإسلام لأنه دين السلام والأمان، ولهذا أمر الله بإيثارها على الحرب فقال: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61].
وابتداء القتال مشروط بتقدم الدعوة إلى الإسلام، وعدم قبول المخالف للدخول في الذمة المعبر عنها بالجزية، وهي نزر يسير، بمثابة الرمز للخضوع للإسلام، وعدم الاعتداء عليه وعلى أهله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كانت سيرة رسول الله ﷺ أن من سالمه لم يقاتله. قال: ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن رسول الله ﷺ أنه أكره أحدًا على الإسلام لا مقدورًا عليه ولا ممتنعًا، ولا فائدة في إسلام المكره. ثم استدل بقوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. وبقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4].
فأمر الله عباده متى مكنهم الله من غلب عدوهم والاستيلاء عليه بأن يشدوا الوثاق -أي الأسر- ويرفعوا القتل، ثم يفعلوا معهم إحدى الحسنيين؛ إما المن عليهم بدون شيء بأن يسرحوهم بإحسان إلى أهلهم، أو يضربوا عليهم الفداء، كل واحد بحسبه، كما فعل رسول اللهﷺ مع أسرى بدر. وهذه الآية محكمة وليست منسوخة على القول الصحيح، ولم يقل سبحانه: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ولا تطلقوهم حتى يسلموا أو يقتلوا، كما يقوله من يرى أن القتل سببه الكفر، يؤكده قوله: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء: 90]، وهذه الآية مسبوقة بقوله: ﴿۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨ وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٨٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء:88-90].
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في طائفة من الكفار وهي الطائفة المسالمة للرسول وأصحابه، فما جعل الله للمؤمنين سبيلاً في قتالهم لكونهم قد سلموا المسلمين من شرهم، فلم ينقصوهم شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، ولم يتعرضوا للطعن في دينهم، فصاروا مستحقين للسلامة والمسالمة، ويعني بالمنافقين الذين بمكة لا المنافقين في دار الهجرة.
ثم قال في الفئة المحاربة: ﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١﴾ [النساء: 91] فهؤلاء هم المحاربون للمؤمنين، وقد جعل الله للمؤمنين سلطانًا؛ أي حجة بينة في قتلهم وقتالهم لاعتبار أنهم محاربون لله ورسوله ودينه ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويزيده وضوحًا قوله تعالى: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨﴾ [الممتحنة: 8] فهؤلاء هم المسالمون للرسول وأصحابه، فهم يستحقون الإكرام والاحترام والصدقة والإحسان لعدم عدوانهم على المسلمين، ثم قال في ضدهم: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 9] فهؤلاء هم المحاربون لله ورسوله ودينه وعباده المؤمنين، فيستحقون القتال لكف ظلمهم وعدوانهم.
إن الله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه، غير مبخوس ولا منقوص ﴿وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩﴾ [الكهف: 49]، وهذه الآيات هي بمثابة ميزان العدل والحكم بالحق بحيث تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع في كل من يستحق القتل والقتال ومن لا يستحقه.
غير أن بعض العلماء من المفسرين والفقهاء المتقدمين يقابلون مثل هذه الآيات الواردة في محاسن الإسلام وسماحته كآية: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ [البقرة: 190]، وقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وقوله: ﴿إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: 4]، وقوله: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]، و قوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 7]، فكل هذه الآيات وأمثالها يعارضونها بدعوى نسخها ليثبتوا الحكم بأضدادها تمشيًا على ما يعتقدونه في نفوسهم، فهم يريدون أن يبدلوا كلام الله، على أن دعوى النسخ غير ثابتة؛ إذ لا يعرف الناسخ المتأخر إلا بالخطاب الثابت، فأين شروط النسخ والحالة هذه؟
وذكر ابن جرير في التفسير عن ابن عباس وقتادة: أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام خداعًا، ويعينون المشركين على المسلمين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم وإن المؤمنين لما أخبروا بخروجهم من مكة، قالت فئة منهم: اطلبوا الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله تقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم من أجل أنهم لم يهاجروا فتستحلوا دماءهم وأموالهم! فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى أحد الفريقين، فتنزلت هذه الآيات وفيها التصريح بمن يباح قتله وقتاله ومن لا يباح قتله وقتاله.
وفيها أقوال أخرى غير أن ابن جرير رجح هذا التفسير عن ابن عباس وقتادة. وذهب الجمهور إلى أن هؤلاء الذين استثناهم الله هم من الكفار، وكانوا كلهم حربًا للمؤمنين، يقتلون كل مسلم ظفروا به، فشرع الله للمؤمنين معاملتهم بمثل ذلك، وأن يقاتلوا من يقاتلهم، ويسالموا من يسالمهم.
ولهذا قال سبحانه: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء: 90]؛ أي في قتالهم والاعتداء عليهم؛ لأن أصل الشرع في القتال أن لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم، ولا تعتدوا إلا على من يعتدي عليكم.
ثم قال في المحاربين: ﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ﴾ [النساء: 91]؛ أي المسالمة، ﴿وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ﴾ أي عن قتالكم والمساعدة على حربكم، ﴿فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١﴾.
وروى ابن جرير عن مجاهد أنهم أناس يأتون النبي ﷺ فيسلمون خداعًا، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الكفر وعبادة الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا من كلا الجانبين، فهم مذبذبون بين المؤمنين والكافرين، فأمر الله سبحانه بقتالهم إن لم يعتزلوا ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين، أو عن عمل الدسائس للمسلمين، وهذه الآيات كلها هي محكمة وليست بمنسوخة على القول الصحيح.
وقد اتخذ كثير من الناس دعوى النسخ سُلمًا إلى إبطال كثير من حكم الآيات والسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن كثيرًا من المتعصبين إذا رأوا آية أو حديثًا يخالف مذهبهم يقابلونه بالتأويل، ويحملونه على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلاً، فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزعوا إلى دعوى الإجماع على خلافه، فإن رأوا من الخلاف ما لا يمكنهم معه دعوى الإجماع فزعوا إلى القول بأنه منسوخ، بدون أن يوجدوا ناسخًا صحيحًا صريحًا متأخرًا، إذ محال على الأمة أن تحفظ المنسوخ الذي بطل حكمه وتضيع الناسخ الذي يلزمها حفظه والعمل به، وليست هذه طريقة أئمة الإسلام بل كلهم على خلاف ذلك، وإنهم إذا وجدوا آية أو سنة صحيحة لم يبطلوها بتأويل ولا دعوى إجماع ولا نسخ. انتهى[5].
لهذا يظهر للقارئ مما قدمنا أن الغاية في القتال في الإسلام هو ما يعبرون عنه بحرية دعوة الدين لإعلاء كلمة الحق على الأديان كلها، ومنع فتنة أي أحد في دينه دين الحق أو محاولة إرجاعه عنه، كما أن المشركين يضطهدون المسلمين بكل ما يقدرون عليه من أنواع التضييق والإحراج والتعذيب والإيذاء لأجل ردهم عن دينهم. ولهذا أوجب الله القتال في الإسلام دفعًا لهذا الظلم والعدوان.
أما المسلمون فإنهم لم يضيقوا على أحد أو يحرجوه لأجل خروجه عن دينه ودخوله في دين الإسلام؛ لأن الله سبحانه قد نهى عن ذلك بقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256] بخلاف مشركي العرب فإنه لم يكن لهم دين مبني على عبادة أو معرفة. ولم يكونوا يؤمنون بالبعث والحساب ولا يصدقون بالجنة ولا بالنار ويسكنون في جزيرة العرب التي هي دار الإسلام ومأرز المسلمين، والتي لا يترك فيها إلا مسلم، وقد أوصى النبي ﷺ بإخراج اليهود والنصارى منها بحيث لا يبقى فيها دينان، إلا دين الإسلام، وهذا معنى ما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبيﷺ قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا».
فالمراد بالناس في هذا الحديث هم مشركو جزيرة العرب من إطلاق الكل ويراد به البعض، وهم الذين أنزل الله فيهم سورة براءة التي هي من آخر القرآن نزولاً وهي قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥﴾ [التوبة:5]، إذ من المعلوم أن الله سبحانه لم يحكم بإلزام الناس كلهم بمدلول هذا الحديث أو الآية من قتالهم حتى يقروا بالشهادتين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن سائر الأمم من اليهود والنصارى والمجوس يُكتفى منهم بالجزية ثم يُقرّون على دينهم الباطل الذي هو عدم الإقرار بالشهادتين وعدم الصلاة والزكاة، نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ [آل عمران: 173]، وهؤلاء الناس الذين أجمعوا على حرب رسول الله والصحابة هم أبو سفيان ومن معه دون سائر الناس،
إنه لولا إذن الله للناس بهذا الجهاد -الذي هو حقيقة في الدفاع عن الحق والحقيقة- لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا؛ ببغي أهل الطغيان وعبدة الأوثان ومنكري البعث للجزاء على الأعمال التي تبيح للناس جميع المنكرات والفواحش والآثام وسائر ما يفسد الأخلاق والأديان والآداب وروابط الاجتماع، والله يقول: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ﴾ [النساء: 76] والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان.
أما حروب الدول الأوربية فإن دول النصارى في فتوحها تحرص على نشر تعليم لغاتها وتاريخ عظمتها وعظمائها وسياسة ملكها، وينالون من الإسلام بهضمه وذمه وصد الناس عنه، وقد بقوا فوضى وحيارى ليس لهم دين يعصمهم، ولا شريعة تنظمهم، وإنما يتوارثون الكفر من بعضهم عن بعض، وينالون من الإسلام بالطعن فيه، لأجل هدم مقومات دين الإسلام وعظمته وعظمائه، ليبقوهم في رق الاستعمار وذل الاستعباد، ويلوِّحون للشباب المتعلمين في مدارسهم بأن دين الإسلام هو الذي حكم على أهله بالذل والضعف، حتى يبقوهم على حالهم فلا يتطاولون عليهم في العلم والثروة والعزة والقوة.
* * *
[5] ص143 من كتاب الصلاة.
إن مشركي العرب كانوا حربًا لرسول الله ﷺ وأصحابه لأن ولاءهم ومحبتهم ونصرتهم لقريش على حرب رسول الله وأصحابه، يقول الله تعالى: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2]، وقد شاركوا قريشًا في الهجوم على خزاعة، وهي داخلة في عهد الرسول وعقده، ثم شاركوهم في التحزب معهم يوم الأحزاب عام الخندق، ثم أرسل النبي ﷺ سبعين من القراء إلى نجد فيهم خبيب يدعون الناس إلى الدين ويعلمونهم أحكام عبادتهم، فتمالؤوا على قتلهم، فقتلوهم كلهم إلا خبيبًا فإنهم باعوه لقريش ليقتلوه في قتيل لهم فقتلوه، فقنت عليهم النبي ﷺ يدعو عليهم شهرًا. فهم الأعداء الألداء لم يبقوا صلحًا مع النبي وأصحابه، وقد أنزل الله فيهم صدر سورة التوبة وهي قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ [التوبة: 5] وهم الذين قال النبي ﷺ فيهم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ[6] حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
فهذا إنما أراد به مشركي العرب الذين لم تقبل منهم الجزية، وذلك بعد الإذن بقتالهم. وما أذن الله لنبيه وللمسلمين بقتالهم إلا بعد أن آذوا النبي ﷺ وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقعدوا لهم كل مرصد، ووقفوا في سبيل الدعوة، فلم يكن الإذن بقتالهم إلا للدفاع عن الحق وأذى الخلق، يقول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]، وكان النبيﷺ يقول: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»[7].
يقول بعض من يعترض على هذا ممن يحاول الطعن في الدين: إن الرسول وأصحابه قد أكرهوا مشركي العرب على الإسلام، وإنهم لم يقبلوا منهم إلا الإسلام أو السيف كالمرتدين عن دين الحق إلى الكفر، بينما القرآن يترك إكراه آخرين على الإسلام بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم الباطل كأهل الكتاب.
والجواب عن هذا أن جزيرة العرب هي دار الإسلام ومأرز المسلمين وعقر دارهم فلا ينبغي أن يترك فيها إلا مسلم، وقد أوصى النبي ﷺ بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا يبقى فيها إلا دين الإسلام. وجزيرة العرب هي الحجاز ونجد بلا خلاف، وفي غيرهما الخلاف المشهور. قال في فتح الباري: لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة. إذ هذه مساكن العرب من قديم الزمان والعرب فيها هم من أرفع الناس رأسًا وأقواهم بأسًا.
ولما اختلف الناس على الإمام علي رضي الله عنه في حرب الجمل وصفين تمنى أن ينحاز بقومه إلى جزيرة العرب أو الشام وأنشد:
ولو أني أُطعتُ عصمتُ قومي
إلى ركن اليمامة أو شآمِ
ولكني إذا أبرمتُ أمرًا
يخالفه الطَّغام بنو الطغامِ
إن قيام الدين وانتشاره واتساع رقعة الإسلام إنما هو بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر الله نبيه بقوله: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125] لا بالسيف والإكراه كما يعتقده بعض الناس وأكثر العوام، وإنما السيف بمثابة الناصر للإسلام الذي يذب عنه العدوان عندما توقدت بالغيظ والحقد والحسد قلوب أهل الطغيان حتى قلوب الأقربين من قريش الذي عزه عزهم، وشرفه شرفهم كما قيل[8]:
حسد العشيرة للعشيرة قرحة
تَلِدتْ وسائِلُها وجرحٌ أقدمُ
تلكم قريش لم تكن آراؤهـا
تهفو ولا أحلامها تتقَسَّمُ
حتى إذا بُعِثَ النبي محمـد
فيهم غدتْ شحناؤهم تتضرَّمُ
عزَبتْ عقولهمُ وما من معشـرٍ
إلا وهم منهم ألبُّ وأحزَمُ
لما أقام الوحيُ بين ظهورهم
ورأوا رسول الله أحمدَ منهمُ
إن مشركي العرب غارقون في فنون الشرك وعبادة الأوثان من الأحجار والأشجار والقبور وسائر وسائل الافتتان، وما يفسد العقول والأذهان ويفسد أخلاق الصغار والكبار، ويصير العاقل إذا عمل به أخرق، والرشيد سفيهًا؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي انتحلها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بنسبته إلى العدم وعدم الجزاء على العمل، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى الدين، وإلى عباد الله المؤمنين، وأن يعاملهم بضد صفاتهم الجميلة وأفعالهم الحميدة، إذ لا يمكن اتحاد وحدة الجميع على التوحيد مع الاختلاط بهؤلاء، مع العلم أن الأخلاق تتعادل، فلو لم يجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى لكانوا لذلك أهلاً إذ الضرورة تقتضي قطع العضو المتآكل متى خيف سراية ضرره إلى سائر الجسم.
من ذلك أن وفد خولان لما قدموا على النبي ﷺ مسلمين فقال لهم رسول الله: «ما فعل عم أنس». وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه عم أنس، فقالوا: قد أبدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكين به ولو قدمنا عليه لهدمناه، فإننا منه في غرور وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟». فقالوا: لقد أسنتنا -يعني أجدبنا- سنة حتى كنا نأكل الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه حتى اشترينا مائة ثور ونحرناها كلها، قربانًا لعم أنس وتركنا السباع تردها ونحن والله أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا ولقد رأينا العشب يواري الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس[9].
وهذا من فنون عملهم الذي يوقع عامتهم في الافتتان به، والله يقول: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193].
وإنما شرع القتال للدفاع عن الدين وعن أذى المعتدين وهو ما يعبرون عنه بحرية الدعوة إلى الدين، وإعلاء كلمة الحق على الأديان كلها، ومنع الفتنة فيه بحيث لا يفتن المسلم في دينه، ولا يجبر على الرجوع عنه إلى الكفر.
كما كان المشركون من قريش والعرب يضطهدون المسلمين بكل ما يقدرون عليه من أنواع الإحراج والتضييق والإيذاء والتعذيب، لأجل ردهم عن دينهم، كما فعلوا مع بلال وصهيب وسمية، من تعذيبهم لهم بالنار، بقصد ردهم عن الإسلام. ولأجل دفع الأذى والاضطهاد والعدوان شرع الله القتال في الإسلام، وجعله مفروضًا، وسماه سنام الإسلام، وأمر بإعداد القوة له لقصد إظهار الحق ونفع الخلق وإرهاب الأعداء بإخافتهم من عاقبة التعدي على دين المسلمين وبلادهم، وأفرادهم أو حدودهم وحقوقهم ومصالحهم، حتى ولو في غير بلادهم -بلاد العرب- فإن التعدي على أحدهم كجميعهم؛ لاعتبار أن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله. حتى تكون أمة الإسلام آمنة في عقر دارها، آمنة على أموالها ومصالحها، مطمئنة في حرية دينها.
وإنما اشتبه على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء بما فهموه من بعض الغزوات والسرايا التي يُظن منها بدء المسلمين بها، حيث توهموا بأنها هجوم محض وأن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون. وذهلوا عن بداءة حالة الحرب بينهم وبين المشركين باعتداء المشركين عليهم وتحزبهم مع قريش على حرب الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، كما أنهم نقضوا عهد صلح الحديبية، وهجموا على خزاعة مع أبي سفيان وقومه فقتلوهم وقد دخلت خزاعة في عهد رسول الله وعقده. واستمروا على هذا العداء والمظاهرة في ذلك الوقت، فهم أعداء للرسول في كل حال وفي كل محل إلى أن فتح الله مكة.
وكان العرب من أهل الحجاز ونجد يتربصون بإسلامهم واستسلامهم فتح مكة وظهور النبي على قريش، ويقولون: إن كان محمد نبيًّا فسيظهر على قريش، وإن كان غير نبي فستظهر عليه قريش، فلما فتح الله مكة في العام الثامن واستقر الإسلام بها ومَنّ على أهلها بالعفو، أقبل العرب من كل صوب يظهرون إسلامهم واستسلامهم لرسول الله، وسمي العام التاسع بعام الوفود، وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين.
* * *
[6] الألف واللام في كلمة الناس للعهد ويعني بالناس قريشًا نظيره قوله: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ [آل عمران: 173] والقائلون: إن الناس قد جمعوا لكم، هم فرد أو أفراد من الناس، كما أن الناس الذين جمعوا لقتالهم هم أبو سفيان ومن معه. [7] رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. [8] من شعر أبي حاتم. [9] ذكره في زاد المعاد في وفد خولان.
اشتبه على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين بما فهموه من بعض الآيات وبعض الغزوات والسرايا، مما يوهم أن المسلمين بدؤوا بالحرب لسائر الأمم، وخاصة حروبهم في فتوح البلدان زمن الخلفاء الراشدين، فيظنون كل الظن أنه هجوم محض.
وخفي عليهم سبب بدأ حالة الحرب بينهم وبين المشركين، وبينهم وبين فارس والروم بتسلط النصارى على المسلمين بقتلهم كل من أظهر إسلامه في سائر البلدان التي سيطروا عليها في الشام وغيرها.
فهذا وإن ظنه الناس هجومًا، لكنه حقيقة في الدفاع لشرهم، وقتال الدفاع لا يشترط له تقدم الدعوة، ولا أن يكون في كل معركة ولا في كل حركة، إذ العدو يتحين غفلة عدوه لمواثبته والعدوان يقابل بمثله، يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧﴾ [الأنفال: 57]، ويقول: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾ [البقرة: 194].
ولما عزم النبي ﷺ على فتح مكة أخفى سفره، وأنزل الله ما أنزل في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب لقريش يخبرهم بعزم رسول الله على غزوهم، فأطلع الله نبيه على ذلك قبل وصول الكتاب إليهم، وكان يقول: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[10].
وذكر يحيى بن سلام في تفسيره: أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب لقريش: أما بعد؛ يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام.
إن الغرض من الحرب ونتيجتها هو دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، وعبادة المسلمين ربهم آمنين في دينهم ووطنهم، وإعلاء كلمة الحق ودعوة الدين وتنفيذ شريعته. وكل هذا تعود مصلحته إلى البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، إذ هو دين الله لكافة البشر والذي قال الله فيه: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، إذ لولا هذا القتال الذي شرعه الله ﴿لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ٤١﴾ [الحج: 40-41] ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته.
أما حروب الصحابة لفارس والروم فإن الأصل فيها أنها لما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة على الإسلام وعلى التمسك به والعمل بموجبه، صار أولئك الجيران أعداء لكل من أظهر الإسلام فيؤذونهم ويضربونهم، وقتل النصارى بعض من أسلم من المسلمين بالشام، فهم بدؤوا بحرب المسلمين بغيًا وظلمًا، فأرسل رسول الله ﷺ سرية أمر عليهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون مع النصارى بمؤتة من أرض الشام.
ولما كان العدو حربًا لعدوه حيث كان وفي كل مكان، كان لا بد للمسلمين من أن يؤيدوا دعوتهم ويكفوا الاعتداء عن كل من ينتسب إلى دينهم، فيؤيدوا نشر هذه الدعوة بكل ما يستطيعون من قوة من كل ما يزيغ عنها الفتنة، والفتنة أشد من القتل.
وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر وفارس والعراق قد اعتدوا على بعض من أسلم من المسلمين فأخضعوهم لسلطانهم.
وكانوا يكتبون لبعض المسلمين يدعونهم إلى دينهم، كما كتبوا لكعب بن مالك لما هجره رسول الله ﷺ على تخلفه عن غزوة تبوك، وكان الصحابة بترقبون هجوم غسان عليهم وهم ملوك الشام لما بلغهم أنهم ينعلون الخيل لغزوهم، حتى أصيبت المدينة بالخوف الشديد من ترقب هجومهم، وعند ذلك أمر النبي ﷺ بغزوة تبوك لما بلغه أن الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة بالشام، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين وساعدهم على ذلك متنصرة العرب.
ولهذا أمر النبي ﷺ بالخروج في ذلك الوقت الشديد، وكان المسلمون في شدة من العسرة والمجاعة وانقطاع الظهر وسميت غزوة العسرة، وهي الغزوة التي ظهر فيها صدق المؤمنين ونفاق المنافقين.
وقد أرسل النبي ﷺ شجاع بن وهب الأسدي بكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام.
وكانت غسان هم ملوك عرب الشام، وكانوا حربًا لرسول الله، قال شجاع: فوجدتهم ينعلون خيولهم لمحاربة رسول الله وأصحابه. قال: فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقدوم قيصر وقد أقبل من حمص إلى إيلياء. قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه. فقال: إنك لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا أو كذا، وجعل حاجبه -وكان روميًّا- يسألني عن رسول الله، فكنت أحدثه عنه وما يدعو إليه فيرق قلبه حتى يغلب عليه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أومن به وأصدقه لكني أخاف من الحارث أن يقتلني متى علم بإسلامي.
قال شجاع: وخرج الملك -أي الحارث الغساني- يومًا فجلس فوضع التاج على رأسه وأذن لي بالدخول عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه ثم رمى به كالكاره له، وقال: من ينتزع مني ملكي؟! وقال: إني سائر إلى صاحبك ولو كان باليمن، ولم يزل تُعرض عليه الخيول ويأمر أن تنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، وما عزم عليه من غزو الرسول وأصحابه وأجابه قيصر وقال: لا تَسرْ ولا تعبر إليه والْهَ عنه. فلما جاءه كتاب قيصر دعاني فقال: متى تريد أن ترجع إلى صاحبك؟ فقلت: غدًا. فأمر لي بمائة مثقال ذهبًا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال حاجبه: اقرأ على رسول الله مني السلام. فقدمت على رسول الله وأخبرته خبره، فقال رسول الله: «بَادَ مُلْكُهُ»[11]. وفي أثناء هذه المدة أرسل ملك غسان إلى كعب بن مالك يطلبه للحاق به حينما هجره النبي ﷺ ضمن الثلاثة الذين خلفوا.
إنه من المعلوم أن فارس والروم كانتا أمتي حرب وقتال ولديهما الاستعداد التام بالعدد والعتاد وقد ضربتا بجيرانهما على ما جاورهما من بلاد العرب، وقد سعيا سعيهما في إضلال العرب وفي فساد دينهم وفي تنكرهم على رسول الله، وعدم إجابتهم له، والعرب مستذلون تحت سلطانهم وسيطرتهم، ولم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بعد الإسلام، فلما علما بإسلام العرب أخذا يعملان عملهما في التضييق عليهم، والتعذيب لهم، كي يرجعوا عن دينهم؛ لأنه ساءهما دخول أكثر العرب الإسلام، وخشوا صولة الدين عليهما وخافا أن يقوض ممالكهما، فكان كل منهما يهدد دعوة الإسلام في بلاده وبجواره، ويمنعون أشد المنع من نشرها في بلادهم، وكانوا يؤذون كل من يظنون أنه أسلم. فكانت حرب الصحابة كلها لأجل حماية الدعوة وحماية المسلمين من تغلب القوم الظالمين، لا لأجل العدوان أو الإكراه على الدخول في الدين. إن التنازع بين الناس في مرافق الحياة ووسائل المال والجاه والسلطان غريزة من غرائز البشر، وقد يفضي التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات، كما هي عادة البشر من قديم الزمان، وقد يكون التنازع والتقاتل لسبب تملك الأقطار واتساع العمران وتسخير الناس للسلطة الظالمة والسلطان الجائر فيكون ضرره كبيرًا وشره مستطيرًا، أما القتال المذكور في القرآن وفي سيرة الرسول وخلفائه وأصحابه فإنه مبني على قواعد العدل والرحمة، وعموم المصلحة للبشر كلهم، فما كان النبي ﷺ يطلب بالقتال ملكًا ولا مالاً ولا سلطانًا، وقد عرض عليه رؤساء قريش كل ذلك على أن يكف عن دعوته فلم يقبل، وإنما يطلب أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر. وكان قتاله ودفاعه في سني الهجرة دفاع الضعيف للقوي إلى أن أظفره الله وأظهره على قريش بفتح مكة عنوة.
إن المسلمين في دعوتهم لأمتي فارس والروم لم يستعملوا القوة في بداية أمرهم وإنما يطلبون إلى الممتنعين أن يسمحوا لهم بنشر دين الله دين الحق ودين جميع الخلق والذي أوجب الله أن ينذروا به ويبلغوه جميع الخلق، يقول الله: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19] فهم ينذرون ويحذرون بقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦﴾ [المائدة: 15-16].
﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩﴾ [المائدة:19].
﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64].
وحيث أمر الله بإبلاغ القرآن والإنذار به والدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن، فمتى مُنِع المسلمون من ذلك وهُدد الدعاة أو مُنِعوا من نشر دعوتهم في البلاد، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى عباد الله المؤمنين بقطع سبيل الدعوة إلى ربهم، وإلى ما فيه صلاحهم وصلاح البشر كلهم، فيقاتلون دفاعًا لشرهم فإن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والفتنة فيه أشد من القتل، ولا أشد من فتنة المضلين الذين يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، يقول الله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193].
فالإسلام لم يدع إلى قتال الكفار إذا هم أذعنوا ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشركهم وتشكيكهم ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن أجابوا الدعوة قُبِل منهم وكانوا مسلمين وإن امتنعوا طُلِب منهم الجزية، وهي نزر حقير ترمز لخضوعهم للإسلام وارتباطهم بعهده وعقده وكف الأذى والاعتداء على الدين وعلى المسلمين مع بقائهم على دينهم، ثم إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
فمطالب الإسلام والمسلمين هي من الأمور السمحة السهلة، غير أن الأمم المخالفة قد جاهدوا أشد الجهاد في منع الدعوة وقبول الهداية؛ لعلمهم أن ما يدعون إليه هو الحق الذي يقبله الذوق السليم ويستسلم له العقل الحكيم لأنه دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، وأن الناس ينصاعون لاستجابة دعوته، ومن لوازمه تقويض دعائم ملكهم وسلطانهم، وحتى النصارى في هذا الزمان فإن أشد ما يقع بأسماعهم هو الدعوة إلى الدين.
وهذه هي غاية القتال لأهل الكتاب المشار إليها بقوله تعالى: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩﴾ [التوبة: 29] إن قيام الإسلام إنما هو بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع في بلدان العالم إنما هو لموافقته للفطرة والمصلحة ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19] ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85].
فكان الصحابة في فتوحهم لا يتقدمون خطوة إلا والدعاة من خلفهم يبينون للناس الإسلام وأحكامه وفرائضه، وما يترتب عليه من الأجر والفضل في الدنيا وفي الآخرة، وبسبب هذا القتال في سبيل الله وفي سبيل حرية الدعوة حصل ما ترتب عليها من الفتوح للأقطار وسائر الأمصار، حتى انتشر فيها الإسلام وصار أكثر النصارى من الأمم حنفاء لله يعبدونه ولا يشركون به شيئًا.
ثم إن المسلمين عاملوا من دخل تحت سلطانهم معاملة حسنة بمقتضى العدل والإنصاف، حيث ساووهم بأنفسهم في جميع معاملات الحياة، وأقاموا أنفسهم مقام الحماة لهم دون دمائهم وأموالهم، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، وحتى احترام معابدهم فلا يتعرضون لهدمها، ولا يمنعون أهلها من دخولها، وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وهذا مما تواترت به الأخبار والتاريخ تواترًا صحيحًا لا يقبل الشك في جملته. والحاصل أن المسلمين إنما شهروا سيوفيهم لضرورة الدفاع عن أنفسهم وكف العدوان عنهم وعن دين الله الذي أمروا أن يبلغوه، فهم لم يستعملوا القوة إلا عند الحاجة وفي حالة الضرورة، وقد فتحوا بعض البلدان بدون قتال، لموافقة أهلها على دخولهم ونشر دعوتهم فيها، وسيرة النبي ﷺ وأصحابه في القتال مبنية على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة لكافة البشر من غير اعتداء على دين أحد أو ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده.
ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن أخبرونا بالذي تريدون منا وما الغرض من إقدامكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: إننا نريد أن نخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ونريد أن نُخرج الناسَ من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، ونريد أن نخرجكم من ضيق الدنيا إلى سعتها.
فهذا صنيع سلف المسلمين الكرام من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان والسنة والقرآن والسيف والسنان حتى اتسعت رقعة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
ولا ننكر أن ملوك الطوائف من المسلمين قد شاب فتوحاتهم في آخر السنين لنشر دعوة الإسلام شيء من حب سعة الملك وعظمة السلطان، وحكم العدل وميزان القسط هو ما قدمنا من صفة سيرة رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه في فتوحهم.
ثم إن الحروب بين المسلمين والكفار يكون لها أسباب تثيرها وتهيجها سوى ما ذكرنا مما يدخل تحت الدفاع عن حقوق سائر المسلمين لاعتبار أنهم متكافلون، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
فمتى هَمّ العدو الطامع باغتصاب بلادنا أو شيء من حقوقنا، أو أراد العدو الباغي استذلالنا أو العدوان على استقلالنا بقطع حرية دعوتنا، فإنه يجب عند ذلك أن نتحلى بحلية الشجاعة والقوة والعزة، فنقاتل في سبيل ذلك حتى تكون حقوقنا محفوظة، وكرامتنا مصونة، وهذا من القتال في سبيل الله لقصد إرهاب الأعداء، وإخافتهم من عاقبة التعدي على المسلمين، وعلى بلادهم وأفرادهم، حتى في غير بلادهم؛ لاعتبار أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله[12].
* * *
[10] سيرة ابن هشام 2/397.
[11] ذكره العلامة ابن القيم ص20 من المجلد الثاني من زاد المعاد في فقه غزوة تبوك.
[12] من ذلك ما ذكره أهل التاريخ قالوا: أسرت الروم امرأة شريفة هاشمية، وكانت ممتلئة الصدر بالعزة والأنفة والشجاعة. وفي ضحوة يوم من آخر أيام الشتاء كان المعتصم بن هارون الرشيد جالسًا في مقره ومن حوله حشمه وخدمه فجاء حاجبه وقال له: يا أمير المؤمنين، هنا شيخ عربي بالباب هارب من أسر الروم يريد المثول بين يديك. فقال: ائذنوا له. فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، جئتك من عمورية المجاورة لأنقرة، وكنت أسيرًا فيها، فسمعت امرأة سيدة هاشمية من أسرى زبطرة تنادي رغم ما بينك وبينها من جبال ومفاوز: وامعتصماه، فجئتك هاربًا من أسرهم مقتحمًا صنوف الأخطار لأبلغك صوتها. فلما سمع المعتصم مقالته نهض في الحال مجيبًا: لبيك لبيك، ثم دعا عبد الرحمن بن إسحاق قاضي بغداد وشعبة بن سهل أحد كبار العلماء وثلاثمائة وثمانية وعشرين رجلاً من أهل العدالة وقال لهم: إني ذاهب في سبيل الله لإنقاذ الهاشمية من وراء أعماق بلاد الروم وقد لا أعود إليكم. فأوصاهم بما أوصاهم به، وقد اتفق المنجمون أنه إن خرج المعتصم لفتح عمورية هذا الوقت، فإنها تكون عليه الدائرة، فإنه لا يمكن فتحها إلا وقت نضوج التين والعنب، فخالفهم وخرج لفتحها ففتح الله عليه ما كان مغلقًا، وأصبح كذب المنجمين محققًا، ثم أمر بالنفير، وأصدر أوامره بأن تتوالى الجيوش خلفه، وتكون أعظم جيوش سالت بها الأباطح قبل هذا اليوم، فما زالت الجيوش تتبعه حتى وصلوا إلى أنقرة، فدمرها على رؤوس أهلها ثم انتقل إلى عمورية، فنزل على حصونها وأبراجها وأسوارها، وكانت أمنع أسوار عرفت في ذلك العهد، وما زال يلح عليها بدبابته ورهيب آلاته حتى دخلها في ربيع الأول سنة 223هـ، وكان أول ما طلب الوصول إلى المرأة الهاشمية في سجنها، وفي ذلك يقول أبو تمام قصيدته الرائعة التي مطلعها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
أجبته معلنًا بالسيف منصلتً
ولو أجبت بغير السيف لم تجب
الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون الغالبون على الأمم المغلوبة لقصد إرهابهم وإضعافهم، وتضخم مالية الدولة بما يصنعونه، فضلاً عن الغرامات التي يرهقونهم بها بما يسمونه خسائر الحرب، وإنما هي نزر يسير بمثابة رمز للخضوع والطاعة لحكومة المسلمين، وهي تشبه بالتقريب ورقة التجنس التي يعرف من حملها بأنه من أفراد الدولة الملتزم لنظامها وطاعتها مع بقائه على ديانته، لكون الإسلام يقرهم على دينهم، إذا بذلوا الجزية فتؤخذ من أغنيائهم في آخر الحول، ولا جزية على الصبيان ولا على النساء ولا على الفقراء، وهي مأخوذة من الجزاء؛ أي جزاء حقن الدم، أو جزاء الحماية لهم والدفاع عنهم، أو جزاء مساواتهم بالمسلمين. ويستفيدون بها التزام الحكومة الإسلامية بدخولهم في ذمتها وعهدها بحيث يمنعونهم من كل ما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، ويحمونهم ممن يعتدي عليهم، ويحترمون معابدهم، ولا يكلفونهم التجند للقتال معهم عند حاجة المسلمين إليهم. ويستفيدون بهذه الجزية بأنهم كحالة المسلمين في سائر تصرفهم في أمور دنياهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويبقون محترمين من نالهم بسوء غرم وأثم، وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أخفر معاهدًا في ماله ودمه، وقد أوصى عمر بن الخطاب بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
حتى إن المسلمين يعولون العجزة منهم ويعيشونهم، وكتب خالد بن الوليد بعد فتح العراق: أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًّا فافتقر وجعل أهل دينه يتصدقون عليه، فإنها تطرح جزيته، يعال هو وعياله من بيت مال المسلمين ما دام مقيمًا بدار الهجرة وبدار الإسلام.
وهذا هو الذي جرى عليه العمل من سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين في فتوح الأمصار، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة وأعدلهم في تنفيذها.
وأما ما يذكره الفقهاء في كتبهم من إطالة وقوفهم وجر أيديهم، فهذا لا أصل له في الشريعة، وإنما هو من توليد بعض الفقهاء أخذًا من مفهوم قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩﴾ [التوبة: 29] ففسروا هذا الصغار بما وصفوه من الذل والاحتقار، وليس كذلك، وإنما معناه حتى يعطوا الجزية عن طاعة وإذعان للإسلام.
وكتب خالد بن الوليد لنسطونا وقومه: إن عاهدتكم على الجزية والمنعة فلكم الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية عليكم وإلا فلا. وهذا دليل على أن الجزية جزاء عن الحماية والمنعة تدوم بدوامها وتزول بزوالها.
وأنه يجوز للإمام إسقاطها في حالة الصلح والمصلحة وعدم القدرة على الحماية.
وقد جرى العمل بذلك من الصحابة فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان والأزدي في فتوح الشام: أن الصحابة لما عجزوا عن حماية أهل حمص حين اضطروا إلى ترك مركزهم لحضورهم وقعة اليرموك بأمر أبي عبيدة بن الجراح؛ ردوا إلى أهل حمص ما كانوا أخذوه منهم من الجزية، فعجب نصارى حمص ويهودهم من رد أموالهم إليهم وأخذوا يدعون لهم ويستغيثون بنصرهم على أعدائهم من الروم.
وقد خصَّ الفقهاء أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس فقط دون عبدة الأوثان، مستدلين بأن الله لما خص أهل الكتاب بأخذ الجزية دل على أنها لا تؤخذ من غيرهم، وقالوا: إن النبي ﷺ لم يأخذها من مشركي العرب، وقال شيخ الإسلام في رسالته قتال الكفار: ولقد تتبعت ما أمكنني في هذه المسألة فما وجدت لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في أخذ الجزية بين أهل الكتاب وغيرهم. وقال: وقد توفي رسول الله وما بأرض العرب مشرك تؤخذ منه الجزية، غير أن جزيرة العرب خاصة لا يبقى فيها دينان، وقد أمر رسول الله بإخراج اليهود والنصارى منها لأنها عقر دار المسلمين ومأرزهم. انتهى.
يشير في كلامه إلى أن الجزية تؤخذ من المشركين عبدة الأوثان في غير جزيرة العرب، كما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس لا فرق في ذلك. ويدل على ذلك ما روى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا فقال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ-، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تعالى، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّه وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك، فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نبيه، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّه أَمْ لَا».
فقد عرفت من هذا الحديث في بعث رسول الله سراياه إلى المشركين أنه يأمر أمير السرية متى نزل بقوم أن يدعوهم إلى الإسلام فإن هم أبوا الدخول فيه دعوهم إلى التحول إلى المدينة دار المهاجرين ليسمعوا القرآن، فإن هم امتنعوا دعاهم بأن يكونوا كأعراب المسلمين يمضي عليهم حكم الإسلام، فإن امتنعوا ولم يقبلوا هذا كله، ولا شيئًا منه، سألهم الجزية مع بقائهم على دينهم الباطل. وهذا كله دليل على أن القتال لم يشرع للإلزام بالإسلام، وإنما شرع لكف العدوان عن الدين، وعن عباد الله المؤمنين، وأنه يجوز أخذ الجزية من المشركين في غير جزيرة العرب كما قدمنا، وهذه الجزية هي قدر يسير ونزر حقير لا يسمن ولا يغني من جوع[13].
نظم يوسف بن يحيى الصرصري الحنبلي فقال:
وقاتل يهود والنصارى وعصبة الـ
مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد
على الأدون اثني عشـر درهم افرضنْ
وأربعةً من بعد عشـرين زَيّدِ
لأوسطهم حالاً ومن كان موسرًا
ثمانية مع أربعين لتَقْتدِ
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم
وشيخ لهم فَانٍ وأعمى ومقعدِ
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم
ومن وجبت منهم عليه فيهتدِ
* * *
[13] قدر جزية الغني ثمانية وأربعون درهمًا وهي تعادل ما يقدر باثني عشر ريالا فضة سعوديًا أو اثنتي عشرة روبية فضة إنجليزية. والوسط منهم على النصف من ذلك أي ما يقدر بستة ريالات فضة سعودية أو ست روبيات فضة إنجليزية. وعلى الأدون منهم اثنا عشر درهمًا وقدرها ثلاثة ريالات فضة سعودية أو ثلاث روبيات فضة إنجليزية.
لقد من الله على المؤمنين ببعثه هذا النبي الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، والعرب يومئذٍ مضطهدون مستذلون بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تتحدث الأمم بدولتهم وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام، وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
فالإسلام والعمل بالقرآن أنشأ العرب نشأة مستأنفة، خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، ويدعون الناس إلى العمل به فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ومجد وعرفان، وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗا﴾ [النور: 55].
وصدق الله وعده فأعزهم بعد الذلة وكثرهم بعد القلة، فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم ستر عورته وشبع جوعته، يقول الله تعالى: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ ٤﴾ [قريش:3-4].
وقد ذكرهم الله بهذه النعمة فقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦﴾ [الأنفال: 26] قال قتادة: كان العرب قبل الإسلام أذل الناس ذلًّا وأشقاهم عيشًا وأجوعهم بطونًا وأعراهم ظهورًا وأبينهم ضلالاً، يأكلون ولا يؤكلون، والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس.
فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر.
وكم بدوي في الفلا خلف نوقه
يبول على الأعقاب أغبر حافيا
تلافاه في وادي الضلالة هاديا
فأصبح نجمًا في الهداية عاليا
وقد بشرهم النبي ﷺ بهذا الفتح قبل وقوعه، وفي حال قلتهم وضعفهم وفقرهم وبعدهم عن وسائل الملك والسلطان، ففي البخاري عن أنس قال: كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان وكانت تحت عبادة بن الصامت، فنعس ثم ضحك فقالت: يا رسول الله، وما يضحكك؟ قال: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجِ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ». أو: «مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أَنْتِ مِنْهُمْ». فركبت البحر زمن معاوية غازية فصرعت عن دابتها فماتت رضي الله عنها.
كتب الله القتال على المؤمنين وهو مع كراهيتهم له خير لهم، وخير للبشرية كلهم حيث هدى الله به وبدينهم ودعوتهم أعظم شعوب الأمم، من النصارى والعجم وسائر الأمم، فأسلموا وحسن إسلامهم، حيث فتحوا الكثير من ممالك الشرق والغرب حتى استولوا على بعض بلاد أوربا وفارس، ونظموا فيها دولة عربية مسلمة كانت سعادة للبشر كلهم، وكانت زينة الأرض في العلوم والفنون والحضارة والعمران.
وإنما كانوا يفضلون أعداءهم بصلاح أرواحهم الذي يتبعه إصلاح أعمالهم، وذلك أن المسلم العربي يتولى حكم ولاية أو بلد أو بلدان وهو لا علم عنده بشيء من قوانين الحكومة ولم يمارس أساليب السياسة ولا طرق الإدارة، فيصلح الله به تلك الولاية، فيزيل فسادها ويحفظ أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من أموالها ومظالمها، وإنما يخرج من عمله بثوبه الذي دخل به، فيسعد الله به رعيته؛ لكون النفس إذا صلحت أصلحت كل شيء وإذا فسدت أفسدت كل شيء.
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم
ويسعد الله أقوامًا بأقوام
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب بلده ويطلب منه مالاً يعمرها به فكتب إليه: شكوت إليَّ خراب بلدك وتطلب مني مالاً لتعمرها به، فإذا جاءك كتابي هذا فحطها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه عمارها، والسلام.
إن طلب العلوم والفنون وحمل شهادة النجاح فيها مع إهمال التربية الصالحة والمصلحة للنفس وللناس لم يحل دون فنون وعوامل الاستعباد، لهذا ترى الرجل المتعلم المتفنن يتولى ولاية فيكون غاية همه ونهاية عمله تأسيس ثروة واسعة لنفسه وعياله، بما يسمونه تأمين مستقبله، مع توسعه في التمتع بالشهوات واللذات وزينة الحياة.
إن أكبر عامل ساعد الصحابة على فتح البلدان وتوسع الناس في الدخول في الإسلام في كل مكان هو تأثر الأمم بسماع القرآن، إذ كانوا يتلونه حق تلاوته في صلاتهم المفروضة، وفي تهجدهم وفي سائر أوقاتهم، فسرعان ما دخلت محبته في قلوب الخاص والعام، فرفع أنفس الكثير عن غفلتها وجهالتها وطهرها عن خرافات الوثنية المستعبدة لها.
وكان النبي ﷺ يؤتى بالأسير من المشركين فيأمر بربطه في إحدى سواري المسجد ليسمع القرآن، فلا يلبث بعد سماعه إلا أن تسبق هداية الإسلام والإيمان بالقرآن إلى قلبه، كما في البخاري أن خيل النبي ﷺ جاءت بثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فأمر به رسول الله ﷺ أن يربط في سارية المسجد ليسمع القرآن، فبعد أسره جاءه رسول لله ﷺ فقال: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟». فقال: يا محمد، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسل من المال تعط منه ما تشاء. فتركه رسول الله ﷺ، ثم جاءه في اليوم الثاني فقال: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟». فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسل من المال تعط منه ما تشاء. ثم جاءه في اليوم الثالث فقال مثل مقالته فقال رسول الله: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ». فقال: ما كنتم تقولون إذا أراد أن يسلم أحدكم؟ قالوا: يتشهد شهادة الحق. فقال: يا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك وقد أصبح دينك أحب الأديان إليّ، والله ما كان على وجه الأرض بلد أبغض إلي من بلدك وقد أصبحت بلدك أحب البلدان إلي، وقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة. فقال رسول الله ﷺ: «اعْتَمِرْ». فلما دخل مكة قالت له قريش: صبئت يا ثمامة. فقال: ما صبئت ولكني أسلمت، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله. ومثله جبير بن مطعم أنه أتى رسول الله ﷺ في فدى بدر - قال ابن جعفر: في فدى المشركين- وما أسلم يومئذ، فدخلت المسجد ورسول الله ﷺ يصلي المغرب فيقرأ بـ (الطور)، قال: فكأنما صدع عن قلبي حين سمعت القرآن[14]. وكانت سبب إسلامه.
فالقرآن هو معجزة النبي العظمى التي صار بها أكثر الأنبياء أمة وتبعًا، كما في البخاري و مسلم أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلِيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ».
فالصحابة الكرام فتحوا الكثير من البلدان بالقرآن أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان؛ لأنه المعجزة الخالدة العامة الباقية، ولا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بإثبات نبوة محمد ﷺ وإثبات القرآن الذي قص علينا خبر الأمم قبلنا، خبر المعجزات التي جاء بها كل نبي تشهد بصدق نبوته، وتكون حجة على الجاحدين والمعاندين له، ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧﴾ [النمل: 76-77].
* * *
[14] أخرجه أحمد من حديث جبير بن مطعم، وهو في البخاري بغير هذا اللفظ.
إن رسول الله ﷺ قد سَنّ لأصحابه وأمته سنة الفتح للبلدان وذلك بفتحه مكة عنوة، وصلى ثماني ركعات في بيت أم هانئ شكرًا لله، وذلك ضحى يوم الفتح. وأمر بلالاً بأن يؤذن على رتاج الكعبة أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. وقد امتن على كافة قريش وأهل مكة سوى سبعة نفر بالغوا في إيذاء النبي ﷺ منهم عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على رأس النبي ﷺ وهو ساجد بالمسجد الحرام.
وقال لسائر قريش وأهل مكة: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[15]. فسموا الطلقاء من ذلك اليوم، وتركهم على علاتهم بدون أن يسأل أحدًا منهم عن عقيدته أو إسلامه حتى أسلموا باختيارهم من تلقاء أنفسهم.
وقد جعل الصحابة هذا الفتح وهذا التصرف فيه نصب أعينهم، وغاية قصدهم وعليه سير عملهم.
وقد سار الصحابة رضي الله عنهم بسيرة رسول الله في فتوحهم للبلدان المملوءة بالسكان، فلم يكرهوا شخصًا واحدًا على الدخول في الإسلام، بل تركوهم على ما هم عليه من مختلف الأديان، وعهدوا لهم بأن لا يؤذوا المسلمين ولا يفتنوهم عن دينهم ولا يتعرضوا للطعن في الدين، ثم هم آمنون على دمائهم وأموالهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وسموا أهل الذمة؛ لأن لهم ذمة الله ثم ذمة المسلمين، من رامهم بسوء غرم وأثم. فهذا الأمر الثابت في فتوح المسلمين ومعاملتهم للذميين، وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا وأن يعاملوا بإحسان.
ولما انتشر الإسلام بين هؤلاء، وعرفوا محاسنه، وذاقوا حلاوته وعدل سادته، وتعلموا لغته، أخذوا يدخلون فيه أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، ومن اختار منهم البقاء على دينه فإنه آمن على ماله ودمه، فعاش هؤلاء في ظل الإسلام والمسلمين في أمن وأمان وسعادة واطمئنان.
* * *
[15] سيرة ابن هشام 2/412.
إن العلماء المنصفين والمؤرخين الصادعين بالصدق بدون تبديل ولا ميل عن سواء السبيل يشهدون للإسلام بأنه ما عُرِفَ فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا من المسلمين حين دخل الإيمان قلوبهم، بل ولا أعدل ولا أرحم منهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان بالله وحده، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم، ويدينون بدينهم، ويتعلمون لغتهم، إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.
فهذا هو السبب الأعظم الموجب لدخول الناس من جميع الأمم في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، وهذا أمر مشهور مشهود به يعرفه ويعترف به كل من عرف الإسلام وأهله، وقد قال عظيم من عظماء النصارى هو نابليون: إن العرب المسلمين قد فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن لا غير. وقال غوستاف لوبون وهو من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران والتاريخ من الإفرنج: إنه ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب المسلمين في فتوحاتهم.
وقال آخر هو ولز الإنجليزي ص303 من كتابه مختصر التاريخ العام: إذا كان القارئ يتخيل أن موجة الإسلام قد غمرت بهذا الفيض الذي فاضته بعض مدنيات شريفة فارسية أو رومانية أو يونانية، فيجب أن يرجع عن خياله هذا حالاً، فإن الإسلام قد ساد لأنه أفضل نظام اجتماعي وسياسي تمخضت به الأعصر، وإن الإسلام قد ساد لأنه وجد أممًا استولى عليها الخمول وكان فاشيًا بها الظلم والنهب والعسف وكانت بدون تهذيب ولا ترتيب، فلما جاء الإسلام لم يجد إلا حكومات مستبدة ومستأثرة منقطعة الروابط بينها وبين رعاياها، فأدخل الإسلام في أعمال الخلق أوسع فكرة سياسية عرفها البشر، وقد مد إلى البشرية يد المعونة. ولم يبدأ الإسلام بالانحطاط إلا عندما بدأت البشرية تشك في صدق القائمين به.
وقال لوثروب ستودارد الأمريكي في مقدمة كتابه حاضر العالم الإسلامي:
كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دوى في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلادًا منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض ممزقًا ممالك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادمًا أديانًا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيرًا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيًا عالمًا حديثًا متراص الأركان هو عالم الإسلام.
كلما زدنا استقصاء باحثين في سر تقدم الإسلام وتعاليمه زادنا ذلك العجب العجاب بهرًا فارتددنا عنه بأطراف حاسرة عرفنا أن سائر الأديان العظمى إنما نشأت ثم أنشأت تسير في سبيلها سيرًا بطيئًا ملاقية كل صعب، حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين ثم أخذ في تأييده والذب عنه بما استطاع من القوة والأيدي، وليس الأمر كذلك في الإسلام، إنما الإسلام نشأ في بلاد صحراوية تجوب فيافيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في جهات الأرض مجتازًا أفدح الخطوب وأصعب العقبات دون أن يكون له من الأمم الأخرى عون يذكر ولا أزر مشدود.
وعلى شدة هذه المكاره فقد نصر الإسلام نصرًا مبينًا عجيبًا، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين حتى باتت راية الإسلام خفاقة من البرانس حتى هملايا، ومن صحارى أواسط آسية حتى صحارى أواسط إفريقية.
كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق عوامل ساعدت عليه أكبرها أخلاق العرب، وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته، والحالة العامة التي كان عليها المشرق المعاصر في ذلك العهد.
إن العرب وإن كان ماضيهم ما برح منذ عهد متطاول في القدم حتى عصر الرسالة ماضيًا غير مشرق باهر، فقد كانوا أمة استودعت فيها قوة عجيبة تلك القوة الكامنة التي بدأت منذ نشوء الإسلام تظهر جلية إلى عالم الوجود، فقد ظلت بلاد العرب أجيالاً طوالاً من قبل محمد مباءة يشتد فيها تزخار القوى الحيوية.
وكان العرب قد فاقوا آباءهم وأجدادهم إيغالاً في الشرك والوثنية، مضى عليهم وهم على هذه الحال عهد ليس بالقليل حتى استحالت عناصر أمزجتهم من شدة ذلك كله. ولما صاح فيهم نفير الإسلام أن محمدًا رسول الله، وهو عربي من العرب، استطاع محمد أن يبشر بالوحدانية تبشيرًا عاريًا عن زخارف الطقوس والأباطيل، وأن يستثير حق الاستثارة من نفوس العرب الغيرة الدينية، وهي الغيرة الكامنة المتمكنة على الدوام في كل شعب من الشعوب السامية.
وإذ هب العرب لنصرة دعوة محمد بن عبد الله، من بعدما ذهبت من صدورهم الإحن المزمنة، والعداوات الشديدة التي كان من شأنها الذهاب بحولهم وقوتهم. انضم بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص تحت لواء صاحب الرسالة في رأسه نور للناس وهدى للعالمين، أخذوا يتدفقون تدفق السيل من صحاريهم في شبه الجزيرة ليفتحوا بلاد الإله الأحد الفرد الصمد.
أجل هبّ الإسلام من شبه الجزيرة هبوب العاصف المزعزع، فلاقى في سبيله جوًّا روحانيًّا خاليًا.
في ذلك العهد كانت مملكتا فارس وبيزنطة باديتين للعيان كأنهما اللحاء الجاف عوده لا نمو فيه ولا حياة، وكان الدين في هاتين المملكتين صار دينًا يزرى عليه ويسخر منه، أما فارس فقد كان دين المزدكية القديم قد انحط انحطاطًا كبيرًا حتى أصبح مجوسية باطلة، وصناعة خداعة بين أيدي الموابذة يظلمون به الخلق ويضطهدون بكل قوة، فكره الناس ذلك الباطل كرهًا شديدًا ومقتوه مقتًا عظيمًا.
أما في القسم الشرقي من المملكة الرومانية فقد ألبس الدين فيها لباسًا غير لباسه الأول، فاستحال إلى الأباطيل الشركية، وانتشرت فيه الأوهام والخزعبلات التي كان يقوم بها علماء الدين اليونانيون ذوو العقول السخيفة والآراء الفاسدة فغدت النصرانية عبثًا وسخرية.
وفي الجملة فقد كانت البدع والضلالات قد مزقت المزدكية الفارسية والنصرانية البيزنطية شر ممزق، وبذرت في كل منهما بذور الاضطهادات الهمجية والعداوات الوحشية، فنمت تلك البذور نموًا هائلاً.
هكذا كانت حالة العالم لما غشيه طوفان الإسلام، وعلى هذا الاعتبار ترى أن العاقبة التي رآها العالم بعد ذلك كانت مما لا بد منه، ولا مندوحة عنه، وجميع ما في الأمر أن كتائب المملكة الرومانية الشرقية ومتدرعة فارس كانت من قبل خواضة حرب فتاكة، ولم تقدر الآن على صد حملة الحاملين عليهما من أمة الصحراء، فسقطت أمام الفاتحين العرب سقوط التلاشي والإعياء.
فلهذا لم يدافع المغلوبون عن أوطانهم حمسًا أبطالاً، بل إن هذه الأمم التي كانت حتى الفتح الإسلامي مدقوقة العنق من جانب ملوكها، قبلت الفاتحين مستسلمة، فقام عديد من أرباب البدع يتهللون فرحًا وسرورًا لنجاتهم من نيران المضطهدين لهم الممقوتين.
وقد عرف العرب بدورهم كيف يسوسون الحكم ويوثقون السلطان حتى دانت لهم أمور الملك واستقرت نقطة دائرتها في أيديهم.
فالعرب المسلمون في فتوحهم لم يكونوا قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعًا، وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة؛ الحضارة العربية، وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي، ذلك الجماع الذي نفخ فيه العرب روحًا جديدة، فنضر وازدهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامية، فاتحد وتماسك بعضه ببعض، فأشرق وعلا علوًّا كبيرًا.
وقد سارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقيًّا، وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء ومختزن العلوم يشعان إشعاعًا باهرًا، طول هذه القرون الثلاثة ما انفك الشرق الإسلامي يضيء على الغرب النصراني نورًا، ثم غابت كواكبه وأفلت أنجمه، حتى أدركته لياليه السود وأجياله المظلمة.
إلى أن قال: كان العرب في عصر صاحب الرسالة أمة كريمة الأخلاق سليمة الطباع نيرة السجايا، مقاديم يركبون كل صعب، تحركهم روح الرسالة بغاية غاياتها، وتبعث فيهم عزمًا شديدًا وغيرة متوقدة، كانوا أشداء العصبية الدينية، وعلى شدة هذه العصبية فإنهم لم يكونوا فيها على غير هدى، بل كانوا مستبصرين يستنيرون بنور العقل وهدايته متمسكين تمسكًا شديدًا بمعتقدات دينهم وأركانه وأصوله، وإن دينهم هذا إنما كان دينًا سهل الاكتناه والمأخذ واضحًا جليًّا، كان جوهر تعاليم محمد الوحدانية مع السنة المعلومة، فالاعتقاد كل الاعتقاد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله كما أنزل في القرآن، والقيام بالفرائض المسنونة المعينة كالصلاة والصوم والزكاة والحج.
فالإسلام هو هذا الدين البين الصريح ما كان ليقيد عقل العربي ويلقي عليه سجوفًا فوق سجوف. والعربي كان قد أدرك حالاً ثار فيها جده واشتعلت غيرته، فبات تواقًا إلى اقتباس العلوم واجتناء ثمراتها والتبسط في شئون الحياة وتوفير أحوالها، والتكيف على حديث مقتضياتها، والخروج بها عما ألفه أزمانًا في فيافي الصحراء وكثبانها.
لهذا لما نشر العرب فتوحهم ومدوا سلطانهم على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على التنعم بالنعم المادية واستلذاذ الترف ورخاء العيش فحسب، بل عكفوا جادين على ترقية الفنون والعلوم والآداب وآراء الحضارة القديمة، فنشأ عن جميع هذا الجد والترقيات أن أخرج للناس تهذيب عربي سام، فأضاءت به العقول وازدهرت ازدهارًا كان فخر الحضارة العربية وواسطة قلادتها ودرة تاجها، فسادت الحرية وابتكرت الآراء والأفكار العلمية ووضعت القواعد والأصول واستنبطت الأحكام، بيد أن هذا لم يكن من صنيع العرب وحدهم بل شاركهم فيه كثير ممن كانوا متظللين ظل دولتهم من النصارى واليهود والفرس الذين كانوا في عهد ملوكهم قبل الفتح الإسلامي يذوقون الأمرين، ويسامون خسفًا شديدًا في سبيل آرائهم ومعتقداتهم الدينية التي كانوا يخافون فيها النصرانية والمجوسية والفارسية، على أنه كان لهذا العصر الزاهر حد وقف عنده ثم عرى شمسه كسوف فظلام مطبق. انتهى كلامه في كتابه حاضر العالم الإسلامي.
وأقول ليعتبر العاقل في كلام هذا الناقد الخبير بأحوال العرب في جاهليتهم وإسلامهم تراه يتكلم بخلوص نية وصحيح رواية وروية ونفي للغرض، مع أنه معدود من جملة الأضداد البعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، ويؤيد هذه الشهادة العقل كالنقل، فإنه لولا فضائلهم الدينية ورأسها الإيمان بالله وحده، لما أمكنهم أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وقد كانت حكوماتهما أرقى حكومات الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا، فتلاشت أمام المؤمنين بالله واليوم الآخر.
وقد ثل هذين العرشين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر به النبي ﷺ قبل وقوعه، وفي زمان ومكان استبعد السائل إمكانه، ومن المعلوم في العادة أن العرب في الجاهلية لا طاقة لهم بقتال هاتين الأمتين، وإنما قهروهم بعز الإسلام الذي أكثرهم الله به بعد القلة، وأعزهم به بعد الذلة، وأغناهم به بعد العيلة، وأزال به عن قلوبهم الإحن والشحناء، وجمعهم على كلمة البر والتقوى. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا عبيدة، إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم.
وبالجملة فالإسلام هو الذي أوقد نار العرب وأشاد منارها وخلد فخارها ووسع دارها، وبه صاروا هم السادة المطاعون، والقادة المتبعون، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 41].
فهم بهذه الصفات فتحوا الفتوحات ودانت لهم الأمم طوعًا من جميع الجهات، وبتركها سلب أكثر ملكهم والباقي على وشك الزوال. نسأل الله الهدى ونعوذ به من الضلال.
وأما الحضارة التي هي في عرف أهل هذا العصر استبحار العمران ورفاهيته السكان وانتشار العلم والعرفان، فقد ذكر المؤخرون في هذا الشأن أنه قد حصل للإسلام من ذلك دور خطير ونصيب كبير لا يستطيع مكابر أن يكابر في إنكاره، سواء قلنا في الفتوحات الروحية أو العقلية أو المادية، على أن شأن الإسلام وشأوه هو نشر العقائد الصحيحة المزيلة للأوهام والخرافات، وتشريع الأعمال الصالحة الصارفة عن الفواحش والمنكرات، وسن الأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والعهود والمعاملات، فالعلم بهذه الأشياء مقدم على سائر العلوم والفنون والصناعات وسائر أمور الحياة.
وأما سرعة انتشار الإسلام في الأقطار فسببه هو أن القرآن قد فتح الكثير من الأمصار والأقطار بدون أن تصل إليها سيوف المهاجرين والأنصار، وذلك أن هؤلاء المغلوبين بعد أن دخلوا في الإسلام أخذوا يجوبون خلال الديار الغربية البعيدة للتجارة وللسياحة وينشرون فيها الإسلام ومحاسنه ويقرؤون القرآن، فسرعان ما انتشر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ودخل الناس فيه طائعين مختارين؛ لأنه دين الحق القويم الذي يقبله الذوق السليم والعقل المستقيم، وهو المعجزة العظمى للنبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ بِهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلِيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ».
ذلك بأنها لما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش وتزويق الأبنية وخزن النقود فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين، وترقية سائر العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية، ونصب القضاة لتنفيذ الأحكام الشرعية والحقوق المالية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام بهذه الأعمال رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى.
فاختطوا المدن وأنشؤوا المساجد وأشادوا المكارم والمفاخر، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة.
مكث المسلمون ثلاثة قرون أو أربعة قرون وهم المسيطرون في الأرض لا يضاهيهم مضاهٍ، أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالتهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، هذا كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله.
فضعف المسلمين لم يكن من الدين، بل من أجل جهلهم بالدين، أو من أجل الإعراض عنه، أو من أجل عدم إجراء أحكامه كما ينبغي، فلما ضعف عملهم بالقرآن ونبذوا عزائم الدين، ذهب وحيهم وضعف سلطانهم، وانتقص الأعداء بعض بلدانهم.
وكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسب ما فيه من ولاية الله ونكاية أعدائه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل من عرف سير الملوك والأمم رأى أن كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادًا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله، كان أعظم نصرة وطاعة وحرمة، من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإلى هذا الزمان، وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله، وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء، بما قاموا به من الدين، وليعتبر بسيرة من والى النصارى وباع لهم بلاد المسلمين كيف أذله الله وكبته وسلبه ملكه. انتهى.
* * *
كان المسلمون في فتوحهم وفي معاهداتهم مع المشركين وأهل الكتاب يحترمون العهود أشد الاحترام ويقفون على حدودها، قال تعالى: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا﴾ [النحل: 91]، حتى إنه لو أحسوا بنقض العهد من العدو فإنهم يجب أن يشعروهم بنقض العهد حتى يكونوا وإياهم على العلم به على حد سواء، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ ٥٨﴾ [الأنفال: 85]. وروى الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي الفيض، عن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم عهد إلى أمد، فأراد أن يدنو منهم حتى إذا انقضى الأمد غزاهم من قريب، فإذا بشيخ على فرس يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر يا معاوية، إن رسول الله قال: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُ الْعَهْدِ أَوْ يَنْبِذَ لَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ»[16] قال: فبلغ ذلك معاوية فرجع بجيشه، فإذا بالشيخ هو عمرو بن عبسة رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله ﷺ يدعوهم فقال: إنما كنتُ رجلاً منكم فهداني الله للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية، وإن أبيتم نابذناكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام.
وقد بلغ من تأكيد الوفاء بالعهود في الإسلام أن الله سبحانه نهانا أن ننصر إخواننا المسلمين على القوم الذي بيننا وبينهم عهد من الكفار، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ﴾ [الأنفال: 72]، فلا يباح لكم نصر المسلمين على المعاهدين، وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»[17].
* * *
[16] أخرجه الطيالسي والإمام أحمد والترمذي من حديث عمرو بن عبسة. [17] أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد من حديث علي بن أبي طالب.
الحمد الله، والصلاة والسلام على سائر أنبيائه، ومن آمن بهم، واتبع هديهم، ولم يفرق بين أحد منهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله.
أيها المسلمون وأيها المستمعون، إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي دين الإسلام إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
وإن الدين هو هذا السمح سهل الاكتناه والعمل ليس بشاق ولا حرج، عموده الصلاة وبقية أركانه الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام مرة واحدة عند الاستطاعة، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.
لكون الإسلام ليس هو محض التسمي باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون العمل.
إن دين الإسلام هو دين الحق الذي ارتضاه الله لجميع الخلق فقال سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]، وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آلعمران: 85]، وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ﴾ [الأنعام: 125]، فيفرح بذكره ويندفع إلى القيام بفروضه ونوافله طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ﴾ [الزمر: 22].
الإسلام يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، يأمر بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وينهي عن منكرات الأخلاق والرذائل.
الإسلام دين السلام والأمان يحب السلم ويكره الحرب إلا في حالة الاضطرار. وقد سماه الله سلمًا فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]؛ أي في الإسلام.
الإسلام دين العزة والقوة والنظام المطهر للعقول من خرافات البدع والشرك والضلال والأوهام.
الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالطاعة والإيمان.
الإسلام يحترم الدماء والأموال ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[19] ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[20]؛ أي بموجب الرضاء التام. وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ﴾ [البقرة: 188].
الإسلام دين السعادة والسيادة من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد، يقول تعالى: ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨﴾ [الحج: 18].
الإسلام شريعة الله في أرضه، شرعه لعباده لمصالحهم الدينية والدنيوية، فقد نظم حياة الناس أحسن نظام، ولولا الإسلام وما فيه من الشرائع والأحكام، وأمور الحلال والحرام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى الحق.
الإسلام كفيل بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمنة، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم.
وإننا في دعوتنا إلى دين الإسلام لسنا ندعو إلى قومية عربية، ولا إلى أحزاب شعبية، ولا إلى مذاهب فقهية، وإنما ندعو إلى دين الحق، دين الله الذي ارتضاه لجميع الخلق، دين عيسى وموسى وسائر الأنبياء وخاتمهم محمد ﷺ، يقول الله سبحانه: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣﴾ [الشورى: 13].
فأمر الله سبحانه بإقامة الدين والاجتماع على كلمته ونهى عن التفرق فيه بأن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفروا ببعض، أو يؤمنوا ببعض الكتب ويكفروا ببعضها، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يقولوا: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
إنه من يكذب نبيًّا من الأنبياء فإنه يعتبر مكذبًا لسائر الأنبياء وكافرًا بالله عز وجل، فالذين يكذبون بنبوة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أو يكذبون بمعجزاته التي أثبتها القرآن فإنهم يعتبرون مكذبين لسائر الأنبياء وكافرين بالله عز وجل، ومثلهم كالذين يكذبون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام أو يكذبون بالقرآن النازل عليه من الله، أو يزعمون أنه شيء فاض على نفس محمد بدون أن يوحي به الله إليه أو ينزل به جبريل عليه، فإنهم يعتبرون بهذا مكذبين بنبوة عيسى ابن مريم ونبوة موسى وسائر الأنبياء؛ لأن من كذب نبيًّا واحدًا كذب سائر الأنبياء؛ ولأن التكذيب بمحمد أو التكذيب بالقرآن النازل عليه يستلزم التكذيب بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والتكذيب بمعجزاته التي أثبتها القرآن الحكيم. وإنني أعجب أشد العجب من عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم والذين برعوا في الذكاء والفطنة وعرفوا اللغة العربية، وقد كثر في هذه الأزمنة اختلاطهم بالعرب المسلمين وتعلموا لغة العرب التي يتمكنون بها من معرفة أحكام الإسلام وبلاغة القرآن، وشمول نفعه، ومحاسن أحكامه وحكمته، وعموم دعوته، وكونه رسالة رحمة وهداية من الله لجميع خلقه، وأنه المعجزة الخالدة لنبوة محمد ﷺ والمصدق لسائر الأنبياء قبله، ومع هذا كله نراهم يستكبرون ويصرون على التكذيب به وعلى التكذيب بالقرآن النازل عليه تقليدًا منهم للمكذبين من القسيسين والمبشرين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144]، ويقول: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]، نظير قوله: ﴿مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75].
على أن الكثيرين من عقلائهم يعترفون بدين الإسلام ويصدقون بنبوة محمد عيله الصلاة والسلام، وأن ما جاء به هو دين الحق الذي لا سعادة للبشر إلا باعتناقه واعتقاده. وأخذ بعضهم ينادي بعضًا بالرجوع إليه واتباع أحكامه وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين، ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩﴾ [الأنعام: 89].
يا معشر النصارى، لقد تعصبتم وما أنصفتم، وإن موضوع العجب منكم هو القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام كله نضال وجهاد وجدال عن نبوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، يحقق صدق نبوته وكرامة نشأته وطهارة مولده وبراءة أمه مريم البتول عليها السلام، وأن الله سبحانه خلقه بيد القدرة من أم بلا أب كما خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن. فكان، وأن الله أيده بالمعجزات الباهرات الدالة على صدق رسالته فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم مع تكليمه الناس في المهد، وقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا ٣٣ ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ ٣٤﴾ [مريم: 30-34].
كل هذه المزايا من الصفات والمعجزات قد أثبتها القرآن وآمن بها المسلمون ومن كذب بها فقد كفر، ولا توجد هذه الصفات وهذه المعجزات بالإنجيل الذي بأيديكم؛ لأن الله ذكر في كتابه المبين أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
على أن الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن ليس هو الإنجيل النازل على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وإنما هو مبدل منه وفيه التحريف الكثير والكذب على الله وعلى الأنبياء، كما يعترف العقلاء من علمائهم بذلك، يقول الله تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩﴾ [البقرة: 79].
لأن النصارى يجيزون للقسيسين أن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، فيجعلون الحرام حلالاً؛ لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فجعلوا المسيح هو الله، وجعلوه ثالث ثلاثة، والقرآن والإنجيل بريئان من ذلك، ﴿لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢﴾ [المائدة: 72]، ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ﴾ [النساء: 171].
وهذا القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام هو معجزة الدهور وآية العصور محفوظ في المصاحف وفي الصدور منذ نزل إلى يوم القيامة، لا يستطيع أحد أن يقحم فيه حرفًا أو يحذف منه حرفًا؛ لأن الله سبحانه تولى حفظه فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحجر: 9].
والقرآن هو أساس دين الإسلام مع سنة محمد عليه الصلاة والسلام، لولا هذا القرآن لكذب الناس بنبوة عيسى ابن مريم وبمعجزاته كما كذب بها اليهود وغيرهم، ورموا أمه بالمفتريات والعظائم، طهرها الله وأعلى قدرها عما يقولون علوًّا كبيرًا، أفيجازى محمد رسول الله الذي جاهد أشد الجهاد في الدفاع والنضال عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأن تقابلوه بتكذيبه والتكذيب بالقرآن النازل عليه والذي هو المعجزة العظمى له؟ وقد تحدى الله جميع الخلق وأنتم منهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، يقول الله سبحانه: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨﴾ [الإسراء: 88]؛ أي عونًا.
مع العلم أنه كان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وليس في بلده ولا زمنه مدارس ولا كتب، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩﴾ [العنكبوت: 48-49]، فعلم منه أن هذا القرآن وحي من الله أوحاه إليه بعد أن بلغ الأربعين من عمره، لا يقال: إن هذا القرآن شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي الله به إليه وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن القول بهذا حقيقة في التكذيب به، ومن قال به كفر وأصلاه الله سقر.
إن الله سبحانه ختم الرسل بنبوة محمد ﷺ، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]، كما ختم الشرائع بشريعته الشاملة الكاملة التي لا يجوز لأحد أن يتعبد بغير شريعته؛ لأن الله سبحانه أرسله إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فكما أنه رسول للمسلمين فإنه رسول للمسيحيين واليهود ولسائر الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فهو رحمة الله المهداة لجميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28].
وأنزل الله عليه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158] وقد أثنى الله سبحانه على الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً». فهو رحمة من الله مهداة لجميع الناس، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28].
فلو كان موسى أو عيسى موجودين بالأرض لما وسعهما إلا اتباع محمد والعمل بشريعته، ولما رأى النبي ﷺ مع عمر قطعة من التوراة قال له: «يَا عُمَرُ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَلَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي»[21].
إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق دين الإسلام واعتقاده وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن النازل عليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بقولهم بأنه رجل عاقل، وأنه عبقري وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه أو ينزل به جبريل عليه تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.
فهم يتلقون هذا التكذيب من القسيسين والمبشرين، مما جعلهم يتأثرون به ويتربون في حالة صغرهم على اعتقاده. فهذا التأثر والتأثير قد أشربته قلوبهم، حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
والأمر الثاني هو أن تكذيب أذكيائهم والمفكرين منهم إنما نشأ عن عدم معرفتهم باللغة العربية التي هي لغة الإسلام، والتي يعرف بها بلاغة القرآن لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين.
فبلاغة القرآن بلغته ومعرفة أحكامه وحكمته، وعموم هدايته ومنفعته وذوق حلاوته، كل هذا إنما يدرك عن طريق لغته، كقوله سبحانه: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤﴾ [فصلت: 3-4].
إن عدم معرفة الأمم للغة العربية، التي هي لغة القرآن أكثف حجاب يحول بينهم وبين اعتناق الإسلام واعتقاده والتصديق بالرسول وبالقرآن النازل عليه.
أما ترجمة القرآن الموجودة بأيدي النصارى الآن -وقد ترجم عدة تراجم- كلها ليست بقرآن وتبعد جدًّا عن بلاغة القرآن، وفيها الشيء الكثير من الخبط والخلط الخارج عن معاني القرآن، فلا تسمى قرآنًا.
وإنني أنصح عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم بأن يوجهوا عنايتهم ورغبتهم إلى تعلم اللغة العربية، فإن تعلمها يعد من الأمر الواجب على كل أحد، وخاصة من يرغب في الدخول في الإسلام، وبها يعرف أحكام العبادات من الصلاة والزكاة والصيام ويتبين له بطريق الوضوح أن دين الإسلام هو الدين القويم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم؛ لأنه دين سعادة وسيادة وسياسة صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء لأنه يهدي للتي هي أقوم.
إن كثيرًا من أذكياء النصارى قد تغيرت أفكارهم بعدما تعلموا اللغة العربية، فظهر لهم من فضل الإسلام وصدق القرآن ما خفي على سلفهم، لهذا أخذوا يدعون قومهم إلى الرجوع إلى الإسلام وإلى العمل بما شرعه من الأحكام؛ لكونهم أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم، وقد كثر الداخلون في الإسلام في هذا الزمان وأخذوا يزدادون في الدخول عامًا بعد عام.
إن تعلم اللغة العربية أصبح ضرورة من ضرورات النصارى الاجتماعية، وفيه لهم مصلحة مفيدة فيما يتعلق بالكسب ووسائل الحياة لكثرة اختلاطهم بالعرب المسلمين في بلادهم وشدة حاجتهم إلى التخاطب معه، كما أن العرب المسلمين لما احتاجوا إلى التعامل معهم فيما يتعلق بالتجارة والصناعة والطب، أخذوا يعلمون أولادهم لغتهم لداعي الضرورة والحاجة إلى ذلك، كما علم النبي ﷺ زيد بن ثابت اللغة العبرانية لحاجته للتخاطب مع اليهود.
إنما انتشر الإسلام في بداية نشأته لانتشار اللغة العربية في البلدان الأجنبية، فعرفوا بها حقيقة أحكام الإسلام وبلاغة القرآن، وأنه دين الحق القويم، الذي نظم حياة الناس أحسن تنظيم، وبذلك دخل الناس في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، وسيكثر الداخلون فيه من شتى الأمم ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.
إن النجاشي ملك الحبشة، وأحد ملوك النصارى القدماء، لما كان عارفًا باللغة العربية من أجل مجاورته لبلدان العرب، فقرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فجعلت عيناه تذرفان من البكاء خشوعًا وخشية لله لحسن ما سمعه من كلام الله، فلما فرغ من قراءتها أخذ عودًا فرفعه ثم قال: إنه لم يزد على ما جاء به عيسى ولا مثل هذا العود. فأخذت بطارقته ينخرون استنكارًا واستكبارًا لقوله، فقال: وإن نخرتم وإن نخرتم، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي من رامكم بسوء غرم. وأنزل الله في فضله وتصديقه قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٤﴾ [المائدة: 84] قرآنًا يتلوه المسلمون في صلاتهم، وخارج الصلاة، يشيد بفضل النجاشي وسبقه إلى الإسلام، وإيمانه بالقرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
وإن هذا التأثر والتأثير من النجاشي بسماع القرآن قد حمله على الدخول في الإسلام، حتى صلى عليه النبي ﷺ وأصحابه بعد موته.
إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان ومن التدليس والكتمان، حيث وصفوا الإسلام بأنه دين تكاليف شاقة وأغلال، وبأنه دين حرب وقتال، وأنه إنما انتشر بالسيف والإكراه، وأن أهله يعرضون الشخص على السيف ويقولون له: إما أن تسلم وإلا قتلناك، ونحو ذلك من الأقوال البعيدة عن مواقع الصدق في المقال، وقصدوا بها صد الناس عن الدين، فهم ينهون عنه، وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولا عجب فهم قد تحاملوا عليه بالطعن فيه لصد الناس عنه وقد قيل:
صديقك لا يُثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدوَّ يقولُ
والحق أن الإسلام إنما انتشر بالقرآن وأنه فتح من البلدان أكثر مما فتح بالسيف والسنان، وأن السيف بمثابة الناصر له في كف الأذى عنه والعدوان، وفي محكم القرآن ما يدل على منع الإكراه في الدين يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، ويقول: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]، ويقول: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١﴾ [الغاشية: 21]؛ أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم، إن عليك إلا البلاغ.
وقد سن رسول الله ﷺ طريقة الفتح للبلدان بفتحه لمكة عنوة، ولما فتحها قال لأهلها: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[22] وسموا في ذلك اليوم الطلقاء، ولم يوقف واحدًا منهم لإلزامه بالدخول في الإسلام بل أبقاهم على حالهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم، لكون القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله وإظهار دينه وقد حصل ذلك.
والإسلام هداية اختيارية، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦﴾ [القصص: 56].
* * *
[18] هذه كلمة ألقاها المؤلف في المركز الإسلامي في لندن حين صلى بالناس صلاة عيد الأضحى في سفره للعلاج سنة 1394هـ وقد نقلتها إذاعة لندن. [19] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [20] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [21] أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية. [22] سيرة ابن هشام 2/412.
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص فقال: أما بعد؛ فإني آمرك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش جند عليه، وهي أخوف منهم على عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لربهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وإننا إن استوينا نحن وإياهم في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شرٌّ منا فلن يسلط علينا، فرب قوم قد سلط عليهم من هو شرٌّ منهم، كما سُلّط على بني اسرائيل كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً. انتهى.
وأقول: ألا ما أشد حاجة الجند، وطلاب المدارس إلى التدين الصحيح، ويجب على القائمين عليهم أن يمرنوهم على أداء الفروض، كتمرينهم لهم على الفنون العسكرية، وإنه لمما يؤلمني جدًّا أن رأيت نسبة المسلمين المصلين من الضباط والجند نسبة قليلة جدًّا بالنسبة إلى من لا يصلي.
وإنه من الواجب أن يصدر قانون عام ملزم للمعلمين والمتعلمين وللجنود بإلزامهم بأداء الفروض الدينية في أوقاتها، وأن تكون عنايتهم بها أشد واهتمامهم بأمرها آكد، إذ الوعظ والإرشاد لا يكفي بدون وازع، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
إن المعلم أو الجندي الذي يفرط في الصلاة وفي سائر الواجبات، فإنه سيكون أشد تفريطًا في غيرها من سائر وظائف عمله؛ لكون المفرط في حقوق ربه جديرًا بأن يكون أشد تفريطًا في حقوق وطنه، والخائن لأمانة ربه وعمود دينه جديرًا بأن يخون أمته وأهل وطنه، والله أعلم.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
حرر في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة ست وتسعين بعد الثلاثمائة والألف.
* * *
الحمد لله، ونستعين بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد: فإن من حكمة الحاكمين أن أوجب الله على عباده المؤمنين جهاد الكفار والمنافقين ليمتحن بذلك صحة إيمان المدعين، وليعلم الكل علم اليقين أن الدنيا ابتلاء وامتحان والعاقبة للمتقين، ﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4]، ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [محمد: 31].
والجهاد هو سنام الإسلام؛ لأن الدين رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، والجهاد يكون بالحجة والبيان ويكون بالقوة والرجال ويكون بالمال. ولكل مقام مقال؛ لأن الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق ونصر دينه والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم. والمسلم يجاهد بسيفه ولسانه وماله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»[24].
وأخبر النبي ﷺ أنه: «ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلًّا لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم»[25].
وفي القرآن والسنة تكرر فضل الجهاد والمجاهدين، وأخبر الله في كتابه الحكيم أن الجهاد هو التجارة الرابحة في الأجر، كما أنه من أسباب العز والنصر، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ١٠ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١١ يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣﴾ [الصف:10-13].
إن السلف الصالحين من الصحابة والتابعين لما سمعوا آيات الجهاد تتلى عليهم قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا﴾ [البقرة: 285]، فساحت أيديهم بالنداء وسمحت نفوسهم بالفداء، فمنهم البائع نفسه، ومنهم الباذل ماله؛ حمية دينية ونخوة عربية، لعلمهم أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فمن أخبارهم الشهيرة ومآثرهم المنيرة أن رجلاً من الصحابة جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت إن قاتلت فقتلت صابرًا محتسبًا ماذا أكون؟ فقال: «في الجنة». وكان في يده كسرة تمرة فقال: والله لئن بقيت حتى آكل هذه الكسرة إنها لحياة طويلة، ثم رمى بها وهز سيفه وأقبل يرتجز ويقول:
ركضًا إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعمل المعادِ
والصبر في الله على الجهادِ
إن التُّقى من أفضل المزادِ
فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
ثم إن النبي ﷺ حثهم على الجهاد في سبيل الله في غزوة العسرة، وكانت زمن جهد ومجاعة، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم جاء بصرة دنانير كادت كفه تعجز عنها فوضعها بين يدي رسول الله، فجعل رسول الله يقلبها ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتَ»[26].
وقدمت عير من الشام لعبد الرحمن بن عوف تقدر بسبعمائة بعير تحمل من كل شيء، فتصدق بها كلها في سبيل الله.
فبالله قل لي: كيف عاقبة أمرهما بعد هذا الإنفاق الطائل؟ أجبك بأنهما توفيا وهما من أحسن الناس حالاً. وتصدق عمر بشطر ماله.
إن الله سبحانه قد ضمن النصر للمؤمنين المجاهدين، فقال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١﴾ [المؤمن: 51]، وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]، فهذا النصر المضمون للمؤمنين هو مشروط بنصرهم لدين الله وحمايته والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم، وأن يجاهدوا أنفسهم على القيام بواجبات دينهم قبل أن يجاهدوا عدوهم حتى يكون الله وليهم وناصرهم والمعين لهم على عدوهم ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ [محمد: 7]، ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته ولا بد مع هذا من الأخذ بأسباب عدته من الوسائل من الحزم والحذر والاستعداد بالقوة، كما أرشد إليه الكتاب العزيز في قوله: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء:71]، ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60]، والقوة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان ولكل زمان دولة وقوة ورجال تناسب حالة القتال، وفسر النبي ﷺ القوة بالرمي، وهو حق، ولم يذكر المرمي به لكونه يختلف باختلاف الزمان والمكان.
أما إذا تخلف عملهم عن واجبات دينهم أو لم يستعدوا بالحزم والقوة لجهاد عدوهم، فإنه يتخلف عنهم هذا النصر المضمون لهم من أجل إخلالهم بواجبات عملهم، وعدم امتثالهم لأمر ربهم، ابتلوا بهذه المصائب ليطهرهم من المعايب كما قيل: كم ضارة نافعة؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، والاتكال على الإيمان بدون عمل يعتبرعجزًا ومخالفة لأمر الله ورسوله، فلا يصح التوكل ولا يصح إلا بعد الأخذ بالأسباب المؤهلة من النصر.
لهذا يجب التفكير في سبب تخلف هذا النصر عن المؤمنين طيلة هذه السنين في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]، ولن يخلف الله وعده، وإن تخلف هذا النصر هو من أجل تخلف إصلاح الأحوال والأعمال، فتسلط الأعداء عليهم في حال تقصيرهم بواجبات دينهم وعدم استعدادهم بالقوة لمجابهة عدوهم، ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠﴾ [الشورى: 30]. إن الشيء بالشيء يذكر، والدنيا كلها عبر.
إنه لما كانت وقعة بدر وكان أصحاب رسول الله ﷺ قلة وفي حالة ضعف وذلة وأقبل المشركون بخيلهم وخيلائهم وهم محدقون بالسلاح التام يريدون أن يستأصلوا شأفة رسول اللهﷺ وأصحابه، وأن يبيدوا خضراءهم، فصف رسول الله ﷺ المقاتلة، ثم قام يدعو ويتضرع إلى ربه حتى سقط رداؤه من طول قيامه للدعاء، فلما التقى الجمعان أنزل الله النصر على نبيه وأصحابه، فقتلوا سبعين من عظماء المشركين، وأسروا سبعين وضربوا عليهم الفداء.
وبعد هذا النصر والظفر دخل في قلوب الصحابة شيء من قوة الإيمان بالله والتوكل عليه وظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من أجل إيمانهم وكونهم حزب رسول الله ويقاتلون في سبيل الله، مما جعلهم يكسلون عن الاحتفال بالأسباب وأخذ الحذر والاحتفاظ عن غوائل عدوهم.
وفي وقعة أحد صف رسول الله ﷺ المقاتلة في مصافهم وأمّر عبد الله بن جبير على سرية وجعلهم في فم شعب وقال لهم: «احْمُوا ظُهُورَنَا، وَلَا تَبْرَحُوا عَنْ مَكَانِكُمْ، حَتَّى لَوْ رَأَيْتُمُ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا فَلَا تَنْصُرُونَا، أَوْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا»[27]، وكانت الغلبة للنبي وأصحابه أول النهار حتى كسروا تسعة ألوية للمشركين، وانهزم المشركون وجعل السلاح والمتاع يتساقط منهم والناس يحوزونه، فقال أصحاب عبد الله بن جبير بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة. فذكرهم أميرهم بقول رسول الله ﷺ فعصوه وأخلوا مركزهم، فدخلت خيل المشركين من جهته فقتلوا سبعين من الصحابة وشجوا رأس رسول الله ﷺ وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا، وصرخ الشيطان: قتل محمد.
وبعد هذه الهزيمة أخذ الصحابة يتفكرون في سببها وقد عرفوا أنها إنما حصلت عليهم بسبب ذنب اقترفوه في إخلاء مركزهم الذي أمروا بحفظه، وأنزل الله كالتأنيب والتأديب: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ﴾ [آلعمران: 165]؛ أي بسبب تقصيركم بواجبكم.
فهذه الكبوة وما حصل على أثرها من النكبة قد أورثت الصحابة شيئًا من الحزم وفعل أولي العزم من أخذ الحذر والاستعداد بالقوة، واستعمال وسائل الكيد لعدوهم مما جعلهم يتوصلون إلى ما تحصلوا عليه من فتح مشارق الأرض ومغاربها، حتى استطاعوا أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمن، وهم من أرقى الأمم حضارة ونظامًا وقوة وعتادًا وعددًا، وذلك بأنه لما انتشرت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد المبطلين ونشر الأحكام الشرعية، وتعميم اللغة العربية، فاختطوا المدن وأنشؤوا المساجد وأشادوا المكارم والمفاخر وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، فكانوا من قال الله فيهم: ﴿... وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 40-41]، فمن قام بالله عز، ومن كان مع الله كان الله معه.
إن المصارعة بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار لا تزال قائمة وموجودة من لدن خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة، وحتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦﴾ [البقرة: 216]. ويترتب على هذه الحروب حكم ومصالح لا يعلم غايتها إلا الله الذي قدر سببها ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]. فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو ظن أن الله يديل اليهود على المسلمين إدالة مستمرة، فقد ظن بالله ظن السوء، لكن الله سبحانه يؤدب عباده، فإذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والباطل لا تقوى شوكته ولا تعظم صولته إلا في حال رقدة الحق وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]، غير أن للباطل صولة نعوذ بالله من شرها، لكن عاقبتها الذهاب والاضمحلال، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥﴾ [آلعمران: 175]؛ أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في نفوسكم، ومن هذا التخويف ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم وألسنتهم حتى ظنوا أنهم لن يغلبوا أبدًا من شدة كيدهم ومكرهم وتوفر وسائل القوة لديهم، وقد غزوا قلوب الناس بالرعب والرهب منهم، ونسوا أن الله سبحانه قد وعد عباده المؤمنين بالنصر عليهم، فقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١ ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُ﴾ [آل عمران: 111-112]، ونسوا قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ﴾ [الأعراف: 167]، وصدق الله العظيم، فإن هذا العذاب الذي وعدهم الله بأن يساموا به هو ضربة لازب في حقهم، لا يفارقهم ولا يزال ملازمًا لهم كما هو الواقع بهم الآن بأيدي المسلمين، وما سيقع بهم إلى يوم القيامة أكثر وأعظم، ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
إن هذا الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الفتك والسفك والعدوان الواقع من اليهود على العرب المسلمين طيلة هذه السنين حتى أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم إلى الصحراء، واستولوا عليها قسرًا وقهرًا، وأخذوا يسومونهم سوء العذاب من القتل والتضييق والإرهاق، حتى بلغ الأمر بهم إلى أشد الاختناق وإلى حد ما لا يطاق، حتى لقد أنكر أمرهم وبغيهم وطغيانهم جميع دول العالم ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40].
وقد عرف العقلاء أن هذا التغلب والاستيلاء من اليهود إنما حصل بسبب ذنب من المسلمين اقترفوه، وذلك حينما ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بفرضه ونفله، وعلى أثره حصل الاختلاف بين الحكام والزعماء نتيجة الاختلاف في النزاعات والأهواء، فتقطعت وحدة جماعة المسلمين إربًا وأوصالاً وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسبب هذا الاختلاف حصل الاعتلال والاختلال.
وهي فرصة سنح للعدو فيها المواثبة فقويت شوكته وعظمت صولته، وتسلط على العرب المسلمين بجبروته وقوته، حتى أخذ الناس يقولون: ﴿مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤﴾ [البقرة: 214].
وبسبب هذه الحوادث والنقمات وما نجم عنها من الكبوات والنكبات، حصل رجوع الكثير من الناس إلى ربهم والقيام بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم، فعملوا أعمالهم في إصلاح أعمالهم رجاء أن يصلح الله أحوالهم، لعلمهم أنه ما نزل بهم بلاء إلا بذنب، ورب ضارة نافعة، والمكارم منوطة بالمكاره.
كما حصل التقارب بين قلوب حكام المسلمين وزعمائهم وإزالة الإحن والشحناء من بينهم فتكاتفوا وتساعدوا وتعاضدوا على قتال عدوهم؛ لأن المؤمنين ﴿بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ﴾ [التوبة:71]، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ﴾ [المائدة: 54].
وهذا الرجوع إلى الله وما يتبعه من التعاضد والتساعد في القتال في سبيل الله هو مؤذن ومبشر بنصر من الله وفتح قريب إن شاء الله، كما أنه مؤذن ومبشر بانتهاء نصر اليهود واقتراب مصرعهم بحول الله، وكل شيء فمرهون بوقته ومربوط بقضاء الله وقدره: ﴿إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦ﴾ [آل عمران: 160].
إن هذه الأمة الباغية الطاغية التي حلت بساحة العرب المسلمين تقتل الأنام وتحاول أن تجتث أصل الإسلام، ينسلون للتعاون من كل حدب ويتواثبون على أهل الإسلام من كل جانب.
فإن جهاد هذا العدو الصائل واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن تعذر عليه ببدنه تعين عليه بماله؛ لأن ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 111].
ولأن المال بمثابة الترس للإسلام يستجلب به العدد والعتاد وسائر وسائل الجهاد، ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد، فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب، والمسلم يجاهد بنفسه وماله، وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبًا مفروضًا يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله، وفي المال حق سوى الزكاة، فمن لم يكن عنده زكاة وجب أن يساهم بقدر استطاعته، كل على حسب مقدرته والدرهم بسبعمائة درهم وعند الله أضعاف كثيرة.
ولست أقول: إن مساعدة هؤلاء المجاهدين مستحبة فحسب، إنما أقول: إنها واجبة كوجوب الصلاة والصيام؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام والنبي ﷺ قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»[28].
إنه من بعد حروب الصحابة والتابعين، ثم حروب صلاح الدين مع التتر والصليبين حينما أجلاهم عن بلدان العرب المسلمين لم نسمع بالجهاد في سبيل الله الصحيح الحقيقي إلا في هذا القتال الواقع بين المسلمين مع اليهود، فهذا هو الجهاد في سبيل الله حقًّا والذي يجب أن يضحى في سبيله بالنفس والنفيس.
لأن هؤلاء المجاهدين المباشرين للقتال هم بمثابة المرابطين دون ثغور المسلمين، يحمون حدود المسلمين وحقوقهم، فهم يحاربون دون أديانكم وأبدانكم، يحاربون دون ذراريكم ونسائكم، يحاربون دون مجدكم وشرفكم وحسن سمعتكم. وقد طلبوا النجدة والمساعدة من إخوانهم المسلمين، وقد أوجب الله عليكم نصرتهم، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ﴾ [الأنفال: 72]، والنصر يكون بالقوة والرجال ويكون بالمال، ﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡ﴾ [النور: 33]، فمن العار أن تنعموا وهم بائسون، أو تشبعوا وهم جائعون، أو يضعفوا وأنتم مقتدرون، والمسلم كثير بإخوانه قوي بأعوانه.
وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق كالجهاد في سبيل الله إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، والناس إنما يستحبون اقتناء المال لحوادث الزمان، وهذا القتال هو أشد حادثة وقعت على الإسلام والمسلمين في هذه السنين، وله ما بعده من العز والذل، نعوذ بالله من الخذلان.
إن في العهد الذي عهده رسول الله لأمته أن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم يد على من سواهم، ومعنى كونهم يد على من سواهم، أنه متى نبغ عدو على المسلمين كهؤلاء اليهود فإن من الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره؛ لأن المسلم للمسلم كالبنيان، ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2].
لقد بلغكم من الأخبار المشهورة والجرائد المنشورة أن مدار قوة اليهود تتركز على مساعدات قومهم لهم، أفلا يكون المسلمون أحق بالسبق إلى هذه الفضيلة التي أوجبها عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم وأنتم تقاتلون على الحق وهم على الباطل!
إن الله سبحانه قد أوجب الجهاد وأمر بالاستعداد له بالقوة، ومن المعلوم أنه لا قوة بعد الله إلا بالمال وبدونه يقع الناس في الذل والضر ولا بد.
وكيف يصولُ في الأيام ليثٌ
إذا وهتِ المخالبُ والنيوبُ
إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه نخوة دينية أو غيرة عربية، فساهموا في الفضل وتنافسوا في البذل، فمنهم من ضحى بالنفس ومنهم من جاد بالنفيس؛ لأنه لا خبيئة بعد بؤس ولا عطر بعد عرس، والمال لا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وناهيك بالحاجة إليه في أزمة القتال.
لا تثمروا المال للأعداء إنهمو
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جُدعا
﴿هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ﴾ [محمد: 38]،
﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16].
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جيوش المسلين نصرًا عزيزًا، اللهم افتح لهم فتحًا مبينًا، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبيل الحق والعدل والسداد.
اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، وثبت أقدامهم وأنزل السكينة في قلوبهم، اللهم إنا نستعين بك ونستنصرك على الذين كذبوا رسلك وآذوا عبادك، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصر المسلمين عليهم بحولك وقوتك إله الحق.
* * *
[23] خطبة ألقاها المؤلف يوم الجمعة حينما حمي وطيس الحرب بين المسلمين واليهود في العاشر من رمضان عام 1393هـ، وكانت بعنوان (الجهاد في سبيل الله وفضل النفقة فيه). [24] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس. [25] أخرجه الطبري في تهذيب الآثار من حديث عبد الله بن عمر. [26] أخرجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة. [27] رواه الإمام أحمد وغيره ولفظ أحمد: «إن رأيتم العدو والطير يخطفنا فلا تبرحوا». [28] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في ذلك قولان مشهوران للعلماء:
الأول: قول الجمهور، كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم.
الثاني: قول الشافعي، وربما علل به بعض أصحاب أحمد.
فمن قال بالثاني قال: مقتضى الدليل قتل كل كافر، سواء كان رجلا أو امرأة، وسواء كان قادرًا على القتال أو عاجزًا عنه، وسواء سالمنا أو حاربنا، لكن شرط العقوبة بالقتل أن يكون بالغًا، فالصبيان لا يقتلون لذلك. وأما النساء فمقتضى الدليل قتلهن، لكن لم يقتلن لأنهن يصرن سبيًا بنفس الاستيلاء عليهن، فلم يقتلن لكونهن مالاً للمسلمين، كما لا تهدم المساكن إذا مُلكت.
وعلى هذا القول يقتل الرهبان وغير الرهبان لوجود الكفر؛ وذلك أن الله علق القتل لكونه مشركًا بقوله: ﴿فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]، فيجب قتل كل مشرك، كما تحرم ذبيحته ومناكحته لمجرد الشرك. وكما يجب قتل كل من بدل دينه لكونه بدله، وإن لم يكن من أهل القتال، كالرهبان، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في المرأة المرتدة خاصة.
وقول الجمهور: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله سبحانه قال: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ إلى قوله: ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٩٤﴾ [البقرة: 190-194]، فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال.
ثم قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾ والعدوان مجاوزة الحد، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان، ويدل عليه قوله بعد هذا: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾ [البقرة: 194] فدل على أنه لا تجوز الزيادة.
وقوله بعد ذلك: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ [البقرة: 191] ولم يقل: قاتلوهم، أمر بقتل من وُجِد من أهل القتال حيث وجد وإن لم يكن من طائفة ممتنعة.
ثم قال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39] والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه، كما كان المشركون يفتنون من أسلم عن دينه، ولهذا قال تعالى: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾، وهذا إنما يكون إذا اعتدوا على المسلمين، وكان لهم سلطان، وحينئذ يجب قتالهم حتى لا تكون فتنة، حتى لا يفتنوا مسلمًا، وهذا يحصل بعجزهم عن القتال. ولم يقل: وقاتلوهم حتى يسلموا.
وقوله: ﴿وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193] وهذا يحصل إذا ظهرت كلمة الإسلام، وكان حكم الله ورسوله غالبًا، فإنه قد صار الدين لله.
ويدل على ذلك أنا إذا قاتلنا أهل الكتاب فإنا نقاتلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وهذا المقصود يحصل إذا أدوا الجزية عن يد وكانوا صاغرين. وقول النبي ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وأني رسول الله، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»[29]، هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم، والمعنى: إني لم أومر بالقتال إلا إلى هذه الغاية. ليس المراد أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية. فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه لم يفعل هذا قط، بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله.
وقد ثبت النص والإجماع أن أهل الكتاب والمجوس إذا أدوا الجزية عن يد وهم صاغرون حرم قتالهم.
وقد ادعى طائفة أن هذه الآية منسوخة[30]؛ يعني قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ [البقرة: 190].
قال أبو الفرج: اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين: أحدهما: بأنها منسوخة. واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين:
أحدهما: أنه أولها، وهو قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ قالوا: وهذا يقتضي أن القتال مباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل. وهذا منسوخ بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ [البقرة: 191].
الثاني: أن المنسوخ منها ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان:
أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل.
الثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف.
قال: والقول الثاني أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال كالرهبان والشيوخ الفناة والزمنى والمكافيف والمجانين، فإن هؤلاء لا يقاتلون. فهذا حكم باق وغير منسوخ.
قلت: هذا القول هو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل وغيرهم.
والقول الأول ضعيف؛ فإن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل، وليس في القرآن ما يناقض هذه الآية، بل فيه ما يوافقها، فأين النسخ؟
وقولهم: هذه تقتضي أن القتال مباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾.
يقال: قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ مذكور في موضعين: أحدهما هذا الموضع وهو قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ﴾ [البقرة: 191]؛ وهذا متصل بقوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡ﴾ [البقرة: 190-191]، فالضمير عائد إلى هؤلاء الذين يقاتلون المؤمنين، هم الذين قال: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾، وهذا لا يناقض ما تقدم، بل من كان من المحاربين المقاتلين للمؤمنين فإنه يقتل حيث ثُقِف، وليس من حكمه أن لا يقاتل إلا في حال قتاله، بل متى كان من أهل القتال الذي يخيف المسلمين، ومن شأنه أن يقاتل، قُتِل قائمًا أو قاعدًا أو نائمًا، وهو يقتل أسيرًا، فقد قتل النبي ﷺ غير واحد بعد الأسر، مثل، عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، وحكم سعد بن معاذ في بني قريظة لما نزلوا أن يُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقتلهم كلهم وكانوا مائتين[31].
ثم ذكر رحمه الله حديث الصعب بن جثامة أن النبي ﷺ سئل عن أهل الدار من المشركين، يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم؟ فقال: «هُمْ مِنْهُمْ»[32]، قال: وهذا لا يناقض نهيه عن قتل النساء والصبيان، فإن هذا إذا أصيبوا بغير تعمد لهم، وذاك إذا تعمدوا، قال: فإنهم ليسوا كصبيان المسلمين وذريتهم، ولا كأهل العهد، فإن لهؤلاء عصمة مضمونة ومؤتمنة بالأيمان والأمان، ونساء أهل الحرب وصبيانهم ليس لهم عصمة مضمونة ولكن لا يحل قتلهم عمدًا إذا كانوا ليسوا من أهل القتال. وإذا قتلوا في الحصار والبيات فليس على المسلمين أن يدعوا ما أمروا به من الجهاد لئلا يصاب مثل هؤلاء.
فمن قال: إن قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ [البقرة: 190] منسوخ بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ إن كان قد ظن أن قوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ أنهم لا يقتلون إلا حال قتالهم، فقد غلط في فهم الآية، وكيف تكون منسوخة بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ اللهم إلا أن يكون قائل هذا القول ممن يُسمي تقييد المطلق وتخصيص العام نسخًا، حتى قد يسمي الاستثناء نسخًا، وهذا اصطلاح جماعة من السلف، فكل آية رفعت ما يظن من دلالة أخرى قالوا: إنها نسختها. وتسمية هذا نسخًا مطابق للغة، كما سمى الله رفع ما ألقى الشيطان نسخًا بقوله: ﴿فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ﴾ [الحج: 52]، وكذلك قول من يقول: قوله: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16] ناسخ لقوله: ﴿ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ﴾ [آل عمران: 102]، مع أن هذه في آل عمران وهي مدنية، وتلك في التغابن وهي مكية، أو بعضها.
والنسخ هو الرفع والإزالة، فإذا جاءت آية رفعت ما يُظن دلالة تلك الآية عليها كانت رفعًا لهذا الظن، وهذا بيان.
وعند كثير من الناس أن النسخ هو بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان مع تراخيه عنه، وهو نوع من التخصيص، ولكن يشترط فيه التراخي.
ومنهم من يقول: لا بد عند نزول المنسوخ من الاستعارة بالناسخ.
وعلى هذا فالنسخ عند هؤلاء من جنس تقييد المطلق، وهو بيان ما لم يرد بالخطاب. وهذا النسخ لا ينكره أحد، لا اليهود ولا غيرهم. وتسمية هذا النوع نسخًا جائز لا نزاع فيه، لكن قول من يقول: لا نسخ إلا هذا، هو محل النزاع، فإن الطائفة الأخرى تقول في النسخ: هو رفع للحكم بعد شرعه، ولهذا يجوز النسخ قبل مجيء الوقت وقبل التمكن، كما نسخ الله أمر إبراهيم بالذبح قبل التمكن، ونسخ الصلوات الخمسين إلى خمس قبل مجيء الوقت. وهذا قول أكثر الفقهاء، وكثير من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر، وهو قول ابن عقيل والغزالي وأبي محمد المقدسي وغيرهم.
والقول الأول هو قول المعتزلة، وقد وافقهم عليه طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ كأبي الحسن الجزري والقاضي أبي يعلى وغيرهما من أصحاب أحمد، وكأبي إسحاق الإسفرائيني وأبي المعالي.
لكن هؤلاء تناقضوا، فإنهم يجوزون النسخ قبل مجيء الوقت، والتخصيص لا يكون برفع جميع مدلول الخطاب.
وطائفة طردت قولها كأبي الحسن الجزري من أصحاب أحمد وغيره، فإن هؤلاء وافقوا المعتزلة في المنع من النسخ قبل التمكن من الفعل وقبل حضور الوقت. وهذا في الحقيقة موافقة منهم لمن منع النسخ من اليهود، ومن حُكي عنه من المسلمين المنع من النسخ كأبي مسلم الأصفهاني، فهذا حقيقة قوله إذ كان التخصيص المتصل لا يمنعه أحد من عقلاء بني آدم. ومن لم يجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب، ولا في النسخ، كأبي الحسين البصري، فإنه يقول: لا بد إذا ورد خطاب، وهو يريد أن ينسخه فيما بعد، أن يشعر المخاطبين بنسخه؛ لئلا يفضي إلى تجهيلهم باعتقاد تأبيده.
والجمهور يقولون: من اعتقد تأبيده بغير دليل كان قد فرط وأُتي من جهة نفسه.
فالذين قالوا: هذا منسوخ بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ قد أرادوا أن قوله ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ﴾ بين معنى قوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾، ونسخ ما يظن من أنهم لا يقاتلون إلا حال المسايفة، وهذا معنى صحيح لا يناقض ما ذكرناه.
وأما قول من قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾ منسوخ. فهذا ضعيف، فإن الاعتداء هو الظلم، والله لا يبيح الظلم قط، إلا أن يراد بالنسخ بيان الاعتداء المحرم، كما تقدم.
وقد ذكر أبو الفرج في الاعتداء أربعة أقوال:
أحدهما: أنه قتل النساء والولدان. قاله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم. قاله سعيد بن جبير وأبو العالية وابن زيد.
والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه. قاله الحسن.
والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الشهر الحرام[33].
وقد ذكر عن بعضهم أن الثاني والرابع منسوخ بآية السيف.
فيقال: كثيرًا ما يقول بعض المفسرين: آية السيف، وآية السيف اسم جنس لكل آية فيها الأمر بالجهاد، فهذه الآية آية سيف. وكذلك غيرها، فأين الناسخ؟ وإن أريد بآية السيف قوله في براءة: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ﴾ [التوبة: 5] فتلك لا تناقض هذه، فإن ذاك مطلق. والمشرك له حال لا يجوز قتاله فيها، مثل أن يكون له أمان أو عهد، كذلك إذا لم يكن من أهل القتال. وهذه الآية خاصة مقيدة، وتلك مطلقة. لم يصرح فيها بقتله. وإن كان شيخًا كبيرًا فانيًا، أو مجنونًا، أو مكفوفًا، لا يقاتل بيد ولا لسان، مثل دريد بن الصمة فإن المسلمين قتلوه لكونه ذا رأي، وكذلك المرأة إذا كانت ذات رأي تُقاتَل، كما أهدر النبي دم هند وغيرهما ممن كان يقاتل بلسانه. فمن قاتل بيد ولسان فقد قوتل.
وأيضًا ففي الصحيح أن النبي ﷺ مر في بعض مغازيه على امرأة مقتولة، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل». فعلم أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتل، لا كونها مالاً للمسلمين.
وأيضًا ففي السنن عن أنس أن النبي ﷺ قال: «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». رواه أبو داود.
وأيضًا فقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256] وهذا نص عام أنا لا نكره أحدًا على الدين، فلو كان الكافر يقتل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين.
وإذا قيل: المراد بها أهل العهد. قيل: الآية عامة، وأهل العهد قد علم أنه يجب الوفاء لهم بعهدهم فلا يكرهون على شيء.
فإن قيل: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة، كما ذكر ذلك من ذكره ممن يقول بإكراه المشركين.
قال أبو الفرج: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية فذهب قوم إلى أنه محكم، وإلى أنه من العام المخصوص، فإن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام، بل يخيرون بينه وبين الجزية، فالآية مختصة بهم.
قال: وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية ليس الدين ما تدين به من الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين المنعقد بالقلب.
قال: وذهب قوم إلى أنها منسوخة وقالوا: هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال. فعلى قولهم يكون منسوخًا بآية السيف. وهذا مذهب الضحاك والسدي وابن زيد.
قيل: جمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة، بل يقولون: إنا لا نكره أحدًا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، فإن أسلم عصم دمه وماله، ولو لم يكن من فعل القتال لم نقتله، ولم نكرهه على الإسلام.
وأيضًا فالذين نقاتلهم لحرابهم متى آتوا الجزية عن يد وهم صاغرون لم يجز قتالهم إذا كانوا أهل كتاب أو مجوسًا باتفاق العلماء، وإن كانوا من مشركي الترك والهند ونحوهم فأكثر العلماء لا يجوزون قتالهم حينئذ، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وهي المنصوصة عنه صريحًا، والأخرى هي ما ذكره الخرقي وغيره.
وقول القائل: إن هذه كانت قبل الأمر بالقتل. يحتاج إلى بيان ذلك، ثم إلى بيان أن الأمر بالقتال يوجب نسخها، وكلاهما منتف، كيف وقد عرف أن هذا غلط! فإن سورة البقرة مدنية كلها، وفيها غير آية تأمر بالجهاد، وفيها: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ﴾ [البقرة: 216] فكيف يقال: إنها قبل الأمر بالقتال؟!
ثم سبب نزول الآية يدل على أن هذا كان بعد الأمر بالجهاد بمدة. وقد ذكروا في سبب نزولها أربعة أقوال، كلها تدل على ذلك، فأشهرها ما قاله ابن عباس وغيره، قالوا: إن المرأة من الأنصار كانت تكون مقلاة - لا يعيش له ولد - فتحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه؛ لأن اليهود كان لهم كتاب بخلاف المشركين، فكانوا أقرب إلى العلم والدين منهم. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم أناس من أبناء الأنصار، فقال الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا. فنزلت هذه الآية. ثم ذكر عن الشعبي ومجاهد وغيرهما نحو ذلك، ثم قال: والمملوك المسترق لا يكره على الإسلام بالاتفاق، وإذا لم يجز إقرار المشركين بالجزية ففي جواز استرقاقهم قولان، هما روايتان عن أحمد.
وقد كان النبي ﷺ والمؤمنون معه يأسرون الرجال والنساء من المشركين، ولا يكرهونهم على الإسلام، بل قد أسر النبي ﷺ ثمامة بن أثال وهو مشرك، ثم مَنّ عليه ولم يكرهه على الإسلام حتى أسلم من تلقاء نفسه، وكذلك منّ على بعض أسرى بدر.
وأما سبي المشركات فكان كثيرًا، ولم يُكره امرأة على الإسلام، فلم يكره على الإسلام لا رجلاً ولا امرأة.
ثم ذكر فتح مكة، وأنه ﷺ منّ عليهم ولم يكرههم على الإسلام، بل أطلقهم بعد القدرة عليهم، ولهذا سُموا الطلقاء، وهم مسلمة الفتح، والطليق خلاف الأسير، فعُلِمَ أنهم كانوا مأسورين معه، وأنه أطلقهم كما يطلق الأسير ولم يكرهم على الإسلام، بل بقي معه صفوان بن أمية وغيره مشركين حتى شهدوا معه حنينًا، ولم يكرههم حتى أسلموا من تلقاء أنفسهم. فأي شيء أبلغ في أنه أكره أحدًا على الإسلام من هذا!
ولا يقدر أحد قط أن ينقل أنه أكره أحدًا على دخول الإسلام، لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من أسلم قُبِل منه ظاهر الإسلام، وإن كان يظن أنه إنما أسلم خوفًا من السيف، كالمشرك والكتابي الذي يجوز قتاله، فإنه إذا أسلم حرم دمه وماله، كما قال النبي ﷺ، «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وأني رسول الله، فَإِذَا قَالُوْهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»[34]، وأنكر على أسامة بن زيد لما قتل رجلاً قد أسلم وقال: إنما قالها خوفًا من السيف. ولكن فرق بين أن يكون هو أو أحد أكرههم حتى يسلموا، وبين أن يكون قاتلهم ليدفع ظلمهم وعدوانهم عن الدين، فلما أسلموا صاروا من أهل الدين فلم يجز قتلهم. وكان من يعلم من أنه لا يظلم الدين وأهله لا يقاتله، لا كتابيًّا ولا غير كتابي.
ثم ذكر قصة خزاعة وسرية ابن الحضرمي وقصة بدر وبني النضير وقريظة وغيرها، ثم قال: وكانت سيرته أن كل من هادنه من الكفار لا يقاتله، وهذه كتب السير والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا، وهذا متواتر من سيرته، فهو لم يبدأ أحدًا بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كل كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال.
ثم قال: وأما النصارى فلم يقاتل أحدًا منهم إلى هذه الغاية حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى قيصر وإلى كسرى والمقوقس والنجاشي وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم من كبرائهم بمعان. فالنصارى حاربوا المسلمين أولاً، وقتلوا من أسلم منهم بغيًا وظلمًا، وإلا فرسله أرسلهم يدعون الناس إلى الإسلام طوعًا لا كرهًا، لم يكره أحدًا على الإسلام. فلما بدأه النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمر عليها زيد بن حارثة ثم جعفرًا ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام، واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء $ج وأخذ الراية خالد بن الوليد، وكان خالد قد أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة، فسلم الله المسلمين ورجعوا، وهذا قبل فتح مكة وبعد خيبر.
ثم تكلم على أول سورة براءة ثم قال: فدلت الآيات على أن البراءة كانت إلى المعاهدين الذين لهم عهد مطلق غير مؤقت، أو كان مؤقتًا ولم يوفوا بموجبه، بل نقضوه.
وهنا للفقهاء ثلاثة أقوال:
قيل: لا يجوز العهد المطلق، كما يقوله الشافعي في قول وطائفة من أصحاب أحمد. وهؤلاء يقولون: إنما قال النبي ﷺ لليهود: «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ»[35]. لأن الوحي كان ينزل.
ثم العهد المؤقت قد يجوز للإمام أن ينقضه بلا سبب، كما يحكى عن أبي حنيفة. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: 58] فإن هؤلاء عهدهم كان مؤقتًا ونقضه.
والثالث وهو قول الأكثرين أنه يجوز المطلق والمؤقت، وأن المؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به، ما لم ينقضه العدو، ولِمَا يجب الوفاء بسائر العهود اللازمة.
وأما المطلق فهو عقد جائز إن شاء فسخه وإن شاء لم يفسخه، كما في العقود الجائزة، كالوكالة والشركة ونحو ذلك.
وهذا هو القول الآخر في مذهب أحمد، وهو قول الشافعي. والآية تدل على هذا القول، فإن الله أمره بنبذ العهود إلا من كان له عهد إلى مدة ثم وفى بموجبه، فلم يترك ما أوجبه العهد، فلم ينقض شيئًا ولا أعان عدوًّا.
وأما قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍ﴾ فتلك في سورة الأنفال، وهي متقدمة، ونحو ذلك في العهود المطلقة متى خاف منهم خيانة، فإنه ينبذ إليهم على سواء، ولا يجوز أخذهم بغتة؛ فإنهم يعتقدون أنهم آمنون.
وأما العقود اللازمة هل يجوز فسخها بمجرد خوف الخيانة؟ هذا فيه قولان، والأظهر أنه لا يجوز؛ لأن سورة براءة توجب الوفاء.
إلى أن قال: والمراد بالأشهر الحرم في قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ﴾ [التوبة: 5] هي أشهر السياحة عند جمهور العلماء، وعليه يدل الكتاب والسنة، وقد ظن طائفة أنها الحرم الثلاثة ورجب، ونقل هذا عن أحمد، وهؤلاء اشتبه عليهم الحرم بالحرم، وتلك ليست متصلة بل هي ثلاثة سرد وواحد فرد، وهو قد ذكر في هذه أشهر السياحة فلا بد أن يذكر الحكم إذا انقضت، فقال: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾. إلى أن قال: فلم يبق من أولئك المشركين طائفة تقاتل البتة، بل قهر جميع المشركين ومن لا عهد لهم، وهم من أهل القتال، فلهذا قال: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖ﴾ [التوبة: 5] ولم يقل: فقاتلوهم؛ فإنه لم يكن فيهم طائفة تقاتل، بل أمر بقتلهم حيث وجدوا وأخذهم، وهو الأسر وحصرهم في أمكنتهم، كما حصر أهل الطائف.
ثم قال: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ ولم يقل: قاتلوهم حتى يقيموا الصلاة؛ إذ لم يكن هناك من يقاتل، وإنما أمر بقتلهم وأخذهم وحصرهم؛ لأنهم مشركون من أهل القتال، ولو قدروا على فساد الدين وأهله لفعلوا ذلك.
إلى أن قال رحمه الله: ثم إنه بعد أن ذكر أمر المشركين قال: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [التوبة: 29] الآية، فذكر قتال النصارى، وتخصيصهم بالذكر لا يجوز أن يكون لاختصاصهم بالحكم. فإنه يجوز قتال اليهود والمجوس بالنص والإجماع حتى يعطوا الجزية، وهذا قول جمهور العلماء، وبعضهم يقول: إنما تؤخذ ممن له كتاب، وإن المجوس لهم كتاب مبدل، أو لهم شبهة كتاب، وإن آية براءة تقتضي التخصيص. وليس كذلك، بل هي تدل على أن هؤلاء إذا وجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، ولم تجز معاهدتهم بلا جزية فغيرهم من الكفارأولى، فإن المشركين والمجوس شر منهم، واليهود أشد عداوة للمسلمين منهم، كما قال الله تعالى: ﴿۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ﴾ [المائدة: 82].
فإذا كان هؤلاء إذا كانوا متحابين وجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، فغيرهم أولى إذا كان محاربًا أن يُقاتل حتى يعطي الجزية.
وعلى هذا حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي الذي في صحيح مسلم قال: كان النبي ﷺ إذا أمر أميرًا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ-، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ». وذكر الحديث. ولم يكن في الحديث قتال مصافة. وهذا - والله أعلم- لأنه لم يكن قد بقي طائفة ممتنعة تقاتل مصافة، وإنما لجأ الكفار إلى حصونهم فكانوا يحصرون، وهو المحصر الذي ذكره.
وقد بين في هذا الحديث أن المحصور إما أن يسلم ويهاجر، أو يسلم ويكون أعرابيًّا غير مهاجر، أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، فإن امتنع من الثلاث قوتل.
وبريدة ممن ذهب مع علي إلى اليمن، وعلي قاتل باليمن وسبى وغنم، وقدم إلى النبي ﷺ في حجة الوداع، فلم يُذكر في شيء من الأحاديث أن النبي ﷺ فرق في أخذ الجزية بين كتابي وغير كتابي، ولا عهد إلى علي ومعاذ وغيرهما، مع علمه بأن اليمن فيه مشركون وفيه أهل الكتاب، ولما أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافر لم يذكر فرقًا. والمجوس من جنس سائر المشركين ليس لهم مزية يحمدون بها. والحديث الذي يروي أنه كان لهم كتاب فرفع، قد ضعفه أحمد، وبتقدير صحته فالعرب كانوا على دين إبراهيم، فلما صاروا مشركين ما بقي ينفعهم أجدادهم، وكذلك أهل الكتاب لو نبذوا التوراة والإنجيل لكانوا كغيرهم من المشركين.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن دين المرء يعتبر بنفسه لا بأجداده، وما ذكر في قوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256] يدل على ذلك، فإن أولاد الأنصار دخلوا اليهودية بعد النسخ والتبديل، ولعل فيهم من دخل فيها بعد مبعث النبي ﷺ، وقد روي أنه كان من أبناء الأنصار من دخل مع بني النضير حينئذٍ كان فيهم عرب. ومع هذا فالنبي ﷺ جعل الجميع أهل كتاب، لم يحرم ذبيحة أحد منهم، ولا استحل قتله، دون من كان أجداده قد دخلوا في الدين قبل النسخ والتبديل.
والذين قالوا: إن من دخل في أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل لا تعقد لهم ذمة ولا تؤكل ذبائحهم. بنوا ذلك على أصلين ضعيفين: أحدهما أن العبرة في الدين بدين الأجداد. وقد بينا أن هذا خلاف الكتاب والسنة، وخلاف قول جمهور العلماء، مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. ولكن هذا قاله طائفة من أصحاب أحمد موافقة للشافعي وأخذه الشافعي عن عطاء. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
والأصل الثاني أن الجزية لا تقبل من غير أهل الكتاب. والنزاع في هذا أشهر، لكن جمهور العلماء أيضًا على خلافه، وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة. وقد تتبعت ما أمكنني في هذه المسألة فما وجدت لا في كتاب ولا سنة ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في أخذ الجزية بين أهل الكتاب وغيرهم، والنبي ﷺ قبل نزول آية الجزية كان يقر المشركين وأهل الكتاب بلا جزية، كما أقر اليهود بلا جزية، واستمروا على ذلك إلى أن أجلاهم عمر. وكان ذلك لحاجة المسلمين إليهم. ولما نزلت آية الجزية كان فيها أن المحاربين لا يعقد لهم عهد إلا بالصغار والجزية، ورفع بذلك ما كان النبي ﷺ يعقده لأهل الكتاب وغيرهم من العهد؛ لكون الإسلام كان ضعيفًا.
ومما يبين الأمر في ذلك: أن المجوس هم في التوحيد أعظم شركًا من مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن خالق العالم واحد، كما أخبر الله بذلك عنهم في غير موضع، ولم يكونوا يقولون: إن للعالم صانعين، وهم وإن كان فيهم من جعل لله أولادًا، وقالوا: الملائكة بنات الله، فلم يكونوا يقولون: إن الملائكة يخلقون معه، بل هم معترفون أن الله خالق كل شيء، كما ذكر الله ذلك عنهم، لكن كانوا يجعلون آلهتهم شفعاء وقربانًا، كما قال تعالى: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ﴾ [يونس: 18]، وقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ﴾ [الزمر: 3].
وأما المجوس فهم يقولون بالأصلين: النور والظلمة، ويقولون: الظلمة خلقت الشر والنور خلق الخير، ولهم في الظلمة قولان؛ قيل: قديمة أزلية، وقيل: بل محدثة عن النور، وقيل عنهم: إن النور فكر فكرة ردية فحدثت الظلمة. وهم يجعلون الظلمة شريكًا لله في خلق العالم، فقد نقلوا عنهم أن الظلمة عندهم هي الشيطان إبليس، فجعلوا إبليس شريكًا لله في الخلق. هذا على قول من يقول: الظلمة محدثة، والقول الآخر: إنها قديمة أزلية، فهذا أعظم شركًا، وهذا الشرك لا يعرف في العرب، بل العرب كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء. ولهذا إنما يذكر مثل هذا القول عن الزنادقة، كما ذكر بعض المفسرين كابن السائب في قوله: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡ﴾ [الأنعام: 100] قال: نزلت في الزنادقة، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق، فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب. ومعلوم أن هذا القول هو معروف عن المجوس، ليس هو معروفًا عن مشركي العرب.
فتبين أن المجوس أعظم شركًا من مشركي العرب والهند ونحوهم ممن يقولون: إن الله خالق كل شيء.
وهم أيضًا من عُبّاد ما سوى الله؛ يعبدون الشمس والقمر والنيران وكانت لهم بيوت عظيمة للنار يعبدونها، وهذا عبادة للعلويات والسفليات من جنس إشراك قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الكواكب، ويعبدون الأصنام الأرضية، وهذا الشرك أعظم نوعي شرك أهل الأرض.
فإن الشرك أصله نوعان: شرك قوم نوح، وكان أصله تعظيم الصالحين الموتى وقبورهم والعكوف عليها، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. وهذا النوع واقع في النصارى، ولكن لا يصنعون أصنامًا مجسدة[36] بل مرقومة، فإن الروم واليونان قبل أن يدخل إليهم دين المسيح كانوا يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر، فلما دخل إليهم التوحيد ابتدعوا نوعًا من الشرك خلطوه بالتوحيد، قال الله تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 31]، وقد وقع كثير من الضلال المنتسبين إلى الإسلام في نوع من ذلك مضاهاة للنصارى، وصاروا يصلون إلى المشرق، فجعلوا السجود إلى جهة الشمس والقمر لا من السجود لها، وأين هذا من نهي النبيﷺ أمته عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يشبهوا من يسجد لها حينئذٍ؟ وكذلك نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد، يحذر أمته ما فعلوا؛ لئلا يشبهوا من يدعو أهل القبور، ويجعلهم شفعاء يستشفع بهم وقربانًا يتقرب بهم، كما يفعله النصارى. فنهاهم عن سبب الشرك الذي كان في قوم نوح، وسبب الشرك الذي في قوم إبراهيم، عن الشرك الأرضي والسمائي؛ سدًا لذريعة الشرك.
والمجوس مشركون أعظم من شرك النصارى، ولهذا كان ماني - الذي ينتسب إليه المانوية - أحدث دينًا مركبًا من دين المجوس ودين النصارى، أخذ عن المجوس الأصلين النور والظلمة، وخلطه بدين النصارى، فكانت المانوية أكفر من النصارى، والعرب كان شركهم عبادة الأوثان، وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس وغيره أن أصنام قوم نوح صارت إليهم، وهي: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهؤلاء كانوا قومًا صالحين وكان شركهم من جنس شرك قوم نوح بالصالحين.
وأول من نقل الأصنام إلى مكة عمرو بن لحي سيد خزاعة، وهو أول من غير دين إبراهيم، نقل الأصنام من الشام من أرض البلقاء، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ». وهو أول من أحدث الشرك والتحريم فحرم السائبة والوصيلة.
وقد ذكر جماعة أن اللات كان يلت السويق لأهل الطائف، فشرك العرب كان بالأصنام المجعولة تماثيل للصالحين، ومنها أصنام جُهِل أهلها، لكن الشرك الغالب في أرض العرب كان بالأصنام الأرضية التي جعلت تماثيل للصالحين، ولا يعرف فيهم صنم مشهور بأنه جعل طلسمًا للشمس أو القمر أو نحو ذلك مما هو شرك غيرهم كالكلدانيين.
والمجوس شركهم كان عبادة الشمس والقمر والنار. وهذا أعظم من عبادة الصالحين، فإن عُباد الأنبياء والصالحين يجعلونهم شفعاء وقربانًا كما كانت العرب تقول في أوثانها، وأما هؤلاء فيطلبون من الشمس والقمر والكواكب الأفعال، ويعتقدون أنها مدبرة لهذا العالم، ولا يتقربون بعبادتها إلى الله، ولا يتخذونها شفعاء.
فتبين أن شرك المجوس كان أعظم من شرك مشركي العرب، وكانوا يعادون أهل الكتاب كالنصارى، ولا يقرون بنبوة المسيح ولا موسى ولا إبراهيم الخليل، وكان العرب يعظمون إبراهيم الخليل، وهم على بقايا ملته مثل حج البيت والختان، وتحريم نكاح ذوات المحارم، وكانوا يسمون حنفاء، لكن حنفاء مشركين ليسوا حنفاء مخلصين.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا العباس، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة قال: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات، وما حرم الله، والختان. فكانت حنيفية في الشرك، كانوا أهل الشرك، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات والبنات والخالات والعمات، وكانوا يحجون البيت، وينسكون المناسك.
فاسم الحنفاء في الأصل لمن كان على ملة إبراهيم، وهم الصابئون الحنفاء مثل أولاد إسماعيل قبل أن يحدث فيهم الشرك كانوا على ملة إبراهيم حنفاء مخلصين وهم من الصابئين الذين أثنى الله عليهم بقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢﴾ [البقرة:62]، فهؤلاء الصابئة من الحنفاء المخلصين، وأما الصابئون المشركون فهم الذين أشركوا من الحنفاء، كما تقدم.
وأما المجوس فلم يكن عندهم شيء من آثار الأنبياء، بل كانوا يستحلون نكاح ذوات المحارم، ولهذا اتفق الصحابة على تحريم ذبائحهم ومناكحتهم وأنهم ليسوا من أهل الكتاب، وتكلموا في جبنهم لأجل الأنفحة؛ لأن ذبائحهم كذبائح المشركين، وجبنهم كجبن المشركين، ولهذا لما بلغ أحمد أن أبا ثور يجعلهم من أهل الكتاب ويبيح ذبائحهم دعا عليه أحمد، وذكر إجماع الصحابة على خلاف ذلك، وهذا القول قولٌ مُحْدَثُ في الإسلام، وهو قول أبي ثور وداود وابن حزم، وحُكي قولاً للشافعي، وجعل ابن حزم بينهم زرادشت، واحتجوا بما روي عن علي: أنهم كان لهم كتاب، فلما استحلوا نكاح ذوات المحارم رفع ذلك الكتاب.
والإمام أحمد ضعف هذا الحديث، وبتقدير صحته فإذا رفع الكتاب ولم يبق من يعرفه ولا هم مستمسكون بشيء من شرائعه لم يكونوا من أهل الكتاب، ولم يكونوا خيرًا من العرب المشركين، فإنهم كانوا على ملة إبراهيم، ثم لما بدلوها لم ينفعهم ما كانوا عليه قبل الشرك، ولم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنهم جعلوا زرادشت نبيًّا صادقًا، بل المشهور عنه أنه من الكذابين، وقد قال تعالى: ﴿أَن تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلۡكِتَٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيۡنِ مِن قَبۡلِنَا﴾[الأنعام:156].
والمجوس كانوا من أعظم الأمم، فلو أنزل عليهم كتاب لكان قد أنزل على ثلاث طوائف، فدل على أنه إنما أنزل على طائفتين، وقد احتج بهذا غير واحد من أهل العلم على أنه لا كتاب لهم، ولكن إنما وقعت الشبهة منهم لطائفة من أهل العلم، لما اعتقدوا أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب وقد أخذت منهم بالنص والإجماع، صاروا تارة يقولون: لهم شبهة كتاب، وتارة يقولون: هم مختلف فيهم، وقال بعضهم: هم من أهل الكتاب.
واحتجوا بالحديث المعروف فيهم: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»[37]. وهذا الحديث إسناده منقطع، فإن جعفرا رواه عن أبيه عن عبد الرحمن، وأبوه لم يدرك عبد الرحمن، وبتقدير ثبوت لفظه فهو دل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، لكن المراد أنه تؤخذ منهم الجزية، كما تؤخذ من أهل الكتاب، ثم تخصيص أهل الكتاب بالذكر في آية الجزية فَهِم منه طائفة أن غيرهم يقاتل مطلقًا وإن أدى الجزية عن يد وهو صاغر، وفَهِم الأكثرون منه أن هذا من باب تنبيه الخطاب وفحواه، فإنه إذا كان أهل الكتاب لا يجوز مهادنتهم إلا مع الجزية والصغار فغيرهم أولى بذلك. فهو نهي عن مهادنة الكفار بغير جزية وصغار، كما كان الأمر عليه أولاً في حالة ضعف الإسلام، كان يهادن الكفار من المشركين وأهل الكتاب بغير جزية وصغار. وأهل خيبر بعد فتحها أقرهم فيها بغير جزية فنسخت آية الجزية ذلك. ولهذا أخذ الجزية من المجوس وليسوا من أهل الكتاب، وهذا مذهب الأكثرين؛ أنه يجوز مهادنة جميع الكفار بالجزية والصغار، وهذا يناسب الأصل الذي قال به الجمهور، وهو أنه كان القتال لأجل الحرب، فكل من سالم ولم يحارب لا يقاتل، سواء كان كتابيًّا أو مشركًا، والجمهور يقولون بهذا، وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
ثم ذكر أن عمر لم يأخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي ﷺ أخذها من مجوس هجر.
ثم قال: فإذا عرفت حقيقة السنة تبين أن الرسول لم يفرق بين عربي وغيره، وأن أخذه للجزية من المجوس كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا، وحديث عمرو بن عوف في قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين معروف في الصحيحين. وما الذي جعل عبد الرحمن بن عوف أعلم بهذا من سائر المهاجرين والأنصار الذين كانوا أعلم بهذا منه، مثل أبي عبيدة الذي هو قدم بالجزية، والأنصار الذين وافوه لما سمعوا بقدوم المال؟ وهذا يحتمل بسطًا كثيرًا، لكن الإنسان قد ينسى ما وقع له، كما نسي عمر ما جرى له ولعمار في التيمم، وقد يذهل عن الآية من القرآن حتى يذكر بها، كما جرى لعمر في الصداق لما أراد أن يقدر أكثره ويجعل الزيادة في بيت المال، فلما ذُكّر بقوله تعالى: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا﴾ [النساء: 20] رجع عن ذلك، فقد كان في مجلس فأخبره عبد الرحمن بن عوف، وإلا فهذا كان معروفًا عند عامة الصحابة. وكان في مغيب أبي عبيدة أو بعد موته، وإلا فأبو عبيدة هو قدم بالجزية، وعمر كان يقدمه على عبد الرحمن بن عوف وغيره، وهذا أمر كان معروفًا في الصحابة، وتوقف عمر في أخذ الجزية من المجوس أولاً إذ كان القرآن ليس فيه نص فيهم، وإنما النص في أهل الكتاب، ومن هنا حصل الاشتباه لكثير من العلماء؛ فمنهم من قال: لما خصهم بالذكر دل على أنه لا يؤخذ من غيرهم. ثم اضطربوا في المجوس كما تقدم أن النبي ﷺ لم يأخذها من مشركي العرب، بل أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومات النبي ﷺ وما بأرض العرب مشرك.
وأما جمهور العلماء فعلموا أنه لا فرق بين المجوس وسائر المشركين وهم شرٌّ من غيرهم كما تقدم، فإذا أخذنا منهم فمن غيرهم بطريق الأولى.
ثم من هؤلاء من ظن أن النبي ﷺ خص العرب بأن لا يقبل منهم فاستثناهم فقال: تقبل النبي من كل مشرك، إلا من مشركي العرب، كما يقوله طائفة.
وآخرون قالوا: لا يستثنى أحد، ومشركو العرب لا تؤخذ منهم؛ لأنه لم يبق منهم إلا من أسلم. وهذا أصح الأقوال.
فإن النبي ﷺ لم يخص العرب بحكم في الدين، لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق، ولا تقديمهم في الأمان، ولا بجعل غيرهم ليس كفوًا لهم في النكاح. ولا بجعل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم، بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن، كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر.
إلى أن قال: ثم إذا عاهد المسلمون طائفة فنقضت العهد، لم يجب على المسلمين أن يعاهدوهم ثانيًا، بل لهم قتالهم، وإن طلبوا أداء الجزية، وللإمام أن يقتلهم حتى يسلموا وله أن يجليهم من ديار الإسلام إذا رأى ذلك مصلحة، فإن النبي ﷺ لما نقضت النضير العهد حاصرهم وأجلاهم، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر، وقريظة لما نقضت العهد عام الخندق حاصرهم بعد هذا حتى نزلوا على حكمه، فشفع حلفاؤهم من الأوس فيهم، فأنزلهم على حكم سيدهم سعد بن معاذ، فحكم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم.
فإذا نقض أهل الذمة وغيرهم العهد لم يجب على الإمام أن يعقد لهم عقدًا ثانيًا، بل يجوز قتل كل من نقض العهد وقتاله، وإن بذل الجزية ثانيًا، قال تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 12]؛ أي لا وفاء لهم بالأيمان، فهذا أمر بقتال الناكثين للعهد مطلقًا.
فالمعاهدون إلى أجل مسمى إن أسلموا فهم إخوان في الدين، وإن نكثوا أيمانهم وجب قتالهم. وإن وفوا بالعهد وُفِّيَ لهم بعهدهم، وإن كانوا قد عوهدوا بلا جزية فكذلك من عاهد بالجزية. والصحيح أن العهد المطلق جائز.
والعهود التي كانت بين النبي ﷺ وبين المشركين كانت مطلقة ولم تكن مؤقتة. والقرآن قد فرق بين المؤقت منها والمطلق؛ فأجاز نبذ المطلق، وأوجب الوفاء بالمؤقت، وهذا هو مقتضى الأصول كسائر العهود المطلقة والمؤقتة.
فهذا الأصل الذي ذكرناه، وهو أن القتال لأجل الحراب لا لأجل الكفر، هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وهو مقتضى الاعتبار، وذلك أنه لو كان الكفر هو الموجب للقتل بل هو المبيح له، لم يحرم قتل النساء، كما لو وجب أو أبيح قتل المرأة بزنا أو قود أو ردة. فلا يجوز مع قيام الموجب للقتل أو المبيح له أن يحرم ذلك؛ لما فيه من تفويت المال، بل تفويت النفس الحرة أعظم وهي تقتل لهذه الأمور.
والأمة المملوكة تقتل للقصاص وللردة، ولهذا لما كانت الردة المجردة موجبة للقتل لم يجز استرقاق المرتدة عند الجمهور الذين يقتلون المرتدة، وإنما يُجوّز استرقاقها من لا يوجب قتلها، فأما الجمع بين هذا وبين هذا فمتعذر.
ثم يقال: فإن كان مجرد الكفر هو الموجب للقتل، فما المانع من قتل المرأة الكافرة؟ فإذا قيل: لأنها صارت سبيًا للمسلمين. قيل: إنما صارت سبيًا لحرمة دمها. فإذا قيل: حُرّم دمها لكونها تصير رقيقة، كان هذا دورًا؛ فإنه تعليل لاسترقاقها بحرم دمها، وتعليل لحرمة دمها باسترقاقها ومصيرها مالا.
فإن قيل: بل العلة هي إمكان استرقاقها وأن تصير مالاً. قيل: وهذه العلة موجودة في الرجال، فيمكن استرقاقهم واستعبادهم. ولهذا يخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء.
فإن قيل: إنما يسترق الرجل إذا أمنت غائلته، والمرأة مأمونة. قيل: فقد عاد الأمر إلى خوف الضرر، وأن الرجل إنما قتل لدفع ضرره عن الدين وأهله، فمن أمن ضرره الدين وأهله لم يقتل، ومعلوم أن كثيرًا من الرجال يؤمن ضرره أكثر من كثير من النساء، ولهذا تقتل المرأة إذا قاتلت وإذا كانت مدبرة بالرأي، مثل هند. وقد أباح النبي ﷺ عام الفتح دم عدة نسوة فيهن هند.
فإن قيل: المرأة إذا قاتلت تقتل دفعًا لصولها فإذا أسرت لم تقتل. قيل: لا نسلم؛ فإن هذا وإن قاله الشافعي، فالأكثرون يبيحون قتل من قاتلت بعد الأسر كالرجل، وكما أمر النبي ﷺ بقتل هند وغيرها من النسوة، وكان قد أمن من لم يقاتل، ولم يؤمن من قاتل، لا من الرجال ولا من النساء.
فدل ذلك على أنه أباح قتل أولئك النسوة، وإن لم يكن حينئذ يقاتلن لما تقدم من قتالهن بألسنتهن، فإن القتال باللسان قد يكون أعظم من القتال باليد.
وأيضًا فقد دلت النصوص على أن من تاب قبل القدرة عليه وهو ممتنع فإنه يعصم دمه وماله، بخلاف من تاب بعد القدرة عليه.
فلو أسلم الأسير بعد أسره لعصم دمه ولم يعصم استرقاقه، بل قيل: يصير رقيقًا. وقيل: يخير الإمام فيه، وإنما عصم دمه لأن الكفر شرط في حل دم المقدور عليه، حتى إن المسلم إذا حارب جاز قتاله، فإذا قدر عليه لم يحل قتله، فإن الإسلام عاصم، ففي الحديث «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامٍ، وزَنَا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا فَيُقْتَلَ بِهَا»[38] كما جاء مثل هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي ﷺ من حديث ابن مسعود.
فالمحارب إذا كان كافرًا جاز قتله، وإذا أسر جاز قتله لحربه المتقدم، ودفعًا لشره في المستقبل. فإنه إذا مُنّ عليه أو فودي فقد يضر بالمسلمين. وأما المسلم إذا جاز قتاله لحرابه، مثل قتال البغاة والعداة، فإذا أسر لم يجز قتله لحرابه المتقدم، ولكن إذا كان له فئة ممتنعة فقيل: يجوز قتله لحرابه المتقدم، وقيل: لا يجوز.
وأيضًا فإن الله تعالى قال في قتال الكفار: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: 4] ولو كان الكفر موجبًا للقتل لم يجز المنّ على الكفار ولا المناداة به، كما لا يجوز ذلك ممن وجب قتله، كالزاني المحصن والمرتد. وقد منّ النبيﷺ على غير واحد من الكفار وفادى بكثير منهم، ففادى بالأسرى يوم بدر، ولو كان الكفر موجبًا لوجب قتل كل أسير كافر، وقد منَّ على أبي عزة الجمحي وعلى ثمامة بن أثال وغيرهما.
فإن قيل: المن والفداء منسوخ. قيل: هذا ممنوع، فأين الناسخ؟
وبتقدير نسخه فذاك لأن له فئة يعود إليهم فيقويهم. وأبو حنيفة يقول بمنع المن والفداء لهذه العلة، كما يقتل الأسير المسلم إذا كان له فئة ممتنعة، وإلا فيجوز استرقاقه، فلو كان القتل موجبًا لما جاز استرقاقه.
وأيضًا فلو كان مجرد الكفر مبيحًا لما أنزل النبي ﷺ قريظة على حكم سعد بن معاذ فيهم. ولو حكم فيهم بغير القتل لنفذ حكمه، بل كان يأمر بقتلهم ابتداء. وإنما قال له لما حكم فيهم بالقتل: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ»[39]. لأن قتل تلك الطائفة المعينة من الكفار كان في نفس الأمر مما أمر الله رسوله به. وكان أرضى لله ورسوله. فإنهم لو أطلقوا لعاد على الإسلام من شرهم ما لا يطفأ، ولكن هذا ما كان ظاهرًا، وكان لهم من حلفائهم في الجاهلية من المسلمين من يختار المن عليهم. فلما حكم فيهم سعد بالقتل قال النبي ﷺ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ». وهذا يدل على أن بعض الكفار يتعين قتله دون بعض. وهذا حجة لكون مجرد الكفر ليس من الموجب للقتل. وإنما الموجب كفر معه إضرار بالدين وأهله. فيقتل لدفع ضرره وأهله، لعدم العاصم، لا لوجود الموجب، فإن الكفر - وإن يكن موجبًا - فصاحبه ليس بمعصوم الدم ولا المال، بل هو مباح الدم والمال، فلم تثبت في حقه العصمة المؤثمة، فلو قتله قاتل ولا عهد له لم يضمنه بشيء، حتى نساؤهم وصبيانهم لو قتلهم قاتل لم يضمنهم، وما نعلم في هذا نزاعًا بين المسلمين، مع أنه لا يحل قتلهم، مثل كثير من الحيوان لا يحل قتله، ولو قتله قاتل لم يضمنه بشيء، وهو مباح الدم والمال، كما نقول فيما خلق من النبات والصيد: هو مباح. ثم مع هذا لا يجوز إتلافه بلا فائدة. فلا يجوز قتل الصيد لغير مأكله، ولا إتلاف المباحات لغير منفعة، فإن هذا فساد، والله لا يحب الفساد.
كذلك الكافر الذي لا يضر المسلمين وهو غير معصوم، بل مباح. وهو من حطب جهنم، لكن قتله من غير سبب يوجب قتله فسادٌ لا يحبه الله ورسوله، وإذا لم يقتل يرجى الإسلام كالعصاة من المسلمين، والله تعالى أباح القتل؛ لأن الفتنة أشد من القتل، فأباح من القتل ما يحتاج إليه. فإن الأصل أن الله حرم قتل النفس إلا بحقها. وقتل الآدمي من أكبر الكبائر بعد الكفر، فلا يباح قتله إلا لمصلحة راجحة، وهو أن يدفع بقتله شر أعظم من قتله، فإذا لم يكن في وجود هذا الشر لم يجز قتله، قال تعالى: ﴿مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ [المائدة: 32]، فلم يبح القتل إلا قودًا أو لفساد البغاة وسعيهم في الأرض بالفساد، مثل فتنة المسلم عن دينه، وقطع الطريق. وأما ذنبه الذي يختص به ولا يتعدى ضرره إلى غيره، فهذا يسمى فسادًا بخلاف الداعي إلى الكفر والنفاق والزاني. فإن هذا أفسد غيره، فلولا عقوبة الزناة لكان من اشتهاه يدعو إليه من يجيبه إليه، فيفسد كل منهما الآخر، ويفسدان الناس، فإذا قتل فاعله انتهوا عن الفساد.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن لا يقتل تارك الصلاة لأن ضرره على نفسه. قيل: من يقول: إنه يكفر. يقتله لردته. ومعلوم أنه لا يدعى أحد إلى الصلاة فيمتنع عنها حتى يقتل إلا وهو كافر. ونحن لا نقتله ابتداء، بل يدعى إليها، ويعاقب بما دون القتل، فإن صلى وإلا فإذا أصر حتى يقتل ولا يصلي فهو كافر قطعًا. ومن ظن أنه مع صبره على القتل يكون مسلمًا في الباطن، فخطؤه ظاهر. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «بَيْنَ الْعَبْدِ، وَبَيْنَ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ، تَرْكُ الصَّلَاةِ»، وقال: «إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[40].
وأما من قتله لترك الصلاة مع اعتقاده أنه قتل مسلمًا، فهذا مما أنكره كثير من العلماء، وقالوا: هو خلاف النصوص.
وأيضًا دم المسلم لا يحل إلا بردة أو زنا مع إحصان أو قتل نفس. ولهذا كان المانعون للزكاة عند الصحابة والمسلمين مرتدين، لم يجعلوا فيهم أحدًا مسلمًا. فمن منع الزكاة حتى قتل ولم يزك لم يكن إلا كافرًا، وكذلك الصوم والحج لو قدر أنه قيل له: إن لم تصم وإلا قتلناك. فامتنع من الصيام والحج حتى قتل، كان كافرًا.
ومثل هذه الأمور التي بني الإسلام عليها فهي كالشهادتين، فلا يكون مسلمًا بدونها.
ودار الإسلام لا يترك فيها إلا مسلم أو كافر بجزية وصغار. وهذا إذا لم يكن كافرًا بجزية وصغار فهو مسلم، فلا يكون مسلمًا حتى يقوم بمباني الإسلام، فصار قتل هذا كقتل من أتى بإحدى الشهادتين دون الأخرى، وكقتل من كذب بالقرآن أو بعضه، أو جحد وجوب الصلاة، فإن هذا يقتل بالإجماع لكونه كافرًا وليس بمسلم.
ومن قال هذا يقول: قوله ﷺ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»[41] لا يدخل فيه من ترك إحدى المباني؛ لأن هؤلاء غير مسلمين، وهذا قد يقال: إنه يعود إلى أنهم مرتدون. وقد يقال: ليسوا مرتدين. ولكن أتوا ببعض الإسلام وتركوا بعضه، فيقتلون على ما تركوه. والمنافقون ظاهرهم الإسلام وهم كفار في الباطن. وكذلك الأعراب الذين قالوا: آمنا. فقيل لهم: ﴿لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾ [الحجرات: 14]. فهؤلاء ليسوا كفارًا مباحي الدماء، وليسوا أيضًا مؤمنين مستحقين للثواب، بل قد يستوون مع المسلمين في الدنيا. والمنافقون يكونون في الآخرة مع الكفار. فمن لم يأت بالمباني يشبه هؤلاء، أما من ترك المباني أو بعضها فهذا قد يكون منافقًا يحشر مع المنافقين، ولا بد من عقوبته، فإن أصر حتى قتل فهذا كافر، إما منافق، وإما مرتد، وإما زنديق ظهر نفاقه وزندقته. ونحن قدمنا أن مجرد الكفر ليس موجبًا بل الموجب هو الكفر المغلظ، وتغليظه تارة يكون بحرب صاحبه، وتارة بردته عن الإسلام، ثم المرتد نوعان: ردة مجردة، وردة مغلظة، فصاحب الردة المغلظة يقتل بلا استتابة، وإن استتيب صاحب المجردة كما أمر النبي ﷺ بقتل مقيس ابن صبابة وعبد الله بن خطل من غير استتابة. وكان أيضًا قد أهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح. فلو قتله قاتل من غير استتابة لجاز، لكن جاء بعد فقبل توبته. وهذا يدل على أن الاستتابة وقبول التوبة ليس واجبا لكل مرتد، ولا محرمًا في حق كل مرتد، بل صاحب الردة المغلظة قد يقتل ولو تاب، وقد يقتل بلا استتابة، ولكن لو تاب لم يقتل، وقد يؤمر باستتابته.
وهذا التقسيم موجود في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقد بُسِطَ ما يناسب هذا في الصارم المسلول على شاتم الرسول فكذلك الكفر.
وأيضًا فلو كان مجرد الكفر موجبًا للقتل لم يجز إقرار كافر بالجزية والصغار. فإن هذا لم يبذل الكفر. ولهذا لما كانت الردة موجبة للقتل لم يجز إقرار مرتد بجزية وصغار.
وبهذا يظهر الجواب عما أورده بعض الزنادقة - قيل: هو ابن الرواندي - على قوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيًۡٔا إِدّٗا﴾ إلى قوله: ﴿وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا ٩٥﴾ [مريم: 89-95] فقال: هذا كله يزول إذا أدى دينارًا في السنة، أو ما يشبه هذا.
فيقال لهذا الملحد: الجزية والصغار لم تكن جزاء كفره، وإنما جزاء كفره نار جهنم خالدًا فيها أبدًا. ونحن قد بينا أن القتال لم يكن على مجرد كفره. فغاية الجزية والصَّغار أن تكون عاصمة لدمه من السيف، والسيف لم يجزه على كفر ولا دفع به عنه عقوبة الآخرة، بل أريد دفع شره وعدوانه، وصده لغيره عن الدين. وهذا الشر يزول بالصغار والجزية مع العهد، فإنه بالصغار مع العهد كف يده ولسانه.
ثم إنه ليس من أهل القتال، بل المسلمون يقاتلون عنه ويحفظون دمه وماله من عدوه. فإذا أخذ منه ما يكون فيئًا يستعين به أهل الجهاد كان هذا من تمام الإحسان إليه.
والجزية فعلة من الجزاء، يقال: جزى هذا عني، أي قضى عني، كما سميت الدية دية لأنها تؤدى يقال: أديت هذا إذا قضيته وأعطيته. ويقال للوظائف المؤقتة: الإتاوة؛ لأنها تؤتى، والمؤدى؛ لأنها تؤدى.
فهذا اللفظ يقال على ما يوظف على الإنسان، فيؤدى بحيث يطلب منه أن يقضيه، فكأنه قال: حتى يعطوا ما عليهم من الحق الذي يجزي أي يقضي. ثم مقداره بحسب المصلحة.
فلما كان يجزي بها عن نفسه- أي يقضي بها ما وجب عليه- سميت جزية.
قيل: الجزية أجرة، فلا تسقط بالإسلام. وقيل: هي عقوبة على الكفر. فتسقط بالموت، كما تسقط بالإسلام.
وقيل: بل يقضي بها حقن دمه بإقراره والقتال عنه. فتجب بالموت لأنه حقن دمه. ولا تجب مع الإسلام؛ لأنه وجد العاصم بنفسه الموجب للجهاد عليه.
ومن قال: هي عقوبة - كما قال أبو الخطاب وبعض أصحاب أحمد - فقد ناقض أصله، فإن من أصله أن مجرد الكفر لا يوجب العقوبة. وهؤلاء مع العهد والصغار إنما معهم الكفر. فكيف يعاقب عليه؟
ومن قال: إنها أجرة. قيل له: فكان ينبغي أن تؤخذ من النساء.
ومن قال: إنها عصمة. فإنها تجب على من يجوز قتله، فقد اطرد أصله، فإن الإسلام عاصم، والجزية والصغار عاصم إذ كان لا بد إما من عبادة الله، وإما من نفع المؤمنين، فالمؤمن عَبَد الله، فقام بحقه، وهذا لم يعبد الله فنفع المؤمنين بإيتاء ما يجزيه عن نفسه، فلهذا أُقر، ولعل الله يهديه ويتوب عليه، ولأن مع أهل الكتاب من الكتب والمنقولات ما يدل على نبوة محمد ﷺ، فأقروا لهذه المصالح، وعقوبتهم على الكفر لم تزل بشيء من ذلك، ولا زال عنهم قبح ما ارتكبوه من الكفر.
والحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
تمت الرسالة
* * *
[29] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [30] راجع في ذلك زاد المسير لابن الجوزي، طبع المكتب الإسلامي: 1/197-201. [31] الذي في المغازي وكتب السير أنهم كانوا ستمائة، أو أكثر إلى تسعمائة. [32] أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد من حديث الصعب بن جثامة. [33] انظر: زاد المسير: 1/197-201. [34] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [35] أخرجه البخاري من حديث عمر. [36] لعل الشيخ لم يدخل كنائس النصارى، فإنه لو دخلها لوجد فيها من التماثيل المقدسة عندهم والأصنام المعبودة مثل ما عند غيرهم سواء. [37] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف. [38] متفق عليه من حديث ابن مسعود، بلفظ قريب من هذا. [39] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. [40] أخرجه النسائي وغيره من حديث بريدة. [41] متفق عليه من حديث ابن مسعود.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، وبعد:
فإن الاختلاف بين العلماء في فروع المسائل هو أمر واقع ما له من دافع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. وكان أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون لهم بإحسان يقع دائمًا بينهم النزاع في الأحكام وأمور الحلال والحرام.
لكنهم وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه فإن الصحبة والمحبة ثابتة بينهم لا يزيلها الخلاف، ولا ينقصها غلب أحدهم بالحجة، فيردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول.
فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع في العالمين درجته وينتشر بين الناس فضله، وبعضهم يخطئ إصابة الحق بعد اجتهاده في طلبه فيحظى بأجر واحد من ربه ويغفر الله له خطأه، تحقيقًا لقوله سبحانه: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا﴾ [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت.
وإن هذه المقدمة قد عملتها لتكون بمثابة الترجمة الواسعة للجهاد المشروع في الإسلام، فهي بمثابة التمحيص والتصحيح لهذه المسألة التي طال فيها الجدال بين العلماء مع العلماء، وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب، فكل إنسان يعبر عنها بما يعتقده في نفسه مما عسى أن يتلقاه من فقهاء مذهبه، لهذا أحببت أن أبين سبب الجهاد وموجبه، وكيف كانت سيرة النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيه، ومن يستحق القتال ومن لا يستحقه، وكون الرسول يسالم من يسالمه، وإثبات الأمر اليقين في ذلك وإزاحة الشك والإشكال والكذب عنه، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غيره وعسى أن ينقطع به النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع.
هذا وإن الانتفاع بكتاب كهذا يحتاج إلى تفقه في سائر فصوله مع التخلي عن التعصب للشيوخ والمذاهب وأقوال الفقهاء القديمة الخالية من الدليل والبرهان، ولا أقول بعصمته فقد يخفى على قائله ما عسى أن يظهر لقارئه، وفوق كل ذي علم عليم.
وإن أغرب ما سمعته في هذا الزمان مما يتعلق بالجهاد المشروع في الإسلام هو قول الشيخ صالح اللحيدان في كتابه الجهاد في الإسلام بين الدفاع والطلب. قال: إن الرسول وأصحابه لم يدافعوا عن أنفسهم في وقعة بدر، بل كانوا مبتدئين بالقتال طالبين للعدو، وقال: إن حروب الرسول وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف وكذلك الغزوات الأخرى حيث كان الرسول هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال. انتهى.
وأقول: إن هذه الغلطة الكبيرة إنما نشأت عن نقص علم وقصور فهم أراد بها تعزيز رأيه فيما يعتقده من أن الرسول وأصحابه يقاتلون جميع الناس حتى يسلموا، وليس السبب عدوان من يقاتلهم؛ لأنه يعتمد في نقله على ما يعتقده في نفسه بدون رجوع منه إلى صحيح المنقول وبدون فقه منه في سبب غزوات الرسول، ويظهر منه أنه بطيء العهد بتعاهد القرآن الذي فيه تفصيل هذه القضية على الجلية بأحسن تبيان، فإن به تحقيق بداية المشركين بالعدوان، إذ إن هذا الأمر اليقينُ الذي يرتفع عن مجال الشك والإشكال لثبوته بمقتضى الدليل والبرهان والسنة والقرآن، وكلما بعد الإنسان عن تدبر القرآن ضعفت حجته، فمن قال: إن الرسول هو البادئ بالقتال بدون سبب يوجبه من المشركين. فقد أعظم الفرية عليه، وقال بما لم يحط بعلمه، ويخشى من تعدي غلطه إلى بعض من يسمعه من جهلة العوام وضعفة العقول والأفهام؛ فيظنونه حقًّا وهو في الحقيقة باطل.
وسنورد من الدلائل النقلية والبراهين الجلية ما يزيل اللبس عن هذه القضية حتى تكون جلية للعيان وحتى لا يختلف فيها اثنان، وليس من شأن الباحث أن يُفهم من لا يريد أن يفهم.
فمن دلائل القرآن قوله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]، فأثبت سبحانه في هذه الآية بداية المشركين بالاعتداء بالقتال على الذين أسلموا من أصحاب النبي ﷺ وأنهم يسومونهم سوء العذاب ليردوهم عن دينهم كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ﴾ [البقرة: 217] وهذا القتال يشمل الضرب والتجريح.
فقد كان الصحابة يأتون إلى رسول الله منهم المضروب ومنهم المجروح، وقد توفيت سمية أم عمار تحت التعذيب لصدها عن دينها، كما توفي زوجها ياسر. وكان رسول الله يمر عليهما وهما ُيعذبان و يقول: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»[42]، وكانوا يحملون الحجارة ويضعونها على بطن بلال وظهره ويقولون: قل واللات والعزى. ويقول: أحد أحد.
ولهذا قال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْ﴾، فأثبت ظلم المشركين في تعذيبهم للمؤمنين بفنون التعذيب والأذى ولا ذنب لهم إلا أنهم يقولون: ربنا الله ونبينا محمد. ﴿وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ﴾ فقد أخرجوا الصحابة حتى أخرجوهم من بلدهم، والإخراج من البلد نظير القتل في كتاب الله، فقد خرج فوق الثمانين من الصحابة ما بين رجال ونساء إلى الحبشة يمشون على أرجلهم حتى أتوا ساحل البحر، هذا كله فرارًا بدينهم من الفتنة وبأبدانهم من التعذيب وبعضهم خرج مهاجرًا إلى المدينة.
والنبي ﷺ خرج مهاجرًا خائفًا متخفيًا يقول: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»[43] وكانوا يصادرون أموال كل من هاجر إذا لم تكن له قبيلة تحمي ماله كما صادروا أموال صهيب الرومي وأنزل الله فيه: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 207]، ولهذا قال الصحابة: ربح البيع صهيب.
ومنها قوله سبحانه: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨﴾ [الحشر: 8].
فأثبت سبحانه أن المشركين أخرجوا المستضعفين من بلادهم وأموالهم في سبيل هجرتهم ونصرتهم لرسول الله، يبتغون بذلك فضلاً من الله ورضوانًا، ولا ذنب لهم إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله.
ومنها قوله سبحانه: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2]، فبسط اليد بالسوء هو بالضرب والتجريح والشجاج، وبسط الألسنة بالسوء أي بالسب واللعن والسخرية وسائر الأذية ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ﴾ [آلعمران: 118].
ومنها أن الله سبحانه أكد ابتداء المشركين بالاعتداء على النبي ﷺ وعلى أصحابه في بداية الأمر ونهايته، فقال سبحانه: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡ﴾ [التوبة: 13-15]، فأثبت سبحانه بداية المشركين بالاعتداء على الرسول وأصحابه في بداية الأمر ونهايته، وأنهم نكثوا أيمانهم وعهودهم التي أبرموها مع الرسول في صلح الحديبية، وأنهم هموا بإخراج الرسول كما حصروه مع عمه أبي طالب في الشعب يطالبون أبا طالب بتسليمه إليهم ليقتلوه. وهذا معنى قول أبي طالب في قصيدته:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسّدَ في التراب دفينا
وإنما اشتد الأذى بالرسول بعد موت أبي طالب، بل وهموا بقتله حيث اتفقوا على أن يدفعوا لكل رجل سيفًا فيضربونه جميعًا بسيوفهم فيضيع دمه بينهم، فأطلع الله رسوله على ذلك وأذن له بالهجرة وأنزل الله: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30].
ومنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ﴾ [الممتحنة: 1]؛ أي لأجل إيمانكم بربكم.
فأثبت سبحانه شدة عداوة المشركين لله ورسوله وعباده المؤمنين، وأنه يحرم على المؤمنين موالاتهم بإظهار المودة لهم وقد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هداكم الله به. ثم قال: يخرجون الرسول من بلده لأنه خرج من مكة مكرهًا وخائفًا متخفيًا كما خرج المؤمنون فرارًا بدينهم من الفتنة وبأبدانهم من التعذيب لأجل إيمانهم بربهم. مثله قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 9]، فأثبت سبحانه قتال المشركين للمؤمنين على دينهم لأجل إيمانهم بربهم ليردوهم بطريق الإكراه إلى ملة الكفر التي أنقذهم الله منها.
فهذه كلها آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تبديل ولا تخصيص، ولا يجوز لأحد تغييرها ولا النظر في رأي يخالفها.
وأما الاستدلال بفقه السيرة فيثبت ابتداء الاعتداء من المشركين على رسول الله وأصحابه، وأنه إذا قاتل فإنما يقاتل لصد العدوان عن الدين وكف الأذى والاعتداء عن المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.
أما مسألة الجهاد بالدفاع عن الدين وعن أذى المعتدين فقد اعتنى العلماء المتأخرون بتصحيحها وتمحيصها أشد من اعتناء الفقهاء المتقدمين حتى ارتفعت عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التجلي والظهور، فضعف فيها الخلاف وكاد ينعقد عليها الإجماع. وإن غزوات الرسول كلها دفاع عن الدين وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.
ونشير الآن إلى غزواته وأسبابها التي أشار الكاتب إلى أنها وقعت من الرسول بطريق الابتداء بدون سبق عدوان من المشركين، فمنها حديث العير والنفير حيث خرج رسول الله في بعض أصحابه يريدون عير قريش، ومن المعلوم أن قريشًا هم الأعداء الألداء والبادئون بالاعتداء على الرسول وأصحابه، وقد استباحوا تعذيب الصحابة وأخذ أموالهم، فهم أئمة الكفر الحلال دمهم وأموالهم، أفيلام رسول الله وأصحابه عندما حاولوا أخذ العير ليتقووا بها على حرب عدوهم كما كان عدوهم يفعل ذلك بهم فيأخذون أموال المهاجرين؟ إذ هذا من باب المقاضاة بالمثل. وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم، يقول الله: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ﴾ [النحل: 126]، وقال: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقال: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١﴾ [الشورى: 41].
أما وقعة بدر فقد حدثت على غير ميعاد سبق، وكان الرسول قد كره وقوعها وقد نزل بأصحابه بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة ونزل المشركون بالعدوة القصوى مما يلي مكة، وقد أرسل أبو سفيان إليهم يطلب منهم أن يرجعوا قائلاً: إن عيركم وأموالكم قد سلمت فارجعوا إلى بلادكم، لكنهم كما أخبر الله عنهم خرجوا بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، ومعلوم قرب بدر من المدينة، فهم قصدوا حرب الرسول وأصحابه بطريق التحرش بهم، وكان سبب بداية القتال أن أبا البختري قال: والله لأردن حوض مياه محمد ولأكسرن حوضهم. وفعلاً اندفع يريد أن يهدم الحوض فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله ثم انعقد سبب القتال بين الفريقين.
ونصر الله نبيه وأصحابه وقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ووضعوا عليهم الفداء، وبعدها سرحوهم بكفرهم إلى أهلهم وبلدهم امتثالاً لأمر الله سبحانه حيث قال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4]، فذكر سبحانه المن والفداء بعد الأسر ولم يذكر القتل إلا في حالة التقاء الصفين.
فلو كان الكفار يقتلون حتى يسلموا لطالبهم النبي إما بالإسلام أو بالسيف، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، ولكنه قال: «أَسَتَأْنِي بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، أَوْ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[44].
إن قتال الرسول لقريش في بدر هو صريح لرد عدوانهم إذ إنهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين، والمحارب يُقاتل في أي حال وجد كما قال سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ [البقرة:190-191]؛ أي: حيث وجدتموهم ﴿وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾، وقال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ﴾ [البقرة:217].
فقتال الرسول لهم في بدر هو قتال لدفع شرهم وعدوانهم فهو جهاد بالدفاع، ولم يكن قتاله لهم لإكراههم على الدين حسبما يظنه الكاتب، ولم يكن وقع ابتداء من الرسول بدون عدوان يوجبه منهم، بل هم البادئون بالاعتداء والمعلنون بالحرب لله ورسوله والمؤمنين.
ثم ليعلم أن الكفار منهم المحاربون ومنهم المسالمون، وقد نزل تفسيرهم في تفصيل ما يجب أن يعاملوا به، فقال في شأن المسالمين: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨﴾ [الممتحنة: 8]، ثم قال في شأن المحاربين: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 9]، وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص وإنما نزلت عام الفتح وهي ترد على من جعل الكفار كحالة واحدة وأنه يجب أن يقاتلوا بطريق الهجوم -أي الابتداء- حتى يسلموا، لا فرق في ذلك بين المحاربين والمسالمين، فهذا لا صحة له قطعًا.
ومثله قتال الكفار المشركين للرسول وأصحابه يوم أحد حيث غزوا الرسول وأصحابه في بلادهم فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وهل قتال الرسول لهم إلا دفعًا لشرهم. ثم إنهم تحزبوا على حرب رسول الله وأصحابه يوم الأحزاب ومنهم عرب الحجاز ونجد ونقضت اليهود العهد الذي بينهم وبين رسول الله ودخلوا مع قريش في حرب الرسول، وتبعهم يهود خيبر لظنهم أنها الفاصلة المستأصلة للرسول وأصحابه، حتى ضرب النبي على المدينة خندقًا يمنع تجاوز الخيل وبلغ الخوف مع الرسول وأصحابه إلى نهاية الشدة وأنزل الله فيه صدر سورة الأحزاب وفيها: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩ إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ١٠ هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١﴾ [الأحزاب: 9-11] إلى قوله: ﴿وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٢٥ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ﴾ [الأحزاب: 25-26].
أفيقال: إن الرسول هو البادئ بالقتال لأجل كفرهم وهم لم يبقوا للصلح موضعًا مع الرسول وأصحابه ولم يألوا جهدًا في فتنتهم للمؤمنين وتعذيبهم ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2]؟! ثم حارب الرسول يهود المدينة بعد نقضهم لعهده ومحاربتهم له مع قريش، فقتل بعضهم وأجلى بعضهم ومَنَّ على بعضهم. ثم قاتل يهود خيبر فلما نصره الله عليهم وفتح خيبر رفع القتل عنهم وأجرى الاتفاق بينه وبينهم على زراعة النخيل بشطر ما يخرج منها، وهذه سنته في فتوح البلدان، وهي أنه متى نصره الله عليهم وفتح البلد فإنه يرفع القتل والقتال عن أهلها ولا يسأل أحدًا عن عقيدته، فكل ما يسمعه الناس وتبينه كتب السير والتاريخ من القتال في فتح البلدان كفارس والروم فإنما يقع هذا القتال خارج البلد حين يخرج أهلها بسلاحهم وقوتهم يريدون صد المسلمين ودعاتهم عن نشر دين الله في بلادهم، وهو الدين الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم، والذي كلف المؤمنون بإبلاغه الناس مهما كلف الأمر، فهم يخوضون كل شدة ويقتحمون كل مشقة في سبيل نشره وإبلاغه ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ﴾؛ أي عن قبول هدايته ﴿فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾ [الشورى: 48].
ولا ينبغي أن ننسى ما فعله رسول الله في فتح مكة وذلك أن رسول الله صالح قريشًا يوم الحديبية على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وأن من دخل في عقد الرسول وعهده فإنه منه ومن دخل في عقد قريش فهو منهم، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله فنقضت قريش هذا العهد بقتلهم لخزاعة على حين غفلة منهم، فغزاهم رسول الله عام الفتح لاعتبار أنهم محاربون له ولمن دخل في عهده. فدخل مكة والسلاح بأيدي أهلها وحذر أصحابه من أن يتعرضوا لقتل أوباش قريش عندما يلقونهم. ولما سمع سعد بن عبادة يرتجز بتمني القتال وكان معه راية الأنصار ويقول: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل فيه الكعبة. فأخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس.
ولما دخل مكة وسّع نطاق الأمان لأهلها ولم يرعهم بقتل ولا قتال إلا أفرادًا عرف أن بقاءهم يفسد بقيتهم، منهم عقبة بن أبي معيط الذي هو أشر قريش والذي وضع سلى الجزور على رأس رسول الله وهو ساجد. ومنهم النضر بن الحارث الذي يهجو رسول الله بشعره، وقد أسبل المنَّ والعفو على جميعهم وقال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[45] ولم يسأل واحدًا منهم عن دينه حتى دخلوا دين الإسلام باختيارهم وصدق عليهم قوله سبحانه: ﴿۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧﴾ [الممتحنة: 7].
وإن أردت تفصيل ذلك بتفسيره فراجع قضية الفتح الأكبر -الذي أعز الله به الإسلام ونصر، وأذل به الباطل وكسر- من كتابنا هذا تجد فيها ما يشفي ويكفي.
وأما قضية هوازن حيث صرح الكاتب عنها قائلاً: إن حروب الرسول ﷺ وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف حيث كان الرسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال.
وأقول: إن الشيخ رحمه الله يكتب عن القضايا كهذه وغيرها على حسب ما يضمره في نفسه بدون رجوع منه إلى أصول القضايا والغزوات من مظانها في كتب السير والتاريخ، لهذا السبب كثر خلطه وخبطه بدون بصيرة من أمره، فيجعل الباطل حقًّا والحق باطلاً، وقد قيل لي: إن كتابه لا يستوجب الرد لأنه معلوم البطلان عند كل واحد. فقلت للمعارض: إن كل من أوصلته خبرًا لن تستطيع أن توصله عذرًا، ولكن وجوب البيان وتحريم الكتمان يوجب علينا رد هذا البطلان؛ خشية أن يحتج به بعض من يرى صحته أو بعض من يعتقد اعتقاده؛ لأنه متى قل العلم وساء الفهم ساءت النتيجة، وقد قيل: خلاصة القول تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع آراء الشك.
سبكناه ونحسبه لجينا
فأبدى الكير عن خبث الحديد
وقد عقدنا لوقعة هوازن فصلاً مستقلاً وذكرنا فيه سبب هذه الغزوة التي أنزل الله في شأنها: ﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [التوبة: 25-26].
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين وسمعت هوازن بذلك فشرقوا بهذا الفتح حنقًا وبغضًا للرسول وأصحابه وولاء ومحبة منهم لقريش، فعزموا على أن ينتقموا من الرسول وأصحابه، فجمعهم ملكهم مالك بن عوف النضري فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها على بكرة أبيها، واجتمع إليه نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وكثير من شتى القبائل ومن عرب الحجاز ونجد ومعه يومئذ دريد بن الصمة وهو كبير يُحْمل في هودج ليأخذ من رأيه حيث إنه مجرب في الحروب، فزحفوا بجمعهم من عوالي نجد بأهلهم وعيالهم وأموالهم لقصد الحفيظة حتى لا يفروا عن القتال، ونزلوا بعسفان بين مكة والطائف ليفاجأ الرسول وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب لظنه أن أهل مكة المغلوبين سيكونون عونًا له على القتال معه.
ولما سمع رسول الله بخبرهم خرج إليهم بمن معه من أصحابه وبعض أهل مكة ومنهم مسلمون وبعضهم باقون على شركهم فوصل إليهم رسول الله في عماية الصبح بعد فتح مكة بعشرة أيام، وكانت هوازن قد كمنوا في الشعاب والمضايق وقد تهيؤوا لينفروا جميعًا، ولم يرع أصحاب رسول الله إلا والكتائب قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فشمر الصحابة راجعين لا يلوي منهم أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين وهو يقول «إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ»[46] وقد بقي معه نفر من المهاجرين وأهل بيته ومنهم أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.
ولم يتراجع القوم إلا وبعض الأسرى عند رسول الله ولم يقتل أحدًا منهم بعد أسرهم، وتفرقت هوازن ومن معهم وفرت ثقيف إلى بلدهم، أفيصدق أن يقال والحالة هذه: إن الرسول هو البادئ بقتال هوازن بدون سبب يوجبه منهم؟ وهل بقي من هوازن إلا هجومهم على الرسول في مكة؟ ولا يدرى سوء عاقبة هذا الهجوم، فإنه ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا وساءت حالهم، وقد قيل: كل محصور مأخوذ.
وأما حصاره للطائف فإن ثقيفًا على بكرة أبيهم كانوا مع هوازن في الحرب على رسول الله، فلما نصر الله رسوله والمؤمنين فروا إلى بلدهم وتحصنوا فيها فهم مستحقون للقتل والقتال لثلاثة أمور: أحدها مشاركتهم لهوازن في حرب رسول الله، فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين والله يقول: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ﴾ [النحل: 126]، وقال: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١﴾ [الشورى: 41]، والأمر الثاني أن الرسول جاءهم قبل الهجرة وطلب منهم أن يؤووه وينصروه حتى يبلغ رسالة ربه وقد قيل: إنه مكث عندهم عشرة أيام، فلما أحسوا أن بعض ثقيف مال إليه وصدَّق دعوته أرسلوا عليه سفهاءهم فكانوا يرمونه بالحجارة ورؤساؤهم ينظرون إليهم ويضحكون من فعلهم وهم يقولون: مجنون كذاب. وزيد بن حارثة يقيه ببدنه عن وقوع الحجارة فيه حتى رجع كئيبًا حزينًا من فعلهم. الأمر الثالث أنه بعدما فرغ رسول الله من أمر هوازن ذهب إلى ثقيف رجاء أن يثوب إليهم عقلهم فيفتحوا له الباب ويسهلوا له الجناب حتى يبلغ رسالة ربه في بلدهم كما فعل أهل مكة. ومن سيرته أنه لا يعاقب أحدًا بجريمة سلفت منه مهما عظمت متى خلوا بينه وبين نشر دعوته في بلدهم، لكنهم عصوا وتمردوا وناصبوه العداوة فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدبابة، فكانوا يحمون النبال بالحديد ويرمون بها من في الدبابة، ويرمون الصحابة من وراء الجدران وفي السطوح، حتى قتلوا سبعة من أصحاب النبي، فانصرف عنهم وتركهم حتى هداهم الله للإسلام وأتوا إليه طائعين.
فهذا ملخص حصاره للطائف وهي مبسوطة بكاملها في كتابنا هذا.
وأما غزوه لتبوك حيث أشار إليه الكاتب فإن سببه أنه بلغ رسول الله بأنه اجتمع جنود من بلخ وجزام وغسّان وبعض متنصرة العرب وقد اجتمعوا في تبوك يريدون غزو رسول الله وأصحابه وقد قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وذلك عام تسع من الهجرة، فندب رسول الله أصحابه عام العسرة أي زمن جهد ومجاعة وانقطاع ظهر، فخرج في ثلاثين ألفًا من أصحابه، فكانوا يمرون على قبائل العرب من الحضر والبدو بوادي القرى والذين لم يدخلوا في الإسلام بعدُ، حتى وصلوا إلى بلد تبوك وبها مَن بها مِن الناس فلم يرع أحدًا منهم بقتل ولا قتال؛ لأنه إنما قصد الذين ظاهروه بالعداوة وبرزوا لحربه وأصحابه، لكنه في سفره لم يلق كيدًا ووجدهم قد تفرقوا، فرجع إلى بلده مؤيدًا منصورًا.
فهذه المقدمة نشير فيها إلى بعض الفقرات من المقتطفات التي ذكرها الكاتب وكلها مفصلة بأسبابها في ضمن الكتاب. والله الموفق للصواب
الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
* * *
[42] عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الأوسط من حديث جابر. [43] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. [44] زاد المعاد 1/94. [45] سيرة ابن هشام 2/412. [46] أخرجه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله.
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أما بعد:
فقد أهدى إلي أحد المشايخ الكرام كتابًا عنوانه الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع لمؤلفه الشيخ صالح اللحيدان، فعملت عملي في دراسته لأعجم عود فراسته وأعرف حقيقة سياسته، فألفيته قد ألفه كرد منه على كتابنا الجهاد المشروع في الإسلام.
وقد بنى قواعده على أمرين: أحدهما زعمه بأن الجهاد المشروع في الإسلام هو قتال الكفار حتى يسلموا بطريق الطلب، لا فرق في ذلك بين المحاربين والمسالمين، وزعم أن رسول الله وأصحابه هم المبتدئون بالقتال في غزواتهم، وأنهم المطالبون للعدو؛ لأن خروجهم لعير قريش لا يعني غير هذا، ولم تكن غزواته لهم لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه؛ فإنه لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال، وأخذ يندفع في تحقيق رأيه وتفنيد كلام من يخالفه، وهذه هي طريقة بعض العلماء المتقدمين وأكثر العامة، حتى حسبها الكاتب حقًّا لا يجوز تبديله ولا النظر في أمر يخالفه.
الأمر الثاني: قول من يقول: إن سبب الجهاد هو الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الرسول ﷺ إذا قاتل فإنما يقاتل لرد العدوان على الدين أو على عباده المؤمنين، وقد سخط الكاتب هذا القول أشد السخط، وتحامل على القائلين به بالإنحاء بالملام، وتوجيه المذام بدون كرامة ولا احترام، فوسمهم بالزراية وعدم الدراية والرواية، بعبارات كلها تقتضي الجنف والجفاء وتنافي الإنصاف، قد جعل فيها الجد عبثًا، والتبر خبثًا، والصحيح ضعيفًا.
وكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب من لا له ذنبُ
إن الاختلاف بين الناس واقع ما له من دافع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وإن العصمة عن الخطأ ليست لكتاب غير كتاب الله تعالى، ﴿وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢﴾ [النساء: 82].
إن هذا الاختلاف بين العلماء إنما ينشأ غالبًا من تفاوت الأفهام في العلوم والأحكام، وعدم التوسع في النصوص والقصود وسائر العلوم والأحكام؛ لأن الناس بدليل الاختبار يتفاوتون في العلوم والأفهام، وفي استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فيتحدث كل إنسان بما فهمه حسبما وصل إليه علمه، وعادم العلم لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، فمن واجب العالم أن يبدي غوامض البحث ويكشف للناس مشاكله، ويبين صحيحه وضعيفه، مدعمًا بدليله حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم.
وقد استدركنا على هذا الكتاب بعض الأخطاء التي سنذكرها في مواضعها ولن يستحق أن يرد على مثله لوضوح اعتلاله واختلاله وعدم عدالة أقواله، وليس تحامله على العلماء المخالفين لرأيه بأكبر من تحامله على الرسول ﷺ وأصحابه حيث نسبهم في غزواتهم إلى أنهم البادئون بالاعتداء بدون سبب يوجبه من الأعداء سوى إكراههم على الدين.
ويبعد جدًّا حمل هذا الخطأ على التعمد مع علمه به، ولكنه نشأ عن مبلغ فهمه وغاية ما وصل إلى علمه، وإننا لنرجو له أجرًا على خطئه وأجرين على إصابته.
* * *
إن من واجب العالم المخلص في علمه وعمله أن يحتسب القيام بما وصل إليه علمه من قول الحق والدعوة إليه بالحكمة الموعظة الحسنة، فيبين للناس معرفة الحق بدليله مشروحًا بتوضيحه، وبيان تعليله وتصحيحه؛ لكون العلم أمانة وكتمانه خيانة.
ومن المعلوم أن العلوم تزداد وضوحًا بتوارد أفكار الباحثين وتعاقب تذاكر الفاحصين؛ لأن العلم شجون يستدعي بعضه بعضًا، وملاقاة التجاوب من الرجال تلقيح لألبابها، وعلى قدر رغبة الإنسان في العلم وطموح نظره في التوسع فيه بطريق البحث والتفتيش والفحص عن الحق في مظانه، فإنه بذلك تقوى حجته وتتوق صلته بالعلم، ويقف على حقيقة الوفاق والخلاف فيه.
إن العلم الصحيح والدين الخالص الصريح هما شقيقان يتفقان ولا يفترقان، وقد مدح الله سبحانه الذي جاء بالصدق وصدق به.
إنه متى تصدى عالم أو كاتب لتأليف أي رسالة أو أي مقالة فبالغ في تنقيحها بالتدقيق، وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، وهي مما عسى أن يقع فيها الخلاف بين العلماء من سلف الأمة، فحاول جاحد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها حتى يكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها، فيلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان، ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام، أفيلام صاحبها متى كشف عنها ظلم الاتهام وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام بطريق الحجة والبرهان؟ إذ لابد للمصدور أن ينفث، والحجة تقرع بالحجة ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه ﴿لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ﴾ [الأنفال: 42].
فمتى لم ترسخ في قلب الإنسان معرفة الحق بدليله ويميز بين صحيحه وعليله، مما يتعلق بعقائد الدين وما يدعمها من الحجج والبراهين، فإنه سيصاب بالانزلاق في مهاوي الجهل، ويصاب بالارتباك والخجل وعقدة الوجوم والوجل عند أول ملاقاة مع أهل الجدل، فيبقى صريعًا لجهلهم قد استحوذ عليه باطلهم؛ لعدم وجود ما يصول به ويجول من علم اليقين والبصيرة في الدين. إذ العلم الصحيح سلاح الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، به تستنير البصيرة وتقوى الحجة.
وإن مما نستدرك على بعض علمائنا وعلى بعض الشباب المثقفين والمتعلمين كون أحدهم متى ظفر برسالة هامة تكشف له الإشكالات، وتزيل عن قلبه الشكوك والشبهات، مما يتعلق بهذه المسألة أو غيرها، وهي رسالة مختصرة صغيرة الحجم وغزيرة العلم بحيث يستطيع أحدهم دراستها في مجلس واحد أو في ساعة واحدة بدون مشقة ولا تكلف، فيكون حظه منها مجرد النظر إلى عنوانها، وعسى أن ينشط لدراسة الوجه الأول والثاني منها، ثم يصفق بأجنحتها بعضها على بعض ويودعها في سلة المهملات، وذلك آخر عهده بها، فيعود جهد صاحبها ضياعًا وعلمه عيالاً أشبه بمن يزف امرأة حسناء إلى عنين، أو كالمطر الوابل في الأرض السبخة.
فيا لائمي دعني أُغالي بقيمتي
فقيمة كل الناس ما يحسنونه
* * *
إن الجهاد بالدفاع ليس ببدع من القول وزور، وليس بغريب مهجور، وإنما هو أمر مشهور بالكتاب والسنة واللغة العربية.
والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١﴾ [البقرة: 251]، وقوله: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ [الحج: 38]، وقوله: ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96].
والجهاد بالدفاع هو ضد الهجوم، وحقيقته صد العدوان لكون الجهاد بالهجوم هو البدء بالعدوان بدون أن يكون له سبب من المهجوم عليهم، فإن سبق منهم عدوان فإنه المقاضاة بالمثل، وفيه أنزل الله: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ﴾ [النحل: 126]، وقوله: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الشورى: 40].
فهذا وإن لم يكن له سبق ذكر بهذا اللفظ من العلماء المتقدمين لكنه معروف عندهم كمقابلة من الهجوم الذي هو المبادأة وقد قالوا: الشر بالشر والبادئ أظلم.
وإن العلماء المتأخرين الذين بحثوا عن حقيقة غزوات النبي ﷺ فأثاروا مسألة جهاده وسببها وحققوا بأن غزواته كلها دفاع عن الدين وكف أذى المعتدين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين، حتى كثر في موضوعها الجدل بين العلماء مع العلماء وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب.
وقد اعتبر النصارى غزوات الرسول هجومًا على المخالفين له في الدين بدون أن يكون لها سبب من العدوان، وقد جعلوها لهم عقيدة في التنفير عن دين الإسلام في ضمن ما يفعلونه من التبشير بدينهم، فكانوا يلقنون الطلاب وكافة العامة بأن الإسلام دين إكراه وحرب، يكرهون الناس على الخروج عن عقائدهم، يوقفون الشخص ويرفعون السيف فوق رأسه ويقولون: إما أن تسلم وإلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه، وهذا هو نفس اعتقاد الشيخ صالح في قوله ونقله، وهو كذب مفترى على الإسلام وأهله، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله تعالى يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]، وهي آيات محكمات لا نسخ فيها في قول الجمهور لكون الإسلام هداية اختيارية.
وقد قال بعض العلماء من المتأخرين: إن دعوى القتال للإكراه على الدين إنما دخلت على المسلمين عن طريق النصارى حيث كانوا يجادلون بها دائمًا ويشنعون بها على الإسلام والمسلمين لقصد التنفير عن الدين واحتقاب العداوة لأهله، ويجعلونها في مقدمة تبشيرهم إلى دينهم وينشرونها في كتبهم وفي مدارسهم، فهي أكبر مطاعن النصارى على المسلمين وعلى الدين، فسرى هذا الاعتقاد إلى بعض العلماء وأكثر العامة لظنهم أنه صحيح واقع وهو باطل بلا شك، ومن طبيعة البشر كراهية اسم الإكراه والإجبار والنفرة منه مهما كانت عاقبته، وإننا متى قلنا بهذا القول قد اشتركنا مع القسيسين والمبشرين في التنفير عن الدين، ومتى تخاطب النصارى مع رجال من أفراد المسلمين غير العارفين بحقيقة الأمر ثم قالوا لهم: إن الرسول يقاتل الناس حتى يسلموا، فإنهم بذلك يزدادون فتنة بالمؤمنين، ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا﴾ [الممتحنة: 5].
وبما أن الحاجات هي أم الاختراعات ولكل حادث حديث، لهذا تصدى كثير من العلماء المتأخرين إلى بيان هذه المسألة، وأن حقيقة الجهاد الشرعي هي الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين عن المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته، أو يلقي الفتنة بين أهله بتعذيب من أسلم أو تغريبه كما كانت قريش تفعل ذلك، وإثبات الأمر اليقين في ذلك، وإزالة الشك والإشكال والكذب فيه، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غير هذا الكتاب، وقد رأينا غلط الشيخ في فهم الجهاد بالدفاع، حيث عبر عنه أسوأ تعبير فجعله كنطاح البهائم قائلاً: إننا إذا قلنا بالدفاع فما الفارق بين الإنسان وبين بهائم الحيوان الذي همه أن يدافع عن نفسه لا غير. انتهى. ففسره بهذا لعدم فقهه بشمول حكمه.
وإن هذه المسألة قد يشوبها شيء من الخفاء والغموض في بادئ الرأي لكنها بتصحيح الباحثين وتمحيص الكاتبين من أهل العلم ترتفع عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التجلي والظهور، فتلتحق بعلم اليقين والبصيرة في الدين.
وإن الخلاف في هذه المسألة يدور بين أمرين: أحدهما أن سبب الجهاد المشروع هو الدفاع عن الدين وعن حوزة المسلمين وحدودهم وحقوقهم وجماعتهم وأفرادهم حتى ولو في غير بلادهم؛ كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلادهم لاعتبار أن المسلمين متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، وكذلك الدفاع عن الدين يمنع الطعن فيه أو فتنة من أسلم ليرتد عنه أو منع نشره في البلد بين الناس أو في سبيل المستضعفين والمضطهدين في بلادهم من المسلمين، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥﴾ [النساء: 75]. فالجهاد في سبيل ذلك هو جهاد بالدفاع؛ أي قتال من يقاتلنا أو يمنع نشر ديننا أو يلقي الفتنة بيننا، وهذا هو حقيقة جهاد رسول الله وخلفائه وأصحابه لقوله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢﴾ [البقرة: 190-192]؛ أي إن انتهوا عن قتالكم فانتهوا عن قتالهم، وقال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣﴾ [البقرة: 193]؛ أي إن انتهوا عن فتنتكم فانتهوا عن قتالهم، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا، بل قال: ﴿حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ﴾، فكل هذه الآيات نزلت في المحاربين الذين يقاتلون المسلمين ويفتننونهم في دينهم.
الأمر الثاني قول من يقول: إن الجهاد سببه الكفر فيجب قتال الكفار حتى يسلموا وهذا هو اعتقاد الكاتب، وقد بنى كتابه على تصحيحه واعتقاد العمل بموجبه، كما أنه اعتقاد بعض الفقهاء المتقدمين وأكثر العامة.
وقد استغل هذا القول القسيسون والمبشرون من النصارى وجعلوه عمدة لهم في دعوتهم، واستغلوه في التنفير من الدين واحتقاب العداوة للمسلمين، فكل من قال بهذا القول أو دعا إليه فقد شارك القسيسين في التنفير من الدين.
فلو ظفر النصارى بكتاب الجهاد بين الدفاع والطلب للشيخ صالح لأحلوه محل التقديس والتكريم، ونصبوه في كنائسهم ومدارسهم وعمموا تعليمه لجميع طلابهم وعامتهم؛ لكونه غاية بغيتهم، بحيث إنه يصدق مفترياتهم في إكراه الناس على الدين.
ثم قال الكاتب: (إنني أعجب من كُتاب الفقه الإسلامي الذين قالوا بالدفاع في الجهاد جريًا وراء التقليد بالأعداء الممقوتين، وهم - والله أعلم- يدركون خطأ هذا الرأي البعيد عن الصواب وأدلة الأحكام).
وأقول: سبحان الله ما أغفل هذا الكاتب عن تحقيق معنى الجهاد بالدفاع! فلأجل جهله بحكمته وقع في نفس ما عاب به من الجري وراء الكفار الممقوتين، فكان كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ١١٢﴾ [النساء: 112]. وإن النصارى الآن ينفرون ويكرهون من يقول: إن غزوات الرسول كلها دفاع لكف العدوان عنه وعن الدين الذي جاء به لعلمهم بأنه معذور في دفعه ودفاعه، لكنهم يفرحون بمن يقول: إن غزوات الرسول كلها هجوم يقع منه بطريق الابتداء بدون سبق اعتداء عليه من أحد، فهذا هو غاية ما يبغون، لكن الكاتب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
وإن أكبر شيء حمل الشيخ على التهالك وعدم التمالك فيمن قال بالدفاع هو أنه لم يفقه معنى الدفاع على الحقيقة، حيث حصره في أضيق التعبير، وفسره بأسوأ التفسير، فحمله على القعود والخمول والعجز وعدم الحركة والاستعداد إلى حين هجوم العدو فيقومون بالدفع له: وشبههم بالحيوان الذي يدافع عن نفسه!
ثم قال الكاتب: (لقد قلت هذا بعد أن رأيت عشرين بحثًا كلها تبحث عن مسألة الجهاد بحثًا اختلف الباحثون فيه، فالذين قالوا بالدفاع من المتأخرين من الكتاب والمؤرخين وكتاب السيرة كلهم ليسوا بشيء، كعباس العقاد وعزام وشيت خطاب وعبد الحميد جودة السحار وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل والشرقاوي والحكيم، فكلهم ليسوا بشيء).
ثم ألحق بهم في الذم غيرهم قائلاً: والظن بغيرهم من علماء الفقه والحديث من أمثال يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام، ومحمد ناصر الألباني في كتابه حجاب المرأة المسلمة، والظن بهم العودة إلى الحق واتباع سبيل المؤمنين. انتهى.
فالجواب أن نقول: حنانيك قد أفتيت فاستبق بعضنا فلسنا بالحديد ولا الجبال. ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا يرتفع عن مجال الشك والإشكال بأن الجهاد المشروع في الإسلام هو الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته أو يلقي الفتنة بين أهله، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين الذي تدل عليه نصوص القرآن المبين وسيرة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية: إن من لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، أي فلا يُقاتَل، وما فهمه الكاتب بما قاله في صفة الدفاع فإنه ليس من خُلق أهل الدين، وقد قيل: ما آفة الأخبار إلا رواتها. وقالوا: ويل للشعر من رواة السوء.
وما يشعرني أن لهؤلاء الجماعة الذين مقتهم وعدّهم ليسوا بشيء أنهم أسعد بالحق والصواب منه، وأكبر ما ينقم عليهم فيه هو مخالفتهم لرأيه في مثل هذه المسألة؛ لكونه جعل رأيه بمثابة الميزان الذي يزن به أقوال الناس.
وكلٌّ يَدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكَ
ونحن نسوق اعتقادنا في صفة الجهاد بالدفاع:
إن الله سبحانه أمر نبيه محمدًا ﷺ بإبلاغ هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19].
وذكر العلماء أن من شرط صحة الجهاد بالقتال هو أن تتقدمه الدعوة إلى الله لفتح القلوب بالإيمان قبل فتح البلدان، فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعو أهله إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وسمح لهم بالدخول ونشر دين الله والدعوة إليه والاتصال بمن يرغبون إسلامه وتعليمه، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال ولا إكراه في الدين، والكل آمنون على أهلهم وأموالهم؛ لكون الدين هداية اختيارية لا إكراه فيه ولا إجبار، أما إذا خرج أهل البلد بقواتهم وسلاحهم فنصبوا المدافع ووجهوا أفواه البنادق وسلوا السيوف ومنعوا المسلمين ودعاتهم عن دخول البلد لنشر دين الله، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بمنعهم دخول الإسلام في بلدهم الذي فيه سعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم، لهذا يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة وخوض كل خطر وضرر في سبيل نشر دين الله، فيقاتلون في سبيل الله، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون، وهذا القتال يعتبر دفاعًا لشرهم حتى تزول الفتنة والاضطهاد عن الدين، وقتالهم إنما هو بسبب منعهم لنشر الدين لا لسبب إكراههم على الدين، يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]، وقال: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]، وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢﴾ [الغاشية: 21-22]؛ أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم، ﴿إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ﴾ [الشورى: 48]. وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ١٠٨﴾ [يونس: 108]، وقال: ﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٩٢﴾ [النمل: 92]، وقال: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾ [الشورى: 48].
وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها، فمتى دخل الدعاة أو الفاتحون في البلد بهذه الصفة ونشروا دين الله بدون مانع فقد صارت كلمة الله هي العليا، ودينه الظاهر، والهداية من الله.
وقد فتح الصحابة رضي الله عنهم كثيرًا من البلدان بالقرآن بهذه الصفة وهنا نفس ما فعله رسول الله في فتح مكة، فإن قريشًا لما نقضوا العهد الذي أبرمه رسول الله معهم في صلح الحديبية بهجومهم على خزاعة وقتلهم لهم على حين غفلة منهم وكانت خزاعة قد دخلت في عقد رسول الله وعهده، فانتقض بذلك عهد قريش مع رسول الله، فعزم على غزوهم وقال: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[47] فسار بالصحابة نحوهم عام ثمانية من الهجرة وأعطى راية الأنصار سعد بن عبادة ولما سمعه يرتجز بتمنيه للقتال ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الكعبة. أخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس، وقال للصحابة: «إنه سيلقاكم أوباش قريش فإياكم أن تحصدوهم»[48] كما سيأتي الكلام موضحًا في فتح مكة حيث مَنّ رسول الله على جميع أهلها، يقول الله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٢٤﴾ [الفتح: 24].
والمقصود أن السيف لم يصل إلى كافة الأمم التي اعتنقت الإسلام، وإنما وصل إليها هداية القرآن حيث خرج الصحابة من بلادهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والجهالة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة وعلم وعرفان، وقد أنجز الله لهم ما وعدهم في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗا﴾ [النور: 55] وصدق الله وعده.
* * *
[47] سيرة ابن هشام 2/397. [48] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار في قوله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة: 190]: فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ هو تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن قتالنا لمن لا يقاتلنا أنه عدوان، ويدل عليه قوله بعد هذا: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ [البقرة: 194]، وقوله بعد ذلك: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191].
فأمر الله سبحانه بقتل من وجد من أهل القتال حيث وجد قائمًا أو نائمًا، وقال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ﴾ و «حتى» لانتهاء الغاية، والفتنة هي أن يفتن المسلم عن دينه أو أن يمنع المسلمون عن نشر دينهم، كما كان المشركون يفتنون من أسلم عن دينه ويمنعون المسلمين عن نشر دينهم، وهذا إنما يكون بحالة الاعتداء على المسلمين، فيجب قتالهم حتى لا تكون فتنة، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا.
وأما قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ﴾ فمن قال: إنها منسوخة بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ فقد غلط؛ فإن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها. وأما قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾. فإنما يعني بهم المحاربين الذين يقاتلوننا، فإننا نقاتلهم على أي حال وجدوا قائمين أو نائمين، وهي عامة لكل من يحارب المسلمين في كل زمان ومكان إلى يوم القمامة.
وأما قوله: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾. فذكر ابن الجوزي في الاعتداء أربعة أقوال:
أحدها: أنه قتل النساء والولدان. قاله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلوكم. قاله سعيد بن جبير وأبو العالية وابن زيد.
الثالث: إتيان ما نهوا عنه. قاله الحسن.
الرابع: ابتداؤهم بالقتل في الشهر الحرام.
ومثله قوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾، فقد زعم بعضهم نسخها وهو خطأ أيضًا، وقد قال الجمهور من السلف والخلف: إنها ليست مخصوصة ولا منسوخة بل يقولون: لا نُكره أحدًا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، وإن أسلم عصم دمه وماله، وإن لم يكن من أهل القتال لم نقتله ولم نكرهه على الإسلام، فالذين نقاتلهم لحرابهم متى أدوا الجزية لم يجز قتالهم إذا كانوا أهل كتاب أو مجوس باتفاق العلماء.
وإن كانوا من مشركي الترك والهند ونحوهم، فأكثر العلماء لا يجوزون قتالهم متى أدوا الجزية كأهل الكتاب، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، وهي المنصوصة عنه.
ثم ذكر فتح مكة وأن رسول الله ﷺ مَنّ عليهم ولم يكرههم على الإسلام ولم يسأل أحدًا منهم: هل أسلمت أم لا؟ بل أطلقهم بعد القدرة عليهم، ولهذا سموا الطلقاء، وهم مسلمو الفتح ومنهم صفوان بن أمية ورجال آخرون شهدوا مع رسول الله حنينا وهم على شركهم، ولم يكرههم على الإسلام حتى أسلموا من تلقاء أنفسهم. ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن رسول الله أنه أكره أحدًا على الإسلام لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا. انتهى كلامه.
وقال أيضًا في السياسة الشرعية: إن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، والفتنة أكبر من القتل، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. انتهى كلامه.
وإنني أعجب أشد العجب من العلماء المتمسكين بهذا القول الذي خالفوا به الحق والحقيقة، وخالفوا به نصوص القرآن الكريم، وخالفوا به نصوص مذهبهم وقول الجمهور، كأنهم بذلك يريدون نفع الدين والمسلمين من حيث يضرونهم وهم في الحقيقة لا الدين نصروا ولا الباطل كسروا.
وقد رُفع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله خصومة وقعت بين رجلين أحدهما مسلم والآخر كافر تناظرا في مسألة علمية واشتد نزاعهما فيها، وكأن النصراني لم يجد عند المسلم ما يشفيه ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، فسطا به المسلم ضربًا وقال: هذا جواب مسألتك. عند ذلك قال النصراني: صدق قومنا إذ يقولون: إنما قام الإسلام بالسيف ولم يقم بالكتاب. ثم تفرقا، هذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فعمل العلامة ابن القيم رحمه الله عمله في الحكم بينهما فقال: لقد شمر المجيب عن ساعد العزم، ونهض على ساق الجد والحزم، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف وإخلاد إلى الضعف، ومجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة عليهم وإزاحة للعذر، ﴿لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ﴾ [الأنفال: 42].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه هداية الحيارى ص22: إن أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعًا ورغبة واختيارًا لا إكراهًا ولا اضطرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ رسولاً إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف طبقوا الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها. فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أممًا وسلبهم الملك والعز. وأما النصارى فكانوا أطبقوا الأرض فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والجزيرة وأرض نجران وغيرها من البلاد. وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها، وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم. وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها.
وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يُعرف فيهم البتة. وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧﴾ [الحج: 17].
فلما بعث الله رسوله استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر أهل هذه الأديان طوعًا واختيارًا ولم يكره أحدًا على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لأمر ربه سبحانه حيث يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]. وهذا نفي في معنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول كل من يُجوّز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.
وكل من تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته ولم ينقض عهده، بل أمره الله أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 7]، ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنّ على بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم.
وكذلك لما عاهد قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بالقتال حتى بدؤوا بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم وكانوا يغزونه قبل ذلك، كما قصدوا يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر.
والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقًّا، فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية ثم دخلوا في دين الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، فلم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال ضعف المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفقتهم بالمال والبدن، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته ويخرج عن الدنيا رغبة في الإسلام لا لرئاسة ولا لمال، بل ينخلع من الرئاسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه.
وهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين إلا النادر، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلا الله، فأطبقوا على الإسلام ولم يتخلف منهم إلا النادر وصارت بلادهم بلاد إسلام وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف حيث دخلوا في دين الله أفواجًا، حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد تبين أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم على الكفر أقل القليل. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
إنه بمقتضى التأمل لما سبق من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم يتبين بطريق الوضوح أن سبب الجهاد المشروع هو الدفاع عن الدين لمن أراد كبته وعدم نشره وفتنة من آمن به، وكف أذى المعتدين عن المؤمنين، وأن هذا هو الصحيح بمقتضى آيات القتال، كما أنه قول شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم كما سبق بيانه، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قول الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة.
فقول بعض العلماء: إن الجهاد المشروع هو قتال الكفار حتى يسلموا، قول ضعيف بمقتضى الدليل والبرهان.
وقد صار هذا القول من أكبر مطاعن النصارى على الدين وعلى المسلمين. وقد استغله جماعة القسيسين والمبشرين بحيث يلقنونه الطلاب وينشرونه لدى العامة قائلين: إن الإسلام دين حرب وإكراه، وإنه إنما انتشر بالسيف بحيث يوقفون الرجل ويرفعون السيف فوق رأسه ويقولون له: إما أن تسلم و إلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه. يريدون بهذا تنفير الناس عن الدين واحتقاب العداوة للمؤمنين.
وكنا في حالة ابتدائنا لطلب العلم نعتقد هذا الاعتقاد حتى توسعنا في العلم والمعرفة بتفسير القرآن وحقيقة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته ومعاملاته للكفار المحاربين منهم والمسالمين.
فعند ذلك تبدل رأينا وتحققنا بأن القتال في الإسلام إنما شرع لدفع العدوان عن الدين وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.
إن الكاتب - رحمه الله - أشار في كتابه بأنه نظر في عشرين بحثًا من عشرين كتابًا فلم يجد فيها ما يشفيه، وعرف من غضونها أن الدين فقد ما يجب أن لا يفقده. فلو نظر في كتابنا الجهاد المشروع في الإسلام بفكر حاضر وقلب واع لوجد فيه ما يشفيه.
إن من شرط الانتفاع بالبحوث النافعة كونه يتلقاها بصدر رحب وعدم نفرة وكراهية لها، أما إذا نظر إليها بكراهية ونفرة فإنه لا يكاد يراها ولا يسمعها، كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانُواْ يَسۡتَطِيعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ يُبۡصِرُونَ ٢٠﴾ [هود: 20]، لكون الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء لم يكد يراه ولا يسمعه وتشتد نفرته منه.
وإن من طبيعة أكثر البشر كون أحدهم إذا جهل شيئا عابه، وبادر بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئا فكم من لائم ملوم.
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
والله سبحانه قد ضمن للحق البقاء، ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ [الرعد: 17].
وأهلاً وسهلاً بمن يرد الباطل في وجه قائله، فإن الباطل لا حرمة له ولا كرامة، فمتى اتّضح الباطل الذي لا محمل له من الحق ولا خلاف في بطلانه فإن رده واجب.
أما المسألة الخلافية كهذه وأمثالها مما يجعل بعض الناس رأيه ميزانًا لها يزن به أقوال الناس، ثم يتحامل بطريق التهالك وعدم التمالك على من خالف رأيه فيها ويحكم ببطلان قوله وعمله واعتقاده، فلا شك أن هذا حكم عائل وليس بعادل، وطريقة سقيمة وليست بسليمة، ولعل المخالفين له أسعد بالصواب منه.
* * *
إن الله سبحانه حكم عدل، يعطي كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص ولا يظلم ربك أحدًا، والاختلاف بين الناس واقع ما له من دافع، فمنهم المسلم ومنهم الكافر ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢﴾ [التغابن: 2]. ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨﴾ [هود: 118].
وقد فصل القرآن الكريم الحكم بين الفريقين؛ فأمر بقتال المحاربين حيث وجدوا، سواء كانوا قائمين أو نائمين، بطريق الهجوم أو الدفاع. كما أمر بأن يعامل المسالمون بما يستحقون من العطف والبر والصلة والإحسان، وأن الله سبحانه يبيح ذلك ولا ينهى عنه، يقول الله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨﴾ [الممتحنة: 8]، فأمر سبحانه ببر المسالمين، والبر هو من أجمع أفعال الخير وضده الفجور، وهو التوسع في أعمال الشرور، ويقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤﴾ [الإنفطار: 13-14].
وقد سأل الصحابة عن الصدقة على أقاربهم من المشركين، فأنزل الله سبحانه: ﴿ ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272]، فأمروا بالصدقة عليهم جزاء على مسالمتهم للمسلمين وعدم تعرضهم لقتالهم أو الطعن في دينهم. نظيره قوله سبحانه: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ [النساء: 90]، وهذه الآية هي من سورة النساء وهي مدنية، كما أن الآية الأولى من سورة الممتحنة وإنما نزلت عام حجة الوداع، فلا نسخ في كلتيهما ولا تخصيص ولا تقييد، بل الحكم بمدلولهما ثابت معمول به إلى يوم القيامة.
ثم قال في شأن المحاربين: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة:9]، فهذه من سورة الممتحنة التي نزلت يوم فتح مكة بسبب الكتاب الذي كتبه حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بمسير رسول الله ﷺ إليهم، وصفة الكتاب على ما ذكره يحيى بن سلام في تفسيره: أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب لقريش: أما بعد؛ يا معشر قريش، إن رسول الله قد جاءكم بجيش كالسيل يختبئ بالنهار ويسير بالليل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام.
فنزل الوحي بخبر الكتاب بما يتضمن معاداتهم وعدم موالاتهم لاعتبار أنهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين، نظيره قوله سبحانه: ﴿فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ﴾ [النساء: 91]؛ أي حيث وجدتموهم، ﴿وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١﴾؛ أي حجة بينة تبيح قتلهم وقتالهم، وضدهم المسالمون حيث قال في حقهم: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠﴾ يعني إلى قتالهم. فالآيات المطلقة التي تأمر بقتال الكفار تحمل على هذه الآيات المقيدة لجواز حمل المطلق على المقيد؛ لكون الكافر المسالم ما مضرة كفره إلا على نفسه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته السياسة الشرعية: إن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة: 190]، وذلك أن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191]؛ أي إن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار للمسلمين من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، يعني فلا يقاتل. انتهى.
أما الكافر المحارب فإن مضرة كفره تتعدى إلى الناس في دينهم وأبدانهم، فهذا حكم العدل من الله بين عباده، ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون.
يؤيده أن أكثر أهل الأرض كفار كما قال سبحانه: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ»، وهذا يؤيد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم من أن الإسلام يسالم من يسالمه، وما ورد في القرآن من الشدة والغلظة على الكفار وكون المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم فهذه وأمثالها محمولة على حالة قتال المؤمنين للمحاربين، كقوله سبحانه: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧﴾ [الأنفال: 57]، وقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَا﴾ [محمد: 4]، فأمر الله عباده المؤمنين متى لقوا أعداءهم المحاربين بأن يضربوهم الضربة القاسية التي تثخنهم وتكون عبرة لأمثالهم، ولكل مقام مقال. والنبي ﷺ كان يعامل الكفار المقدور عليهم غير معاملته للمحاربين منهم.
فقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256] وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس:99] وقوله: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾ [الشورى: 48] دليل على صحة ما ذكرناه.
إن دين الإسلام قام واستقام على الكتاب الهادي والسيف الناصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
إن الأمة الإسلامية مكلفة من قبل الله بنشر هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، وإزالة ما غشيهم من الظلم والاضطهاد والفتنة فيه وإزالة معابد الشرك، والدعوة إلى الله بالحجة والبيان والسنة والقرآن، وإن تعذر فبالسيف والسنان.
فوظيفة الكتاب أي القرآن هو إبلاغ الناس بما أنزل إليهم من ربهم ودعوتهم إلى دين الله الذي فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالهم بالتي هي أحسن.
وهذا هو حقيقة ما رسمه القرآن لأهله في أدب البحث والمناظرة مع المخالفين لهم في الدين، ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨﴾ [يوسف: 108]، وقال سبحانه: ﴿۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ﴾ [العنكبوت: 46]. قال مجاهد: الذين ظلموا منهم هم من قاتل المسلمين ولم يعطهم الجزية. وفي رواية عنه قال: الذين ظلموا منهم أهل الحرب ممن لا عهد لهم، فالمجادلة لهم تكون بالسيف. وفي رواية عنه قال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم ولم يعط الجزية.
فوظيفة السيف هي كف العدوان عن الدين وعن المؤمنين، إذ لابد للدين ونشره والدعوة إليه من قوة تؤيده وتحميه وتعين على تنفيذه. وعن أنس أن النبي ﷺ قال «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ» رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم.
وقد شرط العلماء في الجهاد المشروع أن تتقدمه الدعوة في حق من لم تبلغه على الوجه المطلوب بخلاف المحاربين المعاندين، فإن جدالهم بالجلاد حتى يذعنوا لتعاليم الإسلام وهو آخر ما يعامل به الكفار المعاندون على حد ما قيل:
فيا أيها النّوام عن رَيِّق الهدى
وقد جادكم من ديمة بعد وابلِ
هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنموا
وإن تغفلوا فالسيف ليس بغافلِ
وما هو إلا الوحي أو حدُّ مرهفٍ
تميل ظباه أخدَعَيْ كلِّ مائلِ
فهذا دواء الداء من كل عالمٍ
وهذا دواء الداء من كلِّ جاهل
ومتى أوجبت الحاجة والمصلحة الجهاد بالقتال فإنه يجب قبله إعداد القوة المماثلة أو المقاربة لقوة العدو مع الإيمان بالله عز وجل، يقول الله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡ﴾ [الأنفال: 60].
فنص بالذكر على الخيل لأنها مراكب المقاتلين الشجعان في ذلك الزمان، ولكل زمان قوة تناسبه، فإنما يُرمَى الجندل بالجندل والحديد بالحديد.
وفسر النبي ﷺ القوة فقال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[49]، لكنه لم يفسر المرمي به، وليست القوة مقصورة عليه، وقد حارب النبي ﷺ بالمنجنيق ونصب الدبابة على أهل الطائف.
ومفهوم الآية أن الله سبحانه أمر المسلمين بأن يستعدوا لأعدائهم بما يستطيعونه من القوة. ولفظ القوة، عام يشمل كل ما يتقوون به على حرب عدوهم، ويشمل كل ما هو آلة للحرب من أسلحة البر والبحر والجو على اختلاف أنواعها وأشكالها بحسب الأزمنة والأمكنة.
والوسائل لها أحكام المقاصد وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لهذا يجب تعلم ما يفيد المسلمين في إصلاح حالهم في حالة حربهم لعدوهم من إنشاء معاهد لتعليم الجنود وتدريبهم فنون القتال واستعمال آلات الحرب، حسبما يستجده الزمان من الصنائع، إذ هذا من أسباب القوة التي يُتقى بها وقوع البلاء.
قالت الخنساء في الحجاج الثقفي:
إذا سمع الحجاج رزء كتيبة
أعد لها قبل القدوم قِراها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
تتبَّع أقصى دائها فشفاها
إنه متى تعذر سبيل الجهاد بالقتال فإنه يجب الجهاد بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد فتح الله للمسلمين كثيرًا من البلدان بالدعوة إلى الله بدون قتال، كبلدان اليمن على كثرتها وتعدد مدنها، فإن المسلمين فتحوها بمجرد الدعوة، وأرسل النبي ﷺ إليها معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، ومثلها بلدان البحرين فقد فتحت بدون قتال، وأرسل النبي ﷺ إليها أبا العلاء بن الحضرمي ثم أرسل إليها أبا عبيدة بن الجراح، ومثلها بلدان عمان فقد فتحها الإسلام بدون قتال، فكل هذه البلدان دخل فيها الإسلام زمن النبي ﷺ بمجرد الدعوة والإبلاغ بدون قتال، ثم سارت الفتوح على نحو ذلك ففتح العلم والبيان والسنة والقرآن من البلدان ما لم يصل إليها السيف والسنان.
وقد دخل المهاجرون والأنصار في الإسلام بمجرد الدعوة بدون قتال لكون الجهاد هو بذل الجهد والطاقة في الدعوة إلى الله بإعلاء كلمته ونشر دينه، وهو قولي وفعلي، يكون باللسان والحجة والقرآن ويكون بالقوة والسنان.
وأكثر الأنبياء لم يفرض عليهم القتال، ولكل قوم حالة تناسب دعوتهم بالقوة أو بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان النبي ﷺ في حالة عجزه وعدم قدرته على المقاومة من أجل قلة عدد قومه وضعفهم مأمورًا بكف اليد عن القتال، وأن يجاهد الكفار بالقرآن فيدعوهم ويعظهم، كما قال سبحانه: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢﴾ [الفرقان: 51-52].
وكما قال سبحانه: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣﴾ [النساء: 63].
وكان النبي ﷺ ينصب لحسان منبرًا ويقول: «اهْجُهُمْ يَا حَسَّانُ، فَإِنَّ شِعْرَكَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ»[50].
فمتى كان هجو المشركين بالشعر مشروعًا كما سبق، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام وإبطال حجج الكفار والمشركين وأهل الكتاب؟ فجهاد الكفار باللسان والحجة والبيان ما زال مشروعًا من أول الأمر إلى آخره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح: إنه من المعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره بالسيف والسنان، فإن النبي ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعًا واختيارًا بغير سيف؛ لما بان لهم من الآيات والبينات والبراهين والمعجزات من أن دينه الحق. انتهى.
ثم قال الكاتب رحمه الله: (إن حروب الرسول ﷺ كان هو البادئ فيها بالقتال لنشر هذا الدين، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنه لم يسبق منهم ذلك إلا في نادر الأحوال) انتهى.
فالجواب أن هذا الخطاب وقع منه على سبيل الخطأ حيث صده الهوى عن رؤية الهدى ويغفر الله له. يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ﴾ - أي: لأجل إيمانكم بربكم - إلى قوله: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 1-2].
فبسط اليد بالسوء هو ضربهم وشجاجهم وجروحهم وأنواع الأذى منهم للصحابة وبسط ألسنتهم هو بالشتم واللعن والسخرية وغير ذلك من أنواع الأذية.
وحسبك أن الصحابة رجالهم ونساؤهم فارقوا وطنهم العزيز عليهم إلى الحبشة فرارًا بدينهم وأبدانهم عن التعذيب والافتتان، فالمشركون هم المحاربون لله ورسوله، يقول الله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠﴾ [البقرة:190]، فأمر سبحانه عباده المؤمنين بأن يقاتلوا كل من تصدى لقتالهم حتى لو تصدت المرأة لقتال المسلمين لاستحقت أن تقتل وتقاتل كالرجال، ثم قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ﴾، وفسر الاعتداء بقتل النساء والصبيان والرهبان والعميان، وفسر بإحراق الشجر وقتل الحيوان، وفسره بعضهم بقتال من لا يقاتل المسلمين.
ثم قال: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢﴾ [البقرة: 191-192]، وقال: ﴿وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ﴾ [التوبة: 36] ولم يقل: قاتلوا المشركين حتى يسلموا، بل قال: ﴿كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ﴾ وهذا فيه المقاضاة بالمثل، وهو أن المسلمين يقاتلون كل من تصدى لقتالهم فيقتلون بطريق الطلب أي الهجوم أو الدفاع سواء وجدوا قائمين أو نائمين، يقول الله: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾ [البقرة: 194] ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ﴾ [البقرة: 217]، وهذا هو غاية ما يبتغي المشركون من الرسول وأصحابه.
ثم قال سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]، فأثبت سبحانه بدء المشركين بالقتال للنبي ﷺ وأصحابه.
نظيره قوله سبحانه: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡ﴾ [التوبة: 13-15]، وهذه شهادة من الله سبحانه في حقيقة بداءتهم بالاعتداء والقتال لرسول الله ﷺ وأصحابه، وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم.
فأثبت سبحانه في هذه الآيات بدء المشركين بالقتال للنبي ﷺ وأصحابه وأنهم لم يألوا جهدًا في الأذى والاعتداء وتعذيب كل من آمن بالله ورسوله، والمؤمنون متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، يجب أن يدافعوا عن أفرادهم كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلادهم.
فدعوى الكاتب بأن الرسول الكريم هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين، فإن هذا يعد من الخطأ المبين. وقد استباح الكاتب القول به لنصرة رأيه وإعلاء كلمته ليثبت بذلك ما ذهب إليه من أن الجهاد الشرعي هو قتال الكفار حتى يسلموا لا فرق في ذلك بين الكفار المسالمين والكفار المحاربين، وهذا القول وهذا الاعتقاد هو أكبر ما يشنع به النصارى على المسلمين، بحيث إن المبشرين والقسيسين يلقنون الطلاب هذا القول ويقولون: إن المسلمين يوقفون الرجل على حرف السيف ويقولون له: إما أن تسلم و إلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه.
ونقول: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الإسلام هداية اختيارية لا إكراه فيها ولا إجبار، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، يقول الله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99].
وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص ولا تقييد، وقد خرج رسول الله ﷺ من مكة التي هي أحب البقاع إليه خائفًا مختفيًا حين تمالؤوا على قتله بصورة يضيع بها دمه، وذلك بأن يعطوا كل رجل سيفًا فيضربونه جميعًا بسيوفهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأذن له بالهجرة، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30]، وكان يقول: «وَاللَّهِ إِنَّكِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ لَمَا خَرَجْتُ»[51].
يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ﴾ [الممتحنة: 1]؛ أي من أجل إيمانكم بربكم. ومثله قوله: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨﴾ [الحشر: 8]. فأثبت سبحانه شدة عداوتهم للمسلمين حيث أخرجوهم من بلادهم وأموالهم، وأنه يجب جهادهم أينما ثقفوا وتحرم موالاتهم ببرهم.
بخلاف من لم يقاتل المسلمين ولا يكون مع قوم يقاتلونهم، فإنه يباح برهم والإحسان إليهم لقول الله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة: 8-9]، وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص ولا تقييد، وهي إنما نزلت عام الفتح.
* * *
[49] أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر. [50] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [51] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس.
تفسير حديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ».
إن أكبر ما يشكل على الناس في هذه المسألة هو قوله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
وقد يسبق فهم بعض الناس إلى أن هؤلاء الناس الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم حتى يقيموا هذه الأركان هم جميع الناس وهو ليس بصحيح، فإنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه قاتل جميع الناس على إقامة هذه الأركان.
فإن الناس في هذا الحديث اسم جنس لا يراد به كل فرد ولا عموم الناس، نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ [آل عمران: 173] فهؤلاء الناس القائلون: إن الناس قد جمعوا لكم، هم فرد أو أفراد من الناس، كما أن الناس الذي أجمعوا على الرجوع إلى الرسول وأصحابه هم أبو سفيان ومن معه، وهم أفراد من الناس وليسوا كل الناس، فيمتنع أن يكون الرسول مأمورًا بقتال جميع الناس حتى يقروا بالشهادتين ويقيموا الصلوات الخمس ويؤتوا الزكاة.
وإنما أراد بالناس مشركي العرب الذين لا يقرون في الجزيرة إلا بالإسلام، لكون الجزيرة لا يقر فيها إلا مسلم كما في صحيح البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا».
وروى الإمام أحمد وأبو عبيد عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله أنه قال: «أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
وجزيرة العرب هي الحجاز ونجد بلا خلاف. وفي غيرها الخلاف المشهور، وقال في فتح الباري: الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها.
وقد دل القرآن على مفهوم ما دل عليه هذا الحديث فقال سبحانه: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥﴾ [التوبة: 5].
فالمشركون هنا هم مشركو العرب الذين كانوا حربًا لرسول الله ﷺ ولأصحابه؛ لأن ولاءهم ومحبتهم ونصرتهم لقريش على حرب الرسول وأصحابه، وقد شاركوا قريشًا في الهجوم على خزاعة وهي داخلة في عقد الرسول وعهده، ثم شاركوهم يوم الأحزاب أي يوم الخندق، وشاركوا هوازن يوم حنين.
ولأن أكثر الناس من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس لا يطالبون بالتزام هذه الأركان وإنما يكتفى منهم بالجزية في سبيل حمايتهم، فهؤلاء الناس المذكورون في الحديث هم مشركو العرب في الجزيرة، وقد أنزل الله فيهم صدر سورة براءة وفيها: ﴿وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥ﴾ [التوبة: 3]، ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡ﴾ [التوبة: 4]، ثم قال في حنقهم وما يحتقبونه من العداوة لرسول الله وأصحابه: ﴿كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨﴾ [التوبة: 8] إلى قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ﴾ [التوبة: 11]، ثم قال: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣﴾ [التوبة: 12-13]، فذكر سبحانه في هذه الآيات صريح الاعتداء بطريق الابتداء من المشركين على المؤمنين وكونهم لا يرقبون في المؤمنين إلاَّ ولا ذمة؛ أي لا عهدًا ولا قرابة، وكونهم بدؤوا المؤمنين بالقتال، وأنهم متى طعنوا في الدين فإنهم يكونون مستوجبين للقتال بطريق ابتدائهم بالاعتداء، وبطريق طعنهم في الدين الواجب على المسلمين حماية أنفسهم وحماية دين الله الذي يقاتلون في سبيله حتى لا يتعرض له أحد بالطعن فيه وحتى لا يفتن من آمن به، يقول الله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣﴾ [البقرة: 193]، وقال في سورة البقرة: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 217]؛ أي إن فتنة المشركين للمؤمنين في دينهم هو أضر وأعظم وأكبر عند الله من قتل المؤمنين لهم لكون الفتنة أكبر من القتل، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ﴾ [البقرة:217] فهذا هو غاية ما يبتغون.
فجهاد المؤمنين لهم هو جهاد دفاع لشرهم؛ لأن شريعة الدين مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول.
ثم احتج الكاتب بما رواه مسلم عن بريدة أن النبي ﷺ كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْكُفَّارِ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيةَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ».
ففي هذا الحديث بيان مراتب الدعوة إلى الله وأنها تكون بالأسهل فالأسهل لقول الله سبحانه: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125]، فبدأ في هذا الحديث بدعوتهم إلى دين الإسلام فإن هم أبوا دعاهم إلى النقلة إلى دار المهاجرين ليختلطوا بالمسلمين ويسمعوا القرآن ويرون كيفية الصلاة والمصلين مع بقائهم على كفرهم؛ لأن هذا أعون على هدايتهم وإسلامهم ولم يقل: إن هم أبوا الإسلام فقاتلهم. ثم ادعهم إلى أن يكونوا كأعراب المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية.
* * *
قال الكاتب: (إن الآيات القرآنية الواردة في القتال لا يجوز صرفها إلى غير المعنى المراد منها، ولا إخضاعها تبعًا لما يعتقده الإنسان في نفسه ولا لتطور الأزمنة وتغير الأحوال عند الأمم).
فالجواب: إن هذا الكلام حسن صحيح نؤمن به ونعتقده، ونرجو أن نسير على منهجه.
لكن الكاتب قد استباح مخالفته بحالة غير خافية على أحد، حيث حاول صرف الآيات الظاهرة إلى غير المعنى المراد منها في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته.
من ذلك أنه استدل بقوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة:256] فنقل عن ابن كثير أضعف ما ذكره في التفسير قائلاً: قد ذهبت طائفة كثيرة من العلماء إلى أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: هي منسوخة بآية السيف.
فالجواب أن نقول: سبحان الله ما أسرع ما نسي هذا الكاتب! فأين ما قاله من أنه لا نسخ في القرآن ولا تخصيص ولا تقييد، وأنه يجب حمل الآيات على المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن؟ وكيف عدل عن أقوال العلماء التي ساقها ابن كثير في تفسير هذه الآية وبيان سببها؟ وكيف استباح الطعن في هذه الآية المحكمة بدعوى نسخها لعلة اعتراضها في طريقه فحاول عزلها عن الاحتجاج بها حتى يتم له صحة ما يدعيه من وجوب الإكراه على الدين خلاف ما حكم الله به في كتابه المبين؟ وكيف نقل عن ابن كثير أضعف ما ذكره في التفسير؟ وكان من واجب العدل والإنصاف أن يذكر كلام ابن كثير كله أو يتركه كله، لكنه استباح الإعراض عن القول الصحيح في الآية ليثبت بذلك صحة ما يدعيه، وهذا غاية في تعصبه لرأيه وعدم إنصافه وعدله.
وإن مما نستدرك على بعض المشايخ الكرام أو بعض الإخوان كون أحدهم إذا ذُكِر عنده كتاب أو كلام صادر من بعض العلماء المتأخرين فنراه يرميه بما ينقصه من الزراية وعدم الدراية، ويقول: هذا ليس بشيء. من أجل مخالفته لرأيه، وربما استطال بعضهم إلى كتب العلماء المتقدمين المشهورين فوسمها بالبطلان بدعوى نسبتها إلى غير مؤلفيها ليثبت في قلوب العوام وضعفه العلوم والإفهام عدم الثقة بها كي يعزلها عن موضوع الاحتجاج بها من أجل مخالفتها لرأيه واعتقاده، فدع عنا ذكر فلان أو كتاب فلان ولنرجع الآن إلى محكم القرآن حيث طرق الكاتب تفسير قوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ وهي آية محكمة وتفسيرها يُعرف من تلاوتها؛ إذ هي من التفسير الذي لا يعذر أحد بجهله، ولنذكر الآن سببها الذي هو عين تفسيرها.
فقد روى أبو داود في سننه والنسائي وابن حبان في صحيحه وابن جرير عن ابن عباس في تفسير الآية قال: كانت المرأة من الأنصار مقلاة؛ أي لا يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أُجْليت بنو النضير كان فيهم من أولاد الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾.
وأخرج ابن جرير عن طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال: نزلت ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلمًا، فقال للنبي ﷺ: ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية، وفي بعض التفاسير أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟
ولابن جرير عدة روايات في نذر النساء في الجاهلية، وتهويد أولادهن ليعيشوا، وأن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام، فنزلت الآية، فكانت فصل ما بينهم، وفي رواية له عن سعيد ابن جبير أن النبي ﷺ قال عندما نزلت: «قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ». لأن هؤلاء الأولاد قد تربوا في صغرهم منذ نشأتهم عند اليهود فاعتنقوا دينهم واختاروا عقيدتهم على الإسلام، فصاروا منهم وانفصلوا عن نسب آبائهم لكون دين الإسلام متعلقًا بنفس الشخص لا بنسبه، ولهذا تنقطع الموالاة والنسب والإرث بين الكافر وبين أبيه المسلم، فلا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، وليس هذا كالمرتد فإن المرتد، هو الذي يكفر بعد إسلامه، وقد دخل أناس من العرب في النصرانية فصاروا نصارى كبني تغلب مثلاً، كما دخل أناس في اليهودية فصاروا يهودًا.
ثم استدل الكاتب بقول الشوكاني في تفسير هذه الآية وأنها على أقوال:
الأول: أنها منسوخة لأن الرسول قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ﴾ [التوبة: 73].
ونقول: إن الشيخ الشوكاني هو كسائر العلماء الذين يؤخذ من أقوالهم ويترك، فإن قوله بنسخ هذه الآية لا صحة له، بل هي محكمة غير منسوخة عند جمهور العلماء وسببها معروف، كما ذكرنا من رواية المحدثين، كأبي داود والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس كلهم يقولون: إنها محكمة غير منسوخة، كما أن استدلال الشوكاني بالآية الناسخة لها غير صحيح وهي قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ﴾، فإن الجهاد يشمل الدعوة بالقرآن والسيف والسنان، وحمل هذه الآية على الجهاد بالدعوة والقرآن أولى من حملها على السيف والسنان.
فإن رسول الله لم يقاتل المنافقين، ولما استُئذِن في قتل رجل منهم قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[52]، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢﴾ [الفرقان: 51-52]؛ أي جاهدهم بالقرآن.
ومثله استدلال الشوكاني بأن رسول الله ﷺ قد أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، وهذا الاستدلال باطل أيضًا؛ فإن العرب لا يزالون يقاتلون رسول الله ﷺ لكون ولائهم ونصرتهم مع قريش على حربه، فهم الأعداء المحاربون للرسول وأصحابه.
* * *
[52] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.
إن القتال في سبيل الله مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، يقول الله سبحانه: ﴿۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٤﴾ [النساء: 74]، وقال: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٧٦﴾ [النساء: 76]، وقال: ﴿فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [النساء: 84]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٢٣﴾ [التوبة: 123].
وفي البخاري و مسلم عن أبي موسى قال: سُئل النبي ﷺ فقيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ».
فلسنا نقول بإنكار هذا القتال المشروع في الإسلام، وإنما نقول به في الأمر المقصود منه، ويتمحض في أمور: أحدها: قتال المحاربين للمسلمين الموصوفين بقوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 190-191]، وقال: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2].
فهؤلاء يقاتلون حيث وجدوا قائمين أو نائمين بطريق الهجوم أو الطلب دفعًا لشرهم حتى يكفوا عن عدوانهم وفتنتهم، كجهاد اليهود في هذا الزمان فهم محاربون للإسلام والمسلمين.
الثاني: قتال من يمنع دخول الإسلام ودعاته إلى بلده بحيث يغلق أبواب البلد دونهم، ويبادر بالقتال لصدهم وصد ما يدعون إليه، أو يفتن من أسلم لمحاولة ردته عن دينه، فيعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين لحيلولتهم بمنعهم عن استماع الحق واتباعه الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم.
الثالث: قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، والجزية هي قدر يسير شرعت في مقابلة حمايتهم، فمتى عجز المسلمون عن حمايتهم سقطت جزيتهم، كما ردّ الصحابة على أهل الكتاب جزيتهم حين أحسوا بعجزهم عن حمايتهم يوم اليرموك، فهؤلاء هم المستوجبون للقتال.
وحكم القتال في سبيل الله باق إلى يوم القيامة وإن لم نسمع به إلا في الحروب الصليبية التي قام بالجهاد فيها صلاح الدين الأيوبي في القرن السابع، وحين غزا التتار بلدان الشام والعراق، ومن بعد ذلك ظهور الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث نشأ في القرن الثاني عشر وكان مولده عام ألف ومائة وخمس عشرة، وكانت نجد في ذلك الزمان مملوءة بالشرك وعبادة الأوثان، لكل قوم صنم يعبدونه.
فجاهد الناس بالحجة والبيان والسنة والقرآن، فأنشأ الكتب الإسلامية التي تدعو إلى عبادة الله وحده وتنهى عن عبادة ما سواه مثل كتاب التوحيد الذي هو حق الله تعالى على العبيد، و كشف الشبهات، و ثلاثة الأصول، وكتاب فضل الإسلام، وكتاب أصول الإيمان، وغير ذلك من الكتب العديدة والرسائل المفيدة التي عم الانتفاع بها الناس وانتفع بها العام والخاص، وصارت كتبه بمثابة القواعد في الأصول والعقائد.
فهو المجاهد الأكبر في زمانه وفي الأزمنة من بعده، فهو يجاهد الناس بالعلم والبيان، كما أن الإمام محمد بن سعود وابنه عبد العزيز بن محمد آل سعود رحمهما الله قد تصدوا لجهاد الشرك والمشركين بالسيف والسنان حتى طهر الله نجدًا بآثار سعيهم وجهادهم من الشرك وعبادة الأوثان، وجمع شملهم ووحدهم على التوحيد وعبادة الله وحده، وصار كل متمسك بالعقيدة الدينية السلفية يلقب بالوهابي كما قيل:
إن كان تابعُ أحمدٍ متوهبًا
فأنا المقرُّ بأنني وهابي
ثم وقع في هذا الزمان قتال المسلمين مع اليهود المحاربين وهو من الجهاد في سبيل الله لمن أخلص نيته وعمله..
ثم إن المطالبة بقتال من يستحق القتال تتمشى على حسب القدرة والاستطاعة فلا يجوز الدخول إلا على حسب رجحان القدرة عليه بالقوة المماثلة أو المقاربة لقوة العدو؛ لكون إثارة الحرب مع عدم القدرة عليها يترتب عليها أضرار كثيرة كبيرة فيما يتعلق بالدنيا والدين، أقلها الإذلال والإهانة؛ إذ الجهاد بالقتال هو من الضروريات التي شرعت لجلب المصالح ودفع المضار وهو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يتمشى على حسب القدرة بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
وحقيقة الجهاد هو دعوة إلى الخير ونهي عن الشر، والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين: إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»[53].
وقال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا عَنْ طَاعَتِهِ»[54]. ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر قد طلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأشد منه حرم إنكاره.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
* * *
[53] أخرجه مسلم من حديث مالك بن عوف. [54] متفق عليه من حديث ابن عباس بنحوه.
إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ على حين فترة من الرسل وقد استحكمت في الناس الضلالة وخيمت عليهم الجهالة، وسادت بينهم عبادة الأصنام والأوثان والقبور، فأنقذهم الله ببعثته وبركة رسالته، فجاهد في الله حق جهاده، فجاء بدين كامل، وشرع شامل، يهذب أخلاقهم، ويطهر عقائدهم، ويزيل كفرهم وشقاقهم، ويهديهم للتي هي أقوم، وابتدأ نزول الوحي عليه وهو ابن أربعين سنة من عمره، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو بين القبائل في المواسم ويقول: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي؟»[55]. فيلقى من قومه أشد الأذى، ويعذبون كل من آمن به، غير أن أبناء قبيلته وخاصة عمه أبا طالب يحمونه ويذبون عنه العدوان، وقد دخلوا معه في الشعب حين تمالأت قريش على مقاطعتهم حتى يسلموا لهم محمدًا، وكتبوا بذلك صحيفة القطيعة والمقاطعة، وعلقوها على الكعبة، وفيها يقول أبو طالب في قصيدته الشهيرة:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
عقوبة شر عاجلاً غير آجلِ
وقد أخبره ورقة بن نوفل بمقتضى فراسته بأنه سيؤذى ويمتحن ويخرج من بلده، فقال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟». قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم يلبث أن توفى؛ أي ورقة.
ثم توفيت خديجة وكانت تنفق على رسول الله من مالها، ثم تبعها أبو طالب شيخ قريش وسيدهم، وكان يحب رسول الله أشد الحب، يحميه وينصره، وكانت قريش تتحاشى من أذى الرسول خشية أن يغضب أبو طالب فيسلم.
ولما توفي أبو طالب اشتد الأذى برسول الله ﷺ وبمن آمن به وخاصة المستضعفين من أصحابه، كبلال وصهيب وسمية، فأمر رسول الله أصحابه بأن يهاجروا إلى الحبشة، وقال: «إِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ»[56].
فهاجر إلى الحبشة جماعة من الصحابة، رجالاً ونساء؛ فرارًا بدينهم من الفتنة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، ومنهم الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب، فخرجوا من مكة يمشون على أرجلهم حتى وصلوا إلى سِيف البحر، فاستأجروا سفينة وركبوا فيها حتى انتهوا إلى الحبشة، وهذه هي الهجرة الأولى، فآواهم النجاشي وأكرمهم، وقال لهم: أنتم سيوم بأرضي، اذهبوا حيث شئتم من رامكم بسوء غرم. ثم تتابعوا إلى الهجرة، وكان عددهم يزيد على الثمانين بين رجل وامرأة.
وكان المسلمون في ابتداء الإسلام مأمورين بالصلاة والعفو والصفح والصبر على أذى المشركين، وكانوا يحبون أن يُؤمروا بالقتال لينتصروا، وأتى عبد الرحمن ابن عوف وأصحاب له إلى النبي ﷺ وهو بمكة فقالوا: يا رسول الله، كنا أعزاء ونحن مشركون فلما أسلمنا صرنا أذلة. فقال رسول الله: «إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ»[57]. فلما أمروا بالقتال كرهه بعضهم وودوا لو تأخر فرضه عنهم، وأنزل الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧ أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ﴾ [النساء: 77-78].
فلما اشتد الأذى برسول الله وعظم البلاء كما قال: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ»[58]. خرج إلى الطائف يطلب من ثقيف النصرة والتأييد والحماية، فلم يجد عندهم قبولاً، وأرسلوا عليه سفهاءهم، فكانوا يرمونه بالحجارة ويقولون: ساحر كذاب، وزيد بن حارثة يقيه ببدنه من وقوع الحجارة به حتى أدموا عقبه، فرجع عنهم حزينًا كئيبًا حتى أتى وادي نخلة، وهي موضع ميقات أهل نجد فتوضأ وصلى ودعا بدعائه المشهور: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع من ذنوبي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تُنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»[59].
ثم إن رسول الله أراد دخول مكة بعد رجوعه من الطائف فمنعته قريش من الدخول، فأرسل إلى المطعم بن عدي وقال: «إن قريشًا منعتني من دخول بلدي وإني أريد أن أدخل في جوارك»[60]، فلبى دعوته وأمر بنيه وإخوته أن يلبسوا سلاحهم، فخرج إلى المكان الذي وعده فيه فدخل مكة فطاف بالبيت وهم محدقون به، ولهذا كان رسول الله يقول في قتلى بدر: «وَاللهِ لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، فَسَأَلَنِي هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»[61].
فلما استجاب الأنصار لدعوته، والتزموا حمايته بأن يمنعوه ويمنعوا كل من هاجر إليهم من أصحابه مما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، وتواثقوا معه على ذلك ليلة العقبة، فعند ذلك أمر رسول الله ﷺ كل من أسلم بأن يهاجر إلى المدينة، فكانوا يخرجون أرسالاً ويهاجرون على سبيل الاختفاء من قريش، وكانت قريش تصادر أموال كل من هاجر منهم، وأنزل الله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]، وهذه هي أول آية نزلت في الإذن بالقتال.
ولما علمت قريش بأن أصحاب الرسول قد كثروا وأنهم سيمنعونه أعملت حيلها وآراءها في الإيقاع به، ثم اتفقوا على أن يختاروا من كل قبيلة رجلاً فيضربونه جميعًا بسيوفهم في وقت واحد حتى يضيع دمه من بينهم، فأطلع الله نبيه على كيدهم ومكرهم وأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30].
وعلى أثر هذه الممالأة على قتله حصل لرسول الله ﷺ في تلك الليلة شيء من الخوف من هجومهم عليه، إذ سمع حركة سلاح فاطلع فقال: «مَنْ هَذَا؟». فقال: أنا ربيعة بن كعب الأسلمي أحرسك يا رسول الله لتنام. فقال له: «سَلْ». فقال: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟». فقال: هو ذاك. قال: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رواه مسلم.
ثم إن الله سبحانه أمر رسول الله ﷺ بالهجرة[62] في شهر ربيع الأول على القول الصحيح، وكان رسول الله لا يخطئه يوم إلا ويأتي بيت أبي بكر إما بكرة أو عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه بالهجرة والخروج من مكة أتى إلى أبي بكر بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: والله ما جاء رسول الله في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله عليه، فقال رسول الله ﷺ: «أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ». فقال: إنما عندي ابنتاي عائشة وأسماء، وما ذلك فداك أبي وأمي؟ فقال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْهِجْرَةِ».
فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. فقال: «نَعَمْ». فبكى أبو بكر فرحًا فقال: يا نبي الله، إن عندي راحلتين أعددتهما لهذا الشأن. وأخذت أسماء بنت أبي بكر تجهز لهما جهاز السفر، فصنعت سفرة في جراب وشقت نطاقها نصفين فربطت فم الجراب بنصفه وربطت أسفل الجراب بالنصف الثاني، فسميت «ذات النطاقين».
ثم إنهما استأجرا عبد الله بن أريقط هاديًا خِرّيتا وكان مشركًا على دين قومه، فخرج رسول الله على حين غفلة من قومه ولم يعلم بخروجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن رسول الله أمره أن يتخلف حتى يؤدي الودائع التي عند رسول الله للناس، وكان رسول الله ﷺ يدعى الأمين، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. فخرج رسول الله في صحبة أبي بكر وعمدا إلى غار ثور وهو جبل بأسفل مكة، فدخلاه وأمر أبو بكر مولاه عامر ابن فهيرة بأن يرعى غنمه بالنهار ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار لتخفي أثرهما ويشربان من لبنها.
وخرج بعض أشداء قريش في طلب رسول الله ﷺ ومروا بالغار فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى شراك نعله لأبصرنا. فأجابه الرسول قائلاً: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟». يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠﴾ [التوبة: 40].
فمكثا في الغار ثلاثة أيام ثم خرجا منه لإنشاء سفرهما إلى المدينة ونظر رسول الله إلى مكة وقال: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ».
ثم إن المشركين من قريش ذهبوا في طلبهما كل مذهب وجعلوا لمن يرشد عنهما مائة من الإبل عن كل واحد منهما، فجاء رجل إلى قوم جلوس فيهم سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا سراقة، إني رأيت أسودة بالساحل ولا أراها إلا محمدًا وأصحابه. فقال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، أريد أن أعمي خبرهما حتى أفوز بالإبل، ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وأخذت رمحي وركبت فرسي حتى إذا قربت منهما إذ سمعت قراءة رسول الله ﷺ وأبو بكر يكثر الالتفات ورسول الله لا يلتفت، ويقول أبو بكر: يا رسول الله، لقد لحقنا الطلب. ورسول الله يقول: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا». فأرسل رسول الله عليه سهمًا من سهام الدعاء، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين قال: فخررت عنها فناديتهم بالأمان فوقفوا وعرفت حينئذ أنه سيظهر أمر رسول الله على الناس، فقلت له: لله علي أن أرد كل من جاء في طلبك، فادع الله لي أن يخرج فرسي. فدعا الله وخرجت فرسه وصدق في قوله فكان لا يجيء أحد من الطلب إلى رده ويقول: قد كفيتم ما هنالك.
ولما سمع أبو جهل بخبر سراقة بن مالك أخذ يلومه ويعنفه حيث لم يرده، فقال سراقة بن مالك مجيبًا له:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا
لأَمْر جوادي حين ساخت قوائمُهْ
علمت ولم تشككْ بأن محمدًا
رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومُهْ
وسار رسول الله في طريقه فمر بخيمتي أم معبد الخزاعي وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي الناس، فجاء رسول الله وأبو بكر فسألوها: هل عندك من لحم أو لبن نشتريه؟ فلم يجدوا عندها شيئًا، وقالت: لو كان عندنا من ذلك شيء ما أعوزكم القرى. وكان القوم مجدبين مسنتين، فنظر رسول الله إلى شاة في كسر خيمتها فقال: «مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟». فقالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: «هَلْ فِيْهَا مِنْ لَبَنٍ؟» فقالت: هي أجهد من ذلك. فقال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟». فقالت: إن كان بها حليب فاحلبها. فدعا رسول الله للشاة ومسحها وذكر اسم الله عليها فدرت واجترت. ودعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه حتى ملأه فشربوا عَلَلاً بعد نهل، ثم حلب فيه ثانيًا فغادره عندها ثم ارتحل. فجاء زوجها أبو معبد فسألها عن هذا اللبن فأخذت تخبره خبره وتقص عليه صفته وتقول: إنه مر بنا رجل مبارك صفته كيت وكيت، فاستقصت أوصافه، وقالت: له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا قوله، وإن أمر تبادروا أمره، وهو أحسن الثلاثة منظرًا. فقال: والله هذا صاحب قريش الذي تطلبه.
ودخل رسول الله ﷺ المدينة بعد الزوال فتنازعه القوم كلهم يريد أن ينزل عنده فقال: «سَأَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ» أخوال جده عبد المطلب ليكرمهم بنزوله عندهم، فنزل على أبي أيوب الأنصاري فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وصلى بالناس الجمعة، وهي أول جمعة صلاها بالمدينة، وأسس مسجد قباء، ثم ركب ناقته فجعلت قبائل الأنصار يعترضونه في طريقه كل منهم يطلب نزوله عنده ويقولون: هلمّ إلينا فعندنا العدد والمنعة. ورسول الله يقول: «خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» حتى أتت موضع مسجده الآن فبركت به ناقته.
ومن كريم شعر الأنصار في الهجرة قول قيس بن صرمة:
ثوى في قريش بضع عشـرة حجة
يذكر لو يلقى حبيبًا مؤاتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم يَر من يُؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقرت به النوى
وأصبح مسـرورًا بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جُلِّ مالنا
وأنفسنا عند الوَغَى والتآسيا
نعادي الذي عادى منالناس كلهم
جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا ربَّ غيره
وأن كتاب الله أصبح هاديا
* * *
[55] أخرجه الإمام أحمد من حديث جابر. [56] سيرة ابن هشام 1/321. [57] أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن عوف. [58] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث أنس. [59] سيرة ابن هشام 1/420، والحديث في الكبير للطبراني والدعاء له باختلاف يسير. [60] انظر زاد المعاد فصل الخروج إلى الطائف. [61] أخرجه البخاري من حديث جبير بن مطعم. [62] انظر أحداث الهجرة في سيرة ابن هشام والبداية والنهاية لابن كثير.
قال الكاتب: (ويكفي عن كل قول ودليل مجرد أن نذكر غزوة أو بداية غزوة، وذلك أن الرسول حين خرج لأخذ القافلة التي تحمل تجارة لقريش كان خروجه هذا للقتال ولم يكن في هذا نوع دفاع. ثم كان بعدها وقعة بدر بين المسلمين والمشركين، وهذا فيه دليل قوي على أن الخروج للقتال يعني الطلب، فالرسول وأصحابه لم يدافعوا عن أنفسهم في هذه الواقعة بل كانوا مبتدئين بالقتال طالبين للعدو).
وحروب الرسول ﷺ في خيبر وهوازن وحصاره للطائف حيث كان الرسول هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين وتحكيم الكتاب بينهم، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنه لم يسبق منهم ذلك إلا في نادر الأحوال. انتهى كلامه.
وأقول إن الكاتب رحمه الله تناول وقعة بدر وما ترتب عليها من خبر العير والنفير وهي وقعة مشهورة ويدرسها الطلاب في مدارسهم؛ لكونها وقعة مشهورة، فهم يعرفونها ويعرفون أسبابها تمام المعرفة، فلو سأل عنها أحد أولاده لأخبره أن قريشًا هم الأعداء الألداء والبادئون بالاعتداء على الرسول وأصحابه، فهم أئمة الكفر الذين قال الله فيهم: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣﴾ [التوبة: 12-13]. فسماهم الله أئمة الكفر من أجل أن الناس يأتمون بهم في اعتقاد الكفر والعمل على حسابه.
ثم أثبت سبحانه اعتداءهم على المؤمنين في ابتداء الأمر ونهايته إلى قوله: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣﴾ [التوبة: 13]، ففي هذه الآيات أوضح الدلالات على بداءتهم بالاعتداء في الابتداء على رسول الله وأصحابه، فكان رسول الله بمكة يأتيه أصحابه ما بين مجروح ومضروب، وقد توفيت سمية أم عمار تحت التعذيب في سبيل إسلامها، كما توفي زوجها ياسر من جراء ذلك، وكان رسول الله يمر عليهما وهما يعذبان ويقول: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»[63]. وكانوا يحمون الحجارة ويضعونها على بطن بلال وظهره ويقولون له: قل: واللات والعزى. فيقول: أحد أحد.
ومن المعلوم بطريق المقاضاة بالمثل أن المحاربين يتحينون الفرصة لمواثبة عدوهم ويغتنمون غرته وغفلته؛ لأن الحرب خدعة. وهذا واضح من فعل النبي ﷺ وأصحابه في هذه الواقعة، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق، كما أن الكبر يمنع من اتباعه. ومثل هذا لن يخفى على أحد غير أن الكاتب أراد أن يوجد دليلاً يثبت صحة ما ذهب إليه من أن الجهاد سببه الكفر وأن الكفار يقاتلون حتى يسلموا.
[63] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث محمد بن إسحاق مرسلاً.
وحاصل القصة هو ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن رسول الله ﷺ لما سمع بأبي سفيان مقبلاً من الشام بعير قريش، فعند ذلك ندب المسلمين إليه وقال: «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا». فندب الناس فخف بعضهم للخروج وثقل بعضهم؛ لأنهم يظنون أن رسول الله لن يلقى حربًا، وكان أبو سفيان بن حرب حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار تخوفًا على الأموال التي معه حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان بأن محمدًا قد استنفر أصحابه لعير قريش، لهذا أخذ أبو سفيان الحذر وهو من السياسة والرياسة بمكان وبصحبة عمرو بن العاص، فاستأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة وأمره بأن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى حماية أموالهم ويخبرهم بأن محمدًا وأصحابه قد عرضوا لها لمحاولة أخذها، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة حتى وصلها وكان رجلاً خفيفًا حديد اللسان، فلم يرع قريشًا إلا صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره وقد جدع أنف بعيره وحول رحله، وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
قال: فتجهز الناس سراعًا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمن غير ذلك. فخرجوا على الصعب والذلول.
قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش. فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخًا جليلاً جسيمًا ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء. قال: قبحك الله وقبح ما جئت به. قال: يا أبا علي، تجهز. واخرج مع الناس. هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.
وقد رواها البخاري على نحو آخر فقال: حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا شريح ابن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدثني عمر بن ميمون، أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقًا لأمية ابن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرًا فنزل على أمية بمكة، قال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت. فخرج به قريبًا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا الذي معك؟ قال: هذا سعد. قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا وقد آويتم الصبأة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا. فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى المدينة. فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. قال سعد: دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّهُ قَاتِلُكَ». قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك أمية فلما رجع إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنه قاتلي. فقالت: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك. فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ عبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة. ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني. فقالت له: يا أبا صفوان، أوقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا.
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلاً إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر. وقد رواه البخاري في موضع آخر عن محمد بن إسحاق عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق.
وقال يونس عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين، وذكر المطعمين لقريش يومًا يومًا، وذكر الأموي أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرًا، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعًا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرًا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يومًا، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعًا، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذ عتبة ابن ربيعة عشرًا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه أبناء الحجاج عشرًا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرًا، ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرًا، ثم أكلوا من أزوادهم. قال الأموي: حدثنا أبو بكر الهذلي قال: كان مع المشركين ستون فرسًا وستمائة درع، وكان مع رسول الله ﷺ فرسان وستون درعًا.
هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر، وأما رسول الله ﷺ فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه، وكان جملة الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع لواءه إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، وبين يدي رسول الله ﷺ رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
قال ابن هشام: كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. وقال الأموي: كانت مع الحباب بن المنذر.
قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرًا يعتقبونها، فكان رسول الله وعلي ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرًا، فقالا: نحن نمشي عنك يا رسول الله. فقال: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا».
ثم نزل مما ثار الخبر عن قريش واستشار الناس، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن المقال، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فقاتل ونحن نقاتل عن يمينك وشمالك.
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرًا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنًّا لهما يستقيان فيه ومجد بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحضر وهما تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك. قال مجد: صدقت. ثم خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس.
فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ وأخبراه بما سمعا وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرًا حتى ورد الماء، فقال لمجد بن عمرو: وهل أحسست أحدًا؟ قال: ما رأيت أحدًا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما. ثم انطلقا فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعًا فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرًا بيساره وانطلق حتى أسرع.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا- وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثًا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا.
وكان الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليفًا لبني زهرة وهم بالجحفة فقال: يا بني زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جُبْنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد. أطاعوه وكان فيهم مطاعًا ولم يكن بقي من بطن قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحد. قال: ومضى القوم.
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ونزل رسول اللهﷺ وأصحابه بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة.
قلت: وفي هذا قال تعالى: ﴿إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي من ناحية الساحل ﴿وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا﴾ [الأنفال: 42]، وبعث الله السماء وكان الوادي دهسًا فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ماء لبّد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشًا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة وقد بات رسول الله ﷺ تلك الليلة يصلي إلى جذع شجرة هناك ويكثر في سجوده أن يقول: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ». يكرر ذلك ويلفظ به عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به، قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ». قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنحن نشرب وهم لا يشربون. فقال رسول الله ﷺ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».
ثم إن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد سابق كما قال سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ﴾، وكان المشركون هم أول من بدأ بالهجوم على رسول الله وأصحابه حيث إن الأسود بن عبد الأسد هجم على الحوض الذي بناه المسلمون فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله، ثم نشبت الحرب بينهما، فنصر الله نبيه وجنده على المشركين فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وضربوا عليهم الفداء كل واحد بحسبه.
وقد استشار رسول الله ﷺ أصحابه في الأسرى فأشار أبو بكر قائلاً: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما نأخذه قوة لنا على قتال الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا عضدًا لنا. وقال: «مَا تَرَى يَا عُمَرُ؟». فقال: إني لا أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكنني من قريبي فلان، وتمكن عليًّا من قريبه فلان، وتمكن كل قريب من قريبه فنضرب أعناقهم حتى يعلموا أنه ليس في قلوبنا هوادة ولا مودة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فركن رسول الله إلى ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قاله عمر، فضرب عليهم الفداء كل أحد بحسبه ولم يقل لهم: إما أن تسلموا وإلا قتلناكم، بل سرحهم إلى أهلهم بشركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم بعد فتح مكة، ومنهم من دخل الإسلام قبل ذلك.
ثم إن الرسول وأصحابه غنموا ما عند قريش من الخيل والدروع والسلاح ورجع فلُّهم -أي بقيتهم- إلى مكة مكسورين حزينين، ومنعوا النياحة على قتلاهم اتقاء الشماتة، وكان الحجاج بن علاثة قد قتل له ابنان هما نبيه ومنبه فسمع صوتًا عاليًا فقال لجاريته: انظري ما هذا الصوت لعله نُفس عن الناس في ندب موتاهم حتى أبوح بما في صدري. فرجعت الجارية وقالت: يا سيدي، هذا صوت امرأة أعرابية قد انطلق بعيرها من عقاله فهي تندبه تريد رده. فتزفر وقال:
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها عن النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
ألا قد ساد بعدهم أناس
ولولا يوم بدر لم يسودوا
* * *
إن دين الإسلام هو دين الصلاح والإصلاح يقول الله تعالى: ﴿۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ [النساء: 114].
فليس الدين بحرج ولا أغلال دون الكمال، ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٩٠ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ ٩١ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍ﴾ [النحل: 90-92].
ولا يزال الصلح والمعاهدة والمهادنة جاريًا بين المسلمين وبين أضدادهم من المشركين من لدن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين وأصحابه إلى سائر حكام المسلمين؛ لأن أحوال الأمم تدور بين السلم القريرة والحرب المبيرة والمداجاة الغفيرة؛ أي المهادنة مع العداوة.
ولا ينبغي أن ننسى إجراء الصلح من رسول الله مع قريش في صلح الحديبية عام ستة من الهجرة ونهايته، فإن فيه في ظاهر الأمر نوع هضم وضيم على الإسلام والمسلمين وفي عاقبته نصر من الله وفتح قريب.
وحاصله أن النبي ﷺ صالح مشركي قريش في صلح الحديبية على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءه مسلمًا رده إليهم، ومن جاءهم مرتدًا لم يردوه إليه، وعلى أن يرجع بأصحابه هذه السنة فلا يدخلون البيت، وكان هو وأصحابه قد أحرموا بالعمرة، وعلى أن من دخل في عقد الرسول وعهده فهو منه، ومن دخل في عقد قريش وعهدهم فهو منهم، فدخل في عقد الرسول وعهده خزاعة، فكانت عيبة نصح لرسول الله مسلمهم وكافرهم، ودخل في عقد قريش بنو بكر وغطفان والأحابيش، وكان متولي الصلح عن قريش هو سهيل بن عمرو. ولما قال الرسول: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». قال: لا تكتب رسول الله؛ فإننا لو نعلم أنك رسول ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله. فأمر النبي ﷺ عليًّا أن يكتب محمد بن عبد الله. وفي أثناء الكتابة جاء أبو جندل بن سهيل فارًّا بدينه من الشرك والمشركين فرمى بنفسه بين أصحاب رسول الله، فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيك عليه أن ترده علينا. فقال: «اتركه لي». فقال: لا. فأمر رسول الله برده، فعند ذلك وقع الاضطراب من الصحابة حتى جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: إنه عبد الله ورسوله ولن يضيعه فاستمسك بغرزه. ثم جاء عمر إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، ألم تقل لنا إننا داخلون البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، وهل قلت لكم: هذه السنة؟». قال: لا. قال: «فإنك ستدخل البيت وتطوف به». ثم إن رسول الله أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فتلكؤوا واستبطؤوا ظنًّا منهم أنه سينزل الوحي بخلع هدا العقد، فدخل رسول الله على أم سلمة فقال: «ألم تري إلى قومك أمرتهم أن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فاستبطؤوا». قالت أم سلمة: يا رسول الله، انحر هديك واحلق رأسك ولا تكلم أحدًا فإنهم سيتابعونك على فعلك. وفعلاً نحر هديه وحلق رأسه فتاوثبوا على ذلك طاعة له.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في بيان الحكم والمصالح التي اشتملت عليها هذه المصالحة، وأن الله سبحانه هو الذي أحكم أسبابها، فوقعت بالغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده ورحمته، وسماها الله فتحًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١﴾ [الفتح: 1] - يعني صلح الحديبية- فمنها أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه حكمة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها. ومنها أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس آمن بعضهم بعضًا واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله له أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١﴾، والمراد به صلح الحديبية. قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاء عظيمًا. وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية. وحقيقة الأمر أن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد رسول الله ﷺ وأصحابه عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين وفي الباطن عزًّا وفتحًا ونصرًا.
وكان رسول الله ﷺ ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم تتحملها عقول أكثر الصحابة ورؤوسهم، ورسول الله ﷺ يعلم ما في ضمن هذا المكروه من الأمر المحبوب، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.
وربما كان مكروهُ النفوس إلى
محبوبها سببًا ما مثله سببُ
* * *
وأما قول الكاتب: (إن غزو النبي ﷺ وأصحابه لخيبر وقع ابتداء منه بدون أن يسبق منهم تعد بطريق الابتداء على الرسول وأصحابه. فهذا مما يحقق كون الجهاد المشروع هو الابتداء؛ أي الطلب لنشر دين الله وإعلاء كلمته).
وأقول: إن يهود خيبر مرتبطون بيهود المدينة في الحماية والنصرة وفي العهد وفي نقضه، وكانوا حلفاء لغطفان، تحارب غطفان لحربهم كما أن أهل خيبر يحاربون لحرب غطفان، قاله ابن كثير في البداية والنهاية، وقد غزا غطفان بمن معهم من أهل خيبر يوم الأحزاب حيث تحزبوا مع قريش وقبائل العرب والأحابيش، وذكر المؤرخون من أهل السير أن أهل خيبر هم أكبر من حرض قريشًا واليهود وغطفان على حرب رسول الله، ونقض يهود المدينة العهد الذي بينهم وبين رسول الله حيث ظنوا أن هذه الغزوة هي المستأصلة للرسول وأصحابه، وقد كبر الأمر على المسلمين حيث تحزبت جميع القبائل عليهم، وذلك عام خمسة من الهجرة وقد ضربوا على المدينة خندقًا يتقون به هجوم الأحزاب عليهم وقد أنزل الله سورة الأحزاب في شأنهم ومنها: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩ إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ١٠ هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١﴾ إلى قوله: ﴿وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٢٥﴾ [الأحزاب: 9-25].
لهذا غزا النبي ﷺ خيبر عام ستة من الهجرة، ولما قرب منها نزل في مكان بين خيبر وغطفان ليقطع صلة غطفان ونصرتهم لأهل خيبر، وقد استعدت غطفان حين سمعت بالخبر بالحرب مع أهل خيبر، لكن رجالها حينما سمعوا بأن العدو قد صبح أهلهم، نفروا لنصرتهم وتركوا أهل خيبر، ففتحها رسول الله وأصحابه. وقد بشرهم القرآن بفتحها وهم بين مكة والمدينة، قال سبحانه: ﴿وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةٗ تَأۡخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمۡ هَٰذِهِۦ وَكَفَّ أَيۡدِيَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ﴾ [الفتح: 20]، والمقصود أن رسول الله ﷺ لم يفتحها إلا بعد جهاد شديد، وقتال ضارٍ بين الفريقين، فكانوا مستحقين للقتال، ويعتبر قتالهم دفعًا لشرهم لكونهم محاربين لله ورسوله وعباده المؤمنين، والمحارب يُقاتل حيث وجد، يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧﴾ [الأنفال: 57].
* * *
قلنا في دعوتنا إلى دين الله وإلى الجهاد في سبيل الله: إن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته أو يقطع السبيل في منع إبلاغها للناس، فإنهم بمنع إبلاغها يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين؛ لأن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعوا أهلها إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة، فهذا غاية ما يبتغون وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على دمائهم وأموالهم، وقد فتح المسلمون كثيرًا من البلدان بهذه الصفة مما يسمى صلحًا، أما إذا نصبت لهم المدافع ووجهت نحوهم أفواه البنادق وسلت في وجوههم السيوف ومنع الدعاة منعًا باتًّا عن حرية نشر دعوتهم وعن الاتصال بالناس في إبلاغهم دين الله الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم، فإنهم يعتبرون حينئذ معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين، ويعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله وفي سبيل نشر دين الله، حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]، وقال: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 191]، وقال: ﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ﴾ [محمد: 4]، فقتالهم والحالة هذه هو في سبيل الله ولا يبالون بما أصابهم في ذات الله؛ لأن الله سبحانه قد اشترى من المؤمنين أنفسهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فهم يتمنون الشهادة في سبيل الله كما يتمنى أكثر الناس الحياة، لعلمهم أن لهم حياة أخرى هي أبقى وأرقى من حياتهم في الدنيا، وقد باعوا أنفسهم لله في سبيل الحصول عليها، يقول الله سبحانه: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١١﴾ [التوبة: 111]، فهذا طريق دعوتنا إلى دين الإسلام.
وقد سُئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ». رواه البخاري ومسلم في حديث أبي موسى.
وحتى القتال في سبيل نصر المستضعفين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق يقول الله: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥﴾ [النساء: 75].
وهذه وإن نزلت في المستضعفين بمكة الذين لم يستطيعوا الهجرة لكنها شاملة لكل من كان بصفتهم إلى يوم القيامة؛ لكون الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه؛ ولأن المسلمين متكافلون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، فمتى بغى عدو على المسلمين وجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره وكف شره.
هذا وإن الحروب بين المسلمين والكفار يكون لها أسباب تثيرها وأحوال تهيجها سوى ما ذكرنا، مما يدخل تحت الدفاع عن حقوق المسلمين لاعتبار أنهم متكافلون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فمتى همّ العدو الغاشم باغتصاب بلادنا أو شيء من حقوقنا أو أراد العدو الباغي استذلالنا أو العدوان على استقلالنا بقطع حرية دعوتنا إلى دين الله، فعند ذلك يجب أن نتحلى بحلية الشجاعة والقوة والعزة فنقاتل في سبيل ذلك حتى تكون حقوقنا محفوظة، وهذا من باب الدفاع عن الدين وكف الاعتداء عن المسلمين وعن بلادهم وأفرادهم حتى في غير بلاد المسلمين؛ لاعتبار أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، وحتى لو حصل الاعتداء عل كافر من أهل الذمة فإنه يجب الدفاع عنه بما نستطيعه من قوة.
وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة. وكل هذا من أنواع الجهاد بالدفاع الذي نعتقده ونؤمن بصحته.
ثم إن هذه المسألة تليدة الأصل وليست بوليدة هدا العصر، فقد وقع الخلاف فيها بين أئمة المذاهب قبل كل شيء؛ فذهب الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى أن سبب الجهاد هو المقاتلة؛ أي نقاتلهم عند قتالهم لنا أو منعهم نشر ديننا، وذهب الإمام الشافعي إلى أن سببه الكفر فيقاتلون حتى يسلموا، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة قتال الكفار قال: وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
* * *
قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٢ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا ٣﴾ [الفتح: 1-3].
المراد بالفتح هنا هو صلح الحديبية لكونه انفتح به ما هو مغلق بين الرسول وأصحابه وبين كفار قريش. ولما نزلت هذه الآية قال الصحابة: هنيئًا مريئًا هذا لك يا رسول الله فما لنا؟ فأنزل الله: ﴿لِّيُدۡخِلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَئَِّاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٥﴾ [الفتح: 5]، حاصلها أنها لما اشتدت حالة الحرب بين الرسول وبين كفار قريش وقد كثر أصحاب رسول الله وقويت شوكتهم بتوفر عددهم وعدتهم، ففي السنة السادسة من الهجرة رأى رسول الله في منامه أنه وأصحابه يطوفون بالبيت محلقين رؤوسهم ومقصرين كما قال سبحانه: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا ٢٧﴾ [الفتح: 27]؛ أي صلح الحديبية.
وكانت الحديبية عينًا تقع على حدود الحرم من جهة جدة ونزل رسول الله بأصحابه خارج الحرم وإذا أراد أن يصلي دخل حدود الحرم لمضاعفة ثواب الصلاة فيه.
فعزم رسول الله على العمرة وأنه سيقاتل المشركين إن صدوه عن البيت ودعا أصحابه إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعوه على الموت بأن لا يفروا، فأحرموا من ميقاتهم للعمرة واستنفر من حوله من الأعراب فاعتذروا قائلين: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. وذلك لظنهم أن الرسول وأصحابه لن يرجعوا سالمين، فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار وعددهم ألف وخمسمائة، وكان مع رسول الله زوجته أم سلمة وقلد الهدي معه ليعلم الناس أنه لم يأت للقتال وإنما جاء للاعتمار.
وبعد أن وصل إلى عسفان جاءه عينه فأخبره بأن قريشًا أجمعت رأيها على أن يصدوه عن دخول مكة وأن لا يدخلوها عليهم عنوة أبدًا، وتجهزوا للحرب، فبعد المراجعة بينهم وبين رسول الله اتفق رأيهم أن يرسلوا سهيل بن عمرو لإجراء عملية الصلح، فلما أقبل سهيل قال رسول الله: «قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» فبرزوا لعقد الصلح وكان الكاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال رسول الله: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». فقال سهيل: لا تكتب باسم الله، اكتب باسمك اللهم. ثم قال: «هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو». فقال: لا تكتب رسول الله فلو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال: «امْحُ رَسُولُ اللَّهِ، وَاكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ». والصلح على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءك مسلمًا رددته إلينا، ومن جاءنا منكم لم نرده عليكم، وعلى أنكم ترجعون عامكم هذا فلا تدخلون مكة حتى لا يتحدث الناس أنكم أخذتمونا ضغطًا، وفي العام القابل تعتمرون بالسيوف في القرب، وفي أثناء الكتابة جاء أبو جندل فارًّا بدينه من مكة فرمى بنفسه بين المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيكم على رده. فطلب رسول الله أن يسمح له به فأبى، فأمر رسول الله برده إليه.
وبعدما تم عقد الصلح أمر رسول الله أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فتلكؤوا ووقع الاضطراب بينهم عندما رأوا أبا جندل مردودًا إلى الكفر، قالوا: يا رسول الله، كيف من جاءنا مسلمًا نرده إليهم ومن جاءهم مرتدًا منا لا يردونه إلينا؟ فقال رسول الله: «إِنَّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَمَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا فَأَبْعَدَهُ اللهُ». ثم جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا! فقال: إنه رسول الله فاستمسك بغرزه. ثم جاء إلى رسول الله فقال له مثل ذاك وقال: ألم تقل لنا إنكم ستأتون البيت وتطوفون به فلماذا نرجع عنه؟ فقال: «هل قلت لكم: هذه السنة؟». قال: لا. قال: «فإنكم ستأتونه وتطوفون به». وكان رسول الله قد رأى في منامه أنهم يدخلون البيت ويطوفون به فأخبر أصحابه بذلك فظنوا أن هذا أمر واقع لهذه السفرة وهذا في قوله: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا ٢٧﴾ [الفتح: 27][64].
وفي الصلح أن من دخل في عقد رسول الله وعهده فإنه منه ومن دخل في عقد قريش وعهدها فإنه منهم، فدخل في عقد رسول الله خزاعة ودخل في عقد قريش بكر وغطفان، فنحر رسول الله هديه وحلق رأسه وتتابع الصحابة على ذلك وحلوا من إحرامهم ورجعوا إلى المدينة، ثم إن قريشًا مع من أعانهم من عرب الحجاز ونجد هجموا على خزاعة في حال غفلة منهم فقتلوهم، وبذلك انتقض عهدهم وعزم رسول الله على غزوهم وقال: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[65]. فلما عزم على الخروج كتب حاطب بن أبي بلتعة إليهم يخبرهم بعزم رسول الله على غزوهم وقال في كتابه: يا معشر قريش، إن محمدًا قد عزم على غزوكم بجيش كالسيل يختفي بالنهار ويسير في الليل، والله لو جاءكم وحده لنصره الله عليكم، فانظروا في أمركم، والسلام. وأرسل الكتاب مع امرأة فنزل الوحي بخبرها.
وأرسل عليًّا والمقداد لذلك وقال: «إنكم ستأتون امرأة ظعينة بروضة خاخ ومعها كتاب، فخذاه منها». فوجدوها كما وصفها رسول الله في روضة خاخ، فقالا: هات الكتاب. فقالت: ليس معي كتاب. فقالا: والله لتخرجن الكتاب أو لنجردن الثياب. فأخرجت لهما الكتاب من عقاص شعرها، قال رسول الله لحاطب: «ما حملك على ذلك؟». فقال: والله ما فعلته ردة عن الإسلام وما من أحد من قريش إلا وله قرابة يحمون ما له، وليس لي أحد، فأردت أن أجعلها يدًا عندهم يحمون بها ما لي. فقال رسول الله: «قد صدقكم». فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[66]. فصار صلح الحديبية الذي كرهه أكثر المسلمين ويرون أن فيه غضاضة وهضمًا للمسلمين عاقبته فتحًا ونصرًا مبينًا، وبه فتح الله مكة لرسوله فدخلها رسول الله والمسلمون عنوة وسلاح أهلها بأيديهم مستعدين لحرب رسول الله وأصحابه، فوسع نطاق الأمن للناس وقال: «من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن»[67]. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة ولما سمعه يرتجز في تمنيه للقتال ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الكعبة، أخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس وقال للصحابة: «إنه سيلقاكم أوباش قريش فإياكم أن تحصدوهم». وكان رجل يصلح سلاحه لمحاربة رسول الله وأصحابه وعنده زوجته قالت له: ما أرى أحدًا يقوم لمحمد وأصحابه. فقال: إني أرجو أن أخدمك أحدهم. ثم أخذ يرتجز ويقول:
إن يقبلوا اليوم فما لي عِلَّهْ
هذا سلاح كامل وألَّهْ
وذو غرارين سريع السلَّهْ
ثم أخذ سلاحه وخرج ثم رجع سريعًا مذعورًا، وقال لزوجته: أغلقي عليَّ الباب. قالت له: ما أسرع ما رجعت! فأخذ ينشد:
إنك لو رأيت يوم الخندمهْ
إذ فر صفوان وفر عكرمهْ
واستقبلتنا بالسيوف المسلمهْ
يقطعن كل ساعد وجمجمهْ
لهم نهيت خلفنا وهمهمهْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمهْ
ولما دخل النبي ﷺ مكة مؤيدًا منصورًا ومحشودًا محفودًا، ورأى النساء يصرخن بالبكاء ويرمين خمرهن في وجوه الخيل خوفًا على أولادهن وأزواجهن من القتل، التفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر فقال: «ما يقول حسان في مثل هذا؟». قال: يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
يلطمهن بالخمر النساء
ثم إن رسول الله وسع مجال الأمان للناس فقال: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ». فوضعوا كلهم سلاحهم وصدق عليهم قول الشاعر:
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَبْ
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
ولما دعا والسيف صلتٌ بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ثم إن رسول الله ﷺ جمع قريشًا، فقال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟». فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. فقال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[68]. وسموا الطلقاء من يومئذ، وهم مسلمة الفتح، ولم يقتل منهم سوى أفراد يعرف أن بقاءهم يفسد بقيتهم، منهم عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على رأس رسول الله وهو ساجد، ومنهم النضر بن الحارث الذي كان يهجو رسول الله بشعره، ولما أعلن لهم بالعفو الشامل قام أبو سفيان بن حرب فأنشد أبياتًا منها:
لعمرك إني حين أحمل راية
لتغلب خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليلُهُ
فهذا أواني حين أُهْدَى فأهتدي
هداني هادٍ غير نفسـي ودلني
على الله مَن طرّدتُه كل مطردِ
فضرب رسول الله ﷺ صدره وقال له: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ».
ثم إن رسول الله ﷺ ترك أهل مكة على حالتهم وعلاَّتهم ولم يثبت التاريخ أنه سأل واحدًا منهم عن إسلامه، بل تركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم ورغبتهم وصدق عليهم قوله سبحانه: ﴿۞عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجۡعَلَ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ عَادَيۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةٗۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٞۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧﴾ [الممتحنة: 7].
وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ١٠٨﴾ [يونس: 108]. ولو كان قتال الكفار مشروعًا حتى يسلموا لوجب أن يميز النبي ﷺ بين من أسلم فيستبقيه وبين من أصر على كفره فيقتله.
وبعد فتح مكة أخذ الناس يدخلون في دين الإسلام أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين لكون عرب الحجاز ونجد قد استأنوا بإسلامهم فتح مكة، وقالوا: إن كان محمد رسولاً فسيظهر على قريش ويفتح مكة، وإن لم يكن رسولاً فستظهر عليه قريش ويقتلونه. ولما فتح الله عليه مكة أقبلت وفود العرب من كل فج عميق يظهرون إسلامهم، وأنزل الله سبحانه: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [سورة النصر]. وفي هذه السورة إشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ.
* * *
[64] حديث صلح الحديبية في البخاري وأحمد وغيرهما من حديث البراء. [65] سيرة ابن هشام 2/394. [66] الحديث في البخاري -وغيره بألفاظ متقاربة- من حديث علي. [67] زاد المعاد، فصل في الفتح الأعظم. [68] سيرة ابن هشام 2/412.
قال الكاتب: (إن حروب الرسول ﷺ وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف وكذلك الغزوات الأخرى حيث كان الرسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال).
وأقول: سبحان الله ما أغفل هذا الكاتب عن سبب مثار هذه الغزوة وبداءة الاعتداء من زعيم هوازن مالك بن عوف حيث زحف بالجنود من العرب الذين اتبعوه، فزحف بهم من عوالي نجد وأهلهم وعيالهم معهم للحفيظة والمصابرة على القتال، حتى وصل بهم إلى حنين وهو المكان المعروف بين مكة والطائف؛ لقصد أن يفاجأ النبي وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب، لظنه أن المغلوبين من أهل مكة سيكونون عونًا له على قتال الرسول وأصحابه، وقد خاب سعيهم فيما يؤملون وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
فجهاد رسول الله لهم هو حقيقة في دفع شرهم مع العلم أنهم من الأعراب الذين قال الله فيهم: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ﴾ [التوبة: 97].
قال الله تعالى: ﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٦ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٧﴾ [التوبة:25-27].
وقد ذكر ابن إسحاق في كتابه أن خروج رسول الله ﷺ إلى هوازن بعد الفتح في الخامس من شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم بخمس عشرة ليلة، وهكذا روي عن ابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير، واختاره أحمد وابن جرير في تاريخه.
وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إلى هوازن لست خلون من شوال، فانتهى إلى حنين في عاشره. وقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة. فانهزموا، فكان أول من انهزم بنو سليم ثم أهل مكة ثم بقية الناس.
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وفتحه مكة، جمعهم زعيمهم مالك بن عوف النضري فاجتمع إليه من هوازن ثقيف كلها واجتمعت نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شيخًا مجربًا.
وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النضري، فلما أجمع السير إلى رسول الله ﷺ أحضر مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك. ودعي له، قال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن، والله هل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: أين كعب وكلاب؟ قال: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران. ثم قال: يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم الق الصبأة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك. ثم قال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، قالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
فلما سمع بهم نبي الله ﷺ بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيسمع منهم ويعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وسمع من أمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فلما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وسلاحًا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك قال: «يَا أَبَا أُمَيَّةَ، أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَى فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا». فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ قال: «بَلْ عَارِيَةٌ، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ». فقال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله ﷺ سأله أن يكفيهم حملها، ثم خرج رسول الله ﷺ معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة وكانوا اثني عشر ألفًا، واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرًا، ثم مضى يريد لقاء هوازن.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارًا. قال: وفي عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضائقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد، وانحاز رسول الله ﷺ ذات اليمين، ثم قال: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ».
وبقي مع رسول الله ﷺ نفر من المهاجرين وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.
قال: فاجتلد الناس. قال: فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله ﷺ. قال ابن إسحاق: ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول اللهﷺ من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الطعن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الجنيد -وقال ابن هشام: صوابه كلدة- الآن بطل سحر محمد. فقال صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركًا: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن.
وذكر ابن سعد أن شيبة بن عثمان الحجي قال: لما كان عام الفتح دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة، قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا، وكنت مرصدًا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله ﷺ عن بغلته فأصلتُّ السيف فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه فرُفِع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمتحشني فوضعت يدي على بصري خوفًا عليه، فالتفت إلي رسول الله ﷺ فناداني: «يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي». فدنوت منه فمسح صدري ثم قال: «اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ». قال: فوالله لهو ساعتئذ كان أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي. ثم قال: «ادْنُ فَقَاتِلْ» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله أعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيًّا لأوقعت به السيف. فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون، فكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول اللهﷺ فاستوى عليها وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه، ما دخل عليه أحد غيري حبًّا لرؤية وجهه وسرورًا به، فقال: «يَا شَيْبُ، الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لَنَفْسِكَ». ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت: استغفر لي. فقال: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ».
وقال ابن إسحاق: وحدثني الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: إني لمع رسول الله ﷺ آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرأ جسيمًا شديد الصوت، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول حين رأى ما رأى من الناس: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟». قال: فلم أر الناس يلوون على شيء. فقال: «يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ». فأجابوا: لبيك لبيك. قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة واستقبلوا الناس، فاقتتلوا، فكانت الدعوة أول ما كانت: يا للأنصار، ثم خلصت أخرى: يا للخزرج، وكانوا صبرًا عند الحرب، فأشرف رسول الله ﷺ في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، قال: «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ». وزاد بعضهم أنه قال: * * * وأما حصار النبي ﷺ للطائف حيث ذكر الكاتب أنه ابتداء بالاعتداء من النبي بدون سبق اعتداء منهم عليه، وهذا إنما نحمله على الجهل الواقع من الكاتب لعدم الفقه بأحكام غزوات النبي ﷺ.
وقد ابتلي الكاتب بقلب الحقائق في المعقول والمنقول حتى تسلط بالتحريف على غزوات الرسول، ومن الواجب على العالم العاقل متى تصدى لتأليف أي كتاب فيما يرجو به النفع للإسلام والمسلمين أن يكون لديه مؤهلات علمية واسعة يعرف بها الحق بدليله، ويميز بين صحيحه وعليله، فيتضح له الطريق ويتمكن من إبراز دلائل التحقيق، فإن العلم الصحيح هو سلاح الدنيا والدين، والواقي عن الوقوع في الخطأ المهين، حتى لا يتعدى بجريمة الخطأ على الدين، ولا على رسول رب العالمين، ولا على علماء المسلمين المؤلفين.
فنسبة الابتداء بالاعتداء من الرسول على هوازن والطائف وقريش في بدر وغيرها، كل هذا يُعد من الخطأ المبين، ولا ننسب استباحة القول به على التعمد منه، وإنما نشأ عن نقص العلم وقصور الفهم، فهو يطعن في الدين من حيث يحاول نصره، ويضره من حيث يريد نفعه، وهو في الحقيقة لا الدين نصر ولا الباطل كسر.
أما حصار النبي ﷺ للطائف فإنهم البادئون بالاعتداء عليه في بداية الأمر ونهايته، فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين ويستحقون القتل والقتال لثلاثة أمور:
أحدها: أن النبي ﷺ سافر إليهم قبل هجرته إلى المدينة لنشر دين الله وليطلب منهم أن يؤووه لتبليغ رسالة ربه، وأقام عندهم -فيما قيل- عشرة أيام يتردد على الرؤساء والأكابر، ثم تمالؤوا عليه بينهم وقالوا: إنه يريد أن يسفه أحلامنا ويفسد أولادنا. فأرسلوا عليه سفهاءهم فأخذوا يرمونه بالحجارة ورؤساؤهم يضحكون من فعلهم به، وكان زيد بن حارثة يقيه ببدنه من وقوع الحجارة لتقع فيه دونه، حتى رجع النبي ﷺ عنهم كئيبًا حزينًا، وهذا نوع من بداءتهم بقتاله.
الأمر الثاني: أن ثقيف أهل الطائف شاركوا هوازن في حرب رسول الله يوم حنين، وعندما نصر الله نبيه وأصحابه فروا إلى بلدهم فغزاهم النبي ﷺ بعد فراغه من هوازن لقول الله سبحانه: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ﴾ [البقرة: 194]. وهل غزوهم في بلادهم لمشاركة هوازن في حرب الرسول وأصحابه إلا صريحٌ في الابتداء بالاعتداء حنقًا منهم على الرسول في فتحه مكة وهي عداوة تليدة؟ الأمر الثالث: أن النبي ﷺ لما أقبل على أهل الطائف يريد أن يدعوهم إلى دين الله راجيًا أن يكونوا كأهل مكة في استجابة دعوته وعدم مقاتلته برزوا لقتاله، فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدبابة، فكانوا يرمونه بنبال الحديد المحماة بالنار من فوق السطوح ومن وراء الحيطان حتى قتلوا سبعة من أصحابه، فانصرف عنهم النبي ﷺ وتركهم.
فكل واحدة من هذه الثلاث تستوجب قتلهم وقتالهم كسائر المحاربين لله ورسوله وعباده المؤمنين، فما بالك باجتماع الثلاث فيهم؟ وكل ما ذكرنا فإنه من العلم الذي اتفق عليه سائر علماء السير والمؤرخين.
والحاصل أن النبي ﷺ في غزواته كلها إذا قاتل فإنما يقاتل لرد العدوان على الدين أو على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين، حتى ما يبدو للناس من بعض غزواته أنها وقعت ابتداء بما يسمى الطلب، فإنه بالتحقيق يتبين أن لها سببًا من اعتداء المشركين عليه كغزوة بني المصطلق، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون يسقون مواشيهم على مياههم. قد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن إسحاق: أنه بلغ رسول الله أن بني المصطلق يجمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع بهم رسول الله خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل، وذلك في شعبان سنة خمس من الهجرة. فهذه القصة تثبت الابتداء بالاعتداء من بني المصطلق على النبي ﷺ وإن لم يتم لهم أمرهم لكون النبي عاجلهم قبل أن يفاجئوه؛ لاعتبار أنهم قد أعلنوا بحربه والمحاربون يقاتلون على أي حال وجدوا. * * * قال الكاتب: (إن الذين يحاولون تغيير واقع الحال وتبديل الحق بعد مشاهدته بالعيان يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون. بيد أنه هنا يصعب جدًّا إنكار هذا الظاهر، فما معنى هجر الأوطان والأولاد وطلب المشركين والكفار في ديارهم النائية إن لم يكن معنى الجهاد بأوسع معانيه؟).
إن الذهاب لنشر هذا الدين والخروج من أجل ذلك لا يحصر الجهاد بالدفاع فقط. وإن طبيعة الجهاد في الإسلام هي المبادأة بالقتال، إذ ما معنى الدفاع هنا واللغة العربية قد حددت له مفهومًا لا يتعداه من حيث العموم؟ انتهى.
وأقول: إن الكاتب لما فسد تصوره للجهاد بالدفاع حيث وصفه بنطاح البهائم قائلاً: إننا إذا قلنا بالدفاع في الجهاد فما الفارق بين الإنسان وبين سائر الحيوان الذي همه أن يدافع عن نفسه لا غير. انتهى كلامه.
فمتى كان هذا اعتقاد الكاتب في صفة الجهاد بالدفاع فلا غرابة في القول منه بإنكاره، ثم التحامل بالملام وتوجيه المذام على من قال بصحته؛ لأنه متى ساء الفهم فسد التعبير وساءت النتيجة، فتراه يقول (ص116): إن جهاد الصحابة ومن بعدهم في القرون المفضلة يدل دلالة واضحة على أن قتالهم كان لإعلاء كلمة الله في الأرض والسماء، ولا يمكن ذلك ولا يعقل أبدًا إلا إذا كان جهادهم لطلب العدو ومن أجل إسلامه ودخوله دين الإسلام. انتهى كلامه.
ونقول: إنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أكره أحدًا على الإسلام لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا المكره، وقد فتح مكة ولم يكره أحدًا منهم على الإسلام بعد قدرته عليهم، بل قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[69]. حتى دخلوا في الإسلام من تلقاء أنفسهم طائعين مختارين.
وقد غزا بعض قريش معه هوازن وهم على شركهم، منهم صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان الحجبي وغيرهما.
وقد جعل الصحابة هذا الفتح بمثابة الدستور الذي يسيرون عليه في أدب فتوحهم للبلدان. ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم خرجوا من بلادهم وفارقوا أهلهم وأولادهم لنشر هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض والسماء وليس جهادهم مقصورًا على القتال بالطلب حسبما يدعيه الكاتب؛ إذ الجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الله ونصر دينه، والتبشير به والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجدال المخالفين بالتي هي أحسن، وقد شرط العلماء في الجهاد بالقتال تقدم الدعوة عليه، إذ الجهاد بالقتال هو من الضرورات التي شرعت لجلب المصالح ودفع المضار، فهو آخر ما يستعمل من وسائل الجهاد على حد ما قيل: آخر الطب الكي.
وقد قلنا فيما سبق: إن الله سبحانه أمر بإبلاغ هذا الدين ونشره والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، فمتى أقبل دعاة الإسلام والمسلمين إلى بلد ليدعوا أهله إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وأذن لهم بالدخول ونشر الدعوة والاتصال بمن يرغبون هدايته، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال، وكل الناس آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم. وقد فتح الصحابة كثيرًا من البلدان بهذه الصفة أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان. أما إذا نصبت لهم المدافع ووجهت نحوهم أفواه البنادق، وسلت في وجوههم السيوف، ومنع الدعاة منعًا باتًّا من حرية نشر الدعوة، ومن الاتصال بالناس في إبلاغها، ودعوة الناس إلى دين الله الذي فيه سعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم، فمتى منعوا ذلك، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بمنعهم الخلق عن سماع الحق واتباعه، وبذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل الله وفي سبيل إبلاغ دين الله حتى يزول المنع والاضطهاد والفتنة عن الدين، يقول الله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣﴾ [البقرة: 193]، نظيره قوله: ﴿... فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢﴾ [البقرة: 191-192]، فتضمنت هاتان الآيتان من سورة البقرة الغاية من انتهاء القتال وهو أننا نقاتلهم حتى يكفوا عن فتنتنا في ديننا، كما كانت قريش تفتن كل من آمن، وحتى يكفوا عن قتالنا فنكف عن قتالهم و «حتى» لانتهاء الغاية بحيث يكون ما بعدها نقيضًا لما قبلها، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا. لكون الإسلام هداية اختيارية لا إكراه فيها بنص القرآن في قوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]. فكل ما يسمعه الناس ويثبته التاريخ من وقوع القتال بين الصحابة زمن الخلفاء الراشدين وبين الكفار في فتوح البلدان كمصر والشام والعراق وبلدان فارس وغيرها، فهذا القتال إنما يقع خارج البلدان حين يخرج أهلها إلى الصحابة بقواتهم وسلاحهم لصدهم عن دخول البلد ومنع نشر الإسلام بها، وبذلك تنعقد أسباب القتال ويعتبر هذا القتال جهادًا بالدفاع؛ لدفع شرهم وعدوانهم، ومتى نصر الله المسلمين عليهم ودخلوا البلاد فإنهم يضعون السلاح ويمنعون القتل ويأخذون في نشر الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلك يعتبر المسلمون دين الله هو الظاهر فلا يعاقبون أحدًا على عقيدته بل يعظونه بالحكمة والموعظة الحسنة، يقول الله تعالى: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾ [الشورى: 48]، وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَا﴾ [يونس: 108]. والمقصود أن العرب المسلمين من الصحابة والتابعين خرجوا من جزيرتهم وفارقوا أهلهم وأولادهم في سبيل نشر دين ربهم وإعلاء كلمته، فالقرآن بأيديهم يتلونه ويدعون إلى العمل به. ففتحوا الكثير من البلدان بالقرآن أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيّرتهم إلى ما صاروا إليه من عزة ومنعة وعرفان.
وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗا﴾ [النور: 55]، وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار. فهدى الله بهم وبدينهم ودعوتهم أعظم شعوب الأمم من النصارى والعجم فأسلموا وحسن إسلامهم، ونظموا في بلدانهم دولة عربية مسلمة كانت سعادة البشر كلها، وكانت زينة الحياة في العلوم والفنون والحضارة والعمران. وإنما كانوا يفضلون غيرهم بصلاح أرواحهم التي يتبعها صلاح أعمالهم؛ وذلك أن المسلم العربي يتولى حكم ولاية أو بلد وهو لا علم عنده بشيء من قوانين الحكومة ولم يمارس أساليب السياسة ولا طرق الإدارة، فيصلح الله به تلك الولاية، فيزيل فسادها ويحفظ أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من أموالها ومظالمها، وإنما يخرج من عمله بثوبه الذي دخل به، فيسعد الله به رعيته، لكون النفس متى صلحت أصلحت كل شيء، وإذا فسدت أفسدت كل شيء.
وإن أكبر عامل ساعد الصحابة والتابعين على فتح البلدان وتوسع الناس في الدخول في الإسلام في كل مكان، هو تأثر الأمم بسماع القرآن خصوصًا بعدما تعلموا اللغة العربية التي بها بلاغة القرآن، إذ كانوا يتلونه ويسمعونه في صلاتهم المفروضة، وتجدهم ينقلونه من بلد إلى بلد، فسرعان ما دخلت محبة دين الإسلام في قلوب الخاص والعام، فأيقظ الأنفس من غفلتها وجهالتها، وطهرها من خرافات الوثنية المستعبدة لها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، إن الله لذو فضل على العالمين. * * *
[69] سيرة ابن هشام 2/412.
وأما حروب الخلفاء الراشدين لفارس والروم فقد اشتبه أمرها على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين بما فهموه من بعض الآيات وبعض الغزوات والسرايا، مما يوهم أن المسلمين هم البادئون بالحرب لسائر الأمم وخاصة حروبهم في فتح البلدان زمن الخلفاء الراشدين، فيظنون كل الظن أنه هجوم محض، وخفي عليهم سبب بداءة الحرب بينهم وبين المشركين، وبينهم وبين فارس والروم بتسلط النصارى على المسلمين بقتلهم كل من أظهر إسلامه في سائر البلدان التي سيطروا عليها في الشام وغيرها، فهذا وإن ظنه بعض الناس هجومًا لكنه حقيقة دفع لشرهم.
إن الغرض من الحرب ونتيجتها هو دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن وعبادة المسلمين ربهم آمنين في دينهم ووطنهم، وإعلاء كلمة الحق ودعوة الدين وتنفيذ شريعة الله. وكل هذا تعود مصلحته إلى البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، إذ هو دين الله لكافة البشر والذي قال الله فيه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. وقال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]. إذ لولا هذا القتال الذي شرعه الله ﴿لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 40-41]. ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته.
أما حروب الصحابة لفارس والروم فإن الأصل فيها أنها لما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة على الإسلام وعلى التمسك به، والعمل بموجبه، صار أولئك الجيران أعداء لكل من أظهر الإسلام فيؤذونهم ويضربونهم. وقد قتل النصارى بعض من أسلم من المسلمين بالشام، فهم بدؤوا بحرب المسلمين بغيًا وظلمًا. والمسلمون متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، فيجب الدفاع عن أفرادهم كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلدانهم، فيقاتلون في سبيل ذلك حتى تزول الفتنة عن الدين وعن المؤمنين المستضعفين. فأرسل رسول الله سرية أمّر عليهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون مع النصارى، بمؤتة من أرض الشام.
وكان جيران جزيرة العرب من الروم بالشام ومصر وفارس والعراق اعتدوا على بعض من أسلم من المسلمين، فأخضعوهم لسلطانهم وكانوا يكتبون لبعض المسلمين يدعونهم إلى دينهم، كتبوا لكعب بن مالك لما هجره رسول الله على تخلفه عن غزوة تبوك. وكان الصحابة يترقبون هجوم غسان عليهم - وهم ملوك الشام - لما بلغهم أنهم ينعلون الخيل لغزوهم، حتى أصيبت المدينة بالخوف الشديد من ترقب هجومهم، وعند ذلك أمر النبي ﷺ بغزوة تبوك لما بلغه أن الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة بالشام وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين، وساعدهم على ذلك متنصرة العرب. ولهذا أمر النبي ﷺ بالخروج في ذلك الوقت الحرج، وكان المسلمون في شدة من العسرة والمجاعة وانقطاع الظهر ولذا سميت غزوة العسرة، وهي الغزوة التي ظهر فيها صدق المؤمنين ونفاق المنافقين. وقد أرسل النبي ﷺ شجاع بن وهب الأسدي بكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام.
وكانت غسان هم ملوك عرب الشام وكانوا حربًا لرسول الله، قال شجاع: فوجدتهم ينعلون خيولهم لمحاربة رسول الله وأصحابه: فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقدوم قيصر، وقد أقبل من حمص إلى إيلياء (القدس)، قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، قلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه. قال: إنك لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه وكان روميًّا يسألني عن رسول الله، فكنت أحدثه عنه وما يدعو إليه، فيرق قلبه حتى يغلب عليه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أومن به وأصدقه لكني أخاف من الحارث أن يقتلني متى علم بإسلامي.
قال شجاع: وخرج الملك -أي الحارث الغساني- يومًا فجلس فوضع التاج على رأسه وأذن لي بالدخول عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه ثم رمى به كالكاره له وقال: من ينزع مني ملكي؟ وقال: إني سائر إلى صاحبك ولو كان باليمن.
ولم يزل تعرض عليه الخيول ويأمر أن تنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره بخبري وما عزم عليه من غزو الرسول وأصحابه، وأجابه قيصر وقال: لا تسر ولا تعبر إليه واله عنه. فلما جاءه كتاب قيصر دعاني فقال: متى تريد أن ترجع إلى صاحبك؟ قلت: غدًا. فأمر لي بمائة مثقال ذهبًا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال حاجبه: اقرأ على رسول الله مني السلام. فقدمت على رسول الله وأخبرته خبره، قال رسول الله: «بَادَ مُلْكُهُ».
من المعلوم أن فارس والروم كانتا أمتي حرب وقتال، ولديهما الاستعداد التام بالعدد والعتاد وقد ضربتا بجرانيهما على ما جاورهما من بلاد العرب، وسعيا سعيهما في إضلال العرب وإفساد دينهم، وفي تنكرهم لرسول الله وعدم إجابتهم له. والعرب مستذلون تحت سلطانهم وسيطرتهم، ولم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بعد الإسلام.
فلما علما بإسلام العرب أخذا يعملان عملهما في التضييق عليهم وتعذيبهم كي يرجعوا عن دينهم؛ لأنه ساءهما دخول أكثر العرب الإسلام، وخشوا صولة الدين عليهما مما يخافان أن يقوض ممالكهما، فكان كل منهم يهدد دعوة الإسلام في بلاده وبجواره ويمنعون أشد المنع من نشرها في بلادهم، وكانوا يؤذون كل من يظنون أنه أسلم، فكانت حرب الصحابة كلها لأجل حماية الدعوة وحماية المسلمين من تغلب القوم الظالمين، لا لأجل الإكراه على الدخول في الدين.
إن التنازع بين الناس في مرافق الحياة ووسائل المال والجاه والسلطان كله غريزة من غرائز البشر، وقد يقضي التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات كما هي عادة البشر من قديم الزمان، وقد يكون التنازع والتقاتل لسبب تملك الأقطار واتساع العمران وتسخير الناس للسلطة الظالمة والسلطان الجائر، فيكون ضرره كبيرًا وشره مستطيرًا، أما القتال المذكور في القرآن وفي سيرة الرسول وخلفائه وأصحابه فإنه مبني على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة للبشر كلهم، فما كان النبي ﷺ يطلب بالقتال ملكًا ولا مالاً ولا سلطانًا، وقد عرض عليه رؤساء قريش كل ذلك على أن يكف عن دعوته فلم يقبل، وإنما يطلب أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر. وكان قتاله ودفاعه في سني الهجرة دفاع الضعيف للقوي إلى أن أظفره الله وأظهره على قريش بفتح مكة عنوة.
إن المسلمين في دعوتهم لأمتي فارس والروم لم يستعملوا القوة في بداية أمرهم، وإنما كانوا يطلبون من الممتنعين أن يسمحوا لهم بنشر دين الله في بلادهم، دين الحق، دين جميع الخلق والذي أوجب الله أن ينذروا به ويبلغوه جميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19]، فهم ينذرون ويحذرون ويبشرون بقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦﴾ [المائدة: 15-16]؛ لأنه دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة والناس ينصاعون لاستجابة دعوته، ومن لوازمه تقويض دعائم ملكهم وسلطانهم، وحتى النصارى في هذا الزمان فإن أشد ما يقع بأسماعهم هو الدعوة إلى الدين. وهذه غاية القتال لأهل الكتاب المشار إليها بقوله تعالى: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩﴾ [التوبة: 29]. إن قيام الإسلام إنما هو بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع على بلدان العالم إنما هو بموافقته للفطرة والمصلحة، ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85]، فكان الصحابة في فتوحهم لا يتقدمون خطوة إلا والدعاة أمامهم يبينون للناس حقيقة الإسلام وما يترتب عليه من الفضل في الدنيا والسعادة في الآخرة، وبسبب هذا القتال في سبيل الله وفي سبيل حرية الدعوة حصل ما ترتب عليها من الفتوح للأقطار وسائر الأمصار حتى انتشر فيها الإسلام وصار أكثر النصارى من الأمم حنفاء لله يعبدونه ولا يشركون به شيئًا. ثم إن المسلمين عاملوا من دخل تحت سلطانهم معاملة حسنة بمقتضى العدل والإنصاف، حيث ساووهم بأنفسهم في جميع معاملات الحياة وأقاموا أنفسهم مقام الحماة لهم دون دمائهم وأموالهم، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، ولا لمعابدهم ومقدساتهم. وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وهذا مما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الشك والجدل، ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩﴾ [المائدة: 19]، ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64]. وحيث أمر الله بإبلاغ القرآن والإنذار به والدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن، فمتى منع المسلمون من ذلك وهدد الدعاة أو منعوا من نشر دعوتهم في البلاد، فإن المانعين لهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بقطع سبيل الدعوة إلى ربهم وإلى ما فيه صلاحهم وصلاح البشر كلهم، بسبب منعهم عن نشر دين الله في بلادهم، فعند ذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل نشر دين الله، فيقاتلون في سبيل الله دفعًا لشرهم، فإن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والفتنة فيه أشد من القتل، يقول الله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193]. فالإسلام لم يدع إلى قتال الكفار إذا هم أذعنوا ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشركهم ولا تشكيكهم ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن أجابوا الدعوة قبل منهم، وإن امتنعوا طلب منهم الجزية وهي نزر حقير ترمز لخضوعهم للإسلام وارتباطهم بعهده وعقده وكف الأذى والاعتداء على الدين وعلى المسلمين مع بقائهم على دينهم، ثم إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
والحقيقة أن المسلمين إنما شهروا سيوفهم لضرورة الدفاع عن أنفسهم وكفًّا للعدوان عنهم وعن دين الله الذي أمروا أن يبلغوه، فهم لم يستعملوا القوة إلا عند الحاجة وفي حالة الضرورة وقد فتحوا بعض البلدان بدون قتال لموافقة أهلها لدخولهم ونشر دعوتهم فيها. وسيرة النبي ﷺ وأصحابه في القتال مبنية على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة لكافة البشر من غير اعتداء على دين أحد أو ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده. * * * وأما استدلال الكاتب بقتال الصحابة للخوارج زاعمًا أن قتلهم هو من المبادأة التي هي الطلب، ويسمى الهجوم، وأنه لم يوجد منهم من التعدي أو الابتداء بالاعتداء ما يوجب قتلهم وقتالهم.
أقول: إن الخوارج إنما سموا خوارج من أجل أنهم خرجوا على الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وعلى الصحابة، وقد وصفوا بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان. وسبب خروجهم أنه لما وقع التحكيم بين علي ومعاوية وقد اتفقا على تحكيم أبي موسى الأشعري عن علي وعمرو بن العاص عن معاوية، فعند ذلك قالوا: حكمتم الرجال ونبذتم كتاب الله وراء ظهوركم. وحكموا بكفر الصحابة لهذا السبب، وهم غوغاء الناس. والغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان. وقد وصفهم رسول الله بأنهم: «صغار الْأَسْنَانِ، وَسُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوْقَ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ»[70]. فخرجوا من صف علي ومعاوية وقد عرفوا بالشجاعة والشدة والغلو الزايد، ويكفرون الناس بالذنب.
وقد استشار علي رضي الله عنه الصحابة في قتالهم أو قتال أصحاب معاوية، فأشاروا عليه بالبداءة بقتالهم قائلين: إن بقاءهم على حالهم خطر علينا وعلى أهلنا وأولادنا. فاستعان بالله ثم قاتلهم على النهروان حتى هزمهم. وقد قال النبي ﷺ: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ». فكان علي رضي الله عنه أولى الطائفتين بالحق عند أهل السنة، ومع ذلك قد قيل لعلي: أكفار هم؟ قال: لا، بل من الكفر فروا، إخواننا بغوا علينا. فقتال الصحابة لهم هو نوع من الحدود الشرعية كقطاع الطريق. وقد بدؤوا يعيثون في الأرض الفساد بقتل بعض الأفراد أشبه بقطاع الطريق الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ﴾ [المائدة: 33]، وحسبك أنهم كفروا الصحابة. فقتال الصحابة لهم هو دفع لشرهم ويدخل في نوع الجهاد بالدفاع وهو واضح جلي لا مجال للشك في مثله. فلا وجه لدعوى عدم تعديهم إذ الحقائق تكذب ذلك، ويعدون عند العلماء من المبتدعين وليسوا من القوم الكافرين. * * *
[70] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.
إن النبي ﷺ أعطى أمته مثلاً عاليًا في تصرفاته ومعاملته مع المخالفين له في الدين من أهل الكتاب وغيرهم من سائر المسالمين لهم، فقد كان يجيب دعوتهم ويعود مرضاهم ويرد السلام عليهم.
ففي البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ». حتى إنهم في تحريفهم الكلم عن مواضعه يقولون: السام عليكم؛ يعني الدعاء بالموت، فيرد عليهم النبي ﷺ فيقول: «وَعَلَيْكُمْ».
كما في البخاري عن عائشة قالت: إن اليهود أتوا النبي ﷺ قالوا: السام عليكم. فقلت: بل عليكم السام واللعنة. فقال: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، فَعَلَيْكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ والفُحْشَ». قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ».
لقد سعى رسول الله عليه الصلاة والسلام بشريعته السمحة وعدله الشامل إلى أسس علاقات المسلمين بغيرهم من المخالفين لهم في الدين فسمى الله الإسلام سلمًا لأنه مبني على المسالمة والأمان، قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]، فسمى الله الإسلام سلمًا، فهو يؤثر السلم على الحرب، كما قال سبحانه: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61]؛ أي إذا كنت في حرب مع أعدائك ومالوا إلى السلم والمصالحة فأجبهم إلى ذلك. وقد جعل الله السلام تحية أهل الإسلام يتبادله المسلمون في صلواتهم وفيما بينهم، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام، فتسلم على من عرفت ومن لم تعرف.
والسلام هو دعاء بالسلامة وبمعنى الأمان، فمتى سلم إنسان على آخر فرد عليه السلام، فكأنه قد دخل معه في عهد وأمان، يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ﴾ أي تثبتوا ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٩٤﴾ [النساء: 94]. وسبب نزول هذه الآية أن سرية من أصحاب النبي ﷺ جاؤوا إلى صاحب غنم، فلما أقبلوا عليه قال لهم: السلام عليكم. فلم يردوا عليه، وقالوا: إنه ليس بمسلم وإنما سلم علينا ليحرز عنا غنمه بالسلام. فسبقهم القرآن بخبرهم، وفيه الأمر بالتثبت حيث كرره مرتين متى ضربوا في الأرض غزاة خشية أن يصيبوا قومًا بجهالة، ولأن أعمال الناس يجب أن تجري على حسب ما ظهر منهم، ويرشد القرآن الحكيم إلى أنكم كنتم كفارًا مثلهم فهداكم الله إلى الإسلام، فاشكروا الله على نعمة الهداية، فإن ربكم يحب الشكر.
ومن سماحة الإسلام ما ثبت عن النبي ﷺ من أخلاقه ومعاملته مع المخالفين في الدين، فمن ذلك ما روى أبو داود، حدثنا سليمان بن حرب، أنبأنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، أن غلامًا من اليهود كان مريضًا، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسْلِمْ». فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فأسلم، فقال النبي ﷺ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ». وتوفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير[71].
وروى الطبراني من حديث جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الْجَارُ الْكَافِرُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ». فجعل للكافر حقًا بجواره «وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ الْجَارُ ذُو الرَّحِمِ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ».
وكان ابن عباس يقول: هلا أهديتم إلى جارتنا اليهودية. حتى قال له غلامه: كم تقول لنا هذا! من كثرة ما يكرره عليهم، فقال: إن النبي ﷺ أوصانا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه.
ومن سماحة الخلفاء الراشدين مع المخالفين لهم في الدين ما ذكره الموفق بن قدامة في رسالته الرد على الموسوسين وحاصله أن عمر لما قدم الشام صنع أهل الكتاب له طعامًا، فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة. فكره دخولها وقال لعلي: اذهب بالناس. فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا، وجعل علي ينظر إلى الصور وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل.
فالإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام يحث على الإحسان إلى المسلم والمخالف له في الدين، وقد سأل الصحابة عن الصدقة على أقارب لهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ﴿۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272]. فأمروا بالصدقة عليهم، كما يدل قوله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨﴾ [الممتحنة: 8]. إنه لما امتد سلطان المسلمين على البلدان الأجنبية واتسعت فتوحهم في الأقطار الأجنبية صاروا يعاملون أهل الكتاب بأحسن معاملة من العطف واللطف والمساواة في الحقوق؛ لأن شريعة الإسلام توجب على المسلم أن يتواضع مع خصمه من أهل الكتاب في الجلوس للقضاء مهما كانت منزلته ورئاسته، كما جلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع اليهودي صفًّا بصف بين يدي عمر بن الخطاب فقضى بينهما، حتى إن عليًّا رضي الله عنه استدرك على عمر قوله له: قم يا أبا الحسن واجلس مع خصمك. فمن بعد الفراغ من الخصومة قال عمر: أكرهت يا علي أن تجلس مساويًا لخصمك. قال علي رضي الله عنه: كلا، ولكني كرهت حين قلت: يا أبا الحسن. يريد أن الكنية تشير إلى التعظيم أمام الخصم.
وكان أهل الكتاب يعيشون مع المسلمين متجاورين متساعدين، ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦﴾ [الكافرون: 6]، فلا يتعدى بعضهم على بعض ولا يجعلون اختلاف عقائدهم سببًا لمثار النزاع بينهم، وصار النصارى يعيشون مع المسلمين في أمان واطمئنان، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وسموا أهل الذمة من أجل أنهم في ذمة الله وذمة المؤمنين، من رامهم بسوء غرم وأثم. وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب أوصى في مرضه بأهل الذمة وقال: أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. فصار الجميع يتعاونون على الكسب والسعي والعمران وفنون العلم والعرفان، وأخذ الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون ينشرون عليهم ظلًّا ظليلاً من الرعاية والاحترام، فيحترمون معابدهم وكنائسهم، فلا يتعرض لها أحد منهم بضرر ولا يمنع أهلها من دخولها، ثم إن المسلمين يعولون سائر العجزة والعميان ومن لا كسب له، فيقومون بكفايتهم من المعيشة والكسوة كسائر ضعفة المسلمين.
وفي الصلح الذي أجراه رسول الله مع وفد نجران ما يدل على ذلك، فقد روى أبو عبيد رحمه الله أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران فكتب لهم كتابًا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه محمد النبي لأهل نجران وحاشيتها، لهم ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وصلبانهم وبيعهم -أي كنائسهم- ورهبانهم وأساقفتهم -أي علمائهم- على أن لا يغير لهم أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيته، وعلى أن لا يخسروا ولا يعشروا، ومن ملك منهم حقًّا فالنصف بينهم على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا منهم فذمتي منه بريئة وعليهم الجهد فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معسوف عليهم. شهد عثمان بن عفان ومعيقيب والأقرع بن حابس وغيلان بن سلمة وأبو سفيان بن حرب».
وقد قيل: إن النبي ﷺ فرش لهم عباءته وأجلسهم عليها. وقد عمل الخلفاء الراشدون مع المخالفين لهم في الدين كل ما أوصى به رسول الله في هذا الصلح الواقع بينه وبين أهل نجران، فأبقوهم على عقيدتهم وملتهم وصلبانهم وكنائسهم، ولم يكرهوا أحدًا على الخروج عن دينه، وبسبب هذا التسهيل وعدم الإكراه في الدين أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه فإنه آمن على نفسه وماله وعياله.
وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلدان ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء النصارى، فإن من تعاليم المسيح الأمر بالهدوء والعفو والصفح وعدم الانبعاث بالشر، لكنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيح أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين، وسفك الدماء والتمثيل وتشويه الأبرياء وخطف الأولاد والنساء وهدم المساجد المشيدة للعبادة وقتل الرهبان في كنيستهم، ودين الإسلام وسائر الأديان تحرم قتل الرهبان وهدم المساجد والكنائس وسائر المواضع المشيدة للعبادة، وناهيك بحوادث لبنان في هذا الزمان فإنها لم تشهد لبنان ولا غيرها من البلدان أبشع ولا أشنع منها، حتى صارت لبنان نيرانًا مستعرة وأنقاضًا مستقذرة.
وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب وأسوأ النتائج عليهم وعلى كافة الناس معهم، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔا﴾ [المائدة: 41]. والفقهاء المتقدمون لم يهملوا حقوق أهل الذمة، وقد نصوا على وجوب الرفق بهم ودفع من يتعرض لأذيتهم، فقال الشهاب القرافي، وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام، في كتابه الشهير الفروق:إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وفي ذمة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله ﷺ وذمة دين الإسلام. وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة. وقد شهد المؤرخون من سائر الأمم بأنه ما عرف فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا في الفتوح من المسلمين حين دخل الإيمان قلوبهم، بل ولا أعدل ولا أرحم منهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان بالله وحده والسياسة بالعدل والإصلاح، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم ويدينوا بدينهم ويتعلموا لغتهم إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الكفيل بسعادة البشر كلهم، الصالح لكل زمان ومكان، الذي نظم حياة الناس أحسن نظام.
فهو السبب الأعظم الموجب لدخول الناس من جميع الأمم في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، وهذا أمر مشهور ومشهود به بين سائر الأمم، يعرفه كل من عرف الإسلام وأهله.
قال لوثروب ستودارد الأمريكي في كتابه حاضر العالم الإسلامي:كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق للعادة عوامل ساعدت عليه أكبرها: أخلاق العرب وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته السمحة.
وقد عرف العرب بدورهم كيف يسوسون الحكم ويوثقون السلطان حتى دانت لهم أمور الملك واستقرت نقطة دائرته في أيديهم.
فالعرب المسلمون في فتوحهم لم يكونوا قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك، أمة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعمة التهذيب، تلك النعمة التي انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد كان اختلاط بعضهم ببعض سريعًا وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة؛ الحضارة العربية الإسلامية.
فسارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير، فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارةً ورقيًّا وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة والحواضر العامرة والمساجد الفخمة والجامعات العلمية المنظمة طول هذه القرون الثلاثة.
قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: سيرى القارئ حينما نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن هي العامل في انتشار الإسلام، ولكن العرب تركوا المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فانتحل بعض الشعوب من النصارى دين الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم ودينًا لما يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لا عهد للناس بمثله، ولما كان عليه دين الرسول من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى قبله.
وقال أيضًا في موضع آخر: يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصار أناس فيقترفون ما يقترفه الفاتحون عادة ويسيئون معاملة المغلوبين ويكرهونهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في أنحاء العالم، ولو فعلوا ذلك لتألبت عليهم جميع الأمم.
ولكن الخلفاء السابقين -أي الراشدين- الذين كان عندهم من العبقرية ما يندر وجوده في عادة الديانات، أدركوا أن النُّظم والأديان ليست مما يفرض قسرًا على الناس.. فعاملوا أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، فارضين عليهم جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن بينهم.
والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل قدماء المسلمين، فرحمتهم وتسامحهم كان من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق الكثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة ومخلدة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، وإن أنكر ذلك المؤرخون.
وقال ميشود في كتابه تاريخ الحروب الصليبية: إن الإسلام الذي أمر بالجهاد هو متسامح نحو الأديان الأخرى وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وقد حرم قتل الرهبان على الخصوص لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون من المسلمين العدد الكثير وحرقوا اليهود عندما دخلوها.
فهذه المقالات من المؤرخين الذين يعتنون بضبط الحوادث وتشخيصها على صفتها وهم لا يمتون إلى الإسلام بصلة، وإنما يعطون الحوادث حقها من العناية والتفصيل، وكفى بالله شهيدًا. * * *
[71] أخرجه البخاري من حديث عائشة.
إن الله سبحانه قد ضمن النصر للمؤمنين المجاهدين فقال سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٥١﴾ [المؤمن: 51]، وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]، فهذا النصر المضمون للمؤمنين هو مشروط بنصرهم لدين الله وحمايته والذود عن حدود المسلمين وحقوقهم وحرماتهم، وأن يجاهدوا أنفسهم على القيام بواجبات دينهم قبل أن يجاهدوا عدوهم، حتى يكون الله وليهم وناصرهم والمعين لهم على عدوهم، ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ [محمد: 7]. ولابد مع هذا من الأخذ بأسباب الوسائل من الحزم والعزم والاستعداد بالقوة، كما أرشد إليه الكتاب العزيز في قوله: ﴿خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء: 71]، وقوله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60]، والقوة تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، ولكل زمن دولة وقوة ورجال تناسب حالة القتال وزمانه. أما إذا تخلف عملهم عن واجبات دينهم ولم يستعدوا بالحزم والعزم والقوة لجهاد عدوهم، فإنه يتخلف عنهم هذا النصر المضمون لهم؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، والاتكال على الإيمان بدون عمل يعتبر عجزًا ومخالفة لأمر الله ورسوله.
ولهذا يجب التفكير في سبب تخلف هذا النصر عن المؤمنين طيلة هذه السنين في قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]، ولن يخلف الله وعده، وإن تخلف هذا النصر هو من أجل تخلف إصلاح الأحوال والأعمال، فتسلط الأعداء عليهم في حال تقصيرهم بواجبات دينهم وعدم استعدادهم بالقوة لمجابهة عدوهم، ثم وقوع الفتن والعداوة والبغضاء بين حكام المسلمين وزعمائهم، حتى صار بأسهم بينهم شديدًا مما أوجب تشتيت شملهم وذهاب حولهم وقوتهم، ولن تقوى صولة الباطل وتعظم شوكته إلا في حالة رقدة الحق وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]، غير أن الشيطان يخوف ويخذل ضعفة الإيمان ويعظم شأن أعدائهم في نفوسهم، مما يدخل الرعب والرهب في نفوسهم منهم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧٥﴾ [آل عمران: 175]؛ أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في نفوسكم. ومن هذا التخويف ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم حتى ظنوا أنهم لن يغلبوا لشدة كيدهم ومكرهم وتوفر وسائل القوة لديهم، وقد غزوا قلوب أكثر الناس بالرعب والرهب.
ونسوا أن الله سبحانه قد وعد عباده المؤمنين بالنصر عليهم فقال تعالى: ﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١ ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ١١٢﴾ [آل عمران: 111-112]. إنه من المعروف المألوف عن اليهود أنهم أجبن الناس عند اللقاء وجهًا لوجه؛ لأنهم كما أخبر الله عنهم أحرص الناس على حياة.
لكنهم وجدوا في هذا الزمان ملجأ منيعًا رفيعًا من متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء ثم يمطرون الناس بقذائف التعذيب والتخريب. ولن يستمر لهم هذا الصنيع إن شاء الله فإن المسلمين لديهم المادة المالية التي تؤهلهم لإدراك كل ما يريدون من وسائل القوة المماثلة أو الزائدة على قوة الأعداء مع قوة الإيمان بالله عز وجل، ومتى صدقت العزيمة وقويت الإرادة حصل المراد، وقد قيل: إن الحاجات هي أم الاختراعات. والمال هو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب، إن المصارعة بين الحق والباطل والقتال بين المسلمين والكفار لا تزال قائمة وموجودة من لدن خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة، والعاقبة للتقوى. فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو ظن أن الله يديل اليهود على المسلمين إدالة مستمرة، فقد ظن بالله ظن السوء.
لكن الله سبحانه بحكمته يؤدب عباده، فإذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، والباطل لا تقوى شوكته ولا تعظم صولته إلا في حال رقدة الحق عنه وغفلته عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله تعالى ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]. ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩﴾ [البقرة: 249]. غير أن للباطل صولة نعوذ بالله من شرها لكن عاقبتها الذهاب والاضمحلال، ومن هذه الصولة ما وقع في قلوب أكثر الناس من شدة خوفهم من اليهود وتعظيمهم في نفوسهم.
وكل شيء مرهون بوقته ومربوط بقضاء الله وقدره وعند التناهي يقصر المتطاول. إن هؤلاء الآيسين من رحمة الله والقانطين من نصر الله قد نسوا قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ﴾ [الأعراف: 167]، وصدق الله العظيم فإن هذا العذاب الذي وعدهم الله بأن يساموا به هو ضربة لازب في حقهم لا يفارقهم ولا يزال ملازمًا لهم بأيدي المسلمين أو بأيدي من يسلطهم الله عليهم من سائر الأمم، فإن الله سبحانه يولي بعض الظالمين بعضًا، وما سيقع بهم إلى يوم القيامة أكثر وأعظم، ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ [فصلت: 53]. إن هذا الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الفتك والسفك والعدوان الواقع من اليهود على العرب المسلمين الفلسطينيين طيلة هذه السنين، حتى أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم إلى الصحراء، واستولوا عليها قسرًا وقهرًا، وأخذوا يسومونهم سوء العذاب من القتل والتضييق والإرهاق حتى بلغ الأمر بهم إلى أشد الاختناق وإلى حد ما لا يطاق، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩﴾ [الحج: 39]، قد عرف العقلاء أن هذا التغلب والاستيلاء من اليهود إنما حصل بسبب ذنب من المسلمين اقترفوه ولو استقاموا ما سقموا، فإن ذنوب الجيش جند عليه والله تعالى يقول: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَ﴾ [النساء: 79]، فبسبب الاختلاف في النزعات والأهواء بين الملوك والزعماء تقطعت وحدة المسلمين إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشت من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، وهي فرصة سنح للعدو فيها المواثبة، فقويت شوكته وعظمت صولته وتسلط على المسلمين بجبروته وقوته، حتى أخذ الناس يقولون: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب، وإن هذه الطائفة الباغية الطاغية التي حلت بساحة العرب المسلمين تقتل الأنام وتحاول أن تجتث أصل الإسلام ينسلون للتعاون من كل حدب ويتواثبون على أهل الإسلام من كل جانب، فإن جهادهم واجب على المسلمين بكل الوسائل، فمن لم يقدر عليه ببدنه وجب عليه بماله؛ لأن المال بمثابة الترس يُستجلب به العدد والعتاد ووسائل الجهاد ويستدفع به صولة أهل الكفر والعناد. إن منشأ هذا التغلب بطريق الطفور من طائفة اليهود هو أنهم وجدوا جوًّا خاليًا لا يقال لهم فيه: إليكم إليكم. فأخذوا يبيضون ويصفرون ويصنعون من السفك والفتك ما يريدون، وإلا فإنهم أجبن أمة عند اللقاء، وقد جرب المسلمون ذلك معهم في ذي الحجة عام87 هجري الموافق 68 ميلادي[72]، حيث هزموهم بإذن الله بدون عناء لولا إنقاذ أمريكا لهم، وصادفهم أهل الأردن وخاصة الفدائيين فهزموهم واستولوا على قواتهم وقتلوا منهم عددًا كثيرًا، ورجعوا منهزمين يائسين حزينين، وهذه سنته سبحانه فيمن طغى وبغى وتجبر على الناس.
إن هذه القضية قد حركت كل من في قلبه غيرة دينية أو نخوة عربية، فساهموا في الفضل وتنافسوا في البذل، فساحت أيديهم بالندى وتساعدوا على دفع الاعتداء، ﴿هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦ﴾ [محمد:38]، ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16]، والله أعلم.
﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢﴾. وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 14 جمادي الآخرة
سنة 1398هـ. * * *
[72] يوم الخميس 22 ذي الحجة 1387 الموافق 21-3-1968م.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، ثم الصلاة والسلام على محمد رسول الله.
أما بعد:
فإن من واجب العالِم أن يبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم من كل ما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم، نصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ لورود الوعيد الشديد في وجوب البيان وتحريم الكتمان، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠﴾ [البقرة: 159-160]. وإن دين الإسلام الذي نعتقده وندين الله به هو كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع مستقبلاً، فمتى أُخذ الدين على وجهه الصحيح فإنه دين السعادة ودين السياسة والسيادة يهدي للتي هي أقوم.
وقد أخطأ من ادعى عزل الدين عن الدولة فإنه لا دنيا إلا بدين، وإلا بقي الناس كالبهائم الهائمة، لكنه متى ادعى الدين من لا يحسن حمله، ولا يخشى الله فيه، ويجعل الدين سُلَّمًا إلى نيل مقاصده السيئة، فإنه حينئذ تذهب نضارته، وتسوء سمعته، ويحتقب الناس عداوة أهله، حتى يصيروا فتنة لكل مفتون. وقد قيل: إن محاسن الإسلام تختفي بين الجاحدين والجامدين.
وما يشعرني أن أحدًا هؤلاء عندما يقرأ هذه الرسالة أنه يتناولني بالملامة، ويقول: ما للشيخ ابن محمود وإدخاله الجندية في الدين وهي ليست منه؟ حتى كأنها بظنه في معزل عن الدين.
وأقول لمن لامني: إليك عني، فإنني إنما استخرجت القول فيها من مفهوم قول النبي ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[73]. وليس الفقه في الدين بمقصور على الفقه في أحكام الصلاة والصيام والحج، بل هو أعم وأشمل. فهذا القرآن مملوء بذكر القتال والجهاد والاستعداد بأخذ القوة له وأخذ الحذر. والنبي ﷺ قد حذر وأنذر من الفتن التي ستثور وتكثر في آخر الزمان، مما يصدقها الواقع المحسوس بالعيان. فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر: قال: كنا مع النبي ؟ في سفر، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. فاجتمعنا فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا». ومعنى الحديث: «يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا» يعني أن الآخرة شر من الأولى، ويكون نتيجتها القتل والقتال حتى يقل الرجال ويكون لخمسين امرأة قيم واحد، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، حتى كأن الأمر يزداد جلاءً وظهورًا على سبيل التدريج.
ولما جيء بكنوز كسرى فوضعت بين يدي عمر بن الخطاب بكى، قيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الدين وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟ فقال: نعم، ولكنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنها لن تفتح الدنيا على قوم إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء، فهذا الذي أبكاني»[74].
فمتى كان الأمر بهذه الصفة أفليس من الحزم وفعل أولي العزم أن يؤخذ لهذا الإنذار والتحذير عدته، بما يستطاع من الحيلة والحول والقوة وغير ذلك من كل مما يقي الناس ويقويهم ويرقيهم؛ لكون الأمور في النجاح بعد الله منوطة بالأسباب والوسائل؟ كما قيل: فالدين يجعل المسلم مطمئنًا في سرائه وضرائه، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له؛ وليس ذلك إلا للمؤمن، والأنبياء هم أشد الناس بلاءً في الدنيا ثم الأمثل فالأمثل، والناس في الدنيا بين حارث وهمام كما في الحديث: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ»[75]. فالهمام هو الذي يهم بقلبه سأفعل كذا وكذا، والحارث هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى ما يوجهه إليه قصده ورغبته من علو همته أو دنوها. ومن المشاهد بالتجربة والاعتبار أن الغرق في الترف والميل إلى الميوعة في النعيم والراحة والرفاهية غاية في إفساد بنية الجسم وعدم صحته، فجنايته على نفسه هي أعظم من جناية عدوه عليه. كما قيل:
هذا وإن الحاجات هي أم الاختراعات، وقد قيل:
لله در النائبات فإنها
وإن أشد ما يبتلى به الشاب هو العطالة والبطالة اللتان ينشأ عنهما العجز، ثم حديثه نفسه بأنه لا يستطيع هذا العمل لمشقته، أو لا يستطيع عمل هذه الصنعة لمشقتها، أو لا يستطيع الجهاد والتمرن على وسائل القتال لصعوبتها وخطر النفس فيها، أو لا يستطيع التجند لصعوبته، وغير ذلك من حديث النفس الذي يقضي على الشخص بالمهانة والحرمان، وكل هذا نتيجة العجز الذي استعاذ النبي ﷺ منه بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ»[77]. وهو لا يستعيذ إلا من الشر، وقد قيل:
ومثله هجاء جرير لقوم حين يقول:
ولما أحس عمر بن الخطاب بانزلاق الناس في هذا النعيم والترف، وخشي عليهم أن تنحل عزائم حزمهم وقوتهم، كتب إلى عتبة بن فرقد يأمره بالرجوع إلى ما كانوا عليه أولاً من خشونة العيش، ويأمره بأن يرموا ويتسابقوا وينزوا على الخيل ويتمعددوا ويمشوا حفاة ومنتعلين؛ حرصًا منه على بقاء خشونة الرجولة وعدم ما يضادها من الميل إلى الميوعة فيها التي من لوازمها استرخاء الأعضاء بعد صلابتها.
وفي مسلم عن أبى عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه: يا عقبة بن فرقد، إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير.
وهو في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح، كما في الفروع: أما بعد؛ فاتزروا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم. وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب و انزوا وارموا الأغراض.
وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك، وأن عتبة بن فرقد قد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود، فلما رآه عمر قال: أَيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال لا. قال: عمر: لا أريده. وكتب إلى عتبة أنه ليس من كدك... الحديث[80].
هذا وإن الفرص تمر كمر السحاب، وإن غالب هذه الأشياء التي نحث على فعلها وعلى التخلق بها والقدوة عليها، كلها منوطة بشرخ الشباب الذي يتمنى كل شيخ الرجوع إليه وعوده إليه.
ثم إن من الحزم وفعل أولي العزم كون الرجل العاقل المفكر يقدر وقوع ما عسى أن لا يقع، ثم يمثل حاله فيه عند فرض وقوعه، وما عسى أن يصنع من الحول والقوة في سبيل دفاعه عن أهله ووطنه، إذ الحوادث تفاجئ الناس وهم في غفلة ساهون. إن المكارم منوطة بالمكاره، وإن السعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٤٢﴾ [آل عمران: 142]، وقال: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤﴾ [البقرة: 214]. والنبي ﷺ قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[81]، وذروة السنام هو أعلاه. والجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في كل ما ينفع الناس من أمور الدنيا والدين، وهو فرض عين عليهم إذا دهمهم العدو في بلادهم، وفرض كفاية في غير ذلك. ولا نقول: إنه قد مضى وانقضى فإنه على رجعه لقادر، وقد فاز به السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. فقد باعوا أنفسهم إلى الله وحبسوا أبدانهم في حراسة الرُّبط في سبيل الله.
وإن من واجب المسلمين في كل بلد أن يتمرن شبابهم وذوو القوة منهم على معرفة ملاعبة السلاح بأنواعه وأدوات القتال بأنواعها من طائرات حربية ودبابات ومدافع وسلاح على اختلاف أنواعه، إذ التعلم لهذه الأشياء واجب على العموم، لا نقول: على كل فرد، وإنما نقول: على سبيل العموم. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [المزمل: 20]، وقال: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢﴾ [التوبة: 122]. يقول العلماء المحققون: إن كل ما يأمر الله به في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يتعلق بالقتال أو الصناعة وخاصة صناعة الأسلحة على اختلاف أنواعها وكذا الزراعة، فإنه من أمر الدين الذي يجب تعلمه وتعليمه وإلا أثم الناس بتركه، وخسروا حياتهم وعزهم بإهماله، إذ هو مما يحتاج إليه الناس بداعي الضرورة واختلاف الأحوال وإثارة الفتنة. ولكم في كتاب الله أسوة حسنة.
يقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾ [الأنفال: 60]، وهذا أمر من الله يقتضي الوجوب. والقوة شاملة لكل ما يتقوى به الناس على عدوهم، من طائرات ودبابات ومدافع وأنواع السلاح والسفن البحرية والمراكب البرية، لكون القوة تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومدار القوة على العلم بالصنائع والمخترعات وعلى المال الذي يستجلب به الصانع والمصنوع كما قيل:
لقد أثبت التاريخ في حروب الأمم السابقة مع أنبيائهم أن قتالهم كان بمجرد الحصى، يترامون به بطريق المقلاع وبالأيدي، وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُ﴾ [البقرة: 251]، قالوا: داود قتله بحجر في مقلاع حتى أصابه في رأسه فقتله. وقد قال الشاعر:
وإن كل عاقل سيدرك معي عظمة الفرق بين قتال المتقدمين وسلاحهم وبين المتأخرين، وإن صناع هذا العصر قد اختلقوا سلاحًا فتاكًا على اختلاف أنواعه، لا يُبقي ولا يَذر، وهو غلق صعب لا يعرفه إلا من اعتاد التمرن على مزاولته؛ لأن كثرة المزاولات تعطي الملكات، ويهدد بالقضاء على البشر لارتقاء أهله في العلوم المادية وهبوطهم في الأخلاق الدينية.
وإن من المعلوم اليقيني أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد جناية عليهم وعلى الإنسانية من جناية عدوهم عليهم، إذ إن توسعهم في العلوم والفنون واختراع الأسلحة الثقيلة التي يستعدون بها للحروب الكبيرة التي يدمرون بها في الأيام القليلة صروح العمران ومشيد البنيان من كل ما شيدته العصور الطويلة، وناهيك باختراع القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين المسالمين غير المحاربين من بين النساء والحوامل والشيوخ والأطفال والبهائم، وتفسد الحرث والنسل، ونزفها لمعظم ثروة الشعوب في سبيلها، وفي سبيل ظلمها للشعوب التي ابتليت بالسلطان الجائر الذي يحاول سلبهم حريتهم في دينهم ودنياهم، وصارت الدول الكبرى التي اخترعت هذه الأدوات اليوم هم أشد خوفًا على أمتهم، وقد وقع بهم وسيقع في مستقبل الأمر ما حذرهم ربهم من وقوعه بقوله: ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ﴾ [الرعد: 31]. لكون هذا السلاح موضوعًا للبيع ويتسرب أكثره إلى البلدان العربية.
وإنه من الواجب على عموم الناس ولا نقول بوجوبه على كل فرد، وإنما يجب على العموم، بأن يوجد منهم من يتفرغ من شبابهم لسياسة هذا السلاح وثقافة العلم به بمهارة، بحيث يعلم بعضهم بعضًا، وإذا تركوا هذا التعلّم أثموا وخسروا شبابهم وعزهم؛ لأن كل ما أمر الله به فإنه من ديننا الذي يجب أن نتعلمه وأن نعلم الناس به.
إن أكثر بلدان العرب المسلمين تغص من كثرة الأجانب الغرباء متفرقين في سائر الأعمال والمعامل، وكثير منهم يدخلون في الجندية لكنهم عندما يحسون برائحة الحرب في البلد فإنهم يفرون إلى أهلهم وبلادهم، ويتركون نار الحرب تغلي أكباد أهل البلد، فهم الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل حماية بلدهم وحياة أهلهم وأولادهم ويقولون:
إن الناس يستبشعون سماع الجندية ويستوحشون من الدخول فيها، وخاص الأسر والعوائل الفاضلة. وكنت ممن يكره ذلك، وقد طلب مني أحد أولادي الالتحاق بها فمنعته، لكنه لما راجعني الفكر الصحيح عرفت تمام المعرفة وجوب دخول بعض أولادي فيها؛ لكونها من باب الجهاد في سبيل الله دون الأنفس والوطن ودون الحدود والحقوق، ويكتسب منها حذاقة ومعرفة لسائر ما يجب أن يعلمه من وسائل القتال وسياسته، ومن المعلوم فضل العالم على الجاهل، فيترقى بها الإنسان إلى زيادة المعرفة في مواد القتال وفي ميادين الحركة والقوة والسياحة والسباحة وسائر ما يتمنى الإنسان الإحاطة بعلمه، ويكتسب بها الترقي في الراتب والرتبة.
والجندية مشتقة من التجند للقتال، وكان العلماء يسمونها بالفروسية، و لهم فيها مؤلفات في المسابقة والمصارعة والسباحة والحذق بمعرفة مواد القتال. فالجندية فيها فضل وشرف وحذق وَظَرف يستحقه من تسمى بها.
وعلى كل حال فإن من التحق بها وأصلح نيته وعمله فيها فإنه يستوجب الثناء والمدح ولا يلام ولا يذم لكونها من أشرف الأعمال.
يبقى الكلام فيما للحكومة مع الرعايا إذا استعصت عليها وامتنعت عن الالتحاق بها، فهل يسوغ للحكومة أن تجبر الشباب الصالح للدخول فيها أم لا؟
فالجواب: إنه متى حصل الدخول بالاختيار أو بطريق الترغيب بزيادة الأجر فإنه أفضل، إذ ما يعطونه في سبيل ذلك فإنه نافع وعائد بالنفع على أهلهم وعيالهم وأولادهم، فينبغي للحكومة أن تقدر قدرهم وأن ترفع شأنهم برفع مرتباتهم؛ لكونهم يفنون أعمارهم في سبيل حراسة الوطن وأهله، ومن العادة أن الجندي يشدّد عليه من قبل رئيسه بحيث لا يزول ولا يحول عن عمله ومكانه، فهو بذلك يستحق أن يكرم.
كما يجب على رؤساء القبائل أن يخضعوا لهذا العمل الشريف، وأن يعملوا عملهم في التحاق أولادهم فيه وما هي إلا ساعة ثم تنقضي. فمتى طلبت الحكومة أعيانًا تنتقيهم من أولاد القبائل فإن من واجب الجميع السمع والطاعة فيما يحبون وفيما يكرهون في العسر واليسر، لكون هذا من مصلحة الشباب، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذ لا يتم الاستعداد بالقتال دون حماية الدين والوطن إلا بمعرفة وسائله وأسبابه ثم الدخول فيه من بابه، وفي هذا من مصلحة الشباب أنفسهم ومن مصلحة جميع الناس ما لا يخفى، فما يضر التاجر أو الأمير أو القاضي متى التحق ولده أو أولاده بالجندية سنتين أو ثلاثًا يتدرب فيها ويتعلم مواد القتال وسياسة الرمي بفنون السلاح مما يجعله أن يكون شجاعًا فارسًا حاذقًا.
وقد جعل النبي ﷺ من الصدقة أن تصنع لأخرق[83]، والأخرق هو الساذج غير الحاذق، إذ الفرق واسع بين المثقف العارف بسياسة الرمي والقتال ووسائله وبين الأخرق الساذج عديم المعرفة.
وفي سبيل الترغيب في صناعة السلاح لموجبه أخبر النبي ﷺ أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله[84]. يبقى مراعاة الجند لواجباتهم الدينية فيما بينهم وبين ربهم، والتي هي رأس سعادتهم في دينهم ودنياهم.
[73] متفق عليه من حديث معاوية.
[74] رواه مسلم.
[75] رواه أبو داود من حديث أبي وهب الجشمي.
[76] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث حذيفة بن اليمان.
[77] متفق عليه من حديث أنس.
[78] سلح: بال أو تغوط. وتستعمل للطير والبهائم ولا تستعمل للإنسان إلا مجازًا وتحقيرًا.
[79] وتمام الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ» فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة. قال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ». رواه مسلم.
[80] ص227 (مطلب بيان فضل التواضع في اللباس) الجزء الثاني من كتاب غذاء الألباب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي.
[81] رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
[82] رواه مسلم وغيره.
[83] متفق عليه من حديث أبي ذر.
[84] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر.
إن حاجة الجنود إلى التدين الصحيح هي حاجة ضرورية، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ لأن الدين الصحيح يجعل للمؤمنين من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلوى عافية، فمتى صلح العمل بالدين صار آلة رقي ونشاط.
فجميع التواريخ المشهورة تشهد للإسلام لما كان يعمل به على التمام بأنه لا طاقة لأحد بمصارعته، ولا محيص لأحد عن التزام طاعته، سواء قلنا بحمل الجمع على الجمع أو بحمل الأفراد على الأفراد. وقد أوجب الله على المسلمين بأن لا يفر المائة منهم من مائتين، ولا الألف من ألفين؛ لقوله سبحانه: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٦٦﴾ [الأنفال: 66]. ولم يزل هذا النصر في ازدياد ونشاط زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه الراشدين إلى ثلاثة قرون أو أربعة قرون، لما كان قتالهم للدين وفي سبيل الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع الكافرين بالتي هي أحسن.
وقد أنجز الله لهم ما وعدهم به بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]. وبقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ [المؤمن: 51]. وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ [محمد: 7]. ونصر الله هو أن يقصد بالحرب الدعوة إلى الدين وحمايته، وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، فالإيمان بالله وحده هو من أعظم الأسباب والوسائل المقتضية للنصر، ولكن لا بد مع هذا من الاستعداد بما أمر الله به من أخذ أهبة الحرب وإعداد عدته؛ لقوله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60]. والقوة تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولكل زمان دولة ورجال، ذلك أن المؤمن إذا آمن بالله وتوكل عليه ولم يستعد للأمر بأخذ أهبة الحرب حسب سنة الله في الأسباب والمسببات فإنه يخفق سعيه، ويخيب ظنه، ويكون ملامًا شرعًا وعقلاً على تفريطه وإلقائه بيده إلى التهلكة، ولا ينفعه والحالة هذه إيمانه ولا توكله: وقد أوجب الله إقامة فريضة الصلاة حال التحام القتال وتقابل الصفين، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ﴾ [النساء: 102]؛ لكون الصلاة نعم العون على ما يزاوله الإنسان من أمور الحياة، ولأنها صلة بين العبد وبين ربه، لهذا يجب على الجنود متى بعثوا فرقة إلى مكان أن يؤمروا عليهم أحدهم وأن يأمروا بأداء فريضة الصلاة عند دخول وقتها. كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص قال: أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحروب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفرة المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون على عدوكم.
فما أشد حاجة الجنود ورعاية الشباب وأهل المدارس وسائر الدوائر الحكومية إلى التدين الصحيح الذي تنجم عنه آثاره، وعلى القائمين عليهم أن يمرنوهم على أداء الواجبات الدينية من الفرائض والصلوات في أوقاتها، فإنها نعم العون على ما يزاولونه من أمر دينهم ودنياهم، كتمرينهم لهم على الفنون العسكرية، فإن من شب على شيء شاب على حبه، وإنه من المؤلم جدًّا حينما نرى نسبة المسلمين المصلين من الضباط والجنود قليلة جدًّا جدًّا بالنسبة إلى من لا يصلون، ولعل هذا التفريط في الترك ما علق بهم في بداية نشأتهم في تجندهم فنشؤوا عليه في حالة كبرهم، حيث لم يجدوا ما يزعهم في بداية تجندهم. وإن من الواجب على ولاة الأمر أن يصدروا قانونًا ملزمًا للجنود ولرعاية الشباب وللمعلمين بأداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، ويكون عندهم إمام يذكرهم بالصلاة عند دخول وقتها إذ الوعظ والإرشاد لا يكون مفيدًا بدون وازع. وإن الجنود والمعلمين الذين يفرطون في الصلوات الواجبة التي هي عمود دينهم وأمانة ربهم سيكونون أشد تفريطًا في غيرها من سائر واجباتهم. يقول النصارى في تحاملهم على المسلمين: إنما ضعفوا وتأخروا وساءَت حالهم كلها من عدم تعلمهم للصنائع والمخترعات في هذا العصر اتكالاً منهم على عقيدة القضاء والقدر.
ونقول: إن المسلمين لا يحتجون بالقضاه والقدر في كل ما يحاولونه من أعمالهم، فهم يلومون ويذمون كل من يحتج بالقدر في ترك الأمر وارتكاب النهي، وأنه لا حجة في ذلك بل حجته داحضة عند ربه.
وقد أمر رسول الله أمته بأن يأخذوا بالكَيْس والحزم وفعل أولى العزم في جميع أعمالهم من أمور دينهم ودنياهم، وأن يأخذوا حذرهم ويستعدوا بالقوة لعدوهم وبما استطاعوا من الكيد والقوة، ونهى عن الكسل والعجز وأخبر أن الله يلوم عليه، كما أرشدهم ودلهم على الدواء عند الحاجة إليه، وقال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً»[85]. وقال: «تَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[86].
ونهى أشد النهي عن أن يتكلوا على القضاء والقدر في شيء من أعمالهم، بل قال: «اعْمَلُوا، فُكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ»[87]. وقال رسول الله ﷺ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ»[88]. وهذا هو مناط التكليف الشرعي وبه تتم الحكمة والعدل والمصلحة، وعليه مدار عقيدة المسلمين. وقد قيل: العاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.
أما عقيدة الجبر كالذين يحيلون جميع تصرفاتهم في ترك واجباتهم وارتكاب محرماتهم إلى القضاء والقدر، فهذا الاعتقاد قد انقرض أهله من سنين طويلة، غير أنه في هذا الزمان نشأت طائفة من الناس الماردين والمارقين عن الدين، يحتجون بالقدر في ترك الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات، ومتى عذلته أو نهيته عن سوء عمله قال: هذا أمر كتبه الله عليَّ، فيجعلون عجزهم توكلاً، وكفرهم وفجورهم قضاءً وقدرًا، وسُمع من بعض الملاحدة أنه يقول: الذنب ذنب الذي خلق إبليس ليس ذنبي، وهؤلاء يعدهم المسلمون ملاحدة ليسوا من المسلمين.
إن اعتقاد القضاء والقدر الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة وتتبعه الصفات الحميدة، من بسط اليد في النفقة والصدقة والجرأة والإقدام وخلق الشجاعة على اقتحام الممالك في سبيل الحق وحماية الدين والوطن، ويلهج أهله بقولهم: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١﴾ [التوبة: 51]. إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم وتحمل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، ويحلي الأنفس بحلية الجود والسخاء، لاعتقاده أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه، كما يحمله على التضحية بالروح في سبيل الحق عن الدنيا وزينتها.
فالمسلم الذي يعتقد هذا الاعتقاد، وأن نواصي الخلق بيد رب العباد يتصرف فيها كيف يشاء، وأن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وأن الدنيا دار متاع يتمتع بها صاحبها برهة من الزمن ثم يزول عنها، وأن الآخرة هي دار القرار، وأن كل امرئ مجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فهذا الاعتقاد متى رسخ في قلب المؤمن فإنه لا يرهب الموت أبدًا، ولا يجزع منه إذا نزل به؛ لاعتقاده أن له دارًا هي أبقى وأرقى من دار الدنيا، وعيشًا ونعيمًا هو أرغد وأنعم من عيش الدنيا، فإنه لن يجزع من فراق الدنيا والحالة هذه.
ثم إن هذا الموت ليس بفناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، فهذا يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الفوت وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي.
لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في أوائل نشاطهم في القرن الأول والثاني والثالث بشجاعة باسلة وقلوب ثابتة وإيمان راسخ، فاندفعوا إلى الممالك البعيدة في مشارق الأرض ومغاربها وبأيديهم القرآن يفتحون به ويسودون ويدعون الناس إلى العمل به، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، حتى استطاعوا أن يثلوا عروش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وهم أرقى الأمم حضارة وقوة ونظامًا وعددًا وعدة.
فما كان خوضهم لهذه المعارك التي هي غاية في اقتحام المهالك إلا من أجل إيمانهم بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح، وأنها لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فهذا الاعتقاد هو الذي ثبت أقدام المسلمين مع قلتهم وضعفهم أمام جيوش أعدائهم التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فكشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا التوحيد والصلاح والسعادة في سائر البلدان، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 41]. * * *
[85] رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء.
[86] رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء.
[87] متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب.
[88] رواه مسلم.
لقد كان عند المتقدمين ألعاب يرتاحون إليها في سبيل لهوهم وفراغهم، مما يهيئ البسط لهم، فمنها ما يسمونه الشطرنج، ومنها ما يسمونه النرد، ومنها ما يسمونه اللعب بالجوز. وكل هذه إذا دخلها العِوَض صارت باطلة، لحديث: «لَا سَبَقَ -والسَّبَق بفتح الباء هو العوض- إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ»، ويدخل في مسمى النصل والمراهنة عليه جميع البنادق لكونها بمعناه.
أما اللعب بالكرة المعروفة فإنه ليس له ذكر في ألعاب المتقدمين إلا عند النصارى. ولما كثر اختلاط المسلمين بالنصارى في بلادهم، وشاهدوا ما يعتادون فعله وما يتمرنون عليه ويوحون إلى الناس أنه من الرياضة المصححة الجسم، وصاروا يكتسبون به الأموال الطائلة في سبيل الرهان والمقامرة، لذلك انطبع في قلوب الناس محبته والتدرب عليه في بلاد المسلمين ومع أولاد المسلمين، وصار يُدعى له وإلى العمل فيه الجلداء الأقوياء الصحيحة بنيتهم، والذين يرجى منهم النفع ودفع الضر في غير هذا العمل الذي هو محض ضرر بلا نفع، إذ ليس هذا مما يفيد المجتمع ولا مما يحمى به الدين والوطن، وما هو إلا محض لهو وغفلة وكسر همة ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ إنه يجب إدخال الإصلاح والتعديل في رعاية شباب المسلمين. وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو الأخذ بالقسم الكبير من الجلداء الأقوياء الصالحين للتمرن على التدريب في سائر مواد القتال، وإن هذا يعد من باب الإنقاذ من المهانة إلى الارتفاع في العز والكرامة، وهم له كارهون، وبذلك ينصرفون عن الدناءة، ويشتغلون بما هو أصح وأصلح لهم ولجميع الناس معهم. إنه لا يشك كل عالم عارف بأن الكرة متى دخلها العوض فإنها نَفْسُ الميسر الذي نهى عنه القرآن، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
وأنها تقضي بالفناء المعنوي من ريعان الشباب القوي حتى لا يحسن شيئًا من الرجولة إلا اللعب بالكرة، وأن شباب هذا الزمان يعجز آباؤهم عن تدريبهم فيما يجب لهم من المحافظة على الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل بداعي الضرورة ويحتاجون إلى المساندة والمساعدة من الحكومة، فإن الله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن.
أخبر الله سبحانه أن الخمر والميسر رجس، والرجس هو النجس الخبيث، وأنه من عمل الشيطان فلا يدمن شرب الخمر واللعب بالقمار إلا من هو شيطان. ثم قال: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ﴾ وهو أبلغ من قوله: دعوه أو اتركوه؛ لأنها من المجانبة أي المباعدة، كأنه يقول: ابعدوا عنها كل البعد وكونوا في جانب وهي في جانب، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر. الله أكبر وكلام الله حق، لقد شاهدنا العداوة بين المسلمين حقيقة، جلية للعيان، فإن الشخص متى كان عفيفًا عنها وفي فسحة حينئذ يعيش مع الناس عيشة مرضية وبأخلاق كريمة زكية وبعقل وأدب وحسن خلق وظرف يتمتع في دنياه متاعًا حسنًا، يحبه أهله وجيرانه وأقاربه، ثم توضع له المودة في الأرض فيحيا حياة طيبة، يجد لذتها في قلبه وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، فإذا انزلق في شرب الخمر وتخمر في قلبه حبها وأدمن شربها، فإنه ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل وترك الفرائض، ويبغض أهله وأقاربه وجيرانه ويبغضونه، ثم تحل الكآبة على وجهه وتخيم الوحشة والخوف على أهل بيته، بحيث يتوقعون سطوته؛ لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله به وألحق نفسه بالمجانين. وكيف يرضى بجنون من عقل.
وأما اللعب بالكرة والقول بدخولها في مسمى الميسر، فإننا عندما نتكلم عليها فإنما نذم الإسراف فيها، والاهتمام المبالغ بها، وتفريق الشباب حولها إلى ما يسمى بالنوادي والفرق، وأن تصبح غاية في حد ذاتها، فهي بذلك ذميمة تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتستغرق جهد الشباب ووقته وفكره وتصبح شغله الشاغل، بحيث يمر الوقت والوقتان من الصلاة وكل إنسان آخذ مقعده في مكانه، لا يبرح عنه ولا يزول عنه، والعيون والقلوب شاخصة إلى اللعب واللاعبين، والألسنة لاغية والقلوب لاهية: ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩﴾ [المجادلة: 19]. وقد زاد الناس إسرافًا في حبها والولوع بها كونهم يتناوبون اللعب بها، فتكون سنة في هذه البلاد والسنة الأخرى في بلد آخر، وكل بلد تعمل عملها في تلقي هؤلاء وعمل اللازم في إكرامهم واحترامهم، مع ما ينفق في ذلك من أموال طائلة. ولعل أحد الشباب بمهارته وقوته يتحصل على الفوز بالظفر في لعبة فتضج معه الدنيا من شتى البقاع، حتى كأنه فتح للمسلمين أكبر الأمصار، ويعود سائر المغلوبين بالهم والغم، مما عسى أن يكون سببًا في العداوة والبغضاء بينهم، ووقوع المشاحنات والتقاتل بين أنصار الفريقين، والشواهد على ذلك واضحة جلية، فكم من حوادث وقعت ودماء سالت عقب اللعب خاصة في البلدان الكبيرة العدد والتي أطارت الكرة بعقول أبنائها، حتى وصلت العداوة بين أبناء الأسرة الواحدة وبين الزوج وزوجته، لتشجيع كل فرد للفريق الذي يحبه، مما عسى أن يكون سببًا في العداوة والبغضاء بينهم كما أُخبَرُ بذلك. لهذا قلنا: إن من الخطأ تسامح الحكام لقبول هذه الدورات في سبيل اللعب بالكرة، إذ إنها في حقيقتها لا تزيد الناس إلا شحناء وعداوة وبغضًا.
أما إذا أصبحت الكرة ضمن برامج إعداد الشباب، ومجالاً لحركتهم ونشاطهم، مع ضرورة المحافظة على أوقات الصلاة وتدريبهم، وتشجيعهم بالتمرن على وسائل القتال والرمي وملاعبة السلاح، فلا أرى بأسًا من وجودها.
﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢﴾ [الصافات: 180-182]. إن دين الإسلام هو دين العدل والكمال، ودين النظام في الأحكام، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان، ولا اعتداء في استباحة بعضهم أكل أموال بعض، بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
والله سبحانه قد فاوت بين خلقه في الغنى والفقر، كما فاوت بينهم في العقول والأجسام، لتتم بذلك سعادتهم، وتنتظم به أمور حياتهم وراحتهم، فيخدم الغني الفقير في جلب ما يحتاجه الناس من صغير وكبير، وجليل وحقير، من كل ما لا يستطيع الفقير الحصول عليه باستقلاله بنفسه أو بأمثاله، كما أن الفقير يخدم الغني فيما هو من اختصاص عمله، وما هو من أسباب وسائل كسبه ومعيشته، من كل ما لا يستطيع الغني مباشرته بنفسه، فتتم بذلك سعادة الجميع، وتنتظم به أمور حياتهم، إذ لو أغناهم كلهم لأفقرهم كلهم، ولكن اقتضت رحمة الله بهم أن خلقهم متفاوتين في الخلق والرزق.
وانظر إلى قوله سبحانه: ﴿وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢﴾ [الزخرف: 32]، وقد قيل: والنبي ﷺ كان يقول في المجامع العظام: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[89]؛ لكون المال عديل الروح، ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[90]. كما أن الإسلام بريء من الرأسماليين الماديين الذين جعلوا التحليق بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم، ربهم وإلههم، فصرفوا إلى ذلك جلَّ عقولهم وجُلَّ أعمالهم وجُلَّ اهتمامهم، وتركوا لأجله فرائض ربهم من صلاتهم وزكاتهم، ونسوا أمر آخرتهم، وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 19]، ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة: 50].
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية * * *
[89] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة.
[90] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين.
أما بعد:
فإنني رأيت مقالة خرجت من صاحبها بصورة سؤال سائل لرجل اشتراكي قائلا: إننا نود أن نسمع رأيك في عقيدتك السياسية، وفي الدين، وفي العروبة.
فأجاب قائلاً: أحب أن أعتقد أنني اشتراكي بطريق الذي يقول: العدل هو الشيء المتناسق. فأنا اشتراكي بهذا المعنى أُومن بالتناسق وأبحث عنه. والظلم الاجتماعي هو ضد التناسق. والاشتراكي يضمن أساسًا لمجتمع فاضل وإنسان سليم. فأنا أُومن بهذا، وأتمنى أن يتحقق في الوطن العربي.
فهذا هو نص عقيدة هذا الرجل الاشتراكي التي يتمنى تعميمها في الناس. وليس هذا ببدع من خاصة هذا الشخص، وإنما هي فكرة سائر الاشتراكيين الشيوعيين، الذين يحبون أن يشيع تعميمها بين الناس، وسائر البلدان.
وأقول: إن الله سبحانه قد نصَب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم، فمن أسرّ سريرة أظهر الله سريرته على فلتات لسانه، ونزوات أقلامه، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ﴾
[محمد: 29-330]. فهذا القائل يستدل بالترهات، ويتعلق بقلب الحقائق في المعقول والمنقولات، يدعو إلى الاشتراكية ويحبذها للناس، ويحب التناسق، وأن يتساوى الناس في الغنى والفقر، لكون التناسق في اللغة التساوي، يقال: تناسقت أسنان فلان أي تساوت. قاله في الصحاح.
ويسمي الاشتراكية بالعدل، ويسمي التفاضل بين الناس في الغنى والفقر هو الظلم الاجتماعي، ويتمنى أن تسود الاشتراكية في الناس، وأن تتحقق في البلدان العربية.
فهذا غاية وبغية ما يتمناه أشباه هذا الإنسان، وقد حيل بين العير وبين النزوان، ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ﴾ [المؤمنون: 71]. وإن مقامنا في ديننا، ونصيحة أمتنا، وولاية أعمالنا، توجب علينا القيام بحماية الدين، ودحض حجج المبطلين، إذ لولا من يقيمه الله لذلك لفسد الدين ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١﴾ [البقرة: 251]، ولن نهمل- إن شاء الله- حراسة ثغر ديننا، ورد الأباطيل على أهلها، ونحن على المرمى قعود وجثَّم. إن الدعوة للاشتراكية الماركسية مبنية على الغش والخداع، والتلبيس والتدليس والتضليل؛ لأن من طبيعة دعاتها والمتزعمين لفكرتها المبالغة في عملية الخداع والكذب، وقلب الحقائق على غير ما هي عليه، وجعل الباطل حقًّا، والحق باطلاً وإلا فإنها فكرة هدم للحضارة والعمران، والصنائع والأعمال، تهلك الحرث والنسل، وقد حاربتها الدول الراقية في الحضارة والصناعة والعمران، من اليهود والنصارى وغيرهم، قبل أن يحاربها المسلمون.
إن أكثر المقلّين من المال من أمثالهم يحبون ويتمنون في أنفسهم زوال نعمة الغنى عن المنعم بها عليهم؛ ليساووهم في الجلوس معهم على حصير الفقر والفاقة، كما قيل: شنشنة تُعرف من أخزم ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ﴾ [المؤمنون: 71]، غير أن المسلمين يمنعهم إيمانهم من تحقيق هذه الأمنية؛ لاعتقادهم حرمة مال الغير. ويقول الله تعالى: ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النساء: 54]، فهؤلاء الاشتراكيون يحرّمون الغنى على أهله الذي هو عرق جبينهم، ويبيحونه لأنفسهم. فالعقلاء من المقلّين يبالغون في كتمان هذا التمني وعدم إظهاره احترامًا للحكومة التي تمنع أشد المنع الجهر به والدعوة إليه؛ لكونه ينافي عقيدة دينها، ويناقض سياسة نظامها ومجتمعها؛ لكون الاشتراكية تقوم بتقويض دعائم الأعمال والأموال والمعامل، وتطبع في قلوب الشباب الفتنة والخيانة وذهاب الأمانة. ومضرتها على الفقير أكبر منها على الغني، وبعض من يتمنى الاشتراكية لا يتحمل الكتمان، فيكشف ذيله عن مساوئ ليله، فيجهر بما يعن بفكره، وما يتمناه في نفسه، ولم يبال بمنع الحكومة ولا الجهر بما تكره. فهو يعرف تمام المعرفة أن الحكومة لا ترضى بالتظاهر بهذا الشيء ولا الدعوة إليه بتحسينه للناس؛ لكونه يثير مشاعر المسلمين ويطبع في شبابهم الفتنة، ويستدعي الأسوة السيئة.
فقد يقول الكاتب الثاني أكبر مما قاله الأول، فيتسع الخرق على الراقع، وكم كلمة أثارت فتنة وجلبت محنة، والمتصدي للدعوة إلى الاشتراكية الماركسية وبتحسينها للناس من كتّاب الصحف والمجلات المتحللين من عُقَل الدين والأدب مع المسلمين يترتب على ولاية عمله مفاسد دينية واجتماعية وأدبية تنافي عقائد الدين وسياسة الدولة، والمتسنم لهذه المناصب يجب أن يكون لديه عقل يعيش به في الناس، ويردع به جهل الجاهل.
إنه قد كان للناس في بداية ظهور هذه البدعة الإلحادية حالة غير حالتهم في نهايتها، فقد بدؤوا يتراجعون عنها بعدما عرفوا مضرتها وذاقوا مرارتها، ومن ذاق منها عرف، ولأن أكثر الهمج السذخ يظنونها تعميمًا للغنى، ثم بدا لهم فيما بعد أن غايتها وحقيقتها هو تعميم للفقر، بحيث تجعل الغني فقيرًا وتزيد الفقير فقرًا إلى فقره، حيث إنها قد كشرت عن أنيابها لجميع الناس، وبطريق الحس والمشاهدة نرى أن كل بلد دخلتها الاشتراكية فإنها تهوي بها إلى الدرك الأسفل من الفقر والفاقة والقلة والذلة، وعلى أثرها تنقطع موارد الثروة عن البلد، بحيث يعز كل شيء وترتفع أعباء المعيشة وتقل النقود بأيدي الناس، بحيث ينقطع عنهم الوارد والصادر، فهي أكبر جريمة تقاد إلى البلد، وخير الناس من وُعِظ بغيره. ولينظر العاقل إلى حالة مصر قبل ثلاثين سنة- أي قبل أن تدخلها الاشتراكية- ثم ينظر إلى حالتها الآن، ثم ينظر إلى سوريا قبل ثلاثين سنة، ثم ينظر إلى حالتها الآن، ثم ينظر إلى حالة العراق قبل ثلاثين سنة، ثم ينظر إلى حالتها الآن، يجد الفرق الواسع والبون الشاسع بين الأمس واليوم.
ونعود إلى مناقشة الرأي القائل بالتناسق بين الناس؛ أي التساوي الذي هو في زعمهم العدل. وقد وقع الأمر من الاشتراكية المشهود لها بالتجربة والمشاهدة على الضد من ذلك، وأنها جور وظلم، وأنها حقيقة في تساوي الناس في الفقر والفاقة، وحتى الحكومة المتزعمة لهذه الفكرة تصبح فقيرة ويصبح الأغنياء فقراء، بحيث لا يعوّل أحد على أحد، ولو فرضنا أنها تبتز أموال الناس وتختص بها نفسها وأعوانها، فإن هذا المال يكون سريع الزوال منزوع البركة مقرونًا به الشؤم والفشل؛ لكونه أُخِذَ بغير حق، وفي الغالب أنها تقاسمه وتختص بالأفضل منه زبانية الفكرة لخاصة أنفسهم، قبل أن يصل إلى مخازن الحكومة.
وهذه الاشتراكية قد كشرت عن أنيابها للناس، فعرفها العام والخاص، وأخذ العلماء وعقلاء الدول حتى من غير المسلمين يحذر بعضهم بعضًا من مقارفتها، ويتكلمون فيها وفي مضارها وسوء عاقبتها، عن طريق المشاهدة والتجربة، لا عن طريق الأخبار الكاذبة.
ولما ظهرت هذه الاشتراكية الماركسية في مصر قبل كل بلد فزع منها النصارى أشد الفزع خوفًا من سراية عدواها إلى بلدانهم؛ لعلمهم أنها تقوّض التجارات وتوقع في الأزمات، ويترتب عليها فساد المصانع والأعمال والعمال، لهذا نشروا في صحفهم أن هذه النِّحلة سيستجيب لها أكثر الغوغاء والهمج ولن يقوم في صدّها أعظم من شريعة القرآن الذي فيه ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ﴾ [النحل: 71]، لهذا يجب نشر تعليم ذلك في المدارس والصحف والإذاعات. وهذه الاشتراكية الماركسية لا شرقية ولا غربية، بل هي شريعة إلحادية ليست من شريعة الدين، ولا من شريعة اليهود والنصارى، تنادي بالقضاء على الحكام والرؤساء والرأسماليين حتى تكون الاشتراكية هي دعامة المجتمع، ويصير الناس لهم كالعبيد المسخرين يعملون، والماركسية وأعوانها يأكلون؛ لأنهم بمقتضى نظام فكرتهم يحكمون بتأميم الأراضي ونتاجها من الحبوب والأشجار والنخيل.
ويحكمون بتأميم ملكية الإنتاج من الحيوان والمعامل والعقار والمصانع، ويحكمون بتأميم الإرث فلا يرث الابن أباه، بل هم الذين يرثون كل أحد، ويسلبون الملكية من كل أحد، لدرجة أنهم جاؤوا صاحب مصنع للسكر ليؤمموه وجميع أمواله، فأمروه بالتخلي والخروج من معمله، فطلب منهم أن يعيروه سيارة توصله إلى بيته فمنعوه وقالوا له: امشِ على رجليك.
إن هذه الاشتراكية تخدع الفقراء وتزرع في قلوبهم الآمال والأماني الكاذبة، حيث يوهمونهم بأنهم يساوونهم بالأغنياء، ويلوحون لهم بكلمات العطف واللطف ليكثروا بهم سوادهم، والغوغاء في كل زمان ومكان هم عون الظالم ويد الغاشم، فالفقراء يزرعون في نفوسهم الأماني والآمال، ويحصدون الخيبة والحرمان، فهم يمصون دماءهم، حتى إن الفقير لا يتحصل على كامل أجرة عمله وعرق جبينه إلا بأخذ شيء منها، ثم هم يقولون لهم على سبيل التخدير والتفتير: إن هذا زمان هدم، وسيأتي بعده زمان البناء. ثم يستمر هذا الهدم وهذا التعليل والتمليل حتى تقوم الساعة.
وفي النهاية ذهبت كل هذه الآمال والأموال التي سحبوها من أهلها، وتقاسمها زبانية الفكرة، وقضت بانقطاع سبل التجارة، وتعطلت المعامل والعمال، ووقف الناس حيارى، وصار ضرر هذه الفكرة على الفقراء أشد منه على الأغنياء، وأخذ زعماء هذه الفكرة وحكامها يمدون أيديهم لطلب العون والمساعدة من حكام المسلمين العرب، الذين يحترمون أموال الناس كما يحترمون دماءهم، لذهاب الحاصل الذي بأيديهم، وانقطاع المتصل. وقد قيل: قليل متصل، خير من كثير منقطع.
إن هذه الفكرة تخالف كل دين كما تخالف الأخلاق والأنظمة والقوانين، كما أنها تقضي بتقويض دعائم الأمانة التي عليها مدار معاملة الناس فيما بينهم؛ فالاشتراكي حينما يرى نعمة أنعم الله بها على أحد من خلقه يرى أنه أحق بها وأهلها، فهذا هو السبب الذي يهيج الغوغاء على استجلابها واستحبابها والدعوة إليها.
فاليهود والإنجليز وأمريكا وفرنسا والألمان واليابان لم يحاربوا الاشتراكية لدين يدينون به ربهم، وإنما حاربوها حفظًا وحماية لمصالحهم؛ لعلمهم أنها تقوّض التجارات والعمران والمصانع والمعامل والأمانات وسائر أمور الحياة، وتوقعهم في الأزمات والشدات.
لهذا أخذ الغارقون فيها من قديم زمانهم يتسللون منها لواذًا، ويتحررون من قيودها شيئًا بعد شيء؛ لتفشّي العطالة والبطالة في أعمالهم؛ لكون العامل للغير لا ينصح كنصحه في عمله لنفسه، وإذا أردت التحقق من ذلك فاسأل عن الكتلة الألمانية الشرقية الواقعة في حدود حبائل الشيوعية الاشتراكية، تجدها تصف نفسها بأنها في جحيم وعذاب أليم، وبضدها الكتلة الألمانية الغربية، تجدها تصف نفسها بأنها في نعيم، والعلة هي علة الابتلاء بالاشتراكية والسلامة منها.
سافر رجل من تجار قطر إلى أمريكا، وكان يحمل معه حقيبة بداخلها نقود كثيرة من الجنيهات الاسترلينية والدولارات، فحين نزل من الطائرة ركب مع صاحب تاكسي أمريكي، ثم نزل هذا التاجر لعزمه النزول في أحد الفنادق، ونسي الحقيبة بما فيها من النقود، وحين ذكرها صفق بإحدى يديه على الأخرى، وكان لا يعرف السيارة، ولا يعرف رقمها، ولا شيئًا من علاماتها، وبعد أن نظر الأمريكي في سيارته نظر إلى الحقيبة فيها، ثم وضعها عند أحد السفراء، ونشر الخبر عن فقدانها، فبُشّرَ بها صاحبها، ووجدها على حالتها لم ينقص منها شيء، فكان من الذين قال الله فيهم: ﴿ ۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ [آلعمران: 75]. إنه لو تسممت فكرة هذا الأمريكي بالاشتراكية لاعتقد أنه أحق بها، وأن سهم صاحبها بقية ما عنده من التجارة، ولها نظائر كثيرة، ولكنه يعتقد حرمة مال الغير، فتعفف، حتى وجدها صاحبها.
إن العرب المسلمين، في جميع الأعصار والأمصار لا يعرفون هذه الاشتراكية، وليست لهم بخلق ولا دين، حتى أتيح لها الرئيس جمال عبد الناصر، فأثار فتنتها، وحاول تعميمها في البلدان العربية، وأصدر قراره بالإلزام بالعمل بها في مصر، وذلك عام (1381هـ الموافق لعام 1961م)، وسماها الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، وهي تتمشى على طريقة الاشتراكية الماركسية، حذو النعل بالنعل، فعملت عملها بمصر في التدمير، وسوء التدبير، وأورثت فتنة في الأرض، وفسادًا كبيرًا.
ثم انتقلت إلى بعض البلدان العربية الأخرى، فكان أول ما ظهرت الاشتراكية في مصر قبل كل بلد. وقد بدؤوا الآن في التحرر عنها، وفي محاربتها بالتحذير منها؛ لكونها أهلكت منهم الحرث والنسل، وقضت بتخدير الهمم، وغل أيديهم عن العمل، فأين ما يقوله هؤلاء من أنها تضمن أساسًا لمجتمع فاضل وإنسان سليم وقد وقع الأمر منها بالضد من ذلك؟
صنع رجل مأدبة حافلة في لبنان، ودعا إليها الرؤساء والفضلاء، وعند جلوس القوم عليها، ورأوا فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، قال أحد العقلاء لذلك الرجل الذي صنعها، وكان يعشق فكرة الاشتراكية: إن صاحبك «جمالا» لن تجد عنده هذه النعمة والخير الكثير. فقال: نعم أنا أعرف ذلك، ولكني أكتفي بالشاهي مع التساوي.
فهذه فكرة الكثيرين من المقلّين، وكأنها نكتة كامنة من داء الحسد فيهم، يحسدون الأغنياء على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنون زوال نعمتهم، وإن لم يصيبوا منها شيئًا، لكن المقلّين من المسلمين يتغلبون على إرادتهم، ويعصمهم إيمانهم بالله- عز وجل- لاعتقادهم حرمة مال الغير، وأن مال المسلم على المسلم حرام؛ لكون الدين هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأقوى رادع عن مواقعة المحرمات.
فقول بعضهم: إن العدل هو الشيء المتناسق، والظلم الاجتماعي ضد التناسق، يشير بهذا إلى الاعتراض على الله في حكمه، حيث فضل بعض الناس على بعض في الرزق. ويُسمي هذا التفاضل ظلمًا، لا يثنيه وجل، ولا يلويه خجل، وقد قيل: نجوم الظاهر، تدل على خبث الباطن، وقبح الجفا ينافي الحفا، وسبق حكم الله حكم الاشتراكيين ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ﴾ [المؤمنون: 71]. والله سبحانه خلق الناس متفاوتين في الخلق والرزق؛ لتتم وتنتظم بذلك مصالحهم، فيخدم الغني الفقير، بحيث يجلب إليه كل ما يحتاجه من الحاجات، من كل صغير وكبير، لا يستطيع الفقير الإتيان بها، كما أن الفقير يخدم الغني فيما هو من اختصاص عمله، فتنتظم بذلك مصالح الجميع، ويعيشون متساعدين متكافلين. وكان السلف يكرهون أن يقول الإنسان: اللهم أغنني عن خلقك. لكونه لا غناء للإنسان عن الخلق ما دام حيًّا، وإنما يقول: اللهم أغنني عن شرار خلقك.
فكما نفى سبحانه التساوي بين خلقه في أمر الدنيا، وجعل منهم الغني والفقير، فكذلك نفى التساوي في أمر الدين، وفي الجزاء على الأعمال، فجعل منهم المسلم والكافر، والتقي والفاسق، فهذا حكمه في خلقه ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة: 50]، قال سبحانه: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ ١٨﴾ [السجدة: 18]، وقال: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٥ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ٣٦﴾ [القلم: 35-36]، وقال: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّئَِّاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٢١﴾ [الجاثية: 21]، فأخبر- سبحانه- أن مساواة الناس كأسنان المشط في الدنيا والدين منتف ومتعذر، وأنه من الحكم السيئ الذي ينزَّه الله عنه، إذ لا تتم سعادتهم وتنتظم حياتهم إلا بمقتضى التفاضل بينهم، وأنشد الناظم ابن عبد القوي في هذا المعنى فقال:
وقد أنزل الله في كتابه المبين ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188]، ولأجله حرّم الله الإسراف والتبذير في الأموال؛ لكون المال عديل الروح وقوام الحياة، كما شرع الله الحَجْر على السفهاء والمبذرين الذين لا يحسنون حفظ أموالهم ولا تثميرها، وقد قال سبحانه: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5]؛ أي تقوم بها أبدانكم، وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم وشرفكم. والسفه هو خفة الرأي ونقص في العقل، علامته كونه لا يحسن توفير ماله ولا تثميره، فيقع بتبذيره في الفقر الذي هو الداء الأكبر والموت الأحمر؛ لكونه يصير العزيز ذليلاً، وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[93]. وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ»[94]. وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[95]. لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغني عنه في حال من الأحوال. وإن الكريم على الإخوان ذو المال. فلو عبس الفقر في وجه الرجل، لعبس في وجهه أهله وأقاربه.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة فإن العقل والرأي لا يستجيز إضعاف قوتنا بالاشتراكية التي حقيقتها ذهاب الحول والقوة والثروة من الأمة، إذ هي بمثابة سحب الدم من الجسم، حتى نبقى ضعافًا نحافًا تجاه صولة عدونا وقوته، فنكون كالمعينين لهم على هدم مجدنا، وعدم قدرتنا على الصمود أمام قوة عدونا، إذ لا مجد في الدنيا لمن قل ماله. * * *
[91] رواه مسلم عن جابر.
[92] رواه البخاري ومسلم وأبو داود بلفظ آخر.
[93] رواه الحاكم من حديث ابن مسعود.
[94] متفق عليه من حديث عائشة.
[95] متفق عليه من حديث عائشة.
إن الشريعة الإسلامية- أي الكتاب والسنة- هي عدل الله في أرضه، ورحمته لعباده، نصبها حكمًا قسطًا، تحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأقوال والأعمال والاعتقاد، فتقطع عن الناس النزاع، وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع. وإن هذه الاشتراكية العلمية الماركسية هي اشتراكية ماركس اليهودي[96].
وحين ابتدأ في ابتداعها استنفر لها العمال المقلّين من المال، وأوهمهم بأنه سيساويهم بالأغنياء، فاستجابوا لدعوته مسرعين، لطمعهم في مشاركة المكثرين. ومن العادة أن الغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان.
وعلى أثرها اشتد الفقر والبؤس بالناس، حتى صار بعضهم ينهب بعضًا، وفقدت الأمانة وذهبت التجارة، وانقطعت السبل وعدمت الحاجات الضرورية فضلا عن الكمالية، وغلت الأطعمة، وازداد بها الفقير فقرًا إلى فقره، فانسل دعاتها عنها حين علموا بأنه لا حياة ولا معيشة معها، وكادت أن تموت وتدفن في أجداثها كل هذه السنين الطويلة.
حتى تصدى لبعثها (جمال عبد الناصر) حاكم مصر في زمانه، فبعثها من أجداثها حتى رسخت في مصر، وصدر الأمر بتعميم تأميمها.
ثم انتشرت في بعض البلدان العربية، وهي تنادي بذهاب الثروة وقوة الأمة، وهي نفس الاشتراكية العلمية الماركسية بلا اختلال ولا خلاف، فهي شيوعية محضة، وإن هذه الاشتراكية مبنية على الخداع والتغرير والتضليل، في بداية دعوتها ونهايتها، يدلسون على العوام وضعفة العقول والأفهام بأنها اشتراكية إسلامية، وأن دين الإسلام اشتراكي، وأن عمر بن الخطاب اشتراكي، وأن أبا ذر اشتراكي، تخرصًا وأحاديث ملفقة ما أنزل الله بها من سلطان.
والأصل في ذلك كله هو تضليل عوام المسلمين وإطفاء ثائرة غضبهم، وليكثروا بهم سوادهم. والحق أن دين الإسلام بريء من هذه الاشتراكية الماركسية؛ لأن دين الإسلام يحترم أموال الأفراد والجماعات، كما يحترم دماءهم، ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[97].
أما زبانية هذه الفكرة، فإنهم يحرمون هذه الأموال على أهلها التي هي نتاج قوتهم وعرق جبيهم، ويبيحونها لأنفسهم، فلا تسأل عما كانوا يفعلون. فليس الإسلام بدين الاشتراكية الظالمة، إنما هو دين العدل والكمال، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، في حالة الشخص بانفراده ومع أهله وفي مجتمع قومه، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان؛ لأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان، الكفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان، فلا يقع بين الناس مشكلة من مشكلات العصر، كهذه الاشتراكية الماركسية، إلا وفي الشريعة الإسلامية بيان حلالها من حرامها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بنحلة باطلة، إلا وفي الشريعة الإسلامية بيان بطلانها، وطريق الهدى من الضلال فيها، فهو كفيل بسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم.
فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما استباح بعضهم أموال بعض، بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان. إن الناس لو تفقهوا في الإسلام، وعملوا به على التمام، لهداهم إلى التي هي أقوم، ولما وقعوا في فرق الاختلاف والانحلال، كفرقة الاشتراكية الماركسية، وفرقة الشيوعية والبعثية. وفرقة القومية العربية، وفرقة البهائية، والقاديانية، قد استبدلوا هذه الأسماء ومسمياتها بدل الإسلام والدين الذي سماهم الله به المسلمين المؤمنين عباد الله، ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85]. فنظام دين الإسلام، بمقتضى اسمه ومسماه وعقائده وقواعده، هو صراط الله المستقيم، فلا ينسب إليه شيء من هذه المذاهب والنحل المبتدعة والسبل المتفرقة، التي عناها القرآن بقوله: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾ [الأنعام: 153]، لأن هذه النحل التي انتحلوها واستحلوا سلوكها، قد أبعدت بهم عن سبيل الله والدين، وإن كانوا يتسمون به بألسنتهم مع مخالفتهم له بأعمالهم وعقائدهم. ومتى قصّر أهله في فهمه وعدم العمل به، فلن ينسب إليه هذا النقص والتقصير، إذ إن كثيرًا من الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه ويسعون في تقويض مبانيه، لم يبق معهم من الإسلام سوى محض التسمي به والانتساب إليه، بدون عمل به ولا انقياد لحكمه، فكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠﴾ [البقرة: 8-10]. فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل. * * *
[96] كارل ماركس: ألماني الجنسية من أسرة يهودية، ولد سنة 1818 م في بلدة (تريف)، وكان كسولاً أنانيًّا يطلب المال من أبيه دون أن يعمل وسمّته أمه باسم (الطفيلي)، واشتهر بكذبه وعدم وفائه بعهوده، ووضع آراءه الاقتصادية في كتابه (رأس المال)، وأصدر مع صديقه (إنجلز) البيان الشيوعي المشهور الذي تضمن الأسس التي تقوم عليها الحركة الشيوعية.
[97] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي.
إن الله سبحانه يبتلي أقوامًا بالغنى لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ كما يبتلي أقوامًا بالفقر لينظر أيصبرون أم يضجرون ويفجرون؟ وليس كل من أنعم الله عليه بالغنى يكون لكرامته وعزته عند الله، ولا كل من ابتلاه بالفقر يكون لهوانه ومذلته عند الله، فحاش وكلا، فحكمته سبحانه أعلى وأجل، يقول الله سبحانه: ﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ﴾؛ أي ضيق عليه رزقه ﴿فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦ كَلَّا﴾ [الفجر: 15-17]؛ أي كلمة ردع وزجر عن هذا القول وهذا الاعتقاد، فقد يعاقب الله أقوامًا بالغنى لبغضه لهم، كما يرحم أقوامًا بالفقر لمحبته لهم، كما قيل:
إن النفوس مجبولة على محبة الغنى، والسعي في حصوله وتوسعه؛ لكونه لا غناء للمرء عن فضل ربه ورحمته، يقول الله: ﴿وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ ٨﴾ [العاديات: 8]، والخير هو المال الكثير، فترى الشخص يتحمل المشاق المتعبة، ويخوض الأخطار الموحشة، في سبيل كسب المال وتوفيره للأهل والعيال، حتى إنه ليحرم نفسه من لذته وإنفاقه في سبيل حسنته من أجل توفيره لذريته، مع العلم أن مجرد الغنى ليس هو السعادة المنشودة في الحياة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال، بأن يأخذه من حله، وأن يؤدي واجب حقه، ولا يشغله ماله عن عبادة ربه، وما لم يكن كذلك، فإنه عذاب عليه في الدنيا، وعقاب عليه في الآخرة، والمكثرون هم المقلّون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وشماله. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٨٥﴾ [التوبة:85]. والله سبحانه يحمي بعض عباده من الدنيا مع محبته لهم، كما يحمي أحدكم حبيبه عن الطعام والشراب مع شهوته له.
وفي بعض الآثار يقول الله: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي لِعِلْمِي بِهِمْ، إِنِّي بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ»[99].
ومن الدعاء المشهور: «اللَّهُمَّ مَا أَعْطَيْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ عَوْنًا لِي عَلَى مَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ»[100].
فمن واجب المؤمن أن يسعى في سعة رزقه، ويطلبه من أسبابه، والدخول عليه من بابه، ثم يرضى ويسلم ويقنع بما آتاه الله من قليل وكثير، ولا يمد عينيه إلى ما متع به غيره، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١﴾ [طه: 131]. وقد أمر النبي ﷺ بما ينبغي أن يحفظ به الرجل نعمته على قلتها، فإن من قرّ عينًا بعيشه نفعه، فقال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»[101]، وقد قيل: إنها متى سكنت القناعة قلب الشخص، ولو كان فقيرًا، فإنه يجد بها لذة الدنيا وفرحها وسرورها، فيتمتع بحالة مرضية وأخلاق كريمة زكية، حتى يكون أسعد بالدنيا؛ باللذة والسرور فيها، من التاجر الجموع المنوع، الذي كلما ازداد جمعًا ازداد هلعًا ومنعًا؛ لكون الغنى ليس بكثرة المال، وإنما الغنى غنى النفس، كما قيل:
إن أكبر عامل ثار بالاشتراكيين على محاولة استحلال مال الغير بغير حق هو عدم صبرهم، وعدم قناعتهم بما آتاهم الله من فضله، فحاولوا النزو على مال الأغنياء، حرصًا منهم على زوال نعمتهم عنهم وحسدًا لهم، كي يستأثروا بها لأنفسهم خاصة ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النساء: 54]. * * *
[98] رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث صهيب الرومي.
[99] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأولياء من حديث أنس بن مالك.
[100] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي.
[101] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[102] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس.
إن الاشتراكية الماركسية هي الشيوعية المادية حقيقة وعقيدة، تنكر وجود الرب ووجود الملائكة، وتكذب بالأنبياء وتكذب بالبعث بعد الموت وتكذب بالجنة والنار، وتقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وقد ذكروا ذلك في البيان الشيوعي الأول، حيث قالوا: إنه لا إله، والحياة مادة.
وتستعمل الشيوعية في سبيل تحقيق ذلك الثورة على الأخلاق والنظم. ثم استعمال الإبادة للجيل المنافي لهذه الفكرة، وخاصة الأمراء والزعماء والعلماء؛ ليستجدوا جيلاً لا يعرف معروفًا ولا يؤمن بدين، ويعتقدون بأن الدين أفيون الشعوب.
وإنما اشتدت كراهية الناس لها، وخاصة المسلمين، لكونها فكرة إلحادية تحاول أن تجتث أصل دين الإسلام، وتمحو معالمه. ثم ازدادوا نفرة عنها بعد أن عرفوا مساوئها السيئة، وكونها تجلب للناس الفقر والبلاء والخراب والدمار، مما رآه الناس وسمعوا به في البلدان الاشتراكية الماركسية نفسها، فاشتد بغضهم لها ونفرتهم عنها؛ لكون الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها.
إن البلدان العربية استعصت على استجابة دعاية الاشتراكية من أجل إيمانها بالله وتمسكها بدينها الذي هو دين الإسلام؛ لأنهم -وإن دخل عليهم شيء من المبادئ الهدامة الجديدة التي علقت بأخلاق بعضهم، من سراية العدوى من الأخلاق الأوربية- لكنهم ما زالوا ولم يزالوا متمسكين بالإيمان بالله وحده ومحبة دين الإسلام، وإن كان الكثير من بعض البلدان لا يقومون بأداء فرائضه على التمام، لكن سلطان الدين ثابت وراسخ في نفوسهم، وهو السبب الأعظم الذي به عزوا ونهضوا، وفتحوا وسادوا، وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، فهو الهداية المهداة لجميع الخلق، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدّ عنه، ومن أجل قوة سلطان الإيمان على نفوسهم، وأخذه بمجامع قلوبهم، اشتدت شكيمة العرب المسلمين دون انقيادها لدعوة الاشتراكية الماركسية، ودون انتشارها في بلدانهم، وحتى الذين ابتلوا بها في بدء ثورتها، أخذوا يقررون مصيرهم في التخلي عنها، والبراءة منها.
وحتى إن البادئين بتبني فكرة الاشتراكية في بعض البلدان العربية، كمصر، قد عرفوا تمام المعرفة أن دين الإسلام هو أقوى رادع، وأعظم وازع إلى محاربتها وعدم انتشارها؛ لأنه متى قوي سلطان الإيمان في القلب، فإنه يكون أقوى وأقدر على دفع ما يعرض له من البدع والنحل المزيفة والمذاهب الهدامة التي تُزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل.
لهذا أخذوا يحتالون على الناس بدخولها إلى بلاد المسلمين تحت ستار الدين؛ لكونهم يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، فجعلوا الدين جسرًا ومنفذًا يدخلون منه إلى قلوب العوام وضعفة العقول والأفهام، فنشروا في كتبهم وفي صحفهم أن دين الإسلام هو دين اشتراكي، وأن الاشتراكية لا تخالف الدين، بل إنها مستمدة من دين الإسلام، ثم أخذوا في خداع الناس، زاعمين أن اشتراكيتهم تؤمن بالله ورسله، وأنها لا علاقة لها بالدين، وما هي إلا مذهب اقتصادي في تمثيل الحياة فقط، فهم يحاربون الدين باسم الدين.
استباحوا هذا المكر والخداع في سبيل نصر مذهبهم، وحتى يصدق بنحلتهم الرجل العامي والهمج السذج الذين لم يعرفوا حقيقة الاشتراكية الماركسية، ولم يدرسوا مبادئها ولا عرفوا عواقبها السيئة ولا أصولها وما يدعون إليه، وكل من قويت معرفته بها وبمبادئها وما تؤول إليه، فإنه سيكون أشد عنها نفرة، وأشد لها بغضًا ممن لم يكن له غرض وهوى في أكل أموال الناس بالباطل.
والحاصل أن مبدأ الشيوعية من تسميتها بالشيوع؛ أي الاشتراك في الإبضاع في النساء وفي الأموال، فأظهروا الاشتراكية الماركسية في الأموال وبعد نجاحها يعودون إلى إظهار الاشتراكية في الإبضاع. فلا يختص أحد بامرأة دون الآخرين، وينقمون على الزواج الشرعي بأنه قيد لحرية الأشخاص، واستمتاعهم بتوسعهم فيها.
والمقصود أن الاشتراكية الماركسية والقائمين بها والداعين إليها كلها زيف وتضليل وكذب، وفضائحها وفظائعها مشهورة ومشاهدة، فهي أحدّ آلة في هدم المجتمع وتغييره، وهدم الدين واستباحة حرمات المسلمين من كل ما يتصل بأموالهم وأخلاقهم وأعراضهم.
فاعتقاد صحتها واستباحة ما يترتب عليها هو كفر بالله. فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزوّج مولاته من رجل شيوعي، يعتقد ويستبيح كل ما ذكرنا من عقيدة الشيوعيين، كما أنه لا يجوز لمسلم أن يتزوج بامرأة شيوعية تعتقد هذا الاعتقاد. وكما أن هذا الشيوعي لا يستحق أن يرث أباه المسلم؛ لكون الكفر يقطع الموالاة والنسب، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، كما حكى الله عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي﴾ [هود: 45]؛ أي وقد وعدتني أن تنجيني بأهلي، فقال: ﴿قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖ﴾ [هود: 46]. فبما أن للإسلام صوًى ومعالم كمعالم الطريق يعرف به صاحبه، فكذلك الكفر، فإن له معالم كمعالم الطريق يعرف به صاحبه. وبما أن الإيمان هو اعتقاد وقول وعمل، فكذلك الكفر هو اعتقاد وقول وعمل، والله تعالى يقول: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾
[التوبة:105]. * * * روى الترمذي في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» ورواه ابن ماجه عن ابن عمر بلفظ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ولما سئل النبي ﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» رواه الحاكم في مستدركه، والبزار من حديث رفاعة بن رافع. وقال البخاري في صحيحه: قال قتادة: كان القوم - يعني الصحابة- يَتَّجِرُون ولكنهم كانوا إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، حتى يؤدوه إلى الله، وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨﴾ [النور: 38]. فحصلوا بتجارتهم الحسنيين، وفازوا بالسعادتين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. فكانت أعمالهم بارة، وأرزاق الله عليهم دارة، فوجود التجارة والتجار بالبلاد، هو رحمة من الله للعباد؛ لكونهم يجلبون إلى الناس ما يحتاجون إليه، والجالب إلينا كالمهدي إلينا، فيتصل الشخص بهم لحاجته فيشتريها بثمن معجل، أو مؤجل إلى ميسرة.
وقد نهى رسول الله ﷺ عن الاحتكار، ونهى عن تلقي السلع، ونهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، ونهى أن يبيع حاضر لباد. وقال: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»[103]. وكل هذه النصوص متعلقة بمصالح التجارة وحمايتها واحترامها.
ثم إنهم يسدون شيئًا من الفراغ الناشئ عن البطالة بإشغالهم فريقًا من الناس في عمل تجارتهم. أما عدم وجود التجار بالبلد، فإنه فقر للحكومة ونكبة على سائر الرعية.
وكان بعض الصحابة معدودين من التجار المكثرين، فمنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنه خازن من خزان الله في أرضه. ولما كانت غزوة العسرة- أي غزوة تبوك- سنة تسع، حث النبي ﷺ على النفقة في سبيل الله، وكانت زمن جهد ومجاعة، وانقطاع ظهر، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم النبي ﷺ أخرى، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها. ثم حثهم النبي ﷺ، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير ثالثة بأحلاسها وأقتابها. ثم جاء بصرّة دنانير كادت كفّه أن تعجز عنها، فوضعها بين يدي رسول الله ﷺ فجعل رسول الله يقلبها ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتَ وَمَا أَسْرَرْتُ»[104].
فبالله قل لي من أين أتى عثمان بهذا المال الطائل العظيم، وهو لم يتول إمارة ولا جباية ولا عمل حكومة، وإنما هو فضل من الله ونعمة، اكتسبه عن طريق التجارة المباحة في رحلتي الشتاء والصيف.
ومثله عبد الرحمن بن عوف، فقد قدمت له عير من الشام تقدر بسبعمائة بعير، تحمل من كل شيء، فتصدق بها كلها. وهي من فضل كسبه وتجارته. ولما قدم المدينة مهاجرًا، قال: دلوني على السوق، فدلوه على سوق بني قينقاع، فتحصل على ربح حسن في ذلك اليوم، فأتى به إلى النبيﷺ ليريه كيف ربح. فدعا له النبي ﷺ بالبركة في بيعه، حتى لو اشترى ترابًا ربح فيه.
ولهما نظائر من تجار الصحابة، مثل طلحة وزيد بن أرقم وغيرهما. ولما خط عمر بن الخطاب الكوفة بعث بأمره لسعد بن أبي وقاص فخط المسجد، ثم خط بجنبه السوق، فقال عمر: هذا المسجد لديننا، وهذا السوق لدنيانا. ومرّ عمر بن الخطاب برجل من الأنصار وهو يسوي أرضًا ليغرسها، فقال له: ما تصنع بهذه؟ فقال: أريد أن أغرسها لأقتنيها وأغتني بها، وأتصدق من ثمرها. قال: صدقت، صدقت، إن صاحبكم أحَيْحَة يقول:
ويتحمل التجار القسم الأكبر من هذه المساعدة، خصوصًا في النوائب الكبار التي تنوب البلد، من جهاد وغيره، فهم يتحملون أكبر النفقة في هذا طوعًا وكرهًا، وذلك في زمان كانت الملوك فيه معدمين من الثروة في تلك الحال. ومع هذه الأعمال قد عمتهم القناعة والرضا بما آتاهم الله من فضله، فعاشوا في زمنهم عيشة راضية مرضية، بأخلاق كريمة زكية، قد قنعهم الله بما آتاهم، ومتعهم متاعًا حسنًا في دنياهم.
وقد ضعف الآن بين الناس هذا التكاتف والتعاون لضعف رغبتهم في الخير، والبذل في سبيله، مع كثرة مالهم، فكانوا يحيلون كل شيء إلى الحكومة، ويرتجونه منها.
ومن المعلوم أن الأخوة الإسلامية والمحبة الدينية تستدعي العطف والحنان، والصدقة والإحسان، ومساعدة منكوبي الزمان، فإن المسلمين أخوان، والمؤمن للمؤمن كالبنيان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2]، فإن المسلم كثير بإخوانه، قوي بأعوانه. لكن هذا التعاون نجده موجودًا عند مسلمي الهند، فهم متمسكون بأقوى سبب منه لاعتمادهم في فعل الخير على أنفسهم، لا على حكومتهم، لهذا نراهم يقومون بإنشاء المنشآت الخيرية، من بناء المساجد والمدارس الدينية والجامعات العلمية، فيقومون ببنائها وتنظيمها بما تحتاجه من فرش وكراسي، وبناء غرف للطلاب الغرباء، ويتكفلون بالقيام بمعيشتهم، ثم إجراء رواتب الأساتذة والمتعلمين، ويحتسبون التعليم بدون راتب، وينشؤون المستشفيات للمسلمين، وللطلاب والطالبات. وإذا سألت عن موارد هذه الثروة التي تقوم بهذه المشروعات العظيمة قالوا: كلها من مساعدة التجار، كل منهم على حسبه، وعلى قدر رغبته في الخير، ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ﴾ [الطلاق: 7]. حتى إن أحد التجار قد تحمل تكاليف جامعة عظيمة؛ بناءها وتنظيمها وأجور الأساتذة والمتعلمين، وإعانتهم وإعاشتهم، كل ذلك من ماله الخاص، عمل دائم مستمر، لا يناله فيه سآمة ولا ملل. وحتى إن أحد البقالين من المسلمين يخرج كل يوم صدقة لله وفي سبيل الله، بقدر ملء كفيه من شعير أو قمح أو ذرة، حتى إذا جاءه من يتولى جمع التبرعات، وقال له: آتونا من مال الله الذي آتاكم، دفع له هذا المجموع، ويسأل الله القبول، وإنما ذكرت هؤلاء بحسن أعمالهم دعوة للناس إلى الأسوة الحسنة بهم. أما البلدان العربية التي كشرت الاشتراكية في وجوه أهلها، ومضت بتأميم أموال تجارها، فقد كان لها دور كبير في المساعدة والتعاضد والنفقة في سبيل البر والخير، وبناء الجامعات والمعاهد الدينية، وتحفيظ القرآن، لما كانوا أحرارًا في تصرفهم وبيعهم وشرائهم.
أما بعد تحطيمهم، وحجر تجارتهم، فكان أحدهم ينام تحت لحافه من مرض هذا الحَجْر والتأميم، الذي هو حقيقة في تعميم الفقر، فإذا ذُكِرَ لأحدهم شيء من عمل الخير: أومأ بيده وقال: نفْسي.. نفسي، اذهبوا إلى غيري. وشح ببقية ماله؛ لأن عادم الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، وخير الناس من وُعظ بغيره.
فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم، ففيه دليل على فضل كسب المال من حله، ثم الإنفاق منه في سبيل حقه.
فالمسلمون المؤمنون يعتقدون بأن الله قد أوجب عليهم في أموالهم حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، وأن الفقراء وسائر من يستحقون الزكاة لهم حق مفروض في أموال أغنيائهم. ولن يجهد الفقراء أو يجوعوا إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الواجب لهم في أموال أغنيائهم.
وقد استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، وعدوهم مرتدين بمنعها، لما أنكروا وجوبها، وزعموا بأن فرضها يموت بموت رسول الله ﷺ.
و «إِنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ»، كما رواه الترمذي مرفوعًا، وذلك من إعانة المنكوبين، وإعاشة المضطرين، ومساعدة المجاهدين، والنفقة على الأقارب المحتاجين؛ لأن الأخوة الإسلامية تستدعي العطف والحنان، والصدقة والإحسان، ومساعدة منكوبي الزمان، فإن المسلمين إخوان، والمؤمن للمؤمن كالبنيان ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2]، والمسلم كثير بإخوانه، قوي بأعوانه، وهذه الأعمال لا تنال إلا بالمال. وقد ذهب أهل الدثور- أي الأغنياء- برفيع الدرجات في الجنات. ونعم المال الصالح للرجل الصالح، وما أنفق أحد في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة. وما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على صرف ما هو أكثر منها في سبيل الباطل، فبعض التجار لما منعوا زكاة أموالهم وبخلوا بما آتاهم الله من فضله، وقطعوا وشائج أرحامهم، وتركوا عبادة ربهم، سلط الله عليهم الجبابرة الظلمة من الاشتراكيين يسومونهم سوء العذاب، ويسلبونهم أموالهم باسم الاشتراكية المبتدعة، ثم يجلسونهم على حصير الفقر والفاقة يعلوهم الذل والصغار، حتى يتقاضاهم الفناء ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠﴾ [الشورى: 30]. فالمال المباح هو بمثابة الترس للإسلام، يستجلب به العدد والعتاد، ويستدفع به صولة أهل البغي والعناد، فهو بمثابة المحور الذي تدور عليه رحى الحرب، ويستعان به في الطعن والضرب، فهو إحدى القوى التي أمر الله بإعدادها عند لقاء الأعداء. فالمسلم التقي يشتغل بجوارحه في العمل في دنياه وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، والعمل للآخرة هو أكبر العون على حصول الدنيا وسعتها والبركة فيها، كما قيل في الحديث: «يَقُوْلُ اللهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ قَلْبَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[105]. وقد قيل:
فكل ما يسمعه الناس في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال الناس السيئة في المال لا نفس المال، فقول النبي ﷺ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ»[106]، وإنما كانوا بهذه الصفة من أجل أن أكثر التجار لا يبالي من أين أخذ المال، أمن الحلال أم من الحرام، وأكثرهم يتعاملون بربا النسيئة الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، وقد أجمع العلماء على تحريمه، ولهذا استثنى الله من اتقى الله وبرّ وصدق في معاملته، وقليل ما هم، فالتجار الذين يتعاملون بالربا، وقد يتجرون في الخمر ولحم الخنزير، ثم يصرون على منع زكاتهم، فهؤلاء هم التجار الذين يبعثون يوم القيامة فجارًا؛ لكون الفجور هو التوسع في أعمال الشرور، وهو منطبق على وصفهم. كما أن الأبرار هم المتوسعون في أعمال الخير والبر والصلاح، قال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤﴾ [الإنفطار: 13-14]، فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي الآخرة، والفجار في جحيم في الدنيا وفي الآخرة. وعلى كل حال إن وجود التجارة والتجار في البلاد رحمة من الله للعباد، مهما كانت صبغتهم وصفتهم؛ لكون الناس يتصلون بهم في حاجاتهم، وكانت اليهود هم أكثر تجار المدينة زمن النبيﷺ وقد توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير. * * *
[103] أخرجه مسلم من حديث جابر.
[104] أخرجه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة.
[105] أخرجه عبد الرزاق في المصنف من حديث ليث بن أبي سليم مرسلاً.
[106] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث رفاعة.
إن الناس قد يعرض لهم حالات من الحاجات والشدّات، وارتفاع أسعار الأطعمة والأشياء الضرورية، مما يوجب على الحكومة التدخل في مراعاة تلطيفها وتخفيفها بمقتضى العدل، بدون ضرر ولا ضرار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز. انتهى.
وقد روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، والمحتكر الخاطئ هو الذي يشتري الطعام من السوق، ثم يحتكره لإرادة الغلاء.
أما من كان عنده طعام من نخله أو زرعه فاحتكره لإرادة الغلاء، فلا يعمه الوعيد. ومثله من اشتراه في حالة الكساد واليسار، أو اشتراه من التجار، فلا يشمله الوعيد؛ لكون الحديث ورد فيمن اشترى طعامًا مجلوبًا في السوق؛ لقوله ﷺ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»[107]، ولأن في خزن الطعام في حالة كساده، مصلحة عامة لجميع الناس، بحيث يجدونه عندما يحتاجون إليه، وهو أحسن من كونهم لا يجدونه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام المجلوب في السوق، فيحبسه عنهم، يريد غلاءه عليهم، وهو ظلم للخلق لما فيه من الإرهاق والتضييق عليهم بزيادة الثمن، ومثله من عنده طعام غير محتاج إليه، وفي الناس ضرورة وحاجة إليه.
فلولي الأمر أن يكره مثل هذا على بيع ما عنده بقيمة المثل عند الضرورة في حالة حاجة الناس إليه، وفي غير الضرورة لا يجوز إكراهه على بيع ما عنده ولا التسعير عليه في ماله، وعليه يُحمل ما رواه أنس، قال: غلا السعر على عهد رسول الله ﷺ فقالوا: لو سعرت لنا يا رسول الله. فقال: «إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» رواه أبو داود والترمذي وصححه.
فما يفعله الناس من تسعير السمك على الصيادين، وهو صيد لا ينالونه إلا بكلفة ومشقة، ويخوضون في حصوله الخطر وفنون الضرر. فإن هذا التسعير خطأ؛ لكونه مما يقتضي تنفيرهم عنه، ومن الواجب مساعدتهم لتوفيره. * * *
[107] رواه ابن ماجه في سننه من حديث عمر.
فإن قيل: هل يسوغ للحكومة أن تتولى استيراد الأشياء التي يحتاج إليها الناس بداعي الضرورة من الأطعمة وغيرها لقصد التخفيض على الناس في سعرها؟
فنقول: إن الحكومة عليها أعباء وتكاليف وأثقال من الأشغال العامة ومن شؤون تنظيم البلاد والأعمال، مما يوجب التفرّغ لها، وإلقاء تكاليف التجارة وأعمالها وأموالها إلى أهلها من التجار الذين حذقوا فيها وتمرنوا على مزاولتها، وأقاموا أنفسهم مقام الموظفين للحكومة في حسن تدبيرها وتثميرها، فمن واجب الحكومة أن تحيل التجارة بكمالها إلى التجار العارفين بسياستها وصيانتها، وللحكومة الرقابة عليهم في المخالفة، وبذلك تستريح الحكومة من أعباء تكاليف حملها ومسؤوليتها، وعلى الحكومة حماية التجارة وتعزيزها ومساندة أهلها، بمساعدتهم بالقروض المضمونة في جلب كل ما تحتاجه البلاد، وتوجيههم بداعي التنشيط إلى ذلك، ثم يستمر عملهم واستيرادهم لتجارتهم، فالأصل هو عدم جواز تدخل الحكومة في تولي التجارة أو التسعير؛ لأن الله هو المسعّر القابض الباسط، كما ثبت بذلك الحديث، ومثله قوله: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»[108].
أما تولي الحكومة للتجارة أو استيراد المعيشة وسائر ما يحتاجه الناس، ثم تتولى بيع هذه الأشياء بواسطة الوكلاء، ومن تحت الوكلاء وكلاء، فلا شك أن هذا نوع من التأميم الذميم، إذ ليس من شأن الحكومة مزاحمة التجار في تجارتهم، فالحكومة حكومة، والتجار تجار، ولأن في هذا العمل بهذه الصفة إضرارًا بليغًا بالتجار، إذ هو عبارة عن عزلهم عن عملهم، وانقطاع كسبهم الذي عليه مدار تجارتهم ومعيشة أهلهم وعيالهم، فيبقون كسالى حيارى، فيكثر بسببه همّهم وغمّهم، والتلاوم فيما بينهم، ثم يكثر كلامهم في الحكومة، وما عملت معهم.
ولو فرضنا أن للحكومة مقصدًا حسنًا في تولي المستوردات من الأطعمة وغيرها، وأن قصدها التسهيل في أسعارها، فإن هذا قصد حسن، وفي إمكان الحكومة تنظيمه مع التجار بما يسمونه دعم السلع من الحكومة بالنقود، حسبما تعمله بعض الحكومات مع رعاياها في الأطعمة الضرورية.
أما قصد الحكومة في بيع ما تستورده من الأطعمة بأقل مما يبيع به التجار، أو بأقل مما اشتري به في بلده، فهذا أيضًا ضار بالتجار، إذ فيه نوع تحد للتجار، بأن يبيعوا سلعهم بأقل من ثمنها عليهم، أو بأقل من ثمن المثل، وهذا فيه ضرر بليغ عليهم، إذ الحكومة لا يضرها الإسقاط من الثمن، بخلاف التاجر، فإنه يضره ذلك، أو تكسد سلعته عنده.
ثم إن الحكومة بتوليها لجلب هذه الأطعمة وغيرها، ثم توزيعها في المحلات المستأجرة، ونصب وكلاء ومن تحتهم وكلاء على بيعها وقبض ثمنها، تضيع هذا المال، وتتلاعب به أيدي الضياع، لكون مال الحكومة غير محترم عند الناس، ولا يتولى حفظه وليّ مصلح، فهو يُذهب جفاءَ هذا لكم، وهذا أُهديَ إليّ.
ثم إنه بطريق المشاهدة والحس نرى البلدان التي قبض حكامها زمام تجارتها، والمستوردات فيها، وقضت بالحجر والتضييق على التجارات والتجار، قد تقلص عنها ظل الرخاء والهناء، وابتليت بالمساغب والتعب والغلاء وعدم وجود أكثر الحاجات؛ لكون البلد المحجور على أهلها في التجارة لا يقصدها الناس ببيع سلعهم ولا للشراء منها، فتبقى في معزل عن الهناء والرخاء والراحة.
ومما يحقق ذلك أن عالمًا فاضلاً من أهل البلاد حدثني بأنه سافر إلى إحدى المدن الاشتراكية العريقة في الحضارة لحضور مؤتمر ينعقد بها، قال: فنزلنا في فندق، وعند الصباح طلبنا من مدير الفندق أن يأتينا ببيض، فاعتذر لعدم وجوده، وقال: إنه يباع بالبطاقة، فلا يوجد عندنا إلا في الأسبوع ثلاثة أيام، أو قال: أربعة أيام. فمتى كان هذا العدم والتقتير في البيض الذي يتلاعب الصبيان بأقفاصه عندنا، فما بالك بغير البيض من الحاجات الراقية، إذ هي أشد عَدَمًا، لكون الحجر والتضييق على التجارة والتجار مدعاة إلى الشؤم والفشل ومحق الرزق. فدعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.
نعم إنه يجب على الحكومة مراقبة التجار في الشيء الزائد على المعتاد، أو في احتكار الطعام وقت شدة حاجة الناس إليه، والحكم يدور مع علته، ويزول بزوالها. والمقصود أنه ينبغي تنشيط التجارة لتقوى، ولن يتم ذلك حتى ينفك عنها حصار الحجر، وحتى تكون حرّة في التوريد والتصدير؛ لأنها متى أخرجت شيئًا استوردت ما هو أكثر منه من الخارج، وبذلك تقوى وتنشط، وتزداد نموًا وربحًا، كما قيل: * * *
[108] أخرجه مسلم من حديث جابر.
إنه قبل كل شيء يجب علينا أن نكون قوّامين لله، شهداء بالقسط فيما لنا وعلينا، ولنعمل حلقة للتفاضل بين حكام العرب المسلمين، وبين زعماء الاشتراكيين، حتى يتبين لنا بها الصادق في قوله وعمله من الكاذب المهين.
إن حكام المسلمين يعتقدون حرمة أموال الغير، وحرمة التعدي عليها بأخذها بغير حق.
أما الأموال التي أخرجها الله لهم من أرضهم من ينابيع البترول، وغيرها من خزائن الأرض، ومن الذهب والفضة، فإنهم يعتقدون أن هذا المال الذي أخرجه الله لهم هو فضل من الله ساقه إليهم، واستخلفهم عليه، لينظر كيف يعملون فيه. فهم يقولون فيه مقالة المؤمن الشاكر: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٤٠﴾ [النمل: 40]. ولا يقولون مقالة الكافر الجاحد: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ﴾ [القصص: 78]؛ أي على حذق مني بكسبه حتى كثر ووفر. فهم يعتقدون بأنهم مستخلفون فيه، والله ناظر كيف يعملون. وإذا نظرنا إلى عمل حكام المسلمين وتصرفهم فيما استخلفوا فيه رأيناهم قد عملوا مشيد العمران، وشواهق القصور والبنيان، التي قاموا بإنشائها من أصلها، وخصصوها للضعفة من الفقراء والمساكين على سبيل العطاء، أرضها وبنائها، وتسمى بالبيوت الشعبية، وقد بنيت على طراز واحد بالمسلح، ومساحة أرض البيت تسع بيوتًا؛ نظرًا لعائلة الشخص من بعده، وهي تماثل في مبناها ومعناها بيوت الرؤساء والتجار، مزودة بالماء والكهرباء وسائر وسائل الراحة والرفاهية، ثم تدفع مفاتيح البيت إلى هذا الفقير الذي لا يحلم بمثله، وربما دفعوا له نقودًا تقوم بكفاية بناء البيت على حسب رغبته في تنظيمه.
وهذه البيوت تعد بالآلاف في كل بلد. ولا يزالون مستمرين في عمل هذا التنظيم، ثم لا يزالون يقومون بعملهم في إعطاء المتخلفين عن السابقين بدون سآمة أو ملل.
أضف إلى ذلك إجراء الرواتب الشهرية على الضعفاء من الفقراء والمساكين والمقعدين وبعض الأغنياء، حتى عم الغنى سائر القرى من البلدان العربية، ولا زلنا نحب منهم الزيادة في رواتب المقلّين من أجل شدة المؤنة وغلاء المعيشة.
ولم يقتصروا على مساعدة الفقراء فحسب، بل ساعدوا الأغنياء على المشاريع النافعة، وبقروض الملايين إلى مدة طويلة المدى؛ لينعشوهم وينشطوا تجارتهم.
كما أنهم لم يقتصروا بفضلهم على رعاياهم فحسب، بل مدّوا يد العون والمساعدة إلى كل من يمت لهم بقرابة الإسلام من البلدان الغريبة البعيدة بالمساعدات الجزيلة، مع قيامهم بتأسيس المشاريع الخيرية من المساجد وغيرها، ينفقون فيها من فضل ما آتاهم الله من فضله، فهذا عمل حكام المسلمين.
فبالله قل لي ماذا عمل زعماء الاشتراكية الماركسية حين استولوا على أموال المؤمنين والمؤمنات، وأموال جميع الناس ومصانعهم، وأموال البنوك والشركات، وأموال الأغنياء والأوقاف، وأموال اليتامى والعجزة، وما إخالهم فعلوا شيئًا، بل هم كرماء بالكلام، يمصون دماء الأغنياء والفقراء، ثم يلوّحون لهم بكلمات العطف واللطف، فيقولون: هذا زمان الهدم، وسيأتي زمان البناء. ثم يستمر الهدم ويتزايد حتى يتقاضاهم الفناء.
فليقابل العاقل بين عمل حكام المسلمين، وبين عمل زعماء الاشتراكية حتى يتبين له الفرق بين المحقين والمبطلين، وبين المحسنين والمسيئين. * * * إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، والله يجازي كل من شكره بالمزيد ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧﴾ [إبراهيم: 7]، فبالشكر تزيد النعم وتدوم، وبتركه تسلب وتزول، فالشكر قيد النعم، والمعاصي من أسباب حلول النقم، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. وليس الشكر مقصورًا على قول أحدكم: الشكر لله، فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان، ينطق به البر والفاجر، والجاحد والشاكر، والله يقول: ﴿وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ١٣﴾ [سبأ: 13]. وإنما حقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها في مرضاة وليّها ومسديها، فمن أنعم الله عليه بنعمة الغنى بالمال، فعنوان شكره هو القيام بواجب حق الله فيه، من أداء زكاته ومن الصدقة منه والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فإن هذا هو حقيقة شكره المستلزم لنموه وبركته، مع النفقة منه على الأهل والعيال والتجمل منه بأنواع الزينة المباحة والمسكن لأن هذا من النفقة بالمعروف، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؛ لأن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة.
إن الناس مستخلفون في الدنيا على أموالهم، والله ناظر كيف يعملون، فمن أخذ هذا المال من حله، وأدى منه واجب حقه، فنعم المعونة هو، وكان له حسنات ورفع درجات في الجنات.
ومن أخذه من غير حله، ومنع منه واجب حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عذابًا عليه في الدنيا، وعقابًا له في الآخرة، يقول الله: ﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٥٥﴾ [التوبة: 55]. إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الزكاة والصدقة والصلة وسائر الأفعال الخيرية، إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة، ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ:39]، فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف. وما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منه في سبيل الباطل. فكسب المال من حله ثم الجود بأداء واجب حقه يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخرى للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فجميع ما أوجد الله في الدنيا من الذهب والفضة والمعادن الجامدة والسيالة والبترول والحيوانات والثمرات وسائر الفواكه والخيرات، كل هذه الأشياء خلقها الله كرامة ونعمة للإنسان ليتنعم بها في حياته، ويتمتع بها إلى ما هو خير منها لآخرته، يقول الله تعالى: ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧﴾ [العنكبوت: 17]، وقال: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١﴾ [طه: 81]. فكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يراد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال؛ لأن أفعال الناس تقع غالبًا على الأمر المكروه أو الحرام، من أكلهم الربا وشربهم الخمور وتوسعهم في أعمال الشرور والفجور، فالذم ينصرف إلى هذه الأعمال لا إلى نفس المال، وإذا قال الإنسان: لعن الله الدنيا. قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه. لأن الله جعل الدنيا منحة لأقوام، ومحنة على آخرين، وسعادة لأقوام، وشقاوة على آخرين، وقد سمى الله المال خيرًا لمن أراد به الخير.
فالمال هو من الزينة التي أخرجها الله لعباده كرامة لهم ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [الأعراف: 32]، فسمى الله المال زينة لأنه يزين صاحبه في العيان، ويجمله بين الأقران، ويحفظه عن السقوط في الذل والهوان، وهو ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغني عنه في حال من الأحوال، وإن الكريم على الإخوان ذو المال. مع العلم أنه لا غبطة بكثرة المال، وإنما الغبطة في استعمال المال فيما خلق له من صالح الأعمال، كما قيل: وهنا قصة هي لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره؛ عاد الحسن البصري رجلاً يدعى عبد الله بن الأهتم، وكان تاجرًا لكنه شديد البخل، فرآه يضطرب ويحوقل، قال: ما هذا الاضطراب معك، أمن وجع تشتكيه؟ فقال: لا والله، ولكنني أفكر في مئة ألف دينار في زاوية هذه الدار، لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحمًا، ولم أقم بواجب حق الله فيها، وقد عرفت أنني سأعذب بها، فقال له: ثكلتك أُمك، ولمن كنت تجمعها وتمنعها؟ قال: جمعتها لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة. ثم إنه قدّر أن يموت من مرض، فشهد الحسن جنازته، فلما أتى المقبرة ألقى الموعظة على حسب عادته في نشر الحكمة والموعظة الحسنة، فقال: انظروا إلى هذا المسكين، أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، وجفوة سلطانه، انظروا إليه، خرج من الدنيا مذؤمًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه. ثم التفت إلى الوارث فقال: أيها الوارث، لا تُخدعنَّ كما خُدع صاحبك بالأمس، إن هذا المال أتاك حلالا، فلا يكونن عليك وبالا، وأتاك عفوًا صفوًا ممن كان جموعًا منوعًا، من باطل جمعه، وعن حق منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، لم تكدح لك فيه يمين، ولم يعرق لك جبين، واعلم أن يوم القيامة ذو حسرات، وأكبر الناس حسرة رجل رأى ماله في ميزان غيره، سعد به وارثه، وشقي به جامعه، فيا لها حسرة لا تزال، وعثرة لا تقال. انتهى.
وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات. وكل ما هو آت آت.
إن الناس عند استفادة الغنى على أقسام: منهم البخيل المقتِّر، ومنهم السفيه المبذر، ومنهم الوسط المقتصد، الغني الشاكر، وخير الأمور أوسطها. أما البخيل المقتر: فهو التاجر الجموع المنوع، الذي غمره الله بنعمته، وفضله بالغناء على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته، وعن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، قد التاط قلبه بحب الدنيا، فجعلها أكبر همه، وغاية قصده، وصرف إليها جل عقله، وجل عمله، وجل اهتمامه، وترك لأجلها فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، ولم يزل ذاك دأبه، حتى يخرج من الدنيا مذؤمًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، وربما كان يحدث نفسه في حال فقره أن لو أغناه الله لأنفق وتصدق وأدى زكاة ماله، فلما حقق الله آماله، وكثر ماله، فرّ ونفر، وبخل واستكبر، فهذا بالحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد أوقع نفسه في الفقر من مخافة الفقر، فكان جموعًا منوعًا هلوعًا جزوعًا، فلا ينبغي أن يُغبط بكثرة ماله، مع العلم بفساد أعماله، إذ هو أخو قارون في كثرة ماله، وفساد أعماله.
إن الله سبحانه قص علينا في كتابه الكريم خبر من أنعم عليه بالغنى فشكر، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، فقال سبحانه في حق الغني الشاكر: ﴿لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦ﴾ [النور: 38]؛ أي من سعة الدنيا وبركتها. قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: كان القوم -يعني كان أصحاب رسول الله ﷺ- يتجرون، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله، بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فحصلوا الحسنيين، وفازوا بالسعادتين، سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، فكانت أعمالهم بارّة، وأرزاق الله عليهم دارّة ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾ [الزمر: 18]. أما من أنعم الله عليه بالغنى فطغى واستكبر، فقد قال الله في حقه: ﴿۞وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة: 75-77]. إن هؤلاء في حالة فقرهم على جانب من الصلاح والاستقامة، ويحافظون على الصلوات في الجمع والجماعة، وكانوا في حالة فقرهم يعاهدون ربهم أن لو أغناهم الله لأدوا زكاة أموالهم، وأنفقوا وتصدقوا، فلما حقق الله آمالهم، وكثر مالهم، فروا واستكبروا، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله، فتركوا الصلوات، ومنعوا الزكاة، فأنزل الله فيهم ما تسمعون ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16]. فالمال لا يكون سعادة في الحياة ولا حسنات بعد الوفاة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال، بأن يأخذه من حله، ويؤدي منه واجب حقه، فيكون نعم المال الصالح للرجل الصالح، والتاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
أما السفيه المبذر فهو الذي أصاب من هذا المال جانبًا كبيرًا، وعددًا كثيرًا، ولكنه أساء التصرف في استعماله، حيث حمله على الطفور والطغيان، وعلى مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان، ثم لم يزل تاركًا للصلاة، عاكفًا على اللذات، وشرب المسكرات، ينفق المال جزافًا في سبيل البذخ والشهوات، والتفنن في المأكولات، والتأنق في المركوبات، ولم يزل ذلك دأبه، حتى يصبح صفر اليدين، مطوق العنق بالدين، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأُحِلَّ بغناه دار البوار.
ومن المشاهد للاعتبار أن المسرفين المبذرين يصابون بالفقر قبل أن يموتوا؛ لأن إنفاقهم المال في سبيل الإسراف والتبذير، وعدم حسن التدبير، مؤذن بزواله، ثم الوقوع في ضده- أي الفقر- الذي استعاذ منه النبي ﷺ وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[109]، فما افتقر من اقتصد.
فدين الإسلام هو دين تثمير الأموال وحفظها، وتوسعة التجارات من سبيل حلها، ومنع الإسراف والتبذير فيها.
يقول الله: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5]؛ أي تقوم بها أبدانكم، وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم وشرفكم. والسفه: خفة في الرأي، علامته كونه لا يحسن تثمير ماله ولا توفيره. وقال سبحانه: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء: 26-27]، فجعْل المبذرين من إخوان الشياطين دليلٌ على مهانتهم ومذلتهم ومذمتهم؛ لأن الشياطين هم الذين يبطرون نعمة الله ولا يشكرونها ﴿وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا ٣٨﴾ [النساء: 38]. فلا تكونوا مثل هذا السفيه المبذر، ولا مثل ذاك البخيل المقتِّر، ولكن مثل الوسط المقتصد، الغني الشاكر، الذي آتاه الله النعمة فعادت عليه بالسعادة والرحمة، ساسها بالرأي والتدبير، وصانها عن الإسراف والتبذير، وعاد بأداء زكاتها وبالصدقة منها على الفقير والمسكين، وعلى الرحم واليتيم، فزكت نعمته وزادت، وثبتت ودامت، فكان عمله بارًّا، ورزق الله عليه دارًّا: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾ [الزمر: 18]، والله أعلم. * * *
[109] رواه الحاكم عن ابن مسعود.
إن دين الإسلام هو دين كامل وشرع شامل، دين الحق الذي نظم حياة الخلق أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. صالح لكل زمان ومكان. وقد سماه الله رحمة للعالمين؛ لأن فيه محض سعادتهم في دنياهم وآخرتهم. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأن الله سمّاه هدى وشفاء، أي لعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى﴾ [فصلت: 44]. وكما قص علينا خبر من طغى وتكبر، وصال في الناس وتجبر، فاستباح سلب أموال الأغنياء بلا حق، يقول الله عز وجل: ﴿۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧﴾ [القصص: 76-77]. إن هذا القرآن بلاغ للناس ولينذروا به، ففيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا، وهذه القصة سيقت مساق العظة والعبرة، لينذر بها من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، سيقت في بيان سيرة قارون وفساد سريرته، وبيان كثرة ماله وفساد أعماله، وكيف حقت عليه كلمة العذاب ببغيه وطغيانه. فأخبر الله سبحانه أن قارون كان من قوم موسى، وقيل: إنه ابن عمه، وقيل: إنه ابن خالته، وكان فيما زعموا صالحًا في بداية عمره، ويسمى المنور لجمال وجهه، فلما كثر ماله نافق وطغى، وارتد وبغى، وصدق الله العظيم: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨﴾ [العلق: 6-8]. جاءه نبي الله موسى عليه السلام برسالة من ربه، يدعوه إلى دينه بالحكمة وبالموعظة الحسنة، ففر ونفر وعمى واستكبر، وكان له جنود وأتباع، وصاحب المال مطاع، فحاول قارون الفتك بنبي الله موسى، وأظهر البغي عليه ليقطع دابره، حسدًا له على نعمة رسالة ربه.
والبغي مصرعه وخيم، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع فيه. وفي الحديث «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»[110]، والبغي أحيانًا يكون بالأقوال، كأن يستطيل عليه بسبه وذمّه ليذله بين الناس، وأحيانًا يكون بالأفعال، كأن يستطيل عليه بضربه أو قتله أو أخذ ماله أو فساد زوجته عليه، ونحو ذلك من فنون الأذى والعدوان.
ومن أنواع البغي تسلط زعماء الاشتراكية الماركسية على سحب أموال الأغنياء منهم، ليجلسوهم على حصير الفاقة والفقر، بدل ما يتنعمون هم وأعوانهم بأموالهم، يحاولون بذلك محو الغنى عن المنعم به عليهم، ثم مساواة الناس في الفقر، الذي من لوازمه الخراب والدمار، ونقص الأرزاق والثمرات، وغلاء الأسعار، فهم الجناة على العباد والبلاد. فعملهم هو حقيقة في الفساد في الأرض، والله لا يحب المفسدين.
وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»[111]. ثم قال: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ﴾ [القصص: 76] فأخبر الله سبحانه عن قارون بأنه مع كفره وعصيانه، وبغيه وطغيانه، أن الله أرخى له العنان في فنون البغي والعدوان، وأعطاه من كنوز الأموال على اختلاف الأنواع والألوان ما يعجز العصبة الأقوياء عن حمل مفاتيحه، سواء قلنا: إن المفاتيح من حديد أو من خشب أو من جلود، وحسبنا تنويه القرآن بعظمتها، مما يدل على عظمة المخزون بها، وهو استدراج من الله له في سعة الرزق وبسطته؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب. وإذا رأيت الله سبحانه يسدي نعمه على الشخص، والشخص مُصرّ على معصية ربه، فاعلم أنما هو استدراج من الله له، يقول الله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٥﴾ [الأنعام: 44-45]. ولما رأى الناصحون الصالحون من قوم موسى ما فعله قارون من الطفور والطغيان، ومجاوزة الحد في البغي والعدوان، أخذوا في وعظه ونصحه؛ لأن بقاء الأمم -في قديم الزمان وحديثه- ببقاء الصالحين الناصحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولأن إنكار المنكرات هو مما يقلل فشوها وانتشارها، يقول الله تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡ﴾ [هود: 116]. ولهذا قالوا في نصيحتهم وإرشادهم: ﴿لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦﴾ [القصص: 76]، فالفرح المذموم هو الذي يفضي بصاحبه إلى الأشر والبطر والفجور والغرور، وغالبًا ما ينشأ عن الزهو بالدنيا وزينتها. وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ، لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ»[112] وقال: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أما من وسع الله عليه بالغنى بالمال فجعله أكبر همّه، وصرف إليه جل عقله وجل عمله وجل اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، فهذا في الحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد خسر دنياه وآخرته، أتاه شيطانه فخوّفه روعة زمانه وقلة ماله، فغل يده ومنع ما عنده، ولا يزال ذلك دأبه حتى يخرج من الدنيا مذمومًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه ولا إثمًا سلم منه، فهو عبد درهمه وديناره. وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَتَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»[114]. وسيندم حيث لا ينفعه الندم، حين يقول: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩﴾ [الحاقة: 28-29]، وحين يقول: ﴿يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ٢٦﴾ [الفجر: 24]. وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: فلان قَدْ مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت. ثم قالوا في تمام نصحهم وإرشادهم: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا﴾، لما وعظوه ونصحوه بما ينفعه في أمر آخرته، عادوا فنصحوه بما ينفعه في أمر دنياه، فقالوا: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا﴾، قيل: معناه تزود من دنياك لآخرتك. وقيل: لا تنسَ نصيبك أي من الكسب والسعي وسائر أسباب الغنى؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكسب، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الروح والجسد، يمدح القائلين ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ﴾ [البقرة: 201]، ونعم المال الصالح للرجل الصالح. فالإسلام يأمر بكسب الأموال وحفظها، والتوسع في فنون التجارات من وجوه حلها، وفي الحديث «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[115]. ولما سئل النبيﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[116]، وروي: «طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ»[117]، والله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال.
وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء كإبراهيم ويوسف وسليمان -عليهم السلام- وبعض الأنبياء يتكسبون بالحرف والصنائع، والنبي ﷺ كان قبل النبوة يسافر بالمال إلى الشام. وكان أصحاب رسول الله يتجرون، يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أُمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله كفريضة الصلاة وفريضة الزكاة بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله. فليس من الدين أن يتخلى الإنسان عن المال وعن السعي والكسب للعيال، ويلزم زاوية من زوايا المسجد الحرام أو مسجد المدينة، يتبتل فيه للعبادة وينقطع عن البيع والشراء والأخذ والعطاء، كما يفعله الرهبان وبعض الدراويش، فقد جاء أناس من الصحابة إلى النبي ﷺ يستأذنونه في أن يبيعوا عقارهم وما لهم ويشتروا بثمنها سلاحًا وخيلاً يجاهدون عليها في سبيل الله، فنهاهم رسول الله عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[118]، وأراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله، فردَّ رسول الله صدقته؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يُستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال، وكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال لا المال نفسه؛ لأن الطاعة هي همّة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا، لكون المسلم يشتغل في الدنيا بجوارحه وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، فيحصّل الحسنيين ويفوز بالسعادتين، فتكون أعماله بارة وأرزاق الله عليه دارة، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾ [الزمر: 18]. إن قارون قد مضى وانقضى وعوقب بما تسمعون، فما كان جوابه لهؤلاء الناصحين الصالحين إلا أن قال: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ﴾؛ أي على حذق ومعرفة بجمع المال وكسبه حتى كثر ووفر، ولم يقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ﴾، وجحود النعمة مؤذن بزوالها، يقول الله: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧﴾ [إبراهيم: 7]، ولهذا ذمه الله بقوله: ﴿أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسَۡٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨﴾ [القصص: 78]. إن كل ما ورد في ذم قارون، وعقابه على كثرة ماله وفساد أعماله، فإنه منطبق بالدلالة والمعنى على كل من اتصف بصفاته وعمل بمثل أعماله؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد:
إياك أعني واسمعي يا جارة
وخير الناس من وُعظ بغيره، فهذا الوصف ينطبق على كل تاجر وسّع الله عليه من صنوف نعمه وفضّله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته وعن الصدقة منه والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فمن كانت هذه صفته فإنه أخ قارون في كثرة ماله وفساد أعماله.
فبالله قل لي كيف: كان عاقبة أمره؟ أُجبك بأن الله سبحانه أمر الأرض أن تخسف به وبماله، قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢﴾ [القصص: 81-82]، خسف الله الأرض بقارون وبماله، وما الخسف ببعيد عن أمثاله من التجار الذين جحدوا نعمة الله عليهم، ومنعوا زكاة أموالهم، ونسو ا أمر آخرتهم، تسمع بعشرات الملايين أو مئات الملايين أو ألوف الملايين عند أحدهم، ولكنك لا تسمع بمن يؤدي الزكاة منهم، ثم سرت عدوى منع الزكاة من بعضهم إلى بعض، فهؤلاء إن لم يُخسف منهم بالأبدان، فإنه قد يخسف منهم بنور الإيمان، ومن المعلوم أن الخسف بالإيمان أضر من الخسف بالأبدان، فيبقى سيئ الحال جموعًا منوعًا، يبغض الناس ويبغضونه، ولهذا ختم الله هذه الآيات بقوله: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣﴾ [القصص: 83]. نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، و الله أعلم.
و ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢﴾ [الصافات: 180-182]. * * *
[110] رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن أبي بكرة، قال الحاكم: صحيح وأقروه.
[111] في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار.
[112] متفق عليه من حديث أنس.
[113] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
[114] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
[115] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.
[116] أخرجه الإمام أحمد من حديث رافع بن خديج.
[117] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود.
[118] أخرجه مسلم من حديث جابر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.
أما بعد:
فإن الدين الخالص المبني على العلم الصحيح الراسخ لن يرتد عنه أحد سخطة له ورغبة عنه إلى غيره، كما في سؤال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن صفة رسول الله وعن صفة أتباعه فقال: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له؟ قال: لا. قال: فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب[119]. وفي صحيح مسلم عن العباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولًا». وفي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
لأن المسلم العاقل لا يرضى ولا يختار أن يخرج من النور إلى الظلمات، ودين الإسلام هو دين النور ودين السعادة والسيادة والسلام، ودين العزة والقوة والنظام المطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام. دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس أحسن نظام. دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام. دين يطبع في القلب محبة الرب ومحبة الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل، فهو دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة.
[119] أخرجه البخاري من حديث أبي سفيان بن حرب.
فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم. وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالهم وكثر المرتدون من أولادهم، كل هذا من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، لكون القوانين تبيح لهم الربا والزنا وشرب الخمور، وتبيح لهم الرقص والخلاعة والسفور. قد ضربهم من الجهل سرادق، ومن الغباوة إطباق، وغرهم بالله الغرور. تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة وسقطوا في هوة المذلة التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق.
إن العلم الراسخ في القلب المبني على خشية الرب هو أعظم نافع وأقوى رادع لما يعرض للشباب في حياتهم من فتن الشبهات والتشكيكات وفساد الاعتقادات التي تزيغ المسلم عن عقيدته السليمة وطريقته المستقيمة؛ ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل. وإن أكثر ما يبعد هؤلاء الشباب عن الدين ويلحقهم بالمرتدين هو أن أكثرهم يسافرون إلى البلدان الأجنبية - كبلدان أوروبا وغيرها - لحاجة التعلم قبل أن ترسخ تعاليم دين الإسلام في نفوسهم، وقبل أن يتربوا على العمل به تربية دينية عملية تغرس في نفوسهم محبة الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل، بل هم عند أهلهم وفي بلدهم قد فسقوا عن أمر ربهم، وتخلفوا عن العمل بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم، ثم التحقوا بمدارس النصارى، واختلطوا بالمعلمين والمتعلمين بها، فعاشروهم وملؤوا أفكارهم من الكفر والإلحاد وفساد الاعتقاد، كجحود الرب والتكذيب بالقرآن والتكذيب بالرسول ﷺ والتكذيب بالبعث بعد الموت والتكذيب بالجنة والنار، فلقنوهم هذه العقيدة على سبيل المحبة والصداقة والتعليم، فصادفت منهم قلبًا خاليًا فتمكنت، ومن يغترب يحسب عدوه صديقه. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، ثم قرأ: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ﴾ [الروم: 30][120]. فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث الصحيح أن كل مولود يولد على فطرة الإسلام لو ترك على حاله ورغبته لما اختار غير الإسلام، لولا ما يعرض لهذه الفطرة من الأسباب المقتضية لإفسادها وتغييرها، وأهمها التربية السيئة الفاسدة، وقد أشار إليها النبي ﷺ بقوله: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ»؛ أي أنهما يعملان مع الولد من الأسباب والوسائل ما يجعله نصرانيًّا خالصًا أو يهوديًّا، لكون الوسائل والأسباب لها أحكام المقاصد. ومن نوع هذا التنصير تسليمهما أولادهما الصغار الأغرار إلى المدارس النصرانية بحجة التعلم، فيتربون في حجرهم ويتلقون تعليمهم وعقائدهم منهم، مع العلم أن قلب الصغير قابل لما يلقى فيه من الخير والشر، حتى يكون بمثابة النقش في الحجر والغاذي شبيه بالمغتذى، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه. فمن العناء العظيم استيلاد العقيم، والاستشفاء بالسقيم، وما أبعد البرء عن مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.
ولا شك أن هذا حقيقة في التنصير وإليه عاقبة سوء المصير، لأن من شب على شيء شاب على حبه، والوسائل لها أحكام المقاصد، والأمور منوطة بأسبابها، وللتربية أثرها المترتب عليها من الصلاح والفساد ومن الخير والشر.
ألم تعلم أن النبي ﷺ قال: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ»[121].
وقد أجاز حج الصبي وصومه مع العلم أن قلم التكليف مرفوع عنه ما دام في هذه السن، وما ذاك إلا لقصد تهذيبه وتربيته على العمل بشرائع الإسلام الدينية، بحيث تكون محبتها راسخة في قلبه تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، لاسيما الصلاة المفروضة فإنها الدواء الفرد، تقيم اعوجاج الولد وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر وتصده عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ﴾ [العنكبوت: 45]. وإنه متى أهمل الناس تربية أولادهم فلم يهذبوهم على فعل الصلاة والصلاح والتقى، ولم يردعوهم عن مواقع الكفر والفساد والردى، فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ ٣٨﴾ [الزخرف: 37-38]. إن أكثر ما يجني على الأولاد ويوقعهم في الكفر والإلحاد هي مجالسة ومصاحبة أهل السفه والفساد، الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، فلا دين لهم ولا أخلاق، وبإدمان مجالستهم ومؤانستهم تنطبع أخلاقهم وطباعهم فيهم؛ لأن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه، واعتبروا الناس بأخدانهم، فكم من رجل شب حكيمًا حسن الخلق نزيه العرض عريق الشرف صحيح الطريقة سليم العقيدة، ثم اصطحب سفهاء الأحلام وضعفاء العقول والأديان، فأفسدوا طريقته وغيروا عقيدته، وأوقعوه في الرذائل من ترك الطاعات وشرب المسكرات، فساءت طباعه وفسدت أوضاعه، وانتشر عنه الذكر الخامل والسمعة السيئة ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ﴾ [الحج: 18]. إن الأجسام أشباح وإن الأخلاق هي الأرواح، وإن بقاء الأمم وحسن استقامتها ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا، والنبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ»[122].
[120] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[121] رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
[122] رواه أحمد من حديث عبدالله بن مسعود.
إن من عادة النصارى أنهم يوعزون إلى أُجَرائهم الدجالين من المعلمين والمبشرين بأن لا يبدؤوا مسلمًا بادي الرأي بدعوته إلى النصرانية، فإن مما يتعذر انتقال المسلم عن دينه بهذه الصفة.
وإنما الطريقة المثلى في تنصيرهم هو النيل من دينهم بالتكذيب بالقرآن وبنبيهم، وإلقاء التشكيكات فيه، ورمي شريعته بأنها تكاليف شاقة، وأنه لا يتلاءم العمل بها في القرن العشرين، ونحو ذلك من التخذيلات وإلقاء التشكيكات، حتى إذا خالجهم الشك في دينهم وزال عنهم ثقتهم ويقينهم، وتزعزعت أركان عقيدتهم، سهل حينئذ تنصيرهم، فهذا دأبهم في سياسة دعايتهم إلى دينهم وبعلمه يعملون ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ٥١﴾ [النساء: 51]. وبسبب هذه التعاليم صار شباب المسلمين يخرجون من الدين أفواجًا أفواجًا حيث ينقدح الشك في قلب أحدهم بأول عارض من شبهة، وناهيك بالسذاجة وعدم العلم والمعرفة، فإن القاصرة عقولهم والناقصة علومهم هم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا من الحق والتحقيق إلى ركن وثيق، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
وهذه من فتن الحياة التي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منها في إدبار الصلوات ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»[123]، لأن من فتن في حياته فتن بعد وفاته، ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27] والقول الثابت هو الدين القويم وسلوك الصراط المستقيم، ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩﴾ [النساء: 69]، وهو المشار إليه بقوله ﷺ: «إِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً» قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[124]. فالعاقل لا يستوحش طرق الإسلام لقلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]، ويقول: ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ١١٦﴾ [الأنعام: 116]. إن هؤلاء المرتابين والمرتدين عن الدين لم يكونوا مؤمنين به على الحقيقة، وإنما كانوا فيه على طرف إن أصاب أحدهم خيرٌ اطمأن به، وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وصار أكثرهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين وخلق. ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢﴾ [محمد: 12]، وهذا نتيجة تعليم المدارس الأجنبية التي يتعلمون فيها وهم صغار، والتي لا يترك أهلها طريقة مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها بزخرف القول وخداع الألفاظ. إن هؤلاء الشباب من أبناء المسلمين متى خرج أحدهم من إحدى المدارس الأجنبية رجع إلى أهله وبلده وأخذ يبث جراثيم تلك التعاليم السيئة التي حملها من المدرسة حتى يصير فتنة على أهله وأقاربه وسائر من يقاربه، كما قال تعالى في حق الغلام: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١﴾ [الكهف: 80-81]. فكم من ولد في هذا الزمان قد أرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، يسخر منهما حين يراهما يصليان أو يصومان، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡ﴾ [التغابن:14]، ومن للتبعيض أي إن بعض الأزواج وبعض الأولاد عدو لكم من حيث لا تشعرون بحيث يدعونكم إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمۡ وَإِخۡوَٰنَكُمۡ أَوۡلِيَآءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٣﴾ [التوبة: 23]. فنهى الله عباده المؤمنين أن يتخذوا آباءهم أو أبناءهم وإخوانهم ﴿أَوۡلِيَآءَ﴾؛ أي أصدقاء ﴿إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ﴾؛ أي اختاروا الكفر على الإيمان، لكون الكفر يقطع الموالاة والنسب بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وابنه، كما قال تعالى عن نوح أنه قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي﴾ [هود: 45]؛ أي وقد وعدتني أن تنجيني بأهلي فقال تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسَۡٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ ٤٦﴾ [هود: 46]، والنبي ﷺ قال: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد. إن عقيدة الإلحاد هي جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد هؤلاء الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الفجور والطغيان، ومجاوزة الحد في الكفر والكبر والفسوق والعصيان، فيمقت الدين، ويهزأ بالمصلين الراكعين الساجدين، حتى كأنه إنما تعلم العلم لمحاربة الدين وأهله، من أجل أنه لم ينطبع في قلبه محبته، ولم يذق حلاوة حكمته، وإنما كان حظه من العلم محض دراسته حبرًا على ورق، ثم زال عن قلبه بزواله عنه حتى لم يبق معه أثر منه.
ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم وأمنوا من العقاب فيما يقولون، فإنهم حينئذ يفيضون بفنون من الطعن في الدين بإلقاء الشبهات والتشكيكات التي تزيغ العوام وضعفة العقول والأفهام عن معتقدهم الصحيح، وعن دينهم المستقيم، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فيصيرون فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا.
وحتى الذين لا يعتقدون اعتقادهم، ولا يساهمونهم في آرائهم، فإنهم لن يسلموا من مضار أفكارهم، وأقل شيء كون الضعف والوهن يلم بأركان عقائدهم، ثم يسري هذا الفساد وسوء الاعتقاد إلى أهلهم وأولادهم؛ لأن أكثر الناس مقلدة في دينهم بحيث يقلد بعضهم بعضًا في الأخلاق والعقائد، وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه، ثم قرأ: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦﴾ [الأعراف: 146]. وقد قال أبو عثمان الجاحظ في أخلاق الكتَّاب: قد قال أهل الفطن: إن محض العمى هو التقليد في الزندقة؛ لأنها إذا رسخت في قلب امرىء تقليدًا فإنها أطالت جرأته على الدين وأهله واستغلق على أهل الجدل إفهامه. وقد قيل:
والدين هو قوام الأمة ومناط فلاحها، وعليه مدار استقامتها وإصلاح مجتمعها؛ لأنه يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وإنما تنجم الأفعال الفظيعة والفواحش الشنيعة من القتل والزنا وشرب الخمور وانتهاك الحدود والمحرمات من العادمين للدين الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم وتركوا فرائض ربهم ونسو أمر آخرتهم. إن كل من تأمل أحوال الناس بعين الاعتبار فإنه يرى أن هؤلاء -الذين ارتدوا عن دينهم وتركوا فرائض ربهم ونسوا أمر آخرتهم، فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين - من أسوأ الناس حالاً وأبينهم ضلالا وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وأنهم جديرون بزوال النعم والإلزام بالنقم؛ لأن الله سبحانه قد توعد كل من أعرض عن عبادة ربه ونسي أمر آخرته بأن له معيشة ضنكًا في حياته، كما وعد كل من اتقاه واتبع هداه وعمل بطاعته بأنه لا يضل في سعيه ولا يشقى في دنياه ولا آخرته، فقال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ١٢٤﴾ [طه: 123-124]. وهذه المعيشة الضنك هي ضربة لازب في حق كل من أعرض عن عبادة ربه ونسي أمر آخرته وصرف جل عقله وجل عمله واهتمامه للعمل في دنياه واتباع شهوات بطنه وفرجه، فإنه يكون دائمًا مهمومًا مغمومًا يتمتع بعيشة نكدة وحياة مكدرة، فهو شقي في دنياه وآخرته. كما وعد سبحانه كل من عمل صالحًا من ذكر وأنثى بأن يحيا حياة طيبة، وأن يجعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ قَلْبَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[125]. ومعنى تفرغ لعبادتي ليس معناه التخلي عن الدنيا بترك البيع والشراء والأخذ والعطاء، فإن هذا مذموم شرعًا، وإنما معناه الحث على التحفظ على العبادات الواجبة من الصلاة والزكاة والصيام، ثم التزود بنوافل العبادات. فمن لازم هذه الأعمال، وسعى سعيه في كسب المال الحلال، أحياه الله حياة سعيدة طيبة يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على جسمه وعلى سائر أهله وعياله، فيكون سعيدًا في حياته سعيدًا بعد وفاته؛ لأن عمل الآخرة نعم العون على أمر الدنيا، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا.
فيا معشر شباب المسلمين، إن الله سبحانه قد شرفكم بالإسلام، وفضلكم على سائر الأنام متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن الإسلام بمثابة الروح للإنسان، فضياعه من أكبر الخسران، وإنه ليس الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله.
ومتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم أو لحاجة العلاج أو لأي حاجة من الحاجات، فمن واجبه أن يظهر إسلامه في أي مكان يحل به، فيدعو إلى دينه وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلوات أمر من عنده بأن يصلوا جماعة حتى يكون مباركًا على نفسه وعلى جلسائه.
أما إذا صرفتم في سفركم جل عقولكم واهتمامكم للعمل في دنياكم، واتباع شهوات بطونكم وفروجكم، وتركتم فرائض ربكم، ونسيتم أمر آخرتكم، صرتم مثالا للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم السيئة التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالح الذين شرفوا عليكم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم، وأن يسلك بنا وبكم صراطه المستقيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 22/4/1396هـ * * *
[123] أخرجه البخاري من حديث أنس.
[124] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
[125] أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان، والحاكم من حديث أبي هريرة وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آ له وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن نصوص الكتاب والسنة توجب على الأمة الإسلامية أن يكون منهم أمة صالحة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ لأن هذا هو سبب صلاح الناس وفلاحهم، وعليه مدار سعادتهم في قديم الزمان وحديثه، قال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾ [آل عمران: 104]، فعلق سبحانه فلاح الناس ونجاتهم ونجاحهم بوجود جماعة مؤمنة يأمرون بالخير وينهون عن الفساد في الأرض، فهم يسعون في نجاة أنفسهم وإنجاء الناس معهم، فكانوا من أنفع الناس للناس، يهدون بالحق وبه يعدلون. وأخبر سبحانه أن هذا هو سنته في خلقه من لدن القرون السابقة، وأنه ينجي الناس بوجود الرجال الصالحين الذين يأمرون بالخير وينهون عن الشر، ويسعون في البلاد بالإصلاح ومنع الفساد، فقال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ ١١٦﴾ [هود:116] فأخبر سبحانه بأنه لولا وجود رجال صالحين ينهون عن الفساد في الأرض لعم الناس الهلاك والبلاء، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]، فالأمر بالخير والنهي عن المنكر واجب على كل أحد بحسبه، كوجوب الصلاة والصيام؛ لأنه سنام الإسلام وقوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، وهو الإلف المألوف المؤمِّن من كل خوف، به تألفت القلوب والتأمت الشعوب، وشمل الناس التلاطف والتعاطف والتواصل والتناصح، إذ هو بمثابة الدواء الذي يعالج به سائر الأدواء في رفعها ودفعها، أو من تقليلها وعدم فشوها وانتشارها، إذ المؤاخذة إنما تقع بطريق المجاهرة، فمن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ﴾ [التوبة: 71]. والمعروف هو ما عرفت العقول السليمة والفطر المستقيمة حسنه وصلاحه وعموم نفعه، والمنكر هو ما أنكرت العقول السليمة والفطر المستقيمة قبحه وفساده ومضرته من سائر الأعمال على اختلاف أنواعها، ومن صفة المنافقين ما أخبر الله عنه بقوله: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡ﴾ [التوبة: 67]؛ أي نسوا ما ذكروا به مما يعود بصلاحهم وفلاحهم، ثم صلاح الناس معهم، فنسيهم الله وتركهم في طغيانهم يعمهون. ولهذا يقول بعض السلف في العصاة: إنهم هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم، ولهدا نسيهم الله في عصيانهم وحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 18-19]؛ أي إنهم لما نسوا حق الله الواجب عليهم أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية؛ لكون الجزاء من جنس العمل. إن النهي عن المنكر هو مما يقلل فشوه وانتشاره وسلامة الناس من أضراره وآلامه، والشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، والمنكر متى ترك بحاله ولم يقم أحد من الناس بمنعه ودفعه، فإنه بمقتضى السكوت عنه ينتشر ويشتهر في العباد والبلاد على سبيل العدوى والتقليد الأعمى.
وإن الأمراء والعلماء والرؤساء ومجالس الشورى هم بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن دخول الفساد والإلحاد، وما يعود بخراب البلاد وفساد أخلاق النساء والأولاد، ولا يتصف بالقيام بهذا العمل وحماية الدين والوطن إلا خيار الناس قولاً وعملاً، يقول الله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، فهذه الخيرية الجميلة لا تدرك إلا بهذه الأعمال الجليلة التي من جملتها الأمر بالخير والنهي عن الشر، فإذا لم يتصفوا بذلك ولم يوجد منهم من يقوم بهذا الغرض، فإنهم يكونون من شر الخلق والخليقة؛ لأن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، يقول الله تعالى: ﴿لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ٦٣﴾ [المائدة: 63]، فأخبر الله أن نهي الربانيين والأحبار لهم قد قلل من فشو شرهم وفسادهم، وإنما دخل النقص على بني إسرائيل من أجل سكوتهم عن المنكرات حتى فشت وانتشرت وعم عقابها الصالح والفاسد، يقول الله تعالى: ﴿كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٧٩﴾ [المائدة: 79]، وليس مخصوصًا هذا بهم دون غيرهم، بل هو شامل لكل من اتصف بصفتهم؛ لأن الاعتبار في القرآن بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد: إياك أعني واسمعي يا جارة
وخير الناس من وعظ بغيره، فكل ما قص الله عن بني إسرائيل فإنما يعني به هذه الأمة، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ [المائدة: 68]، فمعناه بالضبط: يا أهل القرآن ويا أهل الإسلام لستم على شيء حتى تقيموا القرآن. فمتى قصر الناس في واجبهم ولم يقوموا بحماية دينهم ووطنهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم، والحوانيت تفتح لبيعها، بحيث تكون في متناول كل يد من صغير وكبير، وتركوا الأفلام الخليعة والفواحش الشنيعة تنتشر بينهم، بحيث تغزوهم في عقر دورهم بدون أن ينكروا منكرها، وبدون أن يتناصحوا في شأنها، ويمنعوا ما يقبح منظره منها، فإنهم يعتبرون بأنه قد استودع منهم، وإن هذا العمل والسكوت عليه مؤذن بفتنة في الأرض وفساد كبير، وهؤلاء الرؤساء يلامون على سكوتهم عنه، إذ لا نجاة لهم ولا للناس معهم إلا بأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر. إن عرض الأفلام الخليعة التي فيها النساء الراقصات العاريات اللاتي يسبحن في البحار ويلاعبن الرجال باللمس والتقبيل والاضطجاع جميعًا وتشرب معه كأس الخمر، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق والأفعال والفواحش المكشوفة التي يشاهدها الصغار والكبار من الفواحش التي لا تبقي من الأخلاق ولا تذر. وقد قيل: حسبك من شر سماعه. فما بالك برؤيته.
ويعظم أمرها ويعم ضررها بالجهر بها لكون المؤاخذة إنما تقع بطريق المجاهرة، لكونها تعتبر بمثابة التمرين لفعل هذه الأعمال الشنيعة وعدم اتباعها بالنفرة عنها، بحيث يتعلمها النساء والأولاد للعمل بها حتى تكون لهم خلقًا، فهي بمثابة الدروس التي تنطبع محبتها في النفوس وتؤثر فيها كتأثير خمر الكؤوس، وبإدمان فعلها واستمرار رؤيتهم لها يزول عنهم الحياء والغيرة والخلق الحسن؛ لأن كثرة رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى أنها منكرات ولا يمر بفكره أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
فنشر هذه الأفلام الخليعة وعمل التسهيل لبيع الخمور الخبيثة جرثومة الفساد وخراب البلاد، وفساد أخلاق العباد وخاصة النساء والأولاد، خصوصًا نشر الأفلام الخليعة، فإنها أشد وأشر من الزنا وشرب الخمر، لكون الزاني لا يضر بفعله إلا نفسه، وزناه إنما يقع في حالة الخفية، والمعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، أما إذا أظهرت ولم تُغيّر ضرت العامة بسكوتهم عنها، كما ثبت بذلك الحديث.
وإن هذه الأفلام الخليعة تهدف إلى تعميم نشر الفواحش الشنيعة والأعمال الفظيعة بين الصغار والكبار، وهي من الفتن التي تُعرض على القلوب كالحصير عودًا عودًا، حتى تجعل القلوب منكوسة سودًا لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، ولا يزال العقلاء في شتى البلدان يشكون الويلات على إثر الويلات من جراء ما أفسدت عليهم الأفلام من أخلاق البنين والبنات وسائر بيوت العائلات؛ لأنها مشهد زور ومدرسة فجور، تبعث في نفوس النساء والشباب ريح العشق والميل إلى الفجور.
فإذا أردتم أن تعرفوا عظم مضارها وتأثيرها في الأخلاق والعقيدة والدين، فانظروا إلى البلدان التي ضعف فيها الإسلام واستباح أهلها الجهر بمنكرات الفواحش والعصيان، ثم انظروا إليهم كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض فكانوا كالأنعام، بل هم أضل، قد ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم. وهذه من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ بأنه يرقق بعضها بعضًا، وحتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من يصلح جشره ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة، قال: فاجتمعنا، فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا»، ومعنى يرقق بعضها بعضًا: أن الآخرة شر من الأولى.
وقد يظن بعض الناس حينما يسمعون بخروج الفتن التي أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان والتي حذر عنها أمته أنها الحروب المشتملة على الضرب بالبنادق والمدافع والقنابل والسيوف والخناجر، وليس الأمر كذلك، بل إن هذه منها وليست مقصورة عليها، بل هي أشد وأشر من هذه كلها، وهي الفتن التي تفسد الأخلاق والعقائد والأديان وتوقعهم في الافتنان؛ لأن الفتنة في الدين أشد من القتل، ولا أشد ولا أشر من الفتن التي تغزو الناس في عقر دورهم، وتفسد أخلاق ذراريهم ونسائهم كفتنة الأفلام الخليعة التي هي مشهد زور ومدرسة فجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخلي شجيًّا تساوره الهموم والغموم، ويبتلى بالسهر وطول التفكير وحرمان لذة النوم من أجل شغل قلبه بما يشاهده، فهي بمثابة شرك الكيد وحبائل الصيد للقلوب الضعيفة من النساء اللاتي هن ناقصات عقل ودين، وقد وصفهن رسول الله في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من الغناء والألحان المطربة، وما يفعلونه من التعاشق والتعانق، كل هذا مما يضعف الإيمان ويستدعي الميول إلى الفسوق والعصيان، فيغرق الناس جميعًا في حضيض الذل والهوان، فتنقطع من بينهم روابط الزوجية الشرعية وتدنيهم من الإباحية المطلقة.
فمتى كان القائمون ببث الأفلام الخليعة ممن لا حظ لهم من الأخلاق والدين، يحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين، فإنها تصير فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء. وإني أنصح المراقبين عليها بتقوى الله في عرض ما ينفع ويجمل ويزين من الأخلاق الفاضلة والعلوم النافعة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض المنكرات والأخلاق الساقطة، والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، كما أنني أنصح الحكومة بنصب رقابة عدلية تمنع نشر الفواحش وتمنع نشر ما يقبح منظره ويسوء خبره، كرامة للدين والوطن، واستبقاء لحسن السمعة واتقاء الفتنة، وإن الحكومة إن لم تقم بمنع ما يجب منعه فإن الناس سيغرقون جميعًا في فساد أخلاق النساء والأولاد، ويصدق عليهم ما حذرهم منه نبيهم عليه الصلاة والسلام حيث قال: «مَثَلُ القَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ - أي الذي يسعى في دفع المنكرات وإزالتها- وَالوَاقِعِ فِيهَا، - أي الذي يفعل المنكرات- كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فأراد الذين في أسفل السفينة أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه الماء من عندهم، قال: فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يصنعون هلكوا وهلكوا جميعًا». رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير.
وهذا مثل مطابق للواقع، فإن الناس متى سكتوا عن نشر مثل هذه الأفلام الخليعة والفواحش الشنيعة وتركوها تسطع في دورهم بين نسائهم وأولادهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم والحوانيت تفتح لبيعها، فإن الفساد حينئذ يعمهم ويصير ما يشاهدونه خُلُقًا لهم، يشب عليه صغيرهم، ويهرم عليه كبيرهم، ولهذا قال النبي ﷺ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا -أَيْ: تَلْزَمُوْنَهُ بِهِ إِلْزَامًا- أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدهِ»[126]، وهذا العذاب قد يكون في الأبدان وقد يكون في الأخلاق والعقائد والأديان، فإنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والصيام الفرضية، واستباحوا شرب المسكرات والجهر بالمنكرات، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب، ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25]. إن بعض الناس عند سماع مثل هذا يعللون أنفسهم بالأعذار الباردة، ويقولون: هذا آخر زمن وهذا تيار جارف ويفعل مثله في بلد كذا وكذا، وقد بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فاتخذوا هذا الحديث بمثابة التخدير والتفتير، يحاولون أن يسقطوا به ما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ولعباده المؤمنين ولأئمة المسلمين، كأن الرسول ﷺ بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف في المسلمين والغربة للدين، حتى لا يسعى أحد بحوله وقوته وبجهده وجهاده لدفعه ورفعه، وهذا خطأ واضح في فهم الحديث، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما قصد به التمسك بالدين وعدم الاغترار بضعفه وغربته في آخر الزمان وإعراض أكثر الناس عنه، فقد قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «هم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير»[127]، فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم وفعل أولي العزم عن وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، كما قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادٍ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ»[128]، فمعنى الحديث يحث على التمسك بالدين عند ضعفه وغربته والسعي في إصلاح ما أفسد الناس منه.
وإن هذا الضعف وهذه الغربة وصف عارض تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وقد تقع ثم تزول ويعود الدين إلى قوة ونشاط وانتشار، كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ وارتد العرب كلهم عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد عبد القيس بجواثى المعروف بالأحساء، وعلى إثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره، كما قال أنس بن مالك: إنه لما توفي رسول الله ﷺ كنا كالغنم المطيرة فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة، وثبت في الصحيح: «إِنَّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[129]، فالعاقل لا يستوحش غربة الإسلام لقلة المتمسكين ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]، فانتبهوا من غفلتكم وحافظوا على فرائض ربكم وتمسكوا بدينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. حرر في 1 رمضان المبارك سنة 1396هـ. * * *
[126] أخرجه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان، ومن حديث ابن مسعود.
[127] قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء: أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا وهو بتمامه عند الترمذي من حديث عمرو بن عوف وحسنه.
[128] أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى من حديث عمر.
[129] أخرجه الطبري في تهذيب الآثار من حديث ابن عمر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وخذل أهل معصيته فاستحوذ عليهم الشيطان، وحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأنساهم ذكر الله. وأشهد أن لا إله إلا الله ولا رب لنا سواه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه، واختاره لأعباء نبوته وتبليغ رسالته فأوحى إليه ما أوحاه. اللهم صل على نبيك ورسولك وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة: 90-92]. قال بعض السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ فأصغ لها سمعك، فإنها خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. نادى الله عباده باسم الإيمان بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم، فلا توجد هذه الصيغة إلا في السور المدنيات، وهذه الآيات هي من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها.
وهي نص قطعي في تحريم الخمر، فمن قال بإباحتها فقد كفر. والله سبحانه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة، ومفسدة راجحة، ولا يوجب شيئًا من الواجبات، كالصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة.
وقد حرّم الله الخمر لفنون المضار المتفرعة عنها؛ لأنها أم الخبائث وجماع الإثم، ومفتاح الشرور والداعية إلى الفجور، تهتك الأسرار وتقصر الأعمار، وتولد في الجسم أنواع المضار، تذهب بالثروة وتهدم بيوت الأسرة، وتورث شاربها فنونًا من الجنون والجهالة والغفلة.
ولا يزال الرجل يمشي مع الناس بعفاف وشرف وحسن خلق إلى أن يشرب الخمر ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل ويستوحش من أهله وأقاربه وجيرانه، وتنزل الكآبة وسيما السوء على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، فيبتلون بالخوف الشديد من توقع سطوته؛ لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل التي شرفه الله بها وألحق نفسه بالمجانين، وكيف يرضى بجنونٍ مَن عقل. وحسبكم وصف القرآن لها بصفات عشر كلها تستدعي البعد عنها صيانة لدين المرء وعرضه وبدنه، فوصفها بأنها رجس، والرجس هو النجس الخبيث، فمتى تربى الجسم على هذا الرجس النجس الخبيث صار نجسًا خبيثًا؛ لأن الغاذي شبيه بالمغتذى وحتى إن نسل شارب الخمر من أبنائه وبناته يصيرون معتوهين مشوّهين، معرّضين للأمراض والأضرار والجنون والخبال، لتكوينهم من نطفة نجسة هي بمثابة البذر الخبيث، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.
ثم وصفها ثانيًا بأنها من عمل الشيطان، فلا يحبها ويدمن شربها إلا من هو شيطان مثلها ليس من أولياء الرحمن، وحسبكم ما تحسونه من سوء تصرفات الشيطان، وكونه يسعى دائمًا بفعل الفحشاء والمنكر.
ثم وصفها ثالثًا بقوله: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠﴾ [المائدة: 90] وهذه صيغة مبالغة في المباعدة، كأنه يقول: ابعدوا كل البعد عنها، كونوا في جانب وهي في جانب. فقوله: اجتنبوه، أبلغ في الزجر من قوله: دعوه أو اتركوه لعلكم تفلحون، فدلت هذه الآية بطريق الفحوى على أن شارب الخمر بعيد من الفلاح، غارق في الفساد والسفاه، ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِ﴾ [المجادلة: 19]. ثم عاد رابعًا إلى الزجر عنها فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ﴾، أما العداوة في الخمر فمعروفة محسومة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر وسكر هذى وافترى وسب وضرب وشتم أهله وعياله، لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله بها. وكان جماعة من الأنصار جالسين في شرب الخمر في الجاهلية قبل أن يحرمها الإسلام، فشربوا ثم سكروا فعبث بعضهم ببعض وثار بعضهم على بعض بالضرب والقتل، فلما صحوا وزال عنهم السكر، قال بعضهم لبعض: والله ما فعل بي فلان هذا إلا لحقد كامن في قلبه علي قبل السكر، فنشبت بينهم الحرب سنين عديدة حتى أطفأها الله بالإسلام وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام وأنزل الله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾ [آل عمران: 103]، وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «ما هذه الشجة التي أرى في وجهك؟». فقال: يا رسول الله إن رجلا من قومي شرب الخمر فسكر، فضربني بلحي جمل حتى شجني. فقال: «نعم قاتل الله الخمر هكذا تفعل بشاربها». وذكر ابن رجب في اللطائف: أن رجلا كان يشرب الخمر وكانت أمه تنهاه عن شربها، فبينما هي ذات يوم وقد سجرت تنورها فجاء ابنها وهو سكران فحمل أمه وقذف بها في التنور فاحترقت. فهذا من فنون العداوة في الخمر، وأما العداوة في الميسر: فإن الميسر هو القمار، ومتى غلب أحدهما صاحبه في القمار وغبنه ماله، فإنه يحتقب له العداوة والبغضاء من أجل سلبه ماله الذي هو عديل روحه وقوام بنيته وبيته، ولأنه أكل للمال بالباطل، وقد نهى الله في كتابه وعلى لسان نبيهﷺ عن كل عمل وكل كسب يؤول إلى العداوة والبغضاء بين المسلمين.
وأما قوله: ﴿وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ﴾ [المائدة: 91]، فإن هذا أمر واقع ومحسوس ملموس، فإنك قلَّ أن تجد السكير أو اللاعب بالقمار في المسجد؛ لكونهما في غفلة ساهين، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ومن المعلوم أنهما لو داوما على الصلاة لنهتهما عن ارتكاب مثل هذه المنكرات، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر. ثم قال: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة: 92]، فلا أبلغ في الزجر والتحذير من هذه الآيات التي يأمر الله فيها عباده بطاعته وطاعة رسوله، ثم حذرهم أشد التحذير من مخالفة أمره بارتكاب محرماته وترك طاعاته، والآية سيقت لتأكيد تحريم شرب الخمر الذي هو مفتاح كل شر. إن الله سبحانه لمّا ذكر هذه الزواجر عن هذه الجريمة الأثيمة، قال بعد هذا كله: ﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١﴾، فقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولذا قال عمر بن الخطاب: سمعًا وطاعة لله ورسوله، قد انتهينا، قد انتهينا، قبحًا لها وسحقًا، قرنت بالأنصاب والأزلام. وكان جماعة من الأنصار مجتمعين في بيت أبي طلحة على شرب قبل أن تحرم الخمر، فسمعوا صوتًا عاليًا، فقال أبو طلحة لأنس بن مالك: انظر ما هذا الصوت. فخرج ثم رجع فقال: هذا منادي رسول اللهﷺ ينادي بتحريم الخمر. وكانت الكؤوس بأيديهم فأخذوا يضربون بها الحيطان ويقولون: سمعًا وطاعة لله ورسوله، ثم خرجوا إلى السوق وبه ظروف الخمر، فجعلوا يضربونها بالسكاكين حتى سالت بالأزقة، وكان بعضهم يقول: والله إن كنا لنكرمك عن هذا المصرع قبل هذا اليوم. ولمّا حرم الله الخمر حرم بيعها وشراءها وكل وسيلة تؤول إلى شربها. وسأل أبو طلحة النبي ﷺ عن خمر لأيتام في حجره، وهل يجعلها خلًّا، فنهى رسول الله ﷺ عن ذلك، ولهذا لعن رسول الله ﷺ الخمر، عاصرها ومعتصرها وساقيها وشاربها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه[130]، كل هؤلاء واقعون في اللعن لتساعدهم على فعل هذه الفاحشة المحرمة. وحسبها قبحًا أن النبي ﷺ قال: «لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[131].
[130] رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث ابن عمر وأنس بن مالك، ورواه أحمد بسند صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث ابن عباس.
[131] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
يقول بعض الناس: إن الخمر متى أدمن صاحبها شربها وتخمر في رأسه حبها، فإنه قلَّ أن يقلع عنها أو يتوب عنها، لأنه كلما اشتكى رأسه من وجعها عاد إلى شربها، على حد ما قيل:
إلى حالة أن الصحابة ندموا على الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وهي في بطونهم قبل أن تحرم الخمر عليهم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ [المائدة: 93] لكون الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ. فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لم يكن إقلاعهم عنها ثقيلاً في نفوسهم لكون قَوة الإيمان هي أعظم وازع وأقوى رادع عن ارتكاب المنكرات وشرب المسكرات. إن الله سبحانه خلق الإنسان وفضله بالعقل على سائر الحيوان وركب فيه السمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول المنافع والتباعد عن المضار، فمتى وقع في مضار الإسكار لغلبة شهوته على عقله علمنا حينئذ أنه ليس لديه عقل صحيح وأنه استحب العمى على الهدى؛ لأنه إنما سمي العقل عقلاً لكونه يعقل عن الله أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على الفرائض والفضائل ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل: وهكذا يقال في الصبر عن شرب الدخان الذي هو أضر شيء على الأبدان، والدخان هو المسمى بالتبغ، سواء كان من سيجارة أو نارجيلة، وإن كبار الأطباء على اختلاف أوطانهم نجدهم يحذرون أشد التحذير من شرب الدخان لعلمهم بالأضرار الناشئة عنه، من كونه يعبث بالصحة ويحدث فنونًا من الأسقام، فهو من الأشربة المحدثة الضارة للصحة، ولأجل ذلك قال كثير من العلماء بتحريمه، فمن الواجب على العاقل أن يصون نفسه عن مقارفته، وإن كان قد ابتلي به وجب أن يتوب عنه، حفظًا لصحته وحماية لذريته الذين يستنون بسنته ويقتدون بسيرته، وقد قام الطب الحديث في هذا الزمان على تحقيق مضرته وسوء مغبته، وأنه يعجل بهلاك المصدورين، وقد وصفه بعض الأطباء بالحية المنطوية على الجسم.
إن النصارى في هذا الزمان قد صاروا أشد الناس عداوة ومحاربة للكحول والتدخين، فينشرون عنهما من الأضرار الناجمة والمتفرعة عنهما ما يقتضي التحذير والتنفير منهما، من ذلك أنهم منعوا منعًا باتًّا جميع الدعايات إلى الخمور أو التدخين، لا في الألواح ولا التلفزيون ولا السينما، ثم ألزموا الشركات التي تتعامل في الدخان بأن تكتب على كل علبة (احذر شرب الدخان، فإنه يضر صحتك)، وكل ما لا يكتب عليه فإنه يصادر. وهذه من الأسباب التي قللت فشوه وانتشاره في بلدهم، إذ الوقاية خير من العلاج.
فمتى كان الأمر في الدخان (التبغ) بهذه الصفة من تحقيق مضرته وسوء عاقبته، فإن من الواجب على وزارة التربية والتعليم ورعاية الشباب إصدار قرار بمنع التدخين في المدارس من كل أحد احترامًا لها، كما يحترم الناس المساجد بعدم التدخين فيها، ومراعاة لتقليله وعدمه، وإنما أسست المدارس لتعليم الشباب ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم وهذا منها، خصوصًا الأساتذة، فإنه متى قام أحدهم بالتدخين بمرأى من الشباب والمتعلمين، فإن هذا تعليم منه بإباحته، ودعاية سافرة إلى فعله، إذ التعليم والدعاية بالأفعال أبلغ منها بالأقوال، والأستاذ قدوة تلميذه، وثقته به تستدعي قبوله لما يقوله ويفعله، فالتلاميذ مع الأساتذة بمثابة الأعضاء مع اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
إن في المشروبات المباحة النافعة التي تزيد في صحة الجسم والعقل ما يغني ويكفي عن هذه الأشربة الخبيثة التي ضررها أكبر من نفعها، ولكن حبك للشيء يعمي ويصم، فلا يسمع محبها نداءها، ولا يرى ضررها للغير وإيذاءها، وقد حفت النار بالشهوات. أتدرون ما هي الخمر المحرمة بالكتاب والسنة؟ هي كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر من أي شيء كان، كما ثبت بذلك الحديث، وفي رواية «ما أسكر كثيره فملء الفم منه حرام»[132].
فهذا هو المعيار الشرعي الذي توزن وتميز به الخمر المحرمة؛ لأن الخمر يكون من التمر ويكون من العنب ويكون من الشعير ومن الذرة، ويكون أيضًا من مشروبات مستحدثة مما يسميه الناس بغير اسمه، فلا تنس أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر، من أي شيء كان، حتى لو وجد عين ماء من شرب منها سكر لحكمنا عليها بأنها خمر محرم اعتبارًا بالميزان الشرعي.
[132] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.
فما يسمونه البيرة بدون كحول هو خمر محقق لانطباق وصف الخمر المحرم عليه، فقد ثبت بالاختبار والتجربة أن شرب مقدار زجاجتين منها يسكر، وهذا أمر صحيح ثابت، فكتابتهم عليها (بيرة بدون كحول) هو خداع وتغرير لقصد ترويجها بين الناس، وإلا فإنها مشتملة على الكحول المسكر، فهي محرمة قطعًا لاعتبار أنها خمر محرم، ومثله شارب الترياق والحشيشة وغير ذلك من فنون الأشربة المسكرة المستحدثة، ولا ينبغي أن نغفل عن الميزان الشرعي لهذه الأشياء، وهو قول النبي ﷺ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»[133]. وهو خمر من أي شيء كان.
حرمت الخمر لعموم الأضرار المتنوعة والمتفرعة منها، فضررها على الروح والعقل وعلى الجسم والنسل وعلى المال وعلى الصحة وعلى المجتمع، تقصر الأعمار، وتهتك الأسرار، وتوقع في فنون من الأضرار والأمراض، تطيش بالعقل عن مستواه إلى حالة الطغيان ومجاوزة الحد في الكبر والفسوق والعصيان، حتى يخيل للرجل السافل الساقط أنه ملك قاهر وجبار قادر، كما يقول بعضهم:
وأخبر «أَنَّ النَّاسَ فِي آخَرِ الزَّمَانِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا»[136]، والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها. وأخبر «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَبِيْتُوْنَ عَلَى لَعِبٍ، وَلَهْوٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، فَيُصْبِحُونَ، وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» رواه أحمد والبيهقي وابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة وسنده ضعيف. وهذا المسخ والله أعلم هو مسخ صوري: أي يصبحون في أخلاق القردة والخنازير، ينزو بعضهم على بعض، قد ذهبت منهم المروءة والغيرة والحياء والعفة والخلق الحسن، ويظهر أثر هذا المسخ على سيماهم وأخلاقهم، يعرفه المتفرسون من الناس، وقد يكون هذا المسخ حقيقيًّا، كما وقع لمن قبلهم والله على كل شيء قدير. وقد سئل النبي ﷺ عن الخمر يصفها للدواء فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ»[137].
فيا سبحان الله، كم في الخمر من آفات ومضرات، ولكن حبها يعمي ويصم فلا يحس محبها بأضرارها ولا يرى فتكها للغير وإيذاءها.
لهذه الأسباب حرمها كثير من مشركي العرب في الجاهلية على أنفسهم، قبل أن يحرمها الإسلام عليهم، ويقول أحدهم: كيف أشرب ما يزيل عقلي ويلحقني بالمجانين!
وحتى النصارى على كفرهم وضلالهم أخذوا يعقدون الاجتماعات على إثر الاجتماعات في محاولة التحريم لهذه المسكرات حين رأوا فتكها بأخلاق البنين والبنات وإفسادها للبيوت والعائلات، ولكنهم لم ينجحوا في منعها، من أجل تربيتهم على حبها، ومع عدم نجاحهم فإنهم يجاهدون في تقليل شربها، حتى إن الكأس الذي يشرب به أحدهم ليوصف بإصبع الإبهام، وكثير منهم تعففوا عنها.
وحتى كتب الأطباء منهم مملوءة ببيان أضرارها والتحذير منها، وحتى المحاكم الشرعية والقانونية مملوءة من الحوادث والجرائم والفجور الناشئة عن شرب الخمور، وهي من أكبر الوسائل لقطيعة الأرحام وفساد الألفة الزوجية.
وإن العلماء والأمراء والوزراء ومجالس الشورى يجب أن يكونوا بمثابة الحماة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن دخول الفساد وما يعود بخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد.
فمتى قصر هؤلاء في واجبهم وأهملوا حماية وطنهم وتركوا الخمور تجلب إليها والحوانيت تفتح لبيعها، بحيث تكون في متناول كل يد من صغير وكبير، فإنهم حينئذ قد استودع منهم ويعتبرون قد غرقوا جميعًا في غرمها وإثمها، ويصيرون مستعبدين طول حياتهم لأضرارها وأمراضها، وحتى الذين لا يشربونها من الكبار فإنهم يبتلون بمن يشربها من أولادهم وأهل بيتهم، ثم يقود بعضهم بعضًا إليها، حتى يغرقوا جميعًا فيها، والدفع أيسر من الرفع، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
[133] أخرجه مسلم من حديث ابن عمر عن جابر، أن رسول الله قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان، وروى البخاري ومسلم عن عمر، قال: أنزل الله تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
[134] متفق عليه من حديث ابن عمر.
[135] رواه الطبراني من حديث ابن عباس.
[136] رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي مالك الأشعري.
[137] أخرجه مسلم وأبو داود عن وائل الحضرمي إلى طارق بن سويد سئل النبي عن الخمر يصفها للدواء فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ». وروى البيهقي وصححه ابن حبان عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».
وقد شرع الله على لسان نبيه إقامة الحد بالجلد كفارة عنها، وليكون بمثابة الزجر عن ارتكاب هذه الجريمة الأثيمة؛ لأن دين الإسلام قائم على محاربة الجرائم على اختلاف أنواعها وتقليلها وتطهير المجتمع منها، فشرع الله القصاص صيانة للدماء، وشرع الله حد الزنا صيانة للأنساب والأعراض، وشرع قطع يد السارق صيانة للأموال، بحيث يستتب الأمن ويقل العدوان، وشرع حد الخمر صيانة للعقول والأرواح والأجسام والمجتمع، وأنزل الله ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [النور: 2]. وقال في حد الزنا: ﴿وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢﴾ [النور: 2] ولا تقوم النكاية بالسجن أو تطويله ولا الغرامة بالمال مقام الحد بالجلد، لكون الجلد تكفيرًا للجريمة وزجرًا له عن معاودة فعلها، وردعًا للناس؛ لأن السجن يتعدى ضرره إلى أهله وعياله الذين لا جريمة لهم، بخلاف الحد بالجلد، فإنه مقصور على الفاعل نفسه، ولأن من لا يكرم نفسه لا يكرم، ومن يهن الله فما له من مكرم، و «حَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»[138]، كما يفيده إقامة الحد من إصلاح المجتمع وتقليل المفاسد فيه.
والنبي ﷺ جلد في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، والكل سُنَّة، وقال: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثم إذا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثم إذا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ»[139]. وقال: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ»[140]. ولهذا يقول الله تعالى: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229] وحدود الله محرماته، فإقامة الحد كفارة عن ارتكاب هذا الذنب وتطهير له وزجر عن معاودته، وردع للناس عن مقارفة مثله، وخير الناس من وعظ بغيره، فهو يقلل فشو هذه الجريمة الأثيمة، لاعتباره رحمة للفاعل ولجميع الناس وإن عدوه عقابًا. فأعداء الإسلام الذين ينسبون إقامة الحدود إلى القسوة والوحشية، هم الذين يسعون في الأرض فسادًا، فهم يسببون تكثير الجرائم بالسكوت عليها وعلى الفاعلين لها، وتلطيف أعمالهم حتى تمتلئ الدنيا فسادًا، فإن كل من أمن العقوبة أساء الأدب، والعصا زجر من عصى، فهم دائمًا يرمون المسلمين بدائهم، فهم الذين صنعوا القنبلة الذرية التي تقضي على الملايين من الآدميين ما بين شيوخ وعجائز وحوامل وأطفال وبهائم ممن لا ذنب لهم وتفسد الحرث والنسل، فهذا والله حقيقة الوحشية والفساد الكبير والله لا يحب المفسدين.
وجميع الناس من الصالحين والفاسقين أصبحوا يتحدثون عن مضار الخمر وخطرها على الأفراد والمجتمع وعلى الشباب والنساء حتى صارت جل حديث القوم في مجالسهم وأنديتهم، كأنها غزو يريد تدمير بلادهم وسبي ذراريهم ونسائهم، ويتزايد ضررها ويعظم خطرها في البلدان الحارة، كبلدان نجد والحجاز والخليج وما جاورها، وإذا اعتاد الشاب شربها في حالة صغره، فإنه ينقصم عمره[141] في شرخ شبابه، بحيث لا يتجاوز غالبًا سن العشرين إلى الثلاثين من عمره. فهي تعجل بهلاكه لأجل إسرافه في شربها، فهي من ورطات المعاصي التي لا مخلص لمن أوقع نفسه فيها إلا بالتوبة عنها، ولا يزال الشخص يمشي مع الناس بعفاف وشرف وحسن خلق إلى أن يشرب الخمر ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل ويستوحش من أقاربه وجلسائه، وتظهر الكآبة على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، ويبغض الناس ويبغضونه ثم يصير مستعبدًا لهذه العادة الضارة طول حياته، يتمنى الخلاص منها ولا يستطيع، ثم تسري العدوى منه إلى أولاده لاقتدائهم بسيرته وفساد طريقته.
إن الذين يعرفون مضار الخمر وإفسادها للأخلاق والمجتمع وللنساء والشباب، ثم يعللون عملهم في الاتجار فيها والتسامح في تدخيلها إلى بلدهم عن طريق التهريب الخفي مع كونهم مسلمين، إنهم ليس فيهم غيرة دينية ولا حمية وطنية، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وحسبهم من الشر وقوعهم في اللعنة، فقد لعن رسول الله ﷺ الخمر وبائعها ومشتريها كما أن ثمنها حرام، وخطب رسول الله على رتاج الكعبة يوم فتح مكة، فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ»[142].
إن بلد الإنسان بمثابة أمه التي ولدته وغذته بلبانها، فالذي يجلب الخمر إلى بلده هو بمثابة الذي يقود السوء على أمه، لقد كان من واجب المسلم الغيور أن يبر أهل بلده، وأن يوصل إليهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم، لاعتبار أنهم لحمة من جسده يسوؤه ما يسوؤهم ويضره ما يضرهم، وإن إدخال الخمر المحرمة إلى البلد هي أضر على أهلها من إدخال المطاعم والمشارب المسمومة؛ لأن المطاعم والمشارب المسمومة تضر بالبدن فقط وربما يكون الهالك بها شهيدًا عند الله، أما الخمر فإنها تهلك البدن والعقل والدين، ومن لقي الله وهو يستبيح شربها لقيه كعابد وثن، فالأخوة الإسلامية والنخوة العربية توجب النفرة عن الاتجار في هذا العمل الضار، كيف وقد لعن رسول الله الخمر وبائعها ومشتريها، وإن أكل ثمنها وأرباحها حرام، ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥﴾ [البقرة: 275].
حرر في 1 رمضان المبارك سنة 1396 هـ. * * *
[138] رواه النسائي مرفوعًا وموقوفًا وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر.
[139] أخرجه النسائي من حديث ابن عمر.
[140] أخرجه أبو داود وأحمد عن ابن عمر.
[141] إن شركات التأمين على الحياة في حالة فحصها على الشخص الذي يريد تأمين حياته عندما تعرف بأنه سكير يشرب الخمر فإنها تمتنع عن التعاقد معه، وخاصة إذا كان شابًّا، لعلمهم أنه سيقصم عمره في شرخ شبابه قبل انقضاء العمر المعتاد فتخسر مالها بخسران حياته، لكون الخمر تعجل بهلاكه.
[142] متفق عليه من حديث جابر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أرفع لحكام المسلمين، وفقهم الله للتمسك بالدين، وسلام الله ورحمته عليهم أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه في كتابه المبين، وعلى لسان نبيه الصادق الأمين، قد أوجب علينا أن ننصح من ولاّه الله أمرنا، فإن الدين النصيحة لله ولعباده ولأئمة المسلمين. وقد أوجب الله على المؤمنين أن يكونوا قوامين لله بالقسط أي بالعدل في أهلهم وعيالهم، إذ العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين.
وإن شباب المسلمين هم جيل المستقبل بحيث يسعد الناس بصلاحهم، ويشقون بفسادهم وإلحادهم. فما نحل والد ولده نحلة أفضل من أن ينحله أدبًا حسنًا يهذبه به على الصلاح والصلاة والتقى، ويردعه به عن السفه والفساد والردى. فمن الواجب على حكام المسلمين الذين جعلهم الله رعاة على عباده المؤمنين أن يحموهم مما يضرهم، مما يعد في استطاعتهم، فإن الوقاية خير من العلاج، وإن أضر ما يصاب به الشاب هو إهماله وإلقاء حبله على غاربه، يتصرف كيف يشاء بدون وازع ولا مراقب، والله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
إن مما نستدرك على حكام المسلمين ما عسى أن يكونوا غافلين عن مضرته وسوء عاقبته، وذلك في فتحهم الأبواب لتسفير الطلاب إلى الخارج من بلدان أوروبا وأميركا للتعلم كما زعموا. ولا أدري ما هذا العلم الذي يبتغونه عند أساتذة النصارى؟ أهو من العلم الضروري الذي يتعذر الحصول عليه في بلدان المسلمين، كالعلم بوسائل الصعود إلى سطح القمر؟ أم هو العلم الشهير في سائر الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس في سائر البلدان الإسلامية؟
وإننا لا نعلم شيئًا يبتغونه خارج البلدان العربية سوى تعلم اللغة الأجنبية؛ إذ هي غاية قصدهم ونهاية علمهم وعملهم. وإن الحصول عليها سهل متيسر في بلدهم كسائر العلوم والفنون. وذلك أن الله سبحانه قد أنعم على المسلمين بنعم كثيرة، منها نعمة الغنى بالمال الوافر الذي يستطيعون أن يجلبوا به كل نفس ونفيس، مما يحتاجون إليه من مصانع وصنّاع وأساتذة وأطباء وعلماء لسائر الفنون، وكذا المعلمات. فهذا كله من السهل المتيسر متى صدقت العزيمة، ومتى قويت الإرادة حصل المراد. أوليس من الحزم وفعل أولي العزم أن يقتصر الطلاب على التعلم لسائر العلوم والفنون في بلادهم؛ ليستعينوا بالبيئة والمجتمع ورقابة الأهل والأصدقاء على حسن سيرهم في تعلمهم وعلى تهذيبهم وتأديبهم؟ إذ المؤانسة تقتضي المجانسة في العقائد والأخلاق. ولا شك أن هذا أفضل من التعلم في الخارج، الذي هو محفوف بالأخطار والأضرار، فهو خطر على العفاف والشرف وعلى العقيدة والأخلاق، لكثرة من يلقونه ويختلطون به ممن ليس على دينهم، وقد تؤثر فيهم مجالستهم ومؤانستهم مع صغر سنهم، وكون قلوبهم قابلة لما يلقى فيها من الخير والشر. وياليت شعري ما الذي يرجعون به؟ وماذا يستفيدونه من هؤلاء الأساتذة؟ فإنهم بمجرد الاختبار والتجربة يرجع أحدهم إلى أهله وهو ساذج من العلم والمعرفة مزيف مغشوش بشهادة النجاح الكاذبة التي لا حقيقة لها سوى الغش، بمحاولة تكثير سواد الطلاب عندهم وفي بلدهم لما يكتسبونه على أثرهم من المادة.
وقد استعاذ النبي ﷺ من علم لا ينفع، ولا يستعيذ إلا من الشر، إذ الغاذي شبيه بالمغتذى،
فمن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.
إنه من المعلوم أن الشباب يفضلون السفر إلى الخارج للتعلم مهما كانت مضرته وسوء عاقبته؛ لكونهم يفتخرون به ويرونه سببًا ووسيلة إلى رفع رتبهم ومرتباتهم، فصاروا يفضلونه على التعلم في بلادهم. وكان بدء فتح هذا الباب للسفر للخارج في البلدان العربية حينما ابتدئ بفتح المدارس فيها على اختلاف أنواعها وعلومها، ولم يكن لديهم في ذلك الوقت كفاءة من المعلمين، ففتحوا هذا الباب للطلاب ليتعلموا شتى العلوم والفنون كي يستغنوا بعلمهم وتعليمهم في الخارج.
فاستمر هذا الفتح إلى حد الآن يقتدي الناس بعضهم ببعض فيه دون أن يفكروا في الاستغناء عنه.
وإن من الرأي السديد والأمر المفيد وجوب غلق هذا الباب عن سائر الطلاب لحصول الكفاءة التامة بالمعلمين من داخل البلدان العربية، والاستغناء بهم عن السفر للخارج بالكلية، فياليت شعري من الذي يفوز بالسبق إلى غلق هذا الباب الذي أحدث القلق والاضطراب في عقائد الطلاب، فإن خير الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.
وإن الحكام متى اخترعوا أمرًا وشرعوا مشروعًا مما يتطلع إليه الطلاب، ويؤملون نجاحهم على أثره برفع راتبهم ومراتبهم وقبول دوائر الأعمال لهم، فإنه من المعلوم أن الناس يندفعون إليه بشغف وشدة بحيث يطأ بعضهم أعقاب بعض في طلبه حتى ولو كان سيئ العاقبة في نفس الأمر. والواقع إن فعل الحكومة لهذا الشيء بهذه الصفة هو غاية في التشجيع والتنشيط للطلبة، لكنهم متى سدوا عنهم هذا الباب وصرفوا عنه الطلاب بالإياس منه، وفتحوا لهم ما هو أرفق وأوفق بهم وأصلح لهم في أمر دينهم ودنياهم ومجتمعهم، فإنهم عند ذلك يحمدون عاقبة أمرهم ثم ينشر الثناء والشكر لمن تسبب في سد هذا الباب بحيث يذكر به في حياته وبعد وفاته. إن الحاكم يجب أن يكون بمثابة العقل المفكر والرأي المدبر لشؤون أمر رعيته وبلده، فيفتح أبواب العلم والتعليم لمختلف العلوم والفنون على مصارعها، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه من صنائع وصناع وأطباء وأساتذة لسائر العلوم والفنون، ثم يوعز للطلاب بأن يتعلموا ويعلموا في بلادهم بين أهلهم وأقاربهم، ليكون احتفافهم بأهلهم وبني جنسهم أعون على تهذيبهم وتأديبهم، لاندماج الأخلاق بالأخلاق، وعلى الحكومة أن تعمل في غلق هذا الباب، ولا تسمح لسفر أي طالب من الطلاب، إلا من يسافر في عمل وتعلم شيء لا يمكن إدراك الحصول عليه في البلد كعلم الطب أو شيء من علم الهندسة؛ لاعتبار هذا من الأمور الاستثنائية - إذ لا بد من استثناء بعض التخصصات - ثم يحكم غلق الباب عن سفر الطلاب فيما عدا هذه الأمور الضرورية.
ثم ينبغي للحكومة أن تصرف عنايتها واهتمامها للمتعلمين داخل البلاد بحيث لا يكون المتخرج في الخارج أرقى راتبًا ورتبة من المتخرج في الداخل؛ لكون التفوق للخارج في الراتب والرتبة يوهن تعلم الداخل في البلد ويجعله يكسل عن مواصلة عمله في تعلمه.
ثم إن الحكومة تستفيد اختصار النفقات العظيمة من المرتبات وأُجور الطائرات، كما تستفيد أيضًا طرح شيء كثير من العناء والشغل في سبيل سفرهم وذهابهم وإيابهم. وكما يستفيد أهل الطالب عدم الانشغال بسفر ولدهم وتوفير ما كانوا يوافونه به من النفقات. فإن أكثر الطلاب لا يكفيه راتبه الشهري على كثرته بل لا يزال يلاحق أهله في إرسال زيادة على مرتبه، مع العلم أن مؤن المعيشة وأجور المساكن تزداد غلاء كل يوم، خاصة في تلك البلدان.
فمتى عملت الحكومة عملها في سبيل التعلم في بلادها، وصرفت مرتبات الطلاب الشهرية لهم في بلدهم، فإن الطالب يستفيد منها أكثر كما أن أهله يستفيدون منها، وتستفيد البلاد من انتشار هذه الرواتب الكثيرة فيها وتستفيد الحكومة شيئًا من الراحة من العناء والشغل في دائرة أعمالها.
لقد عرفنا من أخلاق حكامنا الأكرمين رسوخ الحب في قلوبهم لرعاياهم، وأنهم يحبون أن يوصلوا إليهم كل ما ينفعهم ويدفعوا عنهم كل ما يضرهم بكل سبيل حسب استطاعتهم، وأنهم متى تنبهوا لمثل هذا الرأي السديد والأمر المفيد، فأسفر لهم صبحه واتضحت لهم مصلحته وعموم منفعته في أمر الدنيا والدين، فإنهم يستقبلونه في صالحهم وصالح رعيتهم، ثم يتواصون ويتناصحون بالعمل به واعتماد تنفيذه؛ لاعتبار أنه حق يجب اتباعه وما بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون؟!
غير أن مثل هذا الرأي قد لا يوافق أذواق الكثير من الطلاب، وتنابذه نزعاتهم، ولا عجب فإن الحق لا يتمشى على رغبة الناس، وقد يكون الخير في ضمن ما يكره الناس، وما أنا إلا صديقهم الحفي أُخلص لهم نصحي حتى ولو كان مرًّا في حلوقهم، فإن الصديق المخلص هو من يجرع صديقه الدواء المر ليقيه من الوقوع في الضر.
أما المتخرج من الجامعات والمعاهد الإسلامية وكليات الشريعة، فإننا نجد عند أحدهم ما يشفي ويكفي من العلوم والفنون، سواء في التفسير أو الحديث أو السيرة أو التاريخ أو اللغة فتجد عنده ثمرة من العلوم النافعة كل على حسبه وعلى قدر موهبته من ربه وخاصة القدامى الذين تخرجوا منذ حوالي ثلاثين أو عشرين سنة فإنهم أرقى في العلوم والمعرفة من المتخرجين في هذه السنين؛ لكونه قد تغير أسلوب التعلم والتعليم في البلدان العربية كغيرها، وصاروا يسلخون ويمسخون الكتب والفنون؛ حتى أبقوا المنهج شبه الرمز والصورة للعلوم والفنون، ومع هذا كله فإن أقل المتخرجين معرفة في البلدان العربية هم أرقى من المتخرجين في بلدان أوربا. والحاصل أن الحكام متى أهملوا تربية الشباب فلم يهذبوهم على فعل الصلاح والتقى ولم يردعوهم عن مراتع الغي والردى، فإنهم سيعودون إلى أهلهم وهم نكبة ونقمة على العباد والبلاد، والدفع أيسر من الرفع. وإن مما يؤكد الخطر ويوقعهم في الضرر على الأخلاق والعقائد كون أكثر هؤلاء الطلاب يسافرون إلى الخارج وهم صغار الأسنان، لم ترسخ في قلوبهم تعاليم دين الإسلام، وقبل أن يتربوا على العلم بفرائضه وفضائله تربية عملية. ثم التحقوا بالمدارس النصرانية، واختلطوا بالمعلمين والمتعلمين بها فجالسوهم ووانسوهم وانطبع فيهم شيء من أخلاقهم وملؤوا أفكارهم من الإلحاد وفساد الاعتقاد؛ كجحود الرب والتكذيب بالقرآن والتكذيب بالرسول ﷺ والتكذيب بالبعث بعد الموت والتكذيب بالجنة والنار فلقنوهم هذه العقيدة على سبيل الصداقة فصادفت منهم قلبًا خاليًا فتمكنت، فرجعوا إلى بلادهم وهم يهرفون بما لا يعرفون. وناهيكم بالسذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة، فإن القاصرة عقولهم والناقصة علومهم ينقدح الشك في قلب أحدهم بأول عارض من شبهه، فيؤثر معهم هذا التضليل فيزيغهم عن الحق وسواء السبيل، فيتبعون أساتذتهم في أسوأ العادات وترك العبادات.
ومما لا شك فيه أن إرسال أولادنا وبناتنا للتعلم في بلدان أوروبا والبلدان الشيوعية له مخاطره في تكوين عقولهم، وله آثاره في بناء شخصيتهم.
فالطالب يجد نفسه يتلقى فلسفة الغرب المادية والعلمانية وعقيدته السيئة الخاصة به ويتشبع من هذه الفلسفة ويعود إلى بلده بشخصية مختلفة تهدم ولا تبني، حيث إنه قد عاد بأفكار مغايرة لعقيدة أهل بلده وعاداتهم وتقاليدهم.
وهناك فرق بين نوعين من العلوم التي يتوجَّه أبناؤنا لتحصيلها. فالعلوم الإنسانية مثل الأدب والتاريخ والفلسفة والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والقانون. فهذه العلوم لا حاجة لأبنائنا في تحصيلها من علماء لا عقيدة لهم ولا أخلاق، حيث إنهم يتأثرون بأفكارهم وميولهم ويشربون من موردهم من الفلسفات والآراء الهدامة التي تحطم كل القيم والآداب.
أما العلوم التطبيقية والعلمية البحتة كالطب والهندسة فإن سعيهم لاستكمالها يغدو وفق شروط معينة ضرورة ملحة.
ولسنا نقول ذلك ونطالب به إلا انطلاقًا من حرصنا على مستقبل شبابنا رجال المستقبل الذين يؤتمنون على تربية رجاله المقبلة.
فالعائد من الخارج يأخذ مركزه القيادي والتربوي ولا تقصر الدولة في إعطائه مكانته في قيادة البلاد والعباد سواء في مجال التعليم أو التصنيع أو العمل الإداري.
فإذا عاد إلينا بعقيدة ممسوخة، وبأفكار تغاير مبادئنا وأخلاقنا وديننا، فإنه لا محالة سيؤثر في نفوس الكثيرين ويقودهم إلى المهالك.
ونحن نعلم أن مؤسسات الاستعمار ومراكز توجيهه تتلقى الطلاب والطالبات هناك، وتحوطهم بكل وسائل الإغراء والفتنة من كل لون؛ الفكري والجنسي والنفسي، وقليلون من ينجون من شرهم.
والصهيونية بألاعيبها وحيلها توقع كثيرًا منهم في حبالها تحت بريق العلم والخداع، وغير ذلك من النوادي الليلية التي يديرونها لجر أرجل هؤلاء الطلاب وصرفهم عن تلقي العلم المبتعث من أجله.
والبلدان الشيوعية الماركسية تحرص كل الحرص على تلقبن المبتعثين من بلادنا أفكارهم وآراءهم وفلسفتهم المادية الملحدة، فيعود المبتعث وهو ناقم على دينه وعادات أهله وتقاليدهم، فيخرب ويهدم، وذلك من جراء إرسالنا لأولادنا وتركهم في أحضانهم، وناهيك عن وسائل التدمير في هذه المجتمعات التي أصبح شرب الخمر والمخدرات كتناول الخبز والماء، والاتصال بين الرجال والنساء سهل ميسر.
ومن يمارس هذا الحرام يسهل قياده ويعود مفقود الإحساس بالكرامة، ويفرط في كل شيء في سبيل شهوته ونزواته، إذْ إن إدمان رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها شيئًا فشيئًا إلى أن يراها الإنسان فلا يحس أنها منكرات، ولا يمر بفكره أنها معاصٍ، وذلك بسبب سلب القلوب نور التميز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر المساس قل الإحساس.
ولا حجة لمن يقول: إن الطالب أو الطالبة لا يتغير مادام متحصنًا بالثقافة الإسلامية في بلده؛ لأنه مهما تحصن وتحصل له من ثقافة إسلامية، فإنه في ظروف الغربة والضغوط والتأثيرات والإغراء في مجتمع متحلل لا بد أن يؤثر فيه أو يشوه عقليته.
وما حاجتنا إلى أن نلقي بفلذات أكبادنا في هذه المجتمعات التي هي غاية في مهالك الأخلاق، ونحن قادرون على تلقينهم العلوم في بلدهم وجلب القدرات العلمية إلى بلادنا بشروط توافق عقيدتنا وتقاليدنا، ويكونون تحت بصرنا فنسلم من شرهم ونأمن عواقب أفكارهم. أما سفر البنات الطالبات إلى الخارج فإنه أشد ضررًا وأكبر نكرًا؛ لأننا وإن قلنا: إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح وتعلم سائر العلوم والفنون كالرجال، فهذا صحيح والعلم النافع مطلوب ومرغوب فيه في حق الرجال والنساء. غير أن هذا العلم من الممكن تحصيلها له في بلدها بمراجعة الكتب والفنون وسائر المؤلفات، وبسؤال العلماء عن المشكلات فإن هذا هو طريقة حصول العلم للرجال والنساء.
فالراسخون في العلم والمتوسعون فيه إنما توصلوا إلى ما تحصلوا عليه بهذه الطريقة. فلماذا تترك المرأة هذا ثم تحرص ويحرص أهلها على سفرها وحدها الذي حرمه الشارع بقوله: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». رواه البخاري ومسلم. خصوصًا مثل السفر البعيد الذي تتعرض فيه إلى الأخطار والأضرار، ثم إلى فتنتها والافتنان بها الناشىء عن وحدتها والخلوة بها، وعن اختلاطها بالرجال في الملاهي والمجتمعات، وسائر الأحوال والأوقات؛ تقليدًا بما يسمونه تحرير المرأة عن رق أهلها وزوجها، وهن ناقصات عقل ودين، والمشبهة عقولهن بالقوارير في سرعة تكسرهن وميولهن، وليس من شأنها أن تطلب علمًا يوصلها إلى سطح القمر بحيث لا تجده إلا في الخارج، وما عداه فإنه موجود في بلدها بدون سفر. لهذا يحرم على حكام المسلمين تمكين النساء من السفر إلى الخارج، كما يحرم إعانتهم لهن في سبيل هذا السفر؛ لاعتبار أنه سفر معصية بلا شك. وبالله قل لي ماذا ينفع العائلة الحسيبة المسلمة من سفر ابنتهم إلى المدارس النصرانية تتربى بأخلاقهم ومساوئ آدابهم وعوائدهم.
إن أكبر ما تستفيده هي اللغة الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب بها أمها ولا أباها ولا أخواتها، وإذا رجعت من سفرها إلى أهلها رجعت إليهم بغير الأخلاق والآداب التي يعرفونها عنها، فترى أهلها كأنهم عالم غير العالم الذي نشأت فيه، وتحمل في نفسها الكبر والازدراء لأهلها، فتعيب عليهم كل ما يزاولونه من معيشتهم وأخلاقهم وآدابهم وعوائدهم،ثم تقع العداوة والتنافر بينها وبينهم في كل شيء وغايتها أنها تبغض أهلها وأقاربها ويبغضونها.
وحتى الأزواج الأكفاء تعزف نفوسهم عن خطبتها والرغبة فيها؛ لعلمهم بأنها متبرجة ومتفرنجة لا تخضع لطاعة الزوج، وتكلفه شيئًا من المشاق في السفر بها دائمًا إلى البلدان الأجنبية، ومتى تقلدت عمل الوظيفة فإنه أبعد لها عن الزوج، وعن تدبير شؤون بيته وعياله أفلا يكون سفرها للتعلم على هذه الحالة شقاء وضلالة وقطعًا لأواصر الزوجية والعيال، وما تستفيده من مرتباتها فإنها ستكون أبعد عن أهلها ويتضخم به خبالها وعدم اعتدالها.
وإننا باعتبار أننا مسلمون على الحقيقة فإنه يجب علينا امتثال مأمورات دين الإسلام واجتناب منهياته، فقد نهى رسول الله أن تسافر المرأة يومًا وليلة إلا مع ذي محرم، ونهى أن يخلو الرجل بالمرأة، وقال: «مَا خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ ثَالِثُهُمَا»[143]. ونهى القرآن عن إبداء زينتهن للرجال، وهذا كله حاصل متيسر منها في سفرها، فإنها تتزيَّا بزي نساء أهل تلك البلاد من التكشف وإبداء مفاتن جسمها غير مبالية بالحياء والستر، وإنما نهى رسول الله عن هذه الأشياء لكونها كالمقدمات لما بعدها كما في البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»، فلا ينهى الشارع عن شيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة. والنبي ﷺ قال: «الْإِمَامُ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[144]. فلا أَدري ما حجة هذا الرجل الذي جعله الله راعيًا على أَهل بيته متى سئل عن سفر ابنته لبلدان أوربا، وهل يصدق عليه أنه قام بواجب رعايته في أمانة تربية ابنته فأحاطها بحفظه وصانها حسب استطاعته، وفاء بصدق أمانته وحسن رعايته؟ أم ضيع ما استؤمن عليه وفرط في رعايته وقذف بابنته في هاوية الفتنة والافتنان بها، وتركها تتصرف كيف شاءت بدون مراقب ولا وازع؟
إن تحويل النساء المسلمات عن أخلاقهن الإسلامية يقع بتأثير أخلاق أرواح أجنبية غايتها تحويل المسلمات عن دينهن وجميل أخلاقهن إلى اتباع الأوروبيات وتقليدهن في عاداتهن، وكل ما ذكرنا من خطورته على العفاف والدين فإنه من البراهين التي لا مجال للجدل في صحتها. إن النصارى لا يعدون الزنا جريمة، وإن الاختلاط بين الطلاب من الشباب والشابات واحتكاك بعضهم ببعض جنبًا إلى جنب وجريان الحديث والمزاح بينهم، ثم المصاحبة والخلوة كما تستدعيه المجالسة والمؤانسة، عمل ضار في ذاته ومؤداه إلى الفاحشة الكبرى في غايته وسوء عاقبته؛ لأنه يعد من أقوى الأسباب والوسائل لإفساد البنات المصونات وتمكن الفساق من إغوائهن، فهل أنتم منتهون؟ ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة: 92]. فهذه نصيحتي لكم والله خليفتي عليكم وأستودع الله دينكم وأمانتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. * * *
[143] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بلفظ: «دخل الشيطان بينهما».
[144] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى وزراء التربية والتعليم
وإلى مديري المعاهد والجامعات والمدرسين والمتعلمين
سلام الله ورحمته عليكم أجمعين
أما بعد:
فإن المحبة الودية توجب علينا النصيحة الدينية، فإن الدين النصيحة لله ولدينه ولعباده المؤمنين.
وقد أوجب الله علينا أن ننصح من ولاه الله شيئًا من أمرنا، وإنه من المعلوم عند كافة الناس العام منهم والخاص أن وزارة التعليم قامت وتقوم بعمل كبير، تنفق فيه عزيز المال الكثير في محاولة إيصال النفع بالعلم ومحاربة الجهل عن الذكر والأنثى والصغير والكبير، لكنها بداعي الحاجة وعموم المصلحة تحتاج إلى رعاية وعناية مستأنفة من جديد فيما يتعلق بأمر الدين في توسيع حصته، وتكليف الطلاب بالقيام بفرائضه، والتخلق بآدابه وفضائله، وتربية النشء على محبته؛ لأن الدين هو عقيدة الإسلام وهو بمثابة الروح لكل إنسان، فضياعه من أكبر الخسران؛ لأنه يهذب الأخلاق، ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، فهو رأس كل خير، كما أن عدم الدين أصل كل شر، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة والجرائم الشنيعة من القتل والنهب وهتك الأعراض والسرقة وشرب الخمور، والتوسع في فنون الفجور والشرور من العادمين للدين الذين لا يرجون عند الله ثوابًا ولا يخافون عقابًا، فلا يبالون بما يفعلون، بخلاف المتدين بدين صحيح فإن دينه ينهاه؛ إذ الدين أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن ارتكاب المنكرات.
إن صلاح التعليم ينجم عن صلاح الرأس والرئيس، ومن تضم منصة التدريس، فكل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه، فمتى صلح التعليم صلح العمل وحسنت النتيجة، ومتى ساء التعليم ساء العمل وساءت النتيجة.
وإن الأمراء والوزراء والرؤساء ومجلس الشورى كل هؤلاء بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه من دخول الإلحاد وتسرب الفساد إلى البلاد والأولاد، لاعتبار أنهم متكاتفون متكافلون على إيصال المنافع ودفع المضار، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، يأخذون على أيدي سفهائهم ويأطرونهم على الحق أطرًا؛ أي يلزمونهم به إلزامًا، فمتى قصَّر هؤلاء في حماية دينهم ووطنهم وأهملوا أولادهم فلم يردعوهم عما يضرهم، وتركوا الخمور تُجلب إلى بلادهم، والحوانيت تُفتح لبيعها بحيث تكون في متناول كل يد من كل أحد، وصار مآل أمرهم هو التلاوم فيما بينهم بدون أن يناصحوا من ولاه الله أمرهم، فإنه بذلك يتحقق خراب البلاد وفساد العباد وخاصة النساء والأولاد، بحيث تنطبع أخلاق السوء والفساد فيهم.
أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يدين دين الحق فلا شك أن إسلامه كاذب بالحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام هو الذي يوحّد المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره أذلكم الله.
وقد ورد أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وقد أخرجه ابن النجار في ذيل التاريخ من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ». وقال الحسن: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقول: إني لحسن الظن بالله. وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل[145]. وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موت رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس، إنما كنا نعرفكم ورسول الله حي ينزل عليه الوحي إذ ينبئنا الله من أخباركم، وإن رسول الله قد انطلق به، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نعرفكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا منكم شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه عليه.
فالذي يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا والخمر لا شك أن إسلامه لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان، ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ [البقرة: 8-9]. لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه كما ورد بذلك الحديث[146]، فعقيدة الإسلام أنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره. أي: ضيقًا بذكر الإسلام، حرجًا من أمره ونهيه وصلاته وصيامه وسائر حدوده وأحكامه، يألف البطالة وينفر عن الطاعة في الله، فنسيه، وقد حذر الله المؤمنين أن يكونوا أمثاله فقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 19]؛ أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية.
[145] أخرجه ابن أبي الدنيا في الوجل والتوثق بالعمل.
[146] عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الكبير عن أبي الدرداء، ولفظه:«إن للإسلام صوى وعلامات كمنار الطريق..».
إن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه.
والعبادة، وإن كان قد يرى بعض الناس من الكسالى أن فيها نوع ثِقَلٍ عليهم كعبادة الصلاة والزكاة والصيام، لكنها حسنة العاقبة؛ لأن الحق ثقيل على النفوس لكنه مريء، كما أن الباطل خفيف على النفوس لكنه وبيء، فقد حُفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، يقول الله تعالى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾؛ أي ثقيلة ﴿...إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ٤٦﴾ [البقرة: 45-46]، فالمؤمنون الذين يعتقدون أن الله سيثيبهم على حسناتهم وصلاتهم، فإن الصلاة تكون سهلة عليهم، بل هي لذة أرواحهم ونعيم أجسامهم، وكذلك عبادة الصيام وسائر عبادات الإسلام. والعبادات على اختلاف أنواعها هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.
فهو سبحانه لم يكن ليذر الناس مهملين بدون أمر ولا نهي، ولم يكن ليكلهم إلى عقولهم وآرائهم ولا إلى عاداتهم وتقليد آبائهم، بل أرسل رسله وأنزل كتبه وبين للناس ما نزل إليهم من الشرائع والأحكام، فأوجب الفرائض وسن النوافل وبيّن للناس الحلال والحرام، فحاجة الناس إلى العلم بالواجبات ثم العمل بها، هي حاجة ضرورية أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن العبادات الشرعية تغرس في النفوس محبة الرب والتقرب إليه بطاعته، ثم صلاح الروح والقلب اللذين تترتب عليهما السعادة وحسن الاستقامة، فليس للناس صلاح ولا فلاح ولا سعادة ولا استقامة إلا بالعقيدة الصحيحة التي تصدر عنها الأعمال الصالحة من المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وبذلك يسمى المؤمن: عبد الله لكونه قد أطاع الله في أمره واجتنب نهيه وعبده بما شرع له، إذ الفرق شاسع بين من يسيرون في حياتهم على عقيدة صحيحة، وبين من يسيرون على غير عقيدة أو على عقيدة باطلة.
ثم إن العبادات الشرعية جعلها الله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون أن يختبرهم على صحة نياتهم بحيث يقول أحدهم: أنا مؤمن، أنا مسلم، فاقتضت حكمته بأن يختبرهم ويمتحن صحة إيمانهم بالأعمال؛ أي بالفرائض والنواهي التي تحقق صحة إيمانهم، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢﴾ [العنكبوت: 2]؛ أي لا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون، ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ﴾ [العنكبوت: 3]؛ أي من الأمم السابقة اختبرناهم بالأوامر والنواهي الشرعية، ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣﴾[العنكبوت: 3] الذين قالوا: آمنا، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وكان حظهم من الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بدون عمل ولا انقياد لحكمه، وهذا الإيمان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. ومنها أن العبادات الشرعية ترفع المسلم عن مشابهة الحيوانات البهيمية، فالقوم الذين تركوا فرائض ربهم ونسوا أمر آخرتهم وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم للعمل لدنياهم واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، قد رضوا لأنفسهم بأن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢﴾ [محمد: 12]، بل جعلهم الله شرًّا من الأنعام فقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: 179]، فلم يقتصر سبحانه على مساواتهم بالأنعام بل جعلهم أضل. فإذا أردت أن تعرف قيمة شأن العبادات الشرعية وما تُكسبه من الفضائل الخلقية والفوائد الاجتماعية، فانظر إلى البلدان العربية التي ترك أكثر أهلها العبادات الشرعية، ثم انظر كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، ويتسافلون تسافل الحيوانات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، تشابهت قلوبهم وأكثرهم فاسقون. * * * إن من شرط صحة الصلاة الطهور فهو مفتاح الصلاة كما ثبت في الحديث عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» رواه أحمد والترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب. فلا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وقد فُرض الوضوء ليلة الإسراء مع فرض الصلاة، وسمي وضوءًا لأنه مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة؛ لأن دين الإسلام دين النظافة يأمر بالتجمل والنظافة عند القيام للصلاة والمثول بين يدي الله تعالى: ﴿۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ﴾ [الأعراف: 31]؛ أي عند كل صلاة، والوضوء من الزينة الواجبة، والحكمة فيه أنه ينشط الأعضاء عند القيام للصلاة، ويكسبها القوة والفرح، ويزيل عنها العجز والكسل والفتور، ويطرد النوم والنعاس، ويترتب عليه تكفير الخطايا، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» رواه مالك وأحمد وابن ماجه. أما الصلاة فإنها آكد العبادات، وهي من أكبر ما يُستعان به على حسن تربية البنين والبنات؛ لأنها تقوّم اعوجاجهم، وتصلح فسادهم، وتذكرهم بالله الكريم الأكبر، وتصدهم عن الفحشاء والمنكر، فهي أم الفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تغرس في القلب محبة الرب والخضوع لطاعته، وبمحافظة الإنسان عليها ومزاولته بالاستمرار على فعلها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، فهي أول ما افترض الله من العبادات، وهي آخر ما يُفقد منها، فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين. وهي خمس صلوات مفرقة بين خمسة أوقات؛ لئلا تطول مدة غفلة العبد عن الرب.
سُميت صلاةً لكونها صلة بين العبد وربّه، فالمصلي متصل بربه موصول ببره وفضله وكرمه، وقيل: لأجل اشتمالها على الدعاء سميت في اللغة صلاة.
فهي عمود دين الإسلام، وأمانة الله في عنق كل إنسان، كما أنها الفارقة بين الكفر والإيمان، فمن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، ومن أقر بوجوبها وتركها عمدًا فهو كافر بنص السنة والقرآن، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ».
وروى بريدة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح، ولا نقول: إنه كفر دون كفر، كما يقوله بعضهم، بل هو الكفر المخرج عن ملة الإسلام، ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ﴾ [التوبة: 11]. وكان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين، وإن حدثوا بأنه لا حظَّ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له؛ لأنها آخر ما يفقد من دين الإنسان، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.
قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال الحافظ أبو محمد عبد العظيم المنذري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا لتركها حتى يخرج وقتها، منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء، ومن غير الصحابة ابن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عيينة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم. ذكره المنذري في الترهيب عن ترك الصلاة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا لمن أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لسخط الله وخزيه وعقوبته في الدنيا والآخرة. قال: وأفتى سفيان الثوري وأبو عمرو الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأصحابهم بأنه يقتل متى تركها عمدًا من غير عذر ودعي إليها وقال: لا أصلي. انتهى.
وحسبك أنها في تكفيرها للخطايا قد وصفها رسول الله بالنهر الغمر- أي الكثير- الذي يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات فهو لا يُبقي من درنه شيئًا، وكذلك الصلاة، وأن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
وبما أنها من آكد العبادات فإنها من أقوى ما يُستعان بها على حسن تربية البنين والبنات؛ لأنها تذكرهم بالله الكريم الأكبر، وتصدهم عن الفحشاء والمنكر، ولأجله أوصى النبي ﷺ بها أمته ليأمروا أولادهم بالصلاة لسبع سنين، ويضربوهم على تركها لعشر سنين؛ لأن تربيتهم عليها في حالة الصغر هي بمثابة النقثس في الحجر، ولأنهم بمزاولتهم لها والأخذ بأيديهم إليها يعود حبها ملكة راسخة في قلب أحدهم تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، يقول الله تعالى: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسَۡٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢﴾ [طه: 132]. * * * شرع الإسلام اجتماع المسلمين في الصلاة بنظام خاص وتساوٍ في الصفوف وتراص، وقد جعلت صفوف المصلين كصفوف الملائكة لقول النبي ﷺ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟»[147]. قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ». وشرع بناء المساجد للاجتماع للصلاة، كما شرع الأذان على المآذن العالية لإبلاغ الناس دخول وقت الصلاة ليتأهبوا بالحضور إليها، وورد الوعيد الشديد فيمن سمع النداء بالصلاة ثم لا يجيب، وأن التخلف عن الصلاة وعدم إجابة النداء إليها من صفة المنافقين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨﴾ [المائدة: 58] فنفى الله عنهم العقل الصحيح لعدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح؛ لأنه إنما يُسمى العقل عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده؛ أي أمره ونهيه، أو من أجل أنه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
وحسبك أن الله أمر بالصلاة جماعة في حالة القتال وحمل السلاح وتقابل الصفوف، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡ﴾ [النساء: 102]، وقد ترجم العلماء لهذا في كتب الحديث والفقه بـ «باب صلاة الخوف». ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ أنه تخلف عن الجماعة مرة واحدة إلا في حالة مرضه الذي تُوفي فيه.
وهذه الأدلة تتعاضد على وجوب صلاة الجماعة إذا لم يكن ثمة عذر يبيح التخلف، وهذا الوجوب يثاب فاعله ويعاقب تاركه، كما أنه الظاهر من مذهب الإمام أحمد وكثير من المحدثين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. قال ناظم المفردات:
والحاصل أن الصلاة مع الجماعة هي من لذائد الحياة مَنْ ذاق منها عرف، ومن حُرم انحرف، كما قال النبي ﷺ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[148].
إن أعظم الناس بركة وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس أو في المدرسة فيسمع النداء بالصلاة فيقوم إليها فرحًا، ويأمر من عنده من الجلساء والزملاء والتلاميذ بأن يقوموا إلى الصلاة معه فيصلون جماعة، يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم، أولئك الميامين على أنفسهم والميامين على جلسائهم وتلامذتهم، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
وبضد هؤلاء قوم يكونون في المجالس أو في المدارس أو في النوادي والمقاهي فيسمعون النداء بالصلاة فلا يجيبون، ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، فهؤلاء هم المشائيم على أنفسهم والمشائيم على جلسائهم وتلامذتهم.
[147] أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة.
[148] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس.
إن مما يجب أن ننصح به وأن نوصي بعمله هو إقامة الصلوات جماعة في المعاهد والجامعات ومدارس البنين والبنات، فمتى دخل عليهم وقت فريضة من فرائض الصلاة، كفرض الظهر مثلاً، أو فرض المغرب أو العشاء في الذين يدرسون بالليل، فإنه يجب أن يؤذن لهم أحدُهم ويؤمهم أقرؤهم؛ لأن فعل هذه الصلاة جماعة هو من أكبر ما يستعان به على حسن تهذيب أخلاق البنين والبنات، كما أنها من أكبر ما يستعان به على حصول العلم وكشف المشكلات وسائر أمور الحياة، وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة أو وقعوا في شدة من الشدات فزعوا إلى الصلاة لأن الله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ﴾ [البقرة: 45]. فالمتخفي أو المتخلف عن الصلاة مع الجماعة يعتبر خائنًا لدينه خائنًا لأمانة ربه، لا سيما إذا كان هذا المتخلف من الأساتذة المعلمين، فإن تخلفه يعتبر تعليمًا منه لترك الصلاة وعدم الاهتمام بها، فلا يصلح أن يكون معلمًا للأولاد؛ لأن الخائن لعمود دينه وإمانة ربه جدير بأن يخون أمته وأهل ملته، فهو جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، وقد حذر النبي ﷺ من مثل هذا خشية الاقتداء به فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الصَّلَاةِ فَيَتَخَلَّفُ بِتَخَلُّفِهِمْ آخَرُونَ»[149]. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ، لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنْ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه.
إن الحكومات على اختلافها أصبحت تعاني أشد المشقات في علاج الجرائم؛ لكثرتها واختلاف أنواعها، ويواصلون الأعمال في محاولة تقليلها فضلاً عن رفعها، لكنها لم تزدد نارها إلا استعارًا؛ وإنما تنشأ الجرائم الفظيعة والفواحش الشنيعة من العادمين للدين التاركين للصلاة، ولو وفقوا لدوائها الوحيد وعلاجها المفيد لوجدوه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المحافظة على الصلاة التي هي أم الفضائل الناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، ثم في إقامة الحدود الشرعية التي جعلها الله بمثابة الزواجر عن ارتكاب منكرات الأخلاق والرذائل، فإن هذه تكفي عن مئات الألوف من الجنود والعساكر.
إن صلاة الأساتذة والطلاب جماعة يترتب عليها مصلحة كبيرة لسائر المعلمين والمتعلمين؛ إذ هي نوع من التعليم الفعلي الذي أسست له المعارف وفتحت له أبواب المدارس، فلا ينبغي أن يلاحظ تمرين الطلاب على تعلم فضول أمور الحياة من الرياضيات والجغرافيات، ويهمل جانب تمرينهم على فعل الصلاة من سائر العبادات؛ إذ هذه أولى بالعناية والاهتمام؛ لأن الصلاة من أكبر ما يستعان به على أمور الحياة وعلى حصول العلم وحل المشكلات، والله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ﴾ [البقرة: 45]، وكان الصحابة والسلف يستعينون على حفظ العلم بالعمل به، ويقول أحدهم: أصلي بكم كما رأيت رسول الله يصلي بنا، ويقول الآخر: أتوضأ كما رأيت رسول الله يتوضأ، ويقول ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن؛ فيتعلمون العلم والعمل معًا. أما تفريط المدارس في صلاة الجماعة، وتهاون المدرسين بها، وعدم مبالاتهم بمن يصلي وبمن لا يصلي، بحيث يدخل عليهم وقت الصلاة وهم في دوام الدراسة، ثم ينفرون ويتفرقون قبل أن يصلوا جماعة، فلا شك أن هذا الفعل بهذه الصفة هو نوع تعليم للأعمال السيئة، فهو مما يجعل هذه الفريضة تفوت على الصغار والكبار حتى يكون تركها عادة مستمرة وخلقًا لهم، يشب عليها صغيرهم ويهرم عليها كبيرهم، حتى لا يرونها منكرًا كما هو معروف من صفات التاركين للصلاة؛ لكون التارك للصلاة مع الجماعة يندر أن يصليها في بيته، وإن التماهل في فعلها مدعاة إلى التهاون بها ثم إلى تركها، وهكذا المعاصي يقود بعضها إلى بعض، وهي بريد الكفر.
فيا معشر شباب المسلمين، ويا معشر المسلمين والمتعلمين، إن الله سبحانه شرفكم بالإسلام وفضلكم به على سائر الأنام متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون العمل، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله؛ فمن واجبكم محافظتكم على صلاتكم في الجماعة، وأن تحثوا من لديكم عليها فإنها من أعظم المظاهر الدينية، فمتى رأيتم الرجل يحافظ على واجباته في صلاته فاشهدوا له بالإيمان، ومتى رأيتم الرجل يتخلف عن الصلاة بدون عذر مشروع فاشهدوا عليه بالنفاق، ومتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم أو لحاجة العلاج أو لحاجة التجارة أو لأي حاجة من الحاجات، فمن واجبه أن يُظهر إسلامه في أي مكان يحل به، فيدعو إلى دينه وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلاة أمر من عنده من زملائه وجلسائه بأن يصلوا جماعة، حتى يكون مباركًا على نفسه ومباركًا على جلسائه، أما إذا صرفتم جل عقولكم وجل أعمالكم وجل اهتمامكم للعمل لدنياكم واتباع شهوات بطونكم وفروجكم، وتركتم فرائض ربكم، ونسيتم أمر آخرتكم، صرتم مثالاً للمعايب، ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالحين، الذين شَرُفوا عليكم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. * * *
[149] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عمر بن الخطاب.
إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد أُسست المدارس لتعليم الطلاب أمر دينهم ودنياهم، ثم تمرينهم على العمل بما ينفعهم، وسبق لنا حديث أبي الدرداء أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ، لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنْ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
ومن المعلوم أن المدرسة التي تشتمل على عدد كبير من المعلمين والمتعلمين والفراشين أنه يشملها معنى الحديث، فمتى لم يقيموا الصلاة جماعة فإنه ينطبق عليهم هذا الوصف السيئ من استحواذ الشيطان عليهم- أي غلبته واستيلائه- كما قال تعالى: ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩﴾ [المجادلة: 19]، ومن المعلوم عند الناس العام منهم والخاص أن وزارة التربية والتعليم قامت وتقوم بأعمال كبيرة، وتنفق في سبيل التعلم والتعليم النفقات الكثيرة لإصلاح أحوال الطلاب وإزالة الجهل عنهم وسوء الآداب. وقد سبق أن قلنا: إن الصلاة في الجماعات هي من أكبر ما يستعان به على حسن تهذيب أخلاق البنين والبنات؛ لأنها تقوِّم اعوجاجهم وتصلح فسادهم وتذكرهم بربهم الكريم الأكبر، وتصدهم عن الفحشاء والمنكر، وأنها من أكبر ما يستعان به على أمور الحياة وتسهيل العلم وكشف المشكلات، ﴿ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٥٣﴾ [البقرة: 153]، فمتى كان الأمر بهذه الصفة فإنه يجب بذل المال في تمهيد مكان لصلاة الجماعة في المدرسة؛ لما يترتب على ذلك من صلاح الأحوال والأعمال والعيال، ومن بنى لله مسجدًا يحتسب ثوابه عند الله بنى الله له قصرًا في الجنة. لهذا يجب على وزارة التربية والتعليم التي من شأنها إصلاح أحوال المعلمين والمتعلمين أن تحتسب تأسيس مكان لصلاة الجماعة في كل مدرسة يسع الطلاب والأساتذة، ولو على صفة الغرفة الواسعة؛ أي بدون محراب ولا منارة، ويصدق عليه تسميته بالمسجد، وتحتسب وزارة التربية والتعليم بالمبادرة بتأسيسه لاعتبار أنه عمل خيري يبقى شرف ذكره وعظيم أجره لمؤسسه والمساعد عليه، بحيث يذكر به ويشكر عليه في حياته وبعد وفاته.
وإن جُعل المكان على صفة المسجد في كل صفاته فهو أفضل؛ لئلا يصرف عن وقفيته إلى غيره قبل تمام بنائه، فإنه لا ينبغي للأساتذة والطلاب أن يهملوا صلاة الجماعة، فكل مواضع المدرسة تصلح لصلاة الجماعة إما في إحدى غرفها، أو في الأروقة المحيطة بالغرف؛ ولم يبق سوى فرشها بالحصر أو البسط للصلاة، على أنها تصح بدون ذلك، فقد سجد النبي ﷺ على الطين، وعلى كل حال فإنها متى خلصت النية وقويت العزيمة فإن كل شيء سهل ميسر وحاضر عتيد، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. * * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، ونستعين بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما بعد:
فقد أهدى إلي أحد الأخلاء شريطًا يتضمن محاضرة ألقاها عبد الحميد الأنصاري أحد المعلمين في قطر في شأن المرأة وما يجب أن تفعل في المجتمع، فألفيته منشورًا يشتمل على منكر من القول وزور، ويجادل فيه بالباطل ليدحض به الحق، فلو اقتصر على شأن المرأة وحدها والخوض في موضوعها لكان أسهل، لكنه تعدى عنها إلى أساطين العلماء الأجلاء كالإمام الذهبي في كتابه الكبائر والإمام الغزالي في إحياء علوم الدين وسفيان الثوري أحد رجال البخاري، فجعل يَسمُهُمْ بالنقص وعدم العلم والمعرفة، وكونهم متمسكين بأقوال الجاهلية، ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥﴾ [الكهف: 5]، لكنه يتحامل على هؤلاء العلماء بالنقص ليزيل به الاحتجاج بأقوالهم في كل ما هو حجة عليه، وأعظم من هذا كله كونه يدَّعي أن الرسولﷺ قد مات قبل إكمال الدين، وهو مناقض لقوله سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3] وليس بعد التمام إلا النقص. إن تربية الأولاد مع كثرتهم ومزاولة خدمة البيت ليس من الشأن الهين، إذ إنه يذهب بطراوة المرأة ونشاط جسمها، حتى قيل: لن ينشأ عمر إلا وقد أكل عمرًا؛ أي من شباب أم الأولاد. يقول سبحانه: ﴿قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ﴾ [الأحزاب: 59] فهذا والله الخطاب اللطيف والتهذيب الظريف، يأمر الله جميع نساء المؤمنين الحرائر العفيفات بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملحفة الواسعة التي تُشبه الرداء، بحيث تغطي بها جميع بدنها فلا تُبقي سوى عينها التي تبصر بها الطريق، ويعلم الناس أنها من الحرائر المصونات فيحترمونها لذلك، وهذا معنى ﴿يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ﴾. إن أشرف حالة للمرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، ملازمة لعملها من خياطتها ونظافة بيتها وعيالها، لا يكثر خروجها؛ لأن ثقل الرِّجْل جلال وكثرة الدخول والخروج مهانة، ورُبما يُعرضها إلى التهمة، وإلى فتنتها والافتتان بها، إن خرجت مختفية في هيئة رثّة غير متطيبة تسلك المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق.
وقد أكثر هذا المحاضر من ترديد الكلام السخيف في شأن ستر المرأة وجهها وزعم أنه ينتج النقص في عقلها، وهو الناقص لا محالة، فإن ستر المرأة وجهها كان معروفًا في زمن الصحابة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الإماء المملوكات إذا خمرن وجوههن، ويقول: لا تشبَّهن بالحرائر، مما يدل على أن الحرائر زمن الصحابة قد تعوَدن ستر وجوههن بالخمار، فمنهن من تضع النقاب ومنهن من تضع البرقع كما قيل:
ثم إن النظر إلى محاسن المرأة هو سهم من سهام إبليس كما ثبت بذلك الحديث، فمن نظر إلى محاسن المرأة ثم صرف بصره عنها أورثه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه؛ لأن أكثر الحوادث مبدؤها من النظرة، فالنظرة تكون في مبدئها نظرة، ثم تكون خطرة في القلب، ثم تكون خطوة بالرجْل، ثم تكون خطيئة. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «الْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ، وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْخُطْوَةُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». ويرحم الله نساء الأنصار لما نزل قوله سبحانه: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: 31] فسرها ابن عباس بما ظهر منها من وجه وكفين، وفسرها ابن مسعود بأطراف الثياب، لهذا عمدت نساء الأنصار إلى الكثيف من الثياب فشقّقنَها على رؤوسهن فخرجن وهنّ لا يعرفُهن أحد من التستر. إن نساء المسلمين منذ بعث الله محمدًا ﷺ إلى يومنا هذا وهن يشهدن الصلاة مع الرجال، لكنهن بمعزل عنهم، لقول النبي ﷺ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»[150] وكان الزبير بن العوام زمن فتنة الصحابة في موقعة الجمل وصفين يحب من زوجته أن تصلي في بيتها لكنه يتحاشى النهي حذرًا من معصية رسول الله ﷺ، فرأى من حيلته أن يقف بطريق أسماء -زوجته- لاصقا جنبه بالجدار، فخرجت أسماء لصلاة العشاء، فتقدم إليها وجسّها باللُبس فصرخت ثم رجعت إلى بيتها، ولما انتهت صلاة العشاء جاء وسأل أسماء لِمَ لم تخرج للصلاة؟ فقالت: نعم كنا نخرج والناس ناس وقد انقلب الناس أبالس، وهذه سياسة حكيمة. حتى إن عمر بن الحطاب رضي الله عنه جعل لهن بابًا في المسجد لا يدخل ولا يخرج منه إلا النساء، من حرصه على صيانتهن، وكذلك كانت النساء يجاهدن مع الرجال وكانت هند زوجة أبي سفيان وصويحباتها معهن سيوف وخشب خلف الرجال يزجُّونهم إلى ساحة القتال في معركة القادسية، وربما شجعن الرجال بشيء من الشعر، فكنَّ لا يمكنَّ أحدًا من الرجال ينصرف عن القتال إلا زجرنه وصحن به، وغزت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت القسطنطينية فسقطت عن دابتها فماتت رضي الله عنها، ونساء المسلمين يشتغلن مع أزواجهن في الحرث والزرع وغرس الأشجار المتنوعة وتربية الحيوانات وأقلها الدجاج، فما دخل رسول الله ﷺ بيت أحد من الفقراء إلا أمر باقتنائهم الدجاج.
إن هذا المحاضر الضال يريد منا شيئًا من التكشف العمومي للنساء حتى يتمتع بشهوته بالنظر إليهن، يريد بذلك الفتنة نظير إخوانه من المنافقين الذين قال الله فيهم: ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُ﴾ [آلعمران:118] والمنافقون في هذا الزمان هم أشر من المنافقين الذين نزل فيهم القرآن؛ لأن أولئك يخفون نفاقهم وهؤلاء يظهرون. إن الله سبحانه أمر في كتابه بغض البصر لكونه رائد الفرج، فقال سبحانه: ﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31] فهذا والله الخطاب اللطيف والتهذيب الظريف؛ إذ إنه من المعلوم عند الخاص والعام أن المرأة إذا دخلت في سلك الأعمال مع الرجال فإنها لن تخلو من الانفراد وحدها، ولن تخلو من صديق ينفرد بها في مكان خالٍ فيقع المحظور، وما خلا رجل بامرأة إلا والشيطان ثالثهما، ولهذا حرم رسول الله ﷺ سفر المرأة يومًا وليلة إلا مع ذي محرم.
وقد أجاز الشرع الحنيف كشف الوجه عند الحاجة؛ كحالة الشهادة عليها أو القضاء، أو في حالة نظر الخاطب إليها، فقد أمر النبي ﷺ بذلك وقال: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ»[151]. وقال لرجل خطب امرأة: هل نظرت إليها؟ فقال: لا، فقال: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا»[152] - أي يؤلف- وقد أخذ بعض الأفاضل في هذه السنين العمل بهذه السنّة، فمتى طلب الخاطب النظر إلى مخطوبته فإنهم يمكّنونه من ذلك فيفتحون له الباب ويسهلون له الجناب، فيدخل إليها وهي جالسة مع أمها، فتقوم المخطوبة فتصب إلى خطيبها القهوة، ثم ينصرف راغبًا أو راهبًا، أما قول بعض الفقهاء: ولا بأس بكشف وجهها عند أمن الفتنة. فهذا قول معقول ومقبول، فالعفيفة المصونة متى صمد الشاب لرؤيتها فصرفت بصرها عنه فإن هذا عين الصواب، وحسبنا تنويه القران بفضيلة غض البصر من الرجل ومن المرأة. أما المرأة الكبيرة التي انقطع عنها حيضها فقد أبيح لها أن تكشف وجهها وتلقي عنها الثياب المحتشمة مثل العباءة والثياب الزائدة على الدُّرَّاعة، وتمشي مع الناس بدراعة وخمار مع اجتنابها للزينة وما يدعو للنظر إليها، فإن لكل ساقطة لاقطة، يقول سبحانه: ﴿وَٱلۡقَوَٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا يَرۡجُونَ نِكَاحٗا فَلَيۡسَ عَلَيۡهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعۡنَ ثِيَابَهُنَّ غَيۡرَ مُتَبَرِّجَٰتِۢ بِزِينَةٖۖ وَأَن يَسۡتَعۡفِفۡنَ خَيۡرٞ لَّهُنَّ﴾ [النور: 60]. وفي الختام فقد أشار بعض الأصحاب عليّ في شأن هذا الكاتب قائلاً: إن كلامه ساقط عند كل أحد لأنه عديم علم، وعديم عقل، وعديم أدب، وكل هذه الأوصاف منطبقة عليه ومعروفة من حشو كلامه، وإنه لا يستحق الرد عليه، فأجبته بأن الباطل لا يقوى إلا في حالة رقدة الحق عنه، وأن ردّ الباطل بالحق هو مما يقلل فشو الباطل وعدم انتشاره، وردنا هذا هو من العلم النافع الذي يُرجى أن ينتفع به كل من سمع به، وسبحان من لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وفي الختام فإنه لو لم يكن عندنا في هذا الموضوع سوى قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ﴾ [الأحزاب: 59] لكفانا، فقد أمر الله نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملحفة يشبه الرداء أو يشبه العباءة تضعه المرأة فوق خمار رأسها، فإذا مر بها أحد من الأجانب سدلته على وجهها بحيث لا تبقي من وجهها سوى العين التي تبصر بها الطريق، ويعلم الناس بأنها حرة فيحترمونها، وهذا معنى البرقع والنقاب كما في شعر الخفاجي في معشوقته ليلى الأخيلية حيث قال: * * *
[150] متفق عليه من حديث ابن عمر.
[151] أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد الله.
[152] أخرجه الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة.
أنا النبي لا كذبْ
أنا ابن عبد المطلبْ
حصار النبي ﷺ للطائف
ويسألني عن علتي وهو علتي
عجيب من الأنباء جاء به الخبر
ومن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهمُ
فكل غزوات الرسول صريحة في كف العدوان عن الدين وعن عباد الله المؤمنين كما سبق في غزو هوازن لحربه، حيث زحف ملكهم بجنوده من عوالي نجد بمن معه من قبائل العرب حتى نزل بحنين القريبة من مكة لقصد الهجوم على الرسول وأصحابه، لظنه أن المغلوبين من أهل مكة سيساعدونه، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا.فصل
[فصل في الرد على صاحب الكتاب]
حروب الصحابة لفارس والروم
قتال الصحابة للخوارج على النهروان
معاملة المسلمين للمخالفين لهم في الدّين
جهاد اليهود المحاربين للمسلمين
(3)
الجندية وعموم نفعها
وحاجة المجتمع لها
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نُجْح الأمور بقوة الأسبابِ
ثم إن الله سبحانه أضاف تسمية الجنود إلى نفسه الكريمة إضافة تشريف وتكريم، فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ١٧٣﴾ [الصافات: 173] سواءٌ حملناه على الصحابة أو على الملائكة ﴿وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]، وكان الصحابة يسمون جنود الله وجنود الإسلام وجنود المسلمين، فلا أعلى من مزيتهم ولا أرفع من منزلتهم، لكونهم حماة الدين والوطن. مما يدل على أن الجندية تسمية شريفة شرعية. ومن صفة المسلم الصبر على البأساء والضراء وحين البأس. فالجندية وإن رأى الجبناء المترفون أن فيها تعرضًا للقتل والقتال لا يصبر عليه إلا الفقراء والفاشلون في التعلم، لكن المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ﴿قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡ﴾ [آل عمران: 154]، وطعم الموت في أمر عظيم كطعم الموت في أمر حقير.
إن الشباب والفراغ والجِدهْ
مفسدة للمرء أيّ مفسدهْ
يقول حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه[76]. ولما قال رجل لبعض السلف: لا أراك الله مكروهًا. قال: يا أخي إذا لم أعرف المكروه وقعت فيه.
صدأُ الجبان وصيقل الأحرارِ
لذا يجب على جميع المسلمين أن لا ينخدعوا بالراحة والرفاهية والترف، وأن لا تسحرهم لذائذ النعم ورخاء العيش فتشغلهم عن الاستعداد بعمل ما ينفعهم أو يدفع الضر عنهم.
العجز ضرٌّ وما بالحزم من ضررٍ
وأحزمُ الحزمِ سوءُ الظن بالناسِ
لا تترك الحزم في أمرٍ تُحاوله
فإن أَمنْتَ فما بالحزم من باسِ
ولقد رأينا شعراء العرب يجعلون الميل إلى الراحة زراية ومذمة، كما قيل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولما أنشد الشاعر هذا البيت، شكاه المقول فيه إلى عمر، قال عمر: يا حسان، هل هذا البيت مدح أو قدح؟ فقال حسان: يا أمير المؤمنين، ما ذمه ولكنه سلح[78] على رأسه. فدعا به عمر فجلده الحد.
إني رأيت من المكارم حسبكم
أن تلبسوا خَزَّ الثياب وتشبعوا
فالاشتغال بتنويع الثياب وتعديلها وتبديلها هو شغل شاغِل عن المكارم، ولا ينافي هذا حديث «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»[79] ولكن كل ما خرج عن حده فإنه يقع في ضده.
تأتي المصائب حين تأتي جملةً
وأرى السـرورَ يجيء في الفلتاتِ
هذا وإن من المعلوم أن كل دولة لديها جنود يحمون حدودها وحقوقها ويقومون بحفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، بحيث يلجأ الناس إليهم عند أدنى حادث يهمهم، فهم رحمة للعباد والبلاد ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251] وبعض الناس يرتضيها له عملاً ومكسبًا، فيقيم فيها عشر سنين وعشرين عامًا بحيث يشتهر بالتسمي بها، فلا كلام في هؤلاء، وإنما نتكلم في الشباب المجانبين لها من أهل البلد، وأن الأفضل دخولهم فيها ولو سنتين أو ثلاث سنوات، ليتفقهوا ويفقهوا أحكام الجندية وما تشتمل عليه من وسائل السلاح وأدوات القتال، كما ارتفع عن الناس اسم الأميّة لما احتاجوا بداعي الضرورة إلى الكتابة، فأصبح أكثرهم الآن عارفًا بالكتابة لأن العلم بالتعلم، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
والجهاد قولي وفعلي يكون بالسيف والسنان، ولا يتم الجهاد عن خاصة الدين والوطن إلا بتمام الاستعداد بوسائل الحرب وأسبابه، إذ العلم بالشيء ليس كالجهل به.
بالعلم والمال يبني الناس مَجْدَهُمُ
لم يُبنَ مجد على جهل وإقلالِ
والنبي ﷺ قال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[82] ففسر القوة بالرمي، ولم يبين كيفية الرمي به لتنوعه بتجدّد الزمان.
ولست بالأكثر منهم حصا
وإنما القوة للكاثرِ
وقد قيل: أليس لكل زمان ما يلائمه فإنما يُرمى الجندل بالجندل والحديد بالحديد. ثم تطورت الأحوال حتى توصلوا إلى النبال، وقد حاربوا به زمن النبي ﷺ، وكان عدة ما يقاتلون به مع النبال هي الرماح والسيوف وليس عندهم سلاح غيرها، ثم توصلوا إلى معرفة الدبابة في ذلك الزمان، وقد نصبها رسول الله ﷺ على أهل الطائف فأحموا لها النبال بالنار حتى خرقوها، ومنها المنجنيق يملؤونه حجارة ثقيلة ثم ينسفونه على أهل البلد، وقد حارب به النبي ﷺ أهل الطائف، وهو يقوم مقام المدفع في هذا الزمان إلا أن المدفع أشد منه، ثم دار الزمان بدورته حتى أوجدوا سلاحًا يسمى الفتيل وفيه يقول النصارى: لا تشتغل بسب عدوك ولكن أوقد الشمع يندفع عنك.
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكبِ
ومتى أمسك هذا السلاح الغلق الصعب من لا يحسن سياسته فإنه يبقى كعصا في يده لكون صُناعه عملوا على حساب أن لا يفهمه أكثر الناس.حاجة الجنود إلى التدين الصحيح
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
ولهذا يقول العلماء: إن التوكل على الله لا يكون صحيحًا إلا بعد اتخاذ الأسباب والوسائل التي تؤهله من الوصول إلى مقصوده، وإلا كان توكله عجزًا. ولما أخلى الرماة من الصحابة مراكزهم في فم الشعب الذي أمرهم رسول الله بحراسته يوم أُحد، فدخلت الخيل من جهته قتلوا سبعين من الصحابة وشجوا رأس رسول الله ﷺ وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة وظنوه ميتًا، لهذا وقع التفكير من الصحابة في سبب هذه المصيبة والهزيمة، وهم أصحاب رسول الله ويقاتلون في سبيل الله ويظنون أنهم لن يغلبوا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ﴾ [آل عمران: 165]؛ أي بسبب تفريطكم بإهمال ثغركم، لهذا صار الصحابة بعد هذه الوقعة أشد احتراسًا باستعمال الأسباب والوسائل؛ لأن ذنوب الجيش جند عليهم.ردّ شبهة النصارى على المسلمين في عقيدة القضاء والقدر
اللعب بالكرة وذم الإسراف فيه
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
ثم إن الله سبحانه في كتابه المبين قد نهى عن كل لعب محرم يفسد العقل والمال ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وإنه لأضر من اللعب بالقمار، وهو المسمى بالميسر في القرآن، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١﴾ [المائدة: 90-91]. (4)
الاشتراكية الماركسية
ومقاصدها السيئة
مقدمة الرسالة
والناس للناس من بدو وحاضرةٍ
بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدَمُ
إن دين الإسلام بريء من الاشتراكية الشيوعية الماركسية، التي تحرّم تملك الفرد أو الأفراد، وتقضي بتعميم أخذ جميع أموال الناس، ومصادرة ثرواتهم بغير حق، وخاصة التجار الذين استباحوا سلب أموالهم ثم أجلسوهم على حصير الفاقة والفقر، يتقاضاهم الهم والغم، وأخذوا يتمتعون ويتنعمون بأكل أموالهم بغير حق. والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188]. ما هي الاشتراكية الماركسية؟
والناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدَمُ
لأن الله سبحانه لو أغنى الخلق كلهم لأفقرهم كلهم، ولكن رحمته بهم قضت تفاوتهم في الغنى والفقر، يقول الله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ﴾ [النحل: 71]، وقال: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا ٢١﴾ [الإسراء: 21]، وقال تعالى: ﴿أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢﴾ [الزخرف: 32]، فدلت هذه الآيات على أن هذا التفاضل رحمة من الله لهم، وأنه لا يستقيم نظام حياتهم بدونه، ولهذا سمّاه الله رحمة.
تبارك ذو الأحكام والحِكَم التي
تَحارُ عقولُ الخلق فيها فتهتدي
فمِنْ حكمه إبداؤنا وأمورنا
ذواتُ ارتباطٍ لا ذوات توحدِ
فكل امرئٍ لا يستقلُّ بنفسه
فسَنَّ لنا سبلَ التعاونِ فاهتدِ
يُعلّق أطماعَ الأنام بمكسبٍ
له يركبون الهولَ في كلِّ مقصدِ
يهون على هذا اقتحام بنفسه
وهذا بمال رغبة في التزيّدِ
ليأتي بأرزاق يعزّ حصولُها
على عاجزٍ عنها ضجيعٍ بمرقدِ
فسبحان من أبدى وأتقن صنعه
وجَلّ تعالى عن أباطيلِ ملحدِ
إن دين الإسلام مبني على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. وخطب النبي ﷺ في مجمع الناس يوم عرفة فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»[91]. وهذا غاية في تعظيم حرمة مال الغير، وأنه لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفس منه، وقد قال النبي ﷺ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[92].
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجدهُ
وإننا متى سألنا عن أقوى مادة يعتمد عليها اليهود في قوتهم، ونظام حكومتهم، مع العلم بقلة عددهم، وعدم وجود منابع البترول عندهم، التي هي عماد ثروة الأمة في هذه الأزمنة، أجابوا: بأن عمدة قوتهم تتركز على المال؛ إذ أنهم أكثر الناس مالاً، وأكثرهم تجارة، فكانوا يساعدون حكومتهم بالمال على سبيل الاستمرار.خداع زعماء الاشتراكية الماركسية
في تسمية نحلتهم بالإسلامية
وكلٌّ يَدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكَ
فالإسلام ليس محض ألعوبة وأماني كاذبة، بحيث يقول الشيوعي: إن الشيوعية إسلامية. والاشتراكي الماركسي يقول: إن الاشتراكية إسلامية. وكذا القومية العربية والبعثية، والقاديانية. وما سيبتدع من النحل، ويسمى باسمه. والله يقول: ﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ [النساء: 123]؛ لأن للإسلام صوىً ومنارًا كمنار الطريق، يعرف به صاحبه. فأحكامه وأركانه وفرائضه وفضائله معروفة مشهورة، ولن تتوفر لأي نظام أو أي نحلة غيره متى أحسن الناس فهمه وتطبيقه وإتباعه.
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغوا السلامة من غناءِ
إذا انصرفت شعوبُ الأرض عنه
فبَشِّرْ كلَّ شعبٍ بالشقاءِ
حكمة محنة الابتلاء بالفقر والغنى
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عَظُمتْ
ويبتلي الله بعضَ القومِ بالنِّعمِ
وفي الحديث: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»[98].
ما كل ما فوق البسيطة كافيًا
فإذا قنعتَ فكل شيء كافي
يقول الله تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَٰغِبُونَ ٥٩﴾ [التوبة: 59].
أبلغ سليمان أني عنه في سعة
وفي غنى غير أني لست ذا مال
شُحّي بنفسـي أني لا أرى أحدًا
يموت هزلا ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
ومن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ فَائِتَةٍ بِخَيْرٍ»[102].
ألا قل لمن كان لي حاسدًا
أتدري على من أسأت الأدبْ
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترض لي ما وهبْ
عقيدة الاشتراكية الماركسية
وسوء عواقبها على الدين والدولة
التجارة وعموم نفعها
وحاجة الدولة والمجتمع إليها
ولن أزال على الزوراء أعمُرُها
إن الكريمَ على الإخوان ذو المالِ
ولقد رأينا الناس في قديم الزمان -مع ضعف حالهم وقلة مالهم- كانوا يتنافسون ويتساعدون على الأعمال الخيرية، من بناء المساجد والمدارس العلمية، وإعانة المرضى والمضطرين، وكفالة اليتامى، كل منهم على حسب قدرته، وعلى قدر رغبته في البذل ومقدرته؛ لكون الرجل كثيرًا بإخوانه، قويًّا بأعوانه، وعادم المال لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.
لا تثمروا المال للأعداء إنهمو
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جُدعا
ثم ليعلم أن التجارة الممدوحة هي التجارة المحفوفة بالبر والتقوى، والصدق والوفاء، والموصوف أهلها بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لكون البر والخير هو همة المسلم التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب المال، وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء، كإبراهيم ويوسف وسليمان -عليهم السلام- وقد وصف الله صحابة نبيه بأن منهم ﴿وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [المزمل: 20]، والذين يبتغون من فضل الله هم الذين يسعون في الكسب وتوسعة التجارة، وقد سمّاه الله فضلاً، كما قال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾ [الجمعة: 10]؛ أي بيعوا واشتروا وابنوا واغرسوا وسافروا لطلب الكسب في البر والبحر.
المسلم الحق يصلي فرضهُ
ويأخذ الفأس ويسقي أرضهُ
يجمع بين الشغل والعبادهْ
ليكفل الله له السعادهْ
وقد أجمع العلماء على وجوب تعلم كل ما يحتاج إليه الناس بداعي الضرورة من الصنائع والغرس والزرع، وأنهم إن تركوا تعلم ذلك أثموا.الاحتكار والتسعير
تولي الحكومة لاستيراد الأشياء الضرورية
أرى المال مثل الماء يخبُثُ راكدًا
ويُزْكيه الاستعمال والأخذُ والردُّ
مقارنة بين عمل ملوك الدول العربية
المنتجة للبترول وعمل زعماء الاشتراكيين
أولئك أقوامي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
ولسنا نقول بعصمة حكام المسلمين عن الخطأ والآثام، ولا أنهم عمّوا الناس بالغنى العام، فإنه لن يغني الناس سوى رب الناس، ورضا جميع الناس غاية لا تدرك، فنحن نشكر لهم فعل الجميل، من صغير وكبير، ولا نلومهم على التقصير؛ لأننا من المنصفين الذين يغتفرون قليل خطأ أصحابهم في جنب كثير من صوابهم.
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ
من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا وفّوا وإن عقدوا شدوا
شكر نعمة الغنى بالمال
ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاسَ بالرجلِ
فأمر الله عباده بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، أي من الحلال النافع حَسن العاقبة، ولا يطغوا فيه والطغيان هو مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان، وذلك بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، فيحملهم الغنى بالمال على الوقوع في الطغيان، وصدق الله العظيم ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨﴾ [العلق: 6-8].
فتىً لا يعدُّ المال ربًّا ولا يُرى
له جفوةٌ إن نال مالا ولا كِبرُ
إنه ما بخل أحد بالزكاة الواجبة، إلا عاجلته الحسرة والندامة قبل خروجه من الدنيا، فيندم حيث لا ينفعه الندم، ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤﴾ [الفجر: 24].
خُلقوا وما خُلقوا لمَكرمُةٍ
فكأنهم خُلقوا وما خُلقوا
رُزقوا وما رُزقوا سماحَ يدٍ
فكأنهم رُزقوا وما رُزقوا
فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم.دين الإسلام ليس بدين رأسمالي ولا بدين اشتراكي
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغَوا السلامة من غناءِ
إذا انصـرفت شعوبُ الأرض عنه
فبَشـِّر كلَّ شعب بالشقاءِ
إن الله سبحانه قص علينا في كتابه خبر من أنعم عليه بالغنى فشكر قائلا: ﴿قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ﴾ [النمل: 40]، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، قائلا: هذا مالي أُوتيته على علم عندي، أي على معرفة وحذق بجمعه وكسبه حتى كثر ووفر.
قضـى الله أن البغي يصـرعُ أهلَهُ
وأن على الباغي تدورُ الدوائرُ
يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ [يونس:23]؛ يعني أن بغي الباغي تعود سوء عاقبته عليه في الدنيا قبل الآخرة، بمعنى أنها تعاجله العقوبة، ويسلط عليه من ينتقم منه عقوبة له، حتى لو بغى جبل على جبل لدُّكَّ الباغي.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكلّ نعيمٍ لا محالة زائلُ».
ثم قالوا: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ﴾ [القصص: 77] يعني أن من وسّع الله عليه بالغناء بالمال، فإن من واجبه أن يتزود من دنياه لآخرته، يعني مال الإنسان ما قدم، وفي الحديث «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟»[113]، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للورثة، والدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة من خرج منها فقيرًا من الحسنات ورد الآخرة فقيرًا وساءت مصيرًا.(5)
انحراف الشباب عن
الدين والتحاقهم بالمرتدين
سبب ضعف المسلمين الآن
من أسباب انحراف الشباب كثرة سفرهم إلى البلدان الأجنبية
وإذا المُعلّمُ لم يكن عدلا سَرَى
روُحُ العدالِة في الشباب ضئيلاَ
وناهيك بإفسادها لفطر الصغار الأغرار الذين لم يميزوا بين المنافع والمضار.كل مولود يولد على الفطرة
إدخال الشك في نفوس الشباب بدينهم هو التمهيد لتنصيرهم
عُمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد به أخلاقهم وعقائدهم.(6)
حماية الدين والوطن
من غزو أفلام الخلاعة والفتن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كل مسلم
عرض الأفلام الخليعة من أسباب خراب البلاد وفساد أخلاق العباد
الفتن التي تفسد الأخلاق أشد خطرًا على الأمة من الحروب
(7)
المسكرات والخمور
وما يترتب عليها من الأضرار والشرور
تحريم الخمر
الصفات العشر التي وصفت بها الخمر
ليس صحيحًا أن مدمن الخمر لا يستطيع تركها
..................................
فداوني بالتي كانت هي الداء
ونحن لا نسلم بصحة هذا القول ولا لهذا الاعتقاد لوقوع العمل بضده، بطريق التجربة والمشاهدة، لكون عمل النفس من صاحبها، فالإقلاع عنها والتوبة منها سهل ميسر مع قوة الإرادة وصدق العزيمة، أما رأيت الصحابة الكرام كيف تربوا على حبها وإدمان شربها في جاهليتهم من حالة صغرهم إلى كبرهم، ثم أقلعوا عنها وتابوا منها بعد الإسلام وبعدما رسخ الإيمان في قلوبهم؛ لكون الإيمان الراسخ هو أعظم وازع على أفعال الطاعات وأقوى رادع عن ارتكاب المنكرات، والصبر المحمود هو الصبر على طاعة الله والصبر عما حرم الله.
لن ترجع الأنفس عن غيّها
ما لم يكن منها لها زاجرُ
وقد شرع الله الصيام لمغالبة النفس والشهوة والهوى، فيصبر عما حرم الله عليه من كل ما يشتهيه من الطعام والشراب والوقاع والخمر والدخان، حتى لو ضرب المسلم على أن يستبيح الفطر في نهار رمضان، لما استباح الفطر أبدًا، لكون المؤمن يلجم نفسه بلجام التقوى ويكفها من مراتع الغيِّ والردى حتى تتعود الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله، والنفس من صاحبها، فإن أطمعها في فنون المشتهيات وأرخى لها العنان في تناول المطاعم والمشارب المحرمات طمعت واشتهت، وإن ألجمها بلجام التقوى وكبحها عن مشارب الغي والردى سلت وسمحت وانقادت.
وما النفسُ إلا حيث يجعلُها الفتى
فإن أُطمعت تاقت وإلا تسلَّتِ
و ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠﴾ [الشمس: 9-10].
والعقل في معنى العقال ولفظِهِ
فالخيرُ يعقل والسّفاه يحلّهُ
يعني أن العقل يعقل صاحبه على فعل الخير واجتناب الشر، وأن السفاه هو الذي يحل هذا العقال ويجعله يتخبط في فنون الضلال والخبال من أنواع الشرور وشرب الخمور، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔا﴾ [المائدة: 41].
قبحًا لهاتيك العقول فإنها
عِقالٌ على أصحابِها وعقابُ
شرب الدخان أيضًا من الأمور المحرمة
مُفتّر الجسم لا نفعٌ به أبدًا
بل يورثُ الفقرَ والأسقامَ في البدنِ
تبًّا لشاربه كيف المقامُ على
ما ريحُه شبه السّـرجينِ من عطنِ
ولا يغرنْك من في الناس يشـربُه
الناس في غفلةٍ عن واضحِ السننِ
يقضـي على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
جاء في كتاب الصحة والحياة لمؤلفه الطبيب أ. س. سلمون: إن الناس في مختلف الأقطار مستعبدون لعادتين وخيمتين شديدتي التنكيل بالجهاز التنفسي وهما: تدخين التبغ وتعاطي المشروبات الروحية والمواد المسكرة، ودخان التبغ يؤذي كل عضو من أعضاء الجهاز التنفسي، فهو يحدث التهابًا في الأغشية المخاطية والخاصة بالأنف والحلق والقصبة الهوائية ويسبب السعال ويفتك بغشاء الرئتين فتكًا ذريعًا، بحيث يعرّضها للتدرن وما إليه من الأمراض الفتاكة التي يصعب دفع غوائلها، ويعرّف الأطباء الناس الذين يتعاطون الكحول ويشربون الدخان (التبغ) أنهم معرّضون بسهولة للالتهاب الرئوي وأمراض التدرن، وأن الفرص لشفائهم من هذه الأمراض حين يصابون بها صعبة جدًّا، وهذا دليل ساطع وبرهان قاطع على الضرر البليغ الذي يسببه الكحول والتبغ، وليت مضار الكحول والتبغ تقف عند حد الرئتين، بل إنها تتعداهما إلى جميع أجزاء الجسم.
والنفس كالطفل إن تتركه شبَّ على
حبِّ الرضاعِ وإن تفطمه ينفطمِ
المعيار الشرعي الذي توزن وتميز به الخمر المحرمة
لا عبرة بالأسماء في تحريم الخمر
ونشـربها وتتركنا ملوكًا
وأُسْدًا لا يُنهْنهُها اللقاءُ
فيندفع إلى تحقيق هذه الخيالات الخمرية، فيغضب ويضرب ويسوء خلقه على أهله وعياله وعلى الناس، ثم يخيم الخوف والوحشة على أهل بيته، بحيث يخافون سطوته، لأنه قد أزال عن نفسه نعمة العقل التي شرفه الله بها وألحق نفسه بالمجانين، وكيف يرضى بجنون من عقل، فإن كان في حالة السكر يقود سيارة من حديد، فإنه ينجم عنه الضر والبأس الشديد، ولأجله اشتد غضب رسول الله ﷺ على الخمر، فقال: «لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، سَاقِيَهَا، وَشَارِبَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُشْتَرِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ»[134] كل هؤلاء واقعون في اللعنة. وقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الخَمْرُ»[135].
سكرانِ سكرُ هوىً وسكرُ مُدامةٍ
فمتى إفاقةُ من به سكرانِ
وإلا فإن ضررها يتناول الروح والجسد والمال والولد والعرض والشرف، فكم أزالت من نعمة وكم جلبت من نقمة، وكم خربت من دار، وكم أذهبت من عقار، وكم أفقرت من تجار، وكم نقلت العقل الصحيح من حالة العدل وحسن التدبير وكمال التفكير إلى حالة الجهل والخبال والفساد الكبير.حد شارب الخمر
ألا إنَّ شربَ الخمرِ ذنبٌ معظمٌ
يُزيل صفاتِ الآدمي المسددِ
ويُلحَق بالأنعام بل هو دونُها
يخلّط في أفعاله غير مهتدِ
يُزيل الحيا عنه ويَذهب بالغنى
ويُوقَع في الفحشا وقتل التعمدِ
فكل صفات الذم فيها تجمعتْ
لذا سميت أم الفجور فأسندِ
إن بعض الشباب الطائشين وبعض التجار المترفين قد صرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم إلى تقليد النصارى في جميع أعمالهم وعاداتهم، حتى في سفاسف أخلاقهم، يظنون من رأيهم القصير وعزمهم الحقير أن الحضارة والمدنية والرقي والتقدم هو في التوسع في فنون الترف والفجور ومعاقرة الخمور ومجاراة النصارى في الخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق ومن الغباوة إطباق وغرهم بالله الغرور، تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة وسقطوا في هوة المذلة ورضوا بأخلاق المذمة التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم ولم ينتهوا عما حرم عليهم، فإنهم يصيرون مثالا للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، فانتبهوا من غفلتكم وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.(8)
رسالة إلى الحكام بشأن
الطلاب المبتعثين للخارج
واجب الحكام في حفظ أخلاق الشباب
التعليم في الخارج محفوف بالأخطار
وربما كان مكروه النفوس إلى
محبوبها سببًا ما مثلُه سببُ
الحاكم بمثابة العقل المفكر والرأي المدبر لشؤون رعيته
فإن المُرَّ حين يَسُـرُّ حُلْوٌ
وإن الحُلْوَ حين يَضُـرُّ مُرُّ
وإننا متى قابلنا بين المتخرجين في بلدان أوربا وبين المتخرجين في الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية بالبلدان الإسلامية، فإننا نجد بينهما فرقًا واسعًا وبونًا شاسعًا في التفاوت في العلوم والفنون وفي العقائد والأخلاق؛ إذ المتخرج في بلدان أوربا ليس معه سوى اللغة الإنجليزية، وما خسره من نسيان العلوم الشرعية أكثر مما استفاده، ولن تسمع عن أحد من المتخرجين بها شيئًا من النبوغ في شيء من العلوم التي تنفع الناس أبدًا؛ لكون عادم العلم لا يعطيه، ولأن علماء أوربا الذين تخرج الطلاب من أبناء المسلمين عندهم جهلاء بكل العلوم النافعة، مما يتعلق بالشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، وحتى علم البلاغة والبيان، فهم يزيدون الطالب جهلاً على جهله.الخطر والضرر الذي يتعرض له المبتعث من الفتن وهو صغير السن
سفر البنات الطالبات إلى الخارج أشد ضررًا
ومن يُثني الأصاغرَ عن مرادٍ
إذا جلسَ الأكابرُ في الزوايا
إنه لا ينبغي لنا أن نحسن الظن بها والحالة هذه، بل يجب أن نحسن العمل برعاية حمايتهن عن مراتع الفتن فإن من وقع في الشبهات وقع في الحرام.
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظنّ شرًّا وكن منها على حذرِ
وكذا يقال في الأئمة الذين جعلهم الله رعاة على عباده أنه يجب عليهم أن يغرسوا في نفوس رعاياهم التخلق بمحبة الفرائض والفضائل، وحمايتهم عن منكرات الأخلاق والرذائل باستعمال الأسباب والوسائل، فإن الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع. أولم يكن الأوفق والأليق لهذه البنت ولأهلها أن تتعلم مبادىء العلوم والشريعة عند أهلها وفي مدارس بلدها لتستعين بالبيئة والمجتمع على تهذيبها وصيانتها وحسن تربيتها وحسن الظن بها؟ وحتى تكون في بيت أهلها وزوجها صالحة مصلحة تعاملهم وتعاشرهم بالحفاء والوفاء بدون نفرة ولا جفاء، وحتى تكون مثلاً صالحًا لأخواتها وأهل بيتها، وكاليد الكريمة لزوجها في إدارة شؤون بيتها وعيالها فتعيش سيدة بيت وسعيدة عشيرة ولا يوفق لهذا إلا خيار النساء عقلاً وأدبًا ودينًا.(9)
رسالة إلى المسؤولين عن التعليم
بشأن الإخلاص في العمل
لا ترجع الأنفس عن غيّها
ما لم يكن منها لها زاجر
ولهذا يقال: إن كل متدين متمدن، فإذا أردت أن تعرف فضل الدين وعموم نفعه وحصول الوقاية عن الشر بالتخلق به، ثم تعرف خسارة فقده والتخلق بضده، فانظر إلى البلدان التي قُوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلُها فرائضَ الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بالكفر والفسوق والعصيان، ثم انظر كيف حالهم، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض وأكثرهم فاسقون.
إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ
فلا أدبٌ يُفيد ولا أديبُ
فالعلم بأحكام شرائع الدين ثم تطبيق العمل بها هو مما يكسب حصول العلم والتوفيق فيه، وخاصة المحافظة على الصلاة جماعة في المدرسة متى دخل وقت الفريضة وهم في دوام الدراسة، فقام الطلاب والأساتذة والفراشون فأذَّنوا بالصلاة ثم أقاموها، وتقدم بهم أمراؤهم فصلوها جماعة، فإن المحافظة على الصلاة هي من أكبر ما يُستعان به على تهذيب أخلاق البنين والبنات؛ لأنه لا إسلام ولا دين إلا بالعمل، فالعمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام هو الذي يحقق الإسلام ويصدقه، كما روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». معنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، ويميل بمحبته وموالاته ونصرته إلى أهل الدين، فيظهر بذلك إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.
وإذا حَلّتِ الهدايةُ قلبًا
نشطت في مُرادها الأجسامُ
﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا﴾؛العبادات الشرعية وما تُكسبه من الأخلاق المرضية
عُمي القلوبِ عروا عن كلٍّ فائدةٍ
لأنهم كفروا باللهِ تقليدا
الصلاة هي آكد العبادات
الصلاة جماعة
والعقل في معنى العقالِ ولفظه
فالخيرُ يعقل والسّفاه يحلّهُ
فعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، ثُمَّ لَمْ يَأْتِ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ». رواه ابن حبان والحاكم وإسناده على شرط مسلم لكن رجح بعضهم وقفه، وروى الإمام أحمد عن معاذ عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ الْجَفَاءَ، وَالْكُفْرَ، وَالنِّفَاقَ، فِيمَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللهِ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَلَا يُجِيبُهُ»، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. وقد همَّ رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة؛ واستأذنه ابن أم مكتوم وهو أعمى وبينه وبين المسجد نخل وواد على أن يصلي في بيته، فقال له: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟». قال: نعم. قال: «فَأَجِبْ»، كما ثبت في الصحيحين، فلم يسمح له بالتخلف عن الجماعة.
في كل فرض تجب الجماعهْ
وقال باشتراطها جماعهْ
إن الصلاة مع الجماعة يترتب عليها حكم عديدة، ومصالح مفيدة، أهمها الخروج من عهدة من قال بوجوبها، كما أنه الراجح بالأدلة الواضحة. ومنها حصول الفضل المترتب على فعلها مع الجماعة. ومنها تنشيط الأجسام والقلوب على الاجتماع لها حيث إن بعض الناس ينشّط البعض على فعلها، وملاقاة الرجال فيه تقوية لأجسامهم وتلقيح لأفهامهم. ومنها التمرن على استمرار فعلها مع الجماعة حتى تكون محبتها ملكة راسخة في قلب أحدهم تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، حتى تكون في نفسه لذة وسرورًا، ومتى فاتته هذه الفريضة مع الجماعة علم أنه قد خسر شيئًا كبيرًا من الفضيلة والأجر. ومنها أن التهاون في فعلها مع الجماعة مدعاة إلى التهاون بها ثم إلى تركها. ومنها حصول الفضل المترتب على التخطي إليها حيث يكتب له بكل خطوة حسنة ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة. ومنها حصول التعارف والتآلف بين المسلمين المصلين بحيث يلقى الرجل أخاه في صلاة الجماعة كل يوم خمس مرات فينجذب قلبه لمحبته والعطف عليه، فيسلم عليه إذا لقيه، ويسأل عنه إذا افتقده، ويعوده في مرضه، وقد قيل: إن الحكمة في مشروعية صلاة الجماعة هو حصول التعارف والتآلف بين المسلمين المصلين وإزالة الإِحن والشحناء عنهم؛ لأن التقارب بالأبدان مدعاة إلى التقارب بين القلوب، والتباعد بالأبدان مدعاة إلى التنافر بين القلوب، على حد ما قيل:
وإن تدنُ مني تدنُ منك مودتي
وإن تنأَ عني تلفني عنك نائيا
ولأجله قال ﷺ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُصْبِحُ»، ولأن هذين الوقتين هما أثقل صلاة على المنافقين، وقال: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ» رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان.
يشقى رجالٌ ويشقى آخرون بهمْ
ويُسعد الله أقوامًا بأقوامِ
صلاة الجماعة في المعاهد والجامعات ومدارس البنين والبنات
تمهيد الموضع المعدّ لصلاة الجماعة في المدرسة
(10)
القول السَّديد في بيان بطلان
محاضرة عبد الحميد
إذا تم شيءٌ بدا نقصُه
توقعْ زوالاً إذا قيل تمّْ
ثم إن هذا الأفاك الأثيم يرى أن كافة العلماء ومنهم الصحابة أنهم ليسوا على شيء، وكذا الفقهاء، فهو لم يبق بسلاطة لسانه أحدًا من العلماء سالمًا.
يمدون للإفتاء باعًا قصيرة
وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذْلِكُ
ثم إنه استقر أمره على قول منكر وزور؛ وهو أنه يوجب على المسلمين كافة أن يخرجوا نساءهم وبناتهم إلى المجتمعات والشركات وسائر أمور الحياة، ففيه المخالفة لما يأمر الله به، فإن الله سبحانه يقول: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ﴾ [الأحزاب: 33]، وقد اختصم علي وفاطمة عند رسول الله ﷺ فيما تزاوله فاطمة من أعمال البيت الذي شق عليها مزاولته، فحكم رسول الله على أن عليًّا عليه جلب ما تحتاج من خارج البيت، وعلى فاطمة خدمة داخل البيت من مهنة عملها وشأن عيالها ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا﴾ [الأنعام: 115]، فهذا هو محض العدل والإنصاف الذي يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع.
إذا بارك الله في ملبس
فلا باركَ اللهُ في البرقعِ
يُريك عيون المها مسبلاً
ويكشف عن منظر أشنعِ
لأن عندهم أن المرأة الجميلة بلبس البرقع والنقاب تكون غير جميلة إذا خلعته، ولهذا يقولون في المثل: كل بطالة بطالة يعنون به: أن كل امرأة جميلة بلبس النقاب أو البطولة تكون غير جميلة إذا كشفته، وقالت عائشة أم المؤمنين: كنا في سفر الحج مع رسول الله ﷺ نكشف وجوهنا في الخلاء، فإذا مر بنا أحد من الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها.
إن الرجال الناظرين إلى النسا
مثلُ السباعِ تطوفُ باللحمانِ
إن لم تَصُن تلك اللحومَ أسودُها
أُكِلَت بلا عوضٍ ولا أثمانِ
فهذا هو ما يبغيه هذا المحاضر من نسائنا، وإن أراد فتنة أبينا.. أبينا، إن هذا الرجل الأفاك قد بالغ بجد وجهد إلى أن تخرج النساء الخفرات التقيات إلى الشوارع والأسواق، والمشاركة في العمل في الشركات حتى يكنَّ بمثابة قطعان من البقر، تكشف المرأة يديها إلى المرفق ورجليها إلى نصف الساق، وتمشي وهي متعطرة بالطيب وحاسرة الرأس وعليها الأصباغ والزينة من الحلي، وهذا هو غاية ما يتمنى هذا الكاتب ويدعو إليه بنات المسلمين، وهو غاية في السفه والفساد.
وكنت إذا ما زرتُ ليلى تبرقعتْ
وقد رَابَني منها الغداةَ سفورُها
وذلك أنها لم تسفر بوجهها إلا في حالة غضبها عليه حين زارها والناس حاضرون ينظرون إليه، فأرادت إبعاده عنها، وقد عَرَفَ ذلك، وأنها إنما كشفت وجهها في حالة غضبها عليه.