1759

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الرابعة
1441هـ - 2020م



المجلد الثاني
العبادات - الأحوال الشخصية

أولاً: قسم العبادات

(1) أحكام منسك حج بيت الله الحرام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام. اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الكرام.

أما بعد:

فإن الله سبحانه جعل الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها، هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

فلما مضى شهر الصيام أقبل شهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه. فكذلك من حج البيت فلم يرفث، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

وهذا التكفير إنما يقع في صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما الكبائر مثل: القتل، والربا، والزنا، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس، فهذه لا يكفرها الحج، ولا الصلاة، ولا الصيام، وإنما تكفر بالتوبة، ورد المظالم.

ثم إن الله سبحانه قد بنى دين الإسلام على خمسة أركان؛ الخامس منها: حج بيت الله الحرام. وخطب النبي ﷺ فقال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ». فقام الأقرع ابن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ. الْحَجُّ مَرَّةً، وَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» رواه الخمسة إلا الترمذي. وأصله في مسلم. يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ [الحج: 27-28] وهذه المنافع التي يشهدها الحاج، شاملة لمنافع الدنيا، ومنافع الآخرة.

فمن منافع الدنيا: أن يلقى المسلمون بعضهم بعضًا في بلد مَن دخله كان آمنا. فيتعارفون ويتعاشرون ويتواصلون ويتناصحون، فيفكرون في علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم وإزالة الإحن والشحناء من بينهم. كما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر أمراء الأمصار وسائر العمال بأن يلقوه في موسم الحج، فيسأل كل واحد عما تولاه من شؤون دولته، وما تحتاجه من الإصلاح والتعديل.

وأما منافع الآخرة: فبما يحصل لهم من المغفرة لمن أخلص نيته، وأصلح عمله، ففي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ، إِنْ سَأَلُوهُ أَعْطَاهُم، وَإِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنْ أَنْفَقُوْا أَخْلَفَ اللهُ عَلَيْهِمْ» رواه النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٧ [آل عمران: 97] وعن أنس قال: قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». رواه الدارقطني وصححه الحاكم، والراجح إرساله. وشرط الفقهاء الأمن على نفسه من خوف الهلاك.

الحج: هو من الشرائع القديمة

والحج هو من الشرائع القديمة. فكان الأنبياء وأُممهم المطيعون لهم يحجون البيت الحرام، كما في الحديث: أن النبي ﷺ مرّ بوادي عسفان، فقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا الْوَادِي هُودٌ، وَصَالِحٌ، عَلَى بَكَرَاتٍ خِطْمُهُمَا اللِّيفُ، يَحُجُّونَ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»[1].وقال: «لَقَدْ مَرَّ بَالرَّوْحَاءِ سَبْعُونَ نَبِيًّا فِيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»[2] وكانت قريش تحجه قبل الإسلام، غير أنهم أدخلوا فيه عبادة الأصنام؛ لأن هذا البيت هو أول بيت أُسس في الأرض لعبادة الله عز وجل وللصلاة فيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩٧ [آل عمران: 96-97].

وفي صحيح البخاري عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن أول بيت وضع في الأرض؟ قال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قلت: ثم بعد هذا؟ قال: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى». قلت: كم بينهما؟ قال: «أَرْبَعُوْنَ عَامًا».

[1] رواه أحمد والبيهقي من حديث ابن عباس. [2] رواه أبو يعلى والطبراني من حديث أنس.

فتح مكة

فتح النبي ﷺ مكة عام ثمانية من الهجرة. وفي السنة التاسعة أمر النبي ﷺ أبا بكر بأن يحج بالناس، وكان عدم مبادرته إلى الحج في هذه السنة؛ أن أعمالاً منكرة يعملونها في الطواف؛ وذلك أنهم يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف بها، وأنزل الله: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ [الأعراف: 28] ولهذا أرسل النبي ﷺ عليًّا بأن ينادي في الناس بسورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد؛ فأجله إلى مدته: ﴿أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ [التوبة: 3].

وروى مسلم في صحيحه عن جابر: مكث النبي ﷺ تسع سنين لم يحج. وفي السنة العاشرة أذن في الناس: أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويحج معه، ويعمل مثل عمله. قال جابر: فخرج رسول الله ﷺ حتى أتى ذا الحليفة - وهي ميقات أهل المدينة - فنزل بها رسول الله ﷺ وبات بها تلك الليلة، فولدت أسماء بنت عميس - زوجة أبي بكر - محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله ﷺ قالت: كيف أصنع؟ فقال لها رسول الله ﷺ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي[3] بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» فدل هذا الحديث على أن الحائض والنفساء تغتسل للإحرام وتحرم، كما يحرم سائر الناس، وإحرامها صحيح. قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة.

ثم إن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل وتطيّب، قالت عائشة رضي الله عنها: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمه حين أحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت[4].

فطيب الرجال: ما ظهر ريحه وخفي لونه كدهن الورد. وطيب النساء: ما ظهر لونه وخفي ريحه.

[3] الاستثفار: أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملويًّا ثم يخرجه. واستثفرت الحائض: أي اتخذت خرقة عريضة بين فخذيها تشدها في حزامها. [4] متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

صفة الإحرام بالحج

ثم إن رسول الله ﷺ تجرّد لإحرامه واغتسل، فأحرم في إزار ورداء، وصلى ركعتين بعد إحرامه. والإحرام: هو نيّة الدخول في نسك الحج والعمرة متمتعًا، ولا يلزمه التلفظ بالنيّة، بل لو أحرم كما يحرم الناس صح، ويصير متمتعًا، ولو لم يتلفظ بنية الحج، وهذا هو الظاهر من فعل الصحابة. وإن شاء جعل إحرامه مفردًا، أو إذا طاف طواف القدوم وسعى للحج بقي على إحرامه حتى يرجع من عرفة، وهذا اختيار بعض الصحابة كعمر وعثمان، وبه يسقط عن الحاج مفردًا دم النسك.

قال جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ ناقته القصواء، فلما استوت به على البيداء نظرت إلى مد بصري من بين راكب، وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله ﷺ بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن. فما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». وأهلَّ الناس بالذي يهلون به، ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.

ومعنى: لبيك، أي ملازمًا لطاعتك، مجيبًا لدعوتك، وهي من ألطف التحيات التي يستجيب بها المدعو لمن دعاه، فإنك إذا دعوت شخصًا فأجابك بقوله: لبيك، فإن محبته تتغلغل في قلبك.

وأصل التلبية: أن الله سبحانه لمّا أمر نبيه إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، فامتثل أمر ربه طائعًا، وساعده ابنه إسماعيل مسارعًا، فلما فرغا من بنائه أمره بأن ينادي في الناس بالحج، فقال: يا رب صوتي ضعيف، فمن ذا الذي يجيبني؟ قال الله: عليك الصوت، وعلينا البلاغ. فصعد جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس، إن الله قد بنى لكم بيتًا فحجوا. فالحاج في تلبيته يجيب نداء ربه لما دعاه إلى بيته، ويقول: لبيك اللهم لبيك.

فسار رسول الله ﷺ في طريقه حتى لقي ركبًا بالروحاء، فقال: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» فرفعت امرأة إليه صبيًّا، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»[5] فدل هذا الحديث: على استحباب إحرام الصبي للحج، بحيث يحرم عنه وليه، ويطوف به ويسعى به ويرمي عنه ويفدي له، إن كان إحرامه بالتمتع، وأن إحرامه له هو من باب الاستحباب لا الوجوب، وإنما شرع للتمرين على العبادة، لكن هذا الحج لا يجزيه عن حجة الإسلام.

ثم سار النبي ﷺ في طريقه فجاءت امرأة من خثعم، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»[6]. فدل هذا الحديث على جواز حج المرأة عن الرجل، وأن المرأة يجوز لها أن تحج عن أبيها وعن أُمها، كما يجوز للرجل أن يحج عن أبيه وعن أمه، إذا حج عن نفسه.

وسألته امرأة فقالت: يا رسول الله إن أُمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»[7]. فدل هذا الحديث على أن من نذر فعل طاعة من الطاعات، كمن نذر أن يحج، أو نذر أن يصوم عشرة أيام، أو أن يتصدق بكذا وكذا، فإن هذا النذر نذر طاعة، قد أوجبه على نفسه فلزمه الوفاء به. فقد مدح الله في كتابه الذين يوفون بالنذر، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ»[8] والنذر على الإطلاق مكروه وليس بمحبوب؛ لأن الناذر يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»[9] لكنه متى ألزم نفسه بنذر الطاعة من الحج أو الصيام أو الصدقة؛ وجب عليه الوفاء به، فإن مات قبل وفائه قضاه عنه وليه؛ لما في الصحيحين عن عائشة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، فهو الذي يقضى عن الميت؛ لأنه بمثابة الدين للناس الذي يتعين المبادرة بقضائه.

[5] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [6] رواه مسلم عن عبد الله بن عباس. [7] رواه البخاري عن ابن عباس. [8] رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة. [9] متفق عليه من حديث ابن عمر بلفظ: «إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُ».

حكم الحج عن الغير

الحج عن الغير: ثبت فيه أحاديث تدل على جواز حج الأولاد عن آبائهم. فمنها:

في الصحيحين، عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ» متفق عليه.

ولهما: من حديث سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم. تصدق عن أُمك».

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن أبي أوصى أن يعتق عنه بمائة رقبة، وإن هشامًا أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون. أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتَ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ وَنَفَعَهُ» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.

وعن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ». رواه البخاري.

ولمسلم وأبي داود والترمذي عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند النبي ﷺ فجاءت امرأة، فقالت: يا رسول الله. إني تصدقت على أُمي بجارية، وإن أمي ماتت. فقال: «وَجَبَ أَجْرُكِ عَلَى اللَّهِ، وَرُدَّهَا إِلَيْكِ الْمِيرَاثُ» قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ فقال: «نَعَمْ، صُومِي عَنْهَا». قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا».

وفي البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».

فهذه النصوص هي التي استمد منها الفقهاء جواز إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى، وكلها وقعت سؤالاً من الأولاد عن واجبات آبائهم الواجبة بالشرع وبالنذر، فأفتاهم رسول الله ﷺ بجواز قضائها. وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه غيرها، لكون الولد بضعة من أبيه، كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»[10] ولهذا تجعل أفراط المؤمن في كفة ميزانه. وفي الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[11].

وقد رجح بعض العلماء جواز قضاء الأبناء والبنات لواجبات آبائهم. قال ابن عبد القوي:
ويشرع أن يُقضـَى عن الميْت نذرُه
كحجٍّ وصومٍ واعتكافٍ بمسجدِ
ونذرُ صلاةِ النفل يُقضـَى بأوكد
ولو قيل يقضـَى فرضُه لمُبعدِ
ومحل قضاء واجبات الميت متى أفطر في رمضان في مرضه، ثم عوفي في وقت يتمكن فيه من قضاء ما عليه، فتوفي قبل أن يقضي، فهذا الذي يُقضى عنه صومه أو يُكفَّرُ عنه عن كل يوم مسكين. أما إذا توفي في مرضه، وقد أفطر شيئًا من رمضان، فإنه لا يجب في حقه الصيام ولا الإطعام، لكونه معذورًا بالمرض - قاله في المغني - سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو بالنذر، لعموم النصوص الواردة في هذا الخصوص. أما غير الولد، فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابها إلى الميت. ولكن يعارضه حديث ابن عباس: أن النبي ﷺ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. فقال: «مَنْ شُبْرُمَةُ؟» قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: «أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قال: لا. قال: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رواه أبو داود وابن ماجه.

قال ابن حجر في بلوغ المرام: الراجح عند أحمد وقفه. فسقط الاحتجاج به. وقد اختلف الأئمة فيمن مات قبل أن يحج حجة الإسلام:

فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الحج عنه لأنها عبادة بدنية لا يجوز الاستنابة فيها، كالصلاة والصيام - وكذا قال الإمام مالك - وأنه يسقط عنه الحج فلا يحج عنه، إلا إذا أوصى به، أخرج من ثلثه.

وقال الشافعية: يحج عنه، ولو من الميقات.

وقال فقهاء الحنابلة: إذا مات قبل أن يحج وجب أن يخرج من ماله ما يحج به عنه من بلده. وهذه من مفردات المذهب. قال ناظمها:
ويلزمُ الورّاث أن يحجوا
من أصل مال الميت عنه يخرجوا
هذا وإن لم تك في الوصيه
حتى ولا تجزئ ميقاتيه
قال العلامة ابن القيم في الإعلام على قوله ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[12]. قال: فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، فقالت: يصام عنه الفرض والنذر. وأبت طائفة ذلك وقالت: لا يصام عنه الفرض ولا النذر. وفصلت طائفة، فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي. وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه، وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يُسلم أحد عن أحد؛ فكذلك الصيام، لا يصوم أحد عن أحد، ولا يحج أحد عن أحد.

وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدَّيْن، فيقبل قضاء الولي له، كما يقضي دينه، وَطرْدُ هذا أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان معذورًا، وبدون العذر لا يجوز الإطعام، ولا الصيام. فأما المفطر من غير عذر أصلاً، فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبة أحد عن أحد، ولا صلاة أحد عن أحد، ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلته، وأسفر صبحه، فذاك هو شرع الله ودينه، والسبيل الموصل إلى رضاه، والفوز بجنته[13].

فمتى علمنا بهذا، تبين لنا بطريق الوضوح أن ما يفعله الناس من التوسع في الاستنابة في الحج، بحيث يدفعون دراهم إلى النائب ليحج عن الميت، فهذا لا يصح، ولا يصل إلى الميت ثواب هذا العمل، كما أنه لا حج ولا أجر للنائب؛ لكونه يبيع عملاً صالحًا بدراهم، ويدخل في عموم قوله: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.

[10] متفق عليه من حديث المسور بن مخرمة. [11] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. [12] متفق عليه من حديث عائشة. [13] المجلد الثالث من تهذيب السنن ص279.

الحجاج القادمون من جهة البحر على الطائرات إلى جدة - هل يصح إحرامهم بالحج من جدة أو لا بد أن يكون قبلها؟

لقد طلب مني أحد العلماء الأجلاء أن أُدلي بدلوي في استنباط طريق الفقه الشرعي في جواز الإحرام بالحج من جدة أو عدمه.

لهذا وجب عليَّ أن أُبين للناس ما ظهر لي في حكمه حسب ما وصل إليه علمي، وقد يخفى علي ما عسى أن يظهر لغيري، إذ الحق فوق قول كل أحد، وفوق كل ذي علم عليم.

وإنه مما لا خلاف فيه ولا خفاء ما ثبت في البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة - وتسمى الآن آبار علي - وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة».

وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُتِح هذان المصران (العراق ومصر) أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله ﷺ حدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحدَّ لهم (أهل العراق) ذات عرق.

وهذه المواقيت المكانية تعد من معجزات النبوة، حيث وقَّتها رسول الله ﷺ لهذه البلدان قبل إسلام أهلها، كما أشار إليه الناظم بقوله:
وتعيينُها من معجزات نبيِّنا
لِتعيينه من قبل فتح المعدد
لكون النبي ﷺ لم يفتح في زمنه سوى مكة والطائف، والذي حج مع النبي ﷺ هم أهل المدينة، وعرب الحجاز ومن يليهم من أهل نجد، وبعض من أسلم من أهل اليمن، فكانوا قليلين بالنسبة إلى الحجاج في هذه السنين.

وهذا التحديد بهذه الصفة، وقع حيث كان حج الناس على الدواب من الإبل والخيل والحمير، ويمرون بهذه الطرق، وهي المواقيت المكانية لسائر أهلها، ولمن مرّ عليها إلى يوم القيامة.

وقد انتشر الإسلام، وامتد سلطان المسلمين على كثير من البلدان التي لم يقع لها ذكر في التحديد كمصر والسودان والمغرب وسائر أفريقيا، وبلدان الترك والهند، وكثير من المسلمين الذين يسكنون في بلدان النصارى، وفي الصين واليابان وروسيا، فحيث إنهم في تلك الأزمنة لا يستطيعون حيلة في الوصول إلى مكة ولا يهتدون إليها سبيلاً، فلم يقع لهم ذكر في التحديد من جهة البحر سوى قوله: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ»[14] ومن المعلوم أن ركاب الطائرات لا يأتون إلى هذه المواقيت، ولا يمرون عليها.

وقد صار حج جميع أولئك على متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء مسافة الألوف من الأقدام في الارتفاع، حتى تهبط بهم على ساحل جدة بحيث لا يمرون بشيء من المواقيت.

والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم؛ ما وقع في هذا الزمان وما سيقع مستقبلاً.

وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله، ولو كان رسول اللهﷺ حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمُّون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه.

والحكمة في وضع المواقيت موضعها؛ أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال وقلم الأظفار والطيب، ثم التخلي عن المخيط ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار أو رداء، ثم تعليم العوامِّ كيفية الدخول في النسك. وهذه الأعمال تتطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي ﷺ في حجة الوداع نزل بذي الحليفة - ميقات أهل المدينة - ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيّب.

وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: إعلام الموقعين، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة، والأحوال والنيّات، والعوايد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا يطاق؛ مما يُعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وإن نسب إليها. انتهى.

وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغيير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي ﷺ في بعض الصور، من ذلك: ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قَدِمْنا على رسول الله ﷺ ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: «يَا عَمْرُو، أصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» قلت: نعم يا رسول الله. ذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئًا؛ مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل: وجوب الغسل لواجد الماء.

ومثله ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله ﷺ رويجلاً ضعيفًا في أبياتهم زنا بامرأة، قال رسول الله ﷺ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ». فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» ففعلوا.

فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله ﷺ في هذا، من حالة الشدة إلى حالة التيسير والتسهيل؛ إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده، ونظرًا لضعف حاله جعلها رسول الله ﷺ جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ.

وله نظائر كثيرة. وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تُفتَى بهذا.

وهذا هو عين الفقه، ولو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية، ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية، وإلى التساهل في أمر الدين. كما أنهم الآن يعيبون كل من أفتى بالتيسير فيما يقتضيه، متى وجد العالم إليه سبيلاً، فيرمونه بالتساهل في أمر دينه، وكونه مستخفًّا بحرمات الله وحدوده؛ لأن بعض الفقهاء المتحجرة أفهامهم يميلون إلى التشديد في أقضيتهم وأحكامهم ويقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، ويجعلونها ضيقة النطاق.

وقد قال لي أحد الفقهاء في محضر محشود بكبار العلماء، قد عقد للمناظرة في قولين بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق عند حصول هذا الحشد العظيم، حينما فتحت مشارق الأرض ومغاربها لحج بيت الله العتيق بالآلات الحديثة من السيارات والطائرات حتى ضاقت الأرض، فكان من قول هذا العالم: إن من تتبع الرخص تزندق. قاله بمسمع من جميع العلماء الحاضرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين.

وخفي على هذا العالم أن هذه كلمة كبيرة عند الله، تنادي بإبطال سنة الله التي شرعها لعباده، صدقة منه عليهم ورحمة منه بهم، إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد، ولما نزل قوله سبحانه: ﴿فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ [النساء: 101]، ولما قيل للنبي ﷺ: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمِنّا؟ قال رسول الله ﷺ: «هِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[15]. فقصر الصلاة في السفر رخصة، وفطر الصائم في السفر رخصة، وفطر المريض رخصة، والمسح على الخفين رخصة، والمسح على الجبيرة رخصة. أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقًا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. وقد سمى الله الرخصة تيسيرًا في جواز فطر المريض والمسافر والشيخ الكبير، فقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] ولما أرسل النبي ﷺ معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: «يَسِّرَا، وَلَا تُعَسِّرَا»[16]. وقال يومًا لأصحابه: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»[17]. فالتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين التي قال الله فيها: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨ [الأعلى: 8].
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكمُ ضروبُ
ولا ينبغي لنا أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدماء، ليس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقًّا لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ، الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله:
والناس أكثرهم بسجن اللفظ محـ
بوسون خوف معرّة السجّانِ
والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا
في قالب ويرده في ثانِ

[14] رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. [15] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عمر بن الخطاب. [16] متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري. [17] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.

جواز جعل جدة ميقاتًا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية

إنه متى كان أصل فرض الحج موقوفًا على الاستطاعة، وكونه يسقط بجملته عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بدون استنابة على القول الصحيح، ويسقط عمن يخاف على نفسه خوفًا محققًا، فكذلك سائر واجباته، تسقط عمن لا يستطيعها بدون استنابة، ولا فدية. ومتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن جميع الطائرات التي تحمل الحاج مكلفة حسب النظام بالنزول في مطار جدة، ولا يحيد أحد عن هذا النظام الحكومي، وقد هيأت الحكومة - حرسها الله - للحجاج في مطار جدة سائر ما يحتاجون إليه، من وسائل الراحة والرفاهية، فأعدت لهم المحلات الواسعة المنظمة بالماء للشرب، وللوضوء والاغتسال، ومواضع الراحة، والصلاة، وكذا الكهرباء والأكل، بحيث يتمكنون من فعل الإحرام براحة وسعة.

ويوجد هناك من العلماء من يرشدهم إلى تعلم الدخول في النسك، وتعلم ما ينبغي لهم فعله، وبيان ما يجب عليهم اجتنابه، والنبي ﷺ قال في المواقيت: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ»[18] ومن المعلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات، وهي محلقة في السماء، لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة، ولا عرفًا، لكون الإتيان هو الوصول إلى الشيء في محله، كقوله سبحانه: ﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَا [البقرة: 189]، فإتيان البيوت هو: الوصول إليها أو دخولها، فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة، كما أنه لن يتمكن ركاب الطائرات من الإحرام في بطن الطائرة بين السماء والأرض، لكونهم مشغولين بالاضطراب والخوف من خطر الطائرة خشية وقوع الحادث بها، ولن يزالوا في خوف حتى يصلوا إلى ساحل السلامة.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن القضية هي موضع اجتهاد، وتتطلب من العلماء والحكام تحقيق النظر في تعيين الميقات لهؤلاء القادمين على متون الطائرات لحجهم وعمرتهم، ولا أوفق ولا أرفق من جعل جدة هي الميقات، إذ هي باب الدخول إلى مكة من جهة البحر، فتكون ميقاتًا لجميع القادمين إليها على الطائرات أو البواخر والسفن ليتمكن الحاج من فعل ما يسن في الإحرام، أشبه ما فعله عمر حين وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق، ويجب على جميع الكافة طاعتهم، ومتابعتهم على هذا التوقيت، لقوله سبحانه: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ [النساء: 59]، فأولو الأمر هم: العلماء والحكام الذين تجب طاعتهم في مثل هذا، إذ هو من طاعة الله سبحانه.

وبما أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية، كونها بطرق الناس وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز، وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء، أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر ما يسن للإحرام، إذ هو مما تقتضيه الضرورة وتوجبه المصلحة ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسولﷺ.

فهذه نصيحتي للملوك والحكام وللعلماء الكرام، والله خليفتي عليهم والسلام.

[18] رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.

اجتناب محظورات الإحرام

وسئل النبي ﷺ: ماذا يلبس المحرم؟ فقال: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»[19].

إن من سنة الإحرام: أن يتجرد الإنسان عن كل ما يعتاد لبسه، فلا يلبس القميص ولا العمائم ولا القلنسوة ولا السراويلات ولا الخفاف، وهي: الزرابيل، بل يتجرد عن كل مخيط. فيحرم في إزار ورداء يشبه أكفان الموتى، بحيث يتساوى في هيئة الإحرام الشريف والوضيع، والغني والفقير، والملك والمملوك، والوزير والصعلوك، كما يتساوون في الصلاة وفي الطواف وفي سائر العبادات. ومن بطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه.

ومتى كان الإنسان يشتكي رأسه لعِلة يجدها في نفسه إذا كشف رأسه، واحتاج لستر رأسه، فإنه يجوز أن يستر رأسه، ويفدي ما يجزئ في الأضحية، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ» رواه البخاري[20]. ولا يبطل بذلك إحرامه ولا حجُّه، بل يكفيه عن حلق رأسه أو تقليم أظفاره أو لبس المخيط من القميص والسراويل أن يفديه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، وكل هذا على التخيير، وحجه صحيح.

أما المرأة: فإن إحرامها في وجهها، فلا تلبس البرقع ولا النقاب، فتزيل عن وجهها النقاب الذي يستعمله نساء الأعراب، إلا عندما يراها أحد من الرجال، فإنها تسدل الخمار على وجهها. تقول عائشة: كانت إحدانا تكشف وجهها في إحرامها، فمتى رأينا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها[21]. فإن انتقبت المحرمة - أي لبست النقاب على وجهها - وجب عليها أن تفدي عنه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، ولا يجب عليها أن تستعمل العصابة على جبهتها لتمنع بها مس الخمار لوجهها، فهذا لم يثبت فعله عن نساء الصحابة، ولو فرض أن الخمار مس وجهها من أجل هبوب الهواء أو غير ذلك، فإن هذا لا يضرها، ولا يقدح في صحة حجها.

ثم إن رسول اللهﷺ سار في طريقه حتى أتى سَرِفًا، وهو بطرف مكة مما يلي طريق جدة فنزل به.

حكم الحيض وما يجب على من ابتليت به في سفر حجها

ثم دخل على عائشة وهي تبكي، قال: «مَا يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟» - أي حضت - فأشارت إليه، أي نعم. فقال: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[22]. وفي رواية قال: «ارفضي حجك، واجعليها عمرة» - أي قولي: لبيك عمرة وحجًّا - وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ». فالحيض: خلقة وجبلة في المرأة، خلقه الله لحكمة غذاء الجنين في البطن، كما أن صفار البيضة يغذي الفرخ حتى يتم، ولهذا الحامل لا تحيض، ومتى خرج منها الدم فإنه نقص في الحمل، ويعتبر بأنه دم فاسد لا تترك له الصلاة، ولا الصيام، وهو من مكملات المرأة، لكون المرأة التي تحيض هي المستعدة للحمل.

فالمرأة التي ابتليت بخروج الحيض عند الإحرام، أو عند قرب دخولها مكة، فإنها تدخل العمرة على الحج، وتقول: لبيك عمرة وحجًّا، فتصير قارنة، ولا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، ويكفيها لحجها وعمرتها طواف واحد، وسعي واحد، ولو بعد الوقوف ورمي الجمار. لكن إذا استمر الحيض عليها، وخافت من خروج الرفقة من مكة قبل أن تطهر، وقبل أن ينقطع عنها الدم، ولا يمكنها التخلف عنهم، فقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، مثل هذه المرأة: بأن تغتسل،وتستثفر، ثم تطوف وتسعى، وتفعل بقية حجها، ويكفيها ذلك، ويعتبر حجها صحيحًا؛ لأنها حالة ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286]، ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ [التغابن: 16] أشبه عادم الطهورين، يصلي على حسب حاله، وكذا المرأة المبتلاة بجريان الدم بما يسمى: الاستحاضة. وكذلك الرجل المبتلى بسلس البول الدائم، فكل واحد من هؤلاء يصلي على حسب حاله، حتى ولو قطر الدم على الحصير، وكذلك طواف الحج، فإنه يطوف على حسب حاله؛ إذ الطهارة للصلاة آكدُ من الطهارة لطواف الحج. وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[23] وهذا هو الذي نعتقده، ونعتمد صحة الفتوى به.

وقد رخص الفقهاء للحائض والنفساء، متى توضأت وضوء الصلاة بأن تمكث في المسجد الحرام وغيره من المساجد متى أمنت تلويثه، لكون الوضوء يخفف من حدث الحيض والنفاس، وكذا الجنابة، وقالوا: إن الصحابة كانوا يمكثون في المسجد بعد الوضوء وهم مجنبون، ولهذا قال ناظم المفردات:
وبوضوء جنب أو حائض
أو نفسا بلا نجيع فائض
لهم يجوز اللبث كالعبور
في مسجدٍ ذاك على المشهور

[19] أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. [20] متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. [21] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عائشة. [22] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [23] من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

آداب الطواف بالبيت

قال جابر: ثم سار رسول الله ﷺ حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، فَرَمَل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة - والرَّمَل هو: العدْوُ مع تقارب الخُطا - واضطبع بردائه، فجعله تحت إبطه الأيمن - وهذا الرمل والاضطباع إنما يشرعان في طواف القدوم من السفر فقط، وما عدا ذلك فإنه يطوف ماشيًا بسكينة ووقار - ثم قرأ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗىۖ [البقرة: 125] فصلى ركعتين، وشرب من ماء زمزم، ثم خرج إلى المسعى، فبدأ بالصفا وختم بالمروة، فعل ذلك سبعًا، يذكر الله فيهما ويسبح ويدعو.

فلما كان آخر سعيه بالمروة قال لأصحابه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً»[24] وفي هذا دليل على تحديد نحر نسك التمتع والقران بيوم العيد وأيام التشريق، وأنه لا يجوز قبل ذلك. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[25]. فحل الناس كلهم، وقصروا من رؤوسهم، ولبسوا ثيابهم، ودارت مجامر الطيب بينهم، إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، فإنهم بقوا على إحرامهم، ولم يحلوا منه إلا يوم العيد، بعدما رموا جمارهم، ونحروا هديهم.

وفي اليوم الثامن أحرم الذين حلوا بالحج، وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها، وفي اليوم التاسع توجهوا إلى عرفات، وصلى بهم رسول الله ﷺ الظهر والعصر قصرًا وجمعًا حتى أهل مكة، فكانوا يقصرون معه الصلاة بنمرة ومزدلفة ومنى. وبعد الصلاة خطب بهم رسول الله ﷺ الخطبة العظيمة. ومما قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، فَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع رسول الله ﷺ إصبعه إلى السماء وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[26] وفي رواية قال: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[27]، فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها.

[24] رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [25. 1) أخرجه أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه. [26] رواه مسلم في باب حجة النبي ﷺ عن جابر بن عبد الله. [27] متفق عليه من حديث جرير.

أدب الوقوف بعرفة وما ينبغي أن يقول فيه

إن يوم عرفة هو أفضل أيام الدنيا كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل ما قلت والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[28]. ويكثر من ذكر الله ويسبحه ويستغفر أو يسكت، إذ ليس لعرفة دعاء مخصوص، إذ المقصود الوقوف بها، لحديث «الْحَجُّ عَرَفَةُ»[29] وأنزل الله عليه بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وقد أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [سورة النصر]، ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ كما فسرها بذلك ابن عباس.

وفي موقف عرفة سقط رجل عن راحلته فمات. فقال رسول الله ﷺ: «غَسِّلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَجَنِّبُوهُ الطِّيبَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[30].

[28] أخرجه مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبيد الله بلفظ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. [29] من حديث رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي. [30] مثله رواه البخاري ومسلم وابن خزيمة عن ابن عباس.

دعاء موقف عرفة

إنه لم يثبت عن النبي ﷺ دعاء مخصوص بعرفة سوى قوله: «خَيْرُ الدُّعاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[31].

وبما أن الوقوف طويل وأكثر الناس لا يحسنون الدعاء، ويطلبون أن يساعدوا بما يُرجى أن يستجاب لهم به. لهذا تعيّن علينا أن نذكر طرفًا من الأدعية النبوية التي كان رسول الله ﷺ يدعو بها في سائر أوقاته، وخاصة في سجوده، إذ هي أقرب للاستجابة. والله ولي التوفيق: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»[32].

«اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[33].

«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»[34].

«اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِنِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ»[35].

«لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَالشَّرُّ كُلُّهُ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»[36].

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ»[37].

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكِ»([38].

«اللَّهُمَّ اقْسِمْ لِي مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ مَعَاصِيْكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنِي بِهِ جَنَّتَكْ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي، وَاجْعَلْ ثَأْرِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ عَادَانِي، وَلَا تُسَلَّطْ عَلَيَّ بذنبي مَنْ لَا يَخَافُكَ، وَلَا يَرْحَمُنِي»[39].

«اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمِكَ، عدلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلِمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيْمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي وَهَمِّي»[40].

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةِ الدَّائِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِيْنِي وَبَدَنِي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي»[41].

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، حُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ»[42].

«يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك نستغيث ومن عذابك نستجير، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين»[43].

«اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمُشْتَكَى، وَبِكَ الْمُسْتَعَانُ، وَأَنْتَ الْمُسْتَغَاثُ، وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»[44].

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»[45].

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ»[46].

«اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ ذَكَّارًا، وَلَكَ شَكَّارًا، لَكَ أَوَّاهًا، لَكَ مُخْبِتًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي»[47].

«اللهم إنك أمرت بالدعاء ووعدت الإجابة، وقد سألتك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني، اللهم هذا الجهد وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»[48].

اللهم صل على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ولمّا غربت الشمس انصرف النبي ﷺ من عرفة وقد شَنَقَ للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحل رسول الله ﷺ وهو يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» كلما أتى حبلاً[49] من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد[50].

[31] رواه الترمذي عن ابن عمرو بن العاص، وقال: غريب. [32] أخرجه أبو داود من حديث أنس. [33] أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس. [34] متفق عليه من حديث أبي بكر. [35] أخرجه مسلم من حديث علي بن أبي طالب. [36] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [37] أخرجه ابن ماجه عن عائشة. [38] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [39] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث ابن عمر. [40] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [41] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر. [42] أخرجه أحمد من حديث شداد بن أوس. [43] أخرجه النسائي في الكبرى من حديث أنس. [44] أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث عبد الله بن مسعود. [45] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [46] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [47] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [48] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [49] حبلاً من الحبال: أي المستطيل من الرمل. [50] أخرجه مسلم من حديث جابر.

الحكم في نزول مزدلفة والدفع منها

إن للمزدلفة ثلاثة أسماء هي: المزدلفة، وجَمْعٌ، والمشعر الحرام. وحدُّها من عرفة إلى قرن محسر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب والجبال فهو منها. ففي أي موضع منها وقف الحاج أجزأه؛ لقول النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[51].

والأصل في ذلك قوله سبحانه: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩ [البقرة: 198-199].

والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل واجب في ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، وقال الإمام مالك: إن نزل بها ثم دفع فلا شيء عليه، وإن لم ينزل بها فعليه دم، وقال في الإفصاح: أجمعوا على أنه يجب البيتوتة بمزدلفة جزءًا من الليل في الجملة، إلا مالكًا، فإنه قال: هو سنة مؤكدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. قال: واختلفوا فيمن ترك المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل، هل يجب عليه دم أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه في تركها، مع كونها واجبة عنده. وقال مالك: يجب في تركها دم، مع كونها سنة عنده. وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدم، مع كونها واجبة عندهما.

فهذه الأقوال مع اختلافها خرجت من هؤلاء الأئمة مخرج الاجتهاد منهم، لكونهم لم يجدوا عن رسول الله ﷺ نصًّا صحيحًا صريحًا في تحديد الواجب من المبيت، وهل هو الليل كله أو نصفه أو جزء منه؟ فاجتهد كل واحد منهم في القول فيه على حسب الحالة والحاجة في زمنهم، من قلة الحاجّ وسعة المكان والطرق والقدرة على تصرف الإنسان بما يريد.

وإن الأمر الذي لا نزاع فيه، هو أن النبي ﷺ نزل بمزدلفة بعد انصرافه من عرفة؛ فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ثم رقد حتى طلع الفجر، فصلى بعدما تبين الفجر، ثم وقف بالمشعر الحرام، فذكر الله، وهلله، وأخذ يدعو حتى أسفر جدًّا، ثم دفع من مزدلفة، ومعه أصحابه حتى أتى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه، وحلق رأسه، ولبس ثيابه، وبعدما أكل من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بالبيت طواف الحج، فهذا أفضل ما يفعله الحاج، إذ إنه سنة رسول الله ﷺ الفعلية وسيرة خلفائه وأصحابه حتى في حالة هذا الزمان وشدة الزحام، فإنه يكون أوفق وأرفق به، إذ إنه بعد انصرافه من مزدلفة يجد فجوة خالية من شدة الزحام بين المتعجلين والمتأخرين، فهذا أفضل ما ننصح به، وندعو الناس إليه، لكنه لا يلزم أن يتيسر هذا التسهيل لكل أحد، فإن الحاج زمن النبي ﷺ وزمن الخلفاء، وفي كل السنين السابقة كانوا قليلين، فلا يحج من أهل البلدان البعيدة أحد، ولا يحج من أهل البلدان القريبة إلا النادر.

أما الآن، وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات، وسهلت المواصلات بوسائل المراكب الهوائية والبرية، ودُكَّت عقبات التعويق، وقُطع دابر قطّاع الطريق، وشمل الناس الأمنُ المستتب في أنحاء الحرم، وسائر السبل المفضية إليه، فمن أجله قدم الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون، وفي كل زمان يزيدون، فعظم الخطب واشتد الزحام، وصار الناس بعد انصرافهم من عرفة يسيرون مقسورين غير مختارين، يتحكم فيهم قائد السيارة، وشرطة نظام المرور، بحيث يمنعون السائق من الوقوف أو الانصراف عن طريقه، لكون أرض مزدلفة مملوءة بالناس والسيارات، وربما تمادى بهم سيرهم حتى يصلوا إلى المسجد الحرام، فيطوفون طواف الإفاضة وهم قد مروا بمزدلفة، لكنهم لم ينزلوا بها. ولأجله كثر السؤال عن حج هؤلاء، وهل هو صحيح أم لا؟

فالجواب: إننا على دين كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، ولو فكرنا فيه بإمعان ونظر، لوجدنا فيه الفرج عن هذا الحرج، وقد قيل: إن الحاجات هي أُم الاختراعات. لهذا يجب على العلماء الاجتهاد في تجديد النظر فيما يزيل عن أمتهم وقوع الخطر والضرر، والنبي ﷺ قد أرخص للظُّعُن[52] والضعفة بأن يدفعوا بالليل، ويرموا الجمرة بالليل، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة وحديث أسماء (بنتي أبي بكر) وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس.

وكما ثبت الدفع إلى مكة من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ أم سلمة ليلة المزدلفة، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. وكل الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن لم تثبت تحديد المبيت بجزء من الليل، ولا تقييده بنصفه، كما قيده الفقهاء بذلك. وترجم له البخاري في صحيحه، ما عدا أن أسماء بنت أبي بكر قالت للذي يُرحلها: هل غاب القمر؟ فقال: لا. فأخذت تصلي. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا. قال: فارتحلنا، فمضت حتى رمت الجمرة وقالت: يا بنيّ: إن رسول الله ﷺ أذن للظُّعن. ومثله قاله ابن عمر، حين دفع من مزدلفة بأهله من الليل، وكلها لا تدل على تحديد ولا تقييد.

ونتيجة الجواب عن هذا السؤال: أن حج هؤلاء يعتبر صحيحًا بدون دم، إذ هو نظير ما فعلته أُم سلمة زوج النبي ﷺ كما في حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم. وهو جنس ما فعله هؤلاء من دفعهم من مزدلفة إلى الجمرة، ثم إلى مكة لطواف الإفاضة بطريق القسر غير مختارين، وهو غاية وسعهم، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

ولأن الحاج بعد انصرافه من عرفة يمر بمزدلفة في طريقه، وقد قال الفقهاء: إن حُكم من مرّ بعرفة حكمُ من وقف بها يوم تمام حجّه. ومثله من مرّ بمزدلفة ولم يقف بها، ثم إن بقية مناسك الحج التي تفعل بعد الوقوف بعرفة، مثل المبيت بمزدلفة، والرمي، وطواف الإفاضة، كلها من الأمور التي رفع رسول الله ﷺ فيها عن أُمته الحرج في تقديم شيء على شيء منها، فإنه ما سئل يوم العيد عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[53].

وبما أنها حصلت الرخصة من النبي ﷺ في الدفع بالليل للظُّعن والضعفة، بدون تحديد ولا قيد، فإن أكثر الناس في حالة هذا الزحام الشديد قد صاروا بمثابة الظعن والضعفة، بل أشد في حالة استعمال هذه الرخصة التي قُصد بها التسهيل، فيسِّروا ولا تعسِّروا، وقد قال الإمام مالك: إن المبيت بمزدلفة سنة مؤكدة. وقال الإمام الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. وقال الإمام أبو حنيفة: ليس عليه شيء في تركه، قاله في الإفصاح. وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة والشافعية المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة، قال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى ولا مزدلفة. وقيل: أهل الأعذار، كالمريض، ومن له مال يخاف ضياعه، حكمه حكمهم في ترك البيتوتة. قال في الكشاف: جزم به الموفق والشارح، وابن تميم، وهذا كله يرجع إلى كون الدين مبنيًّا على جلب المصالح، ودفع المضار.

[51] رواه مسلم عن جابر. [52] الظُّعُن: النساء، واحدتها: ظعينة. [53] رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس.

دم المتعة والقران هو دم نسك وليس بدم جبران

قال الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ [البقرة: 196] فأوجب سبحانه ذبح الهدي على المتمتع من أجل ترفهه باستعمال المباحات من الطيب والنساء، ولبس الثياب فيما بين الحج والعمرة. كما أوجب الدم على القارن من أجل أنه قرن بين الحج والعمرة بعمل واحد، واكتفى عنهما بطواف واحد، لدخول الحج في العمرة إلى يوم القيامة. فوجب عليه من أجله ذبح نسك، وهو ما يجزئ في الأضحية.

وهذا الدم هو دم نسك وليس بدم جبران، لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد أو أيام التشريق، كالأضحية، ويسمى أضحية.

والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد، فقال في خطبته: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَلَيْسَ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ؟ قَالُوْا: بَلَى»[29]. ويسمى يوم النحر؛ لأن جميع المسلمين ينحرون فيه. فالحجاج ينحرون نسكهم، وأهل البلدان والأمصار ينحرون فيه أضاحيهم.

وذهب الإمام الشافعي: إلى أن دم المتعة والقران دم جبران، وبنى عليه القول بجواز ذبحه في اليوم السابع أو الثامن، أي قبل العيد. وخالفه كافة العلماء في ذلك. وحققوا بأنه دم نسك، وأنه لا يجوز ذبحه إلا في يوم العيد وأيام التشريق. والنبي ﷺ لما أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوا سعيهم عن العمرة؛ أنه أبدى الأسف في سوقه الهدي معه؛ والذي امتنع بسببه عن أن يحل من إحرامه. فقال ﷺ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً». فقال سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[30].

فالرسول ﷺ قد تمنى التحلل من إحرامه بعد سعيه، كما فعل أصحابه، لكنه مأمور بأن لا يحل منه حتى ينحر هديه الذي ساقه معه. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۚ [البقرة: 196]. فمحله الزماني هو يوم العيد وأيام التشريق، كما أن محله المكاني هو منى، وفجاج مكة كلها منحر. فمن نحر دم التمتع قبل العيد؛ فهو كمن ذبح أضحيته قبل العيد. والنبي ﷺ خطب الناس، فقال: «إِنَّا نُرِيْدُ أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَ هَذَا قَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ»[31].

فمن ذبح دم نسكه في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع، فإنما هو دم لحم وليس من النسك في شيء.

ويسقط دم المتعة والقران بإحداثه سفرًا مسافة قصر فيما بين الحج والعُمرة، كأن يسافر إلى المدينة أو الطائف أو جدة، فيسقط عنه دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة. قال ناظم المفردات:
مسافة القصـر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقران
سقوطه فواضح البرهان
وقد استغل هذا القول المطوفون، وأخذوا يشغلون به أذهان الناس ليتعجلوا به أكل اللحم، وانخدع لقولهم أكثر الغرباء الذين يجهلون أحكام الشرع.

وبعض العلماء غير المحققين عندما يرى عظمة مصرع الحيوان بمنى، وكونه يركم بعضه بعضًا، ولا يأكلها الناس، رأى أن يتوسط بالقول في إباحة ذبحه في اليوم السابع أو الثامن، كأنه بذلك يريد التخفيف من الذبح بمنى، وهذا من باب الاستشفاء عن الداء بالداء. إذ لو سُمح للناس بأن يذبحوا نسكهم في اليوم السابع أو الثامن فإن البيوت والشوارع والأزقة تكون منتنة مجيفة من إلقاء الجيف فيها، والفرث والدم في وقت هي مغلقة بكثرة الحجاج، بحيث لا يتمكن عمال البلدية من دخولها لتنظيفها، فينجم عن ذلك سوء النتائج، من تعفن الهواء الذي قد ينجم عنه الوباء، والوقاية خير من العلاج.
إذا استشفيت من داء بداء
فأكثر ما أعلك ما شفاك

[29] متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. [30] أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه. [31] متفق عليه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

طرق التخفيف من سفك دماء المناسك بمنى

إن كثيرًا من العقلاء والرؤساء والعلماء، قد كثر حديثهم فيما يشاهدونه ويستبشعونه من كثرة سفك دماء المناسك بمنى، بحيث تبقى ركامًا بعضها فوق بعض ولا يؤكل منها إلا القليل، ويرون أنها بهذه الصفة مال ضائع.
ولم يَحفظ مُضَاعَ المجدِ شيءٌ
من الأشياء كالمال المضاع
ويتمنى أكثر الناس صرف قيمة هذا الحيوان فيما هو أنفع من ذبحه من سائر أفعال الخير، وما سيقوم مقامه في الفريضة والفضيلة، مع العلم أن الحيوان في هذه السنين قد أصيب بالنقص والانقراض؛ من أجل توالي الجدب ومن أجل جفاء البادية في عمل الرعي لالتحاق أولادهم الرعاة بالوظائف الحكومية، ووظائف الشركات، ثم في إسراف الناس في ذبح الحيوان وخاصة الأغنام في سبيل الولائم والمآدب، وما لا سبب له إلا الترف الذي يحملهم على التوسع في الذبح بطرق متنوعة، وهذه الأفعال تهدد بانقراض الحيوان، أو بالغلاء الزائد في ثمنه.

وهذه القضية بهذه الصفة توجب على العلماء والحكام تحقيق النظر في تدارك هذا الخطر بإزالة الضرر وتخفيفه بطرق شرعية لا تصادم النصوص الجلية، والأمر الذي يوجبه الله في كتابه إيجابًا محتمًا لا مجال للجدل في دفعه ورفعه، لكن قد يوجد بطريق الشرع ما يخفف هذا الوضع؛ لأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولأن مدار الشريعة على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.

ولن يقع بين الناس مشكلة من مشكلات الدهر كهذه وأمثالها، إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83]، وأصل دماء المناسك التي تفعل بمنى، هي واجبة على المتمتع والقارن في قوله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ [البقرة: 196] والله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات، إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرّم شيئًا من المحرمات، إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

لكن هذه الحكمة في فعل هذا الشيء الواجب قد تخفى أحيانًا في وقت، وتظهر في أوقات، والدهر أبو العجب، وما يشعرني أن يأتي على الناس زمان يتمنون فيه رائحة اللحم ولا يجدونه، ثم إن ما يستبشعه الناس في هذا الزمان، من كون ذبائح الأغنام وسائر الحيوان تبقى مركومة بعضها فوق بعض، فإن له أسبابًا توجبه: أحدها فمن كثرة الحجاج الذين لا يحصى عددهم، والذي لا يوجد لمثله نظير في سائر الأزمان، وكل شخص يعتقد أن عليه نسكًا يتمّم به حجه، وإن لم يكن واجبًا عليه بحكم الشرع، كالحاج المفرد الذي ليس بقارن، ولا متمتع، فإنه لا يجب عليه دم نسك.

والأمر الثاني: حصر الذبح والذبائح في مكان مخصوص بمنى، ومحصور بالشبك، بحيث لا يسمح لأي شخص بأن يخرج منه ذبيحته حتى يذبحها ويسلخ عنها جلدها وفرثها ودمها. مع العلم أن مصرع الذبح مخاضته من الدم والفرث يشق الوقوف فيه، فضلا عن الجلوس والسلخ والتنظيف، يتطلب مدة لا تقل عن نصف ساعة أو قريب منها، لهذا صار الفضلاء وأكثر الناس يوكلون على ذبح نسكهم ولا يتمكنون من قبضها ولا الأكل منها إلا من قبيل الندور، فتبقى الذبائح بحالها، وأكثر الناس لا يتحصلون على اللحم في يوم العيد.

فلو وزعت هذه الأغنام المذبوحة والمركومة على الناس، لما وسع الخمسين من الحاج ذبيحة واحدة، لقلة الذبائح بالنسبة إلى كثرة الحاج. ثم إنه لا يقدح في صحتها بقاؤها بحالها وعدم الانتفاع بها، إذ هي من القرابين التي تقرّب لرب العالمين.

وكانت الأمم قبلنا متى قرّبوا القرابين من الأغنام أو البقر نزلت عليها نار من السماء فتحرقها، كما حكى الله سبحانه في كتابه عن ﴿ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ [آل عمران: 183] وقد أهدى النبي ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة - أي ناقة - نحر ثلاثًا وستين بيده، عدد عمره الشريف، وكن يزدلفن بين يديه - أي تبرك الناقة قبل الأخرى - ووكل عليًّا فنحر ما تبقى، وكما أنه لما بعث الهدي إلى الكعبة أمر سائقيها متى عطب شيء منها بأن ينحره ويتركه، ولا يأكل هو ورفقته شيئًا منه.

التخفيف من ذبح النسك بمنى يتحقق بأمور شرعية

أحدها: الإحرام بالإفراد بالحج

فبما أن مدن المملكة العربية السعودية وما جاورها من بلدان الخليج، هم بالعادة أكثر الحجاج، لقربهم من مكة، وسهولة السفر للحج عليهم، فهم دائمًا يترددون إلى الحج، وبعضهم يحج كل عام، كأهل مكة ومن حولها من البلدان.

وكلهم يحجون متمتعين، بحيث يلزم كل واحد ذبح النسك، لقول الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ [البقرة: 196]، وأكثر العامة لا يعرفون الفرق بين الأنساك الثلاثة، ولا يعرفون إلا التمتع الذي داوموا على فعله.

لهذا ينبغي للعلماء وللدعاة المرشدين، بأن يأمروا هؤلاء بالحج مفردين لكون الإفراد بالحج، هو من الأنساك المشروعة المشهورة، وبعض العلماء يفضله على حج التمتع كمالك والشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب واختياره، وفعل بعض الصحابة، وقد حصل النزاع بين عمر بن الخطاب وابن عباس في هذه المسألة، فكان عمر يرى إفراد الحج، وتكون العمرة مستقلة عنه، لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا من أهلّ بحج، فأما الذين أهلّوا بعمرة؛ فحلوا - تعني بعد طوافهم وسعيهم وتقصيرهم - وأما الذين أهلوا بالحج أو بالحج والعمرة؛ فلم يحلوا حتى كان يوم النحر.

وإن الإفراد بالحج فيه مصلحة خاصة لفاعله، ومصلحة عامة لجميع الناس.

فأما المسألة الخاصة: فإنه يسقط به دم النسك، إذ ليس على المفرد دم، ثم إنه يثاب على عمله بهذا النسك الذي هو بمثابة السنة المهجورة غير المشهورة، فيثاب على تنقله إلى فعل هذه السنة، ولا يأثم من دعا الناس إليها، أو ألزمهم بها؛ لأن فعلها من باب تنوّع العبادات الذي ينبغي أن يفعل هذه السَّنة مرة، وتلك مرة، ثم إنه يستفيد العلم بهذه السُّنّة، كما أن العلماء يستعينون على حفظ العلم بالعمل به، وأكثر الغرباء لا ينوون بإحرامهم إلا الحج، ولا يعرفون التمتع، ولا القران، لولا أن المطوفين يلقنونهم ذلك. وليس في الإهلال بهذا النسك ما يشق، ما عدا أنه يبقى على إحرامه حتى يرجع من عرفة ويرمي الجمرة، ثم يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الفرض، ويسعى إن لم يكن سعى طواف القدوم.

لكن أكثر الحجاج من أنحاء المملكة العربية السعودية وما جاورها من البلدان، إنما يقدمون مكة في اليوم الخامس والسادس والسابع وبعضهم لا يقدم إلا في اليوم التاسع، فيتوجه إلى عرفة، وبعد رجوعه منها ورميه للجمار يفيض إلى مكة، ويطوف طواف الفرض، ويسعى سبعًا، ثم يحلق رأسه أو يقصر. وبذلك يتم حجه، وليس عليه دم نسك. ومثل هؤلاء لا يشق عليهم استدامة إحرامهم، لقصر المدة.

أما المصلحة لجميع الناس: فإنهم يستفيدون توفير الحيوان عن التوسع في هلكته، وبذلك يخف ما يشاهده الناس من بشاعة.

وكنا نتمنى أن لو صدر الأمر من الحكومة - حرسها الله - بجعل الحجة بالنوبة والتوزيع؛ ليخف هذا الضغط على الناس، ثم إن المفرد للحج في إمكانه إدراك العمرة في أي وقت يريدها، حتى ولو بعد فراغه من أعمال الحج.

وبهذا يسقط عن الناس الشيء الكثير مما يتعلق بذبح النسك.

الأمر الثاني من مقتضيات تخفيف ذبح النسك بمنى: هو أن الحكومة السعودية - حرسها الله - تسافر إلى مكة في موسم الحج، وفي أشهر الحج، ومعها جميع أتباعها، وسائر المتعلقين بأعمالها، من كل الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والموظفين وسائر الأسرة المالكة، وأكثرهم قد حجوا خمسين حجة، وأربعين، واعتمروا مثل ذلك.

وغاية قصد الجميع، هو تنظيم أمر الحاج وحمايتهم ورعايتهم وترتيب ما يلزم بشأنهم، ثم ملاقاة العظماء من الغرباء، والتخاطب معهم بما يلزم من شأن الجميع، فهذا هو السبب الأعظم في سفرهم إلى مكة، وشهودهم لموسم الحج.

فكل هؤلاء ينبغي أن يؤمروا بدخول مكة بثيابهم بدون إحرام؛ لكونهم لم يقصدوا الحج أصلاً، وإنما دخلوا مكة للحاجة. ولا يلزم كل من دخل مكة لحاجته أن يحرم، وإنما شرع الإحرام في حق من أراد الحج أو العمرة.

ثم إنه لا مانع لهؤلاء عند خروج الناس إلى عرفات بأن يخرجوا معهم بثيابهم غير محرمين، ولا بأس بذلك، أو يقعدوا في بيوتهم حتى يرجع الحاج إليهم، وإن أرادوا أن يحرموا بالحج فعلوا، ويكون حكمهم كحكم حاضري المسجد الحرام، أي كأهل مكة، ولا يلزمهم ذبح نسك. أشبه المترددين إلى مكة، فكل هؤلاء يسقط عنهم دم النسك.

الأمر الثالث مما عسى أن يخفف من ذبح النسك بمنى:هو أن الحاج متى دخل مكة متمتعًا، أو قارنًا، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وحلق رأسه أو قصره، ثم حل من إحرامه ولبس ثيابه، ثم بدا له بعد ذلك أن يسافر إلى المدينة أو إلى جدة أو إلى الطائف، وفعلاً أنشأ السفر فيما تقصر فيه الصلاة إلى شيء من هذه البلدان، ثم رجع بمن معه إلى مكة، فإن هؤلاء يسقط عنهم دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة، قال ناظم المفردات:
مسافة القصـر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقران
سقوطه فواضح البرهان
وعلّلوا هذا السقوط بأنه لم يبق على حالة إحرامه بالحج والعمرة في سفرة واحدة، وبعمل واحد، حيث أدخل عليها سفرة ثانية، فتغير الحكم من وجوب دم النسك إلى سقوطه. والصحيح عدم سقوط دم المتعة والقران بمثل هذا السفر لعدم ثبات ما يدل على سقوطه، ولكونه من جنس الترفه الذي أبيح للمتمتع فعله فيما بين حجه وعمرته، كما أبيح له الترفه بالجماع والطيب وسائر محظورات الإحرام، وهذا هو الصحيح بمقتضى الدليل والبرهان وفاقًا للأئمة الثلاثة، والله أعلم.

الأمر الرابع: أن هذه الذبائح المركومة والمتروكة، بحيث لم يبق لأهلها رغبة فيها، فإنها مباحة لمن أخذها، أو أخذ شيئًا منها، أو باع شيئًا منها، كما لو عملوا التصنيع لجعلها في علب، ثم بيعها على الناس، لكونها من المال المتروك المباح لمن أخذه.

وسميت الأيام الثلاثة بعد العيد بأيام التشريق، لكون الناس يشرقون اللحم فيها - أي ينشرونه بالشمس - كما سمي أوسط أيام التشريق بيوم الرؤوس. وقد نهى رسول الله ﷺ في أول الإسلام عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، قيل: من أجل الدافّة؛ أي الفقراء من أهل اليمن، ثم إنه رخص بعد ذلك في ادخارها، فكان الصحابة يتزوّدون من هذه اللحوم إلى أهلهم بالمدينة، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال

ثم ركب رسول الله ﷺ راحلته، فجعلوا يسألونه، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». فرفع الحرج عن الناس في جميع ما قدموه أو أخروه من بقية مناسك الحج، حتى سأله رجل قال: رميت بعدما أمسيتُ. فقال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». وهذا الحديث في الصحيحين عن ابن عباس، وهو نص صريح في جواز تقديم رمي الجمار قبل الزوال، أو تأخيرها عن هذا الوقت، فيجوز رميها في أية ساعة شاء، من ليل أو نهار، أشبه النحر والحلق، وأشبه طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج، فقد طاف رسول الله ﷺ وأصحابه في يوم العيد ضحى بعد ما أكلوا من لحم هديهم، وشربوا من مرقه.

ثم قال العلماء بجواز التوسعة في فعله، وأنه يطوف في أية ساعة شاء، من ليل أو نهار من يوم العيد، أو سائر أيام التشريق.

فلا أدري ما الذي جعلهم يتشددون في عدم جواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق، وهو عمل يقع بعد التحلل الأول، وفيه حديث: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» رواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عائشة. وإذا طاف طواف الإفاضة فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث يباح له كل ما يفعله من سائر المباحات، من الطيب والجماع وغير ذلك، ولو مات لحكم بتمام حجه. قاله في الإقناع. وقال أيضًا: إنه لو أخر رمي الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد، ثم رماها كلها في اليوم الثالث أجزأه ذلك أداءً لاعتبار أن أيام منى كالوقت الواحد، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، لكونه قد وقع التسهيل والتيسير من النبي ﷺ في بقية واجبات الحج التي تفعل يوم العيد وأيام التشريق، حيث إنه لم يسأل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ» وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

من ذلك أن العباس استأذن النبي ﷺ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقاية الحاج، فأذن له في ذلك، ولم يأمره باستنابة من يرمي بدله، كما أنه رخص لرعاة الإبل في البيتوتة بعيدًا عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، وبعد الغد، ليوم النفر، وقِسْ عليه كل من يخاف على نفسه وماله. والله أعلم.

سقوط الرمي عمّن لا يستطيع الوصول إلى موضع الجمار بدون استنابة

إن الأصل في هذا هو قول النبي ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[54] فكما أن واجبات الصلاة تسقط عمن لا يستطيعها، فكذلك واجبات الحج فإنها تسقط عمن لا يستطيعها؛ لأن واجبات الصلاة آكد من واجبات الحج، حيث إن واجبات الصلاة لو تعمد ترك واجب منها بدون عذر بطلت صلاته، بخلاف واجبات الحج، فإنه لو تعمد ترك واجب بدون عذر لم يبطل حجه، وإنما عليه دم.

ومتى كان أصل فرض الحج يسقط عمن لا يستطيعه بنص القرآن، فما بالك بسقوط الواجب المعجوز عنه، إذ هو أولى بالسقوط بدون استنابة، وليس عندنا ما يثبت الاستنابة في واجبات الحج عند العجز عنها.

لهذا أفتينا ضعاف الأجسام وكبار الأسنان والمصابين بالمرض من رجال ونساء الذين لا يستطيعون الوصول إلى الجمار، بأن الرمي يسقط عنهم بدون استنابة ولا دم، كما أن أصل الحج يسقط عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بنص القرآن، فما بالك بسقوط الرمي عمن لا يستطيعه، إذ هو من باب الأولى والأحرى، وقد أسقط النبي ﷺ طواف الوداع عن الحائض بدون استنابة، وقد عدّه الفقهاء من واجبات الحج، وهذا واضح جلي لا مجال للجدل في مثله، إذ ليس عندنا ما يثبت صحة التوكيل في سائر واجبات الحج أو مستحباته.

[54]رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

الاكتفاء بسعي واحد في حق القارن والمتمتع في الحج

فلما أكل رسول الله ﷺ من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بها طواف الحج، ولم يثبت عنه أنه سعى، بل اكتفى بسعي القدوم عن الحج والعمرة؛ لكون القارن يكفيه سعي واحد عن الحج والعمرة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، أن المتمتع يكفيه سعي واحد عن حجه وعمرته، كالقارن، إذ هما في الحكم سواء، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[55] إذ الدخول هو أن يُكتفَى بسعي أحدهما عن الآخر. وهذا هو ما فعله الصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، ثم طافوا مع النبي ﷺ طواف الإفاضة فلم يعيدوا السعي اكتفاء بسعي العمرة، فاكتفاء الرسول ﷺ بسعي واحد عن حجه وعمرته، هو أمر مسلَّم لا خلاف فيه، لكونه قارنًا، والصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة لم يثبت تخلفهم عنه، لاستئناف سعي ثان لحجهم، وبذلك تظهر فائدة دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وكونه يُكتفى بطواف أحدهما وسعيه عن الآخر.

ونحن لا نشك في صحة حج من اكتفى بسعي واحد عن حجه وعمرته في حج التمتع، كالقارن على حد سواء، كما هو فعل الصحابة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، وبما أننا نخشى أن يلقى هذا الحاج أحدًا من أهل العلم الذين لم يفقهوا في المسألة حق الفقه، فيقول له: بطل حجك. فيعود باللائمة على نفسه، وعلى من أفتاه، لهذا فإن الأحوط في حق هذا أن يسعى مع طواف الإفاضة حتى يكون مطمئنًّا من اللائمة، مع العلم بأننا لا نشك في صحة حج من اقتصر على سعي واحد. والله أعلم.

ثم أتى رسول الله ﷺ زمزم وقال: «انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»[56]. فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم، وصلى بالناس الظهر بالمسجد الحرام قصرًا. ولمّا فرغ من صلاته قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[57].

وفي اليوم الثاني من أيام العيد جلس رسول الله ﷺ للناس، وجعلوا يسألونه. فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». حتى إذا زالت الشمس، وقام الناس معه يتبعونه أتى الجمرة الأولى، فرماها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم أسهل في الوادي، وأخذ يرفع يديه يدعو ويتضرع طويلاً والناس صفوف خلفه يدعون ويتضرعون، ثم أتى الجمرة الوسطى، ففعل مثل ذلك، ثم أتى جمرة العقبة، فرماها ولم يقف عندها، قيل: لضيق المكان. ثم انصرف بالناس، وصلى بهم صلاة الظهر بمسجد الخَيْف من منى، فصلى بهم ركعتين قصرًا من غير جمع.

[55] رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

[56] أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه. [57] أخرجه مالك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

من هدي رسول الله أنه كان يقصر الصلاة بمنى ولا يجمع

ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ منذ دخل مكة إلى أن خرج منها أنه جمع بين الصلاتين، إلا في عرفة، جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم؛ لاتصال الوقوف، وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وما عدا ذلك، فإنه يقصر الصلاة ولا يجمع، قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ولعل السبب في تأخيره رمي الجمار إلى الزوال؛ أنه يريد أن يخرج بالناس مخرجًا واحدًا للرمي وللصلاة في مسجد الخَيْف، ليكون أسمح وأيسر لهم.

ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: لا ترموا الجمرة حتى تزول الشمس. حتى يكون فيه حجة لمن حدده. وأما قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[58]. فإن مناسكه تشمل: الأركان، والواجبات، والمستحبات. وأما تحديد الفقهاء للرمي أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب فإنه تحديد خال من الدليل، وقد أوقع الناس في الحرج والضيق، لكون الجمع كثير وزمن الرمي قصير وحوض المرمى صغير، وصار الناس يطأ بعضهم بعضًا عنده، والنبي ﷺ قد بيّن للناس ما يحتاجون إليه. فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير فيما يفعلونه في يوم العيد وأيام التشريق إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»، فنفى وقوع الحرج عن كل شيء من التقديم والتأخير، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي؛ لبينه النبي ﷺ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. والحالة الآن، وفي هذا الزمان، هي حالة حرج ومشقة وضرورة، توجب على العلماء إعادة النظر فيما يزيل عن أُمتهم هذا الضرر، ويؤمِّن الناس من مخاوف الوقوع في هذا الخطر الحاصل من شدة الزحام والسقوط تحت الأقدام، حتى صاروا يحصون وفيات الزحام كل عام، إذ هو من باب تكليف ما لا يستطاع، ولا يلزم بتركه مع العجز عنه دم، وصار الحكم بلزومه مستلزمًا لسقوطه للعجز عنه، والله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر

[58] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر.

المبيت بمنى

وقد عدّ الفقهاء المبيت بمنى من واجبات الحج، وقد أنزل الله فيه: ﴿ ۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ [البقرة:203]، فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والنبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشرِيِقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ، وَذِكرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[59] وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد، فمن تعجل بالانصراف في اليوم الثاني فلا إثم عليه، وإنما وجب المبيت بمنى من أجل تكميل بقية الحج الذي يفعل فيها، من الرمي والنحر والحلق، ولكن متى ضاقت منى بالناس فإنه من الجائز أن ينزلوا بما جاورها من أرض مزدلفة، أو عرفة أو محسر، لكونها ضرورة تقدّر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[60]، ولأن ما جاور الشيء يعطَى حكمه، أشبه المسجد الحرام حيث أدخل فيه كثير من البيوت بما اشتملت عليه من المرافق والمنافع، وصار حكمها حكم المسجد الحرام، ويلتحق الزائد بالمزيد في الفضيلة، ومثله الوقوف بعرفة؛ فقد قال النبيﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَجَمْعٌ - أَيْ: مُزْدَلِفَةَ - كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[61]. فوسع النبي ﷺ للناس في مواقفهم، فمتى ضاق الموقف بالناس جاز الوقوف بما جاوره، كما جازت الصلاة في الطرق عند مضيق الناس وزحمتهم، كما أن في إحدى الروايتين عن أحمد أن المبيت بمنى سنة ولا دم في تركه، اختارها عبد العزيز صاحب الشافعي، وهي مذهب أبي حنيفة، قاله في الإفصاح.

ثم إن رسول الله ﷺ وأصحابه في اليوم الثالث دفعوا إلى مكة، ونزل بالأبطح حتى باتوا بها. فقال بعض الناس: إن النزول بالأبطح سنة. فقالت عائشة: إنما نزل بالأبطح ليكون أسمح لخروجه. وفي آخر الليل دفع رسول الله ﷺ إلى المسجد الحرام، فطاف طواف الوداع، وقيل له: إن صفية قد حاضت. فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ هَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟» قالوا: نعم. قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ»[62] فدل على أنه لا يجب على الحائض طواف الوداع، ولا الاستنابة فيه لسقوطه عنها.

ثم قيل له: إن أُم سلمة شاكية لا تستطيع الطواف، فقال: «لِتَطُفْ وَهِيَ رَاكِبَةٌ»[63]، قالت: فطفتُ على بعير من وراء الناس، ورسول الله ﷺ يصلي بالناس صلاة الفجر، ويقرأ فيها بالطور، فما رأيت أحسن قراءة منه. ثم سافر رسول الله ﷺ إلى المدينة.

[59] رواه مسلم عن نبيشة الهذلي. [60] من حديث رواه البخاري ومسلم. [61] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر. [62] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [63] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة.

هل الأفضل للحاج أن يبدأ بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة؟

والجواب: أنه لا مشاحة في ذلك، وبداءته يجعل المدينة هي طريقه إلى مكة أفضل من إنشائه السفر إلى القبر. ويجب عليه أن يُحرم عندما يتوجه إلى مكة من موضع ما يحرم منه أهل المدينة، لكون المواقيت للبلدان هي لأهلها، ولمن مرّ عليها من غيرهم، فقول النبي ﷺ: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم». ثم قال: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة» متفق عليه من حديث ابن عباس.

وتعيينه المواقيت لأهل هذه البلدان قبل إسلام أهلها هي من معجزات نبوته ﷺ كما قال الناظم:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدّد
وقد قال النبي ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ»[64].

وإنما استحب العلماء زيارة المدينة لأجل الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ لحصول المضاعفة بالصلاة فيه، ومشاهدة آثاره، لكنه يستحب للحاج متى وصل إلى المدينة ودخل المسجد النبوي أن يزور قبر رسول الله ﷺ وقبر صاحبيه ويسلّم عليهم، مع العلم أنه لا علاقة لزيارة المدينة في الحج، بل الحج صحيح بدونها. وأما حديث «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» فإنه حديث مكذوب على رسول الله ﷺ بتحقيق علماء الحديث، بل الحديث الصحيح هو قول النبي ﷺ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا - أي تعتادون مجيئه - وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، - أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها - وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[65].

وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها ويدعو، فنهاه. قال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[66]، فلا معنى لهذا الزحام عند القبر، ولا التمسّح بجدار الحجرة والشبابيك، فكل هذا يعد من الغلوّ الذي نهى عنه رسول الله ﷺ، فالذي يصلي ويسلّم على رسول الله ﷺ في مشارق الأرض ومغاربها، والذي يصلي ويسلّم عليه عند حافة قبره، هما في التبليغ سواء. وليس الذي يصلي ويسلّم عليه عند جانب قبره بأفضل من الذي يصلي عليه في بيته، أو في مسجد قومه، أو في أي بقعة من مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الله وكّل ملائكة كرامًا يبلغونه سلام أمته.

وقد أمرنا بأن نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعلّم الرسول أصحابه كيفية الصلاة عليه، فقال: «صَلَّوْا عَلَيَّ، وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[67] وهذه هي أفضل صيغة في صفة الصلاة على النبي ﷺ. وكما أمرنا بعد إجابتنا لنداء الصلاة بأن نقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»[68] وهذا كله حماية منه لجناب التوحيد، وسد لطرق الشرك؛ لأن الذي يُدعى له لا يُدعى من دون الله.

والصلاة على النبي ﷺ هي من أفضل الطاعات، وأجلّ القربات، ومن صلى عليه مرّة صلى الله عليه بها عشرًا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦ [الأحزاب: 56].

والنبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[69] وقال: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[70].

فمحبة الرسول الطبيعية لا تغني عن محبته الدينية. فالمحبة الصادقة توجب طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع لا بمجرد الهوى والبدع.

وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ [آل عمران: 31]، فمعناه بالضبط: إن كنتم تحبوني: فاتبعوني، وأطيعوا أمري، يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم.

فمن البدع: كون بعض الناس بالمدينة متى سلّموا من صلاة الفرض نفروا وقاموا إلى القبر يسلّمون على رسول الله ﷺ، وقد عدّه الإمام مالك بدعة؛ لأنه ليس من عادة الصحابة، ولا السلف الصالح أنهم يفعلون ذلك، وإنما يكتفون بتسليمهم عليه في صلاتهم، حيث يقولون: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ»، وهذا السلام بهذه الصفة كافية، ولن يضيع عند الله، ولا عند نبيّه وحبيبه محمد ﷺ.

وأعظم من هذا دعاؤهم واستغاثتهم برسول الله ﷺ كأن يقولوا: يا محمد اشفع لي، يا محمد أنقذني، يا محمد أنقذ أُمتك من المهالك. ومثله قول بعضهم:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العمم
فهذا كله يُعد من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ [المائدة: 5]، ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢ [المائدة: 72] والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»[71]، وكل من دعا الرسول واستغاث به فقد عبده؛ لأن الدعاء من العبادة.

وأخبر سبحانه بأنه لا أَضَلّ ممن يدعو من دون الله، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6]، فسمّى الله دعاءهم عبادة؛ لأن من دعا مخلوقًا فقد عبده. وقال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106] فأخلصوا الدعاء لربكم، وأكثروا من الصلاة على نبيكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. والله أعلم.

[64] أخرجه مسلم عن ابن عباس. [65] أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن الزبير. [66] رواية أبي داود: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا» وأخرجه الإمام أحمد. [67] رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي وابن سعد والبغوي والباوردي والطبراني. [68] أخرجه البخاري عن جابر. [69] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أوس بن أوس. [70] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة. [71] أخرجه مالك عن عطاء بن يسار مرسلاً. وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة بدون لفظ: «يُعبد».

الصدقة على المضطرين أفضل من حج التطوع

إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99]

فهذه العبادة التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بالاستقامة عليها واستدامة فعلها حتى يلقوا ربهم تنقسم إلى فرائض: وهي الواجبات، وإلى نوافل: وهي التطوّعات.

فالفرائض: بمثابة رأس المال؛ لأن الله فرض فرائض فلا تضيعوها. والنوافل: بمثابة الربح، ولا ربح إذا لم يصح رأس المال. وحكمة النوافل: أنها يرقع بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها، كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه. وهي من أسباب محبة الرب للعبد، فتجعله من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ [يونس: 62-63].

كما روى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[72].

فأفضل ما تقرّب به المتقرّبون إلى الله هو المحافظة على الفرائض الواجبة، ثم التزوّد بعدها بنوافل التطوّعات. وهذه التطوعات بعضها آكد من بعض؛ لأن منها ما هو مقصور النفع على فاعله، ومنها ما هو متعدد النفع للغير. فمقصور النفع على فاعله مثل: نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فلا ينتفع الناس بعمل الشخص في مثل هذه التطوّعات.

أما المتعدي نفعه إلى الغير فهو مثل: عمل الصدقة، والصلة، وسائر الأفعال الخيرية التي ينتفع بها الناس، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير، أنه أفضل من العمل المقصور على النفس.

لهذا ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوّعات ما هو أصلح لقلبه، وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، وكذا عكسه. من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين، وعلى الفقراء والمضطرين، أنها أفضل من حج التطوّع، سواء كان حجه عن نفسه، أو عن والديه وأقاربه الميتين؛ لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لاسيما عند قرب العيد، وفي عشر ذي الحجة التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة، فتشتد حاجة الفقير لما يتطلبه العيد من النفقة، والكسوة له ولأهله وعياله، فتقع الصدقة بالموقع الذي يحبه الله؛ من تفريج كربته وقضاء حاجته.

وكل من تأمل القرآن والحديث، فإنه يجد فيهما الحث والتحريض بفنون من التعبير، كلها تحفز الهمم وتنشط الأمم إلى الكرم. وقد مدح الله الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم - أي يطمئنون بأن ما أنفقوه يخلف عليهم - كقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة.

ففي الدنيا: يدرك المتصدق المزكّي سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة في ماله، حتى في يد وارثه ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩ [سبأ: 39]، فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف.

وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الصدقة والصلة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والقطيعة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

إن أكثر الناس يكسلون عن النفقة فيما هو من واجبهم، وفي الأمر المرغب فيه في حقهم، فتراهم يكسلون عن أداء الزكاة الواجبة، وعن الصدقة على الأرحام، وعلى الفقراء والمضطرين، لكنهم ينشطون على النفقة في سبيل المآدب الواسعة، والولائم الإسرافية، وبعض الناس من رجال ونساء ينفقون أيضًا في سبيل حج التطوّع وهم قد حجوا، ثم حجوا، ثم حجوا. فيتركون العمل الواجب عليهم، والفاضل في حقهم، ويعدلون عنه إلى العمل المفضول والذي تركُه أفضل من فعله، أو العمل المحرم في نفسه.

وإنني أقول على سبيل النصيحة، رجاء أن تعيها أُذن واعية: إن هؤلاء الذين ينفقون هذه النفقات، إن الأفضل في حقهم هو صرف ما ينفقون إلى الفقراء والمضطرين، ومساعدة المنكوبين، وتأسيس الأعمال الخيرية، من بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء بيت لفقير أو رحم أو مساعدته على ذلك؛ لأن الصدقة على الفقراء والمضطرين لها وقع عظيم في مثل هذه الأيام الفاضلة، وخاصة عشر ذي الحجة، التي العمل فيها أفضل من العمل في غيرها.

وإن كان أحدهم مدينًا، وجب عليه أن يصرف نفقته إلى قضاء دَيْنه، ليعتق نفسه من ذل المطالبة بالدَّيْن، فإن الدَّيْن همّ بالليل وذل بالنهار، ولأن الدَّيْن واجب، والتطوّع بالحج مستحب، أو أنه مكروه في حقه، فلا يقدّم المستحب على الواجب، وقد قال بعض العلماء بعدم جواز حج من عليه دَيْن حتى يقضيه، أو يسترضي غريمه.

إن من النساء في وقت الحج من تقلق راحة زوجها في مطالبته بالحج بها، فتلجئه بإلحاحها إلى الحرج والمشقة، وتحمّل الديون المرهقة؛ من تخليه عن العمل الذي هو كسبه ومعيشة عياله، فيتحمل هذا كله في سبيل رضاها والحج بها، ولعلها قد قضت فرضها، ثم حجت مرة بعد أُخرى. وهذه تعتبر مأزورة غير مأجورة. فإن الأفضل في حقها هو طاعة زوجها وعدم المشقّة عليه، ثم الإكثار من عبادة ربها، فتصوم وتصلي وتتصدق. فإن النبي ﷺ لمّا حج بنسائه قال لهن: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ»[73] أي الْزَمْنَ الجلوس في البيوت، فبعضهن لم تفارق بيتها لا لحج ولا لغيره حتى توفّاها الله، منهن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

إن الصدقة بما سينفقه في حج التطوّع، هي أفضل من حج التطوّع، لكون الصدقة من العمل المتعدي نفعه إلى الغير، لاسيما في عشر ذي الحجة، التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة، فتصادف الصدقة من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فصدقته أفضل من تطوّعه بحجه.

ومثله الذين يضحون لوالديهم الميتين، فإن الصدقة عن والديهم أفضل من ذبح الأضحية، فإنه لا أُضحية للميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحيّ، شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وتأسيًا بأبينا إبراهيم، ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام. والله سبحانه أمر بالحج في آية واحدة، لكنه أمر بالصلاة والصدقة وسائر الأفعال الخيرية أكثر من ثلاثمائة مرّة، وتكرار ذكرها هو مما يدل على فضل فعلها.

إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق؛ من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.

وما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة. فلو جربتم لعرفتم، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩[سبأ:39] ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16]

إن أكثر الناس قد غلب عليهم حب الشهرة، فجعلوا الحج والعمرة بمثابة سفر النزهة، كي يقال: حج فلان، وحجّت فلانة. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه؛ لهذا نرى خشوع العبادة قد عزب عن قلوب الناس في مشاعر الحج ومشاهده.

وإنني أقول على سبيل النصيحة لهؤلاء الذين يتطوّعون بالحج كل عام، أو عامًا بعد عام، وأخص أهل مكة، وأهل البلدان المجاورين للبلد الحرام، من سائر البلدان في المملكة العربية السعودية، وأهل الخليج، وما حولهم: إن الأفضل في حق هؤلاء هو الإكثار من عبادة ربهم في بلدهم، فيكثرون من الصلاة، والصيام، والصدقة، ويصرفون ما سينفقونه في حجهم إلى الفقراء والمساكين والمضطرين وسائر أفعال الخير، فإن هذا أفضل من تطوّعهم بحجهم وعمرتهم.

أضف إلى ذلك أن المجاورين للبلد الحرام والذين يترددون للحج عامًا بعد عام أنهم يتعرّضون للأضرار ومواقع الأخطار، من تصادم السيارات وانقلابها، ويصيب الناس الضرر الشديد منهم، بتضييقهم على الناس بسياراتهم وخيامهم ومسالك طرقهم ومشاعر حجهم وفي الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، حتى لا يكاد يجد الإنسان مكانًا لموضع جبهته في المسجد، وكله من شدة زحمة المجاورين للبلد الحرام، والذين يترددون إلى الحج عامًا بعد عام.

وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أهل مكة بأن يخلوا المطاف للحجاج الغرباء. فاحتساب التوسعة على الناس في مثل هذا الزمان فيه فضل، ولفاعله أجر.

وإنني أنصح كبار الأسنان وضعاف الأجسام من رجال ونساء، متى قضوا فرضهم بأن يلزموا أرضهم ويكثروا من عبادة ربهم في بلدهم، فإن أبواب الخير كثيرة، وليس الحج من أفضلها، وليحافظوا على حياتهم وصحتهم فلا يتعرّضوا للبرد القارص ولا للحر القتّال؛ فإن البرد سريع دخوله بطيء خروجه، ويتزايد ضروه ويعظم خطره في أوله، كما قال عليّ رضي الله عنه: اتقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يعمل في الأبدان كعمله في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق.

هذا: وإن الوقاية خير من العلاج، ونيّة المؤمن تبلغ مبلغ عمله، والحمد لله الذي جعل الحج فرض العمر مرّة واحدة ولم يفرضه على التكرار، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ [البقرة: 195]، ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ [النساء: 29].

* * *

[72] رواه البخارى عن أبي هريرة. [73] رواه أحمد عن أبي هريرة.

(2) يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، واستسلمت جوارحه لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي رفع ببعثته عن أمته الآصار والأغلال، فشرع الأحكام، وبين للناس الحلال والحرام، وسكت عن أشياء رحمة منه غير نسيان. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان.

أما بعد، فإن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، بإرسال هذا النبي الصادق الأمين ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] وجعله رحمة لمن اتبعه وسعادة لمن تمسك بهديه، وقال: «بُعِثْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ»[74]فالدين الذي جاء به هو دين السهولة واليسر، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78]، وقال: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] وقال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨ [الأعلى: 8]، أي للشريعة التي تفضل غيرها بالسماحة واليسر، فمن رأفته وسماحة شريعته أنه يشق عليه كل ما يعنت أمته، وكان يقول لأصحابه: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا»[75]، ويقول: «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»[76].

وكل من تأمل شرائع الإسلام التي جاء بها عليه الصلاة والسلام وجدها في مواردها ومصادرها تفر من مضائق الشدة والعنت والعسر إلى فضاء السهولة واليسر.

فما من شيء من العبادات تشق على الناس مشقة زائدة على المعتاد إلا كان لها بدل من التيسير حاضر عتيد، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83].

فمن ذلك الصلاة التي هي آكد العبادات، لما كان من شروطها الطهارة بالماء وقد أعوز استعماله، إما لمشقة طلبه، أو لحبس الماء خوفًا على نفسه أو رفقته أو تضرر العضو العليل به، بحيث يخشى أن يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه، قام التيمم بدله. ومثله عادم الطهورين يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه، وكذا القيام في صلاة الفرض فإنه ركن من أركان صحة الصلاة، وينوب القعود عنه عند وجود ما يمنعه، ومثله صيام رمضان، فإنه أحد أركان الإسلام، وقد قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ [البقرة: 184]، ورخص للشيخ الكبير الذي يشق عليه الصيام فوق المشقة المعتادة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا. وكذا الحج، فإنه فرض في العمر مرة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ [آل عمران: 97].

وفسر الاستطاعة بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق، ونص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه أو أهله ولو بأخذ خفارة من ماله مجحفة، وقيل: أو غير مجحفة، وهكذا سائر العبادات ما قدر عليه منها فعَله، وما أعجزه سقط عنه، إما سقوطًا كليًّا أو إلى بدل، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء؛ لأن الشرائع منزلة على مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ لأنها إما مصلحة يُطلب جلبها وتكثيرها، وإما مفسدة يُطلب درؤها وتقليلها، فهي دائمًا تطلب الفعل فتعلله بما فيه من نفع، أو تنهى عنه لما فيه من ضر، وهذا الطلب وإن لم يكن مستمرًّا لفظًا، فإنه ثابت حقيقة ومعنى، إذ ليست العقول بقادرة على إدراك جميع أسرار الشرائع.

ولهذا نرى العلماء تختلف أفهامهم في حكمة الشيء الواحد، فيحكي كل واحد منهم الحكمة على حسب ما أدى إليه فهمه، فيفهمون الكلام في حكمة الشيء الواحد في ثلاثة أقوال أو أربعة أو أكثر، فيمكن إدراك تلك الأقوال أو بعضها لسر الحكمة، ويمكن عجزها عن إدراكها، فإن من أسرار الشرائع ما أمكن الناس الوصول إلى معرفته، ومنها ما عجزوا عن أسرار حكمته، لكنهم مع جهلهم بها يؤمنون بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا جازمًا ليس مشروطًا بعدم معارض، وإن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لم يخبر بما يكذبه العقل، ولم يشرع ما ينافي الميزان والعدل، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ [الأنعام: 115].

ومن ذلك سائر مناسك الحج ومشاعره، مثل التجرد عن الثياب للإحرام، والطواف والاضطباع فيه والرمل والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والحلق وغير ذلك. فهذه وإن خفي على الناس أسرار حكمتها، فإنها إنما شرعت لإقامة ذكر الله وطاعته، وتوجيه جميع المسلمين في صلاتهم وطوافهم إلى قبلة بيت ربهم واجتماعهم في البلد الحرام سواء العاكف فيه والباد والذي من دخله كان آمنًا، فيتذاكرون بهداية الإسلام والقيام بشرائعه على التمام، ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة وقبّل الحجر قال: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. [77]

وهكذا سائر أعمال الحج تجري على هذا المنهج كما روى الترمذي في صحيحه عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الجِمَارِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩ [البقرة: 198-199]، ويقول: ﴿۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ [البقرة: 203].

وقد حكى بعض العلماء الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة: حادي عشر، ثاني عشر، ثالث عشر، ويدل له حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة، أن أناسًا من أهل نجد جاؤوا إلى رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديًا ينادي: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ»، وقال: «وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» وأمر رجلاً ينادي بهن ليعرف الناس الحكم. [78]

وذكر الله المأمور به في هذه الأيام المعدودات يشمل الذكر والتكبير في أدبار الصلوات والتكبير عند نحر النسك، والتكبير والدعاء عند رمي الجمار، فهذه كلها داخلة في عموم الذكر المأمور به في الأيام المعدودات، وكان النبي ﷺ يخص الجمرة الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندها للدعاء والتضرع، ويقف الناس معه صفوفًا يدعون ويتضرعون، كما في صحيح البخاري عن ابن عمر، أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم فيُسهِل فيستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله يفعل.

وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو عند الجمار بدعائه الذي يدعو به بعرفة. وفي صحيح مسلم عن نبيشة الهذلي أن النبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وإنما خص الله الأمر بالذكر في هذه الأيام المعدودات من أجل أن الذكر هو روح الدين، وإنما شرع الرمي للتذكير به، وقد حكى بعض العلماء أنه إنما شرع الرمي حفظًا للتكبير، فمن تركه وكبّر أجزأه، رواه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها، وإنما خص النبي ﷺ طول الوقوف عند الجمار للدعاء والتضرع حتى قيل: إنه وقف بقدر سورة البقرة. كله من أجل أن رمي الجمار ختام عمل الحج، فهو يدعو ويتضرع بقبول عمله، وكذلك أصحابه وقفوا صفوفًا يدعون ويتضرعون، فهذا المشعر الذي شرع للدعاء والتضرع وللذكر والتكبير قد انقلب إلى تزاحم وتلاكم وتدافع وخطر على الأرواح كبير، وصار الناس يذهبون إليها وهم متذمرون للمدافعة وقصد المغالبة، يؤيد بعضهم بعضًا، وصار أكثر الناس لا يباشرون الرمي بأنفسهم خوفًا على حياتهم، وإنما يستنيبون الأقوياء الجلداء في الرمي عنهم، وأكثرهم تقع جمارهم بعيدة عن الأحواض من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.

ومن شرط صحة الرمي العلم بحصول الجمار في المرمى، كما نص على ذلك الفقهاء، وليس كذلك الزحام في الطواف، فإن الناس يسيرون فيه ولا يقفون، وكل المسجد الحرام مجال للطواف وليس الطواف محصورًا بوقت دون وقت، بخلاف رمي الجمار، فإن الجمع كثير وحوض المرمى صغير، وزمن الرمي قصير، وكل واحد يقف حتى يتمم رمي جماره واحدة بعد أخرى.

فهذا العمل بهذه الصفة قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق، لكون هذا الوقت القصير لا يسع أداء واجب الخلق الكثير.

ثم إن هذا التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا القياس ولا الإجماع، فلا تجوز نسبة القول به إلى الشرع أو إلى الدين، مع عدم ما يدل على صحته، وصار الحكم بالإلزام به مستلزمًا للعجز عنه، إذ هو من تكليف ما لا يستطاع، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286].

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[79] فلا يقول بالإلزام به في مثل هذا الزمان إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم:
إذا شئتَ أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فَمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر

[74] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [75] أخرجه مسلم من حديث أنس. [76] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [77] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [78] أخرجه النسائي والترمذي من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. [79]متفق عليه من حديث أبي هريرة.

تعاليم النبي لأحكام الحج قولاً منه وفعلاً

والنبي ﷺ قد بين للناس في حجهم جميع ما يحتاجون إليه، وما يجب أن يفعلوه وما ينبغي أن يتقوه، فحدد لهم المواقيت الزمانية والمكانية، وحدد لهم الوقوف بعرفة زمانه ومكانه، فقال: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ»[80]، وقال: «مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ»[81] وقال: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، مَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»[82]، ونهى أن تصام هذه الأيام إلا لمن لم يجد الهدي، وقال: «مِنًى مُنَاخُ[83] لِمَنْ سَبَقَ»[84]، وقال: «فِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ»[85]، وقال: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»[86].

خطب بهذا في المدينة، لكنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، قال: سمعت رسول الله يخطب بعرفة يقول: «السَّرَاوِيلَاتُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ»، وروى مسلم عن جابر بلفظ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَاراً؛ فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ»، ولم يذكر قطع الخفين، وهذا هو آخر الأمرين من رسول الله ﷺ، وقال في الذي وقَصَتْه ناقته بعرفة فمات: «غَسِّلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ - أو قال: في ثوبين -، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَجَنِّبُوهُ الطِّيبَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[87].

وروى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي، قال: خطبنا رسول اللهﷺ ونحن بمنى ففتحنا أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع إصبعيه السبابتين، ثم قال: «بِحَصَى الْخَذْفِ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِثْلِ حَصَى الَخَذَفِ - فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ» إلى غير ذلك من التعليمات الكافية الشافية.

فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لحذر منه النبي ﷺ أمته، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وهذا واضح جلي، لا مجال للشك في مثله.

والذي جعل الأمر يشكل على بعض الناس هو أن النبي ﷺ إنما حج حجة واحدة، من أجل أن قريشًا صدته عن الحج فلم تمكنه من دخول مكة حتى فتحها عام ثمانية من الهجرة، وفي السنة التاسعة أمر رسول الله ﷺ أبا بكر بأن يحج بالناس، وأمر عليًّا - رضي الله عنه - بأن ينادي في الناس بسورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد فأجله إلى مدته، قال تعالى: ﴿أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ [التوبة:3].

* * *

[80] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عباس. [81] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الرحمن بن يعمر. [82] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الرحمن بن يعمر. [83] مُناخ: أي موضع إناخة الإبل، والمقصود عدم جواز البناء في منَى؛ لأنها موضع العبادات من رمي وذبح وحلق، حتى لا يضيق على الحجيج. [84] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة [85] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح من حديث جابر. [86] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [87] متفق عليه من حديث ابن عباس.

صفة حج النبي ﷺ

وفي السنة العاشرة أذن في الناس أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويعمل مثل عمله، فخرج رسول الله ﷺ من المدينة حتى نزل ذا الحليفة وبات بها حتى طلعت الشمس ثم اغتسل وتطيب، قالت عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. لهذا كان يُرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم، ولبس ثياب إحرامه إزارًا ورداء، ثم صلى ركعتين في مسجد ذي الحليفة، وتسمى بركعتي الإحرام، ثم أهلّ بالتوحيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»، وأهلَّ الناس بالذي يهلون به ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.

وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، وأرسلت إلى رسول الله ﷺ: كيف أصنع؟ فقال: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي»[88].

ثم إنه لقي ركبًا بالروحاء، فقال: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» فرفعت امرأة إليه صبيًّا، فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»[89].

واعترضت له امرأة من خثعم، وقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»[90]. وذلك في حجة الوداع، وسألته امرأة من جهينة وقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: «نَعَمْ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»[91].

وسميت هذه الحجة بحجة الوداع لكونه ودع الناس فيها وقال: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا»[92]، وأنزل الله عليه بعرفة يوم الجمعة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ [المائدة: 3]، كما أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [سورة النصر]، وفي هذه السورة الإشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسرها بذلك ابن عباس.

ولهذا توفي النبي ﷺ بعد حجته ببضعة وثمانين يومًا، وكان غالب من حج مع النبي ﷺ هم أهل المدينة ومن حول مكة من الأعراب؛ لكونه لم يُفتح في زمنه شيء من البلدان ما عدا الطائف.

ولهذا يعد العلماء تحديد المواقيت من معجزات نبوته، حيث حددها قبل إسلام أهلها، فوقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، فمن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ولهذا قال ابن عبد القوي:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
فالناس لا يعرفون أحكام حجة الإسلام إلا من طريقه ﷺ فهم يتبعونه في سائر أفعاله من الواجبات والمستحبات، كما يتبعونه في الصلاة، ولهذا توسع الخلاف جدًّا بين الأئمة وفقهاء المذاهب في مسائل الحج كلها اختلافًا لا يعهد له نظير في سائر العبادات، اختلفوا في إحرام رسول الله ﷺ، فمنهم من قال: أحرم مفردًا. ومنهم من قال: أحرم متمتعًا. ومنهم من قال: أحرم قارنًا. واختلفوا في إحرام التمتع، فمنهم من قال باستحبابه، ومنهم من قال بمنعه، واختلفوا في السعي بين الصفا والمروة، فمنهم من قال: هو ركن. ومنهم من قال: هو واجب. ومنهم من قال: مستحب. واختلفوا هل يجب على المتمتع طوافان وسعيان أم يكفيه طواف واحد وسعي واحد كالقارن، إلى غير ذلك من الاختلاف.

والأمر الثابت عن رسول الله ﷺ أنه تجرّد لإحرامه واغتسل وتطيب ثم أحرم ولبى قارنًا، وكذا أمر عائشة، حين حاضت (بسَرِف) بأن تدخل عمرتها على الحج حتى تصير قارنة، وأن تفعل ما يفعل الناس غير ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»[93]. وطاف رسول الله طواف القدوم وطاف الناس معه، ثم صلى ركعتي الطواف بالمقام، ثم خرج إلى الصفا فسعى بين الصفا والمروة سبعًا، وعند انتهائه قال لأصحابه عند المروة: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» حتى قال سراقة بن مالك بن خثعم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لَا، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[94]. فحل الناس كلهم وقصروا إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، حتى قال رجل: يا رسول الله، الحل ماذا؟ فقال: «الْحِلُّ كُلُّهُ»[95] فحلوا من إحرامهم ولبسوا ثيابهم ودارت المجامر بينهم، وأوجب الله عليهم عن هذا الترفه والتمتع ذبح هدي لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.[البقرة: 196].

وفي اليوم الثامن أحرم بالحج كل الذين حلوا من إحرامهم وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها، حتى إذا كان يوم عرفة أتى إلى نمرة، حتى إذا زاغت الشمس صلى بالناس الظهر والعصر جمع تقديم بأذان وإقامتين، ثم خطب الناس وعلمهم كيفية حجهم من وقوفهم وانصرافهم، ولم يزل واقفًا بعرفة يدعو ويتضرع حتى غابت الشمس، فانصرف وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحل رسول الله ﷺ وهو يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» [96]. كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء قصرًا وجمعًا بأذان وإقامتين، ورخص رسول الله للضعفة وللنساء أن يدفعن قبله ليلاً، وبات هو وأصحابه بمزدلفة حتى وصلوا بها الفجر، ثم وقف يدعو ويستغفر الله حتى أسفر جدًّا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى منى، فبدأ برمي جمرة العقبة فرماها ضحى بسبع حصيات وهو على راحلته، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه (وعدده مائة بدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بدنة بيده وكن يزدلفن بين يديه، أي تبرك الناقة قبل الأخرى، ووكل عليًّا فنحر الباقي)، ثم حلق رأسه ثم حل من إحرامه، ولبس ثيابه وتطيب.

ثم خطب الناس يوم العيد وبين لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وجعل الناس يسألونه، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». فبعد أن أكل من لحم هديه، وشرب من مرقه، ركب راحلته ودفع إلى مكة والناس معه، فطاف بالبيت طواف الإفاضة، وصلى ركعتي الطواف عند المقام، ثم أتى بني عبد المطلب، وهم يسقون في زمزم، فقال: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم[97]، ثم صلى بالناس الظهر في المسجد الحرام قصرًا، وقال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[98]، ثم رجع إلى منى وبات فيها.

وفي اليوم الثاني جعل الناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ» حتى قال رجل: يا رسول الله، رميت بعدما أمسيت، فقال: «ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ» رواه البخاري من حديث ابن عباس، والليل يدخل في مسمى المساء. حتى إذا زالت الشمس قام لرمي الجمار وقام الناس معه، فبدأ بالجمرة الأولى فرماها بسبع حصيات، ثم وقف عندها طويلاً يدعو ويتضرع، ووقف الناس صفوفًا يدعون ويتضرعون، ثم رمى الثانية مثل ذلك ووقف عندها طويلاً يدعو ويتضرع، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها، قيل: من أجل ضيق المكان. ثم انصرف إلى مسجد الخَيْف فصلى بالناس الظهر ركعتين قصرًا من غير جمع؛ لأن من هدي رسول الله ﷺ أنه كان يقصر الصلاة في منى ولا يجمع، وإنما يصلي كل فرض في وقته، قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ففعل في اليوم الثاني والثالث مثل ذلك، يرمي الجمار بعد الزوال ثم ينصرف إلى مسجد الخَيْف فيصلي بالناس الظهر، وكأنه حاول الرفق بالناس ليخرج بهم مخرجًا واحدًا لرمي الجمار وللصلاة في مسجد الخَيْف لكون حجه صادف شدة حر، حتى إن بلالاً يظلله عن الشمس عند الجمار. ولهذا نرى كثيرًا من الفقهاء يذكرون في كتبهم استحباب الصلاة بعد رمي الجمار في مسجد الخَيْف، تأسيًا بفعل النبي وأصحابه، ثم إنه عمِلَ الخلفاءُ الراشدون بمثل عمله، يرمون الجمار بعد الزوال ثم يصلون صلاة الظهر في مسجد الخَيْف.

ثم أخذ أمراء الحج من بني أمية وبني العباس يعملون بمثل ذلك، ثم استمر عمل الناس على ذلك؛ لأن مجموع الحاج كانوا قليلين بالنسبة إلى هذه السنين، فيختارون للرمي من الوقت أفضله، ويتمكنون من القيام بمشروعيته: الدعاء والتضرع، والذكر والتكبير عند هذا المقام من أجل قلتهم وسعة المكان، وقبل أن يوجد في منى شيء من البنيان.

* * *

[88] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [89] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عباس. [90] أخرجه النسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس. [91] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [92]أخرجه أبو يعلى من حديث جابر. [93] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [94] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [95] متفق عليه من حديث جابر. [96] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [97] أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله. [98] أخرجه الطيالسي في مسنده من حديث عمران بن حصين.

اتفاق أئمة المذاهب على القول بالرمي أيام التشريق بعد الزوال

إن في القرن الثاني من خلافة بني العباس، عند ابتداء تدوين العلم والحديث والفقه، قرر الفقهاء في كتبهم تحديد الرمي في أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب اجتهادًا منهم في ذلك، وأخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به والحكم بموجبه، حتى انتشر في كتب الأصحاب من سائر المذاهب، وحتى صار عند كثير من الناس بمثابة الأمر الواجب، ودليلهم في ذلك ما روى البخاري عن جابر قال: رمى النبي ﷺ يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس. وعن ابن عمر وعائشة بمعناه، كلها أحاديث صحيحة، لكنها ليست بصريحة في الدلالة على التحديد بما ذكروا.

لهذا ظن من ظن أن هذا حكم عام لازم للناس في جميع الأحوال والأزمان، وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزئه.

وخفي عليهم أن هذا التحديد جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء، يؤجرون على اجتهادهم فيه ولا يجب أن يتابعوا عليه، إذ ليس بلازم أن يقبل ما يقوله الفقيه بدون دليل يؤيده، ولا قياس يعضده، لكون التحديد بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لاسيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظر يقاس عليه، ولو فرض أنهم وجدوا دليل ابتدائه بالزوال، استنادًا واستدلالاً بفعل رسول الله ﷺ وأصحابه، لن يجدوا دليل انتهائه بالغروب؛ لأنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير لم نجد عن النبي ﷺ حديثًا صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًا، يأمر فيه بتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب حتى نلتزم العمل به طاعة لله ورسوله، ومع عدمه فإنه لا يجوز لنا أن نسمي ما قبل الزوال وقت نهي بدون أن ينهى عنه رسول الله ﷺ.

وغاية الأمر أنه مسكوت عنه رحمة منه بالناس، كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[99]. والنبي ﷺ رمى الجمرة يوم العيد قبل الزوال، ثم رمى بقية أيام التشريق بعد الزوال، ففعْلُه في هذا وهذا هو مشروع منه بسعة وقته لأمته، تأجل العمل بالرمي به إلى وقت الحاجة إليه، فمن قال باختصاصه قبل الزوال بيوم العيد دون أيام التشريق استدلالاً واستنادًا منه إلى فعل النبي ﷺ لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة يوم العيد، كما فعل رسول الله ﷺ، ولزمه أن يقول بوجوب الحلق يوم العيد ضحى، ووجوب النحر يوم العيد ضحى، كما فعل رسول الله ولم يقل بذلك أحد، بل جعله العلماء موسعًا يفعل في أي ساعة من أيام التشريق ليلاً ونهارًا، وكذلك الرمي إذ هو نظيرها في الحكم والوجوب، إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال إلى الغروب كان على المؤمنين كتابًا موقوتًا، كيف والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد وخطبهم في أوسط أيام التشريق، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[100]. وهذا النص قاطع للنزاع ودافع للخلاف إلى مواقع الإجماع.

وأما اختياره لما بعد الزوال للرمي في أيام التشريق، فقد ذكرنا سببه، وأنه أراد أن لا يحرج أمته، بل يخرج بهم مخرجًا واحدًا لرمي الجمار ولصلاة الظهر في مسجد الخَيْف، لكون حجه صادف شدة الحر، على أن هذا فعْل، والفعل لا يقتضي تحديد المفعول فيه بمجرده، لكون الأفعال الصادرة من رسول الله ﷺ موقوفة على دلائلها، فما كان منها للوجوب صير إليه أو للاستحباب صير إليه أو للإباحة صير إليه.

ثم إن القائلين بوجوب الرمي بعد الزوال، وأنه لو رمى قبل الزوال فعليه دم؛ استدلالاً بحديث جابر أن النبي ﷺ رمى جمرة العقبة يوم العيد ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس[101]. فإنهم يخالفون هذا الحديث نفسه، حيث يرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء، عملاً بظاهر المذهب من أنه يجوز رميها بعد نصف الليل، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز رميها بالليل، ولا يعتد به؛ لما روى أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: أرسلنا رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُراتٍ لنا من جمع بليل، فجعل يلطح على أفخاذنا ويقول: «أَيْ بَنِيَّ، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» قال الترمذي: حديث صحيح، وهذا النص يقتضي المنع لكون الرمي لجمرة العقبة يعتبر من عمل يوم العيد أشبه النحر والحلق، ولأنه عمل يفعل قبل التحلل من الحج، فناسب الاحتياط فيه، ولهذا خرج النهي مخرج الزجر عنه، وإنما رخص للنساء في الرمي بالليل من أجل ضعفهن عن مزاحمة الناس.

قال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن: إن حديث ابن عباس هو أصح من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت[102]، لأن ابن عباس من جملة المدفوعين وقد جرى الحديث على يده، فهو أعرف الناس به، وحديث أم سلمة فيه اضطراب، ثم على تقدير فرض صحته، فإن الجمع بين الحديثين ممكن، وإن وقت الرمي يدخل بطلوع الشمس في حق من لا عذر له من الصبيان والرجال، أما النساء فإنه يجوز لهن الرمي قبل طلوع الشمس للخوف عليهن من زحمة الناس.. انتهى.

ويدل له ما في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر، أنها دفعت ليلة جمع من مزدلفة بعدما غاب القمر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم رجعت فصلت الصبح وقالت: إن رسول الله أذن للظُّعُن[103]. والمقصود أن هؤلاء الذين يدفعون من مزدلفة بالليل ويرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء قد خالفوا في سُنَّتين صحيحتين من سنن الحج:

إحداهما: دفعهم بالليل وهو خلاف عمل رسول الله ﷺ وعمل خلفائه وأصحابه، كما أنه خلاف نص القرآن في قوله: ﴿لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩ [البقرة: 198-199]، والناس هم الرسول وأصحابه، وإنما أفاضوا من مزدلفة بعدما صلوا الصبح بغَلَس، ثم وقفوا يذكرون الله ويستغفرونه ويدعونه، ثم دفعوا إلى منى بعدما أسفروا جدًّا.

والمخالفة الثانية: رميهم جمرة العقبة بالليل، وقد نهى رسول الله ﷺ عن ذلك بصيغة الزجر، وقال: «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»[104].

والمخالفة الثالثة: طوافهم للإفاضة الذي هو ركن الحج بالليل من ليلة العيد، وإنما طاف رسول الله وأصحابه ضحى يوم العيد، فتساهلوا فيما ينبغي الاحتياط فيه وشددوا فيما ينبغي التساهل فيه، فإن رمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج فناسب التسهيل فيه وعدم التشديد.

فبما أنه ثبت عن رسول الله ﷺ أنه نحر يوم العيد ضحى، وحلق يوم العيد ضحى، وطاف طواف الإفاضة يوم العيد ضحى، وسكت عن التحديد فجعله العلماء موسعًا يُفعل في أي ساعة من أيام التشريق، فكذلك الرمي، ويدل لذلك ما روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر عن وبرة قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ فقال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدتُ عليه المسألة، فقال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا. فهذا ابن عمر الذي هو أحرص الناس على اتباع السنة قد أحال هذا السائل على اتباع إمامه فيه عند أول سؤاله، لعلمه بسعة وقته، ولو كان يرى أنه محدد بالزوال كوقت الظهر لما وسعه كتمانه؛ لأن العلم أمانة، ولأنه لو سأله سائل فقال: متى أصلي الفجر ليلة المزدلفة؟ لم يجز أن يقول: إذا صلى إمامك فصلِّ؛ لكونه يعرف أن من الأئمة من يؤخر الصلاة عن وقتها، وقد يقدمها قبل وقتها كما أخبر النبي عنهم، وكذلك الرمي، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولم يكن من كلام رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

فإن التحديد بهذا الزمن القصير قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق حتى شغلتهم شدة الزحام عن الذكر والتكبير وعن الدعاء والتضرع عند هذا المقام، بل وعن العلم بوقوع الجمار في موقعها المشروع من الأحواض، وهذا الزحام من المحتمل أن يزداد عامًا بعد عام، متى كان التحديد على هذه الحال، وذلك لعوامل تساعد على ذلك لم تكن معروفة في السنين السابقة، فمنها فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة، وكأن عواصمها بيوت متقاربة، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشيء قبل وقوعه، كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلاً، أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ، وَتَقَارُبُ أَسْوَاقٍ»، وفي البخاري: «من أشراطها تقارب الزمان»[105]، وليس من الممكن أن يفسر (تقارب الأسواق) بانضمام الأرض بعضها إلى بعض، ولكن بالآلات البرية والبحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات والتي كان الناس قبلها يقاسون الشدائد في الأسفار، يسيرون المدة الطويلة من الزمان ولا يبلغون منتهى قصدهم من وصول مثل هذه الديار، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار، وما يلاقونه من المخاوف والأوجال، لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفًا للأغراض، ونهبًا للأعراب، يعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم الأعمال، ولا يعولون عليه في منع هذا الظلم المستمر سوى تعززهم بالخفراء المستأجرين، على أنه لا يدفع عنهم الخطر بجملته، لكنه قد يقلله ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين بالنسبة إلى هذه السنين؛ لأنه لا يحج في الغالب إلا الناس المعدودون بالقرب من مكة، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر، لبعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق، فهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلا.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها
قلل الجبال ودونهن حتوف
الرِّجل حافية وما لي مركب
والكف صفر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات، ودكت عقبات التعويق وقطع دابر قطاع الطريق، وزد عليه حصول الأمن المستتب في أنحاء الحرم وسائر السبل المفضية إليه حتى إن الناس فيه آمَنُ منهم في أوطانهم، فمن أجله وفد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون وهم من كل حدب ينسلون وفي كل زمان يزيدون فاشتد الزحام عند هذا المقام وشق الرمي على الخاص والعام، من أجل أن الفقهاء حددوه بما بين الزوال إلى الغروب، وهو لا يسع الخلق الكثير فصار من تكليف ما لا يستطاع، وأن القول به مستلزم للعجز عنه في هذا الزمان. والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ومن المعلوم أن للفقهاء - رحمهم الله - تحديدات وتقييدات يستيقن العلم الصحيح نفيها، ويقوى في القياس ضعفها، كما حددوا مسافة السفر المبيح للقصر بيومين، وكما حددوا الإقامة الموجبة لإتمام الصلاة بأربعة أيام، وكما حددوا صحة الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها، إلى غير ذلك من التحديدات والتقييدات التي لا أصل لها.

وتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب هو نوع من ذلك، وقد خطب النبي ﷺ يوم عرفة ثم يوم العيد، ثم أوسط أيام التشريق، وبيَّن للناس ما يحتاجون إليه، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»، حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعدما أمسيت؟ فقال: «ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ». رواه البخاري من حديث ابن عباس، والليل يدخل في مسمى المساء.

فنفى رسول الله ﷺ وقوع الحرج من كل ما يفعله الحاج من التقديم والتأخير لأعمال الحج التي تُفعل في يوم العيد وأيام التشريق.

وهذا الحكم قاطع للنزاع، يعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة وارد مورد التشريع العام، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.

وأما الاستدلال باستمرار عمل الناس على الرمي بعد الزوال زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه وأصحابه إلى هذه السنين.

فجوابه: أننا لا ننكر أن ما بعد الزوال هو أفضل ما يرمى فيه لو وسع الناس كلهم، لكننا لا نقول بفرضه فيه، وإنما غاية ما يقال: إن ما بعد الزوال هو وقت فضيلة، وما قبل الزوال وبالليل وقت إباحة، أشبه الوقوف بعرفة، فإن ما بعد الزوال إلى الغروب هو أفضل ما يوقف فيه اقتداءً بفعل رسول الله ﷺ وفعل خلفائه وأصحابه، والليل كله إلى فجر يوم العيد وقت إباحة للوقوف، وإن لم يستمر عليه عمل الناس.

والحالة الآن هي حالة ضرورة توجب على العلماء والحكام إعادة النظر فيما يزيل هذا الضرر ويُؤَمِّن الناس من مخاوف الخطر الحاصل من شدة الزحام والسقوط تحت الأقدام، إذ شدة هذا الزحام تزداد عامًا بعد عام، كما أنها لو ضاقت منى عن مناخ الناس كان من الجائز أن ينزلوا بما قرب منها، حتى ولو في وادي محسر؛ لأن ما جاور الشيء يعطى حكمه، كما قالوا في زوايد المسجد الحرام على حدوده السابقة، بأن حكم الزائد حكم المزيد في الحد والفضيلة.

ولأن المقصود من نزول منى هو إتمام أعمال الحج المتعلقة في مثل النحر والحلق والرمي، ولأنها حالة ضرورة، وقد قيل: إن الحاجة هي أم التحقيقات، وللضرورة حالات، ويتعلق بها أحكام غير أحكام السعة والاختيار.

ولو فكروا في نصوص الدين بإمعان ونظرٍ لوجدوا فيه الفرج من هذا الحرج؛ لأن نصوص الدين كفيلة بحل كل ما يقع الناس فيه من الشدات والمشكلات، يؤكده أن الرمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج، بحيث يباح للحاج أن يفعل كل شيء من محظورات الإحرام حتى النكاح، ولكون الإنسان إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه فقد تحلل التحلل الأول لحديث عائشة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيْبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ». رواه أبو داود. فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث لو مات لحكم بتمام حجه، فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد، إذ هي من فروع المسائل الاجتهادية، يوضحه أن الفقهاء من الحنابلة والشافعية قالوا: إنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد فرماها في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأت أداء؛ لاعتبار أن أيام منى كلها كالوقت الواحد، قاله في المغني والشرح الكبير، وكذا في الإقناع والمنتهى، وهو المذهب، وحكى النووي في المجموع: أنه الظاهر من مذهب الشافعي.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن أيام منى كالوقت الواحد حسبما ذكروا، فإذًا لا وجه للإنكار على من رمى قبل الزوال والحالة هذه، فإن من أنكر الرمي قبل الزوال أو بالليل بحجة مخالفتها لفعل النبي ﷺ وفعل أصحابه، وقال بجواز رميها مجموعة في اليوم الثالث، فإنه من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه، فإن رمي كل يوم في يومه ولو قبل الزوال أقرب إلى إصابة السنة، بحيث يصدق عليه أنه رمى في اليوم الذي رمى فيه رسول اللهﷺ، لاسيما إذا صحب هذا الرمي ما يترتب عليه من الذكر والتكبير والدعاء والتضرع، بخلاف جمعها ثم رميها في اليوم الثالث في حالة الزحام، حتى لا يدري أصاب الهدف أم وقعت بعيدًا منه، فإن جمعها ثم رميها في اليوم الثالث إنما ورد في حق المعذورين برعاية الإبل من أجل غيبتهم عن منى، على أن كُلًّا من الأمرين صحيح إن شاء الله، لدخول الناس كلهم في واسع العذر بداعي مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.

وكل من تأمل الفتاوى الصادرة من النبي ﷺ بعد التحلل الثاني يجدها تتمشى على غاية السهولة واليسر، فقد استأذنه العباس في أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له، على أن هذا الإذن مستلزم لترك واجبين وهما المبيت والرمي، ولم يأمره في أن يستنيب من يرمي عنه ولا من يسقي عنه، على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة، وقيل له: إن صفية قد حاضت، قال: «فَهَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟». قالوا: نعم، قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذًا»[106]. فأسقط عنها طواف الوداع وهو معدود من الواجبات، ولم يأمرها في أن تستنيب من يطوف بدلها، ورخص لرعاة الإبل في المبيت عن منى، بأن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا جمار الأيام الثلاثة يرمونها يوم النفر في أي ساعة شاؤوا من ليل أو نهار.

واختلف العلماء في المعذور مثل المريض الذي لا يستطيع الرمي والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وكل من لا يستطيع الوصول إلى الجمار: هل يسقط عنه الرمي سقوطًا كليًّا أم يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه؟ فعند الفقهاء من الحنابلة والشافعية أنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه كالمعضوب، فإن لم يفعل فعليه دم، وبنوا على ذلك كون العذر في المبيت يسقط الإثم والدم، والعذر في الرمي يسقط الإثم دون الدم، وهذا تفريق بين متماثلين لا يقتضيه النص ولا يوافقه القياس، فإن النبي ﷺ لم يأمر العباس في أن يستنيب من يرمي عنه، ولم يأمر الحائض في أن تستنيب من يطوف عنها طواف الوداع، وهو معدود من الواجبات.

على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة؛ يؤكده أن ما تُرك من الواجبات للعذر وعدم القدرة على الفعل، فإنه بمنزلة المأتي به في عدم الإثم، ولأن الدم إنما يجب في ترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهذا لم يترك مأمورًا ولم يفعل محظورًا باختياره، وإنما تركه عجزًا، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[107]؛ لأن الله سبحانه إنما أوجب فرض الحج على المستطيع، وقد نص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه، أو أهله، أو ماله، فإذا كان هذا السقوط في أصل الحج فما بالك بفرعه، ولأن العبادات كلها ما قدر عليه منها فعله وما أعجزه سقط عنه، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء؛ ولهذا تجب الصلاة بحسب الإمكان، وما عجز عنه من شروطها وواجباتها سقط عنه. على أن شروط الصلاة وواجباتها آكدُ من شروط الحج وواجباته، فإنه لو ترك شيئًا من واجبات الصلاة عمدًا بطلت صلاته، بخلاف لو ترك شيئًا من واجبات الحج عمدًا، فإنه لا يبطل بذلك حجه ويجبره بدم.

وأما الاستدلال على وجوب الاستنابة بحديث جابر قال: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ. رواه أحمد وابن ماجه، فهذا لا يدل على الوجوب قطعًا، فإن أصل الحج لا يجب على الصبي وكذلك فرعه، ولأن التلبية عنهم ليست بواجبة وكذلك الرمي، وغاية الأمر أن يقال: إن استنابة المعذور من يرمي عنه أحوط خروجًا من خلاف من قال بوجوبه.

وأما الاستدلال بحديث: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[108]، وأن الرمي بعد الزوال هو من المناسك التي فعلها النبي ﷺ والتي أمر أن تؤخذ عنه.

فالجواب: أن هذه كلمة جامعة، فإن المناسك التي نسكها رسول الله ﷺ والتي أمر أن تؤخذ عنه تشمل الواجبات والمستحبات مثل الاغتسال للإحرام، والتلبية، والاضطباع في الطواف، والرمل، وتقبيل الحجر، وصلاة ركعتي الطواف، وغير ذلك من العبادات التي نسكها رسول الله في حجه وهي من المستحبات، وكل من عرف قواعد الشريعة وأصولها المعتبرة وما تشتمل عليه من الحكمة والمصلحة والرحمة ومنافاتها للحرج والمشقة؛ عرف حينئذ تمام المعرفة أن في الشريعة السمحة ما يخرج الناس عن هذه الشدة والمشقة التي يعانيها الناس عند الجمار؛ لأن الدين عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية، ومن قواعده أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78]، وقال: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185].

فهذه المشقة التي يعانيها الناس عند الجمار لا يجوز نسبة القول بها إلى الشرع، إذ لا دليل على هذا التحديد لا من الكتاب ولا من السنة ولا قياس ولا إجماع. غاية القول فيها أنه جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء الذين ليسوا بمعصومين من الخطأ، وليس من كلام رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فإن رمي النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيما بين الزوال إلى الغروب هو بمثابة وقوفهم بعرفة فيما بين الزوال إلى الغروب، على أنه لم ينته بذلك حد الوقوف، بل الليل كله وقت للوقوف.

وبما أن الرمي من واجبات الحج، فإنه يتمشى مع نظائره من الواجبات مثل النحر والحلق والتقصير فيدخل بدخولها في الزمان، ويجاريها في الميدان، إذ الكل من واجبات الحج التي يقاس بعضها على بعض عند عدم ما يدل على الفرق، وقد دلت نصوص الشريعة السمحة على أن الصواب في مثل هذه المسألة هو وجوب التوسعة، وعدم التحديد بالزوال، بل يجوز قبله وبالليل، كما دلت عليه نصوص طائفة من العلماء، فلم تُجمع الأئمة - ولله الحمد - على المنع ولا على وجوب هذا التحديد، إذ كانوا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى الرسول، فيتبين لهم بذلك كمال دين الله وحكمة شريعته وكونه صالحًا لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في شؤون عباداتهم من حجهم وصلاتهم وصيامهم.

وبالجملة، فإن القول بجواز الرمي أيام التشريق قبل الزوال مطلقًا هو مذهب طاوس وعطاء، ونقل في التحفة عن الرافعي أحد شيخي مذهب الشافعي الجزم بجوازه، قال: وحققه الأسنوي وزعم أنه المعروف مذهبًا.

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال للمستعجل مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد، ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمْيُ متعجل قبل الزوال، قال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال، وقال في الواضح: ويجوز الرمي بعد طلوع الشمس في الأيام الثلاثة، وجزم به الزركشي، ونقل في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل أو أية ساعة من النهار، قال الموفق في كتابه الكافي: وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم، قال: فيرمون كل يوم في الليلة المستقبلة، قال في الإنصاف: وهذا هو الصواب، وقاله في الإقناع والمنتهى وهو المذهب.

فعلم من هذه الأقوال أن للعلماء المتقدمين مجالاً في الاجتهاد في القضية وأنهم قد استباحوا الإفتاء بالتوسعة، فمنهم من قال بجواز الرمي قبل الزوال مطلقًا، أي سواء كان لعذر أو لغير العذر، ومنهم من قال بجوازه لحاجة التعجل، ومنهم قال بجوازه لكل ذي عذر، كما هو الظاهر من المذهب، فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وآكدُ من كل عذر، فيدخل فيه جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب، والنبي ﷺ ما سئل يوم العيد ولا في أيام التشريق عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج»[109] فلو وجد وقت نهي غير قابل للرمي أمام السائلين لحذرهم منه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، فسكوته عن تحديد وقته هو من الدليل الواضح على سعته، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين عن الخطأ ولم يكن من كلام من لا ينطق عن الهوى. فإن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوا الله على عافيته ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

حرر في 5 شعبان عام 1393هـ.

[99] رواه الدارقطني والطبراني في المعجم الكبير عن أبي ثعلبة. [100] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو. [101] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث جابر. [102] أخرجه البيهقي في السنن الصغرى من حديث عائشة. [103] الظُّعُن: النساء، واحدتها: ظعينة. والحديث متفق عليه من حديث أسماء. [104] أخرجه أصحاب السنن من حديث ابن عباس. [105] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [106] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [107] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [108] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث جابر. [109] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.

الحكم في لحوم الهدايا التي تذبح بمنى في موسم الحج

الحمد لله ونستعين بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد:

فإنني رأيت في جريدة الأهرام أقوالاً متعددة صادرة من علماء بلدان متباعدة كلها تحوم حول موضوع دماء المناسك والهدايا التي تذبح بمنى وقت موسم الحج، وينددون بأن تركها بعضها فوق بعض أنه إضاعة للمال، وينددون كما يُرددون بأن إهمالها بهذا الوضع أنه من مناهي الشرع، ويُنحون بالملام على تركها بهذه الصفة، وينقل بعضهم عن بعض صورة البشاعة والشناعة، وقد قلد بعضهم بعضًا في الحملة عليها، وهم مجتهدون ويغفر الله لنا ولهم.

وإن المشكلة كل المشكلة فيها هو شدة الزحام حيث يطأ بعضهم بعضًا بالأقدام، والذي لم يُعهد له نظير في شيء من الأزمان أو البلدان، حتى لو كان بين الرجل وبين ذبيحته عشرة أقدام لما استطاع الوصول إليها بالسهولة، ولا ما تمكن من حملها إلى محله، والحجّاج في يوم العيد هم أجوع ما يكونون للحم لعدم توفره لديهم وعدم قدرتهم على الوصول إليه وعلى حمله إلى منازلهم؛ لهذا يشتد شوقهم إلى أكل اللحم في يوم العيد، وينظرون إليه نظر الحِدأة، ولا يُسعَد بالتنعم بأكله في خاصة هذا اليوم إلا الجُلداء الأقوياء الذين يشقون الصفوف الزحام ويخوضون الدماء بالأقدام، فينقلون منه ما يشتهون أكلاً وادخارًا وبيعًا، غير أن الذبح والسلخ والتنظيف ليس من الشيء الهيّن، ولا كل أحد يستطيعه، فيأخذ أحدهم في عملية الذبح والسلخ والتنظيف والتقطيع قدر ساعة كاملة، فما بالك بالملايين من ذبح الإبل والبقر والغنم إذ تنظيمها في مثل هذا المكان الضيق والوقت القصير مُشق إلى حد النهاية، فهم يعجزون كل العجز عن توصيل هذه اللحوم إلى الحجاج في منى وإلى الفقراء من أهل مكة، ولا شك أن المطالبة بذبحها وسلخها وتنظيفها أنه أشق، إذ هو من تكليف ما لا يُستطاع، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولو فرضنا أن الحكومة عملت عملها في تنظيم هذه اللحوم لتوزيعها فلا شك أن فقراء الحرم هم أحق بها وأهلها، إذ هم المخصوصون بها في كتاب الله وسنة رسوله فلا معنى لعدولها عنهم.

ولو وزِّعت هذه اللحوم المركومة لما وَسِع الشخص الواحد من الحجاج مثقال بيضة من اللحم، وقد أدخل علماء السنة الذبح في عقائدهم، فقرّروا أن من الشرك بالله الذبح لغير الله؛ لقوله سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، وقوله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ [الأنعام: 162-163]، وعن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ». رواه مسلم.

إن الأمم في قديم الزمان كانوا يقدمون قرابين من الإبل ومن البقر والغنم وغير ذلك من الشيء الكثير، فمتى قُبلت منهم قرابينهم نزلت نار من السماء فأحرقتها، وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ [آل عمران: 183]، لقد استفحل أمر ذبح القرابين عند العرب وعلى قبور عُظمائهم وهي قرابين شركية، يقول بعضهم:
وإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم[110] الهجان وكل قرن سابح
فحرم الإسلام سائر الذبح لغير الله كالذبح للقبر والذبح للزار فكلها من الذبح لغير الله.

ولما قدم وفد خولان على النبي ﷺ مسلمين فقال لهم رسول الله: «ما فعل عم أنس» وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه (عم أنس). فقالوا: قد أبدلنا الله به ما جئتنا به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكين به ولو قدمنا عليه لهدمناه فإننا منه في غرور وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» فقالوا: لقد أسنتنا - يعني أجدَبنا سنة - حتى كنا نأكل الرمة فجمعنا ما قدرنا عليه حتى اشترينا مائة ثور ونحرناها كلها قربانًا لعم أنس وتركنا السباع تردها ونحن والله أحوج إليها من السباع، ولقد رأينا العشب يواري محازم الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا (عم أنس)، وهذا من فنون عملهم وتوسعهم في شركهم، حكاه العلامة ابن القيم في كتاب الوفود من زاد المعاد ص50 الجزء الثالث.

فأبطل الإسلام سائر الذبائح الشركية وحرّم أكلها على اختلاف أنواعها، وأثبت الذبائح الشرعية كنُسك التمتع والقران، وكذا ما أُهدي للحرم من إبل وبقر وغنم، وكجزاء الصيد ودم الإحصار، وما وجب بترك واجب أو فعل محظور، ومثله الأضحية والعقيقة والمنذور ذبحه لله، فكل هذه من الذبائح الشرعية التي أثبتها الإسلام ونزل فيها القرآن، وكان النبي ﷺ يبعث جملة كثيرة من الإبل إلى البيت حتى قدرت بمائة ناقة، وكان هديه فيها أن يعلق النعل على رقابها ويشق طرف سنامها حتى يسيل منه الدم، فيعرف الناس أنها هَدي فيحترمونه. تقول عائشة: فتلت هَدي قلائد النبي ﷺ فلم يمتنع من شيء كان مباحًا له. ([111]) وكان يأمر سائق الهدي متى عطب شيء منه بأن يذبحه ولا يأكل هو ولا رفقته شيئًا منه، فلو عطب الهدي كله، لذبحه، ولم يأكل هو ولا رفقته شيئًا منه وترك السباع تأكله، لكونه قد بلغ الهدي محله، فبلغت النية مبلغ العمل فيه، قالت هذا الكلام في معارضتها لما رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا»، وقالت عائشة: إنما قال هذا فيمن أحرموا بالحج، أما الأضحية والأمر بكف اليد عن أخذ الشعر والظفر فلم يثبت عنه شيء من ذلك، تعني أن الحديث انقلبَ على أم سلمة، وعائشة هي أعلم بالحديث من أم سلمة.

وقد نحر الرسول وأصحابه هديهم بالحديبية حين صدهم المشركون عن إتمام عُمرته، وحيث جرى عقد الصلح بينه وبين سهيل بن عمرو نيابة عن قريش، فنحر هديه وحلق رأسه ولبس ثيابه ورجع إلى بلده المدينة، وترك الهدي مذبوحًا يأكله من رغب فيه، والحديبية تقع خارج الحرم، حتى إنهم إذا أرادوا أن يصلوا فريضة من الصلاة دخلوا في الحرم.

وأهدى عام حجّة الوداع مائة بَدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده عدد عمره الشريف، وهي صواف على قوائمها الثلاثة معقولة يدها اليسرى، وكان يطعنها بالحربة بين أصل العنق والصدر، ووكّل عليًّا فنحر ما بقي منها، ومن جملتها بعير في أنفه بُرّة من ذهب لأبي جهل. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ - أي قائمة على ثلاث قوائم - ﴿...فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ [الحج: 36-37]. فشرع الله سبحانه هذا الذبح للحيوان تشريفًا وتكريمًا ليوم عيد الحج الأكبر وأيام مِنى حتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين وما يقربونه فيها لآلهتهم من القرابين، كما قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ [الحج: 34]. ثم ذكر سبحانه أن تعظيم هذا الذبح في مثل هذا اليوم وفي أيام التشريق أنه من تعظيم حرمات الله، ومن الدليل على إيمان القلب وانقياد الجسم لطاعة الله عز وجل. فقال سبحانه: ﴿...وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ٣٢ لَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ٣٣ [الحج: 32]. وفسّر ابن عباس تعظيم الشعائر باستسمان الهدي واستحسانه. وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمرٌ منه سبحانه بإباحة الأكل من هدي المتعة والقران، والأمر للإباحة، والقانع هو: السائل، والمعتر هو: الذي يتعرض لك لتراه فلا تنساه من لحم الهدي. وفي هذه الآية الرد الصريح على من زعم عدم التوقيت لمكان ذبح مناسك الحج وكونه محجوجًا بالقرآن في قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ ٣٣ ثم وضّحت السنة ذلك فيما رواه أبو داود وابن ماجه أن النبي ﷺ قال: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» فلم يُصب من زعم عدم التوقيت لمكان الذبح.

فالقول بإخراج الهدي الواجب كهدي المتعة والقِران عن محله بمكة إلى البلدان البعيدة لإنقاذ أهلها من الجوع - من الخطأ الواضح الذي لا مبرّر له إلا التقليد.

وإن الناس بمكة وبمنى وقت الحج أكثر من أن يُحصوا، وكلهم في حاجة إلى اللحم، وقد لا يستطيع أكثرهم الحصول عليه من أجل شدة الزحام الذي يزداد عامًا بعد عام لعوامل لم تكن معروفة في السنين السابقة، منها، فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات والسفن وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر، حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها بيوت متقاربة، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشيء قبل وقوعه كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلاً أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ، وَتَقَارُبُ أَسْوَاقٍ»، وفي البخاري: «من أشراطها تقارب الزمان» وليس من الممكن أن يفسر تقارب الأسواق بانضمام الأرض بعضها إلى بعض، ولكن بالآلات البرية والبَحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات، والتي كان الناس قبلها يُقاسون الشدائد في الأسفار، يسيرون مدة طويلة من الزمان ولا يبلغون منتهى قصدهم من هذه الدار، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار، وما يُُلاقونه من المخاوف والأوجال، لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفًا للأغراض ونهبًا للأعراب، ويُعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم وسائل الكسب، ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين، ولا يَحج في الغالب منهم إلا من كان قريبًا من مكة، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر لبُعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق، فهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
كيف الوصول إلى سُعاد ودونها
قُللُ الجبال وَدونهن حتُوف
الرجل حافية وما لي مركب
والكف صفر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان فقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات ودُكت عقبات التعويق وقُطع دابر قطاع الطريق، وزد عليه حصول الأمن المُستتب في أنحاء الحرم وسائر السبل المفضية إليه، حتى إن الناس فيه آمن منهم في أوطانهم، فمن أجله وفد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون وهم من كل حدب ينسلون وفي كل عام يزيدون. يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ ٢٨ [الحج: 27-28]. والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، ومنها يوم عرفة الذي هو أفضل أيام الدنيا، كما أن الأيام المعدودات المذكورة في قوله سبحانه: ﴿۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ [البقرة: 203]. يعني بالأيام المعدودات أيام التشريق.

وحكى القرطبي عن الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام مِنى وهي أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى الثالث عشر منه.

ويؤيده حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم قال: إن أناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديًا ينادي «الحج عرفة، من جاء ليلة جَمْع - أي: مزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة أيام: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ [البقرة: 203]. وأردف رجلاً ينادي بهن بهذه الكلمات ليعرف الناس الحكم. وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر بها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام مِنى ثلاثة وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له. ومن تأخر إلى الثالث جاز له. بل هو الأفضل لأنه الأصل وفيه زيادة في العبادة. فالحديث مفسر للأيام المعدودات وعليه العمل عند أهل العلم كما قال الترمذي في جامعه. وبيّنت السنة أيضًا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التكبير أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال.

فمن أجله اشتد الزحام وشق على الخاص والعام، وقد بذلت حكومة المملكة العربيّة السعودية حرسها الله جميع وسائل التسهيل والتنظيف ووسائل الصحة ومحاربة الأوبئة نسأل الله أن يوفقهم لسعادة الدنيا والآخرة.

والحاصل أن هذه اللحوم بمنى والتي يستبشع الناس رؤيتها ويتمنون نقلها إلى البلدان الضعيفة أهلها؛ أنها لو قُسمت هذه اللحوم بين الحجاج والمقيمين بمكة لما وسع الشخص الواحد قدر بيضة منها، وأن الحكومة وغير الحكومة عاجزون عن إيصالها إلى الفقراء الموجودين بمنى وبمكة، فما بالك بتكليفهم بتنظيمها في المعلبات ثم إرسالها إلى الخارج، إن هذه الدعوى تستحق أن لا يستجاب لها، ولو فرضنا أنه لا يأكلها إلا الكلاب والسباع فإن في كل كبد رطبة أجر كما روى البخاري في صحيحه في قصة المرأة البغي حيث رأت كلبًا يلهث عطشًا فنزعت له موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها. وفي رواية: قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»[112]. فالهدي متى بلغ محله وسمى الله صاحبه عليه ثم نحر فإنه يُجزئ سواء أكل أو تُرك، وقد روى ثابت بن ضحاك أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة - وهي موضع معروف - فقال رسول الله ﷺ: «أَفِيْهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قال: لا. قال: «هَلْ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟» قال: لا. قال: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي مَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». ولم يستفصل رسول الله عن هذه الإبل وهل يوجد فقراء يأكلونها أو لا يوجد، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه قال: انحرها سواء أكلها الأوادم أو بهائم الوحوش.

وسئل أحد العلماء عن رجل نحر هديه وتركه ولم ير أحدًا أكل منه، فأجاب بأنه يضمنه بمثله أن يذبح بدله، وهذا الجواب واقع غير موقعه الصحيح لأنه بمثابة من يوجب على كل شخص حراسة هديه في تلك البقعة المخاضة من الدماء إلى أن يجد من يأكله، وهو من تكليف ما لا يطاق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فالأكل مباح وليس بواجب.

ثم نرجع إلى بقية الكلام في الدماء الواجبة فجزاء حلق الرأس للمحرم يفعل في أي مكان في الحرم وخارجه، كما نحر رسول الله ﷺ دم الإحصار في الحديبية، أما جزاء الصيد فإنه وقت نزول القرآن كان الصيد يمشي بين الإبل بحيث تناله أيدي الناس ورماحهم كما قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ [المائدة: 94]. وفي هذا الزمان قد انقطع الصيد فلا نطيل الكلام في موضوع جزاء ما هو معدوم، ومثله الهدي الذي يساق إلى الحرم.

يبقى الذبح المستحب كذبح الأضحية، فالعلماء لا يستحبون الجمع بين ذبح المتعة والقران وذبح الأضحية، بل يكفي ذبح المتعة والقران عن ذبح الأضحية، كما في البخاري أن النبي ﷺ ضحى عن نسائه ببقر. يعني بذلك نسك الحج، فالهدية التي تُهدى إلى الحرم قد انتهى عمل الناس بها في هذا الزمان لانتهاء من يعمل بها مع كونها سنة مشهورة معمولاً بها في صدر الإسلام ولا تزال باقية. أما جزاء اللبس والطيب وحلق الرأس فإنه يفعل في أي مكان في داخل الحرم وخارجه، ومثله المحُصَر. وقد نحر رسول الله ﷺ هديه بالحديبية وحلق رأسه ولبس ثيابه. ثم رجع إلى المدينة، ولا نطيل الكلام في موضوعه وهو واضح مشهور.

وقد قال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين في شأن ذبح القرابين من الهدايا ودماء النسك والأضاحي: ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تُساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها؛ فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده. وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلو دينه على كل دين، فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بها ولله الحمد.

وقد وُجد من العلماء من يقول بجواز ذبح النُّسك كدم المتعة والقران في اليوم السابع والثامن والتاسع من عشر ذي الحجة أخذًا منه برواية عن الإمام الشافعي بناءً على أن دم المتعة والقران هو دم جُبران.

والنبي ﷺ خطب الناس يوم عيد النحر فقال: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» فسكتوا، فقال: «أَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ؟»[113]؛ لأن كل الناس من الحجاج والمقيمين وسائر أهل الأمصار كلهم يذبحون لله في هذا اليوم وفي سائر أيام التشريق فُسمي يوم العيد بيوم النحر، واليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر، واليوم الثاني يسمى يوم النفر، واليوم الثالث يسمى يوم الرؤوس، ثم ينتهي الذبح بغروب الشمس. وحقق العلامة ابن القيم في زاد المعاد أن ذبح النُّسك في المتعة والقران أنه دم نسك وليس بدم جبران، لكون الحج والعمرة في حق المتمتع والقارن تامين بدون نقص.

والحق أن من قال بجواز ذبح النسك في أيام السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة فإنه بمثابة من قال بجواز ذبح الأضحية قبل عيد النحر، والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد فقال: «إِنَّا نُرِيْدُ أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ»[114]. ولما طاف النبي ﷺ بالبيت ومعه أصحابه وسعوا بين الصفا والمروة فقال لهم: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا؟ فقال: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[115] فحل الناس كلهم وقصروا رؤوسهم ولبسوا ثيابهم ما عدا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي كأبي بكر وعلي، فقد بقوا على إحرامهم ولم يحلوا منه إلا يوم العيد بعدما رموا جمارهم ونحروا هديهم؛ لقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥ [البقرة: 196] ومحله المكاني هو منى ومكة، ومحله الزماني هو يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة.

وأما تشنيعهم بإحراق اللحوم بمنى أو بدفنها، فإن الخطب فيها يسير إذ هي من الأمر الحقير فلا تحتمل النكير، إذ كل شيء يضر ولا ينفع فالنار أولى به. والقصد من هذا التحريق أو الدفن للحم هو اتقاء تعفن اللحم الذي ينشأ عنه الوباء، وقد حرّق الصحابة المصاحف المخالفة لمصحف عثمان صيانة لمصحف الإمام عن الزيادة فيه أو النقصان وهي أعلى وأجل من تحريق بقايا هذه اللحمان، ولأن مكة كسائر بلاد الحجاز معروفة بشدة الحر، ويسرع تعفن اللحم إليها في أول يوم تذبح فيه الدابة، وهو لحم وما لجرح بميت إيلام، ثم إن نحر مناسك الحج كدم المتعة والقران هي من أعمال التحلل من الحج كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وحلق الرأس وطواف الإفاضة كلها تفعل في الحرم في خاصة يوم العيد وأيام التشريق، فلو أخرها عن هذه الأيام لم تصح، أو أخرج نحر النسك إلى بلدة فإنما هي شاة لحم قدمهما لأهله وليست من النسك في شيء.

أما إخراج لحوم الهدايا والنسك والهدايا إلى البلدان الضعيفة أهلها فإنه جائز، فقد رأينا الناس في السنين السالفة ينشرون اللحم لتجفيفه في منى ثم يحملونه معهم إلى بلدهم بدون نكير، وإنما سُميت أيام التشريق لكون الناس يشرقون أي يجففون فيها اللحم، وقد ضاقت الأرض على الناس اليوم بما رحبت فلم يتمكنوا من عمل كانوا يفعلونه سابقًا. والنبي ﷺ كان قد نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاثة أيام من أجل الدافة التي دفّت من فقراء اليمن، ثم إنه رخص لهم في ادخارها فقال: «كُلُوا وَادَّخِرُوا»[116]. لهذا كان الصحابة يحملون معهم قديد اللحم إلى المدينة، ولا شك أن إرسال هذه اللحوم إلى البلدان الضعيفة خير من إحراقها أو دفنها، وسيأتي الزمان الذي تتمكن فيه الحكومة أو إحدى الشركات من تنظيم هذه اللحوم للانتفاع بها والتمتع بأكلها وما ذلك على الله بعزيز.

ولسنا في رسالتنا هذه نحاول تفتير الهمم ولا حلَّ عزائم الأمم، وإنما نتكلم على الأمر الواقع الذي نشاهده بالعيان، وكونه من الصعب بمكان لقوة معارضة المانع للمقتضى، وقد تَسنَح الفرصة للحكومة أو لإحدى الشركات في تنظيم هذا العمل على حَسب ما يرضي الناس، ثم إرساله إلى المستحقين من المستضعفين في الخارج، وما ذلك على الله بعزيز، إذ هذا أفضل من دَفنه وإحراقه الذي هو ضياع المال وقد قيل:
ولم يُحفظ مُضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المُضاع
وقد رأيت في إحدى المجلات بالمملكة العربية السعودية بيان إحصاء ما يذبح في موسم الحج فأفاد قائلاً: إنه يتم ذبح سبعمائة ألف رأس من الإبل والبقر والغنم في عيد يوم النحر، وفي اليوم الثاني مائتي ألف رأس، وفي اليوم الثالث مائة ألف رأس من الحيوان، ولهذا كانت المشكلة في تراكم هذه الأعداد الضخمة في هذا الوقت القصير، والناس لا يتمكنون من الذبح والسلخ والتنظيف إلا خلال أربع ساعات تقريبًا، ثم يفرون ويهربون من الشمس إلى الظل وأكثر العمال مشغولون بالعيد في بيوتهم.

وأفاد صاحب المقالة بأن هذا الحيوان يفسد أي يسرع إليه التعفن في مدة ساعتين من الذبح كما هي تحت ظروف درجات الحرارة العالية، وكذلك لا يوجد في العالم أجمع مصنع أو مجموعة مصانع تعمل لمدة ثلاث ساعات فقط أو ست ساعات لتصنيع سبعمائة ألف من الحيوان ثم يقف بقية العمل. انتهى.

وهذا هو السبب الذي قلنا: إن تنظيم هذه اللحوم في هذه الأيام القصيرة وفي خاصة مِنى المزحومة بالخيام وبالحبال وبالأوتاد حتى لا يوجد بقعة خالية لنشر اللحم بها. لهذا قلنا: إن تنظيم اللحم متعذر فهو من تكليف ما لا يستطاع.
إذا شئت أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
قلنا هذا إيضاحًا للعذل وإثبات واسع العذر مما قد يرجف به المرجفون، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

[110] يعني بالكوم: السمان من الإبل، والقرن السابح: الحصان. [111] ) أخرجه النسائي من حديث عائشة بلفظ مقارب، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين. [112] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [113] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [114] أخرجه ابن حبان من حديث البراء بن عازب. [115] أخرجه مسلم من حديث جابر. [116] أخرجه النسائي وأحمد من حديث عائشة.

القول بجواز طواف الحائض لشيخ الإسلام ابن تيمية

سئل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية - رحمه الله - عن طواف الحائض لتكميل حجها، فأجاب بما يدل على جواز طوافها للضرورة والحاجة، ويتم بذلك حجها... في كلام له طويل ممتع موشح بالدلائل الجلية، والبراهين القطعية، أورد هذه المسألة والأجوبة عليها من ابتداء صفحة 436 إلى 456 من المجلد الثاني الطبعة القديمة من الفتاوى، وهذا ملخص كلامه على سبيل الاختصار - رحمه الله - قال:

ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ»[117]، وقال لعائشة: «اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[118]، وصح عنه أنه قال: «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»[119]. قال: ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر الطائفين بالوضوء كما أمر المصلين بالوضوء، فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت إما أن يكون لأجل اللبث في المسجد، لكونها منهية عن اللبث فيه وفي الطواف لبث، أو عن الدخول في المسجد مطلقًا لمرور أو لبث، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنص والإجماع، ومس المصحف عند عامة العلماء، وكذلك قراءة القرآن في أحد قولي العلماء.

فإن كان تحريمه لأجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» ورواه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وهذا الحديث قد تُكلِّم فيه، فإنه لم يحرم عليها عند الضرورة والحاجة، وروى مسلم في صحيحه وغيره عن عائشة قالت: قال لي رسول الله ﷺ: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ»، فقلت: إني حائض. فقال: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ».

ولهذا ذهب أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث جمعًا بين الأحاديث، وأباح أحمد وغيره اللبث في المسجد لمن يتوضأ، لما رواه هو وغيره عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، لكونه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء فلا تبقى جنابته تامة - يتوضأ كما ثبت من حديث عمر وعائشة - قال: وأما الحائض فحدثها دائم ولا يمكنها الطهارة، فهي معذورة في مكثها ونومها، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب، مع حاجتها إلى المسجد، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ولهذا كان أظهر قولي العلماء: أنها لا تمنع من قراءة القرآن إذا احتاجت إليه، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد، وعلى هذا متى احتاجت إلى الفعل من المكث في المسجد والطواف أو القرآن استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لأجل الضرورة.

ومن المعلوم أن الصلوات هي أكبر الواجبات على الإطلاق وتجب في اليوم والليلة خمس مرات، وأجمع العلماء على اشتراط الطهارة لها، وتباح بل تجب للحاجة لعادم الطهورين الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، والصلاة إلى غير القبلة للضرورة، وصلاة العريان عند عدم ما يستر به عورته، ونحو ذلك مما أجمع العلماء على جواز فعله للضرورة، وطواف الحائض أولى بالجواز من هذا كله. فلا ينبغي للعالم أن ينظر إلى الحدث المقتضي للحظر ولا ينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن، كل ما تحرم معه الصلاة فإنها تجب معه عند الحاجة، إذا لم تمكن الصلاة إلا كذلك، وكذلك الطواف.

وذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن سليمان فيما رواه أحمد عنهما إلى أن الطواف للمحدث غير محرم، قال عبد الله في مناسكه: حدثني أبي عن سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة عن حماد ومنصور، قال: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسًا. وكذا قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، فعلى قول هؤلاء لا يحرم طواف الحائض والجنب، إذا اضطرا إلى ذلك، ومتى كان الجنب وكذا الحائض إذا عدما الماء صليا بالتيمم، وإذا عجزا عن التيمم صليا بلا غسل ولا تيمم، وهذا هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، فلا شك أن الحائض متى عجزت عن الطهارة، فإنه يجوز لها أن تطوف والحالة هذه، إذ الصلاة آكد في الوجوب من الطواف، وقد صلى عمرو بن العاص بأناس من الصحابة وهو جنب وعنده الماء، لكنه خاف على نفسه من استعماله من شدة البرد فتيمم، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «ما حملك أن تصلي بأصحابك وأنت جنب؟!» قال: يا رسول الله تذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ[النساء: 29] فتيممت، فضحك النبي وأقرّه على صلاته ولم يأمره ولا من معه بالإعادة. [120]

فطواف الحائض التي لا يمكنها الطهارة والحالة هذه أولى بالجواز، وإذا كانت إنما منعت عن الطواف لأجل المسجد، فمعلوم أن إباحة ذلك للعذر أولى، كما أبيح لها قراءة القرآن للحاجة ومس المصحف للحاجة، لهذا نقول: إنها إذا اضطرت إلى الطواف، بحيث لا يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض ويتعذر المقام عليها إلى أن تطهر فهذا الأمر دائر بين أن تطوف مع الحيض وبين إلزامها بالمقام بمكة حتى تطهر، وهذا من الضرر الذي ينافي الشريعة. وكثير من النساء إذا لم ترجع مع من حجت معه لا يمكنها بعد ذلك الرجوع، ولو قدر أنها رجعت قبل كمال حجها، فإنه يبقى وطؤها محرمًا وهي عند أهلها، وهذا من أعظم الحرج الذي لا يوجب الله مثله، إذ هو أعظم من إيجاب حجتين، ويحتمل متى رجعت إلى الحج أن يقع بها مثل ما وقع بها من الابتلاء بالحيض.

وأما وجوب القضاء على المفسد لحجه فمن أجل تفريطه بإفساده لحجه، وهذه لم تفعل ما تلام عليه من تفريط أو إفساد. وقد تنازع العلماء في قراءة القرآن للحائض وليس في منعها من القرآن سنة أصلاً، فإن قوله: «لَا تَقْرَأِ الحَائِضُ، وَلَا الجُنُبُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ»[121] حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وليس لهذا أصل عن النبي ﷺ ولا حدَّث به أحد من المعروفين بنقل السنن، وقد كانت النساء يحضن على عهد رسول الله، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة والصيام لكان هذا مما بينه النبي لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين عنه، وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي ﷺ في ذلك نهيًا لم يجز أن تحل حرامًا، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه، علم أنه ليس بمحرم. وإنما منعت الحائض من الطواف إذا أمكنها أن تطوف وهي طاهر؛ لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه وليس كالصلاة من كل الوجوه، والحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس: الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، قد قيل: إنه من كلام ابن عباس، والله سبحانه إنما فرض في الحج طوافًا واحدًا ووقوفًا واحدًا، فكذلك السعي، حتى أحمد في نص الروايتين عنه لا يوجب على المتمتع إلا سعيًا واحدًا، إما قبل التعريف وإما بعده، بعد الطواف. ولهذا قال أكثر العلماء: إن العمرة لا تجب كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وهو الأظهر في الدليل، فإن الله لم يوجب إلا حج البيت ولم يوجب العمرة، وإنما أوجب إتمام الحج والعمرة على من يشرع فيهما. وهذا مما يفرق به بين طواف الحائض وصلاة الحائض، فإنها تحتاج إلى الطواف الذي فرض الله عليها مرة في العمر، وقد تكلفت السفر الطويل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، فأين حاجة هذه إلى الطواف الذي يكمل به تمام حجها، وقد تقدم القول الراجح في أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن لحاجتها، وحاجتها إلى هذا الطواف أعظم.

ثم إن اشتراط الطهارة من الحدث للطواف، كالطهارة للصلاة فيه نزاع والاحتجاج بقوله: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»[122] حجة ضعيفة، فإن نهايته أن يشبه بالصلاة وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، فمن أوجب له الطهارة فلا بد له من دليل شرعي وما أعلم ما يوجب ذلك، ثم إني تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه، ولا نسلم أن جنس الطواف أفضل من جنس الصلاة، بل جنس الصلاة أفضل منه، وقد صحت في حالة الضرورة بدون وضوء ولا تيمم كعادم الطهورين، فكيف لا يصح طواف الحائض مع الضرورة والحالة هذه؟ فإنها إذا اضطرت إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقًا كان أولى بالجوار.

فقول النبي ﷺ: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ»[123]، وقوله لعائشة: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ ألا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[124] هو من جنس قوله: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»[125]. وقوله: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ»[126]، وقوله: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»[127]، فإذا كان قد حرم المسجد على الحائض والجنب ورخص للحائض أن تناوله الخُمْرة من المسجد، وقال لها: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ»، وقد أُبيح المرور للجنب، وكان الصحابة يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا مع أنه لا ضرورة إليه، فإباحة الطواف للضرورة لا يتنافى تحريمه بذلك النص كإباحة الصلاة بدون وضوء ولا تيمم للضرورة وإباحة صلاة المرأة بدون خمار للضرورة. ولم تأت السنة بمنع المحدث من المسجد، وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولى والأحرى، كقراءة القرآن. فلو حرم الطواف عليها مع الحيض، فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة، ومن جعل حكم الطواف كحكم الصلاة فيما يحل ويحرم، فقد خالف النص والإجماع.

وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ولا يحتج بها. ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول ﷺ وتلقته الأمة بالقبول، وبين ما قاله بعض العلماء مع تعذر الحجة على صحته، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، والمقلد ليس معدودًا من أهل العلم. وإذا دار الأمر بين أن تطوف طواف الإفاضة مع الحيض للضرورة وبين ألا تطوف، كان أن تطوف مع الحيض أولى، فإن في اشتراط الطهارة للطواف نزاعًا معروفًا، وكثير من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون: «إنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها وعليها دم مع قولهم: إنها تأثم بذلك، وأهل هذا القول يقولون: إن الطهارة واجبة فيها لا شرط، والواجبات كلها تسقط بالعجز، وحينئذ فهذه المرأة المحتاجة للطواف مع الحيض أكثر ما يقال: إنه يلزمها دم، كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وإلا قيل: إنه لا يلزمها دم مع الضرورة.

وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالإجزاء مع الدم ولم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزئها إلا الطواف مع الطهر مطلقًا، وحينئذ فليس مع المنازع - القائل بمنعها من الطواف حتى تطهر، ولو كانت مضطرة - نص ولا قياس ولا إجماع، وقد بينا أن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث، هل هي واجبة للطواف؟ وأن قول النفاة للوجوب أظهر، فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة عليها ولا على الطهارة شرط في الطواف.

وذكر أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن الميموني، قال لأحمد: من سعى وطاف طواف الواجب على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال: الناس في هذا مختلفون، وذكر قول ابن عمر وما يقوله عطاء وما يسهل فيه، ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف أنها تتم طوافها ويصح منها، وهذا صريح من عطاء أن الطهارة مع الحيض ليست بشرط.

والحائض أحق بالعذر من الجنب، لكون الجنب يقدر على الطهارة، وهذه عاجزة عنها، فهي معذورة، كما عذرها من جوّز لها قراءة القرآن؛ لأن عذرها بالعجز والضرورة أولى من عذر الجنب بالنسيان. ومن نسي الطهارة للصلاة عليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر، بخلاف العاجز عن الشرط والواجب كالعاجز عن الوضوء والتيمم أو عن قراءة، أو استقبال القبلة، فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه، ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه، لقول الله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ [التغابن: 16]، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286]، وفي الحديث: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيء فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[128].

وقد قال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إذا طاف طواف الإفاضة على غير طهارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع، فإنه لا شيء عليه، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه. وبالجملة هل يشترط في الطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.

أحدهما: يشترط لقول مالك والشافعي وغيرهما.

والثاني: لا يشترط وهو قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين للطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلا قوله: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» [129]. وهذا لو ثبت عن النبي ﷺ لم يكن لهم فيه حجة لمخالفته لشؤون الصلاة. فإذا طافت الحائض مع العجز عن الطهارة، فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا. والأشبه أنه لا يجب عليها الدم؛ لأن الطهر واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ لأن الدم إنما يجب بترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهي لم تترك مأمورًا ولم تفعل محظورًا في هذه الحال بالاختيار، وإنما هي مغلوبة على أمرها لا تستطيع رفع الحدث الحيض عنها، فمنعها من الطواف هو من جنس منعها من اللبث في المسجد والاعتكاف فيه وقراءة القرآن ومس المصحف، وهذه كلها يجوز للحائض فعلها بلا دم عند الحاجة إليها.

فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا لأمرت بطواف القدوم وطواف الوداع، والنبيﷺ أسقط طواف الوداع عن الحائض وأمر عائشة لما كانت متمتعة وقد حاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج؛ فلعله أنه لا يمكنها الطواف. فالجواب: أن الطواف مع الحيض محظور، إما لحرمة المسجد أو للطواف أو لهما، والمحظورات لا تباح إلا في حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف الوداع، ولا إلى طواف القدوم؛ لأن طواف الوداع ساقط عن الحائض بالنص وطواف القدوم مستحب وليس بواجب وليست مضطرة إليه، ولو قدم مكة وقد ضاق الوقت فبدأ بالوقوف بعرفة ولم يطف للقدوم صح حجه بخلاف طواف الفرض، فإنها مضطرة إليه ولا يتم حجها إلا به، والحاصل أن القول بأن هذه المرأة العاجزة عن الطهر ترجع محرمة، أو تكون كالمحصر أو يسقط عنها طواف الفرض أو الحج كله، أو تلزم بالتخلف عن رفقتها والجلوس بمكة حتى تطهر وتطوف، كل هذه الأقوال مخالفة لأصول الشرع، مع أنني لم أعلم إمامًا من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة، وكان في زمنهم يمكنها أن تطوف بعدما تطهر، بحيث إن الأمراء يلزمون الأجراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحُيَّض ويطفن.

ولهذا ألزم الإمام مالك وغيره المُكاريَ أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف، ثم إن أصحابه قالوا: لا يجب على مُكاريها في هذه الأزمان أن يحتبس معها لما يلحقه في ذلك من الضرر، فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة شرطًا أو واجبًا في حقها، كان مع القدرة على أن تطوف طاهرًا، لا مع العجز عن ذلك، فلو قدر تحريم الطواف عليها مع الحيض في حالة الاختيار، فإنه لا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة، وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة للنص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه، مع تعذر الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته، فإنه يعد من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره.

انتهى كلامه مختصرًا، رحمه الله وعفا عنه، وأسكنه فسيح جنته، ونفعنا وسائر المسلمين بعلومه.

ولابن القيم - رحمه الله - في الإعلام نحو من هذا الكلام في جواز طواف الحائض وكونه يتم بذلك حجها.

* * *

[117] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث عائشة. [118] متفق عليه من حديث عائشة. [119] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [120]أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن العاص. [121] أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر. وقال الألباني: منكر. [122] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [123] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [124] متفق عليه من حديث عائشة. [125] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [126] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [127] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [128] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [129] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عباس.

(3) الرسالة الموجهة إلى علماء الرياض

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إلى حضرة علماء الرياض الكرام، حفظهم الله بالإسلام[130]

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام.

أما بعد: فإني أرفع لعامة العلماء الأعلام ومصابيح الظلام، التعريف عن تأليفي للمنسك اللطيف الذي سميته (يسر الإسلام وبيان أشياء من مناسك حج بيت الله الحرام)، أرسلت لكم عددًا منه متبوعًا بالمسؤولية عنه، لقول الله تعالى: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44]، لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيه مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيه إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل، لكنني أعرف أني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وأنتم من الفقه والإتقان بمكان، تعرفون النصوص ولا تخفى عليكم القصود، وهذا المسؤول عنه بين أيديكم معروض، والقول منكم بما يستحقه مفروض، فعلى كل أخ مخلص أن يجيل فيه النظر بإمعان وتفكر، وذلك بأن يعيد دراسته، ويعجم عود فراسته ليتضح له على الجلية معناه، ويقف على حقيقة مغزاه، فإن تبين أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية وجئت قولاً إدًّا، وجُرت عن الحق قصدًا؛ وجب عليه أن يسددني من الهفوة ويسندني من الكبوة، ويكشف لي بكتاب عن وجه ما خفي علي من الصواب؛ لأن الحق أحق أن يتبع والعلم جدير بأن يستمع، والقصد واحد والغاية متساوية، وكل على حسبه من العلم بكتاب ربه وسنة نبيه.

والله يعلم، وهو عند لسان كل قائل وقلبه، أني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام ولا التقول بلا علم في أمور الحلال والحرام، وإنما بنيت أصول ما قصدت على النصوص الجلية والبراهين القطعية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله، ودعوت فيها الناس إلى ما دعاهم كتاب ربهم وسنة نبيهم من السماحة واليسر، بدل ما وقعوا فيه من الحرج والعسر، في خاصة الرمي والقول بسعة وقته، إذ هو معرض ضرر وموضع خطر على خاصة نفوس الضعفة وكافة الناس، فضج منها مَنْ حُجته أنها خلاف ما عليه عمل الناس، وأن القول بها يعد شذوذًا في القياس، وسمعت من استدلالهم في اعتراضهم قوله ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[131] وأنه رمى في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، ولم يشعر هذا المعترض أن هذا الاستدلال هو عمدتي في المنقول، وعدتي التي بها أصول وأجول.

وقد أجبت في الرسالة على فرض تقدير هذه المقالة من أن تركه الرمي قبل الزوال لا يدل على أنه غيرُ وقتٍ له، كما ترك الوقوف بعرفة بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وهو وقت له، مع أنه لم يتركه، وما كان ربك نسيًّا، فقد رمى في أول يوم من أيام منى ضحى، ثم رمى بقية الأيام بعد الزوال. وفعله في هذا وهذا هو مشروع منه لأمته، وإعلام منه بسعة وقته، تأجل العمل به إلى وقت حاجته، فمن قال باختصاص الجواز بيوم العيد فهو مطالب بالدليل ولن يجد إليه من سبيل، ومن كان استناده في استدلاله إلى فعل النبي ﷺ، في اليوم الثاني والثالث، مع إعراضه وعدم نظره إلى فعله ﷺ في اليوم الأول، وقوله لما سئل عن التقديم والتأخير: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[132] لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد، من غير تأخير، كفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك الحلق والتقصير، على أنه لم يقل بذلك أحد ممن يعتد به، وإنما جعلوه موسعًا يفعله متى شاء ليلاً أو نهارًا، وكذلك رمي الجمار إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال الى الغروب كان على المؤمنين كتابًا موقوتًا.

وقد ذكر بعض العلماء علة تأخيرها إلى الزوال، وأنه إنما أخرها إلى ما بعد الزوال لقصد أن يصلي بالناس الظهر بمسجد الخَيْف من منى، فيخرج للصلاة وللرمي خروجًا واحدًا كما فعل، فإنه لما فرغ من رمي الجمار انصرف إلى المسجد فصلى بالناس فيه، وذكرهم أحكام حجهم، وقد قلت في الرسالة: إنه لو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ بنص جلي قطعي الرواية والدلالة، وارد مورد التكليف العام، إذ لا يجوز في الشرع تأخير بيان مثل هذا عن وقت حاجته، وقلت أيضًا: إنه لو كان التقدير بهذا الزمن القصير شرطًا لَسقط للعجز عنه، أو لجاز تقديمه محافظة على أصل فعله؛ لأن القول بلزومه يستلزم الحكم بسقوطه في خاصة هذه الأزمان مع شدة الزحام، بحيث إنه صار في حق أكثر الناس من تكليف ما لا يستطاع، ولا يقول بلزومه على الجمع الكثير في خاصة هذا الوقت القصير إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم، فهو يحكم على كل فرد بأن يزاول وصوله حتى ولو مات دونه؛ لأن هذا من لوازم قوله، إذ من المعلوم عند كل أحد أنه من الأمر الصعب مزاولة وصولها وتحقق وقوع الجمار فيها، وصار أكثر الناس يقع رميهم خارجًا عن الأحواض بعيدًا عنها، فقولنا سعة الوقت هو مما يؤهل كل أحد للرمي بسهولة وسعة، ويعلم على سبيل اليقين أن رميه قد وقع موقعه.
إذا شئت أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
ولما كان القول به والحكم بموجبه مستغربًا جدًّا عند الناس، بحيث لم يتمرنوا على سماعه ولا على العمل به، بينت من الدلائل في مقدمته ما يكون مؤذنًا بصحته، ولم ألقه ساذجًا من دليل الحكم وعلته؛ لأنني أخذت فيما قلت بالأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، وأنه لا حول ولا قوة لي إلا بها.

وقد علمتم - عفا الله عنكم - أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره، كما قال عمر: انظروا إلى حذوها من طريقكم. [133] ) وأنه لو وقع عليهم هذا الزحام في هذا المقام على نحو هذه الصفة في هذا الزمان لنادوا له: الصلاة جامعة. ثم نظروا في أمرهم وتبادلوا رأيهم فيما يجمع لأمتهم بين القيام بواجب حجهم مع سلامة أرواحهم؛ لأنهم على دين مبني على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المضار وتقليلها، ومن قواعد الفقه الإسلامي الذي عبوا منه ونهلوا: أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وقد اجتهدوا زمن النبي ﷺ وعرضوا رأيهم على رأيه في الشيء الذي لم يقله عن وحي من ربه، واجتهدوا بعده في كثير من القضايا المشتهرة التي لم يرد نص صحيح عن النبي ﷺ بما صنعوا منها، لكنهم رأوها مصلحة تناسب تصرفات الشارع الحكيم؛ لأن ذلك كله راجع إلى حفظ الشريعة ومنع الذريعة، والشارع الحكيم قد منع الذرائع المفضية إلى المفاسد، فالقول بتوسعة الوقت للرمي هي من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله، ومتى عرضت حكمتها على العقول تلقتها بالقبول، كيف وقد احتف بها أصل من المنقول.

وإنني في مثل هذا المقام، أُذكِّر فقهاء الإسلام كلامًا ساقه العلامة ابن القيم في الإعلام من ذكر العلل والأحكام، قال ما نصه:

فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي كلها عدل ورحمة ومصالح وحكمة فكل مسألة خرجت عن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل... انتهى.

وأما القول بسقوط الرمي أيام التشريق عن المعذورين بمرض أو ضعف حال من النساء والكبار والعجزة وسائر من لا يستطيع الوصول إلى ذلك المقام من غير أن يستنيب وبدون تكفير:

فهذه أيضًا مما عظم على بعض الإخوان أمرها وأكبروا على احتقاب وزرها، وهي شكاة قد ذهب عني عارها، فقد استندت في استدلالي عليها بحديث عاصم بن عدي في الرعاة، وبحديث العباس في السقاة، وأن النبي ﷺ رخص لهؤلاء في البيتوتة عن منى، من غير أن يأمرهم باستنابة من يبيت مكانهم مع كونه ممكنًا، والرمي هو شقيق المبيت في الوجوب بمنى، فكانا في الحكم سواء؛ لأن كليهما يفعل بعد التحلل من أعمال الحج، ومن المعلوم أن عذر هؤلاء الضعفة أشد من عذر الرعاة والسقاة، فكانوا أحق بالرخصة بدون استنابة.

وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة قياسًا على هذا، قال في الإقناع: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى ولا بمزدلفة، وقيل: أهل الأعذار كالمريض ومن له مال يخاف ضياعه ونحوه، حكمهم حكم الرعاة والسقاة في ترك البيتوتة. انتهى.

قال في الكشاف: جزم به الموفق والشارح وابن تميم.

ثم إن المعارضين يوافقون على عدم الاستنابة في الوقوف بعرفة ولا بمزدلفة، ولا المبيت بمنى، ولا الحلق ولا التقصير، لعدم ما يدل على مشروعيتها، وهذا منها.

فمن أين أتى وجوب اختصاص الاستنابة في الرمي دون نظيره في الحكم؟ بل إن سقوط الرمي عن المعذور ثابت بالنص من إذن النبي ﷺ للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ولم يأمره بأن يستنيب، فما بالك بسقوطه عمن لا يستطيع الوصول إليه من النساء والشيوخ والضعفة بدون استنابة، وكيف ينازع في هذا فقيه مع علمه أن الحج بجملته يسقط عمن لا يستطيعه، بنص الكتاب والسنة؟

وأما الاعتراض بدعوى أنها خلاف ما عليه عمل الناس فإنها دعوى داحضة وحجة غير ناهضة، فإن عدم عمل الناس للشيء ليس دليلاً على بطلانه في الشرع، كما أن فعلهم للشيء لا يدل على صحته في الشرع، فقد رأينا الناس يفعلون في الحج أشياء من المخالفة لا يجوز أن يتابعوا عليها، بل ولا يقروا على فعلها، وإن كان لهم فيها وجه تأويل، منها:

الدفع من مزدلفة، فقد رأينا كثيرًا من الناس يدفعون قبل نصف الليل وهم أصحاء أقوياء ومنهم العلماء الفقهاء، مع العلم بأن النبي ﷺ وأصحابه وقفوا بها حتى الفجر وأسفروا جدًّا، ولم يرخص النبي ﷺ في الدفع لأحد قبله سوى الضعفة من الغلمان والنساء، وقال: «مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنَا هَذِهِ - يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ -، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً، أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ»[134]، وفي القرآن الكريم ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ [البقرة: 199] والناس هم الرسول وأصحابه، وهم إنما أفاضوا بعدما صلوا الفجر وأسفروا جدًّا، فدل على أن الدفع قبل وقته فيه مخالفة واضحة، ولم نجد من أنكره على فاعله.

ومنها: رمي جمرة العقبة بالليل، فإن هؤلاء الذين يدفعون يجمعون بين الدفع قبل أوانه وإساءة الرمي قبل دخول وقته؛ لأن رمي جمرة العقبة من عمل يوم العيد، أشبه نحر النسك والحلق والتقصير.

وقد أجمع العلماء على أن النبي ﷺ إنما رمى جمرة العقبة ضحى، وفي حديث ابن عباس، قال: أرسلنا رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع بليل، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أَيْ بَنِيَّ، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» رواه مسلم. فاستباح أكثر الناس مخالفة هذه النصوص فصاروا يدفعون بالليل ويرمون الجمرة بالليل، ويأتون المسجد الحرام بالليل من غير أن يجد أحدهم في نفسه حرجًا من فعله، من أجل أنهم وجدوا المجلدات التي يقرؤونها في الفقه تجيز ذلك لهم، فقبلوها قاعدة مسلَّمة لا مجال فيها للمماحلة، بينما ينكر أحدهم ما يعد بعيدًا عن المخالفة من القول بجواز الرمي قبل الزوال الثابت مشروعيته بالنص القطعي من أن النبي ﷺ ما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[135].
والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا
في قالب ويرده في ثاني
وأما الاحتجاج على الجواز بحديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود، فقد ذكر ابن القيم أنه مضطرب وأن حديث ابن عباس أصح منه، ومن أراد الوقوف على كلام الرواة فليراجع زاد المعاد، فإنه قد أسهب في البحث عن حقيقته.

وأما الاعتراض بدعوى انفرادي بهذا القول مع كون غيري أرسخ في العلم وأرقى في العقل والفهم، فقد بينت في الرسالة تسمية من سبق إلى هذه المقالة، والفضل للمتقدم، وعلى فرض ما ذكروا، فإن العلماء متفقون قاطبة على أنه لا يترك حق لانفراد قائله، كما أنه لا يقبل باطل لكثرة ناقله، وأن من كان على الحق فهو أمة ولو كان وحده.

فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد خالف سائر الفقهاء، حتى الأئمة الأربعة في الوقف على الذرية، فحقق القول ببطلانه في رسالة ممتعة، ذكرها ابن القاسم في المجموع. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، قد خالف الأئمة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة، بل أنهى برهان الدين ابن القيم مخالفته لبعضهم إلى ما يزيد عل خمسين مسألة، منها: الطلاق بالثلاث بلفظ واحد وكونها عن واحدة، ومنها: اليمين بالطلاق وأن فيه إذا حنث كفارة يمين، وقد شن شانئوه عليه من أجلها الغارات وعقدوا لقتله الجمعيات بعد الجمعيات، كفروه بحجة أنه خرق الإجماع العام وأباح للناس الفرج الحرام، ومع هذا كله فقد ازداد قوله نورًا، وعاد قول معاديه بورًا ورأيهم ثبورًا. ومن المسائل التي خالف الأئمة فيها كون المتمتع يكفيه سعي واحد كالقارن؛ لأن مسماهما في كتاب الله واحد، فالقارن اسم للمتمتع، كما أن المتمتع اسم للقارن، وأن هذا هو معنى قوله ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[136].

ومنها: المرأة التي حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة، وخشيت على نفسها إن تخلفت عن رفقتها، فأفتاها بأن تطوف وهي حائض وبه يصح حجها.

فاستباح بهذه الفتوى نهييْن مؤكدين: أحدهما: دخولها المسجد الحرام وهي حائض، وقد قال النبي ﷺ: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ»[137]، والثاني: طوافها قبل التطهر وانقطاع الموجب. وقد قال النبي ﷺ لعائشة: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ ألَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[138]؛ لأنه لدقيق فقهه وغوص فهمه يعلم أن هذه النصوص العمومية يدخلها التخصيص بالإباحة لسبب اقتضى ذلك، فتجعل المنهي عنه مأمورًا به، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ [البقرة: 173] كالصلاة، فإن من شرطها الطهارة بالماء أو بالتيمم عند عدمه أو تعذر استعماله، وقد جوزوا لعادم الطهورين الصلاة على حسب حاله؛ لأن هذا هو غاية وسعه، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وللضرورة حال ويعلق بها أحكام غير أحكام الاستطاعة والاختيار.

فشيخ الإسلام أفتى هذه المرأة بفتوى تقتضيها الضرورة والحاجة في ذلك الوقت نفسه، على حسب ما أدى إليه اجتهاده.

ونحن بكلامنا لم نتجاوز حكمًا يوجب التحديد بما ذكر حتى نستوجب توجيه الملام على مخالفته، وهب أنهم وجدوا دخول وقت الرمي بالزوال استنادًا واستدلالاً بمفهوم الفعل، فمن أين يجدون انتهاءه بالغروب، وأن الليل لا يجوز فيه رمي، كما لا يصح فيه صوم؟ وعندي أنه لما كان ما بعد الزوال هو أفضل وقت يرمي فيه الحاج، تأسيًا بفعل النبي ﷺ صار الناس يتبعون الأفضلية في هذا الوقت، حيث لا ضرب ولا طرد، ولا يقال للرامي: إليك إليك. فتبع الناس بعضهم بعضًا على هذا العمل التماسًا للأفضل، فظن عامة الناس أنه فرض محتم؛ لأن الناس غالبًا يألفون ما يعرفون ويأنفون مما لا يألفون. ومن عادة الحجاج في سائر السنين أنهم يتبعون أمير الحج في سائر فعل مناسك الحج، فيرمون برميه، وسبب استمرارهم على فعله أنهم ظنوا أن الرمي في خاصة هذا الوقت واجب محتم عليهم.

وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في بيان غربة العلم، وأن الناس أعداء لما جهلوا منه، قال: وأنا أضرب لك مثلاً بالجمار بالأحجار، وأنه يكفي عن الاستنجاء بالماء على مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء، فلو فعله أحد أو أفتى بالاقتصار على الأحجار لنسبوه إلى عدم المعرفة والاستخفاف بالشريعة... انتهى.

وفي الختام، فإن الإنسان مهما كان فإنه عرضة للخطأ والنسيان، وما من الناس إلا راد ومردود عليه بحق أو بغيره؛ لأن صواب القول وصدقه وعدله غير كافل لصيانته من الرد عليه والطعن فيه، حتى ولا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في كلامه وأحكامه ﴿وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ قُل لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ٦٦ [الأنعام: 66] مصدقًا لما بين يديه، فما بالك بكلام من هو مثلي وأنا المقر على نفسي بالخطأ والتقصير، وإني لدى الحق أسير.

وبما أن المسلم هو من سرَّته حسناته وساءته سيئاته، فقد سرني وصول رسائل متعددة من علماء بلدان متباعدة في كلها يهنئونني بإصابة الحق والتوفيق للتنفيس على الخلق، ويشهدون بأني لم أقترف فيما قلت رأي جور ولا رواية فجور، وإنما دعوت الناس إلى عمل صالح مبرور، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

15 صفر سنة 1376هـ.

* * *

[130] هذه الرسالة حررها فضيلته حين استدعي لمناظرة العلماء بالرياض في القول: بجواز رمي الجمار قبل الزوال، فاستصحبها معه وفرقها على عدد من أعيان العلماء الكبار. [131] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث جابر بن عبد الله. [132] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [133] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. [134] متفق عليه من حديث عروة بن مضرس الطائي. [135] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [136] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [137] أخرجه أبو داود وابن خزيمة والبيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [138] متفق عليه من حديث عائشة.

تنبيه هام لذوي العلوم والأفهام

قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتاب إعلام الموقعين:

فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به، لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها.. إلخ.

وأقول: لقد سمعنا من بعض المنتسبين إلى العلم بأنهم يبدون إنكارهم لهذه القاعدة، ويعارضونها بالتفنيد وعدم التسديد لزعمهم أنها مخالفة لنصوص الدين وأصوله التي لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان والمكان والأحوال، فهذا مثار الإشكال الذي حصل بسببه الإنكار.

وخفي على هؤلاء أن العلامة ابن القيم لم يقل بجواز تغير الدين وقواعده وعقائده، وإنما يتكلم بتغير الفتوى في فروع العبادات التي حقق العلماء أن للاجتهاد فيها مجالاً، ولم يقل بهذا إلا وعنده مستند صحيح من النصوص والأصول تثبت صحة ما يقول ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83] والاستنباط هو استثارة ما عسى أن يكون خفيًّا على بعض الأذهان بحيث يبرزه باستنباطه إلى العيان، ومما يدل على تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال ما روى الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني عن عمرو بن العاص، أنه لما بُعث في غزوة ذات السلاسل قال: فاحتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله ﷺ ذكروا ذلك له، فقال: «يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟!». قلت: نعم يا رسول الله، وذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ولم يقل شيئًا، فدل هذا الحديث على أن سكوت رسول الله ﷺ عن الإنكار عليه هو حقيقة في الإقرار على فعله، وهذه مما تتغير بها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال. إذ الأصل لواجد الماء أن يمسه بشرته، لقول الله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ [المائدة: 6] وفي الحديث «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ إذا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ»[139].

ومثله ما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان في أبياتنا رُويجلٌ ضعيف فخبث بأمةٍ من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله ﷺ، فقال: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ»، فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» ففعلوا. ذكره ابن حجر في بلوغ المرام من أصول الأحكام، فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله ﷺ من حالة الشدة إلى حالة التسهيل لتغير حالة هذا الشخص، إذ الأصل في الجلد في الحد أن يفرق على جسده ضربة ضربة موجعة، ونظرًا لضعف حاله جعله رسول الله ﷺ ضربة واحدة وبعثكول فيه مائة شمراخ، فماذا ترى يقول المعترض على هذه الفتوى؟!

ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم وأهل السنن، قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ بِهِ رَقَبَةً؟» قال: لا، قال: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قال: لا. قال: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» قال: لا. ثم جلس فأُتي النبي ﷺ بعرق فيه تمر، وقال: «اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهِ» فقال: أفعلى أفقر منا؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك رسول اللهﷺ حتى بدت نواجذه، ثم قال: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».

فهذه فتوى رسول الله ﷺ، وقد عرفت كيف تغيرت من حالة الشدة التي هي الأصل في التكفير إلى حالة التسهيل والتيسر، حيث تحمل عنه رسول الله ﷺ أعباء التكفير بالإطعام، ثم تصدق به عليه وعلى أهله، والدين هو الدين لا يتغير بتغير الأحوال، وإنما الإفتاء في مثل هذه المسائل الفروعية يتغير من حالة إلى حالة.

ومثله فتوى الصحابة للحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما بأن يفطرا ويقضيا بدله، وقد صدرت هذه الفتوى عن اجتهاد منهم بدون أن يوجد فيها نص عن رسول اللهﷺ، وهذه الفتوى مما يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل أن الصوم يجب على كل مسلمة بالغة عاقلة ليست بمريضة ولا مسافرة ولا حائض ولا طاعنة في السن. فالمرأة الحامل القوية الصحيحة الجسم لا يقبل منها دعوى الخوف على نفسها من الصيام، لأن نساء المسلمين الحوامل والمراضع في سائر الأزمان والأقطار من بدو وحاضرة، يصمن رمضان شتاءً وصيفًا ولا يتأثرن من الصيام فلا يجوز أن تفتَى بالفطر والحالة هذه كل امرأة.

أما المرأة الضعيفة النحيفة التي تعلم أن الصوم يشق عليها فوق المشقة المعتادة وتخاف على نفسها، فإنه يجوز أن تفتَى بالفطر ولكل سؤال جواب، ولكل مقام مقال.

وقد استدل العلامة ابن القيم - رحمه الله- لهذه القاعدة بإسقاط عمَر حد السكر عن أبي محجن، بسبب ما أبلى به من قتال الكفار، ورأى أن جريمته بمثابة نقطة النجاسة غمرها الماء الكثير فغسلها، لأن الحسنات يذهبن السيئات.

واستدل لهذه القاعدة أيضًا بإسقاط عمر حد القطع في السرقة زمن المجاعة ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة، ولهذا يعد من باب تعارض المانع للمقتضي، وكون المشقة تجلب التيسير.

وإذا اتسعت علوم الشخص وأعطي فهمًا لصحة الاستدلال والاستنباط، فإنه يتسع رحبه لتقبل مثل هذه القاعدة ويعلم بطريق اليقين أن لها أصلاً من السنة ترد إليه وتقاس عليه. أما من نقص علمه وتحجر رأيه وجمد فهمه، فإنه يضيق ذرعه بكل ما يخالف رأيه وينكر كل ما لم يحط بعلمه وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا.

ذلك بأنني لما أفتيت بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق حينما رأيت الناس من مشارق الأرض ومغاربها قد وفدوا إلى الحج من كل فج فأقبلوا إليه يجأرون وفي كل زمان يزيدون، فعظم الجمع واشتد الزحام وضاق ذرع الأمة بهذا المقام وصاروا يحصون وفيات الزحام في كل عام، لأن الجمع كثير وحجم المرمى صغير وزمن الرمي قصير، لأن الفقهاء المتقدمين قد حددوا وقت الرمي بما بين الزوال إلى الغروب، وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزه، لهذا فقد ظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، وأنه لن تتغير الفتوى فيه بحال وصار هذا الفهم هو العامل الأكبر في حصول الضرر وتوسيع دائرة الخطر، ولو فكروا بإمعان ونظر لوجدوا في الشريعة السمحة طريق المخرج عن هذا الحرج، فرحم الله العلامة ابن القيم وعفا عنه ونفعنا وإخواننا المسلمين بعلومه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[139] أخرجه البزار من حديث أبي هريرة.

(4) كتاب الصيام وفضل شهر رمضان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات وتنزل البركات. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله صاحب الآيات والمعجزات. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فإن الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول. هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم ليسبغ عليهم فواضل النعم والخيرات ويبوئهم رفيع الدرجات والفوز بالجنات.

فما من يوم من هذه الأيام إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم الليالي والأيام والساعات وتقرب إلى الله بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات. فاطلبوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات ربكم، فإن خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله.

إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56]، ففرض سبحانه على عباده الصلوات الخمس مفرّقة في أوقاتها المعروفة لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، وجعلها عمود دينهم وعنوان إيمانهم وأمانتهم والصلة بينهم وبين ربهم.

كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قبل وجه عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[140]، وفي دعاء الاستفتاح «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[141]. وكما فرض الزكاة في أموالهم طهرة تطهرهم وتزكيهم بها عند ربهم، وجعلها بمثابة الدليل والبرهان على صحة أمانتهم وصدق إيمانهم، وكما فرض صيام شهر رمضان لتمحيص تقواهم، وليتبين به من يطيع ربه في سرائه وضرائه فيما يحب وفيما يكره، فيصبح صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضاء ربه ومحبوبه، والله يقول: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[142]، فالمسلم لو ضرب على أن يستبيح الفطر لما استباح الفطر أبدًا، لأن دينه يمنعه من إبطال صيامه وإحباط أعماله، والدين هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
وكما أوجب حج بيت الله الحرام في العمر مرة واحدة بدون تكرار. وهذه هي أركان الإسلام التي يصير بها الإنسان مسلمًا، لما في البخاري و مسلم من حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

* * *

[140] أخرجه ابن المنذر في الأوسط من حديث الحارث الأشعري. [141] أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث علي. [142] متفق عليه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

فصل في فضل العمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام

اعلم أن شرائع الإسلام هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية، فلا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرّم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وهذه الشرائع الإسلامية هي أم الفرائض والفضائل والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تهذب الأخلاق وتطهّر الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، لهذا يبعد جدًّا أن ينشأ عن المتخلق بها شيء من الجرائم الفظيعة والفواحش الشنيعة، لأن دينه سينهاه، فكل متدين بدين صحيح فإنه متمدن ولو بدر منه غلطة أو خطيئة بادر إلى التوبة منها والإقلاع عنها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ [الأعراف: 201]

وإنما تنشأ الحوادث الفظيعة والجرائم الشنيعة من العادمين للدين، الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، لأن من لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.. ثم إن الشرائع الإسلامية قد جعلها الله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. لأن الله سبحانه بحكمته وعدله لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان ينطق به البر والفاجر والمسلم والكافر، وحتى عبّاد القبور والأوثان يقولون هذا وهم يعبدون الأولياء والأصنام. ولهذا نصب الله سبحانه هذه الأعمال بمثابة الشهادة على صحة الإسلام، لأن الإسلام هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان. وقد روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ».

ومعنى كون الإسلام علانية: أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المسلمين ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه. لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه. [143] كما ورد في الحديث: فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.

وإنما سمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالطاعة والإذعان، وانقياده للعمل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وبصيام رمضان وسائر شرائع الإسلام. وهذه الشرائع بما أنها تكسب صاحبها الفضائل في الدنيا فإنها تكسبه أيضًا الفوز بالجنة والنجاة من النار.

كما في سؤال معاذ، حين قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ثم قال: «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ». ثم تلا: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ [السجدة: 16]، ثم قال: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ». رواه الترمذي.

إنه لولا العمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الأخلاق والكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. يقول الله: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44].

فجعلهم سبحانه أضل من الأنعام: أي البهائم من أجل أنهم لم يستعملوا مواهب عقولهم وأسماعهم وأبصارهم في سبيل ما خلقت له من عبادة ربهم. ورضوا بأن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، أولئك كالأنعام بل هم أضل.

* * *

[143] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من حديث أبي الدرداء.

فصل في ابتداء فرض صيام رمضان

افترض الله صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكانت الشرائع تنزل تدريجيًًّا شيئًا بعد شيء، وكان في ابتداء فرضه بحالة هي أشد وأشق منها الآن، وذلك بأنهم أمروا متى صلوا العشاء أو نام أحدهم قبلها فإنه يجب عليه أن يمسك صائمًا طول ليله مع نهاره، ومع ذلك فقد قالوا: سمعنا وأطعنا. لكنهم أدركهم شيء من المشقة في الصوم بهذه الصفة حتى إن أحدهم أتى إلى امرأته يريد منها حاجته، فقالت له: إني قد صليت العشاء ونويت الصيام فلا يحل لك شيء مما تريد، فكذبها لظنه أنها تريد إبعاده عنها بدون سبب. ورجل آخر أفطر على الماء بدون أن يجد شيئًا يفطر عليه من الأكل فذهبت امرأته تلتمس له فطورًا، فلما جاءت وجدته قد نام ووجب عليه الصيام، فقالت له: تعسًا لك فطرت جائعًا وصمت جائعًا. فأنزل الله قوله: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ

[البقرة:187].

يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ [البقرة: 183-184]

فنادى - سبحانه- عباده المؤمنين باسم الإيمان بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم وانقادت للعمل به جوارحهم وعملوا به في سرائهم وضرائهم فيما يحبون وفيما يكرهون، فلا توجد هذه الصيغة إلا في السور المدنيات. والإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، فقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ أي فرض فرضًا محتمًا؛ لأن صوم رمضان هو أحد أركان الإسلام لما في الصحيحين من حديت ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». فهذه هي أركان الإسلام، بل هي الإسلام لما روى مسلم عن عمر بن الخطاب في سؤال جبريل حين قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». فقال: صدقت.

فمن جحد وجوب صوم رمضان فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، والصوم هو من الشرائع القديمة فلا تزال الأمم قبلنا تعبد الله بالصوم، كما قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ [البقرة: 183]، ولا يلزم أن يكون صوم الأمم قبلنا كمثل صومنا في الزمان والعدد، لأن لكل نبي شريعة توافق حالة زمانه وأمته، كما قيل من أن النصارى مفروض عليهم في شريعتهم صيام خمسين يومًا، لكنهم يجيزون لعلمائهم القسيسين أن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون، فلما رأوا أن الصوم تطول مدته عليهم، وأنه يحول بينهم وبين شهواتهم، أسقطوا منه عشرًا ثم عشرًا حتى أسقطوه بجملته وجعلوا صومهم عن مجرد الفاكهة فقط.

فجاءت شريعة محمد ﷺ ناسخة لجميع الشرائع التي قبلها وأنه لا يجوز لأحد العمل بغيرها، لأنها خاتمة الشرائع والمهيمنة عليها، كما أن رسول الله ﷺ هو خاتم النبيين، وقد عدوا من أنواع الردة عن الإسلام كون الإنسان يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158].

أقْبل شهر رمضان المبارك ففرح به المؤمنون وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة قرآن وبسط يد بالصدقة والصلة والإحسان، فهم في نهارهم صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون، أولئك هم المؤمنون، أما المنافقون فإنهم يجاهرون فيه بالإفطار وتمد لهم الموائد بالنهار، قد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار. ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». ومعنى إيمانًا: أي بالوجوب واحتسابًا للثواب. وهذا التكفير إنما يراد به تكفير الصغائر فقط في قول الجمهور. أما الكبائر مثل: الربا والزنا وشرب الخمر وقتل النفس وأكل أموال الناس، فإنه لا يكفرها الصوم ولا الصلاة ولا الحج، وإنما يكفرها التوبة بشرطها ورد المظالم إلى أهلها، كما ورد مشروطًا بذلك.. ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْهُ، كَفَّرَ ذَلِكَ مَا قَبْلَهُ».

وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وترك الطاعات من فرائض الصوم والصلاة هو من أكبر الكبائر، لأن ترك فرائض الطاعات أعظم من ارتكاب المنكرات.

وقول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ [البقرة: 183] قال ابن كثير: يقول الله مخاطبًا المؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله - عز وجل- لما فيه من زكاة للنفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم. فلهم فيهم أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك. انتهى.

وفيه تشبيه للفرض بالفرض دون الصفة في الوقت والعدد، وقد قيل: إن الحكمة في فرض الصيام هو أن يذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى أخاه المعوز الفقير، مع العلم أن الشرائع كلها من الصلاة والزكاة والصيام قد جعلها الله بمثابة التمحيص لصحة الإيمان، ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ [الأنفال: 37]. وهذا معنى قوله: ﴿لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣، فإن حقيقة التقوى هي أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله فهي بمثابة التمحيص لصحة الإيمان. فإن حكمة الله تأبى أن يترك الناس سدى بدون اختبار لهم بالأعمال. يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2]: أي لا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ [العنكبوت: 3]: أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ [العنكبوت: 3] في دعوى إيمانهم فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ [العنكبوت: 3] الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وكان حظهم من الإسلام هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل. والله أعلم.

* * *

فصل في بشرى أهل الإسلام ببلوغ شهر الصيام

يقول الله سبحانه: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥ [البقرة: 185].

ففي هذه الآية التنويه بفضل شهر رمضان الذي أوجب الله فيه الصيام، كما فيها التنويه بفضل القرآن الذي أُفيضت فيه على جميع البشر هداية الرحمن ببعثة محمد ﷺ برسالته المتضمنة للهداية العامة لجميع الأنام ﴿وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 77].

إن شهر رمضان هو غرة الزمان ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام. فمن جحد وجوبه فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان. قال ابن عباس - حبر الأمة وترجمان القرآن-: ثلاثة أسس عليها الإسلام: الشهادتان والصلاة والصيام. [144]

افترض الله صيام رمضان على النبي ﷺ في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله ﷺ تسع رمضانات وصام المسلمون معه، ووافق فرضه شدة الحر مع نهاية طول اليوم مع عدم اعتيادهم للصوم، ومع ذلك قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥ [البقرة: 285].

وإنما سمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالطاعة والإذعان، وانقياده للعمل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وسائر شرائع الإسلام، وهذه هي الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، فقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ [البقرة: 185] سمي الشهر شهرًا لشهرته، لأن الله سبحانه نصب الشهر علامة لجميع الناس يعرفون به ميقات صومهم وحجهم وعِدَد نسائهم وحلول ديونهم.

وكان رسول الله ﷺ يبشر أصحابه بقدومه، كما روى ابن خزيمة في صحيحه عن سلمان، قال: خطبنا رسول الله ﷺ في آخر يوم من شعبان فقال: «إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر كتب الله عليكم صيامه، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعًا، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء».

فسماه رسول الله ﷺ شهر الصبر، لأن فيه صبرًا على طاعة الله من الصيام والصلاة، وصبرًا عما حرم الله من الطعام والشراب وسائر ما يفطر الصائم أو يجرح صومه أو ينقص ثوابه وأجره. وصبرًا على أقدار الله المؤلمة ومنها الصوم الذي قدره الله وفرضه على عباده. وسماه «شهر المساواة»، لأن المسلمين يتساوون فيه في الجوع لرب العالمين غنيهم وفقيرهم، فيصبح المسلم صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضى ربه ومحبوبه. والله يقول: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [145]

«وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ»: يعني أن الخيرات وسعة الأرزاق تنبسط في رمضان حتى تكون أوفر فيه من غيره. وكان الفقراء يفرحون بقدومه لاتساع الرزق عليهم لأن للطاعات أثرها في سعة الرزق وبسطته.

والصوم عبادة دينية ورياضة بدنية وتأديب للشهوة الإنسانية لتتعود الصبر على طاعة الله ثم الصبر عما حرم الله، وحتى يقوى صاحبها على كبح جماح نفسه عن الشهوات وعلى ترك المألوفات والمحرمات.. ولهذا أسماه رسول الله ﷺ «شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ» ، ولم يشرع الله الصيام إلا لمصلحة تعود على الناس في أديانهم وأبدانهم وإيمانهم، لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات، كالصيام والصلاة والزكاة إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، لكون الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودفع المضار، فهي عنوان النظام والكمال والتهذيب.

كما أن الصيام نوع من الجهاد في سبيل الله، لكون المجاهد هو من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل، وقد وعد الله المجاهدين في سبيله بأنه لا يصيبهم جوع ولا ظمأ ولا تعب إلا كتب لهم به حسنات ورفع درجات في الجنات. فقال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَ‍ُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٢٠ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةٗ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةٗ وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢١ [التوبة: 120-121] من سورة التوبة.

والصوم هو من أسباب الصحة للأبدان ويستشفى به من أدواء كثيرة، أهمها داء السكر الذي هو داء المترفين، لأن في البدن فضولاً سيالة تنشف بالصوم فتقوى العضلات ويعتدل الهضم ويشتهي الطعام باشتياق أشبه تضمير الخيل للسباق فهو من الحمية التي تعقب البدن الصحة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا تَصِحُّوا»[146]، وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةً، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. يعني أن الصوم يزكي البدن وينميه.

ومن المشاهد بالاعتبار أن الذين يعتادون التطوع بالصيام أنهم من أصح الناس أجسامًا وأطول الناس أعمارًا، ويجدون قوة ولذة في صومهم أشد مما يجدها المتنعم في أكله وشربه، وللصائم فرحة عاجلة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم تقبل الله منهم.

* * *

[144] أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس. [145] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [146] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة.

فصل في تفضل الشهور القمرية على الشهور الشمسية

لقد سمعنا من بعض الجهال تفضيلهم الشهور الشمسية التي عليها مدار الحساب الميلادي على الشهور القمرية بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاءً ولا صيفًا، وهذا التفضيل بهذه الصفة غلط في التعبير وخطأ في التفضيل لا يصدر إلا عن جهل عريق وجفاء عميق.. فإن الشهور الشمسية لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب، وأكثرهم لا يعرفها ولا يعرف اسم الشهر ولا كم مضى منه إلا عن طريق الجداول المخصصة لها، لأنها ليست بشهور مشهورة تشاهد بالعيان، وإنما هي عبارة عن حزر[147] أيام يسمونها أشهرًا، وأكثر العامة لا يعرفونها ولا يعرفون كم مضى من الشهر. وقد عمل علماء المسلمين طريقة لحساب السنة لا تتغير شتاءً ولا صيفًا، فجعلوا السنة اثني عشر برجًا، أي كل فصل على مقدار الشهر فبعضها ثلاثون وبعضها واحد وثلاثون وبعضها تسعة وعشرون، فجعلوا للشتاء ثلاثة بروج أحدها الجدي وهو تسعة وعشرون يومًا، والدلو ثلاثون يومًا، والحوت ثلاثون يومًا. وللربيع ثلاثة بروج أحدها الحمل وهو واحد وثلاثون يومًا، وبرج الثور واحد وثلاثون يومًا، وبرج الجوزاء اثنان وثلاثون.. وهكذا سائر البروج فما من شيء من المحاسن إلا وقد سبق الإسلام إليه وأخذ بالنصيب الوافر منه. أما الشهور العربية القمرية فكل الناس يعرفونها لشهرتها ومشاهدتهم لها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ [التوبة: 36].

وقال سبحانه: ﴿ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ [البقرة: 197]، وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»، وفي رواية قال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ»[148].

فهي شهور مشتهرة متركزة في السماء يستوي في العلم بها العالم والعامي والحضري والبدوي والرجال والنساء، حتى إنهم ليعرفون كم مضى من الشهر بمعرفة منزلة القمر، لكونه منصوبًا لكافة الناس في معرفة صومهم وحجهم والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب أن يكون ثابت الأركان لا يتغير في مكان دون مكان، كما أن علماء الهيئة في هذا الزمان أثبتوا عدم تغيره في مطلعه ومغيبه، وأن طلوعه في المشرق كطلوعه في المغرب على حد سواء.

فإذا طلع في المشرق قبل الشمس طلع في المغرب قبلها، وإذا غاب في المشرق قبل الشمس غاب في المغرب قبلها على حد سواء، وما يذكر من اختلاف المطالع عند استهلاله فمنشؤه من تحقق الرؤية وعدمها وإزالة المانع ووجوده، فالاختلاف هو من الرؤية لا من المرئي. وإنما سمي شهرًا لشهرته، كما سمي هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، يقول الله تعالى: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189] وسبب هذا السؤال أن أناسًا من الصحابة قالوا: يا رسول الله إن الهلال يبدو ضعيفًا ضئيلاً ثم يكبر إلى أن يصير بدرًا ثم يأخذ في النقص إلى أن يضمحل. فأنزل الله سبحانه ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]، فعدل بهم - سبحانه - عن الاشتغال بالسؤال عن جرم الهلال إلى الإخبار بما يترتب عليه خلق الهلال من المصالح والأحكام، إذ هي المقصود الأعظم من خلق الهلال، يقول الله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥ [يونس: 5].

* * *

[147] حزر: تقدير. [148] أخرجه مالك في الموطأ من حديث ابن عباس.

فصل في صفة نزول القرآن على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام

قال الله عز وجل: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا ٣٢ وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا ٣٣ [الفرقان: 32-33] وقال سبحانه: ﴿وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا ١٠٦ [الإسراء: 106] وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ [البقرة: 185] وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ»، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصد عرقًا.

وروى البخاري عن ابن عباس قي قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 16-17]، قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه خشية أن ينساه، فأنزل الله ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 16-17]، أي جمعه لك في صدرك وتقرأه، ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ، - أي أوحيناه - ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨، أي فاستمع له وأنصت ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩، أي علينا أن تقرأه فلا تنسى شيئًا منه. فكان رسول الله ﷺ إذا أتاه بعد ذلك جبريل استمع له وأنصت، فإذا ارتفع عنه جبريل قرأه النبي بدون أن ينسى شيئًا منه. حتى إنها لتنزل عليه السورة الطويلة كسورة الأنعام - فإنها نزلت عليه جملة واحدة - فيقوم رسول الله حافظًا لها من ساعته، والحافظ المجد صاحب الذاكرة القوية يمكث في حفظها الشهر والشهرين فلا يتقن حفظها مع ممارسته لقراءتها، والنبي ﷺ كان أميا وقد فاجأه الوحي بغار حراء، وهو لا يكتب ولا يقرأ المكتوب صيانة للوحي من أن تتطرق إليه الظنون الكاذبة، فيقال: كتبه من كتاب كذا أو تعلمه من كذا.

وليس عند قريش في مكة مدارس ولا كتب، ويسمون بالأميين لكون الأمية سائدة من بينهم، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49].

ويقول أيضًا: ﴿أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٥١ [العنكبوت: 51]، فكان القرآن هو المعجزة العظمى للنبي محمد ﷺ كما في البخاري أن النبيﷺ قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من المعجزات ما آمن به البشر، وإن المعجزة التي أوتيتها هو هذا القرآن، وإني أرجو أن أكون أكثرهم تبعًا».

نشأ ﷺ يتيمًا في حجر عمه أبي طالب بمكة، وكان أهل مكة وكافة قريش يطلقون عليه اسم الأمين، وقد رعى الغنم بقراريط لأهل مكة، وقال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ» فقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ [البقرة: 185] قيل: إنه أنزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل منجمًا على قدر الوقائع. حكاه ابن جرير وابن كثير والبغوي والقرطبي عن ابن عباس ولم يحكوا قولاً غيره. لهذا ظن كثير من العلماء والمفسرين أن التفسير به صحيح لكثرة ما يمر ذكره بأسماعهم.

وقال ابن الجوزي في التفسير: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل فيه القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا. قاله ابن عباس، والقول الثاني: أن معناه أنزل فيه القرآن لغرض صيام رمضان، روي عن مجاهد والضحاك، والقول الثالث: أن القرآن ابتدئ بنزوله على النبيﷺ في رمضان، قاله ابن إسحاق وأبو سليمان الدمشقي.. انتهى.

وأقول: إن هذا القول الأخير هو الصحيح، وهو أن القرآن ابتدأ نزوله في رمضان في ليلة القدر منه وهي الليلة المباركة كما قال سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ [الدخان: 3]، وقال: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ١ [القدر: 1]، ومعنى إنزال القرآن في شهر رمضان مع أنه من المعروف باليقين أن القرآن نزل منجمًا متفرقًا في خلال ثلاث وعشرين سنة زمن البعثة: أنه ابتدئ نزول القرآن في رمضان، لكون لفظ القرآن والإنزال يطلقان ويراد بهما هذا القرآن بجملته، ويطلقان ويراد بهما بعضه، كقوله: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢ [الرحمن: 1-2] وإنما يتعلم الناس القرآن شيئًا بعد شيء، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وأن معنى ﴿أُنۡزِلَ فِيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ [البقرة: 185]: أي بدؤه وأوله.

وفي تفسير المنار ما يدل على الجزم بهذا وعدم الالتفات إلى ما يخالفه. فقد قال: إن معنى ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ [البقرة: 185]، أي ابتُدِئ نزوله في رمضان في ليلة القدر منه، وهي الليلة المباركة؛ لأن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجمًا متفرقًا في مدة البعثة كلها، على أن لفظ القرآن يطلق ويراد به القرآن بجملته ويطلق ويراد به بعضه، كما في الآية. قال: وقد ظن بعض المفسرين أن الآية مشكلة ورووا في حل الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل على النبي ﷺ منجمًا بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي ﷺ في رمضان، وهو خلاف ظاهر القرآن، إذ لا يقول سبحانه: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ وهو في السماء ولم ينزل بعد! قال: وقد رووا على هذا روايات في كون الكتب السماوية أنزلت في رمضان[149]، كما قالوا: إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان، وقال الأستاذ الإمام: ولم يصح من هذه الأقوال والروايات شيء وإنما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان.. انتهى.

لا يقال: إن القرآن شيء فاض على نفس محمد بدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن هذا حقيقة في الكفر به. يقول الله: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥[الشعراء:192-195]. وأما قول ابن عباس: إن القرآن نزل جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا[150]. فهذا القول خرج على سبيل الاجتهاد منه بدون أن يسنده، ويأجره الله عليه، وليس بالمرفوع حتى لا يكون للاجتهاد مجال في مخالفته، وكان ابن مسعود وبعض الصحابة يخالفون ابن عباس في كثير من تفسير الآيات مما يعلمون أنه قاله عن اجتهاد منه. وكذلك علماء التابعين، كمجاهد وسعيد بن جبير يخالفون ابن عباس في تفسير بعض الآيات. على أنه أعلم الصحابة بالتفسير بالاتفاق، حتى قيل: كأنه ينظر إلى الغيب عن ستر رقيق، وقد دعا له رسول الله ﷺ وقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[151]. لكن لا يلزم أن يكون كل ما يقوله في التفسير على سبيل الاجتهاد أنه الصحيح وما يخالفه فباطل؛ إذ المعلوم أن العلماء من الصحابة ومن بعدهم يتفاوتون في فهم بعض الآيات، وكل إنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء، إذ الكمال المطلق لله سبحانه وكم ترك أول لآخر.

وعلى فرض قول ابن عباس، فإن القرآن لم ينزل على النبي ﷺ في رمضان حينما يفسر بإنزاله إلى السماء الدنيا ولا تظهر به المنة على المؤمنين ولا تقوم عليهم به الحجة مادام في السماء، ولم يقل الله سبحانه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا. ثم إن القول بهذا يقوي حجة من قال: إن القرآن مخلوق وهو باطل قطعًا بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فإن القرآن كلام الله نزل به جبريل على رسول الله ﷺ بدون واسطة بيت العزة ولا غيره ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ [النحل: 102] وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥[الشعراء:192-195].

* * *

[149] يشير إلى عدم صحة حديث واثلة بن الأسقع أن النبي ﷺ، قال: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» رواه الإمام أحمد وابن جرير. ومما يدل على ضعفه يقين ليلة القدر وأنها لأربع وعشرين من رمضان، والصحيح عدم اليقين في يقينها لإخفائها عن الناس فدل على عدم صحة الحديث [150] أورده ابن كثير في تفسيره والقرطبي في تفسيره عن ابن عباس. [151] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس.

فصل فيما يستفيده الصائم من الخيرات في الآخرة والحياة

ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ». رواه الترمذي والنسائي والحاكم، وفيه: «يُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ فِيْهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ». وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله ﷺ قال يومًا وقد حضر رمضان: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، يَغْشَاكُمُ اللَّهُ فِيْهِ، فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَيَحُطُّ الْخَطِيئَةَ، وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ الدُّعَاءَ، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ فِيْهِ فَيُبَاهِيَ بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيْهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الطبراني ورواته ثقات، ولأجل هذه الفضائل جرى تبادل التهاني بين المسلمين في دخوله، بحيث يهنئ بعضهم بعضًا ببلوغه، لأن بلوغه نعمة عظيمة في حق من أطاع الله واتقى، إذ لا أفضل من مسلم يعمر في الإسلام للتزود من الصلاة والصدقة والصيام وصالح الأعمال، وأن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم لصلاة ركعة أو صدقة أو صيام يوم ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة، يقول المفرط منهم: ﴿قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا، قد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.

والدنيا مزرعة الآخرة تزرع فيها الأعمال الصالحة، بحيث يقال لهم: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢ [النحل: 32] فمن خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
غدًا توفى النفوس ما عملت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
وشهر رمضان شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهير للقلوب من الفساد وقمع للشهوة والشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب توسع الناس في العبادات وتنافسهم في الأعمال الصالحات، التي من جملتها الإكثار من الصلاة وبسط اليد بالصدقات وصلة القرابات والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات وكثرة الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتكثير أيدي المفطرين من الصوام على الطعام، وهذه الخلال جدير بأن تفتح لفاعلها أبواب الجنان وتغلق عنه أبواب النيران.

وقد كان رسول الله ﷺ أجود الناس. وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فيتضاعف جوده بالعطاء والصدقة والإحسان وتلاوة القرآن قدرًا زائدًا على سائر الزمان.. لأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان ومكانًا على مكان وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان فأنزل فيه القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقًا من النار.. وقد أقسم رسول اللهﷺ أنه ما مر بالمسلمين شهر هو خير لهم من رمضان.
أتى رمضان مزرعة العباد
لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً
وزادك فاتخذه للمعاد
ومن زرع الحبوب وما سقاها
تأوّه نادمًا وقت الحصاد

* * *

فصل في مضاعفة ثواب الصدقة والأعمال الصالحة في رمضان

إن الصدقة في رمضان فيها فضل كثير لشرف الزمان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان، كما روى الترمذي في صحيحه عن أنس قال: سئل النبي ﷺ أي الصدقة أفضل؟ فقال: «صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ». وكان السلف الصالح تنبسط أيديهم بالصدقة فيه رجاء مضاعفة الأجر، ففي الحديث: «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ»[152] والصدقة هي من أفضل أعمال الخير. وكان الصحابة والسلف الكرام يخصون رمضان بمزيد من الصدقة والإحسان، ومنهم من يجعله وقتًا لإخراج زكاة المال لقصد أن يتقوى بها من يعطاها من الصوام.

فيا معشر التجار، إن الله سبحانه قد أنعم عليكم بنعمة الغنى بالمال، وإن المال كاسمه ميال؛ إذ دوام الحال من المحال، وإن المال خير لمن أراد الله به الخير. وهذا الخير كالخيل لرجل أجر وعلى رجل وزر. فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور. فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله.. فإن مال الإنسان ما قدم، كما أن النبي ﷺ قال: «يَقُولُ الإنسان: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلْوَرَثَةِ»[153] والله يقول: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ ٧ [الحديد: 7].

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يَوْمٍ إِلَّا وبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[154].

إن بعض الناس يحسب الزكاة والصدقة مغرمًا ويراها ثقيلة في نفسه، كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا [التوبة: 98] وكذلك بعض الحضر. كما أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، والصحيح أنها مغنم وليست بمغرم في حق من وفقه الله لفعل الخير وأعانه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩ [الحشر: 9].

وقد قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم وقد مدح الله سبحانه الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم، أي يوقنون ويطمئنون بأن ما أنفقوه سيخلف لهم بخير منه، فما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩ [سبأ: 39] ويقول الله سبحانه: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة تحصل للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا يتسع رزقه وتنزل البركة في تجارته وصفقة يده، فلو جربتم لعرفتم، فاسمعوا ﴿وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦ [التغابن: 16].

ومن الدليل على مضاعفة ثواب الأعمال في رمضان قول النبي ﷺ للمرأة لما فاتها الحج معه، فقال: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تُعَادِلُ حَجَّةً» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ورواه مسلم ولفظه قال: قال رسول الله ﷺ لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟» قالت: لم يكن عندنا إلا ناضحان[155] فحج أبو ولدي وابنه على ناضح وترك لنا ناضحًا ننضح عليه. قال: «فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وفي رواية: «تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي».

ولا تكون عمرة في رمضان حتى يحرم بها من الميقات المشروع ويتمم بقية عملها من الطواف والسعي والحلق في رمضان، أما تردد المقيم بمكة إلى التنعيم لأخذ عمرة كما زعموا، فإن هذا لم يفعله النبي ﷺ ولا أمر به أحدًا من أصحابه ما عدا عائشة رضي الله عنها حين تلكأت عن الرجوع إلى المدينة فأمر أخاها عبد الرحمن بأن يحرمها من التنعيم، لقصد تطييب قلبها لا لتكون سنة. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله.

أما صوم رمضان بمكة فإنه عمل مستقل لا تعلق له بالعمرة، وقد ورد فيه حديث ضعيف جدا أخرجه ابن ماجه في سننه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا: «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ».

لكن مضاعفة الأعمال في رمضان وفي مكة ثابتة بالنصوص الصحيحة لشرف الزمان والمكان فيتضاعف ثواب الصلاة فرضها ونفلها.. كما روى الإمام أحمد وصححه ابن حبان عن أبي الزبير، قال: قال رسول الله ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ».. والله أعلم.

* * *

[152] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح من حديث سلمان. [153] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [154] رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء ورواه ابن حبان والحاكم. [155] الناضح: الذي يُستقى عليه الماء.

فصل في وُجوب إمساك الصائم عن الإجرام والآثام وسائر ما يجرح الصيام

ثبت في البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، والصيام جنة، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَاتَمَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».

وعن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»، ثم تلا ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٧ [السجدة: 16-17] رواه الترمذي وصححه. فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الصوم جُنة يستجن به المسلم من الإجرام والآثام ومن الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور واللعن والسب ورديء الكلام ومن الخصام وظلم الأنام، حتى لو تعدى أحد فسبه أو شتمه وجب أن يلجم نفسه بلجام التقوى وأن يتمسك من الورع بالعروة الوثقى ويقول: إني صائم، كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان، ومن كان الصوم له جُنة في الدنيا عن الإجرام والآثام كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
وترك مقال الزور في الناس واجب
ولكنه من صائم ذو تأكد
لتذكير نفس أو لدفع معتد
فإن شتم أشرع له أنا صائم
وروى البخاري وأبو داود قال: قال رسول الله ﷺ «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، لكونه لا يتم التقرب إلى الله بترك الأكل والشرب في الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه من الكذب والظلم والعدوان على الناس، لحديث: «ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام عن اللغو والرفث»[156].

لهذا قال السلف: أهون الصيام ترك الطعام والشراب.. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ»[157] لأن كل صيام أو قيام لا ينهى صاحبه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد به صاحبه إلا بعدًا.. ولهذا قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء([158].

إن من يتقرب إلى الله بترك المباحات من الشراب والطعام في حالة الصيام ثم يرتكب المحرمات من الزنا والربا وشرب الخمر، فإنه بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، فهو وإن كان صومه مجزيًا عند الجمهور، بحيث لا يؤمر بإعادته، إلا أن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به.

وروى أبو جعفر الباقر مرسلاً: «من أتى عليه رمضان فصام نهاره وصلى وردًا من ليله، وغض بصره وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكر إلى الجمعة، فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب»[159].

* * *

[156] أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة. [157] رواه ابن ماجه واللفظ له من حديث أبي هريرة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. [158] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث جابر. [159] أخرجه ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان.

فصل في فضل قراءة القرآن بالتدبر

إن الله سبحانه خص رمضان بإنزال القرآن، الذي أفاض فيه على المؤمن هداية الرحمن، كما خصه بوجوب الصيام وكما خصه ببعثة محمد ﷺ برسالته العامة لجميع الأنام، الخاص منهم والعام، والناسخة لما سبقها من الشرائع والأحكام، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فهو سفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الوقوع في الرذيلة، ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ [الجن: 1-2].. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا.

أوجب الله على المؤمنين صيام شهر رمضان، تذكيرًا لهم بنعمة إنزال القرآن، وبعثة محمد ﷺ، ولهذا كان جبريل يدارس الرسول ﷺ القرآن في رمضان، فيتضاعف جوده بالعبادة والصدقة والإحسان، قدرًا زائدًا على سائر الزمان، وكان السلف يتدارسون القرآن في رمضان، ويقومون به الليل بما يسمى قيام رمضان.. والنبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»[160] رواه مسلم. وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن القرآن حجة لأقوام وحجة على آخرين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥ [التوبة: 124-125].

قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن فقام سالمًا، بل إما له وإما عليه. ولهذا قال ابن مسعود: القرآن شافع مشفع، وماحل - أي مخاصم - مصدق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.[161] وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن اتبعه قذف به في النار [162].
تدبر كتاب الله ينفعك وعظه
فإن كتاب الله أبلغ واعظ
وبالقلب ثم العين لاحظه واعتبر
معانيَه فَهْو الهدَى للملاحظ
وعن عبد الله بن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فاقبلوا مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِيْنُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ، لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَاتْلُوهُ، فَإِنَّ اللهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ كُلَّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، لَا أَقُولُ: {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» رواه الحاكم.

وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ». قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ، قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ إِلَّا أَنْ قَالُوا: ﴿ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ [الجن: 1-2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي: إسناده مجهول، وفي إسناده الحارث الأعور، وفيه مقال.

والقرآن إنما أنزل لتدبره وتوطين النفس للعمل به، ومن قرأ القرآن ولم يعمل به فقد ضرب الله به مثل السوء ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ [الجمعة: 5] أي كتبًا لا يدري ما فيها.
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا - أي كلفوا العمل بها فلم يعملوا بها - ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وهذا الذم ينطبق على كل من حمل القرآن فلم يعمل به، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ [المائدة: 68] معناه بالضبط يا أهل الإسلام لستم على شيء حتى تقيموا القرآن فتحافظوا على فرائضه وتجتنبوا محارمه. وقد أخبر النبي ﷺ أن أناسًا من هذه الأمة يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وأخبر أن أناسًا يقرؤون القرآن يقيمونه كما يقام القِدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه، يعني أنهم يتعجلون أخذ الأجرة على التلاوة ولا يتأجلون أجره وثوابه.

ومر عمران بن حصين على قارئ يقرأ القرآن فلما فرغ من قراءته أخذ يسأل الناس فاسترجع عمران ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ أُنَاسًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ، فَاقْرَؤُوا الْقُرْآنَ واسألوا بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»[163].

ويستحب تحسين الصوت بالقراءة لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» أي يحسن صوته بالقراءة. وقال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»، ومعنى أذن: يعني استمع لكون حسن الصوت يستدعي الإصغاء والاتعاظ، كما في الحديث «حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ»[164]. ويستحب أن يحتسب ثواب قراءته لنفسه ويدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، أما إهداء ثواب القراءة فلم يثبت عن رسول الله ﷺ الأمر به ولا عن الصحابة فعله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لم يكن من عادة الصحابة والسلف الصالح إذا صاموا تطوعًا أو حجّوا تطوعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى موتاهم، فلا ينبغي العدول عن طريقة السلف فإنها أفضل وأكمل. وقال: إنه لو أوصى بمال في ختمات فإن هذا المال يصرف على الفقراء والمساكين، فهؤلاء الذين يبيعون الختمات على الناس، بحيث يشتريها من يهدي ثوابها لموتاهم فإنه ليس لهم ثواب ولا أجر في قراءتهم حتى يشترى هذا الثواب منهم، وإنما يتحيلون على الناس بأكل أموالهم، وأكثر من يفعل هذا هم الهمج السذج الذين ليس لهم حظ من العلم والمعرفة والعقيدة الصالحة، ومثله تعليق ما يسمونه الجامعة والحروز على الأجساد والأولاد، سواء كانت من القرآن أو من غير القرآن، فإنه منهي عنها على الإطلاق لحديث: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا فَقَدْ أَشْرَكَ»[165]، وقال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ»[166]. وقال: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»[167]. والنهي شامل لكل ما يعلق من القرآن أو غير القرآن. والله أعلم.

* * *

[160] رواه مسلم عن أبي هريرة. [161] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن مسعود. [162] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي موسى الأشعري. [163] أخرجه أحمد من حديث عمران بن حصين. [164] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عمر. [165] أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ «مَنْ سَحَرَ فَقَدْ أشرك، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ». [166] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [167] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عكيم.

فصل في صلاة التراويح

إن الله سبحانه لا يشرع شيئًا من العبادات، كالصلاة والصيام وقيام الليل، وخاصة قيام رمضان إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة.. فالصلاة بما أنها عبادة دينية لحديث: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ»[168] فإنها أيضًا رياضة بدنية لكون الدين يجمع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة وبين مصالح الروح ومصالح الجسد.. وكذلك الصيام فإنه عبادة دينية ورياضة بدنية وتأديب للشهوة البهيمية، شرعه وفرضه مَن يعلم ما في ضمنه من مصلحة العباد من زيادة الإيمان وصحة الأبدان، وقد راعى النبي ﷺ التنبيه على ذلك بقوله: «صُومُوا تَصِحُّوا».[169] وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[170] لكونه يزكي البدن أي ينميه.. وقد سن رسول الله ﷺ صلاة التراويح قولاً منه وفعلاً، فروى البخاري ومسلم، قال: كان رسول الله ﷺ يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ويقول: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى غَصَّ المسجد بالناس، فلم يخرج إليهم رسول الله، فلما أصبح قال: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلَّا أَنِّي خَشِيْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ». وذلك في رمضان. قالت عائشة: إن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم[171]. وقد زال هذا المحذور الذي خشيه رسول الله ﷺ، وبقي الاستحباب على حاله، فتعتبر صلاة التراويح جماعة سنة سنها رسول الله ﷺ لأمته، ويدل له حديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[172]. قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.

وروى البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها[173]. يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله وينامون آخره.. فقول عمر: نعمت البدعة هذه، ليس معناه أن عمر هو الذي ابتدع صلاة التراويح. فقد سنها رسول الله ﷺ قبله، حيث صلاها بالناس ثلاث ليال واعتذر عن مواصلة عمله بصلاته بهم جماعة، لأنه خشي أن تفرض عليهم فيعجزوا. وأنه كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، كما ترك صلاة الضحى من أجله. وحسبك أن الناس زمن رسول الله وزمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، يصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط من الجماعة بدون أن ينكر عليهم رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في فعلهم لها جماعة.

فصلاة التراويح جماعة لا شك في مشروعيتها وأنها سنة سنها رسول الله ﷺ بقوله وفعله. وليس ببدعة، وإنما أراد عمر بقوله: نعمت البدعة هذه: يعني تنظيم الناس على الاجتماع لصلاتها، حيث ضم الجماعات والأفراد لصلاة التراويح على إمام واحد بالعمل المستمر، فكان أُبي بن كعب يصلي بالرجال وتميم الداري يصلي بالنساء، ولم ينكر هذا العمل أحد من المهاجرين ولا الأنصار فكان سنة والفضل للسابق.

وقد أخذ بعض الفقهاء من لفظة عمر: نعمت البدعة أن التراويح بدعة حسنة، وليس في الشرع بدعة حسنة أبدًا، بل كل بدعة سيئة وكل بدعة ضلالة. وصلاة التراويح سنة حسنة وليست من البدعة في شيء، لكون البدعة هي ما يفعل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع. وكذلك جمع القرآن، فقد حكم الله بجمعه في كتابه، قال سبحانه: ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 17]، فلو ترك الصحابة جمعه لأثموا، لكون عدم جمعه مدعاة إلى ضياعه.

وسميت تراويح من أجل أنهم يستريحون بعد كل أربع ركعات لكونهم يعتمدون على العصي من طول القيام ولا ينصرفون منها إلا في فروع الفجر، وكانوا يحزبون القرآن فيختمونه في سبع ليال يقرؤون في الليلة الأولى بالبقرة وآل عمران والنساء.

كما قال أصحاب ابن مسعود: كنا نحزب القرآن ثلاثًا وخمسًا وسبعًا وتسعًا وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد وأوله (ق).

والتراويح هي من قيام الليل المطلق ليست محصورة بعدد، فكان بعضهم يصليها بعشرين، وبعضهم يصليها بست وثلاثين، وبعضهم يصليها بإحدى عشرة، وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.

ولنعلم أن لب الصلاة الخشوع، وصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ [المؤمنون: 1-2]. فما يفعله بعض الناس من السرعة الزائدة في صلاة التراويح يعتبر خطأ.. فإن صلاة ركعتين بخشوع في القيام والركوع والسجود أفضل من أربع ركعات وست ركعات بلا خشوع.

ويصليها الرجل في جماعة أو في بيته، وكذلك المرأة تصليها في الجماعة أو في بيتها وهو أفضل.

والتراويح بما أنها من أسباب محبة الرب للعبد، كما في الحديث: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»[174] فإنها من أسباب الصحة للجسم، كما في الحديث «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ»[175]، وذلك أن الصائم يأتي إلى الفَطور في حالة شدة الشهوة فيأكل ويشرب إلى غاية الشبع ونهاية الامتلاء، ومن لوازم هذا الشبع والامتلاء استرخاء الأعضاء وسريان الفتور فيها فيستولي عليه الكسل والضعف فكان في أشد الحاجة إلى التخفيف والهضم، لهذا شرع الله على لسان نبيه صلاة التراويح التي لا يزال فيها بين قيام وقعود وركوع وسجود إلى أن ينصرف منها وقد استعاد نشاطه وقوته ودب فيه روح السرور والهناء والغبطة، فيتحلل عنه مضرة ذلك الامتلاء وتبقى فيه منفعته، وهذا من حكم الشريعة التي جعلها الله بمثابة الشفاء من سائر الأدواء؛ لأن الله لا يشرع شيئًا من العبادات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، فهي رياضة بدنية وعبادة دينية.

* * *

[168] أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. [169] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [170] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. [171] متفق عليه من حديث عائشة. [172] أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر. [173] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر بن الخطاب. [174] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [175] رواه الترمذي عن أبي أمامة وبلال.

فصل في فضل أكلة السحور وقت السحر

إن تناول أكلة السحور وقت السحر سنة سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ويستحب تعجيل الفطور وتأخير السحور، وقد سماه رسول الله ﷺ بالغداء المبارك لما روى العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله ﷺ إلى السحور في رمضان، قال: «هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وصححه ابن حبان.

وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» رواه البخاري ومسلم عن أنس. وقال «فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ»[176]، وقال: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً»[177] وقال: «تَسَحَّرُوا، ونِعْمَ السَّحُورُ التَّمْرُ»[178]، وقال: «تَسَحَّرُوا، وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»[179] فأرشد النبي ﷺ أمته إلى أكلة السحور ورغبهم فيه ولو بأقل شيء ليستعينوا بالسحور على الصيام، ثم ليتعودوا القيام من آخر الليل لذكر الله والصلاة والاستغفار؛ لأن الله سبحانه ينزل آخر الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟»[180]. فأحب رسول الله ﷺ من أمته أن يستيقظوا في هذا الوقت المبارك حتى يكون منهم من يذكر الله، ومنهم من يستغفر، ومنهم من يصلي، ومنهم من يدعو، ومنهم من يتلو القرآن، وحتى لا يكونوا من الغافلين. فسماه السحور المبارك من أجل ما يترتب عليه من الفضائل، ومن أجل أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. وحسبك بها من فضيلة، ويتبعها ما هو أفضل منها وهو شهود المتسحرين لصلاة الفجر في جماعة، الذي ورد فيه حديث: «مَنْ صَلَّى الفجر فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ»[181] وقال: «مَنْ صَلَّى الفجر فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُمْسِيَ»[182].

وهذا كله من فضائل التيقظ للسحور. أما الرجل الأكول النؤوم الذي يملأ بطنه من أصناف الطعام ولحوم الأنعام، ثم ينام عليه بعد العشاء ولعله لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس أو إلى وقت الضحى فلا شك أن هذه خلة ذميمة وعادة لئيمة، فكم فات رقّاد الضحى من غنيمة.. فإن التقلل من العشاء والتيقظ وقت السحر فضيلة.. فقد قيل: نم مبكرًا وقم مبكرًا ترى الصحة أحسن ما ترى. وفي وقت السحر تنزل الرحمة وتقسم الغنيمة، فما يطلع الفجر إلا وقد حاز القائمون الغنيمة وحمدوا عند الصباح السرى وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنْ هُوَ قَامَ وَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتِ الْعُقْدَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِنْ صَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، وَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ».

ومن شعر عبد الله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا اشتعلت بالمشركين المضاجع

[176] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن العاص بلفظ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ». [177] رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر. [178] رواه الطبراني في الكبير من حديث السائب بن يزيد، ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ». [179] رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر. [180] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة. [181]رواه مالك ومسلم وأبو داود من حديث عثمان بن عفان ولفظه: قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ». [182] رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله.

فصل في أحكام الصيام الفقهية

ومن أحكام الصيام الفقهية أنه يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل. ويؤمر به الصغير متى أطاقه لتمرينه على العبادة كالصلاة، ويجب تبييت نية الصيام من الليل لحديث حفصة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه. والنية قلبية ومعناها القصد، ومتى خطر في قلب الشخص أنه غدًا صائم فقد نوى. وقد رخص للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة متى بلغا في السن فوق الثمانين ويشق عليهما الصوم فوق المشقة المعتادة بأن يفطرا، ويطعم كل واحد منهما عن كل يوم مسكينًا، ومثله من به مرض ملازم له كمرض السل ونحوه، ويقول الأطباء: إن الصوم يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه، فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

وقدر الفقهاء الإطعام بمدين من الطعام، ونقدره فيمن غالب قوتهم الأرز بكيلو من الأرز، وإن أطعم فقيرًا أكلة تامة من طعامه الذي يأكله بدون تملك أجزأه ذلك؛ لأن الله سبحانه ذكر في كتابه المبين إطعام المسكين في حق الشيخ الكبير إذا أفطر، وفي كفارة اليمين، وأطلق الإطعام ولم يقيده بالتملك فدل على جوازه بمجرد الإطعام، كما حققه العلامة ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن عشَّى فقيرًا من طعامه فقد قام بواجب إطعامه. وكذلك من عشى عشرة مساكين في كفارة اليمين أجزأه ذلك في تحلة قسمه.

ولا بأس بالفطر في السفر متى أيقن بالعزم على القضاء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]، وإن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، لما روى مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح في ذلك؟ فقال رسول اللهﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». ومن أفطر رمضان أو بعضه لمرض ثم توفي من مرضه ذلك قبل أن يتمكن من القضاء، فلا يجب على ورثته إطعام ولا صيام لعدم وجوبه على المتوفى المذكور.

أما إذا أفطر لعذر المرض، ثم عوفي وبرئ من مرضه ومكث وقتًا يتمكن فيه من القضاء فيه، ثم توفي قبل أن يقضي ما عليه، فإنه يطعَم عنه عن كل يوم مسكين، ومثله من أفطر لعذر السفر وهذا ظاهر المذهب. والصحيح أنه إن صام عنه وليه أجزأه لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، والصحيح حمله على الإطلاق في صوم النذر والفرض. قال ابن عبد القوي:
ويشرع أن يقضى عن الميْت نذره
كحج وصوم واعتكاف بمسجد
ونذر صلاة النفل يقضَى بأوكد
ولو قيل يقضَى فرضه لمبعد
وأما مختل الشعور عديم العقل والمعرفة فلا صيام عليه ولا إطعام، لكونه مرفوعًا عنه القلم.

ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه فلا قضاء عليه، ومن استيقظ بعد الفجر فأكل وشرب ظانا أنه ليل فتبين أن الفجر طالع فصيامه صحيح ولا قضاء عليه لدخوله تحت العفو. فقد عفي لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ومن غلبه القيء فخرج بغير اختياره فلا قضاء عليه، ومن أخرجه باختياره فعليه القضاء. ويجوز للصائم أن يستاك أول النهار وآخره، لما في البخاري عن عامر بن ربيعة، قال: رأيت النبي ﷺ - لا أعد ولا أحصي - يستاك وهو صائم. لأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، وبمعنى السواك غسل الأسنان بالمعجون فيجوز، ومن استيقظ آخر الليل وعليه جنابة ويخشى إن اغتسل أن يطلع عليه الفجر ويفوته السحور، فإنه يجوز له أن يتسحر وهو جنب ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر وصيامه صحيح، لما في البخاري أن النبي ﷺ كان يصبح جنبًا ثم يغتسل ويصوم. وكذلك المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل ورأت أمارات النقاء فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس وصيامها صحيح لكونه لا يشترط للصيام الطهارة من الحدث.

وإذا اغتسلت وجب عليها أن تقضي صلاة المغرب، ثم صلاة العشاء، ثم صلاة الفجر على الترتيب من تلك الليلة التي انقطع عنها دم الحيض فيها. وإذا انقطع عنها دم الولادة بعد عشرة أيام من ولادتها أو بعد عشرين يومًا أو أقل أو أكثر، فإنه يجب عليها من حين انقطاع الدم أن تغتسل وتصوم وتصلي، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وما يفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس ثم تمكث اليوم واليومين والثلاثة لا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم فيها كلها تقول: أخشى أن يعود عليّ الدم. فهذا جهل وخطأ وتفريط منها في عبادة ربها لا ينبغي أن تفعله، فإن واجب المسلمة أن تبادر إلى الاغتسال من حين انقطاع الدم عنها من غير تأخير، ثم تقوم بواجباتها من صلاتها وصيامها. فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

وكذلك نساء البوادي اللائي يسكنَّ في الصحراء فينقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس وليس عندها ماء تغتسل به، فإنها يجب عليها أن تضرب التراب بيديها فتمسح به وجهها وكفيها تنوي بذلك رفع الحدث عنها ثم تصوم وتصلي؛ لأن التيمم يقوم مقام الطهارة بالماء.. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ [المائدة: 6] ثم تفعل ما تفعله النساء الطاهرات من قراءة القرآن ومس المصحف. وكذلك يفعل من عليه جنابة أو من يريد الوضوء للصلاة وقد انقطع الماء عن بيته فلا يجده إلا بطريق السؤال من الناس، فإنه يجب أن يتيمم ويصلي ولو كان بالبلد لاعتباره عادمًا للماء وقت الصلاة، والله يقول: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا.

ويقوم التيمم مقام الوضوء والغسل بالماء، لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» رواه البزار وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة، لكن صوب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه الحاكم.

وإذا صامت المرأة وبعد غروب الشمس عندما أفطرت رأت دم الحيض، فإن صيامها ذلك اليوم صحيح ولا ينبغي لها أن تشك في صحته؛ لأن الشك لا يرفع يقين الطهارة، وإذا اغتسلت المرأة من المحيض أو من النفاس، ثم رأت شيئًا من الكدرة أو الصفرة فإنها لا تبالي به. بل تصوم وتصلي وتقرأ القرآن وتمس المصحف، وكذا الجنابة لاعتبارها طاهرة، لما في البخاري عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئًا..

والاغتسال من المحيض والنفاس هو مثل الاغتسال من الجنابة على حد سواء فلا يلزمها أن تنقض شعر رأسها، بل تروي أصوله بالماء فحسب، كما أن ثوب الحائض طاهر فلا يلزمها غسله ولا إبداله إلا أن ترى شيئًا من الدم فيه فتغسله، والحامل متى خرج منها شيء من الدم فلا تبالي به، بل تصوم وتصلي؛ لأن هذا الدم ليس بدم حيض وإنما هو دم فساد يشبه دم الرعاف ودم الجرح.

والنبي ﷺ قال: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطير في الأفق؛ فإن بلالاً يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرد غائبكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت.. رواه البخاري ومسلم وفي آخره إدراج.. يقول الله: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ [البقرة: 187] والله أعلم.

* * *

فصل في المسارعة إلى الخيرات قبل الفوات أو الوفاة

قال الله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦ [آل عمران: 134-136].

أمر الله عباده بأن يبادروا ويسارعوا إلى الأعمال الصالحات قبل الفوات وقبل أن تحين الوفاة، فإن للتأخير آفات، ولهذا أمر سبحانه بالأخذ بالحزم وفعل أولي العزم في المبادرة إلى أفعال هذه الخيرات. فهي التي تؤهلهم من المغفرة والرحمة والفوز بالجنات، وقد مضى للأنبياء والأولياء أمثالها، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ ٩٠ [الأنبياء: 90].

وكما وصف الله عباده الصالحين بها، فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ ٦٠ أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ ٦١ [المؤمنون:60-61]، وقد سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويزنون؟ قال: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُوْنَ أَلَّا يقبل مِنْهُمْ»[183]. أولئك الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، لأن المؤمن هو من جمع إحسانًا وشفقًا، والمنافق هو من جمع إساءة وأمنًا فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

فالمسارعة إلى وسائل المغفرة والرحمة والفوز بالجنة بمعنى المسابقة التي أمر الله بها بقوله: ﴿فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ ٤٨ [المائدة: 48].. وقال: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١ [الواقعة: 10-11].. أي السابقون إلى الخيرات والأعمال الصالحات هم السابقون إلى الجنات، والسابقون إلى الصلوات والجمعات هم المقربون إلى الله في الجنات، ولهذا قال العلماء: إن الناس يكونون في القرب من الرب على قدر قربهم من الإمام يوم الجمعة.

وقال الحسن: إن الله سبحانه جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه العاملون ويخسر فيه المبطلون، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ ٢٦ [المطففين: 26]. وعن عمرو بن ميمون الأزدي قال: سمعت النبي ﷺ وهو يعظ رجلاً ويقول له: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ مُسْتَعْتَبٍ، وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ». رواه الترمذي مرسلاً.
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى
صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده
سوى جنة أو حر نار تضـرَّم
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة
وعدلك مقبول وصرفك قيّم
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا
ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسـرعا فالسيل خلفك مسـرعا
وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته
عليها القدوم أو عليك ستقدم
وقوله: ﴿أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ١٣٣: يعني أن الله سبحانه خلق الجنة كرامة ونعمة لمن أطاعه واتقاه. كما خلق النار عقابًا وعذابًا لمن خالف أمره وعصاه، ولما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي. قالت: قد أفلح المؤمنون.. قال: طوبى لك منزل الملوك. وإن الجنة هي سلعة الله الغالية لا تنال إلا بالأعمال الصالحة، وقد هيئت وأعدت للمتقين الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة واجتنبوا المحرمات وأنفقوا في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، لأن الله سبحانه يقول: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢ [النحل: 32] والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ [النساء: 131]، وحقيقتها تنحصر في فعل المأمورات واجتناب المحرمات خوفًا من عقاب الله ورجاء ثوابه.

ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك. ولكن التقوى هي أداء ما فرض الله وترك ما حرم الله وإن زدت على ذلك فهو خير إلى خير، فالمتقون يجعلون أعمالهم الصالحة بمثابة الوقاية دون عقاب الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «اتَّقُوا النَّارَ» ثم أعرض وأشاح، ثم قال: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».[184] وكان النبي ﷺ يخطب، فسأله رجل قال: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ للرب، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»[185].

وقد قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هي الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا كان ذا تقوى وإن حاك أو حجم
﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ [الطلاق: 2-3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّ‍َٔاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥ [الطلاق: 4-5]، ذلك أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا، فالتقوى هي قوام أمر الشخص وملاك دينه وغاية شرفه في دنياه وآخرته، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ [الحجرات: 13].

كما قيل:
لقد رفع الإسلامُ سلمان فارس
كما وضع الشـركُ الشقي أبا لهب
لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
ثم شرع سبحانه في أوصاف المتقين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ [آل‌عمران:134] أي ينفقون ويتصدقون في حالة اليسر والعسر لرغبتهم في الثواب والأجر وخوفهم من العقاب والوزر ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠ [الإنسان: 8-10].. إنهم لم يقولوا هذا الكلام حين أطعموا الطعام، ولكن الله علمه من قلوبهم فنطق به على ألسنتهم. وأفضل الصدقة جهد المقل. وابدأ بمن تعول ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ [الطلاق: 7].

وروى البخاري عن أبي مسعود الأنصاري، قال: حث النبي ﷺ على الصدقة ولم يكن عندنا مال، قال: فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق. وقد سبق درهم من فقير مائة درهم من غني.

وفي البخاري قال رجل للنبي ﷺ: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَأْمُلُ الْغِنَى، وتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ». وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللهﷺ: «لأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ»، ثم قال: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ [آل عمران: 134]. وهذه أيضًا من صفات المتقين الذين أعد الله لهم جنات النعيم أنهم يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس، والله عفو يحب العفو، فهم يحتسبون إسقاط حقهم عفوًا منهم عنه مع قدرتهم على الانتصار، وفي كظم الغيظ فضل عظيم وهو ينبئ عن رزانة العقل والرغبة في الخير، ولهذا يقال: ليست الأحلام في حال الرضا، إنما الأحلام في حين الغضب، لاسيما لصائم.. فإنه يستحب له متى غاضبه أحد أو شاتمه أن يلجم نفسه بلجام التقوى ويستمسك من الورع بالعروة الوثقى وليقل: إني صائم كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان؛ لأن الصوم جُنة يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام ورديء الكلام، ومن كان الصوم له جُنة في الدنيا كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

وقد سأل رجل النبي ﷺ قال: يا رسول الله، أوصني. قال: «لَا تَغْضَبْ»، فردد مرارًا، يقول: «لَا تَغْضَبْ»،[186] لأن الغضب يتفرع عنه كل شر.. وقد قال النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: «لَا لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».[187] ولهذا يستحب للرجل إذا غضب أن يتوضأ أو يغسل وجهه بالماء.. لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء يطفئ النار، وهو مجرب لتسكين الغضب.. ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤.. لأن الله سبحانه كتب الإحسان على كل شيء، على الناس فيما بينهم..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإحسان إنسانا
وحتى البهائم، ففي البخاري: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يَلْهَثُ مِنَ العَطَشِ، إِذْ نَزَعَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مُوقَهَا[188] فَسَقَتْهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهَا ذَلِكَ، فَغَفَرَ لَهَا». فقالوا: أولنا في البهائم أجر؟ قال: «نَعَمْ، إِنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا».

وقال: «دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».[189] ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ [آل‌عمران: 135].. فهذا من بعض أوصاف المتقين وأنهم إذا ارتكب أحدهم ذنبًا على حين غفلة أو غلبة شهوة أو غضب، فإنهم يفرون إلى الله بالتوبة ويتوبون إليه ويستغفرونه من ذنبهم ويندمون على ما وقع منهم، إذ ليس من شرط المتقين العصمة فقد يقترف أحدهم الذنب ثم يتوب إلى الله منه والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ ٢٠٢ [الأعراف: 201-202].

فأخبر الله عن الذين اتقوا بأنهم متى وقع من أحدهم ذنب أبصر الخروج منه بالتوبة عنه، وقد قيل:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا
وأي عبد لك لا ألمّا
وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على ألا لا يعود، وإن كانت عن مظالم مالية فيردها إلى أربابها لأنها من الديون التي لا يترك الله منها شيئًا، وأن الهلاك كل الهلاك في الإصرار على الذنوب وعدم التوبة منها، كما في الحديث: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ، الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»[190] و«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ»[191] كما ثبت بذلك الحديث، لكنه متى تاب من الذنب واستغفر منه وقلبه متعلق بمحبته وعازم على معاودته.. فإن هذه توبة الكذابين المستهزئين بربهم.

﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ [النساء: 18].

إن أعظم ما يهم به العاقل هو سؤال المغفرة والفوز بالجنة والعمل على حساب ذلك بأن يسعى لها سعيها وهو مؤمن.

وقد قال رجل للنبي ﷺ: إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إلا أني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار. قال رسول الله ﷺ: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»[192]. وفي صحيح ابن خزيمة عن سلمان في فضل رمضان أن النبي ﷺ قال: «إنه شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، والاستغفار، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهمَا: فَتُسْأَلُونَهُ الْجَنَّةَ، وَتَسْتَعِيْذُوْنَ بِهِ مِنَ النَّارِ».

وسيد الاستغفار هو أن يقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[193].

فبدأ سبحانه هذه الآيات بالدعوة إلى المغفرة والفوز بالجنة، وختمها بالمغفرة والفوز بالجنة والله أعلم.

فاعملوا لدار لا يموت سكانها ولا يخرب بنيانها ولا يتغير حسنها وإحسانها، هواؤها النسيم وماؤها التسنيم، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين ويتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين، ﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠ [يونس: 10].

* * *

[183] رواه الترمذي والإمام أحمد في مسنده. [184] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [185] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن درة بنت أبي لهب. [186] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [187] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [188] مُوقها: خُفَّها. [189] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [190] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. [191] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة. [192] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث أبي هريرة. [193] أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس.

فصل في فضل الدعاء وتحقيق نفعه لدفع البلاء ورفعه

قال الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦ [البقرة: 186].

فهذه الآية توجد متوسطة بين آيات الصيام من سورة البقرة، والحكمة في وضعها بين آيات الصيام أن المؤمن الصائم يتوسع في أفعال الطاعات ويكثر من الدعاء والتضرع إلى الله لعلمه أن للصائم دعوة ما ترد، وسبب نزولها أن أناسًا قالوا للنبي ﷺ:يا رسول الله، أربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية[194]. وكان رسول الله في سفر وكان الصحابة إذا علوا الربا كبروا وهللوا، وإذا هبطوا الأودية سبحوا يرفعون بذلك أصواتهم. فنادى منادي رسول الله ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا أقرب إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».[195]

قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، أي عباد الإجابة والدعوة الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإلا فكل الناس عبيد الله بطريق القهر والخلق والتكوين، ولكن السائلين المتضرعين هم عباد الله الصالحون المخلصون الذين يعبدون الله ويدعونه بما شرع لهم ولا يدعون معه أحدًا غيره.

فالدعاء عبادة، لما روى النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثم قرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [المؤمن: 60] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وقال: صحيح الإسناد.

وفي رواية: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ»[196] ومخ الشيء خالصه فليس شيء أكرم على الله من الدعاء، لأنه عماد الدين ونور السماوات والأرض وسلاح المؤمن وأنه لن يهلك مع الدعاء أحد، كما ثبت بذلك الحديث، والله يحب أن يسأل ويحب الملحين في الدعاء؛ ومن لم يسأل الله يغضب عليه.
الرب يغضب إن تركت سؤاله
وبُنيُّ آدم حين يسأل يغضب
ونظير هذا ما حكى الله عن نبيه يونس عليه السلام؛ وذلك أنه لما غاضبه قومه ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به خرج من البلد مغاضبًا فركب في سفينة، ثم إن السفينة أشرفت على الغرق فقذفوا في البحر جميع ما تحمله لتخف وترتفع فلم ترتفع، فاتفقوا على أن يعملوا قرعة فمن وقع عليه سهم القذف رموا به في البحر، فوقع سهم الإلقاء على نبي الله يونس بن متى، فرموا به في البحر لكون الأنبياء أشد الناس بلاء في الدنيا، قال الله: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ ١٤١ [الصافات:141]، أي الملقين ﴿فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ ١٤٢ [الصافات: 142]، أي أن الله سبحانه قد لامه على شدة الغضب الذي خرج من البلد بسببه، وكان من واجبه أن يصبر نفسه على أذى قومه.. فعند ذلك دعا ربه وهو في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة بطن الحوت.. فكان من دعائه: ﴿لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٨٧ [الأنبياء:87 ]، قال الله سبحانه: ﴿فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُ‍ۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٨٨ [الأنبياء: 88]، ثم ذكر الله سبب هذا الإنجاء وأن سببه كثرة دعائه لربه في حالة الرخاء، فقال تعالى: ﴿فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٤٤ [الصافات: 143-144] وفي الحديث أن النبيﷺ قال: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مكروب إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»[197]. فمن أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء، وإذا دعا المسلم بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم حصل له إحدى ثلاث خصال: «إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا». قالوا: إذًا نكثر يا رسول الله، قال: «فَضْلُ اللهِ أَكْثَرُ»[198]. ومن فتح له باب الدعاء وذاق حلاوته فقد فتح له باب الخير والرحمة والإجابة، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا أعطيت الدعاء وفقت للإجابة[199].

ولهذا يقال: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، ومتى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العباد والإنسان مخلوق للعبادة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56] فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسأم من الدعاء ولا يعجز عنه، ففي الحديث: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَدَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» [200]. وأفضل العبادة انتظار الفرج، وفي الحديث: «لوذوا بيا ذا الجلال والإكرام»:[201] أي الزموا وداوموا. والله يقول: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ [الفرقان: 77]، سواء قلنا: إن المراد به دعاء العبادة أو دعاء المسألة.

فالدعاء بمثابة الأشجار المثمرة والخزائن المدخرة ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فهو يدفع البلاء بعد انعقاده وقبل نزوله، ويرفعه بعد نزوله.. لقول النبي ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ، بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»[202]. فأخبر النبي ﷺ أن الدعاء يرد القدر والقضاء، وفي دعاء القنوت: «وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ»[203] فلو لم يكن الدعاء سببًا في صرف شر القدر والقضاء.. لما شرعه النبي وأرشد إليه أمته.. وفي المراسيل أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، واستدفعوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ».[204] وفي حديث ابن عباس: أن النبي ﷺ قال له: «احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» رواه الترمذي بطوله وقال: حديث حسن صحيح.

إنه متى كان الإنسان له معاملة مع ربه بالدعاء والتضرع في حالة رخائه وسرائه، ثم وقع في شدة من الشدات فدعا الله عز وجل، قالت الملائكة: يا رب صوت معروف من عبد معروف.. اللهم استجب دعاءه[205]. ولهذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم إنك أمرت بالدعاء ووعدت بالإجابة، وقد سألتك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني. إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه وتعتقد بأن دعاءك واقع بمسمع من الله.. كانت عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد أتت المجادلة - أي خولة بنت ثعلبة - إلى رسول الله ﷺ تشتكي زوجها - أي أوس بن الصامت - وتقول: إنه أفنى شبابي وأكل مالي وكان لي منه عيال، فلما كبر سنه ظاهر مني، أشكو إلى الله حالي، والله إني لفي ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه، فما برحت من مكانها حتى سمع الله تعالى شكواها وأنزل: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ١ [المجادلة: 1].... إنه يراك ﴿حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٢٢٠ [الشعراء: 218-220].

وللدعاء آداب ينبغي للداعي أن يتأدب بها؛ لأن من حُرم الأدب حرم التوفيق، كما أنها بمثابة الباب الذي يدخل على إجابة الدعاء من طريقه، والله يقول: ﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ [البقرة: 189]:

الأول: طيب المطعم وتنظيف البطن عن أكل الحرام. فقد ذكر رسول الله ﷺ الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك. رواه مسلم من حديث أبي هريرة. فكأن هذا بفعله قد سد باب الإجابة عن نفسه، وقد قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ»[206].

الثاني: أن يبدأ في دعائه بحمد الله والثناء على ربه والصلاة على نبيه، ثم يدعو بحاجته، فقد سمع النبي ﷺ رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي ﷺ فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي ﷺ ثم يدعو بحاجته»[207] لكون الوسائل مطلوبا تقديمها أمام المساءل، يقول الله: ﴿وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ [المائدة: 35]، فتقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله هي نِعْم الوسيلة التي ترفع الدعاء إلى الله.

ومنها: أن يمد يديه في دعائه؛ لأن في مد اليدين إظهارًا للتذلل والعبودية وإشعارًا بأنه فقير إلى ربه في كل حالاته. وفي الحديث: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا مَدَّ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» أي خائبتين. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث سلمان.

ومنها: أن يدعو بقلب حاضر موقن بالإجابة، وللدعاء في السجود سر عجيب، كما في الحديث: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»[208] فيدعو في سجوده سائر حاجاته من أمور الدنيا والآخرة وبصلاح دنياه وآخرته. وللدعاء أمر عجيب وحسن عاقبة في إصلاح الحال وإصلاح المال والعيال والتوفيق لصالح الأعمال.. فالذي له حظ ونصيب من الدعاء والتضرع إلى الله في كل حالاته وسائر حاجاته ويدعو له أبوه أو تدعو له أمه أو يدعو له الناس على حسن أعماله تجده ملحوظًا من الله بالتوفيق والتسديد وإصلاح الشأن والمحبة في قلوب الناس. أما من ليس له نصيب من الدعاء ولم يذق حلاوة المناجاة ويستكبر عن عبادة ربه ودعائه.. فهذا يعد محرومًا من الخير محرومًا من التقرب إلى الله والتحبب إليه، قد سد عن نفسه باب الرحمة والاستجابة؛ لأن نزع حلاوة المناجاة من القلب هي أشد عقوبة يعاقب بها الشخص وهو لا يشعر. وقد استعاذ النبي ﷺ من أربع، فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ»[209] أي لا يستجاب له.

ومتى كان الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فليعلم أن من صرف هذه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله ووقع في الشرك الأكبر الذي لا يُغفر.. فمن دعا نبيًّا أو دعا عليًّا أو دعا وليًّا أو دعا عبد القادر أو دعا العيدروس أو دعا صاحب قبر من القبور فقد أشرك بالله، ومن أشرك بالله قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ومن يشرك بالله فقد حبط عمله. وأخبر الله بأنه لا أضل ولا أظلم ممن يدعو مخلوقًا دون الله ويتوسل به في قضاء حاجاته وتفريج كرباته، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6]. فسمى الله دعاء الأنبياء والأولياء عبادة، فهؤلاء الذين يترددون رجالاً ونساءً على بعض القبور ويزعمون أنه قبر ولي وأنه يتصرف في الكون فيسألونه ويتوسلون به في قضاء حوائجهم وتفريج كربهم هم بالحقيقة من أضل الناس طريقة وأفسدهم عقيدة، وإنه لا أجهل ولا أظلم ولا أضل منهم. وإلا فكيف يدعون ميتًا رميمًا في قبره لا يستطيع زيادة في حسنات نفسه ولا نقصًا من سيئاته فضلاً عن أن ينفع غيره.. يقول الله: ﴿إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ ١٤ [فاطر: 14] وهو الله. ومثله الذين يأتون عند قبر رسول الله ﷺ فيتضرعون إليه ويسألونه، يقول أحدهم: يا محمد أغثني، يا محمد اشفع لي عند ربي.. وإذا قام أحدهم أو قعد قال: يا رسول الله أو يا علي.. فإن معنى يا رسول الله: أدعو رسول الله. ومعنى يا علي أو يا عبد القادر: أدعو عليًّا أو أدعو عبد القادر. والله يقول: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ [يونس: 18].

وشفاعة الرسول لا تنال من أشرك بالله، وإنما تكون لمن وحد الله ولم يشرك به أحدًا.. ولما قال رجل للنبي ﷺ: من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ فقال: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»[210] فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص ولا تكون لمن أشرك بالله. قال رجل للنبيﷺ: إنا نستشفع بك على الله، قال رسول الله ﷺ: «شأن الله أكبر من ذلك.. إنه لا يتشفع بالله على أحد من خلقه»[211] فنهى رسول الله عن الاستشفاع به أو بجاهه، وأمر أمته بأن يخلصوا دعاءهم لربهم وأن يكثروا من الصلاة عليه فقال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ» فأمر أمته بأن تدعو له؛ لأن الذي يُدعى له لا يُدعى ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106]. نعوذ بالله من الشرك والشك وسوء الأخلاق وفساد الاعتقاد.

* * *

[194] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة من حديث عيينة بن أبي عمران. [195] أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري. [196] رواه الترمذي من حديث أنس. [197] أخرجه الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص. [198]أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد. [199] ورد في شرح العقيدة الطحاوية. [200] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [201] أخرجه الترمذي من حديث أنس بلفظ: «ألظوا». [202] رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث ثوبان وقال: صحيح على شرطهما. [203] متفق عليه من حديث الحسن بن علي. [204]أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود. [205] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث سلمان بلفظ: من امرئ ضعيف. [206] أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس. [207]لما روى فضالة بن عبيد أن النبي ﷺ سمع رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يصل على النبي ﷺ فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بحاجته». رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. [208] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [209] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [210] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [211] أخرجه أبو داود من حديث جبير بن مطعم.

فصل في استحباب الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان

إن في العشر الأواخر من هذا الشهر ترجى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر.. العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. وقد نوه القرآن بفضلها وحثكم النبي ﷺ على طلبها، فقال في الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[212] وهي ترجى في أفراد العشر، ولله الحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في العمل في سائر الشهر ولا يتَّكلوا على العمل في ليلة القدر، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهد الناس في الدعاء في سائر أوقاتها حرصًا على طلبها ولا يتَّكلوا على الدعاء في ساعة منها.

وكان النبي ﷺ يخلط العشرين الأُول من رمضان بنوم وقيام فإذا دخلت العشر الأخيرة أحيا ليله وأيقظ أهله وهجر فراشه وجد واجتهد في العبادة، وكان يوقظ أهله ويطرق باب علي وفاطمة ويقول: «أَلَا تَقُومَانِ فَتُصَلِّيَانِ؟»[213] ثم يتلو: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132]، وكان يقول: «أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[214] وكان يعتكف في العشر الأخيرة من رمضان حرصًا على طلبها، والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية لله عز وجل لقطع أشغاله وتفريغ باله وخلوه لمناجاة ربه وذكره وشكره ودعائه.

والاعتكاف سنة مشهورة وقد أصبحت بين الناس مهجورة، والسنة على المعتكف هو أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه.. فكأن المعتكف يقول بلسان حاله: يا رب إن الناس قد رجعوا إلى أهلهم وأموالهم وإنني عاكف في بيتك ملازم لبابك أرجو رحمتك وأخشى عذابك. وإن العمر بآخره وملاك الأمر خواتمه وخير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.

فكم من مستقبل لهذا الشهر ثم لا يستكمله، وكم من مؤمل لعوده إليه ثم لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام وهن قلائل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به والشيب للرأس شاعل

* * *

[212] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [213] أخرجه أبو عوانة من حديث علي. [214] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة.

فصل في ختام شهر الصيام

إن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان ومكانًا على مكان وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان، حيث أنزل فيه القرآن وأوجب فيه على المؤمنين الصيام وجعله شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهيرًا للقلوب من الفساد وقمعًا للشهوة والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد. شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.

وقد قوضت الآن منه الخيام وتقلصت منه الليالي والأيام، وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه والحافظ لما أودعتموه، إنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصنة والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»[215].

صعد النبي ﷺ المنبر، فقال: «آمين آمين» قالوا: علام أمَّنت يا رسول الله؟ قال: «جاءني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله. قل: آمين.. قلت: آمين»[216]، فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان شهر النفحات شهر إقالة العثرات شهر مضاعفة الحسنات شهر تكفير السيئات، ثم خرج ولم يحظ فيه لا بمغفرة ولا برحمة ولا بإقالة عثرة ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه، حيث ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته فأفنى شهره ودهره في البطالة وعدم الطاعة حتى لم يبق للصلاح منه موضع ولا لحب الخير من قلبه منزع، قد رضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا - والله - لهو الغاية في الإفلاس والإبلاس ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين لا يتقيدون بالدين، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع.. واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ثم يدَّعي أحدهم الإسلام، بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم ولا يؤدي الزكاة الواجبة، وقد قلنا غير مرة: إنه لا يستحل ترك الصلاة والصيام عمدًا من غير عذر سوى ملحد مرتد عن دين الإسلام.

ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان، فهو شر من الكلب والخنزير، قد ساءت طباعه وفسدت أوضاعه فعصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد به أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتنافل والمرء على دين خليله وجليسه.. قتل هذا الملحد ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان، ومع هذا الكفر المتظاهر البواح فإنه يتسمى بالإسلام وقد جمع بين ضلال مع إصرار كفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3]، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٩ [المرسلات: 48-49].

إن الله سبحانه قد أنزل في كتابة المبين التعزية والتسلية للمؤمنين عن هؤلاء المرتدين عن الدين، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٧٧ [آل عمران: 176-177].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥ [محمد: 25] إنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية وتركوا الصلاة والزكاة والصيام الفرضية وسائر الطاعات المُرضية واستباحوا المنكرات وشرب المسكرات إلا فتح عليهم من الشر كل باب وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25] فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.. رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

* * *

[215] رواه مسلم عن أبي ذر. [216] رواه ابن حبان في صحيحه بطوله عن أبي هريرة، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الترمذي.

فصل في التذكير بزكاة الفطر

اعلموا رحمكم الله: أن الله سبحانه أوجب على المؤمنين زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة مشروعة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات وليست من الفطرة في شيء. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهي زكاة بدن تجب على الصغير والكبير ولا تجب على الحمل في البطن.

قال أبو سعيد الخدري: كُنَّا نُعْطِيهَا زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ[217]. وإنما خص هذه الأصناف بالذكر لكونها هي الرائجة في البلد زمن نزول القرآن والنقود قليلة الوجود، فالحضر من سكان المدينة غالب قوتهم التمر والبر والشعير، حتى إن البر النقي يعد من القليل. وقد توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير.

أما الأعراب فغالب قوتهم الأقط واللبن، فخص هذه الأصناف بالذكر من أجل كونها غالب قوتهم ولا ينفي الاجتزاء بغيرها، فمن كان غالب قوتهم الأرز أو الذرة أو الدُّخْن، جاز أن يتصدقوا بذلك، إذ هي من أوسط ما تطعمون أهليكم.. لكون الحكمة فيها هو إغناء الفقراء الشحاذين عن تكفف الناس بسؤالهم يوم العيد، لحديث: «أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»[218].

ومن العلماء من يقول بجواز إخراج القيمة في الفطرة (دراهم) إذا كانت أنفع للفقراء، كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، لكون المقصود من زكاة الفطر سد حاجة الفقراء عن سؤال الناس يوم العيد، وهو محقق في القيمة - أي النقود - وقد أصبح أكثر الفقراء في البلدان المثرية يسخطون الطعام بالكلية ولا يقبلونه، لكونه لا يقوم بسد حاجاتهم، وإنما يطلبون القيمة دراهم ليشتروا بها حاجاتهم وحاجة أهلهم وعيالهم وكسوتهم ليوم العيد.

فمن أجل هذه الأسباب أفتينا الناس بجواز إخراج الفطرة دراهم بدلاً من الطعام وقررنا فطرة الشخص الواحد بخمسة ريالات قطرية، فمن أخرج هذا القدر عن كل شخص ممن يمونه فقد برئت ذمته من عهدة فطرته. ومع القول بهذا فإننا لا ننكر جواز التفطير بالطعام من التمر والأرز، وقدر الفطرة كيلوان. ولا يجوز إيداعها عند أحد لانتظار فقير يقدم إلى البلد، ولا يجوز أن تدفع إلى غني ولا إلى قوي مكتسب، ولا يجوز أن يستخدم بها أجير، ويجوز أن تدفع فطر الجماعة إلى فقير واحد، كما يجوز أن تقسّم فطرة الشخص الواحد بين فقيرين وثلاثة.

والفقير متى تحصل على فطر من الناس وجب عليه أن يفطر منها عن نفسه وعن سائر من يعوله، لكونه قد ملكها ملكًا تامًّا فجاز أن يفطر منها، ومن أدركه العيد في هذه البلاد وأهله وعياله في بلد آخر أخرج فطرة أهله مع فطرته في البلد الذي أدركه العيد فيه، والله يقول: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧ [الأعلى: 14-17].

* * *

[217] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري. [218] أخرجه ابن زنجويه في الأموال من حديث عبد الله بن عمر.

فصل في نوافل الصيام والصلاة وسائر العبادات

إن السلف الصالح الكرام يدعون الله أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله أن يتقبله منهم لأنهم لقبول العمل أشد اهتمامًا منهم بالعمل. وإنما يتقبل الله من المتقين، وهذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال. فهي تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول ودائم لا يحول.. هو في كل الحالات إله واحد ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم ليسبغ عليهم فواضل النعم ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

فقد مضى شهر الصيام، ثم أقبلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فما من يوم من الأيام إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه.. فالسعيد من اغتنم مر الليالي والأيام والساعات وتقرب إلى الله بما فيها من فرائض الطاعات ونوافل العبادات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات، وفي الحديث: «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ»[219]. وقد أمر الله عباده بأن يعبدوه حتى الممات، لأنه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت.. قال الله: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99].

ولما قيل لبعض السلف: إن قومًا يتعبدون في رمضان ولا يتعبدون في غيره. قال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقا إلا في رمضان، كن ربانيا ولا تكن رمضانيا.

إن من الحزم وفعل أولي العزم كون الإنسان إذا عمل عملاً كصيام رمضان فإنه يحافظ على إتقانه وعدم إحباطه وإبطاله، وقد قيل: إن من علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، ومن علامة ردها أن تعقب تلك الطاعة بمعاص بعدها.. فما أحسن الحسنات بعد الأعمال الصالحات تتلوها، وما أقبح المنكرات بعد الأعمال الصالحات تمحقها وتعفوها، وقد قال النبي ﷺ لرجل: «يا فلان، إنك تبني وتهدم». قال: يا رسول الله كيف أبني وأهدم؟ قال: «إنك تعمل أعمالاً صالحة ولكنك تعمل بعدها أعمالاً سيئة»[220].
وتهدم ما تبني بكفك جاهدًا
فأنت مدى الأيام تبني وتهدم
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تسدي وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا
ظهـيرًا على الرحمن للجبر تزعم
بطيء عن الطاعات أسرع للخنى
من السيل في مجراه لا يتقسم
فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.. رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا عن أبي أيوب، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ»؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وفعله هذا يدل على رغبته في الخير وفي العمل الصالح في رمضان وفي غير رمضان.

ولما قال أناس من الصحابة: إنا إذا أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد. فقال لهم بعض من سمعهم من الصحابة: ويحكم والله لا يسألكم الله إلا عما افترض عليكم، وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا منكم، والله لقد قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه، وإنكم تخطئون بالليل والنهار، وإن النوافل يكمل بها خلل الفرائض[221]. فهذا محض الفقه.. فإن الإنسان لا بد أن يحصل منه شيء من النقص والتقصير في الفرائض فتكون النوافل بمثابة الترقيع لخلل الفرائض.

كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه وفيه حديث مرفوع، وهو أن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته، فإن كملت فقد أفلح ونجح، وإن نقصت فقد خاب وخسر، ثم يقول الله: انظروا ما كان لعبدي من تطوع فكملوا به فريضته[222] . وكذلك الأعمال تجري على هذا المنوال، ثم إن المحافظة على النوافل هي من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أولياء الله المقربين وحزبه المفلحين. كما في البخاري: أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» [223].

فالذي يصوم رمضان، ثم يصوم بعده ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر كله، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن فيها فضلاً كبيرًا ويترتب عليها أجر كثير، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام. فهذه الثلاث الخلال من حازها فقد حاز خيرًا كثيرًا. وكذلك صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، ففيهما فضل كبير.

أما صلاة ركعتي الضحى، فإنها بمثابة الصدقة عن سائر أعضاء الإنسان وجسمه، لحديث أن النبي ﷺ قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى». رواه مسلم. وقال: «رَكْعَتَا الضُّحَى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[224] والأفضل أن تفعل هذه الصلاة في البيت، لقول النبي: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ مِنْ صَلَاتِكُم فِي بُيُوتِكُمْ خَيْرًا، وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا».[225] أي تهجرونها من فعل الصلاة فيها؛ فالبيت الذي تصلى فيه النوافل ينبسط فيه الرزق وتنزل فيه البركة وتغشى أهله الرحمة.

وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنها كصيام الدهر وهي بمثابة زكاة البدن، ففي الحديث: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[226] وقال: «صُومُوا تَصِحُّوا»[227] وكل من تأمل أحوال الناس فإنه يرى أن الذين يتنفلون بالصوم والصلاة أنهم من أصح الناس أجسامًا وأطول الناس أعمارًا، وأن الله يمتعهم في الدنيا متاعًا حسنًا نتيجة أعمالهم الصالحة؛ لأن الصوم والصلاة بما أنهما من العبادات البدنية فإنهما من الرياضات البدنية التي تعود على البدن بالنشاط والصحة والقوة.

وآكد النوافل الوتر، فقد قال النبي ﷺ: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُ الْوِتْرَ»[228] وقال: «أوتروا، وَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا».[229] وأعلى الوتر إحدى عشرة ركعة وأقله ركعة واحدة. والوتر حق، من أحب أن يوتر بسبع فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل. وكان النبي ﷺ يحافظ على عشر ركعات وهي السنن الراتبة: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر.. فهذه هي السنن التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها وإن فاته شيء منها سُن له قضاؤه، يقول الله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا ٦٢ [الفرقان: 62] قالوا: من فاته حزبه بالليل كان له من النهار مستعتب.

أما السنن التي لها سبب، فمثل تحية المسجد.. ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[230]، وسواء كان في وقت نهي كما بعد العصر أو الفجر. وحتى الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب أو المؤذن يؤذن، فإنه لا يجلس حتى يركع ركعتين، لما في الصحيح، أن النبي ﷺ كان يخطب فدخل رجل يقال له: سليك الغطفاني فجلس، فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»[231] أي خففهما. ولهذا تفعل هاتان الركعتان ولو كان المؤذن يؤذن أو الخطيب يخطب.

وعلى كل حال، فإنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لفعل صلاة أو صيام أو صدقة، وإن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة.. ويقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا فقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون.

وإذا كان للرجل أو المرأة عادة من فعل الصلاة أو الصيام، ثم أقعد عنها بمرض أو كبر، بحيث لا يستطيع أن يعملها، فإن الله يقول لملائكته: أجروا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح. فتجرى له أعمال صالحة وهو مضطجع على فراشه، وإذا أتى الإنسان إلى فراشه ومن نيته أن يقوم من آخر الليل فغلبته عيناه كتب له قيام ليله وكان نومه عليه صدقة، وعلى كل حال فإن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، ولما مر النبي ﷺ على قبر حديث عهد بدفن قال: «ما هذا القبر؟». قالوا: قبر فلان التاجر. قال: «والله لصلاة ركعتين أَحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها» [232]

فالدنيا مزرعة الآخرة تزرع فيها الأعمال الصالحة، من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا

[219] أخرجه الطبراني من حديث محمد بن سلمة الأنصاري. [220] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة من حديث عبد الله بن شقيق. [221] أخرجه الطبراني بمعناه في مسند الشاميين عن عائشة، وهو في مختصر قيام الليل للمروزي. [222]أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «ركعتا الفجر». [223] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [224]أخرجه النسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة. [225] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [226] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. [227] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [228] أخرجه أحمد من حديث علي. [229] أخرجه أبو داود من حديث بريدة الأسلمي. [230] رواه أبو قتادة عن النبي ﷺ. [231] أخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام من حديث جابر. [232] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة.

فصل في المحافظة على الصلوات إذ هي العنوان على صحة الإيمان

إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم بقول الله تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ [الحج: 78] وأعظم الجهاد جهاد الإنسان نفسه وأهله وعياله على عبادة ربهم، فالطاعة قيد النعم والمعاصي من أسباب حلول النقم، ورأس الطاعة بعد الشهادتين الصلاة التي هي عمود الديانة ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ [العنكبوت: 45] تفتح باب الرزق وتيسر الأمر وتشرح الصدر وتزيل الهم والغم، وهي من أكبر ما يستعان بها على أمور الحياة وعلى جلب الرزق وكثرة الخيرات ونزول البركات.

وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة أو وقعوا في شدة من الشدات، فزعوا إلى الصلاة؛ لأن الله يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ [البقرة: 45] فهي قرة العين للمؤمنين في الحياة، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس. وهي خمس صلوات مفرقة بين سائر الأوقات لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد. فرضت الصلاة على النبي ﷺ بمكة ليلة الإسراء فهي أول ما فرض من شرائع الإسلام، كما أنها آخر ما يفقد من دين كل إنسان فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين.

وقد وصفها رسول الله ﷺ بنهر غمر - أي كثير - قال: «يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قالوا: لا. قال: «فَكَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا». رواه مسلم من حديث جابر.

سميت صلاة من أجل أنها تشتمل على الدعاء، أو من أجل أنها صلة بين العبد وبين ربه، فالمصلي متصل موصول من فضل الله وبره وكرمه، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قبل وجه عبده مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[233]، فالمحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات هي العنوان على صحة الإيمان؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ [التوبة: 18] وعمارتها تحصل بالصلاة فيها، ومن بنى مسجدًا يحتسب ثوابه عند الله بنى الله له قصرًا في الجنة. أما من بنى مسجدًا ثم هجره من الصلاة فيه فإنه آثم في عمله وهجرانه لمسجد ربه، وإنما بنيت المساجد ونصبت فيها المآذن وشرع النداء فيها كله لقصد الصلاة جماعة الذي يستدعي التعارف والتآلف بين المسلمين.

وكان الصحابة يرون التارك للصلاة في الجماعة منافقًا، يقولون ذلك ولا يتأثمون، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود، قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق. لأن من صفة المنافقين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨ [المائدة: 58]، فنفى الله عنهم العقل الصحيح من أجل عدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح. لأنه إنما سمي العقل عقلاً من أجل أنه يعقل عن الله مراده، أمره ونهيه، أو من أجل أنه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل.
لن ترجع الأنفس عن غيِّها
ما لم يكن منها لها زاجر
إنه لو كان عند هؤلاء التاركين الصلاة في الجماعة عقل صحيح لما أهملوا حظهم من هذا الفلاح والمنادي ينادي فيهم: حي على الصلاة حي على الفلاح. والنبي ﷺ يقول: «من دعي إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[234]. ويقول: «إن الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق فيمن سمع داعي الله بالصلاة، ثم لا يجيب»[235]، وقد هم رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة.. لاسيما إذا كان هذا التارك للصلاة في الجماعة من المنتسبين للعلم أو من الأساتذة المعلمين، فيسمع النداء ثم يصر مستكبرًا عن الحضور إلى المسجد، فإنه يكون فتنة للعامة؛ لأن تخلفه بمثابة الدعاية السافرة والإعلام منه بهجران المساجد، حيث يتوهم العامة بنظرهم إليه أن صلاة الجماعة ليست بواجبة. والنبي ﷺ قد حذر من الاغترار بمثله، فقال: «ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة في الجماعة فيتخلف بتخلفهم آخرون، أولئكم شراركم وأولئكم شراركم»[236]. لأن الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر. وقال: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ فِي بَرٍّ، لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ جماعة، إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةِ»[237].

ومن المشاهد بالتجربة والاعتبار أن الذين لا يشهدون الصلاة في الجماعة أنهم غالبًا لا يصلون وحدهم؛ لأن التهاون بالشيء مدعاة إلى تركه.

إن رأس العلم خشية الله، فلو كان عند هؤلاء المنتسبين للعلم نصيب من خشية الله لما أهملوا حظهم من حضور الصلاة في الجماعة التي من حافظ عليها كان في ذمة الله وعهده ورعايته، كما في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي»[238] وقال: «مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيْامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ»[239]، والمتخلف عن الجماعة قد خسر هذا الخير كله.

إن أعظم الناس بركة وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس وعنده جلساؤه وأصحابه وأولاده وخدمه، فيسمع النداء بالصلاة فيقوم إليها فزعًا وفرحًا ويأمر من عنده بالقيام إلى الصلاة معه فيؤمُّون مسجدا من مساجد الله لأداء فريضة من فرائض الله.. يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم.. أولئك الميامين على أنفسهم والميامين على جلسائهم وأولادهم ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18].

وبضد هؤلاء قوم يجلسون في المجالس وفي المقاهي وفي النوادي وفي ملاعب الكرة، فيسمعون النداء بالصلاة ثم لا يجيبون.. ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية، قد استحوذ عليهم الشيطان ﴿فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19] فهؤلاء هم المشائيم على أنفسهم والمشائيم على جلسائهم وأولادهم.
يشقى رجال ويشقى آخرون
بهمويُسعد الله أقوامًا بأقوام
أما التارك للصلاة بالكلية، بحيث يمر عليه اليوم واليومان والشهر والشهران وهو لا يصلي وربما يتعذر بعدم طهارة ثوبه وسراويله.. فهذا كافر قطعًا بشهادة رسول الله ﷺ عليه ﴿وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ ٦١ [طه: 61] ففي الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[240]. وقال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[241]. وروي «لَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ»[242]. إن موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد؛ لأن الصلاة عمود دين الإسلام وهي آخر ما يُفقد من دين كل إنسان.

ولهذا كان العلماء يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حدثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين وأنه مؤمن، وإن حدثوا بأنه لا حظ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه وكل إناء ينضح بما فيه.. ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ [التوبة: 11].
خسـر الذي ترك الصلاة وخابا
وأبى معادًا صالحًا ومآبا
إن كان يجحدها فحسبك أنه
أضحى بربك كافرًا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل
غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له
إن لم يتب حد الحسام عقابا
وقد حكى بعض العلماء إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة عمدًا[243]، كما أن أئمة المذاهب الأربعة قد أجمعوا على كفر من استباح ترك الصلاة، إذ لا يصر على ترك الصلاة مؤمن بوجوبها.. فحافظوا على فرائض ربكم وخذوا بأيدي أولاكم إلى الصلاة في المساجد معكم، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها ومجاهدته عليها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، ولأنها بمثابة الدواء تقيم اعوجاج الولد وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر وتصده عن الفحشاء والمنكر.. وإنكم متى أهملتم تربية أولادكم فلم تهذبوهم على فعل الصلاة في المساجد معكم، فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَمَن يَعۡشُ - أي يعرض - ﴿عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ [الزخرف: 36-37].

أما إذا ترك الوالد الصلاة، فإن الولد يتأسى به في تركها؛ لأن الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر، وإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد الراعي فسدت الرعية. فمتى ترك الوالد الصلاة تركها الولد وتركتها الزوجة والبنات، أو شرب الوالد المسكرات شربها الولد أو شرب الدخان (التنباك) شربه الولد، أو أطلق لسانه باللعن والشتم عند أدنى مناسبة، أطلق أولاده ألسنتهم بهما؛ لأن هذا بمثابة التعليم الذي ينطبع في أخلاقهم، والجريمة جريمة المربي الذي لم يؤسس فعل الخير في أولاده، كما يجب على المرأة المحافظة على واجبات دينها من طهارتها وصلاتها وأن تأمر بذلك أولادها وبناتها، فإنها مسؤولة عن حسن تربيتهم. وفي الحديث: «الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعَيَّتِهَا» [244].

فيا معشر شباب المسلمين، إن الله سبحانه قد شرفكم بالإسلام وفضلكم به على سائر الأنام، متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن دين الإسلام هو بمثابة الروح لكل إنسان، فضياعه من أكبر الخسران وإنه ليس الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.. لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه.. فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعو الناس إليه تكونوا من خير أهله فإنه لا إسلام بدون العمل، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ [التوبة: 71]، فمتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم أو لحاجة العلاج أو لحاجة التجارة فمن واجبه أن يظهر إسلامه في أي بلد يحل به فيدعو إلى دينه وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلوات وجب عليه أن يبادر بأدائها في وقتها فيأمر من عنده من جلسائه وزملائه بأن يصلوا جماعة حتى يكون مباركًا على نفسه ومباركًا على جلسائه وزملائه.

أما إذا أهملتم تربية أنفسكم وأولادكم وضيّعتم فرائض ربكم ونسيتم أمر آخرتكم وصرفتم جل عقولكم وجل أعمالكم واهتمامكم للعمل في دنياكم واتباع شهوات بطونكم وفروجكم.. ولم ترجعوا إلى طاعة ربكم صرتم مثالاً للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم السيئة التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالحين الذين شرفوا عليكم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. فانتبهوا من غفلتكم وتوبوا من زللكم وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[233] رواه الترمذي من حديث الحارث الأشعري، وقال: حسن صحيح. وروى النسائي بعضه وابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم. [234] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة. [235] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما من حديث أبي الدرداء. [236] أخرجه عبد الرزاق من حديث عمر بن الخطاب. [237] رواه أحمد والطبراني من حديث معاذ بن أنس. [238] رواه ابن ماجه بسند صحيح من حديث سمرة. [239] رواه مسلم وأبو داود من حديث عثمان. [240] أخرجه الطبراني من حديث جابر. [241] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث جابر، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، والحاكم من حديث بريدة. [242] رواه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طُهُورَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ»... إلخ. [243] قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ: أن تارك الصلاة كافر. وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها - كافر. وقال الحافظ عبد العظيم المندري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا لتركها حتى يخرج جميع وقتها: منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء، ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم. [244] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.

فصل في التذكير بفرض الزكاة وفضلها وما يترتب على إخراجها من الخير والبركة

ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». فهذه هي أركان الإسلام لمن سأل عن الإسلام وهي الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وكل من تأمل القرآن يجده مملوءًا بالأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الصلاة عمود دين الإسلام كما أن الزكاة أمانة الله في مال كل إنسان، لأن الله سبحانه قد افترض في أموال الأغنياء بقدر الذي يسع الفقراء، ولن يجهد الفقراء أو يجوعوا أو يعروا إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الواجب في مالهم، وقد قال النبي ﷺ: «أُمِرْتُ بِأَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّها». رواه البخاري ومسلم.

ولهذا استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، وعدُّوهم مرتدين بمنعها، ولما بلغ عمر بن الخطاب أن قومًا يفضلونه على أبي بكر قال: أما إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما مات رسول الله ﷺ ارتدت العرب فمنعت زكاتها شاءها وبعيرها، فاتفق رأينا - أصحاب محمد ﷺ- أن أتينا إلى أبي بكر الصديق فقلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله ﷺ كان يقاتل الناس بالوحي والملائكة يمده الله بهم وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك فإنه لا طاقة لك بقتال العرب كلهم. فقال: أوكلكم رأيه على هذا؟ قلنا: نعم. قال: والله لإَِنْ أَخِرّ من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي. ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها الناس، إن قل عددكم وكثر عدوكم ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون.. قوله الحق ووعده الصدق، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ [الأنبياء: 18]، و ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩ [البقرة: 249]. والله - أيها الناس - لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لجاهدتهم عليه واستعنت بالله عليهم وهو خير معين، والله - أيها الناس - لو أفردت من جمعكم لسللت سيفي حتى أبلي في سبيل الله بلوى أو أقتل في سبيل الله قتلاً. قال عمر: فعلمنا أنه الحق فاتبعناه حتى ضرب الناس له بعطن.

وإنما استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة من أجل أن الفقراء شركاء الأغنياء في القدر المفترض لهم في أموال الأغنياء، فمتى أصر الأغنياء على منعه وجب على الحاكم جهادهم بانتزاعها منهم ودفعها إلى فقرائهم، وهذه هي الاشتراكية الشرعية التي نزل بها الكتاب والسنة على أن في المال حقا سوى الزكاة.

إنه عند حلول حول الزكاة وطلب الفقراء من الأغنياء حقهم منها وقالوا: آتونا من مال الله الذي آتاكم. فعند ذلك يتبين التاجر المؤمن الأمين من التاجر الخائن المهين، فالتاجر المؤمن الأمين يحاسب نفسه ويراقب ربه ويبادر بأداء زكاته طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.

فهو يعلم من واجبات دينه أن هذا المال فضل من الله ساقه إليه واستخلفه عليه ليمتحن بذلك صحة إيمانه وأمانته ﴿لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ [النمل: 40]، فهو يشكر الله الذي فضله بالغنى على كثير من خلقه.

وأداء الزكاة هو العنوان على شكر نعمة الغنى بالمال، لهذا ترى الفقراء يلهجون له بالثناء والدعاء بألسنتهم أو بقلوبهم ويقولون: تقبل الله منك ما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورًا وأجرًا.

أما التاجر الخائن المهين، فإنه يؤثر محبة ماله على طاعة ربه ويستبيح أكل زكاته وحرمان فقراء بلده منها، فهو يعدها مغرمًا، أي يجعلها بمثابة الغرم الثقيل كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا [التوبة: 98]، وكذلك من الحضر من يتخذ ما ينفق في سبيل الزكاة والصدقة والصلة مغرمًا، فهو بمثابة الغرم الثقيل في نفسه، كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوق
مغارم في الأقوام وهي مغانم
وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا[245]. ولهذا يستحب للمؤمن عند دفع زكاته أن يقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.

سميت الزكاة زكاة من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه، كما أنها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل وتطهره، يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] وقد أقسم رسول الله ﷺ أنها ما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩ [سبأ: 39].

فلو جربتم لعرفتم، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حُرم انحرف، فاسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩ [الحشر: 9].
فبادروا بزكاة المال إن بها
للنفس والمال تطهيرًا وتحصينا
أتحسبون بأن الله أورثكم
مالاً لتشقوا به جمعًا وتخزينا
أو تقصـروه على مرضاة أنفسكم
وتحرموا منه معترًّا ومسكينا
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل، ثم نعود ونقول: إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ [البقرة: 245]. فحصنوا أموالكم بالزكاة فإنها ما بقيت الزكاة في مال إلا أفسدته وأذهبت بركته، جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أنا ذو مال كثير وأهل وحاضرة، فأخبرني ماذا يجب علي في مالي. فقال: «تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ الْمِسْكِينِ، وَالْجَارِ، وَالسَّائِلِ»[246] فأرشده النبي ﷺ إلى ما ينبغي أن يفعله.

فالمال غاد ورائح وموروث عن صاحبه، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر، فأيما رجل غمره الله بنعمته وفضله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله وتنقبض يده من أداء زكاته ومن الصدقة منه والصلة لأقاربه والنفقة في وجوه البر والخير الذي خُلق لأجله إنه لرجل سوء وتاجر فاجر قد بدل نعمة الله كفرًا وحل بغناه دار البوار ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥ [التوبة: 35] فحذار حذار أن يقول أحدكم: هذا مالي أوتيته على حذق مني بكسبه حتى كثر ووفر. ولكن ليقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ [النمل: 40] فأداء الزكاة هو العنوان على شكر نعمة الغنى بالمال، كما أنه الدليل والبرهان على الأمانة وصحة الإيمان. وفي الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» أي تبرهن عن إيمان مخرجها وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله، وسميت الزكاة صدقة لكونها تصدق وتحقق إيمان مخرجها، كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق، يقول الله تعالى: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ [التوبة: 67]، أي عن أداء زكاة أموالهم. إن بعض الناس في حال فقره يعد نفسه ويمنيها أن لو أغناه الله لأنفق وتصدق وأدى زكاة ماله، فلما حقق الله آماله وكثر ماله فر ونفر وبخل واستكبر، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧ [التوبة: 76-77].

والزكاة قدر يسير يترتب عليها أجر كبير وخلف من الله كثير، وهي في النقود وفي مال التجارة ربع العشر، ويستحب للمسلم أن يجعل له شهرًا معينًا معلومًا يحصي فيه ماله ويخرج زكاته، فبعض الناس يستحب إخراجها في المحرم إذ إنه بدء السنة، وبعضهم يجعلها في رمضان لفضل الصدقة والنفقة فيه، غير أنه لا يجوز أن ينتقل في دفعها من المحرم إلى رمضان، أما تعجيل الزكاة قبل حولها فيجوز للحاجة الحاضرة بخلاف تأخيرها عن وقتها فإنه لا يجوز، ففي خمسمائة ريال إذا حال عليها الحول اثنا عشر ريالاً ونصف، وفي أربعة آلاف ريال مائة وفي أربعين ألفًا ألف واحد، وهكذا الحساب جرى على هذا المنوال.

والأوراق المتعامل بها عند الناس المسماة بالنيطان والدولارات والجنيهات الإسترلينية هي بمثابة نقود الذهب والفضة يجب فيها الزكاة على حسب أثمانها في البلد.

ومن له وديعة نقود في البنك أو عند تاجر من التجار، وجب عليه أن يخرج زكاتها عند رأس الحول. فالذين يودعون النقود ثم لا يؤدون زكاتها هم آثمون وعاصون، وجدير بهذه النقود التي لا تؤدى زكاتها أن تُنتزع منها البركة وأن يحل بها الشؤم والفشل ويحرم صاحبها من بركتها، لأنها ما بقيت الزكاة في مال إلا أهلكته، وما هلك مال في بر ولا بحر ولا جحود ولا عصب إلا بحبس الزكاة عنه.

والمال المجعول أسهمًا في شركة الإسمنت أو شركة الكهرباء أو شركة الأسمدة أو الملاحة أو شركة الأسماك أو أي شركة من الشركات، فإنه يجب فيه على صاحبه الزكاة عند رأس الحول، بحيث يخرج زكاته على قدر قيمته، أشبه عروض التجارة لأنة لو أراد بيع رأس ماله لباعه من ساعته، وإذا تحصل صاحبه على ربح فإنه يخرج زكاته عندما يقبضه، لأن ربح التجارة ملحق برأس مال التجارة.

وكذلك العقار المعد للإيجار، فقد صار في هذا الزمان من أنفس أموال التجار، حتى إن أحدهم ليؤجر العمارة الواحدة بمائة ألف أو بخمسين ألفًا أو أقل أو أكثر في السنة الواحدة، وما كان شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام ليهمل هذا المال الكثير بدون إيجاب حق فيه للفقير، والنبي ﷺ أمر أن تخرج الصدقة أي الزكاة من الذي نعده للبيع وما أعد للكرى، فهو بمثابة ما أعد للبيع والشراء أشبه الحلي المعد للكرى، فإن فيه الزكاة بإجماع العلماء، ولسنا نقول بإيجاب تثمين العقار وإخراج زكاة قيمته، لأن فيه إجحافًا للملاك، ولا نقول بإسقاط زكاته فإن فيه إجحافًا للفقراء، وإنما القول القصد الوسط في هذا المقام الهام: أنه يجب إخراج الزكاة من غلة العقارات، فمن تحصل على أربعة آلاف أخرج زكاتها مائة ريال، أو تحصل على أربعين ألفًا أخرج زكاتها ألفًا واحدًا، أو أربعمائة ألفٍ أخرج زكاتها عشرة آلاف.

وليس على المسلم زكاة في البيت الذي يسكنه، ولا في السيارة التي يركبها، ولا في السيارة التي يعيش عياله من كسبها، ولا في آلات النجارة أو الحدادة التي يمتهن بها ويتكسب بها، كأدوات البناء وغيرها؛ قياسًا على العوامل التي أسقط النبي ﷺ الزكاة فيها.

وتجب الزكاة في حلي النساء، أي المصاغات من الذهب الموجودة عند النساء المثريات اللاتي يتخذنه خزينة لا زينة، فيجب أن تخرج زكاته مصوغًا على حسب قيمته. فمتى كانت المصاغات تبلغ أربعة آلاف ريال أخرجت زكاته مائة ريال، أو أربعين ألفًا أخرجت زكاته ألفًا واحدًا، ويجري الحساب الزائد والناقص على حسب ذلك. أما المصاغات التي تستعملها المرأة في الزينة وتعيرها غيرها، فقد رجح الفقهاء سقوط الزكاة فيه، لأن زكاته لبسه وإعارته.

والزكاة في النقود وفي عروض التجارة وفي الإبل وفي الغنم هي من أسباب بركة المال ونموه وحفظه من الآفات، وأكثر ما يجني على المال بالهلاك والتلف والشؤم والفشل ونزول الآفات من الجرب وغيره. كل هذا من أسباب منع الزكاة، أضف إلى ذلك كونه يعذب به صاحبه ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥ [التوبة: 35].

* * *

[245] رواه البزار عن علي بن أبي طالب. [246] رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.

فصل فيمن يستحق الزكاة

اعلم أن الله سبحانه قد فصل من يستحق الزكاة بقوله: ﴿۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ [التوبة: 60]، فأحق المستحقين للزكاة هم الفقراء. وقد بدأ الله بذكرهم لشدة العناية بهم من أجل حاجتهم وهم من لا يجدون شيئًا.

ثم المساكين وهم من يجدون بعض كفاية القوت وينقصهم بعضها، ويكونون مستحقين للزكاة ولو عنده بيت يؤجره أو سيارة يتكسب بها، أو عنده إبل يعيش عياله من لبنها أو يكون قويا مكتسبًا ولكن أجرته لا تقوم بكفاية عيشة أهله وعياله لتمام سَنتهم، فيعطى من الزكاة قدر كفايته وعياله، لقول عمر: أعطوهم من الزكاة ولو راحت عليهم من الإبل كذا وكذا.. لأن هذه الإبل للبدوي بمثابة البيت الذي يسكنه فيؤخذ منه زكاتها. ويعطى من زكاة غيره ما يكفيه وأهله وعياله لكفاية سنتهم، ومن له راتب شهري مقرر من الحكومة قد يكفيه لسَنته فإنها لا تحل له الزكاة، أما إذا كان لا يكفيه لتمام السنة فإنه يجوز أن يعطى من الزكاة.

وأما قول النبي ﷺ في حديث عدي بن الخيار: «إِنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ»[247] فإنه حديث صحيح لكنه محمول على الكسب الذي يكفيه ويكفي أهله وعياله، أما إذا لم يكف كسبه وأجرة عمله لكفاية أهله وعياله، فإنه يُعطى من الزكاة ما يكفيهم لدخولهم في عموم المساكين، فإن المسكين المستحق للزكاة قد يكون عنده سيارة يتكسب بها أو سفينة أو بيت يؤجره ولكنه لا يكفيه دخله لقوته تمام السنة.

وأما الغارم في نفسه: فهو الذي تتراكم عليه الديون، أو يصاب بحاجة تذهب ماله من حريق أو نهب، أو تحمل حمالة مال من ديات وغيرها في سبيل الإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين، فيعطى من الزكاة بقدر ما يؤدي ضمانته.

وقوله: ﴿وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ، فسره بعض الفقهاء بالمجاهدين. وقيل: إنه يشمل كل فعل لله من بناء المساجد والقناطر وفتح الطرق والمدارس والمستشفيات وسائر ما ينفع الناس.

وأما ﴿وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فإنه المسافر الذي انتهى إلى بلد وقد نفدت نفقته فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده.. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 12 ربيع الأول سنة 1397هـ.

* * *

[247] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي عن عبيد الله بن عدي.

(5) اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام وبيان أمر الهلال وما يترتب عليه من الأحكام

[رسالة أمانة رابطة العالم الإسلامي لسماحة الشيخ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

14/10/90 هـ

حضرة صاحب السماحة مفتي قطر الموقر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد:

يسُر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي أن ترجو من سماحتكم المساهمة في تحقيق هدف من أهدافها النبيلة التي ترمي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف والدعوة إلى التضامن في سبيل الحق وإعلاء كلمة الله.

ولقد وجدت الرابطة في اختلاف الأقطار الإسلامية على دخول شهر رمضان وثبوت الصيام، مثار نزاع شديد أدى إلى فرقة وخصومة في بعض البلدان الإسلامية، الأمر الذي يحز في النفوس وتألم له القلوب التي تود للمسلمين أن تسود بينهم المحبة والألفة، فيكونوا عباد الله إخوانًا يتسابقون في الخيرات ويسارعون إلى المبرات. ولقد فكرَتِ الأمانة العامة في إيجاد حل لجمع هذا الشتات الفكري والنزاع الفقهي الذي قد تتطور آثاره إلى فرقة يأباها الضمير الإسلامي، فتقدمت إلى المجلس التأسيسي بتقرير حول هذا الموضوع وما يترتب على ذلك من محاذير وأضرار. ولقد درس المجلس هذا التقرير وقرر ضرورة استقصاء البحث في هذا الموضوع الهام من الوجهة الفقهية والأدلة الشرعية بشأن النقاط التالية:

الأولى: اختلاف المطالع، هل يعتبر أو لا يعتبر؟

الثانية: ما تثبت به رؤية الهلال، هل يكفي خبر الواحد العدل أو لا بد من نصاب الشهادة أو الاستفاضة؟ وهل الشهور كلها في ذلك سواء أو تختلف؟

الثالثة: الحكم إذا كان بالسماء غيم قد يحول دون الرؤية.

الرابعة: رؤية الهلال نهارًا قبل الزوال أو بعده.

الخامسة: هل يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي في ثبوت الهلال أو لا يجوز؟

وغير ذلك من النقاط والبحوث، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة مستفيضة فيه واختيار ما يرى من الأحكام محققًا للغرض مدعمًا بالأدلة الشرعية، ولذلك قرر المجلس استمرار البحث في هذا الموضوع وعرضه في الدورة المقبلة لاجتماعه في منتصف شهر جمادى الثانية 1391 هجرية.

ونظرًا لما لسماحتكم من مكانة علمية مرموقة وغيرة دينية معروفة وحرص على توحيد الكلمة وجمع الشتات في ظل الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية، فإن الأمانة العامة لترجو أن تتلقى من سماحتكم دراسة مستوفاة حول هذه النقاط التي أشار إليها المجلس، حتى تتمكن بعد دراسة الآراء والبحوث من وضع قرار يتفق وأهداف الشريعة الإسلامية وتعاليمها.

وثقوا يا صاحب السماحة أنكم بهذه المساهمة العلمية تؤدون رسالة إسلامية لها أجرها العظيم وثوابها الجزيل عند من لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وتقبلوا عظيم شكري وتحيتي واحترامي.

محمد سرور الصبان

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي

يرجى الرد على العنوان التالي

ح/ رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة

* * *

[رد سماحة الشيخ على الرسالة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ إلى كافة الناس عربهم وعجمهم بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أمور الناس أحسن نظام في عباداتهم وأعيادهم ومعاملاتهم وسائر أمور الحلال والحرام، وساوى في التكليف بهذا الدين بين سائر الناس الخاص منهم والعام، فلم يجعل عبادة أحد منهم مقيدة ولا مرتبطة بأمر الآخر ولا إرادته.

ومن حكمته وشمول رحمته، أن جعل العبادات في الإسلام متعلقة بالظهور والمشاهدة والأمر الجلي الواضح الذي لا خفاء فيه، فوقت صلاة الفجر يعرف بطلوع الفجر وانتشاره، ووقت الظهر يعرف بزوال الشمس، ووقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال، ووقت المغرب بغروب الشمس، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر.

ويعرف وقت صيام رمضان برؤية الهلال باديًا للناظرين، فإن لم يُر مع الغيم فبإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا وكذلك شهر الحج.

يقول الله تعالى: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]، وسبب هذا السؤال على ما رواه أبو نعيم، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة؟ فأنزل الله ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]، فنقلهم سبحانه عن السؤال عن الذات إلى الإخبار بالصفات، كأن الله تعالى قال: إنه لا فائدة ولا مصلحة لكم في البحث عن جرم الهلال، وإنما عليكم أن تنظروا إلى الحِكَم والمصالح المترتبة على الهلال، حيث جعله الله ميقاتًا لصيام الناس وحجِّهم وعِدَدِ نسائهم وإيلائهم وحلول ديونهم[248] وبه تعرف أشهر الحج والأشهر الحرم التي حرّم الله القتال فيها، سواء كان التحريم باقيًا أو منسوخًا.

فالتوقيت بالأهلّة هي المواقيت المشهورة لجميع الناس منذ خلق الله الدنيا، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ [التوبة: 36]؛ لأن التوقيت بالأهلة يسهل على جميع الناس معرفتها، العالم بالحساب والجاهل به والبدوي والحضري والكاتب والأمِّي، لكون الهلال أمرًا مشهورًا مشهودًا به مرئيًّا بالأبصار، وأجلى الحقائق ما شوهد بالعيان، إذ ليس المخبر كالمعاين، ولهذا سمي هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي شهرًا لشهرته، إذ الرؤية للهلال واشتهاره بمثابة الفجر وانتشاره. وقصد الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بدخوله وخروجه، إذ هو بمثابة الصُّوى والمنار الذي يعرف به، حيث قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ».[249] وقال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ»[250] لقصد التعبد بالوظائف الواجبة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بخلاف الشهور الشمسية، فإنه لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب ويجهلها أكثر الأميين من الحضر وكل البوادي ولا يترتب عليها شيء من التعبدات أبدًا.

لهذا لا يجوز الاعتماد في الصوم والفطر على الحساب، كحساب الجداول وغيرها، لكون الحساب مبنيا على الظن والتخمين لا على العلم واليقين، فهم في إجراء عملية الحساب يجعلون شهرًا كاملاً وشهرًا ناقصًا إلى نهاية السنة، ومن المعلوم أن تمام الشهر ثلاثون قد يتوالى في شهرين وثلاثة، والنقص في الشهر وكونه تسعًا وعشرين قد يتوالى في شهرين وثلاثة فينتقض بذلك نظام حسابهم، كما نرى وقوع الخطأ في التقاويم، حيث يقول بعضهم: إن أول الشهر يوم كذا، وبعضهم يقول: يوم كذا[251].

إن أعظم مقاصد القرآن الكريم والشرع الحكيم في التوقيت بالأهلّة هو اتفاق الأمة في عباداتهم من صيامهم وحجهم وأعيادهم ما أمكن الاتفاق، إذ هذا من السهل الميسر، متى سلكوا مسالكه وأخذوا بعزائمه.

فلو جرى المسلمون على نصوص الكتاب والسنة في إثبات الأهلة بطريق اليقين من الرؤية؛ بأن يراه عدد من العدول المعروفين بالأمانة والصدق فيصومون برؤيتهم، ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمر دينهم لكان أفضل في حقهم من هذا الاختلاف الواقع بينهم في صومهم وأعيادهم؛ لأنهم في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة على خاصة الأهلة، وصار كل شاهد بالهلال مقبول الشهادة بدون أن يعرفوا ثقته وعدالته، ونجم عن هذا التساهل أن صاروا يشهدون به في وقت مستحيلة رؤيته فيه، ويشهدون به الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية، ما يحقق بطلان شهادتهم، فدخل على الناس بسبب هذا التساهل شيء من الخطأ في هذه العبادة، فصاروا يصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان.

وبسببه وقع الاختلاف بين أهل الإسلام في صومهم وعيدهم؛ لأنه متى كان بعض أهل الإسلام يعتمدون في صومهم وعيدهم على الرؤية المحققة التي يشهد بها عدد من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم؛ فهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب في هذه القضية.

وبعضهم يعتمدون في صومهم وفطرهم على أي خبر يأتيهم من أي بلد عن طريق الإذاعة فيقبلونه على علاته ويعملون به في صومهم وفطرهم، فإن هذا بلا شك من لوازمه الافتراق وعدم الاتفاق، كما يشهد به الواقع المحسوس.

فلو عملوا عملهم في التوثق في الشهادة فلم يدخلوا في صوم رمضان ولم يخرجوا منه إلا باليقين الثابت من الرؤية الصادقة التي يشهد بها عدد من الثقات العدول، كما نص على ذلك جمهور فقهاء المسلمين، لحصل حينئذ الاتفاق، وزال عن الناس هذا الافتراق، إذ الرؤية المحققة الصحيحة تجمع أهل الإسلام من شتى البلدان فيراه أهل الشام ومصر والعراق والمغرب كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، وكما يراه أهل فارس وباكستان والهند.

وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع بين هذه البلدان، فإنما قالوه بمحض الاجتهاد يؤجرون عليه، لكنه بمقتضى المشاهدة والتجربة يترجح عدم صحته، وأن التفاوت في مطلعه بين هذه البلدان منتف، فيراه أهل الشام والعراق ومصر كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، لا يتغير عن مطلعه ولا يختلف عن حالته لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتًا لجميع الناس عربهم وعجمهم، يعرفون به وقت صومهم وحجهم ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وما كان كذلك فإنه لا يتغير بحال ولو جربوا لعرفوا صحة ذلك.

والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أن تكون طريقة إثبات العبادة واحدة، وما ثبت من الأحكام على رؤية الهلال فإنه لا يتغير بحال ولا يختلف في محل دون محل.

وإنما يقع الاختلاف بين الناس لاختلاف الرائي، وعدم توثقه في رؤيته لا المرئي.

فقول النبي ﷺ: «صَوْمَكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرَكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ»[252] هو خطاب لجميع الناس في كل بلد، لكون الهلال إذا ظهر في بلد ورأوه رؤية صحيحة، فإنه غالبًا يظهر كذلك في كل بلد، إذا لم يحُلْ دون منظره غيم أو قتر.

وإذا لم يظهر الهلال وإنما قيل بأنه رؤي في بلد كذا، فإن هذا خبر يصدقه اليقين أو يكذبه، وما آفة الأخبار إلا رواتها، والله أعلم.

* * *

[248] هذا الحديث هو من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه ابن عساكر فذكره، ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة، غير أنه قد اشتهر هذا السبب لنزول الآية؛ إذ السؤال عن الأهلة واقع كما جاء مقرونًا بالجواب في نص الكتاب، وكون هذا الحديث ضعيفًا إنما ضعفه من قبل رجاله، وليس كل ما لا يصح سنده يعتبر باطلاً في نفس الأمر والواقع، ولا كل ما صح سنده يكون واقعًا بالفعل. [249] متفق عليه عن أبي هريرة. [250] متفق عليه عن ابن عمر. [251] لقد سمعنا من بعض المتفرنجين القول بتفضيل الشهور الشمسية التي عليها مدار الحساب الغربي على الشهور القمرية، بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاء ولا صيفًا، وهذا ليس بمقتضى للتفضيل، وقد سبق الإسلام إلى كل عمل جليل وفعل جميل، وهذا التفضيل يجعل الشهر لا يتغير شتاء ولا صيفًا، قد استعمله أهل الإسلام باسم البروج على عدد شهور السنة أي اثنا عشر برجًا لا تتغير شتاء ولا صيفًا، وهي برج (الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت). فكل برج بعدد الأشهر، ولا يتغير عن وقته، وما من فضيلة إلا وقد أدلى الإسلام فيها بالسهم الأوفى، وكل الصيد ففي جوف الفرا. [252] رواه البيهقي في السنن الكبرى، وعبد الرزاق في مصنفه؛ كلاهما عن أبي هريرة.

الحكم في إثبات رمضان دخولاً وخروجًا

من الفقهاء من قال: يجب صوم رمضان برؤية عدل ثقة وإثبات الفطر بشهادة عدلين، كما هو الظاهر من مذهب الحنابلة، وعندهم أنه متى ثبتت رؤية الهلال في بلد لزم جميع الناس الصوم وهي من مفردات المذهب.

ومنهم من قال: يجب الصوم بشهادة عدلين والفطر بشهادة عدلين أيضًا، كما هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي، واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال على عهد رسول الله ﷺ، فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان.

وعن ابن عباس، أن أعرابيًا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت الهلال، فقال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ؟» قال: نعم، قال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟». قال: نعم، قال: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي وقفه.

أما الإمام أبو حنيفة، فإنه يشترط في حالة الصَّحْو[253] الاستفاضة بأن يراه عدد من العدول لا يمكن تواطؤهم على الكذب، ويقول: إنه لا يمكن أن ينظر جميع الناس إلى مطلع الهلال وأبصارهم متساوية والموانع منتفية، ثم يراه واحد واثنان دون الباقين. أما في حالة الغيم فيقبل عنده شاهد واحد.. انتهى. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وإنما فرّق من فرّق من الفقهاء بين هلال الصوم والفطر؛ لقصد سد الذريعة بأن لا يدعي الفساق أنهم رأوا الهلال ليتعجلوا بذلك الفطر وهم بعد لم يروه.

والكلام هنا يرجع إلى حقيقة الإثبات وعدمه، إذ ما كل ما قيل: إنه رؤي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا ثابتًا ولا كون مدعي الرؤية عدلاً صادقًا. فقد ذكر الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال كونه يشهد به عدلان ثقتان، ثم هم يفسرون العدالة المطلوبة لصحة الشهادة بأنها التزام فرائض الصلوات الخمس بسننها الراتبة واجتناب المحارم، بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، والثانية استعمال المروءة وهي فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه، فهذه الشروط إن لم تُدرك كلها فلن تُترك كلها.

وقد ثبت بالتجربة والاختبار كثرة كذب المدعين لرؤية الهلال في هذا الزمان، وكون الناس يرون الشهر قويا مضيئًا صباحًا من جهة الشرق، ثم يشهد به أحدهم مساء من جهة الغرب وهو مستحيل قطعًا، ويشهدون برؤيته الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية من كل ما يؤكد بطلان شهادتهم، فالاستمرار على هذا الخطأ المتكرر الناشئ عن الشهادة المزيفة لا يجيزه النص ولا القياس، ومتى رؤي الهلال رؤية صحيحة في بلد، فإنه يُرى غالبًا في أكثر البلدان، فيتقارب بذلك الاتفاق بين جميع المسلمين في الصوم والعيد.

فلو أن فقهاءنا المتقدمين القائلين بثبات دخول الشهر بشهادة الواحد وخروجه باثنين، وكونه إذا ثبت في بلد لزم جميع الناس الصوم، فلو أنهم عاشوا إلى عصرنا اليوم وشاهدوا ما وقع الناس فيه من الأخطاء التي تنشأ عن شهادة الواحد والاثنين، لتبدل رأيهم في فنون التوثق والإثبات والاحتراس من الناس، لأن حالة الناس اليوم غير حالتهم في السنين السابقة، فيما يتعلق بشأن الأهلة وطريق إثباتها والشهادة فيها وتعميم العمل بها.

فقد كانت البلدان المتجاورة في قديم الزمان بمثابة المتباعدة، بحيث تكون القرية عن القرية الأخرى قدر مائة كيلو أو أقل أو أكثر، فتثبت رؤية الهلال في إحدى القريتين ولا تعلم الثانية بثباته فيها لصعوبة الاتصالات بينهما إلا عن طريق البعير والحمار، فيحكم قاضي تلك البلدة بصحة رؤية الهلال بشاهدين عدلين، ويأمر بالعمل بذلك من الصوم أو الفطر، فتصوم هذه القرية والبلدة الأخرى المجاورة لها مفطرون، حيث لم يروا الهلال ولم يبلغهم خبر رؤيته.

وكلا القريتين على حق، الصائمون منهم والمفطرون، لأن هذا هو غاية جهدهم واجتهادهم، سواء أصابوا أو أخطؤوا، لأن كل مجتهد في مثل هذا يعتبر مصيبًا في حصول الأجر وحط الوزر، إذ ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286].

ما عدا قضاء ذلك اليوم الذي سبقت به إحدى القريتين، فإنه من اللازم بالاتفاق وفي الغالب أنه متى ثبتت رؤيته في مثل هذه البلاد رؤية صحيحة، فإنه يرى غالبًا في أكثر البلدان فينتشر أمره ويشتهر خبره، وهذا هو حقيقة الحكمة في خلقه، حيث جعله الله ميقاتًا للناس والحج.

ولو قدر خطأ هذه الرؤية، فإن هذا الخطأ لا يتعدى مكان البلدة المشهود فيها وما حولها فلا يتعدى إلى البلدان الأخرى.

أما الآن وفي هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذَّوَاتِ والمقربة للأصوات من برقيات وإذاعات وتليفونات وتلفزيونات؛ فقد صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب فيسري خبر الرؤية في مشارق الأرض ومغاربها في ساعة واحدة، سواء كان الخبر صحيحًا أو غير صحيح، فيعم الناس الخطأ كما يعمهم الصواب.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن من الحزم وفعل أولي العزم أن يحسب لهذا الأمر الحساب ويستخدم له سائر الوسائل والأسباب من كل ما يقتضي التوثق والثبات بشهادة المعروفين بالعدالة والثقة والرؤية الثابتة المحققة في دخول الشهر وخروجه حتى يكون الناس آمنين على إكمال صومهم فرحين بعيد فطرهم، فلأن نخطئ في التوثق والاحتياط أولى من أن نخطئ في التساهل والاستعجال، وهذا هو حقيقة ما ندعو إليه وننصح به، والله عند لسان كل قائل وقلبه.

وأما حديث ابن عمر في شهادته على الهلال، وكذا حديث الأعرابي الصحابي، فقد وقعت الشهادتان على دخول رمضان ولعلهما في قضية واحدة في سنة واحدة أو في سنين متفرقة.

وعلى كلا الأمرين فليس في الحديثين ما يدل على أنه لم ير الهلال أحد غيرهما، لا من أهل المدينة ولا من حولها من الأعراب، إذ عدم العلم بالشيء ليس علمًا بالعدم، ومن المحتمل أن يكون شاركهما غيرهما في رؤيته، وإن لم يذكر في الحديث اكتفاء بصدور الأمر من رسول الله ﷺ في إثباته.

ثم إنه لا يقاس شهادة ابن عمر وهذا الأعرابي الصحابي على شهادة غيرهما من أهل هذا الزمان، ممن لا تعرف عدالتهم ولا ثقتهم، إذ من المعلوم أن رسول الله ﷺ قد عرف تقوى هذين الشاهدين وثقتهما، فأمضى شهادتهما، إذ القصد الخبر اليقين بالرؤية، وقد وقف رسول الله ﷺ على حقيقة ذلك[254].

ثم إن ابن عباس راوي حديث الأعرابي لم يقبل قول كريب وحده في رؤية دخول رمضان وقد أخبره أن معاوية صام وصام الناس معه حتى قال: أما نحن فلا نصوم حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين يومًا، كما أمر رسول الله ﷺ بذلك.[255]

ثم إن الإثبات يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فقد جعل النبي ﷺ شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين عدلين لما يعلمه من صدقه وثقته وأمانته، ومن ذلك أنه يشهد الرجل الثقة العدل على الشيء ويشهد بضده عشرة رجال ممن لا تعلم عدالتهم ولا ثقتهم فيمضي القاضي شهادة الواحد العدل ويرد شهادة العشرة لكون الكمية لا تغني عن الكيفية شيئًا. فإن قيل: فقد ثبت عن النبي ﷺ وجوب العمل في الصوم والفطر بشهادة الشاهدين، كما روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب الناس في اليوم الذي يُشك فيه، فقال: إني جالست أصحاب رسول الله وسألتهم وكلهم حدثوني أن رسول الله ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا ثَلَاثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا».

فهذا حديث ثابت، يحمل على المراد منه والمقصود به، وأن النبي ﷺ أمرهم إذا شهد شاهدان أن يصوموا ويفطروا، لأنه لن يشهد شاهدان عدلان برؤيته الثابتة في بلد كالمدينة إلا وقد رآه الكثير من الناس في سائر الآفاق، لاعتبار أن كل بلد تراه كذلك أو أكثر البلدان، إذ القصد من الشهود على الرؤية هو إثبات اليقين والحقيقة وهي تحصل بشهادة العدلين، وقد أمضى النبي ﷺ شهادة ابن عمر وشهادة الأعرابي الصحابي، لمّا وقف على حقيقة صدقهما، غير أنه لم يكن مراد النبي ﷺ أنه متى شهد شاهدان مجهولان على رؤية الهلال وجميع الناس لم يروه أنه يجب إمضاؤه وتكليف الناس بالعمل بشهادتهما على قرب الديار وبعدها، فهذا لم يكن مرادًا منه أبدًا. والشهادة أمانة. وأول ما يفقد الناس من دينهم الأمانة وآخر ما يفقدون من دينهم الصلاة، ومعلوم فقدان أكثر الناس في هذا الزمان لعمود دينهم وأمانة وبهم، فضلاً عن فقدان أماناتهم واستخفافهم بشهاداتهم، وقد أخبر النبي ﷺ بهذا الأمر قبل وقوعه، كما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» - لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثًا - «ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ».

ففي هذا الحديث الإشارة إلى استخفاف الناس في آخر الزمان بالشهادة، وأنهم يشهدون بما لم يشاهدوه وبما لم يحيطوا بعلمه.

وقد روي من حديث ابن عباس، أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ ليشهد عنده، فقال له: «تَرَى الشَّمْسَ؟» قال: نعم. قال: «مثلها فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ».[256]

فالعدالة التي يشترطها الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال وغيره قد صارت مفقودة في هؤلاء الأفراد، الذين يشذ أحدهم بشهادته على الهلال من بين مجموع سائر الناس، بحيث يدعي أحدهم رؤيته الليلة ثم لا يراه جميع الناس الليلة الثانية، ويدعي رؤيته في وقت هي مستحيلة فيه بمقتضى الدليل العقلي على عدم إمكانها، كأن يراه الناس نيرًا مضيئًا صباحًا فيما بين الفجر وطلوع الشمس ثم يدعي أحدهم رؤيته مساء من ذلك اليوم، وهذا لا يتفق أبدًا والدعوى برؤية الهلال معه تعتبر كاذبة كما سيأتي بيانه.

ومما يؤكد هذه الغرابة وبطلان هذه الشهادة، كون البدو الذين يسكنون في الصحراء البعيدة عن كبار المدن ودخانها وارتفاع بنيانها وقد مُنحوا من قوة الإبصار نتيجة صحة الأجسام، فكان أحدهم يرى ويعرف سمة الإبل قبل أن يرى أكثر الحضر أجسامها، ويحرصون أشد الحرص على التطلع إلى الهلال وقت التحري له ولا يرونه، بينما يدعي أحد هؤلاء رؤيته وهي غير صحيحة في ظاهر الأمر.

فلا عبرة بمثل شهادة هؤلاء، مع قيام الدليل العقلي على بطلانها، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.

ثم إن رؤية الهلال يقع فيها الوهم والاشتباه دائمًا حتى من بعض العدول الثقات، بحيث يخيل للشخص أنه رأى الهلال ولم يكن هلالاً ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

من ذلك أن جماعة كانوا يتراءون هلال رمضان وفيهم أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله ﷺ وكان قد قارب مائة سنة، وفيهم إياس بن معاوية، المعروف بالفراسة، فبينما هم ينظرون إليه إذ قال أنس بن مالك: أنا رأيت الهلال هو ذاك. وأخذ يشير بإصبعه إليه ولا يراه الناس، فقام إياس بن معاوية فمسح شعر عيني أنس، ثم قال: انظر يا أبا حمزة، هل ترى شيئًا؟ فنظر ثم قال: الآن لا أرى شيئًا. فعرفوا أنها شعرة اعترضت لعينه فحسبها هلالاً[257].

اجتمع عدد من الرؤساء العقلاء في مكان عال من الصحراء يتراءون الهلال، قالوا: فنظرنا إلى قطعة سحاب في شكل الهلال وفي مطلع الهلال، فجعلنا نكبر ويريه بعضنا بعضًا، لا نشك إلا أنه الهلال، فبينما نحن كذلك نحقق فيه النظر، إذ رأيناه يتمزق وبعد قليل اضمحل وزال فعرفنا أنها قطعة سحاب، والله إن العَجُول من الناس ليشهد أنه رأى الهلال، ومثل هذا يقع كثيرًا بين الناس، ولهذا أمر الله بالتثبت في خبر الفاسق.

ثم إن الخبر برؤية الهلال هو بمثابة الخبر عن رسول الله أنه فعل وقال؛ إذ لكلٍّ خبرٌ ديني مما يتعلق بالأحكام والحج والصيام وأمور الحلال والحرام.

ولمّا رأى العلماء كثرة الكذب على رسول الله ﷺ أنه فعل وقال؛ اخترعوا فنَّ الجرح والتعديل ليميزوا به بين الصادق الأمين والكاذب المهين، فكانوا يقولون: فلان كذاب، وفلان مدلس، وفلان كثير الوهم، وفلان غير ثبت، وفلان ينفرد بالمناكير، وفلان يشذ بحديثه عن الثقات، ونحو ذلك من المميزات التي تقتضي التحذير عن الاغترار بخبرهم أو تصديقهم في شهادتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة لله ولدينه ولعباده المؤمنين.

وكان أول من اعتنى بالتحفظ على الشهادة والعقاب على ما دخل فيها من النقص والزيادة، هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مشهورة حاصلها ما رواه البخاري في صحيحه، أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع وكان عمر مشغولاً، فلما أفاق من شغله قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ - يعني أبا موسى الأشعري - قالوا: بلى. قال: ائذنوا له. فطلبوه فلم يجدوه، فأرسل في أثره من يرده إليه، ثم قال له: ما حملك على أن ترجع؟ قال: لأني سمعت رسول الله يقول: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيْهِ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال عمر: إني لم أسمع ذلك أبدًا، والله لتأتين بشاهد يشهد لك بذلك، أو لأوجعن ظهرك. فانطلق أبو موسى مذعورًا حتى وقف على ملأ من الأنصار فقال: أنشدكم بالله، هل أحد منكم سمع رسول الله يقول: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيْهِ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ» قالوا: اللهم نعم سمعناه، فقال: ليشهد معي أحدكم عند عمر. فقالوا: يشهد معك أصغرنا، قم يا أبا سعيد الخدري فاشهد معه. فجاء أبو سعيد فشهد عند عمر فقال: صدقت، أشغلني عنها الصفق بالأسواق.

فهذا من فنون سياسته في رعيته وتثبته في الشهادة بما لا يثق بصحته حتى لا يدخل الخلل على الدين بالنقص والزيادة من طريق الشهادة المزوّرة، وإنما سميت الشهادة الكاذبة بشهادة الزور لازورارها عن طريق الحق والعدل.

وخطب النبي ﷺ فقال: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ» ثم قرأ: ﴿فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ ٣٠ حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦۚ [الحج:30-31] رواه الإمام أحمد من حديث خريم بن فاتك الأسدي.

* * *

[253] الصَّحْو: ذهاب الغيم. [254] إذ لا يشترط لصحة الدخول في صوم رمضان حكم القاضي بذلك بل لو أخبره ثقة عدل أنه رأى هلال رمضان فصدقه وجب عليه أن يصوم، وكذا لو رأى بنفسه الهلال فردت شهادته أو لم يشهد به بخلاف ما لو رأى بنفسه هلال شوال فلم تقبل شهادته أو لم يشهد به، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر إلا معهم، كما هو الظاهر من مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقًا للحنابلة. [255] رواه مسلم عن كريب. [256] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس. [257] ذكر هذه القصة ابن خلكان في تاريخه في ترجمة إياس - ص 226 الجزء الأول.

من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها

إن الله سبحانه يقول: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ كما قال: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ، فأمر بإقامة الشهادة لله كما أمر بإقامة الصلاة لله، وإقامة الشهادة هي أن تأتي بها مقوّمة معدلة غير مائلة ولا مزيفة، بل تشهد على حقيقة ما رأيت وسمعت بثبت وإتقان من غير زيادة ولا نقصان، كما في الحديث: «عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ» [258].

والشهادة على الهلال هو مما يكثر الاشتباه فيها دائمًا، بحيث يخيل للشخص أنه رأى شيئًا ولم يكن شيئًا، كما علم بالقطع كثرة وقوع ذلك.

فإذا انحصرت الشهادة على رؤية الهلال في واحد أو اثنين من بين مجموع الناس، فإنها شهادة ظنية ليست يقينية، تشبه الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فهي لا تفيد اليقين قطعًا، لاسيما إذا كان هذا الشاهد أو الشاهدان ممن لا تعرف ثقتهما ولا عدالتهما، إذ ليس الخبر كاليقين ولم يقل أحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا فقهاؤهم: إنه يجب تصديق خبر مدعي الرؤية وإن لم تعلم عدالته.

لاسيما في هذا الزمان الذي ضعفت فيه الأمانة وفاض فيه الغدر والخيانة، وحاول الكثير من المنافقين أن يتلاعبوا بالدين ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ [التوبة: 47] والمنافقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيهم القرآن، ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ [آل عمران: 118] فكان أحدهم يشهد برؤية الهلال في وقت مستحيلة رؤيته فيه، وهذا مما يؤكد بطلان شهادتهم ووقوع التساهل في الحكم بها، كما شهدوا في زمان فات برؤية هلال شوال وأُمر الناس بالفطر فأفطروا، وعند خروجهم إلى مصلى العيد لصلاة العيد انكسفت الشمس والناس في مصلى العيد!! ومن المعلوم أن الشمس لا يكسف بها في سنّة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، أي ليالي الإسرار، كما أن القمر لا ينخسف إلا في ليالي الإبدار، أي ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، كما حقق ذلك أهل المعرفة بالحساب وعلماء الفلك، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة وأبطل ما يعارضه.

فالاستمرار على هذا الخطأ الناشئ عن الشهادات المزوّرة لا يجيزه النص ولا القياس، ولن نعذر عند الله وعند خلقه بالسكوت عنه.

ثم إن الناس في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، وصار كل واحد مقبول الشهادة على خاصة الهلال، وبناء على هذا التسامح أخذ بعض الناس يتسابقون إلى ادعاء رؤية الهلال بدون تثبّت ولا يقين، فدخل الخطأ على الناس في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان، بناء على شهادة من لا يعرفون عدالته ولا ثقته.

من ذلك، أنه جاء الخبر من إحدى البلدان برؤية هلال شوال من هذه السنة ليلة الجمعة، وأن يوم الجمعة هو العيد فضجت الأصوات من الإذاعات يأمرون الناس بالفطر يوم الجمعة، لاعتبار أنه العيد، فأفطر الناس، وفي الليلة الثانية التي هي ليلة السبت، اجتهد الناس لرؤيته فلم يروه قطعًا، وفي الليلة الثالثة التي هي ليلة الأحد رآه أفراد من الناس الحادة أبصارهم رأوه ضعيفًا، وقد سبره عدد من العقلاء الرؤساء حتى غاب في خمس وعشرين دقيقة، وبعضهم قال: في ثلاثين دقيقة. وهو الليلة الثالثة على حسب هذه الشهادة!!

وكان الصحابة يصلون مع رسول الله ﷺ صلاة العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة، كما في سنن أبي داود عن النعمان بن بشير، أنه قال: أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله ﷺ يصليها سقوط القمر لثالثه.

لهذا اضطرب الناس من هذه الشهادة، وعرفوا تمام المعرفة أن يوم الجمعة من رمضان وكذا يوم السبت على الراجح، وأخذوا يسألون عن قضاء هذا اليوم أو اليومين، هل يجب أو يستحب أو لا يجب ولا يستحب؟!

وهذه المسألة ترجع إلى قضية من أفطر في نهار رمضان، يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، وقد وقعت هذه القضية على الصحابة رضي الله عنهم كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني عبد الله بن شيبة، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا على عهد النبي ﷺ يوم غيم ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أفأُمروا بالقضاء؟ قال: لابد من قضاء. وقال معمر: سمعت هشامًا قال: لا أدري أقضوا أم لا.

قال في فتح الباري: اختُلف عن عمر في ذلك فروي عنه ترك القضاء قائلاً: لم نقضِ، إنا لم نتجانف الإثم.

وروى مالك عنه أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا.

وروى عبد الرزاق عنه أنه قال: نقضي يومًا.

وروى سعيد بن منصور عنه: وفيه: من أفطر منكم فليصم يومًا مكانه. قال: وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة... انتهى.

وظاهر المذهب وجوب القضاء لكون الأصل بقاء النهار، وحكى في الإفصاح اتفاق الأئمة على وجوب القضاء.

ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم القضاء لدخوله في عموم قوله: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» [259]. انتهى. وكما لو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع فتبين أنه طالع فلا قضاء عليه في ظاهر المذهب.

وقد نص الفقهاء على أنه لو وقف الناس بعرفة اليوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح، لقول النبي ﷺ: «الحج يوم يحج الناس»، وهذا يوم حج الناس على حسب اجتهادهم، كما لو اجتهد إنسان فصلى ثم تبين أنه صلى إلى غير جهة القبلة، فإن صلاته صحيحة ولا يعيدها، لكون المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر الذي يسعهم العلم به، فإذا اجتهدوا فأخطؤوا فلا حرج عليهم، أشبه بالقاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر.

* * *

[258] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس. [259] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذر الغفاري.

موانع الرؤية للهلال بمقتضى سنة الله الجارية في خلقه

إن الهلال آية من آيات الله في استهلاله وفي إبداره وفي استسراره، وقد جعل الله له علامات يعرف بها إمكان رؤيته وعلامات يعرف بها تعذر رؤيته، كما جعله تارة ثلاثين وتارة تسعًا وعشرين، وقد قال بعض الصحابة: صمنا مع النبي ﷺ تسعًا وعشرين أكثر ما صمنا ثلاثين [260]. والرؤية الصادقة الصحيحة تصدق ذلك أو تكذبه، فهي أصح العلامات للعمل به، لحديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [261]، وقال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» [262].

ومتى رئِي الهلال ابتدأ حكم به لأول ليلة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كانت منزلته مرتفعة أو منخفضة، لأن أجلى الحقائق ما شوهد بالعيان.

أما العلامات التي يعرف بها امتناع رؤيته وعدم صحة الشهادة به، فمن أهمها كونه يرى صباحًا فيما بين الفجر وطلوع الشمس من جهة الشرق، ثم يدعي بعضهم رؤيته مساء من ذلك اليوم من جهة الغرب، فإن هذا من الممتنع المستحيل قطعًا، بمقتضى الحس والتجربة والعادة الجارية في سنة الله، حتى ولو كان أقوى نظرًا من زرقاء اليمامة، فلا تتفق رؤيته صباحًا ثم رؤيته مساء من ذلك اليوم، فمن ادعاه فإنما خيل له ولم يره، فالشهادة بذلك تعتبر كاذبة، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.

وقد أجرى الله العادة في خلق القمر أنه يظهر لأبصار الناس في ثمانية وعشرين يومًا من الشهر لحلوله في ثمانية وعشرين منزلاً، ثم يختفي عن أبصار الناس يومين إن كان تاما ثلاثين أو يومًا واحدًا إن كان ناقصًا، أي تسعة وعشرين.

فهذا الاختفاء والاستسرار في اليومين أو اليوم لا بد منه كما هو متفق عليه عند أهل العلم وأهل الحساب والجداول والمفسرين وعلماء اللغة وبعضهم قال بجواز اختفائه ثلاثة أيام.

ويسمى هذا الاختفاء للهلال: السرار والاستسرار واجتماع النيرين والمحاق وغير ذلك من التسمية الجارية على ألسنة العرب، فمتى رأوه صباحًا طالعًا نيرًا، عرفوا تمام المعرفة أنه لن يهل مساء من ذلك اليوم أبدًا، بمقتضى العادة التي أجراها الله فيه.

وما يدعيه بعض أهل العلم من إخواننا في زماننا من القول بجوازه، وعدم امتناعه كما سمعنا به من بعضهم ويجادلون في إثباته، فهو قول لم يستند إلى إثبات لا بطريقة المشاهدة ولا التجربة، ويترجح أن هذا القول إنما خرج منهم مخرج الظن والتخمين بدون علم ولا يقين وبدون مشاهدة ولا تجربة، وذلك لا يُغني عن الحق شيئًا.

وكأنهم في نظرهم ومناظرتهم بنوا أمرهم على الشهادة المزيفة برؤية الهلال حيث يراه الناس صباحًا، ثم يشهد بعضهم برؤيته مساء، فبنوا أمرهم ورأيهم على هذه الشهادة الكاذبة وجعلوها لهم بمثابة القاعدة وهي بلا شك من باب قياس الفاسد على الفاسد.

وسنورد من الأدلة ما يوضح امتناع ذلك وعدم إمكانه بمقتضى سنة الله في خلقه:

قال البغوي في تفسيره على قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥ [يونس: 5].

قال: إن منازل القمر ثمانية وعشرين منزلاً وأسماؤها: الشرطان والبطين والثرياء والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم والفرغ المؤخر والرشاء.

قال: فينزل القمر كل ليلة منزلاً منها ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين.

وقال القرطبي في تفسيره على الآية وعلى قوله: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ. قال: إن الله سبحانه قدر للقمر منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر منها كل ليلة بمنزلة ويومان للنقصان والمحاق، ثم ساق عدد النجوم الثمانية والعشرين ينزل في كل ليلة منها ثم يستتر.

وقال ابن كثير في تفسير سورة نوح: قدر الله للقمر منازل وبروجًا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهر.

وقال الخطيب الشربيني في تفسيره: أنوار التنزيل، قال: إن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها: الشرطان والبطين.. إلخ.

قال: وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجًا لكل برج منزلان وثلث، فينزل القمر منها كل ليلة منزلاً، ثم يستتر ليلتين إن كان ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين.

وقال في تفسير المنار على الآية المذكورة:

قال: إن الله قدر للقمر في سيره في فلكه منازل ينزل كل ليلة في منزل منها لا يخطئه ولا يتخطاه، وهي ثمانية وعشرون معروفة تسميها العرب بأسماء النجوم المحاذية لها، وهي ثمانية وعشرون: الشرطان والبطين... وذكر بقية النجوم، ثم قال: فهذه المنازل الثمانية والعشرون هي التي يُرى فيها القمر بالأبصار، ثم تبقى ليلتان إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين يحتجب فيها عن الأبصار فلا يُرى أبدًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

قال: إن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستتر ليلة أو ليلتين لمحاذاته لها، فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور، ثم يزداد نوره كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها، ولهذا يقولون: الاجتماع، وأهل الحساب يسمونه اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، كما يعرف بذلك وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، كما أن القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار لحؤول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف تدرك بالحساب الصحيح.

قال: وأهل الحساب يرون بأنهم يعرفون طلوع الهلال بأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها بعشر درجات أو أقل أو أكثر، أما كونه يرى أو لا يرى فهو أمر حسي طبيعي يحققه وجوده وليس حسابيا، والأمر الشرعي في الصوم والفطر إنما يترتب على الرؤية المحقة لا على الحساب. انتهى[263].

وقال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن، قال: والسرار هو اليوم الذي يستسر فيه القمر آخر الشهر. وقال في النهاية لابن الأثير: قال الأزهري: يقال سرار الشهر وسرره وهو آخر ليلة استسر فيها الهلال بنور الشمس وقال في مختار الصحاح: استسر القمر أي خفي ليلة السرار وربما كان ليلة وربما كان ليلتين.

وقال في لسان العرب: استسر القمر إذا خفي ليلة السرار، وربما كان ليلة وربما كان ليلتين، قال الشاعر:
نحن صبحنا عامرًا في دارها
عشية الهلال أو سرارها
قال: وحكي عن الكسائي وغيره، أنه قال: السرار آخر الشهر ليلة يستسر الهلال.

وقال أبو عبيدة: وربما استسر ليلة وربما استسر ليلتين.. انتهى.

وبهذا يتبين أن استسرار القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين أنه من الأمر الثابت شبه المجمع عليه عند المحققين من سائر العلماء، وقد أجرى الله العادة به واستقر في نفوس الناس معرفته، فمتى رآه الناس صباحًا عرفوا تمام المعرفة أنه لن يهل مساء أبدًا ولا تنخرم هذه العادة التي هي بمثابة القاعدة، بدعوى الرؤية الكاذبة، وما كل ما يقال: إنه رئِي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا واقعًا لوقوع الفرق شرعًا وعرفًا بين الخبر واليقين، والله أعلم.

* * *

[260] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود. [261] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [262] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [263] من رسالة بيان الهدى من الضلال في شأن الهلال - ص 33.

رؤية الهلال نهارًا قبل الزوال وبعده

وأما قول الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: وإن رئِي الهلال نهارًا فهو لليلة المقبلة، سواء كان قبل الزوال أو بعده قاله في الإقناع، ومختصر المقنع وغيرهما، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فهذا القول جرى من الفقهاء على سبيل الفرض والتقدير لكونهم يقدرون دائمًا ما لا يقع على فرض وقوعه، فهم يقدرون رؤيته نهارًا لعارض يعرض في الجو، بحيث يقل ضوء الشمس فيمكن لقوي النظر رؤيته، وهو تقدير يبعد وقوعه جدًّا، رؤيته قبل الغروب مستحيلة وغير ممكنة ولو فرض وقوعها فإنه لا تأثير لها في حكم إثبات الصيام بها، وقد أنكر هذا التقدير بعض الفقهاء وعدُّوه من الأمر المستحيل لعدم إمكان وقوعه؛ لكون الهلال لا يُرى رؤية صحيحة إلا بعد غروب الشمس وذهاب شعاعها، كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وحتى صاحب كشاف القناع في شرح الإقناع[264]، استدرك على الفقهاء القول به، قائلاً: إنه لا أثر لرؤية الهلال نهارًا وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب. قال: ولعله مراد أصحابنا لظاهر الخبر السابق فعلم منه أن الرؤية قبل الغروب لا تأثير لها.. انتهى.

والخبر السابق الذي أشار إليه هو ما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية. رواه الدارقطني، وهذا الأثر عن عمر دليل واضح على عدم الاعتبار برؤية الهلال في النهار، سواء كان قبل الزوال أو بعده، وأنه لا يعتد به على فرض وقوعه، وقد قال في بداية المجتهد: إن سبب اختلافهم في حكم رؤية الهلال بالنهار هو ترك اعتبار التجربة وليس في ذلك أثر عن النبي ﷺ يرجع إليه. وحكى عن القاضي قائلاً: الذي يقتضيه القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب، لكون المعتمد في ذلك على التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتمد في ذلك مغيب الشمس أول مغيبها.. انتهى.

* * *

[264] من أشهر كتب الحنابلة، لمؤلفه منصور بن يونس البهوتي.

رفع النزاع الواقع في اختلاف المطالع

إن مطالع الهلال متفقة ومتقاربة في البلدان العربية وسائر البلدان التي يسكنها المسلمون، وذلك بمقتضى المشاهدة والتجربة وتناقل الأخبار من بين سائر الأقطار.

وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع فيما بين الشام والحجاز وفيما بين مصر والعراق، فيترجح بأن هذا التحديد جرى منهم على حسب الاجتهاد، يؤجرون عليه ولا يلزم التقيد به لكونه جرى منهم بدون تجربة ولا مشاهدة، فظنوا وقوع التفاوت في المطالع بين هذه البلدان فقالوا بموجبه على سبيل الفرض والتقدير لصعوبة المواصلات في زمنهم وتعذر الاتصالات من بعضهم مع بعض.

أما في هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات، فقد صارت الدنيا كلها بأسرها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون فيما بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب، ويسأل بعضهم بعضًا عن الهلال وقت طلوعه فيخبره بما يوافق في بلده فعلموا بذلك عدم التفاوت في المطالع بين سائر البلدان العربية، لكونها من الأمور الحسية التي تدرك بالمشاهدة والتجربة، فضعف القول باختلاف المطالع في هذا بعد وقوفهم على عدم صحته.

يحققه أن بعض الأقطار المتباعدة، مثل: بلدان سلطنة عمان وفارس وباكستان والهند، بما فيها من المسلمين أنهم إنما رأوا هلال شوال من هذه السنة ليلة الأحد وصار عيدهم بالأحد، وعندنا لم يره الناس رؤية صحيحة ثابتة إلا ليلة الأحد ليلة رآه أهل الهند وباكستان، ولا عبرة بما قيل من رؤيته قبلها بناء على الأوامر الصادرة عليهم بالفطر، فإننا إنما نتكلم على الرؤية الثابتة المعترف بصحتها. وإن رؤيتنا لهلال شوال توافق رؤية فارس والهند وباكستان على حد سواء، غير أنه قد يختلج في نفوس بعض الناس شيء من الشك في ذلك حينما يرى ويسمع أن الشمس تغرب في بعض البلدان غير الوقت الذي تغرب فيه في البلدان الأخرى، كما أنها تغرب في الشام والعراق قبل غروبها في الحجاز، وتغرب في باكستان والهند قبل غروبها في نجد والحجاز بعدد ساعات. فيظنون أن اختلافها في مشارقها ومغاربها أنه مما يتغير به مطلع الهلال تبعًا لها، وهذه هي الشبهة التي جعلت الفقهاء المتقدمين يقولون باختلاف المطالع، وفات عليهم بأن الله سبحانه خلق القمر ميقاتًا لجميع الناس عربهم وعجمهم في صومهم وحجهم، فهو آية من آيات الله في استهلاله وإبداره واستسراره، ومسخر من الله لمصالح عباده، فهو يساير الشمس حسبما يراه الناظرون وإلا فإن فلكه غير فلكها.

وعند اقتراب انقضاء الشهر، فإنه يقرب منها كالملازم لها أحيانًا، يطلع صباحًا من جهة الشرق قبلها فيغيب قبلها فلا يراه أحد في أي بلد، وأحيانًا ينحسر عنها ويتخلف منها، فتطلع قبله وتغيب قبله، فمتى بعُد من شعاعها على قدر ما يتمكن من رؤيته الناظرون فإنهم حينئذ يرونه في كل بلد، كما أنه لا يتغير طلوعه في حال قصر الليل ولا طوله؛ لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتًا لجميع الناس، وما كان كذلك فإنه لن يختلف بحال ولا يتغير في محل دون محل، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «صَوْمَكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرَكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رواه الترمذي.

والخطاب في هذا لجماعة الناس، فليس منشأ الخلاف بين الناس من مطلع الهلال، وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، فإن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الجو وكدره وقوة النظر وضعفه، والاستعداد لمراقبته وقت التحري له من جهة مطلعه وعدم الاستعداد لذلك، ثم التثبت لصحة الرؤية وعدم التثبت فيها، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال، وهذا الاختلاف يقع من قديم الزمان بين البلدان المتجاورة كما يقع بين البلدان المتباعدة، وسببه معقول كما ذكرنا.

ثم إن القول باختلاف المطالع من لوازمه أن شهر رمضان الذي افترض الله على عباده صيامه بكماله أنه يتنقل من بلد إلى بلد؛ فيكون أول رمضان في إحدى الأقطار بالجمعة وفي القطر الثاني بالسبت وفي القطر الآخر بالأحد، وهذا لا يكون أبدًا حتى ولو قدر وقوعه فعلاً بناء على التثبت في الرؤية وعدم التثبت فيها ووقوع الغيم في جهة والصحو في الجهة الأخرى، وغير ذلك من الأعذار المقتضية لاختلاف الناس في الدخول في الصيام والخروج منه، لكن الأمر الصحيح أن رمضان الذي افترض الله صومه على عباده هو معلوم العدد والحدّ تارة تسعًا وعشرين وتارة ثلاثين ومعلومة حدوده في دخوله وخروجه، لا يتنقل أبدًا، أما كون الناس يختلفون في التثبت في رؤيته وعدم التثبت، فإن هذا أمر واقع ولا يغير شيئًا من صفاته التي رتبها الله عليه في قوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

فكما أنه لا يتغير من بلد إلى بلد في حالة مطلعه واستهلاله، فكذلك لا يتغير في كل قطر عن حالة إبداره، فكل الدنيا تتفق على حالة الإبدار التي يعرفون بها هيجان البحر واضطرابه وانتفاخه في سائر الأقطار وذلك ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقد زعموا أن هذا الاضطراب وهيجان البحر أنه من تأثره بالقمر، والله أعلم.

ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا اتسعت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، وكانوا هم الملوك والأمراء في مشارق الأرض ومغاربها وفي ممالك كسرى وقيصر وغيرها، فكانوا يتراسلون ويتساءلون عما يلزم من الأحكام وأمور الصيام. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أمراءه وعماله بأن يلقوه بموسم الحج بمكة كل عام فيسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله وشؤون بلده.

ومع هذا كله، فلم يثبت عنهم ولا عن أحد منهم الخوض في اختلاف مطالع الهلال، إذ لو كان له أصل لأكثروا فيه الكلام وبينوا للناس ما يترتب عليه من أحكام الصيام، كما أنه لم يثبت عن رسول الله ﷺ في موضوعه حديث واحد لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، غير أن الفقهاء أخذوا القول به من مفهوم حديث ابن عباس مع كريب، لمّا قدم عليه من الشام وقال له: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه يوم الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قال: نعم رأيته وصام أمير المؤمنين وصام الناس معه. فقال ابن عباس: أما نحن فلم نر الهلال إلا ليلة السبت ونصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان ثلاثين يومًا. فقال كريب: ألا تكتفي برؤية أمير المؤمنين؟ فقال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ. وكأنه يشير إلى حديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [265] وحديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ ثَلَاثِينَ»» [266]، وهذا الرأي وهذا العمل وقع من ابن عباس رضي الله عنه موقع الاجتهاد وهو عين الصواب، يريد ألا يخرج من الصوم المفروض إلا بيقين الفطر من الرؤية أو إكمال العدة، ولم يقل ابن عباس في حديثه مع كريب، بأن مطلع الهلال بالشام غير مطلعه بالحجاز، وإنما أخذوه على حسب الظن منهم فيه، فقالوا بموجبه، ثم أخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى اشتهر وانتشر، ولعل ابن عباس لم يكن هذا مراده، وإنما أراد الأخذ بالحزم وأن يفطر على يقين من الرؤية أو إكمال العدة.

ومن المعلوم أن الفقهاء قد نصوا على أنه لو رأى أحد هلال شوال بطريق اليقين فردت شهادته أو لم يشهد بذلك، وقد صام الناس من أجل أنهم لم يروا الهلال، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر في الراجح من الأقوال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقًا للحنابلة، بل قد نصوا أيضًا على أنهم لو صاموا رمضان بشهادة واحد ثلاثين يومًا فلم يروا الهلال، فإنه يجب ألا يفطروا حتى يروه حتى ولو صاموا واحدًا وثلاثين يومًا. ذكره في الإقناع ومختصر المقنع وغيرهما. وهذا القول ينطبق على فعل ابن عباس رضي الله عنه.

ثم إن الكثيرين من شرّاح حديث ابن عباس مع كريب، قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها، من أجل أنه شاهد واحد والمفروض شاهدان، احتياطًا لحفاظ هذه الفريضة، إذ ما كل ما يقال: إنه رئي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا ثابتًا ولا كون الرائي عدلاً صادقًا، اللهم إلا أن يقال بثبوت وقوع التفاوت في المطالع بطريق اليقين بين الأقطار الأجنبية الواسعة والأقاليم الشاسعة، وأن مطلع الهلال فيها غير مطلعه في الجزيرة العربية وما جاورها، فعند ثباته يتعلق حكم كل قُطر وكل إقليم برؤيته بنفسه، والله أعلم.

[265] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [266] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.

اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام

إن كل اجتماع يعقده الزعماء والرؤساء وسائر المنتدبين لعلاج الأوضاع وإصلاح الأحوال والأعمال، فإن مبدأ حديثهم يتناول البحث عن اختلاف المسلمين في الأعياد، حيث يكون عيد بعضهم اليوم وبعضهم بعد يومين، والكل مسلمون على دين واحد، فهم يرون أن في هذا الاختلاف نوع مغمز لأعداء الإسلام، حيث يظنون أن المسلمين متفرقون في أصل الدين والعقيدة، وأنهم لن يتفقوا أبدًا، فالزعماء أعطوا هذا البحث نوعًا من الاهتمام، يحبون اجتماع المسلمين على عيد واحد في يوم واحد، كما أنهم على دين واحد يأمر بالاجتماع والاتفاق وينهى عن الاختلاف والافتراق ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ [آل عمران: 103]، وكان النبي ﷺ إذا قام إلى الصلاة قال: «اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»[267].

وإن هذه البغية المنشودة والرغبة المطلوبة لمن العمل السهل الميسر متى أخذوا بعزائم أسبابها ودخلوا عليها من بابها، كيف وقد نصب الله لها صوًى ومنارًا يعرّفهم طريقها ويسلك بهم سبيل تحقيقها.

ونحن نعيش في ضمن دولة إسلامية دينية، هدفها الحق والسير برعاياها على سبيل العدل، فهي تحيل النظر في أحكام الأهلة إلى المحاكم الشرعية، لتصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، ثم إبلاغ الناس بما يلزم من ذلك.

وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد، القريب منهم والبعيد، هو في امتثال المأمور واتباع المأثور الثابت عن النبي ﷺ حيث قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» [268].

وفي قوله: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، تارة تسعًا وعشرين وتارة ثلاثين، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» متفق عليه. ولمسلم: «فَاقْدُرُوَا لَهُ ثَلَاثِينَ». فالخطاب في هذا كله لعامة المسلمين الذين خلق الله لهم الأهلة ليهتدوا بها لميقات صومهم وحجهم، لأن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها وأعيادها ما أمكن الاتفاق.

وغرض الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بهذه الأوقات لقصد التعبد فيها بوظائفها المفروضة على الناس.

وإن الأحكام المتعلقة بالصيام وعيد الإسلام منوطة برؤية الهلال رؤية صحيحة ثابتة، بحيث يراه عدد من العدول المعروفين بالثقة والعدالة، إذ الهلال أمر مشهور مشهود به مرئي بالأبصار، ومن أصح المعلومات ما شوهد بالعيان، إذ ليس الخبر كالعيان.

والحكمة في ذلك جعل العبادة في ابتدائها وانتهائها مما يتيسر العلم بوقته لكل أحد من بادية وحاضرة، وعالم وجاهل وكاتب وأُمي ورجل وامرأة، فلم يجعل عبادة أحد متعلقة بإرادة الآخر، لأن الله سبحانه العظيم شأنه، علم ما كان يتلاعب به علماء الأديان ورؤساء الأمم السابقة، من تصرفهم في العبادات الشرعية، حيث أسقطوا عن أممهم فرض الصيام الواجب عليهم تدريجيا، وكانوا يحلون لهم ويحرمون بدون إذن من الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.

فجعل عبادة هذه الأمة متعلقة بالمشاهدة والظهور والأمر الجلي، سواء في ذلك فرائض الصلوات والصيام والحج، يقول الله تعالى: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189].

فمعرفة وقت الصيام في دخوله وخروجه، يعرف برؤية الهلال جليا واضحًا، بحيث يستوي في العلم به والتكليف بواجبه جميع الناس، أو بإكمال العدة عند حصول ما يمنع الرؤية، ومتى رئي ابتداءً فإنه يحكم لأول ليلة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كانت منزلته عالية أو منخفضة، فلو جرى المسلمون على عملية التوثق واليقين في دخوله وخروجه، بحيث لا يصومون ولا يفطرون حتى يراه عدد من العدول الثقات لسلموا من هذه التشكيكات والاختلافات في الصوم والعيد الناشئة عن الشهادات غير الثابتة في الرؤية والتساهل في الحكم بصحتها والعمل بها. والله أعلم.

[267] أخرجه مسلم عن أبي مسعود. [268] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

ترائي الهلال مستحب

إنه يستحب الترائي للهلال وقت التحري لطلوعه للتحفظ على الوظائف المفترضة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها.

لقد قلنا سابقًا ولاحقًا: إن منشأ الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد يرد إلى أمر واحد وهو التثبت في دعوى الرؤية وعدم التثبت فيها، لأنه متى كان بعض المسلمين يبنون أمرهم في صومهم وفطرهم على الرؤية المحققة المستفيضة الثابتة بشهادة عدد من العدول الثقات على صحتها فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم، كما عليه العمل في سائر البلدان التي ينتحل أهلها العمل بمذهب الأحناف؛ فهم أسعد بالصواب في هذه القضية، لاسيما عند فساد الناس في هذا الزمان. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: إنما سمي الهلال هلالاً لارتفاع الأصوات برؤيته وكما سمي شهرًا لشهرته، فلا يكفي عنده ولا عند الأحناف شهادة الواحد والاثنين على رؤيته في حالة الصحو من بين مجموع سائر الناس، لكون الرؤية الصحيحة الثابتة حسية تدرك بالأبصار ويشترك في العلم بها غالب أهل الأمصار، إذا لم يكن ثم ما يمنع الرؤية من غيم وغيره، لأنها متى كانت الأبصار متساوية والموانع منتفية، فإنه حينئذ يمتنع اختصاص الواحد والاثنين بالرؤية دون سائر الناس، فلا بد أن تنتشر وتشتهر الرؤية الصحيحة، بحيث يراه من كل بلد واحد أو اثنان.

وهذا القول بما أن له قوة في النظر، فإن له حظا كبيرًا من الأثر، حيث قال النبيﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [269]. وقال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» [270]. وكلها أحاديث صحيحة ثابتة.

فمتى لم يره المسلمون وإنما أخبرهم به مخبر عن طريق الإذاعة برؤية فرد معلوم أو مجهول في بلد كذا ولم يثبت لدى أحد من القضاة الشرعيين عدالة هذا الشاهد ولا ثقته، وهل هو شاهد واحد أو اثنان؛ فإنه حينئذ لا يقال: إن المسلمين قد رأوه. وهم لم يروه، وإنما أُخبروا به وليس الخبر كاليقين.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد لا يزال واقعًا ومستمرًّا دائمًا لاختلاف الأفهام في تطبيق النظام على العمل بصحيح الأحكام.

* * *

[269] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [270] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.

عملية التمهيد لجمع الناس على الصيام والعيد

إنه ينبغي لنا أن نعمل عملنا فيما يعود بالصلاح على أمتنا وأهل ملتنا، من كل ما يقضي بتخفيف هذا الاختلاف والافتراق، ويستدعي الاجتماع والاتفاق بأمر يقتضيه الحزم وفعل أولي العزم ولا ينفيه الشرع، وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في اتباع المأثور وامتثال المأمور الثابت عن رسول الله ﷺ حيث قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، وفي قوله: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ ثَلَاثِيْنَ»، وكلها أحاديث صحيحة.

وبما أن أهل المدن والعواصم لا يحتفلون برؤية الهلال غالبًا ولا يتفرغون للترائي ويمنعهم عدم صفاء الجو من كثرة الغبار والدخان وارتفاع البنيان، فهم يتكلون على غيرهم في استهلال الشهر وقت التحري لطلوعه، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن الغفلة تغلب على أكثر الناس وإنما يراقبون خبره عن طريق الإذاعة فقط لا عن طريق الرؤية، لهذا فإن من الحزم وفعل أولي العزم تعيين لجنة استهلالية تشتهر بهذا الاسم أو باسم لجنة مراصد الأهلة أو غير ذلك من الأسماء اللائقة بعملها، وتكون هذه اللجنة من العدول الثقات المعروفين بالدين والعقل وقوة النظر ولا يقلون عن عشرين شخصًا، يتفرقون في الجهات كل فرقة منهم قدر خمسة أشخاص ليقوي بعضهم بعضًا بالنظر، وإنما قلنا بتفريقهم في الجهات خشية أن يخيم الغيم على جهة فيتحصلون على الصحو في الجهة الأخرى فيتم المقصود بذلك. فهؤلاء يرصدون الهلال وقت التحري لطلوعه.

ويكون مقرهم بمكة المكرمة، مكان خيرة الله لبيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا والذي هو أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله عز وجل، فهذا هو مقرهم، وأما تنظيم أمرهم وإصدار القرارات الصادرة منهم في إبلاغ إثبات الأهلة وغيرها فيكون عند الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فهي التي تتولى تنظيم أمرهم، فهذه اللجنة الاستهلالية يصرفون جهدهم في رصد الهلال وقت التحري لطلوعه، فإذا رأوه حكم بصحة رؤيتهم وصام الناس وأفطروا على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم.

ويمكن لأئمة المسلمين وقضاتهم أن يصدروا حكمًا للعمل برؤيتهم فيصير حجة على الجمهور من سائر الأقطار الإسلامية التي تتفق مطالعها، وإن لم يروه ترجح عدم استهلاله فلا يلتفتوا إلى أي خبر يأتيهم من أي بلد لرجحان عدم ثباته، اللهم إلا أن يثبت ثبوتًا شرعيا قطعيا بشهادة عدد من العدول الذين لا يمكن اتفاقهم على الكذب، كما روى أهل المدينة عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذين وقعت فيهم الرؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك. ذكره في بداية المجتهد.

وهذا العمل بهذه الصفة هو مما يزيد المسلمين ثقة ويقينًا واطمئنانًا، ولو عمل المسلمون عملهم في التوثق واليقين في دخول الشهر وخروجه بصفة ما ذكرنا لنجحوا في مهمة الاتفاق من جميع الآفاق.

وأما إذا خيم الغيم على هلال شعبان وأشكل الأمر على الناس فظاهر مذهب الحنابلة في ذلك معروف، وهو أنهم يحسبون تسعًا وعشرين من شعبان ثم يصومون اليوم الثلاثين، حكمًا ظنيا احتياطًا أنه من رمضان، ويستدلون على ذلك بحديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» وفسر ابن عمر «فَاقْدُرُوَا لَهُ» بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين يومًا، وقد خالف في ذلك من خالف من علماء الحنابلة، إذ ليس القول بهذا متفق عليه عندهم.

أما الجمهور، فإنه عند الغيم يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا، سواء كان الغيم في هلال شعبان أو في هلال رمضان، وكذا لو غم الذي قبله فإنهم يعملون بإكمال العدة ثلاثين من كل شهر وهذا هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» ولمسلم «.. فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا».

وكان سبب اختلافهم هو الإجمال في قوله: «فَاقْدُرُوَا لَهُ» حيث فسره من فسره بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين، كما هو رأي ابن عمر رضي الله عنه، وذهب الجمهور إلى أن معناه إكمال العدة ثلاثين، واستدلوا له بالأحاديث المفسرة له بإكمال العدة ثلاثين.

أما تفسيره بالتضييق عليه، فإن فيه بعدًا في اللفظ والمعنى ولم يثبت رفعه إلى الرسول ﷺ بهذا اللفظ، ويكفي في رده الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين، فقد ثبت رفعها وهي مفسرة لقوله: «فَاقْدُرُوَا لَهُ» فوجب أن يحمل المجمل على المفسر، وهي طريقة معروفة عند الأصوليين لا خلاف في جواز استعمالها، إذ ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلاً، والمفسر مقدم على المجمل.

وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الناس في هذه القضية تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، لحديث: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن غريب، لكون القضية موضع اجتهاد وللإمام مجال في الاجتهاد فيها.

أما المسلمون المقيمون أو الساكنون في إنجلترا وأمريكا وفرنسا وروسيا، وسائر بلدان أوروبا التي تغمرها الغيوم المتواصلة دائمًا، بحيث لا يرون فيها الشمس إلا نادرًا، فضلاً عن الهلال فإن هؤلاء يكونون تبعًا للجنة الاستهلالية وللبلدان العربية في الصوم والفطر كسائر جماعة المسلمين، إذ هذا هو غاية جهدهم في معرفة وقت صومهم وفطرهم لحديث: «الصَّوْمُ يَوْمَ يَصُوْمُ النَّاسُ، وَالفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» [271]. والناس هم جماعة المسلمين.

وفي الختام، فإن هذا هو نهاية ما حضرني من الكلام في إيراد النصوص والأحكام المتعلقة بشأن الهلال وشهر الصيام وعيد الإسلام، وهي جواب عن رسالة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي عليه السلام، كما أنها هدية دينية للخاص والعام، وإني أرجو أن تقع بموقع القبول والرضى من علماء المسلمين الذين لهم لسان صدق في العالمين، وقدم راسخ في الفقه في الدين وقلم خالص في النصح لله وعباده المؤمنين، ولا أقول ببراءتي فيها من الخطأ والتقصير، غير أنني لدى الحق أسير، إذ ليس كل قائل خبير ولا كل ناقد بصير سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد البشير النذير وعلى آله وصحبه أجمعين.

جرى تحريره في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة، عام ثلاثة وتسعين بعد الثلاثمائة وألف.

28 ذي القعدة سنة 1393 هـ.

[271] أخرجه الترمذي من حديث عائشة.

(6) الحُكم الشرعي في إثبات رؤية الهلال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الشمس والقمر آيتين من آياته؛ بهما يستدل المسلمون على أداء كثير من العبادات، فالصلاة والصيام والحج وغيرها يتوقف القيام بها على معرفة أحوال الشمس من شروق وغروب وزوال وعلى معرفة ظهور الهلال واختفائه.

وإنه لَمِمّا يؤسف له ما يشاهد في واقع المسلمين من اختلاف في رؤية هلال رمضان وهلال شوال وهلال ذي الحجة، مما يجر معه الاختلاف المشاهد في بدء الصوم وانتهائه، وفي تحديد أيام الحج ووقتها مع أنه يمكن رؤية الهلال في أقطار الإسلام كافة في ليلة واحدة.

ومع ذلك نرى الاختلاف المؤسف في بدء الصوم وانتهائه إلى الحد الذي يصل إلى أن تصوم بعض بلاد العالم الإسلامي بعد يومين من صيام الأخرى، وكذا في فطرها، كما حدث في هذا العام.

وفي الرسالة التالية التي وجهتها إلى العلماء الأجلاء حيثما وجدوا، وإلى حكّام المسلمين على اختلاف ديارهم، دعوة إلى الالتزام بالشرع الحنيف في إثبات رؤية الهلال، وإلى التحقق الواجب في إعلان بدء الصوم وانتهائه، وفي إهلال هلال ذي الحجّة مما سيؤدي - إن شاء الله تعالى - إلى توحيد بدء أداء هذه العبادات في حياة المسلمين، إذ إن الاختلاف في هذا الأمر ناشئ بدون شك عن أحد سببين: إما عدم التثبت من رؤية الهلال، مما يجر معه الأخذ بالشهادة الكاذبة، وإما عدم وجود هيئة مسؤولة عن رؤية الهلال مؤلفة من عدول ثقات، مشهود لهم بالصلاح والخير، يوكل إليها أمر رؤية الهلال، وهذا لا ينفي بالطبع واجب المسلمين جميعًا في التماس الهلال.

أرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهم علماء المسلمين وحكامهم والمسؤولين فيهم إلى التقيّد بالشرع الشريف، وأن تجد هذه الرسالة موقعها الحسن في نفوسهم، فيعملوا بما جاء فيها من اقتراحات. وحسبنا أننا نبذل الجهد والطاقة في سبيل خدمة هذا الدين الحنيف محتسبين في ذلك الأجر والثواب من الله، وعملاً بقوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٥ [الذاريات: 55] والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* * *

الرسالة الموجهة إلى العلماء والحكام في شأن رؤية الهلال

أرفع إلى العلماء الأعلام وإلى الحكّام الكرام وإلى قضاة شرع الإسلام هذه الرسالة الوجيزة التي تدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم؛ لأن من واجب العلماء التناصح في سبيل بيان الحق، والتواصي بما ينفع الخلق؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يُستمع، والمخلص في محبته هو من يجرع صديقه الدواء المرّ ليقيه من الوقوع في الضر. وإن النهي عما يجب إنكاره هو ما يقلل فشوه وانتشاره، ويبقى الود ما بقي العتاب.
ما ناصحتك خبايا الود من أحد
ما لم ينلك بمكروه من العذل
مودتي لك تأبى أن تسامحني
بأن أراك على شيء من الزلل
وبعد: فإن عيد الفطر من هذه السنة 1400هـ. قد وقع في غير موقعه الصحيح بناء على الشهادة الكاذبة برؤية الهلال ليلة الاثنين، حيث لم يره أحد من الناس الرؤية الصحيحة لا في ليلة الاثنين ولا في ليلة الثلاثاء، مما يستلزم بطلان هذه الشهادة، وقد تكرر مثل هذه الخطأ أعوامًا عديدة، إذ من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، والناس لم يروا الهلال إلا في الليلة الثالثة أي ليلة الأربعاء، رأوه صغيرًا جرمه ومنخفضة منزلته، كهلال أول ليلة من الشهر. وفي اللغة أن الشهر ليلة الثالثة لا يسمى هلالاً، وإنما يسمى قمرًا، وكان الصحابة يصلّون العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة. ذكره أبو داود في سننه حديثًا.

ومن قواعد الشرع أن الهلال متى رآه الناس، فإنه أول ليلة من الشهر، سواء أكان جرمه كبيرًا ومنزلته عالية أم لم يكن، لقوله سبحانه: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189].

فسمى الله الهلال هلالاً لارتفاع الأصوات برؤيته، كما سمي الشهر شهرًا لشهرته، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185].

لهذا يتبين لجميع الناس أن دعوى رؤيته بليلة الاثنين أنها كذب وزور، وأن الحكم بصحتها وقع خطأ، ويغفر الله لمن حكم بصحته.

وإن من شرط صحة الشهادة المقبولة كونها تنفك عما يكذبها، فمتى شهد أحد برؤية الهلال ليلة الاثنين ثم لم يره جميع الناس ليلة الاثنين ولا ليلة الثلاثاء، فإنه من المعلوم قطعًا أن الشهادة كاذبة، أو أن الشاهد توهّم رؤية خيالية حسبها هلالاً فكانت ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

وكثيرًا ما يقع الوهم والتخيلات في رؤية الهلال، ومتى كان الكذب موجودًا في الناس بكثرة، فإن من العجز الثقة بكل أحد، فاحترسوا من الناس بسوء الظن ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ [الحجرات: 6] أي تثبتوا.
ورُبَّ شهادة وردت بزور
أقام لنصها القاضي عدولَهْ
يا معشر العلماء الكرام، ويا معشر قضاة شرع الإسلام، لقد وقعنا في صومنا وفطرنا في الخطأ المتكرّر كل عام، ومن أجل كثرته عاد كالأمر المعتاد فلا يتحرّك لإنكاره أحد، على أن التدارك ممكن، والأخذ بالأمر اليقين متيسّر، والأخذ بالحزم هو من فعل أُولي العزم.

وإن المسلمين قد انقسموا في صومهم وفطرهم إلى قسمين:

منهم من يعتمدون على الرؤية المحققة التي يرونها بأعينهم في بلدهم وفي البلدان المجاورة لهم، فلا يعتمدون في صومهم وفطرهم إلا على رؤية جماعة من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب؛ فيدخلون في صومهم بيقين ويخرجون منه بيقين ولا يبالون بمن خالف رؤيتهم، وهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب، فهنيئًا لهم تقبل الله منا ومنهم حيث امتثلوا أمر الله سبحانه بقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] وكذلك أمر رسوله ﷺ بقوله: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [283] وبحديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» متفق عليه من حديث ابن عمر.

والقسم الثاني: هم الذين يعتمدون في صومهم وفطرهم على أدنى خبر يأتيهم من إحدى البلدان بأنه رئي الليلة فيعلنون بالمذياع بأنه ثبت شرعًا رؤية الهلال ليلة الاثنين، وأن العيد صبيحة الاثنين، فيفطر الناس بدون أن يرى الهلال أحد، وحتى الليلة الثانية، فإنه لم يره أحد سوى إشاعة هذا الخبر الذي هو حقيقة في الكذب، فيصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان بناءً على هذا الخبر المكذوب، فيدخلون في صومهم ويخرجون منه على غير بصيرة من أمرهم، وهذا هو حقيقة ما عليه عمل البلدان العربية، حيث يقلد بعضهم بعضًا بدون رؤية ولا رَوِيّة. وقد قيل: «ليس المخبر كالمعاين» وهذه كلمة مأخوذة من حديث رواه الإمام أحمد أن النبيﷺ قال: «ليس المخبر كالمعاين، إن موسى أخبره ربه بأن قومه قد عبدوا العجل فلم يلق الألواح، فلما رآهم بعينه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه».

وإنني في ولاية عملي وفي محل قضائي أسير مع قافلة هؤلاء لكونهم مشايخي وأوسع مني علمًا، خشية أن أُرمى بجريمة الشذوذ عن الجماعة، ثم يطبّق عليّ وعيد من شذّ شذّ في النار، ثم أُسلي نفسي بالتأسي بغيري قائلاً: إن الإنحاء بالملام وتوجيه الآثام يقع على من تعمّد الحكم بالخطأ ودعا الناس إلى متابعته وإلى العمل به بدون تثبت ولا تريث ولا عمل باليقين، وليس الشك كاليقين.

فيا معشر علماء الفقه في الدين، إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه قد نصب للناس علامات جلية ظاهرة يهتدون بها في صومهم وفطرهم، فنصب الهلال في السماء ليكون علامة ساطعة لجميع الناس في البر والبحر، وفي الحضر والبادية، وللرجال والنساء، وأكد الاهتداء به بقوله سبحانه: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وكما سماه شهرًا لشهرته فقال: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] فمتى طلع الهلال على الحقيقة، فإن الناس كلهم يرونه، أهل المشرق كأهل المغرب.

وقد عقب النبي ﷺ على هذا بما يقتضي تأكيده، فقال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» ومثله حديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» رواهما البخاري.

وهذا الحديث فيه الزجر بالنهي عن الصوم أو عن الفطر قبل تحقق الرؤية. والخبر بأن فلانًا رآه في بلد كذا لا يصدق عليه أن الناس قد رأوه، لكون الخبر يحتمل الصدق والكذب، والغالب على دعوى رؤية الهلال الكذب لوقوع التوهم والتخيلات في الرؤية.

إننا متى أهملنا اليقينيات من هذه النصوص البيّنات فإننا لا بد أن نقع في المتاهات والجهالات الناتج عنها سوء التصرف في الصوم والفطر، ومتى ساء التصرف ساء العمل وساءت النتيجة، ثم نكون عرضة للطعن علينا بعدم العمل بكتاب ربنا وسنة نبينا.

إن الهلال لن يُطلب من جحور الجرذان والضبان، بحديث يراه واحد دون الناس كلهم، وإنما نصبه الله في السماء لاهتداء جميع الناس في صومهم وحجهم وسائر مواقيتهم الزمانية: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وما كان ميقاتًا للناس لزم أن يشاهدوه جليا كمشاهدتهم لطلوع الفجر عندما يريدون الإمساك للصوم وعندما يريدون صلاة الفجر، وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

فيا معشر علماء الإسلام، أنقذونا وأنقذوا أنفسكم وأنقذوا الناس معكم من هذا الخطأ المتكرر كل عام، حتى صار عند أكثر الناس من المألوف المعروف.

فابنوا أمركم في صومكم وفطركم وحجكم على التثبت واليقين الذي لا يعتريه الشك في حقيقة رؤية الهلال في بلدكم، بشهادة عدد من العدول الثقات، واتركوا عنكم تناقل الأخبار من البلدان بأنه رآه فلان وفلان مما يكذبها الحس والواقع من عدم رؤية الناس تلك الليلة ولا الليلة الثانية، مما يدل على كذب تلك الشهادة، إذ إن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، وأنه متى تم العمل بنظام ما ذكرنا فإننا نكون عاملين في صومنا وفطرنا على اليقين، ويترتب على ذلك صوم جميع أهل الإسلام وعيدهم في يوم واحد كل عام، متى تم بناء نظام العمل في الصوم والحج، فإنّ جميع الناس سيكونون تبعًا لحكومة المملكة العربية السعودية؛ إذ أكثر المسلمين الذين يسكنون بريطانيا وفرنسا وأمريكا، كلهم أو أكثرهم يراقبون خبر الهلال بالمملكة العربية السعودية حرسها الله تعالى.

* * *

[283] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

حكم صوم أهل البلدان البعيدين عن خط الاستواء

إن أكثر البلدان التي تطلع عليها الشمس كل يوم فإنهم يرون الهلال كما نراه، إذا لم يكن ثَمّ مانع من غيوم متراكمة، إذ الهلال يتبع الشمس في مجراها ومغيبها.

فمتى طلع قبل الشمس من جهة المشرق فإنه يغيب قبلها فلا يراه أحد، أو طلع مع الشمس فإنه يغيب معها فلا يراه أحد لشدة ضوء الشمس، وإذا تأخر عن الشمس بقدر يمكن الناس أن يروه - وقدروه بعشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة - فإنه يمكن أن يراه الناس. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الهلال.

إنه بمقتضى المشاهدة والتجربة لرؤية الهلال في بلدان الغرب كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فإنه متى صفا الجو وزالت السحب، فإن الناس يرون الهلال كما يراه أهل نجد والحجاز على حد سواء، وكذلك منزلته في ليالي الإبدار كثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، قد شاهدناه بالعيان، كمنزلته في نجد والحجاز على حد سواء، ولا عبرة بكون اليوم في البلدان الغربية أطول جدا منه في بلدان نجد والحجاز، فإن هذا معلوم قطعًا ولن يتغير به مطلع الهلال، إذ هو يتبع الشمس في كل بلاد الغرب، حتى إذا نزلت الشمس إلى البلدان التي تحتنا، فإنه ينزل معها كحالته عندنا، إذ نوره مقتبس من ضوء الشمس، يقول سبحانه: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 38-40].

* * *

حكم الصوم في بلدان القطبين الشمالي والجنوبي

يبقى الكلام في البلدان البعيدة عن خط الاستواء والتي تغيب عنها الشمس فترة من الزمان، إذ توجد بلدان تغيب عنها الشمس نصف السنة، ثم تطلع عليها نصف السنة، وهذه البلدان مغمورة بالثلوج والسحب، ويوجد فيها أناس من المسلمين يسألون عن صلاتهم وصيامهم فأصدر العلماء لهم فتاوى باعتماد التقدير بالساعات في صومهم وصلاتهم قياسًا على أقرب بلد منهم من سائر البلدان التي تطلع عليها الشمس في كل يوم، مهما كان اليوم فيها طويلاً أو قصيرًا، لأن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وفي الحديث: «مَا أَمَرْتُكُمْ بشيء فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [284]. فيقدرون للإمساك ساعات معدودة على قدر أقرب بلد منهم، وكذلك سائر أوقات الصلاة تتم بالتقدير.

وليعلم أن كل بلد تطلع فيها الشمس وتغرب، فإنه لا يجوز لهم التقدير فيها، وكأن هذه الفتوى مقتبسة من حديث ورد في أشراط الساعة وأن اليوم كالسنة، فقيل لرسول الله ﷺ: ما نصنع بالصلاة والصيام فيه؟ قال: «اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ» [285] هكذا رأيت الحديث ولا يحضرني إسناده، ولعله بعد الخسوف بالشمس والله أعلم. بل يجب الإمساك فيها للصيام من حين يتبين الفجر إلى غروب الشمس، لقوله سبحانه: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ [البقرة: 187]، والنبي ﷺ يقول: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» [286].

لقد شاهدنا الصيام في لندن، وكان صوم يوم فيها ومقداره سبع عشرة ساعة أخف بكثير من صوم يوم في نجد أو في الخليج أو في العراق، لكون برودة الجو هناك تلطف على الصائم فلا يحس معها بجوع ولا ظمأ وأكثر يومه يكون نومًا.

وفي الغالب أن أكثر المصطافين في تلك البلدان متى أفطروا رمضان فإنهم لن يستطيعوا القضاء من أجل كسلهم وضعف إيمانهم، فكان صومهم مع الناس والتأسي بهم مما يعد خفيفًا عليهم.

إننا بحاجة ملحة إلى تحقيق رؤية الهلال بعين اليقين، ولسنا بحاجة للمسابقة لنشر خبر الهلال بين المسلمين، فكثير ما يقع الوهم والتخيلات في رؤيته.

* * *

[284] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [285] أخرجه مسلم من حديث النواس بن سمعان. [286] متفق عليه من حديث ابن أبي أوفى

كثرة اعتراض الوهم والتخيلات في رؤية الهلال

قد حدثني رجال عدول من أمراء آل ثاني قائلين: خرجنا في اليوم التاسع والعشرين من شعبان إلى الصحراء لنرى الهلال، فبينما ننظر إليه من جهته فوقع نظرنا على قطعة سحابة صغيرة تشبه الهلال، فأخذنا نكبر ونقول: هلال خير ورشد لا نشك في أنه الهلال، فبينما نحقق النظر فيه رأيناه يتمزق، ثم اضمحل فعلمنا أنها سحابة.

والمقصود أن منشأ هذا الاختلاف بين المسلمين في صومهم وعيدهم ليس نتيجة اختلاف في العقيدة أو العبادة، ولا عن التفاوت في مطلعه، بحيث يراه قوم دون آخرين. وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال.

وأكبر شبهة تعتري الناس في هذه المشكلة هو زعمهم باختلاف مطلع الهلال بتباعد الأقطار، وهذا الاعتقاد يكذبه الواقع المحسوس، فإن كنتم في شك مما قلنا فاسألوا أهل المغرب: متى رأيتم هلال الفطر من هذه السنة؟ يخبرونكم بأنهم رأوه ليلة الأربعاء وصار عيدهم بالأربعاء، ثم اسألوا أهل المشرق، كأهل باكستان والهند يخبروكم بمثل ذلك؛ مما يعلم به اتفاق مطلعه في كلا الجهتين على حد سواء، ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ [النمل: 88].

ومثله ما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان في مجتمع من الناس، منهم إياس بن معاوية يلتمسون الهلال، وكان أنس قد طعن في السن، فقال أنس: أنا رأيت الهلال هو ذاك. فقال إياس بن معاوية: محال أن يراه أنس، ومحال أن يتعمد أنس الكذب، ثم فرك بمشافر عينيه فقال: انظر - رحمك الله - هل تراه؟ قال أنس: أما الآن فلا أراه. فعلموا أنها هدبة اعترضت لعينيه فحسبها هلالاً ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

فالفقهاء من الأحناف القائلون بأنه لا بد من الاستفاضة بخبر الرؤية بأن يشهد بها عدد من العدول يبعد تواطؤهم على الكذب، لأنه متى كان الهلال في السماء فإنه لا يكتفى برؤيته بشخص أو شخصين دون بقية الناس لاحتمال التوهم منهما.

فالقائلون بذلك هم مجتهدون ومصيبون في حكمهم فلا يلامون على ما فعلوا من الحزم، وأحزم الحزم سوء الظن بالناس، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسائله المتعلقة بالهلال، فقال: إنه لا يعتد برؤية الواحد ولا الاثنين للهلال والناس لم يروه لاحتمال التوهم منهما في الرؤية إذ لو كانت الرؤية صحيحة لرآه أكثر الناس... انتهى.

لا سيما إذا كان المدّعون لرؤيته مجهولين أو غائبين عن البلد لوقوع التفاوت في الخبر بين الحاضر والغائب، كما قيل:
الاخبار فيها من بعيد تفاوت
فما بال إذ جاء النبا من بعيدها
وهذا هو حقيقة ما اعتمده ابن عباس في حديثه المشهور، كما رواه مسلم في صحيحه عن كريب: أن أُم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية رضي الله عنهم بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معهم معاوية. فقال: لكن رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نراه.

وهذا الحديث هو بمثابة المرفوع، حيث قال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ، وكأنه يشير إلى قول النبي ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [287] وكذا حديث: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمْ فَأَفْطِرُوا» [288] والخبر بأنه رآه فلان لا تعتبر رؤيته رؤية صحيحة لاسيما إذا كان مجهولاً.

لهذا امتنع ابن عباس عن خبر الرؤية حتى مع قبول معاوية وهو أمير الكوفة، وقال: أما نحن فلا نزال نصوم حتى نراه. أراد أن يتم صوم رمضان عن يقين وبصيرة من أمره بدل إحالته على خبر مجهول لا يعرف عن صحته.

ثم إن الكثيرين من شراح حديث ابن عباس مع كريب قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها من أجل أنه شاهد واحد والمفروض شاهدان احتياطًا وحفظًا لهذه الفريضة، إذ ما كل قول برؤيته في أي بلد يكون صحيحًا ثابتًا. ولا كون الرائي عدلاً صادقًا كما سبق القول به من الفقهاء المتقدمين، والحق عدم صحة القول بالتفاوت، كما سبق منا بيانه.

وقد استنبط الفقهاء المتقدمون من هذا الحديث القول باختلاف المطالع إذا تباعدت الأقطار، وأن أهل كل قطر يعملون برؤيتهم أخذًا من مفهوم هذا الحديث بدون أن يقع له ذكر فيه وهم مجتهدون في زمانهم ومأجورون - إن شاء الله تعالى - على اجتهادهم، لكنه لا يلزم صحة ما قالوا ولا العمل به ما دامت الحقائق تكذبه.

فهم قالوا بذلك في حالة انقطاع السبل وتباعد أخبار الأقطار فلا يعلم أهل المشرق عن كيفية صوم أهل المغرب وفطرهم ولا عن كيفية طلوع الهلال عندهم.

أما في هذا الزمان عند وجود آلة التليفون والتلفزيون والذي صار أهل المشرق يخاطبون به أقصى أهل المغرب شفهيا بصوت جلي غير خفي ليكلم من في المشرق صاحبه في المغرب: متى رأيتم الهلال؟ ومتى صمتم ومتى أفطرتم؟ فيخبره بواقع الأمر والحال، إذ لو كان صحيحًا لكان أهل المغرب أحق بالسبق إلى رؤية الهلال من أهل المشرق لقربهم من مغيب الشمس الذي يُرى الهلال قريبًا من غروبها، وواقع الحال أنه متى رأى أهل المغرب الهلال جليا، فإنه يراه أهل المشرق كذلك بلا فرق.

أما كون الشمس تغرب عن أهل المشرق ساعات عديدة والهلال يتبعها، فهذا معلوم ولن يغير من حكمة الرب في خلق القمر، فقد جرت العادة من الله أن الشهر يكون أحيانًا ثلاثين يومًا وأحيانًا تسعة وعشرين، وأن الله سبحانه قد رسم له في سيره ثماني وعشرين منزلة ينزل كل ليلة منها منزلة لا يتخطاها ولا يقصر دونها، ويقول علماء الفلك: إن بين كل منزلتين خمسًا وأربعين دقيقة، ثم يختفي عن أعين الناس ليلة أو ليلتين فلا يراه أحد، وما زعموه أنه من الممكن أن يرى بين الفجر وطلوع الشمس من جهة المشرق ثم يرى من ذلك بعد غروب الشمس من جهة المغرب، فإن هذا محال وغير ممكن ﴿لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ [يس: 40] وإنما قالوه قياسًا منهم على الرؤية الكاذبة، حيث يراه الناس وقبل طلوع الشمس واضحًا جليا، ثم يدعي أحد الكاذبين أنه رآه مساء ذلك اليوم، فالقياس على هذه الرؤية وهذه الدعوى من القياس الفاسد. فإن الهلال متى تقدم على الشمس في طلوعه من المشرق بعد الفجر، فإنه يغيب قبل الشمس بيقين. أما إذا تأخر عن الشمس في طلوعه من الفجر، فإنه يتأخر عن الشمس ثم يرى، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

وقال: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 38-40].

ولمّا كان أهل المشرق كمسلمي الهند وباكستان وأفغانستان وتركيا وسلطنة عُمان وبلدان الشيعة، لما كانوا يعتمدون الرؤية المحققة في صومهم وفطرهم رأيناهم يتفقون مع أهل المغرب بالرباط على صوم واحد وفطر واحد، كما صار عيد الجميع في هذا الزمان بالأربعاء، أي بعد عيدنا بيومين.

ولو اعتمدنا الرؤية المحققة لاتفقنا وإياهم على صوم واحد وعيد واحد. فأهلاً وسهلاً باليوم الذي يجمع شمل أهل الإسلام على عيد واحد كل عام.

وهنا قضية هي لنا بمثابة العظة والعبرة تنبئك عن الفرق بين الخبر والعيان، وذلك أننا في عام ماض صمنا رمضان تسعة وعشرين يومًا، وفي ليلة الثلاثين ورد علينا الخبر بأنه ثبت رؤية الهلال هذه الليلة فاعتمدوا صلاة العيد صبيحتها، فاحتسبنا ذلك وذهبنا إلى المصلى لأداء صلاة العيد، وبعد طلوع الشمس وارتفاعها رآها كل الناس مخسوفًا بها، وقد جرت العادة بأنه لا تكسف الشمس إلا في حالة الإسرار، أي يوم ثمانية وعشرين وتسعة وعشرين، وقال الفلكيون: إن سبب كسوفها هو توسط القمر بين الأرض والشمس.

كما أن القمر لا يخسف به إلا في حالة الإبدار، أي ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأن سببه حيلولة الأرض بين القمر والشمس والله أعلم.

والحاصل أن هذا العيد وقع قبل أن يتم رمضان، وتكرر هذا بدون كسوف ولا خسوف، فبالله قل لي: هل استدعي هذا المدعي لرؤية الهلال وأدب على تغرير الناس في فطرهم في وقت صومهم؟ فإننا لا نسمع بتنكيله على كذبه، وقد قال الله في المنافقين: ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ [التوبة: 47] مما يدل على أن الكذب قد يروج على الناس حتى على الصحابة.

وقد كذَبوا حتى على الشمس أنها تهان إذا حان الطلوع وتُضْرَب، فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن عمر، قال: تراءى الناس هلال رمضان فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته فصام رسول الله ﷺ وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان. ومثله حديث ابن عباس: أن أعرابيا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت الهلال. فقال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ؟». قال: نعم. قال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟». قال: نعم. قال: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: بِأَنْ يَصُومُوا غَدًا». رواه الخمسة صححه ابن خزيمة وابن حبان والنسائي.

فالجواب: أنه ليس في الحديثين ما يدل على حصر الرؤية في هذين الشخصين، إذ من المحتمل أن يكونا أول من رأى الهلال، ثم رآه غيرهما، إذ ليس في الحديث أنه لم يره تلك الليلة غيرهما، وقد جرت العادة في الناس حينما يتراءون الهلال أنه يسبق أحدهم إلى النظر إليه، ثم يراه الثاني والثالث والخمسة والعشرة، فيشتهر وينتشر خبره، فاكتفي في الحديث بذكر ابن عمر عن غيره لشهرته بدليل أن النبي ﷺ لم يبعث إلى قرى المدينة ليخبرهم برؤيته اكتفاء بظهوره وشهرته. أضف إلى ذلك معرفة النبي بعدالة الشاهدين، ومن لك بمثل ابن عمر وهو الصحابي الجليل، أشبه الرجل يخبر القوم بطلوع الفجر، ثم يخبر به الثاني، ثم يكتفى بانتشاره وشهرته.

ومثله تحقق رؤية هلال ذي الحجة حتى لا يقع خلاف ولا نزاع في يقين يوم عرفة ويوم العيد.

ثم إن هذا الحديث مدفوع بما هو أصح منه وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «وإذا رأيتموه فأفطروا، وإن لم تروه فانظروا، فإن غم عليكم فاقدروا له».

فالحكم المطلوب هو تحقيق رؤية الشهر لا المسابقة إلى نشر الخبر، فمن أراد أن يقود الناس إلى متابعته في الصوم والفطر على بصيرة من الأمر، فإنه يستعمل التثبت والحيطة في الرؤية المحققة التي تشهد بصحتها أبصار الناظرين؛ لكون الحكم في هذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة، ولم يوجب الرسول ﷺ على أمته قبول أي شاهد يشهد برؤيته، وإنما أحالهم إلى حقيقة الرؤية، فقال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوْهُ فَأَفْطِرُوا» [289].

ولم يحلهم إلى قبول أي خبر يأتيهم من إحدى البلدان لا يعلمون صدقه من كذبه، مع كون الغالب على هذه الأقوال الكذب لقيام الدليل والبرهان على بطلانها من كون الناس كلهم لم يروه تلك الليلة ولا الليلة الثانية، ومن شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، خصوصًا لمن يتصدى لإصدار الحكم إلى جميع المسلمين في تعميم الصوم والفطر، فإنه يجب أن يتقي ربّه فيما تولاه فلا يحمل الناس في حكمه وفتواه على صيام شيء من شعبان ولا فطر شيء من رمضان، مع العلم أن جميع الدنيا بأسرها قد صارت في انتشار أخبارها بمثابة المدينة الواحدة، وصارت أقاليمها بمثابة الغرف المتجاورة، بحيث ينتشر خبر الحكم في الهلال في الدنيا كلها في دقائق أو في ساعة، وهو أمر يوجب قوة العزم والأخذ بالحزم مما يرجى أن يوفق هذا القائد لجمع شمل كافة أهل الإسلام على عيد واحد كل عام، وما ذلك على الله بعزيز، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[287] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [288] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [289] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

(7) أحكام قصر الصلاة في السفر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فقد سلم إلي أحد المشايخ الكرام رسالة صادرة من فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين، إلى أخ له هو: «عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن عقيل» تتضمن السؤال عن مسائل مرفقة بالجواب عنها، ومن أهمها: السؤال عن قصر الصلاة للمقيمين في غير بلدهم للدراسة، أو لمدة تدريبية تبلغ سنة، أو ستة أشهر، أو أقل، أو أكثر. وطلب مني هذا الشيخ النظر، وتحرير ما تقتضيه أمانة التبليغ، مما يزيد البحث وضوحًا، لكون هذه المسألة قد ابتلي الناس بالوقوع فيها وعلى أثره كثر السؤال منهم عن حكم الشرع فيها، فرأيت الشيخ محمد الصالح وقد أصدر الفتوى فيها حسبما بلغ فهمه، ووصل إليه علمه، فقسم حالة إقامة الناس خارج بلادهم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقيم الشخص إقامة استيطان. والثاني: أن يقيم إقامة انتظار لحاجة يريدها، ولم يعيّن مدة إقامته. والقسم الثالث: أن يقيم في البلد إقامة انتظار، لحاجة مقيّدة بمدة، كسنة، أو نصف سنة.

وقد استقصى إحضار ما ثبت عنده فيما يتعلق من الأحاديث، وآثار الصحابة والتابعين. وقد أجاد فيما أفاد، وقد تركز فحوى قوله على عدم صحة تحديد مدة الإقامة التي تبيح القصر بأربعة أيام، وكونه لا أصل لهذا التحديد، مستدلًّا بأن النبي ﷺ أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأنه أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر، وهو استدلال واقع في موقعه الصحيح.

وهذان الحديثان هما أصح ما ثبت عن رسول الله ﷺ في طول المدة التي تقصر فيها الصلاة.

وفتوى الشيخ تدور على عدم التقيد بمدة في قصر الصلاة، بل يجوز أن تقصر فيما هو أكثر من ذلك، لكون المدة المقتضية لجواز القصر هي: كونه في سفر، حتى تنقضي لبانته - أي حاجته - فيزول القصر بانتهاء إقامته.

وقد تسامح الشيخ وتساهل في تفريعه على القسم الذي هو إقامة الإنسان في بلد إقامة طويلة، غير مقيدة بمدة في انتظار حاجة، وكونه يجوز له القصر حتى ولو طالت مدة إقامته إلى سنة، أو نصف سنة، وكونه يجوز له القصر، والفطر في نهار رمضان.

والذي أدركت على فضيلة الشيخ: تساهله في الإقامة، حيث جعلها، وإن طالت مع العزم على الإقامة؛ أنها سفر، حتى ولو أقام سنين. وهذا من الترخيص الجافي؛ بل هو من الترخص الجائر، ويفتح للناس - وخاصة الشباب - باب الفتنة في التفريط في هاتين العبادتين - أي عبادة الصلاة، وعبادة الصيام - فيتساهلون بتركها اعتمادًا على سماع مثل هذه الفتوى.

وقد قيل: إنك لم تحدث الناس بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة[272]، وقالوا: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره.

وإن القصر في السفر، والفطر، والجمع بين الصلاتين، يجب ألا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد. كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم. والله يقول:

﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ [النساء: 101].

عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ﴿فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ فقد أمن الناس. فقال: عجبْت مما عجبْت منه، فسألت رسول الله ﷺ قال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[273].

والضرب في الأرض ينافي الإقامة في البلد، فلا يسمى المقيم بالبلد مدة سنة، أو نصف سنة، أنه يضرب في الأرض، أو أنه مسافر، وقد عزم على الإقامة، وألقى عنه أعباء السفر من الزاد، والمزاد، وعزم على الإقامة الطويلة فإن حكمه كحكم المقيمين في الحضر، لزوال حكم السفر عنه، وكون الرجل مسافرًا أو مقيمًا يعرفه الناس بمقتضى البديهة.

وإذا سأله سائل: هل أنت مسافر أو مقيم؟ قال: بل أنا مقيم. والنبي ﷺ أقام بمكة تسعة عشر يومًا من أجل شغله بتنظيم البلد، فالخيام فوق رؤوسهم، وعصا التسيار بأيديهم، ورواحلهم معقولة عندهم ينتظرون انتهاء المدة، وقضاء الحاجة، فهم في شغل شاغل برواحلهم من العلف والسقي والرعاية فهم في حكم المسافرين على الحقيقة، وما إقامتهم هذه المدة إلا بمثابة الإقامة في البر تحت الشجر لانتظار رفيق يلحق بهم، أو انتظار ضالة يرجون حصولها.

ومثله: إقامة النبي ﷺ بتبوك فإنها عين الحاجة، حتى ولو أقام أكثر من ذلك فهم مسافرون، وما إقامتهم هذه إلا بمثابة إقامتهم في أثناء سفرهم في البريّة. فقول أنس: خرجنا مع رسول اللهﷺ في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم[274]. لا يعني بذلك أنهم فعلوا هذه الرخصة وهم مقيمون في البلد شهرًا أو شهرين، وحاشا وكلا.

ومثله: سؤال حمزة بن عمرو الأسلمي، حيث قال: إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله ﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»[275].

فهذه الرخصة: إنما أفتى بها رسول الله ﷺ في حالة سفره، لا في حالة عزمه على الإقامة الطويلة، فإن هذا من عداد المقيمين لا المسافرين، ولكل شيء حكمه. ومتى ثبت الأمر بعلة، فإنه يزول بزوالها.

ومثله: ما حكاه ابن عمر من إقامة الصحابة بأذربيجان أربعة أشهر، يقصرون الصلاة، وقد حال الثلج بينهم وبين القفول. وذلك أن الصحابة غزوا بلدان فارس وهم غرباء بها. ومن طبيعة الثلوج أنها تنزل بالليل وتتراكم حتى تكون بمثابة الجبال كما أن الناس يشاهدونها في كثير من البلدان، إلى حالة أنها تدفن السيارات. فالصحابة رضوان الله عليهم وقعوا في مأزق من هذا الثلج الذي حال بينهم وبين القفول، لكونه سد عليهم فم الشعب، فهم بوجوده لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، مع العلم أن الخيام مضروبة فوق رؤوسهم، وأن عصا التسيار بأيديهم، وأن رواحلهم معقولة عندهم ينتظرون الفرج للخروج، وفي كل يوم يقولون: ستذوب الثلوج. فلا ينبغي أن يقاس على هؤلاء ما ليس مثلهم، فإنه لو سألنا سائل عن أمثال هؤلاء من القوم الغزاة، بحيث نزلوا يحاصرون بلدًا لفتحها - كالمجاهدين في سبيل الله - وقد أقاموا في حصار البلد شهرين أو ثلاثة أو ستة أشهر أو أكثر، فإننا نقول بجواز قصرهم للصلاة، وفطرهم. ومثله: لو حاصر العدو بلد المسلمين، وقابلوه لقتاله، فإنه يجوز لهم أن يصلوا صلاة الخوف، بكل طائفة ركعتين، كقصر السفر، كما يجوز لهم أن يفطروا رمضان وهم في بلدهم، لتقويتهم على القتال. وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية أهل دمشق بالفطر في رمضان في قتالهم التتار. وكل ما ذكره الشيخ محمد من قصر الصحابة والتابعين، مع طول مدة الإقامة، فمحمول على ما ذكرنا من حصارهم للبلدان؛ إذ إنهم يقيمون في حصار البلد شهرين وثلاثة، فهم باقون في حكم شدة السفر ومشقته، ولم يحلّوا حزامهم منه.

أما الطلاب الذين وصلوا إلى أمريكا، أو لندن، ومن عزمهم الإقامة سنة أو أقل أو أكثر وقد ألقوا عنهم جلباب السفر، وعزموا وصمموا على الإقامة، فهؤلاء يعتبرون بأنهم مقيمون لا مسافرون، شرعًا وعرفًا ولغةً. أما كونهم في إقامتهم في حاجة للتعلم، فليس هذا بعذر، فإن كل الناس لا تنقضي حاجاتهم، كما قيل:
نروح ونغدوا لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضـي
لهذا ينبغي أن يعطى السفر والضرب في الأرض حقه من رخصة في القصر وفي الفطر وفي الجمع. وهو رخصة وليس بسنة.

أما القصر في السفر فسنة. فينبغي أن تقيد رخص السفر بالسفر، والعزم على الإقامة بالإقامة، ولكل شيء حكمه.

ثم إن التوسع في رخصة السفر في مدته وإباحة القصر والفطر فيه، مع العزم على الإقامة، تعطي الناس - وخاصة الشباب - شيئًا من الاستهانة بالأمر والنهي، وخاصة الفرائض المحتمة؛ من الصلاة، وصيام رمضان. إذ من المعلوم أن من استباح الفطر اعتمادًا على مثل هذه الرخصة الجافية، فإنه لن يستطيع الصيام، وهو أمر مشاهد بالتجربة، يشهد به الواقع المحسوس، لكون صيام الشخص مع الناس يعطيه شيئًا من القوة والنشاط على الصيام، ويسليه بأسوته بغيره.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الصيام من الاختيارات: إن المسافر متى عزم على إقامة أقل من أربعة أيام، جاز له الفطر. انتهى.

فلم يتوسع في الرخصة كتوسع هذا الكاتب، عفا الله عنه.

والمقيمون من المسلمين في بلاد الغرب، متى استهلوا هلال رمضان، عرفوا تمام المعرفة أنه يجب عليهم الصيام، ويحرم عليهم الفطر، والله يقول: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ [البقرة: 185] فأوجب الله سبحانه صيام رمضان على كل من شهد هلال رمضان، وهو مقيم في البلد، معافى في الجسد، ثم رخص في فطر المريض، وفطر المسافر مع العزم على قضاء ما أفطر من عدة أيام أخر. ولا ينبغي أن يحمل هذا المسافر الذي أُبيح له الفطر، على من عزم على الإقامة في بلد غير بلده المدة الطويلة، فإن هذا حكمه حكم المقيمين لا المسافرين.

أما الجمع بين الصلاتين: فقد ثبت عن النبي ﷺ في المتفق عليه من حديث أنس، أنه كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر، ثم ارتحل.

وفي قدوم النبي ﷺ عام حجّة الوداع إلى مكة، كان يصلي كل صلاة في وقتها، قصرًا، ما عدا أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة؛ لاتصال الوقوف، وجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة. وما عدا ذلك، فإنه كان يصلي كل صلاة في وقتها. ولهذا قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع بمنى، فقد كذب عليه.

ولهذا قال العلامة ابن القيم في الوابل الصيّب: إنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول، أو تعسره عليه. فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم، فجمعه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة. فالجمع ليس بسنة راتبة كما يعتقده أكثر المتأخرين، بل الجمع رخصة عارضة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن. وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة. وهذا لون وذاك لون آخر. انتهى.

ولا ينبغي أن ننسى الفتوح زمن عمر، وزمن عثمان، وعلي رضي الله عنهم، وما قبل ذلك، حين أرسل النبي ﷺ معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، فكانا يتمان الصلاة؛ لاعتبار أنهما مقيمان في البلد.

ومثله الأمراء، والقضاة الذين يبعثهم الخلفاء الراشدون إلى البلدان، كما بعث عمر ابن مسعود إلى العراق يفقههم في الدين، وكما بعث أبا موسى الأشعري أيضًا، وكما بعث سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وكلهم ليسوا مستوطنين في هذه البلدان، فكانوا يتمون الصلاة، ويحافظون على صيام رمضان، ولم يقع ببال أحدهم أنه مسافر مع حالتهم هذه.

ومثله أمراء الأجناد بالشام، كانوا يتمّون الصلاة في إقامتهم، مع عزمهم على عدم الاستيطان، ولم يقع ببال أحدهم أنه مسافر يستبيح رخص السفر.

ثم إن الشيخ - عفا الله عنه - يستدل على صحة ما ذهب إليه، بما هو حجة عليه، فيستدل على جواز القصر بقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ [النساء: 101] قال: والضرب هو السفر. وهذا تفسير صحيح.

ثم قال: وإذا كان الله قد أباح القصر للضاربين في الأرض للتجارة وغيرها، وهو يعلم سبحانه أن من التجار من يمكث في البلاد عدة أيام، لطلب التجارة وعرضها، علم أن الحكم عام.

ونقول: إن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فالعرب يعرفون بلاغة القرآن بلغته، ويعرفون معنى الضرب في الأرض، وأنه السفر، ويفرّقون بينه وبين العزم على الإقامة، وأن هذا ملحق بالحضر. ونحن نقول بجواز قصر التاجر إذا قدم البلد؛ لشراء شيء من الأغراض، ولعلاج مريض أو تجارة، وليس من نيته الإقامة بالبلد فإنه يقصر الصلاة لاعتبار أنه مسافر بنيته وفعله، حتى ولو أقام لحاجته عشرة أيام، أو عشرين يومًا. وتفسير القرآن واضح من لفظه، إذ ليس الضارب في السفر كالمقيم في الحضر.

ثم إن قياسه للعازمين على الإقامة بالبلد أزمنة طويلة، كسنة، أو نصف سنة، على إقامة النبيﷺ بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، إنه قياس فاسد مع الفارق، فإن رسول اللهﷺ بمكة لم يُلق عصا التسيار من يده، والخيام مضروبة على رؤوسهم، والرواحل معقولة عندهم، ينتظرون قضاء مهمة التنظيم، ثم يرحلون. فأين عذر هؤلاء من المقيمين سنة أو نصف سنة؟

ثم رأيت الشيخ نقل كلام العلامة ابن القيم رحمه الله في فقه غزوة تبوك من صفحة 29/3 من زاد المعاد قائلاً: إن النبي ﷺ مكث بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولم يقل النبي ﷺ للأمة: لا تقصروا الصلاة أكثر من أربعة أيام. ولكن اتفقت إقامته هذه المدة وهذه الإقامة في حال السفر، ولا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أم قصرت، إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع... انتهى.

فانظر إلى كلام العلامة حيث قرن المقيم بالبلد، بالمستوطن بها، وكلاهما لا يسوغ لهما استباحة رخص السفر، لاعتبار أنهما مقيمان بالبلد غير مسافرين.

ثم قال الشيخ: إن الأصل: أن المسافر باق على سفره، حقيقة عرفية وشرعية، حتى ينتهي برجوعه إلى محل إقامته (يعني بلده).

فالجواب أن نقول: إن هذه ليست بشرعية ولا عرفية، فإن المسافر مسافر، والمقيم مقيم، فهذه الجملة تعطي كون الإنسان متى أُرسل إلى بلد لولاية القضاء بها أو الإمارة، أو ولاية أي عمل من أعمال الحكومة، فإن هذا الكاتب يعتبره مسافرًا حتى ولو أقام في وظيفة عمله سنين عديدة، فإنه يبقى على حكم سفره، بحيث يباح له القصر، والفطر في رمضان، والمسح على ثلاثة أيام، والجمع بين الصلاتين، وما هو من اختصاص المسافر!

وهذا القول مخالف لإجماع المسلمين وما يعتقدونه من حكم دينهم، وكون المسلم متى عزم على إقامة طويلة، ولو بدون استيطان، فإنه يجب عليه أن يتم الصلاة بها، ويصوم رمضان، كفعل سائر أهل البلد؛ لاعتبار أنه مقيم وليس بمسافر، والناس كلهم يفرقون بين المقيم والمسافر، كما قيل:
أيا جارتنا إنا مقيمان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب
ثم ساق الكاتب آثار الصحابة في قصرهم الصلاة بأذربيجان ستة أشهر، وقد أسلفنا الكلام عليه، وبيان العذر فيه، وكون الصحابة مرغمين بالثلوج الحائلة بينهم وبين القفول.

وقد أكثر الكاتب من تكرار عدم صحة التقييد بأربعة أيام، ثم ساق أثرًا من مصنف ابن أبي شيبة: أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: إننا نطيل القيام بخراسان. فقال: صل ركعتين، وإن أقمت عشر سنين.

ثم ساق من مسند عبد الرزاق عن الحسن، قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة في بعض بلدان فارس سنين، فكان لا يجمع، ولا يزيد على ركعتين.

ثم ساق عن أنس وأنه أقام بالشام شهرين يقصر الصلاة. ثم ذكر البيهقي عن أنس بن مالك: أن أصحاب رسول الله ﷺ أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة. قال ابن حجر: صحيح. وكذا صححه النووي.

فالجواب عن هذه الآثار: أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وأنه ينبغي النظر في هذه الآثار وصحة سندها إلى أصحابها، ثم النظر في السبب الذي أوجب لهم استباحة هذا القصر المدة الطويلة، إذ إن معرفة السبب هو نتيجة صحة الحكم، كما يقولون: تشخيص الداء نصف علاجه. وإن الصحابة في زمانهم قد أوقفوا أنفسهم للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، فكانوا يحاصرون البلدان بدون عزم على إقامة فيها، فهم ينتقلون من بلد إلى بلد، وما استباحوا رخص السفر من القصر والفطر، إلا لكون السلاح بأيديهم والرواحل معقولة، والخيول مسرجة، تتراوح غاراتها بينهم وبين عدوهم، ويسيرون إلى البلدان على الرواحل، وأكثرهم يسيرون مشاة، فيعرض لهم طول الإقامة في البلد؛ لصعوبة الحصار في فتحها، فهم مستوجبون لقصر الصلاة وللفطر في رمضان مدة إقامتهم وإن طالت.

وقد قلنا: إنها لو حوصرت البلد، فإنه يجوز لأهلها أن يصلوا صلاة الخوف - أي ركعتين بكل طائفة - كقصر الصلاة في السفر، كما يجوز لهم الفطر. فمتى كان هذا في بلد الإنسان، فما بالك ببلدان الأعداء البعداء، الذين لا يتوصلون إليها، ولا يحاصرون أهلها، إلا بمشقة شديدة. علمًا أن قول الصحابي وفعله ليس بحجة فما بالك بالتابعين وما فعلوه من القصر مع حالتهم هذه، فإنه موافق لنصوصها.

ثم قال الشيخ محمد: فهؤلاء أربعة من الصحابة، وأربعة من التابعين كلهم يرون جواز القصر في المدة الطويلة من إقامتهم.

وأقول: إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ. وأقوال الصحابة والتابعين إنما يحسن الاستدلال بها في حالة الاعتضاد، لا في حالة الاعتماد، وهذا الاستدلال واقع في غير موقعه الصحيح؛ فإن قصر الصحابة للصلاة كل المدة الطويلة، فإنه موافق لنصوص الشارع ومقصوده؛ لكونهم لم يتحللوا عن عقدة سفرهم، بل هم باقون في شدة السفر ومشقته، الذي أُبيح القصر والفطر من أجله. فلا ينبغي أن يقاس عليه ما هو بعيد عنه في الحقيقة والمعنى، إذ لا قياس مع الفارق.

فإن هذه الآثار التي استدل بها الكاتب على صحة ما ذهب إليه، هي بالحقيقة مقتطفة من غزوات الصحابة في فتوح البلدان، فكانوا ينازلون البلد بالشهرين والثلاثة ولا يستطيعون فتحها، وحسبك ما جرى لهم من فتوح مدائن فارس وتسمى مدائن كسرى، وهي محصنة بكل القوّات والوسائل.

كما أشار الكاتب إلى رامهرمز وأنهم مكثوا فيها سبعة أشهر يقصرون الصلاة. وكذلك تستر أقام فيه الصحابة أشهرًا يقصرون الصلاة. وكذلك المدائن بفارس، وكانوا يقيمون في حصار إحدى المدائن بالشهرين والثلاثة في محاولة فتحها، ثم ينتقلون إلى الأخرى، وفي كلها يقصرون الصلاة. والسبب الذي جعلهم يقصرون الصلاة هو: بقاؤهم في حالة سفرهم بحيث لم يتحللوا عنه، ثم مزاولتهم بداعي الشدة والمشقة للجهاد في سبيل الله؛ وذلك أنهم وصلوا إلى هذه البلدان على رواحلهم، وبعضهم يمشون على أرجلهم، وقد جلبوا الخيول معهم، فينزلون في المكان اللائق لحالة القتال، فيضربون الخيام على رؤوسهم، ويعقلون رواحلهم، ثم يبارزون عدوهم وينازلونه، وتستمر غارات الخيل من بينهم، ويمكثون في حصار البلد مع شدة صعوبتها ستة أشهر وسبعة وأكثر وأقل.

ولا شك أن القصر والفطر مع هذه الحالة أنه متعين، لكونهم في غاية شعثاء السفر ومشقته، فلا يقاس عليه إلا ما هو مثله في العلة والحكم، أما كونه يقاس عليه ما هو بعيد عن مماثلته، فإنه قياس فاسد، إذ هو قياس مع الفارق.

وفي القرن الثاني، عند ابتداء تدوين الحديث والفقه، نقل بعض الفقهاء قضية قصر الصحابة للصلاة مع أميرهم كل الأشهر الطويلة بدون أن يذكروا السبب المقتضي لإباحة القصر، الذي يعرف به سببه وعلته.

ثم أخذ العلماء من المحدثين والفقهاء يتناقلون هذه الأقوال على علاتها من واحد إلى آخر، كما هو الجاري من عادتهم: أن بعضهم ينقل عن بعض، حتى وصل دور النقل إلى فضيلة الشيخ محمد الصالح فأخرجها كقاعدة مسلمة، ترتفع عن مجال الشك والإشكال، وسيأتي من بعده من يقتدي به في قوله، وهكذا يتسرب الخطأ من عالم إلى آخر. وقد قيل:خلاصة الجوهر تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع رداء الشك.

فيا سبحان الله! هل يقاس هؤلاء، الذين هم باقون، ولم يحلوا عقدة سفرهم عنهم، وقد بقوا محاصرين لعدوهم ليلاً ونهارًا، بالناس النائمين على فرشهم؟!

أفيقاسون بالتاجر المترفه المقيم بالبلد سنة وأكثر، فيسمى مسافرًا يستبيح رخص السفر وهو مقيم؟!

إن من لوازم هذا القول: أن جميع المعلمين والمعلمات والأطباء والطبيبات، وغير ذلك من سائر البلدان والمقيمين الآن في البلدان العربية مدة سنتين وثلاث وخمس، مع العلم أن لهم بيوتًا في بلدانهم، يحنون إليها، ويسعون سعيهم للرجوع إليها.

أفيقال: إن هؤلاء في حكم المسافرين، لا المقيمين؟! وهل يباح لهم استباحة رخصة السفر؟ ولو سألت أحدهم: هل أنت مسافر أو مقيم؟ لقال لك: بل أنا مقيم!

والمؤمنون منهم يعتقدون وجوب إتمام الصلاة والصيام، لا يختلج في قلب أحدهم الشك في ذلك، لأن كون الإنسان مسافرًا أو مقيمًا هو مما يدركه كل إنسان ببديهيته وفطرته.

وأنا أنقل لك قضية تاريخية قريبة العهد بالحدوث، وهي تقرب من فهم قضايا الصحابة في قصرهم الصلاة الأشهر الطويلة.

وحاصل القضية هو أن علماء الدعوة ذكروا في كتبهم أن الإمام فيصل بن تركي رحمه الله ومعه علماء الرياض نزل بجنوده في مكان يسمى مسيمير بطرف الدوحة - قطر، من جهة الجنوب، وهو باق بتسميته إلى الآن. فمكث بهذا المكان أربعة أشهر، وهم يقصرون الصلاة، ومعه العلماء، فأثبتوا هذا القصر في المدة الطويلة في كتبهم بدون ذكر سببه الذي يوضح موجبه، وذلك أن الإمام في ذلك الزمان أراد فتح البلاد، وحاصرها كل المدة الطويلة، وكانت الخيل تغير من بينهم، ثم حصل الصلح ورجع إلى أهله.

فنزول الإمام فيصل في هذا المكان هو مثل نزول الصحابة في ذلك المكان، وقصره الصلاة طول الزمان هو مثل قصر الصحابة للصلاة في ذلك المكان، فهم وإن كان الصحابة أفضل من كل من جاء بعدهم، لكن الشيء بالشيء يذكر.

والحاصل أن يقال: إن هذه المدة الطويلة، التي استباح الصحابة قصر الصلاة فيها، إنه قد استعملها الإمام فيصل في قصر الصلاة كل المدة الطويلة، متأسيًا بالصحابة، إذ عذره في سفره مثل عذرهم، وكل واحد منهم يستوفي أجره من ربه على حسب عمله ونيته.

ومثله ما لو أرسلت إحدى الحكومات الإسلامية طائفة من الجنود لحراسة ثغر مخوف لحمايته مما يترقب دخول الأعداء من جهته، كما فعل حاكم عُمان في إرسال الجنود دون دخول الشيوعية إلى البلدان الإسلامية، فإن هؤلاء الجنود يجوز لهم قصر الصلاة، والجمع بين الوقتين؛ لاعتبارهم مسافرين دائمًا، لكون نظام الحراس الانتشار في الجهات للتجسّس عن تسرب الأعداء، ولا يزالون ملازمين لعملية الكشف عن الأمكنة ليلاً ونهارًا.

ويسمى مثل هذا بالرباط، كما أن المحافظين على حراسته وحمايته يسمون بالمرابطين. وورد في فضل الرباط أحاديث كثيرة، و «رِبَاطُ يَوْمٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا» [276]

وكان الصحابة يتطوعون بالمرابطة، وأنها أفضل من التطوع بالصلاة والصيام والحج.

والمرابطة دون دخول الشيوعية إلى بلدان المسلمين هي من الجهاد في سبيل الله. وكان الفضيل بن عياض صديقًا لعبد الله بن المبارك، فسافر الفضيل بن عياض إلى مكة للتعبد بالطواف والصلاة في المسجد الحرام. وسار عبد الله بن المبارك إلى طرطوس للمرابطة في الثغر، فكتب الفضيل بن عياض إلى عبد الله بن المبارك يخبره بصحة حاله، وصلاح أعماله. فلما جاء الكتاب إلى عبد الله بن المبارك قال للرسول: إذا عزمت على السفر إلى مكة فأخبرني، فجاءه فأخبره بعزمه، فكتب عبد الله بن المبارك جواب الكتاب إلى الفضيل بن عياض، وضمنه هذه الأبيات التي يذكر فيها اغتباطه بمقامه في المرابطة في سبيل الله، وهي:
يا عابد الحرمين لو أبصـرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
قال: فلقيت الفضيل بالكتاب في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه. وقال: صدق أبو عبد الرحمن، ونصحني.

والمقصود أن الأمر الذي يجب بيانه وننصح بموجبه أن كل من أتى بلدًا غير بلده؛ من تاجر أو طالب علم، ومن نيّته الإقامة بها مدة طويلة، كأربعة أشهر أو أقل أو أكثر، فإنه يجب عليه إتمام الصلاة، وصيام رمضان، ولا يحل له أن يترخص برخص السفر، لكونه معدودًا من المقيمين لا المسافرين.

أما الذي دخل البلد لحاجة العلاج له، أو لقريبه، أو لحاجة التجارة، ومن نيته عدم الإقامة، فإنه يجوز له أن يترخص برخص السفر، من قصر الصلاة، ما لم يجمع على إقامة، لكون هذه الإقامة لا تقطع نية السفر، أشبه إقامته في البر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة له ص80 في قصر الصلاة في السفر والفطر وأحكام السفر[277].

قال: وأما الإقامة فهي خلاف السفر. فالناس رجلان: مقيم، ومسافر؛ ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم، وإما حكم مسافر. وقد قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ [النحل: 80]، فجعل الناس يوم ظعن، ويوم إقامة. والله تعالى أوجب الصوم وقال: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]. فمن ليس مريضًا ولا على سفر، فهو الصحيح المقيم. ولذلك قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلاَةِ»[278] فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم. انتهى.

قرر شيخ الإسلام حكم السفر وصفته، وما يترتب عليه من أحكامه ورخصه، وقرر الإقامة وحقيقتها، وما يترتب عليها من الأحكام.

ثم رد على فقهاء المذاهب في تحديدهم مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة بيومين، وقال: إنه لا دليل على هذا التحديد، بل كل ما يطلق عليه اسم السفر فإنه سفر تقصر فيه الصلاة. وضعَّف حديث: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ»[279]. وقال: إن أهل مكة قصروا مع النبي ﷺ في سفرهم إلى عرفة، ومسافة عرفة من مكة بريد، نقلوا له الزاد والمزاد فصار سفرًا.

وما يذكره بعض الفقهاء من أنه قال لهم بمنى: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[280]. لا صحة له. فإنه إنما قال لهم هذا ببطن مكة، حين صلى بهم الظهر يوم العيد في المسجد الحرام، حين طاف طواف الإفاضة.

كما رد على الفقهاء في تحديدهم الإقامة التي تقصر فيها الصلاة بأربعة أيام وقال: لا دليل على هذا التحديد؛ فإن رسول الله ﷺ أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وإقامته هذه لم تخرجه عن حكم السفر؛ لأنه جلس لتنظيم شؤون الفتح، ولأنه فتح عظيم، دخل الناس به في دين الله أفواجًا طائعين، لكون عرب الحجاز ونجد تريثوا بإسلامهم حتى فتح مكة، وقالوا: إن كان رسولاً، فسيظهر على قريش ويفتح مكة، وإن لم يكن رسولاً، فستظهر عليه قريش. ولما فتح الله له مكة أقبلت العرب من كل فج يظهرون إسلامهم، وسُمي عام تسع بعام الوفود. فإقامته بمكة هذه المدة الطويلة لم تخرجه عن حكم السفر، ولم يحلل حزام السفر عنه، بل باق على حالة شدة السفر ومشقته، الذي شرع قصر الصلاة لأجله.

وقد بعث البعوث إلى أطراف الحجاز ونجد لنشر دعوته، وانتظر بم يرجع المرسلون. وقد عزم على غزو هوازن فخرج إليهم في حنين، فهو في سفر مستمر كل مدة إقامته. ومثله يقال في غزوة تبوك، وأنه بعث بعض أصحابه إلى من حول تبوك يبلغهم رسالته، ويدعوهم إلى دين الإسلام، فأقام في انتظار رسله عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولم يحلل عنه حزام السفر، والخيل قائمة على سوقها، والرواحل معقولة، والناس باقون في شعثاء السفر ومشقته، يشتغلون بعلف رواحلهم وسقيها ورعايتها. وما إقامته هذه إلا بمثابة إقامته في البر لانتظار رفيق يلحق به، أو ضالة ينتظر ردها، أو تمريض صاحب. فهم لم يخرجوا بإقامتهم هذه عن حكم السفر. ويقاس عليهم ما هو مثلهم في العذر، لا ما هو بعيد عن مشابهتهم، وأن من كان على مثل حالة النبي ﷺ وحالة أصحابه في الفتح، وفي تبوك، فإنه يباح له قصر الصلاة، سواء كان عشرين يومًا أو شهرًا و أقل و أكثر.

ويجوز له الفطر، ومسح الخف ثلاثة أيام بلياليها، وغير ذلك من رخص السفر التي تصدق الله بها على عباده لتخفيف مؤنة السفر وتكاليفه عنهم، لما روى أحمد وأصحاب السنن وصححه: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيْامَ، وَشَطْرَ الصَّلاَةِ».

ولما قالوا للنبي ﷺ: كيف نقصر وقد أمِنّا؟ فقال: «إِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[281] وقد قال النبي ﷺ: «إن السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم عن نومه ولذته، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نُهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ»[282].

أما من قدم البلد ومن نيّته أن يقيم بها مدة طويلة، كشهرين وثلاثة، أو نصف سنة، أو على عزم أن يصطاف بها، سواء كان معه أهله، أو هو وحده، وسواء كان في تجارة، أو في طلب علم، فهذا ملتحق بحكم المستوطن بالبلد في سائر أحكامه، من وجوب إتمام الصلاة، ومن وجوب الصيام، ومن وجوب الجمعة، والمسح على الخف يومًا وليلة، كالمقيم؛ لكونه قد تخلى عن مؤنة السفر وتكاليفه، فالتحق بحكم الحضر، وزال عنه اسم السفر، لكون الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، فهذا مقتضى حكم القرآن والسنة في القصر والفطر.

إن الناس ينقسمون إلى قسمين:

أحدهما: المسافر، فيعطى أحكام السفر حتى لو تخلل سفره إقامة لم تخرجه عن حكم السفر، ولم يحل فيها حزام سفره، ولم يلق عنه جلباب السفر وتكاليفه، كما فعل النبي ﷺ بمكة وتبوك، وكما فعل الصحابة في فتوح البلدان. فهذا مسافر حكمًا وعرفًا، ويستبيح رخص السفر كلها، صدقة من الله عليه، وما هذه الإقامة إلا بمثابة إقامته في البر، لانتظار رفيق، أو تمريض صديق، أو رد ضالة، فلا يخرج بها عن حكم السفر.

القسم الثاني: المقيم بالبلد إقامة طويلة، كالصيفية ونحوها، أو كنصف سنة للتجارة، أو طلب علم، فهذه الإقامة حكمها حكم الاستيطان في سائر الأحكام من وجوب إتمام الصلاة، ووجوب الصيام، ووجوب الجمعة، والاقتصار في مسح الخف على يوم وليلة، وسائر ما هو من واجبات الحضر؛ لكون الأصل في المقيم بالبلد الإتمام، وسائر ما يلزم الحضر المستوطنين. أما المسافر فإن له إباحة سائر رخص السفر. وكونه مسافرًا أو مقيمًا يعرف بالبديهة من أمره وتصرفه.

والحاصل: أن من أحب العصمة في عمله، والثقة في أمره، فليتمسك بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية، في سفره وإقامته، وليدع عنه التحويلات البعيدة التي يقال فيها: إن فلانًا الصحابي أقام سنتين يقصر الصلاة، وإن فلانًا أقام سنة يقصر الصلاة، وإن الصحابة أقاموا بأذربيجان أربعة أشهر يقصرون الصلاة، وإنهم أقاموا برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة.

فإن هذه الأقوال كلها تحتاج إلى نظر في صحتها، ثم إلى نظر في معرفة أسبابها، لكون معرفة السبب مما يعين على معرفة طريق الحكم. وأكثر هذه القضايا، أو كلها، وقعت في فتوح البلدان، حيث كان الصحابة يقيمون في منازلة البلد في فتحها الشهرين والثلاثة، وهم يقصرون الصلاة. فنقل قدماء الفقهاء قصرهم للصلاة في المدة الطويلة وأهملوا ذكر سببها، وكونها إقامة لم تخرجهم عن حكم السفر، بل هم باقون على شدة السفر ومشقته، لم يحلّوا حزامهم منه.

وعلى فرض صحة هذه النقول، فإنها أعمال وقعت من الصحابة والتابعين على سبيل الاجتهاد منهم، والصحابي فضلاً عن التابعي إنما يحتج بروايته لا برأيه، لكون الرأي يخطئ ويصيب.

هذا: وإن العصمة والثقة في التمسك بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية في سفره وفي إقامته، فما آمنٌ في دينه كمخاطر. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

9 جمادى الآخرة سنة 1399 هـ.

* * *

[272] عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. أخرجه مسلم. [273] رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث ابن جرير. [274] رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري. [275] رواه مسلم. [276] أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي. [277] هذه الرسالة هي من مطبوعات صاحب المنار محمد رشيد رضا. قام بطبعها واعتنى بتصحيحها سنة 1345هـ. [278] رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع عن أنس بن مالك. [279] أخرجه الدارقطني في السنن والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عباس. [280] أخرجه مالك والطيالسي في مسنده من حديث عمر بن الخطاب. [281] رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب. [282] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

ثانيًا: قسم أحكام الزواج والأسرة

(1) حكمة إباحة تعدد الزوجات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شاف شامل، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في مجتمعهم وفيما بين أهلهم وعيالهم بالحكمة ومراعاة المصلحة والعدل والإحسان، مبني على جلب المصالح ودفع المضار، فهو عدل الله في أرضه، ورحمته لجميع عباده. يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء: 107] فهو دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، قد نسخ جميع الشرائع ورفع الآصار والأغلال وأباح للناس الطيبات من الحلال، ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ [الأعراف: 32].

فلا يشرع شيئًا من الأعمال والمباحات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

فهو دين الكمال والنظام، وشريعته منزلة على جلب المصالح ودفع المضار، غير أن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان. فهم ينكرون كل ما ليس معروفًا عندهم، وما ليس بمعهود في بلدهم، فينكرون حكم الله في القصاص، وفي قطع يد السارق وإقامة الحدود الشرعية على الجناة لتقليل الجرائم، ومنه إنكارهم لتعدد الزوجات ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١ [المؤمنون: 71].

لكنهم عندما يبلون بالكوارث وانتشار الفواحش من القتل والنهب والسرقة وهتك الأعراض وكثرة النساء الأيامى اللائي ليس لهن أزواج، فعند ذلك يندبون الإسلام ويقولون: سلام الله على شريعة الإسلام التي تحكم بقتل القاتل وقطع يد السارق والقبض على أيدي الجناة، وحتى إباحة تعدد الزوجات فقد رجع بعض عقلائهم إلى استحسانه بعد إنكارهم له، لأنهم في هذه الأزمان لما انتبهوا لمصالح نسائهم ورأوا البنات يجلن في الأسواق كالقطعان من الغنم كلهن أو أكثرهن أيامى ليس لهن أزواج، أخذوا يدعون قومهم وينادون بإباحة التعدد بين الزوجات، إذ هو خير من بقاء البنات أيامى طول الحياة.

ومثله الطلاق فقد كانوا ينحون بالملام على الإسلام في مشروعية الطلاق، وعندما رأوا كثرة البغاء وعزوف الرجال عن الزواج الشرعي فرارًا من مسؤوليته، ولأن القانون لا يمكنه من طلاقها متى ساءت العشرة بينهما فصاروا يفضلون التمتع بالمرأة على سبيل السفاح. فلأجله اضطروا إلى الرجوع إلى شريعة الإسلام فصاروا يوقعون الطلاق على أدنى سبب، فتوسعوا في الإسراف فيه، وصار أحدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها، ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة إلى العمل بشريعة الإسلام، لأنها شريعة للناس أجمعين ورحمة للعالمين. فيعودون يعترفون للإسلام بفضله بعد أن شبعوا من ثلبه، فهم وإن لم يطبقوا العمل به لكنهم يعترفون بصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان.

ولا يزال الناس يحتاجون بداعي الضرورة إلى الرجوع إليه في المشاكل العظام، لاسيما عند ظهور الفتن في آخر الزمان التي تقضي بفناء الرجال، وناهيك بمفاسد فتنة لبنان وكيف قضت بحصاد عشرات الألوف أو مئات الألوف من الرجال من سوى الجلاء الذي يؤول بهم إلى الفناء مع قضائها على مشيد المنازل والعمران والفنادق والقصور العظام والنهب والقتل وهتك الأعراض. وهذه الحروب هي مصداق ما أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان حيث قال: «تظهر الفتن ويقل العلم ويثبت الجهل ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لأحدثنكم حديثًا لا يحدثكم به أحد بعدي، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ».

إن الإسلام يجمع بين مصالح الدنيا والدين وبين مصالح الروح والجسد ليس بحرج ولا أغلال ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة والتمتع بأنواع الزينة المباحة. يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ [الأعراف: 32] والنساء هن من أفضل زينة الدنيا ومن أفخر اللذائذ. يقول الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ [آل‌عمران: 14] والمزيِّن هو الله. والنبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس.

واقتضت حكمة الباري سبحانه أن يكون الرجل مستعدًّا للنسل ولو بلغ ثمانين سنة، وأن المرأة إذا بلغت الخمسين من عمرها يئست من الحمل والحيض وقيل: خمسًا وخمسين. ومن نظر بعين الاعتبار إلى التباين بين الرجل والمرأة يجد المرأة أكثر شغلاً وتعبًا من الرجل في الحياة المنزلية لقيامها بأعباء الحمل والولادة والرضاع وتربية الأولاد وشغل البيت من إصلاح الطعام وغيره من المتاعب التي تقتضي الحط من قوتها وصحتها حتى قيل: إنه لن ينبت عمر إلا وقد أكل عمرًا. أضف إلى ذلك أنها قد تكون عاقرًا وزوجها يحب أن تكون له ذرية، وقد تصاب بمرض معد يقتضي بعدها عن زوجها وبعده عنها زمانًا طويلاً.

لهذا صار الرجل في الإسلام يجوز له الجمع بين المرأتين والثلاث متى علم من نفسه القدرة على القيام عليهن بالعدل، لما في ذلك من العون على العفاف وتكثير النسل المطلوب شرعًا وعرفًا والذي يباهي به النبي ﷺ سائر الأنبياء، وحتى يكون المسلمون بكثرة نسلهم أكثر عددًا من عدوهم فيظهر بذلك فضلهم وعظمتهم أمام عدوهم كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ٦ [الإسراء: 6] فكثرة المسلمين خير من قلتهم مع ما فيه من حفظ النوع الإنساني الذي يترتب عليه عمار الكون في الدنيا.

والتعدد فيه محاسن ومساوئ، فبعض الخواص من الناس قد شارك في موضوع التعدد لسبب يقتضيه، لكنه دخل فيه بعدل واعتدال وحسن سيرة وسياسة في الأهل والعيال فصار قرير العين به سليمًا من الأنكاد والأكدار، وذلك ببركة العدل بين الزوجات؛ إذ إن حكمة الله فوق رأي كل حكيم. ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً [النساء: 3].

* * *

النصارى يحرمون التعدد قانونًا ويجيزونه عادة وعرفًا

إن النصارى والمبشرين يشنعون على الإسلام والمسلمين في تعدد الزوجات وينسبونه إلى مجرد التشهي والتنقل في اللذات، وينتقدون الإسلام نفسه في مشروعية ذلك، وما منهم أحد إلا وله خليلة وخليلتان يخلو بهما سرًّا عن زوجته، فهم يحرمونه قانونًا ويحلونه عادة وعرفًا ولا يعدون الزنا جريمة، وقد بدأ النصارى رجالاً ونساءً يعرفون وجه الحاجة بداعي الضرورة إلى التعدد، وأخذوا ينادون بإباحته قانونًا في صحفهم ومحاضراتهم وأنديتهم، كما أخذوا يعترفون بفضل دين الإسلام في مشروعيته وأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان ينظم حياة الناس أحسن نظام، فهو الكفيل بحل مشاكل الخاص والعام، ودونك الشاهد والمشاهد لأحوالهم وأعمالهم.

قال جوستاف لوبون وهو العالم الشهير عندهم: إن نظام تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل، وُجد قبل محمد ﷺ بين شعوب الشرق وأممه، وكان مشروعًا بين الفرس ومسنونًا بين اليهود وساريًا بين العرب، فلم يكن في مقدرة أي دين من الأديان وإن أوتي قدرة كبرى على تغيير الآداب والأنظمة والأخلاق أن يلغي نظامًا مثل هذا النظام الذي جاء به دين القرآن ويعمل على إبطاله، لأنه النتيجة الضرورية للجو والغاية المجتمعة لمزاج الشرق ونوع الحياة التي يعيشها.

أما عن تأثر الجو فلا حاجة إلى البسط فيه والشرح وحسبك أن مطالب الأمومة والولادة والأوجاع والأمراض وغيرها تضطر المرأة إلى أن تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها، وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرق. وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات أوجب الضروريات.

أما عن الغرب وإن كان الجو أهدأ تأثيرًا والطبائع أخف حرارة إلا أنك مع ذلك قل أن تلقى فردًا مقتنعًا بفردية الزوجية إلا في القوانين فقط. وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندره.

ومعنى ذلك أن الاقتصار على زوجة واحدة لا يوجد في أوروبا إلا في القوانين، ولا يعمل به إلا الأقلون، وأن تعدد الزوجات واقع في الغرب بين أهله وإن لم يكن مشروعًا عندهم.

إلى أن قال: لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الفاحش عند الغربيين؟! وإن كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الأول أسمى مكانًا وأرفع قدرًا من الآخر. أما وقد فهمنا الأسباب التي عملت على تشريع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي حمل الدين على الإقرار عليه والاعتراف به.

إن رغبة الشرقيين في الإكثار من النسل وذوقهم المعترف به في عيشة الأسرة، وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجران المرأة التي لم تعد تعجبهم، هي الأسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشئ عن الآداب والطبائع. انتهى[290] فقد عرفت مقالة هذا الكاتب الخبير وأن النصارى يستبيحون التعدد حرامًا وينكرونه حلالاً.

إن الإسلام دين السماحة والسهولة واليسر ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78]، ولكونه ليس المقصود من النكاح هو التمتع بالشهوة الجنسية فقط فإنها من الشيء المشترك بين الإنسان وبين بهائم الحيوان، وإنما القصد هو كثرة النسل المطلوب شرعًا والمرغب فيه عرفًا والذي يباهي به النبي ﷺ سائر الأنبياء، ثم هو يحفظ به نوع الإنسان، وكانت بعض الحكومات تدفع مرتبات شهرية للنسل للترغيب في كثرته، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[291].

والقصد من النكاح أيضًا إحصان كل من الرجل والمرأة، فإحصان المرأة بكفالة الرجل لها وقيامه بكفاية مؤنتها وحسن عشرته لها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسيدة عشيرة وأم بنين وبنات كما أن المرأة كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك الخدوم والسيد المحشوم.
إذا رُمتها كانت فراشًا يقلني
وعند فراغي خادم يتملق
لهذا كانت المرأة عند بعض الأمم تبذل للرجل المهر على أن تكون زوجة له تحت عصمته ورعايته وتشاطره النفقة، لعلمها بحاجتها إلى كفالته وكفايته وأنها بانفرادها عن الزوج ذليلة ذميمة كما قيل: مسكينة مسكينة امرأة بلا زوج، وتدعى الأيم والأرملة.

فالشريعة الإسلامية الصادرة من الحكيم العليم تنظر إلى حالة جميع الناس وحاجتهم في حاضرهم ومستقبلهم نظرة رحمة وإحسان إلى جميعهم ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ ٤٧ [النحل:47].

لهذا أباح الله التعدد رحمة منه لجميع الناس، ذكرهم وأنثاهم لأنه من المشاهد بالعقل والثابت بالنقل أن النساء في كل بلد أكثر من الرجال، طبق ما أخبر به النبي ﷺ من أن الرجال يقلون وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، يَلُذْن به، وذلك عند ظهور الفتن والحروب التي تحصد الرجال حصدًا في آخر الزمان.

أفَترى شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، يهمل جانب هؤلاء النساء الأيامى فلا يجعل لهن حظًّا ولا نصيبًا من العلوق مع الرجال بطريق مباح شرعي، لكون الرجل أقوى وأقدر على العمل وسائر وسائل الكسب من المرأة، أفلا يخفف هذا الضغط بإباحة التعدد بنكاح من ترغب في نكاحه ويرغب في نكاحها بطريق مشروع غير محظور؟ إذ هذا أصلح وأحب إلى الله من أن تبقى أيمًا تذهب نضرتها طول حياتها أو تتاجر ببضعها، بحيث تكون عرضة وطعمة لكل ساقط ولاقط، بدون زوج تأنس به ويأنس بها.

ولو سألنا الأيامى العوانس: هل الأفضل لهن البقاء على حالتهن الراهنة من العزوبة أو العلوق مع الرجال بطريق المشاركة مع الضرائر؟ لاخترن العلوق بكلمة الإجماع، لأنه أنفع وأصلح لهن. والشرع ينظر إلى حالة وحاجة جميع الناس، لا إلى امرأة واحدة تحب الحجر على زوجها في حضنها وحضانتها ولا تريد الاشتراك معها في مودته والتمتع به، لكون الثانية تدعى الضرة، وهي من أخطر ما يكون على الأولى بحيث تخشى أن تنفرد بمودته عنها فهي تكره المشاركة معها فيه، والنبي ﷺ قد حذر المرأة أن تشترط على الخاطب طلاق زوجته الأولى ففي البخاري ومسلم: نهى رسول الله أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها. أي من المحبة والغبطة بزوجها، فمصلحة التعدد لا يخرجه عن كونه رحمة للعالمين؛ ما حصل على هذه المرأة من مضرة مشاركة الضرة لها في زوجها، فإن المضار الجزئية الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية أشبه قتل القاتل، وقطع يد السارق، وإقامة الحد على شارب الخمر.

وقد وجد في هذا الزمان ومن قبل أزمان كثيرون من الأدباء والكتاب والكاتبات من النصارى، يدعون قومهم إلى إباحة التعدد بمقتضى القانون، وذلك حينما رأوا أكثر النساء الأيامى مشين في الأسواق كالقطعان من البقر، وحينما رأوا الزنا قد فشا وانتشر بكثرة هائلة، مما سبب قلة نسلهم. وحينما رأوا الرجال يعدلون عن النكاح الشرعي إلى الزنا، وقد ثبت بطريق المشاهدة والتجربة أن منع التعدد قد وسع في بلدانهم من خطورة الزنا لكون النفوس متى ضيق عليها في منع مشروعها اقتحمته إلى محظورها بشغف وحرص كما قيل:
منعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
من ذلك ما قاله الفيلسوف الإنجليزي (سبنسر) في كتابه أصول علم الاجتماع: إن التعدد ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب، ولم يكن لكل رجل من الباقين إلا زوجة واحدة. فإذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها الحروب وبقي نساء عديدات بلا أزواج فإنه ينتج عن ذلك نقص في المواليد لا محالة.

فإذا تقاتلت أمتان إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاء فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها بمقتضى التعدد للزوجات. وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجة تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات. اهـ

وكأن هذا هو السبب في الضرر الذي ابتليت به الدول الأوروبية ومن على شاكلتهم حينما تساهلوا في انتشار الزنا ولم يعتبروه جريمة، ويعدونه من كمال الحرية للمرأة، فظهر عليهم أثر ضرره وسوء عاقبته بشكل ينادي بقلة عددهم وتقويض دعائم صنائعهم وأعمالهم، لكون النسل جيل المستقبل وقد أصبح عاطلاً عن العمل وعن الزواج الشرعي من رجل وامرأة، ويكتفون بالزنا بدله ولا شك أن المرأة المسافحة يقل نسلها لكون أحد الرجال يفسد حرث الآخر.

إن ضرورة قلة النسل وانتشار الفساد في الأرض هو أعظم من ضرورة التعدد بكثير.

فهؤلاء الذين يبالغون في التشنيع على المسلمين في وصف مفاسد التعدد للزوجات ما منهم أحد يكتفي بزوجة واحدة يقتصر عليها، بل لكل واحد منهم خليلة وخليلتان يخلو بهما سرًّا عن زوجته الشرعية، فأكثرهم مسافحون ومتخذو أخدان كما أن أكثر نسائهم مسافحات ومتخذات أخدان، حتى إن رجالهم أخذوا ينفرون من الزواج الشرعي لكون الزوجة بزعمه لا تقتصر عليه وحده، وتحدث له عداوة الأغيار الذين يشاركونه في التمتع بها، ويقول بعضهم: كيف تطيب نفسي أن أتزوج امرأة ثم أرى رجلاً يأخذ بيدها ويذهب بها كيف شاء وأنا لا استطيع صدها عنه ولا صرفه عنها؟! ثم إنه يراها بمثابة الغل في عنقه، والقيد في رجله، متى اشتدت كراهيته لها، ولم يتمكن بمقتضى القانون من طلاقها. فكانوا يتمتعون بالزنا ويؤثرونه على النكاح الشرعي، وكان هذا هو السبب في انتشار الزنا، وقلة النسل، يقول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ [فصلت: 53].

* * *

[290] من كتاب: حكمة التشريع وفلسفته لمؤلفه علي أحمد الجرجاوي (جزء2 ص 16). [291] رواه النسائي من حديث معقل بن يسار.

تعصب النصارى ضد الإسلام وضد النبي محمد عليه الصلاة والسلام

إن غلاة النصارى من المبشرين والقسيسين قد صار التعدد موضع لجاج وجدال منهم مع المسلمين، حتى صار جل حديثهم في محاضراتهم وأنديتهم وفي صحفهم وكتبهم. ولا نعلم قضية كثر فيها اللجاج والجدال كهذه القضية، على أنها قضية واضحة جلية. وإنه لا يمكن أن يعيش مجتمع بدونها سواء كان التعدد عن طريق مشروع أو محظور.

فهم يبالغون في إنكار التعدد على شريعة الإسلام وعلى خاصة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في جمعه لتسع نسوة. فيعبرون عن إنكاره بأبشع تعبير، من كل ما ينفر الكبير والصغير عن الإسلام وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. لاعتقادهم أن ما هم عليه من الانفراد بواحدة هو الحسن الجميل وأن ما عليه الإسلام هو شيء قبيح. فهم يتوارثون التعصب ضد الإسلام وضد النبي محمد عليه الصلاة والسلام جيلاً بعد جيل.

والحق أن النبي محمدًا ﷺ ليس ببدع من الرسل فيه فقد مضى للرسل أمثالها وما هو أكثر منه فيها.

فقد كان لنبي الله داود تسع وتسعون زوجة، وكان لنبي الله سليمان - كما جاء في التوراة - سبعمائة زوجة من الحرائر وثلاثمائة من الجواري وكن أجمل أهل زمانهن، وكذلك أنبياء بني إسرائيل معددون للزوجات من لدن إبراهيم عليه السلام.

وروى البخاري: «قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك: قل إن شاء الله. فلم يقل ونسي، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان».

قال النبي ﷺ: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ».

وعلماء النصارى يعرفون هذا كله ويصدقون به فلا وجه للإنكار على النبي محمد ﷺ فيه.

إن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء، وقد خص الله أنبياءه بمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم، أهمها نزول الوحي الذي هو أفضل المزايا على الإطلاق. ثم جمع النبي ﷺ لتسع نسوة كما جمع الأنبياء قبله أكثر منهن. يقول الله تعالى: ﴿وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ [الأحزاب: 50] فأباح الله لنبيه في هذه الآية ما لم يبحه لسائر المؤمنين. ولما أسلم غيلان بن سلمة وكان تحته عشر نسوة أسلمن معه فأمره النبي ﷺ أن يختار منهن أربعًا ويفارق الباقي[292].

ولما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩ [الأحزاب: 28-29].

فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة أكرمهن الله بأن أمر نبيه ﷺ بأن لا يفارقهن ولا يتزوج عليهن. فقال تعالى: ﴿لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ [الأحزاب: 52] فانتهى رسول الله ﷺ إلى أمر الله واقتصر عليهن.

* * *

[292] رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث سالم عن أبيه.

الاقتصار على زوجة واحدة أفضل من التعدد

إننا لا نشك ولا ننكر أن الاقتناع بزوجة واحدة متى حصل المقصود منها أنها أفضل من التعدد؛ لأن الله سبحانه حينما أباح تعدد الزوجات لم يبحه بطريق التوسع فيه على حسب التشهي والتنقل في اللذات، وتنوع المشتهيات، وإنما أباحه بشرط العدل بين الزوجات ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً [النساء: 3]، لأن العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، وله وضعت الموازين، وهو الإلف المألوف تتألف به القلوب وتلتئم به الشعوب ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح.

فالقناعة بزوجة واحدة هي الأصل في تسميتها زوج، وكما يسمى الرجل زوج. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع، وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[293] وبذلك يسلم من التنكيد والتكدير عليه في حياته من كل ما يثيره أحقاد الضرائر كما قيل:
ومن جمع الضّـَرات يطلب لذة
فقد بات في الأضرار غير سديد
ونحن معشر المسلمين على دين وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، بين الغالي فيه والجافي عنه.

فالذواقون الذين يتنقلون في مراتع الشهوات من واحدة إلى أخرى تمشيًا مع رغبتهم، ودواعي شهواتهم، ليسوا بمحمودين على عملهم، وربما يدخلون بمقصدهم في نكاح المتعة المحرم في الإسلام، متى تزوجها ومن نيته أن يطلقها ولا يستديم بقاءها، وقد ورد الوعيد الشديد في الذواقين من الرجال والذواقات من النساء، ومن كانت هذه سجيته فلن تدوم صحبته.

ومن طبيعة النفوس متى استرسل صاحبها معها في تنقلها في اللذات وتنوع المشتهيات، فإنها لن تشبع نفسه أبدًا، بل كلما تزوج بامرأة جميلة يحسن السكوت على مثلها ثم ذكر له أخرى غيرها تاقت نفسه لأخذها. حتى قيل: إنه لو كان عند رجل جميع نساء العراق فقدمت امرأة من الشام ووصف له جمالها فإنها تتوق نفسه لأخذها ولا يقنع بما عنده كما قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت لها سعة
لها إلى الشـيء لم تظفر به نظر
والنفس من صاحبها فإن أطمعها تاقت وطمعت، وإن سلاها سلت وسمحت.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وقد قيل: الجدة تذهب اللذة، وما كل ما فوق البسيطة كافٍ، وإن قنعت فكل شيء كافٍ، فأهنأ العيش وأسعده هو ما أرشد إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ [الروم: 21]، وهذه المودة والرحمة لا تدرك ولا تتفق غالبًا إلا في حالة انفراد الزوج بزوجة واحدة يأنس بها وتأنس به ويطمئن إليها، وهذا هو الذي أرشد إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32] والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، إذ هذا هو الأصل في تسمية الزوج والزوجة.

غير أن الشريعة الإسلامية السمحة أباحت التعدد بشرط التزام العدل وهو من تمام محاسنها وعموم مصالحها. وقد أخبر النبي ﷺ بداء التوسع في المشتهيات من النساء كما أخبر بطريق علاجه فقال: «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذهب إلى امرأته فإن معها الذي معها». رواه الدارمي عن ابن مسعود ورواه مسلم عن جابر.

ثم إنه يتضاعف ضرر التعدد على الفقير وكل من كان مرتبه حقيرًا، لأن لكل زمان أحوالاً وأعمالاً تناسبه من السهولة واليسر ومن الشدة والعسر، فقد مضى على الناس زمان يكتفون فيه بالقليل من القوت والغذاء والملابس، وكان غالب ما يأكلونه ويستعملونه هو من نتاج بلدهم، وكان عمدة قوت الكثير منهم البر والتمر ولا يحتاجون إلى شيء من الخارج ما عدا اللباس الذي عسى أن يستعمل أحدهم الثوب الواحد غالب السنة لا يجد له بديلاً.

لهذا كان التعدد بين الزوجات لا يشق عليهم أبدًا، وربما يساعدنه في سعة رزقه بما تستعمله إحداهن من المهنة كخياطة ونشازة وشؤون الحرث والزراعة حتى قيل: امرأة الصعلوك إحدى يديه.

أما الآن وفي هذا الزمان فقد تبدلت الحالات وتجددت الحاجات وصار كل شهر يتجدد لهم حوائج ومؤن لا يجدون بدًّا منها من مكيفات وغسالات وثلاجات ومفروشات فضلاً عن السيارات، وكل امرأة تطالب بحقها من ذلك حسب عرف البلد وعادة الناس، وبذلك يتزايد الصرف ويشتد ضرره وتتراكم الديون عليه من حيث لا يحتسب، ويصعب عليه الخروج منها لأن دخوله في تعدد الزوجات بشهوة وشهامة يعود عليه بالملامة والغرامة، فالذين ينقادون مع شهواتهم إلى استحسان التعدد بدون تفكير في عواقبه هم يقعون غالبًا في سوء العاقبة والمصير.

ثم إن بعض هؤلاء متى استجد أحدهم نكاح امرأة ووقعت في نفسه موقع الحظوة والرغبة، أقبل عليها بكليته ووحدها باتصاله وصلته وقطع صلته بالأولى وقطع نفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يدعها معلقة لا هي ذات زوج ولا مطلقة، فيتضاعف عليها الضرر من كل الحالات، لعجز الزوج عن القيام بكفاءة المرأتين لا في البيت ولا في المبيت ولا في النفقة، وإن مثل هذا يستحق أن لا يسمح له بالتعدد لعجزه عن القيام بواجبه، ولإخلاله بشرطه لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً [النساء: 3].

إن العقل المعيشي يعقل الرجل المقل عن التعدد لغير ضرورة لما يترتب عليه من الإرهاق في الإنفاق، ثم هو يزرع زرعًا من العيال لا يستطيع سقيه ولا القيام بمؤنة كلفته.

كما أن التعدد يترتب عليه الإرهاق في صحته بسبب المباضعة التي هي هدم في قوته، فإن ماءه يخرج من سلالة جسمه، وقد وصفه رسول الله ﷺ بأنه مخ ساقيه ونور عينيه، فهو روح نشاطه وقوته كما قيل:
أقلل نكاحك ما استطعت فإنه
ماء الحياة يُصب في الأرحام
لاسيما إذا كان شيخًا طعن في السن، وقد تزوج بكرًا، فإنه إن وفاها حقها أنهك جسمه وإن قصر عنها أبغضته.

[293] أخرجه عبد الرزاق في الجامع لمعمر مرسلاً من حديث مجاهد.

حكمة مشروعية الطلاق

بما أن الله سبحانه قد شرع النكاح لعموم منفعته وشمول مصلحته التي أهمها بقاء النوع الإنساني لما يترتب عليه من عمار الكون، فكذلك شرع فسخ هذا النكاح عند وجود ما يقتضيه من وقوع الشقاق وعدم الوفاق أو شدة كراهية الزوج لزوجته أو كراهيتها له، يقول الله تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ [البقرة: 231] والطلاق بغيض إلى الله لما روى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم.

وإنما كان بغيضًا إلى الله من أجل أنه يسبب العداوة والبغضاء بين الأصهار، ولما يعقبه من تشتت الشمل وانقطاع النسل بين الزوجين. لكنه بمثابة الدواء الكريه المر يعالج به ما لا بد منه؛ لأنه متى ساءت الطباع وفسدت الأوضاع بين الزوج والزوجة واستمر بينهما الشقاق وأعيت الحيل في الوفاق فما أحسن الفراق إذا لم تتلاءم الأخلاق؛ فإنه لا عيش ولا أنس ولا سعادة مع شدة كراهية أحد الزوجين لصاحبه، وهذا يعد من محاسن الإسلام الذي جعل الله فيه للمؤمن من كل ضيق فرجًا ومخرجًا، ولم يجعل الزوجة الكريهة في نفسه حرجًا وغلًّا في عنقه لا تنفك عنه حتى يموت أحدهما كزوجة النصارى، ولهذا رجع النصارى مضطرين إلى العمل بشريعة الإسلام في الطلاق، ومن أجل منع القانون لوقوعه بدون سبب صار أحدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها.

ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة إلى العمل بشريعة الإسلام لأنها شريعة الله للناس أجمعين ورحمة للعالمين، فيعودون يعترفون بفضل الإسلام في مشروعيته بعد أن شبعوا من ثلبه[294] والطعن في أحكامه، فهم وإن لم يطبقوا العمل بموجبه لكنهم يعترفون بفضله وصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان.

* * *

[294] الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان.

إزالة الشقاق بعملية الوفاق أو الفراق

إنها متى ساءت الطباع فسدت الأوضاع ثم ساءت النتيجة، وقد جعل الله في الشريعة الإسلامية للمؤمن من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا.

ونحن نعتقد ولا شك بأن الشريعة الإسلامية عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، وقد أباحت الزواج بأربع نسوة متى علم من نفسه القدرة التامة على القيام بالعدل والكفاية في النفقة وسائر الواجبات الزوجية، وذلك في وجوب القسم في الدخول والمبيت والنفقة الواجبة، بخلاف ميل القلب بالمحبة وما يستدعيها من الشهوة الجنسية فإنها لا تدخل في مسمى القسم لأنها ليست من إمكانية الشخص كما قال تعالى: ﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ [النساء: 129] سميت معلقة لكونها لا ذات زوج ولا مطلقة. وكان النبي ﷺ يقسم لنسائه ويعدل ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا لَا أَمْلِكُ»،[295] يعني القلب ودواعيه.

وكان النبي ﷺ في حالة مرضه يحمل إلى منزل كل امرأة من نسائه وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يريد يوم عائشة، فأذِنَّ له أزواجه أن يُمرّض في بيت عائشة فكانت تقول: توفي رسول الله بين سحري[296] ونحري[297].

أما إذا لم يستطع إعطاء كل واحدة منهن حقها إما لفقره أو لعجزه عن المباشرة الجنسية أو عدم عدله في قسمه ونفقته الواجبة، فإن تنازلت إحداهن عن حقها من ذلك فهو صحيح ويسقط حقها باختيارها متى خيرها زوجها على البقاء معه بدون قسم أو الطلاق، فإن اختارت البقاء بدون قسم فلا بأس إذ القسم من حقها ولها إسقاطه للمصلحة الراجحة من استدامة بقائها في عصمته بدون قسم، فقد وهبت سودة قسمها لعائشة، فكان النبي يقسم لعائشة رضي الله عنها يومها ويوم سودة.

أما إذا طالبت بحقها من ذلك كله فإنه يحكم لها به، وعند امتناعه يعتبر ظالمًا لها بحيث تستحق الفسخ من عصمته بطلبها.

فإذا لم يستطع إعطاء كل امرأة منهن ما تستحقه من النفقة الواجبة أو المباضعة أو عدم قسمه لها فإنها تعتبر والحالة هذه أسيرة تحت قهره وظلمه، لكون الرجل لا يستحق استدامة القوامة عليها إلا بالنفقة عليها مع قيامه بسائر واجباتها؛ يقول الله تعالى: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ [النساء: 34].

ولما كان من حالة عيش النبي ﷺ ما هو معروف من القلة فكان يمضي عليهم الشهر والشهران وما أوقد في بيت من بيوته نار، فاجتمع نساؤه يطالبنه بالنفقة عالية أصواتهن عليه، فسمع عمر أصواتهن وزجرهن وقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله ﷺ؟! فأنزل الله سبحانه آية التخيير: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩ [الأحزاب: 28-29] فقلن كلهن: نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولن نعود إلى المطالبة بالنفقة بعد اليوم[298].

وفيه دليل على جواز مطالبة المرأة بالفسخ عند قطع النفقة عنها بلا سبب يوجبه منها، وكونها تجب إجابتها إلى ذلك لكونه لا يستحق القوامة عليها إلا ببذل النفقة التامة، فمتى كان هذا التخيير النازل في القرآن وقع في حق الرسول مع زوجاته، مع العلم بواسع عذره من عوزه وقلة موجوده، فما بالك بمن قطع نفقته عن زوجته إضرارًا وعنادًا أفلا تستحق المطالبة بفسخ نكاحها وإجابة دعوتها في تخليصها من عصمته؟ إذ لا حق له في استدامة نكاحها إذ هذا من الضرر الذي يجب إزالته.

أما إذا اتصف بالجنف ومال إلى واحدة دون الأخرى فإنه ينهدم نظام منزله وتسوء معيشة عائلته ويحتقب أفراد عائلته العداوة له، ثم العداوة من بعضهم لبعض فيستبدلون الألفة بالنفرة والمحبة بالبغض كله من أجل الجنف الذي عامل به إحدى نسائه على الأخرى، وأنه عندما يشتد النزاع ويستمر الشقاق ويتعذر الوفاق بينهما فقد جعل الله لهن سبيلاً، فقد أنزل الله آية التخيير في حق الرسول مع زوجاته أمهات المؤمنين، ثم أنزل الله تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ [النساء: 35] وهذان الحكمان يريدان الإصلاح من الوفاق والإنفاق أو الفراق فهما حكمان مستقلان بنص الكتاب بحيث يقرران الفراق عند تعذر الحيلة في الوصول إلى الوفاق، أو يقدمان اقتراحهما إلى القاضي ويحكم بتنفيذه سواء كان على عوض مالي أو بدون عوض.

والدليل الثالث ما روى البخاري عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله ﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعم. فقال: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». وفي رواية قالت: إني لا أطيقه بغضًا. فجعل لها النبي فرجًا ومخرجًا مما وقعت فيه من البغض الشديد الذي سبب الشقاق وتعذر معه الوفاق، فما بالك بالقضاة الذين يحكمون على مثل هذه المرأة بهجرانها وقطع النفقة عنها كل السنين الطويلة مع أن الله سبحانه قد جعل لها مخرجًا مما وقعت فيه، ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ [البقرة: 231].

وفي نفس هذا المقام وما يقتضيه من الأحكام فإنني أذكر الناس فضيلة العدل وحسن ما يترتب عليه من صلاح الأهل والمال والعيال، فإن العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وهو الإلف المألوف المؤمِّن من كل مخُوف، به تتألف القلوب وتلتئم الشعوب، ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح، فقد رأينا أناسًا من أهل الصلاح والتقى يتزوج أحدهم باثنتين وثلاث ويتمتع بهن متاعًا حسنًا قي عيشة راضية مرضية وأخلاق كريمة زكية بدون تنكيد ولا تكدير، وذلك كله من بركة العدل وحسن الخلق، وعلى أثره ينشأ الأولاد متحابين متجانسين متآنسين كأنهم بنو أب وأم واحدة، والعدل يُمنٌ والجنف والجور شؤم.

إن من مساوئ عدم العدل في القسم أو النفقة وقوع الضجر عليه من كثرة التشكي والمطالبة بالحقوق مما عسى أن يضجره كثرة هذا القلق والشقاق والاضطراب لاسيما إذا كان ضيق الصدر سيئ الخلق، فيوقع الطلاق على زوجته أم أولاده وبناته على أثر المشاجرة، فيكون طلاقه بمثابة الصاعقة النازلة عليها في بيتها فينهدم البيت ويتفرق شمل العيال فيندم حيث لا ينفعه الندم كما قيل:
ندمت وما تغن الندامة بعدما
خرجن ثلاثًا ما لهن رجيع
ثلاث يحرمن الحلال على الفتى
ويصدعن شمل الدار وهو جميع
فتخرج من بيته ودمعها يسيل على خدها حزينة على فراق زوجها وعلى فراق عيالها، وإنه لا أسوأ من حالة أم العيال متى خرجت وليس لها من تأوي إليه ولا من يصبر على عيالها من أهلها، فيشتد حزنها وأسفها لاسيما متى علمت أن زوجته الجديدة تعامل عيالها بالسوء وخشونة التربية من الطرد والتقريع وسوء المعيشة.

إننا بتولينا للقضاء كل السنين الطويلة قد عرفنا من حالة الناس ما لا يعرفه من لا يبتلى بالقضاء.

لقد عرفنا أن القاضي الشرعي يكلف الزوج بالنفقة على مطلقته إن كانت حاملاً حتى تضع حملها ثم ينفق نفقة الرضاع لقول الله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَ‍َٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] فينفق عليها وعلى عياله منها ما داموا في حضانتها لاعتبار أنها لهم بمثابة الخادم لإصلاح أمرهم وحسن تربيتهم.

وكل ما أوجب الإنفاق فإنه يوجب السكنى فهو وإن كلفته المحكمة الشرعية بأن تحكم عليه بذلك طبق ما أوجبه الله عليه في قوله: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ [البقرة: 233] لكن أكثر الناس من أجل عدم العدل والإنصاف لا يستجيبون لهذا الحكم ولا ينقادون لتسليم ما وجب عليهم إلا مكرهين، وأكثر الناس وإن تسموا بأنهم مسلمون لكنهم لا ينصفون من أنفسهم، وحتى بعض العلماء وبعض القضاة رأينا أحدهم يهمل عياله مع كثرتهم عند أمهم ويقطع نفقتهم عنها ويتركها تقاسي مرارة أكدارهم بدون نفقة ولا اهتمام بأمرهم.

والمرأة لا تستطيع أن تطالب بحقها عند الحاكم الشرعي في كل شهر فلا تقدر على الذهاب إلى المطالبة في المحكمة، وتختار أن يذهب حقها ولا تبرز للمطالبة والشكوى، لهذا تبقى حائرة حزينة إن أرسلت عيالها إلى أبيهم ضاعوا، وإن استدامت بقاءها بهم عند أهلها سئموا وملوا، وحتى الخطاب يمتنعون عن الزواج بها مهما كان من حسنها وجمالها من أجل عيالها، لعلمهم أنهم يكونون عبئًا ثقيلاً عليهم فتبقى أيِّمًا مدة شبابها تتجرع غصص الفاقة والذل في سبيل تربية عيالها، وصار زوجها بمثابة من حملها ثم أهملها.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[299] فهذه معاملة غالب الناس في حال التزوج بالجدد من النساء ووقوع الطلاق منه على أم عياله، كأنهم لم يفهموا حكمة الله في مشروعية الطلاق والإنفاق، وهؤلاء يعتبرون من النذلاء الرذلاء الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم فلا أخلاق ولا إنفاق ولا كرم ووفاق.

ويستثنى من ذلك ذوو الشرف واليسار ومن لهم حظ ونصيب من الكرم والأخلاق فإنهم قد ينفقون النفقات الكثيرة على مطلقاتهم وأولادهم اتباعًا لأداء ما وجب عليهم وزيادة في الفضل، وهؤلاء يندر وجودهم، وهذا كله يعود إلى التخلق بمحاسن الأخلاق؛ لأن الله سبحانه فاوت بين الخلق في الأخلاق كما فاوت بينهم في الأرزاق، ومن الدعاء المأثور: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت»[300]. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 4 جمادى الآخرة سنة 1396هـ

[295] أخرجه أبو داود والبيهقي والدارمي والحاكم في المستدرك، جميعًا عن عائشة. [296] السَّحر (بتثليث الحاء): الرئة. [297] متفق عليه من حديث عائشة. [298] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [299] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [300] أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد من حديث علي بن أبي طالب.

(2) تحديد الصداق ومعارضة المرأة لعمر بن الخطاب في ذلك

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فقد ذكر العلامة ابن كثير رحمه الله على قوله تعالى: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠ وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٢١ [النساء:20-21].

قال: أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأته ويستبدل بها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئًا ولو كان قنطارًا من المال.

قال: وفي هذه الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل.

قال: وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك، فروى الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين، قال: نبئت عن ابن أبي العجفاء السلمي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله، إنه ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة، وإن كان الرجل ليبتلى بصداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه. ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ثم ساقه من طريق أبي يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق، قال: ركب عمر منبر رسول الله ﷺ ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان رسول الله وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل.

وفي رواية: فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. قال: فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين أما سمعت الله يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ [النساء:21]؟ فقال: اللهم غفرًا، كل الناس أفقه من عمر. ثم ركب المنبر فقال: كنت نهيتكم عن الزيادة في صدقات النساء على أربعمائة فمن أحب أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي.

وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عن عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: «فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا». فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. ثم ساقها من طريق فيه انقطاع عن الزبير بن بكار.. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله. أما ابن جرير فإنه لم يتعرض في تفسير الآية لنهي عمر عن المغالاة ولا لاعتراض المرأة عليه، لكنه فسر هذا الإيتاء بالصداق. ثم إنه ساق بسنده إلى مجاهد في قوله:﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ أي طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء ولو كان كثيرًا.. انتهى.

وهذا التفسير هو أرجح وأجمع ممن قصر الإيتاء على الصداق فقط، وخص استبدال الزوجة بأخرى جريًا على الأغلب، وإلا فإن مال امرأته الأولى حرام عليه، سواء طلقها أو استبقاها.

أما البغوي فقد ذكر في تفسيره للآية نهي عمر عن المغالاة في الصداق ولم يذكر شيئًا من اعتراض المرأة ولا غيره.

كما أن نهي عمر عن المغالاة قد ثبت من رواية الثقات الأثبات، فرواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي والبغوي وأبو داود الطيالسي وصححه ابن حبان والحاكم، كلهم بدون ذكر المرأة وبدون ذكر رجوع عمر عن رأيه فيه، إذ لو كان واقعًا صحيحًا لما أهمل المحدثون ذكره لاعتبار أنه بمثابة النسخ لقوله السابق.

ولهذا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري على باب الصداق من البخاري قال: أصل قول عمر: لا تغالوا في صدقات النساء. هو عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم بدون ذكر المرأة.

وعلى كلا الحالين، فإن الاستدلال بهذه الآية على إباحة التوسع في المهور لا يصح لكون الآية وردت مورد الزجر في المبالغة عن أخذ شيء من مال المرأة سواء كانت مطلقة أو معلقة من كل ما ملكته من زوجها بطريق العطاء أو الصدقة أو الصداق، ولو كان قنطارًا، وفسر القنطار بملء مسك ثور، وفسر بألف ومائتي أوقية ذهبًا، وسواء ما آل إليها منه قبل النكاح أو بعده، إذا لم يقع منها ما يكون سببًا في الرجوع، من ارتكابها الفاحشة أو نفرتها عن الزوج بدون سبب يوجبه، فتفتدي منه برد ماله إليه في تخليص نفسها من عصمته، وهذا جائز بالكتاب والسنة. ثم إن هذا البحث في هذه القضية يتعلق به أمور لا بد من كشف إشكالها:

أحدها: صحة ثبات معارضة المرأة لعمر في تحديد الصداق.

الأمر الثاني: صحة ثبات رجوع عمر عن رأيه فيه واعترافه بخطئه في تحديده، وأمره الناس بأن يبقوا على حالتهم من التوسع فيه على حسب رغبتهم وإرادتهم.

فالجواب: أنه لو كان هذا الاعتراض منها صحيحًا أو أن رجوع عمر عن رأيه الأول صحيح، لما أهمل ذكره أهل الصحاح والسنن، ولم ينفرد أبو يعلى بذكره دونهم لاعتباره ناسخًا لرأيه الأول.

ولو كان رجوعه عن رأيه صحيحًا لما خفي على الصحابة رجالهم ونسائهم وقد خطب به على رؤوسهم، فلم يحفظ عن أحد منهم القول به مع العلم أن الحق معه، فقد نهى رسول الله ﷺ عن المغالاة وحث على المياسرة.

وقضية معارضة المرأة لعمر أول من أخرجها سعيد بن منصور عن هيثم عن مجالد عن الشعبي، وهيثم مدلس ومجالد ضعيف. وقال في التقريب: ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره... وأخذ العلماء ينقلون هذه القضية من واحد إلى آخر حتى تغلغلت في الأذهان وانتشرت في كل مكان.

وقد أخذ أبو يعلى بهذه الرواية الضعيفة، وهو إنما توفي عام سبع وثلاثمائة وانفرد بها عن جمهور المحدثين من أهل الصحاح والسنن، ودخل في روايته من الزيادات ما يستبعد وقوعها ولم نر من قال بها غيره، من ذلك قوله: إن عمر صعد منبر رسول الله ﷺ فنهى عن المغالاة في المهور، وبعد معارضة المرأة له وقولها: لِمَ تحرمنا شيئًا قد أباحه الله لنا؟ إن الله تعالى يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ [النساء: 20]. قال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. ثم صعد المنبر مرة ثانية، فقال: كنت نهيتكم عن الزيادة في صدقات النساء على أربعمائة درهم، فمن أحب أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. انتهى.

فهذه الزيادات قد انفرد بها أبو يعلى عن أئمة الحديث مع زعمه أن كلا الأمرين وقعا من عمر في مكان واحد وفي زمان واحد. وقد خطب بها على منبر رسول الله بزعمه، فكيف يحفظ أهل السنن والصحاح نهيه عن المغالاة في المهور ويهملون ما يعد ناسخًا له؟! وقد أخذ العلامة ابن كثير برواية أبي يعلى وقوى سندها على ضعفها، قال: وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الكثير.

ثم قال: وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عنه.

ثم ساق رواية عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك، إن الله تعالى يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته، ثم ساقه عن طريق فيه انقطاع.

ثم إن عبد الرزاق ساق في مصنفه عدة طرق كلها تثبت نهي عمر عن المغالاة بدون ذكر المرأة وبدون ذكر رجوعه عن رأيه، فمنها ما روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن سيرين عن أبي العجفاء السلمي أن عمر قال: لا تغالوا في صداق النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي ﷺ، إنه ما أُصدقت امرأةٌ من بناته ولا من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها فيكون حسرة في صدره، فيقول: كلفت إليك علق القربة.[301] قال الثوري: قوله: كلفت إليك علق القربة: أي تعلقت القربة في المفاوز إليك مخافة العطش.

ثم ساقه بسنده إلى عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء. وساق أثر عمر في نهيه عن المغالاة بتمامه بدون ذكر المرأة. وفيه قال: وكان عمر إذا نهى عن الشيء قال لأهله: إني قد نهيت عن كذا والناس ينظرون إليكم كما تنظر الحدأة إلى اللحم فإياكم وإياه.

ثم ساق بسنده عن عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن علي بن يحيى أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ خِيَارُ نِسَائِكُمْ أَفْضَلَهُنَّ صَدَاقًا، وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ كَانَ أَوْلَاهُنَّ بِذَلِكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ».

ولم يذكر معارضة المرأة لعمر في الطرق كلها، إلا أنه في آخر الباب من مصنفه ساق هذا الأثر الذي ذكره ابن كثير وليس فيه التصريح برجوع عمر عن نهيه عن المغالاة.

وبذلك يتبين أن أبا يعلى وحده قد انفرد بهذه الزيادة التي فيها أن عمر بعد اعتراض المرأة عليه صعد منبر رسول الله ﷺ مرة ثانية في الحال، ثم قرر رجوعه عن رأيه في نهيه عن المغالاة.

لهذا تعتبر روايته شاذة لمخالفتها لما هو أصح منها، فلا يعتمد عليها لكون الشاذ هو ما رواه المقبول مخالفًا لما هو أرجح منه، مع العلم أن استدلال المرأة بالآية أنه واقع في غير موقعه لظنها أن الآية مخصصة للتوسع في الصداق وليست كذلك، وكيف نصدق بأن عمر الفاروق الحازم في أمره والحكيم في رأيه، قد كسرت همته وفلّت عزمه هذه المرأة إلى حالة اعترافه بصوابها وخطئه، والحق معه، والنصوص الصحيحة تؤيده والنفوس من جميع الناس مفطورة على استحسان رأيه في التساهل في مؤن النكاح وكراهة المغالاة. وقد أشار إلى بعض مساوئ ما يجره التغالي في المهور:

فقال: أولاً: إنه ليس بمكرمة في الدنيا ولا تقوى عند الله. وكل ما ليس بمكرمة فإنه رذيلة.

والثاني قوله: إن الناس ينظرون إليكم نظرة الحدأة إلى اللحم: يشير إلى أن الناس يقتدون بكم في المغالاة فيه فيعم الضرر على الرجال المقلّين والمتوسطين، ويكون ضرره على النساء أكثر لكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في العادات النافعة والعادات الضارة، مما يجعل النساء العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن بدون زوج يؤنسهن ولا نسل يرثهن، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات سنة بعد سنة، وكأن مثار تحديد الصداق لسبب اقتضاه.

وذلك أن عمر كان يمشي بالطريق بالليل فرأى دواب تحمل مالاً، فقال: ما هذا المال؟ قالوا: هذا صداق مصعب بن الزبير على عائشة بنت طلحة. فقال: هذا المال الكثير؟! قالوا: نعم. وذكر ابن كثير في التاريخ أنه أصدقها مائة ألف دينار[302]، وهو قدر كثير في زماننا الذي قاءت فيه الأرض أفلاذ كنوزها، فما بالك بزمان الصحابة الذي فيه النقود قليلة الوجود، فرأى عمر أن مصعب بن الزبير سلك مسلك الإسراف على نفسه وفي ماله مما يخشى أن يقتدي به غيره، لكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في العادات الضارة والنافعة والبادي بالشر أظلم، لهذا خطب عمر الناس وقال: لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله ﷺ، إنه ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي والبغوي وأبو داود الطيالسي، كلهم بدون ذكر المرأة.

أفيهدم هذا الصرح الذي بناه عمر لإصلاح جميع الناس رجالهم ونسائهم بدعوى هذه المرأة المجهولة؟! والذي لم يشهد أحد من الصحابة بقول عمر لها، واعترافه بخطئه، ولم يثبت عن أحد منهم ذكر ذلك، فلو كان واقعًا لما أهملوا ذكره، إذ هو بمثابة الناسخ لقوله، ويبعد عنهم أن يحفظوا المنسوخ ويضيعوا الناسخ، وقد اعترضت بما يعد بعيدًا عن قصد عمر وإرادته، ولو فرضنا صحته فإننا لا نقبله ولا نستقيله عن رأيه السديد وأمره المفيد.

والثالث: أنه أشار إلى مساوئ المغالاة في المهور، فقال: إن كان الرجل ليبتلى بصداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه. يشير عمر رضي الله عنه إلى بعض أجناس من الناس الرذلاء الذين يعدون بناتهم بمثابة المتاجر، فمتى خطب أحد منهم ابنته أو موليته أخذ يسن له السكين ليفصل ما بين لحمه وعظمه، بحيث يفضي إلى زوجته وهو عظم بلا لحم وجسم بلا روح، كله من أجل التكاليف الشاقة والتطلبات المرهقة التي تلجئه إلى تحمل الديون والتي من لوازمها الهموم والغموم من كل ما يقضي بانصراف رغبته وعدم فرحه بزوجته، لكون الهموم والغموم عقوبات تتوالى ونار في القلب تتلظى، لا تزال تنفخ في الجسم حتى تجعل القوي ضعيفًا والسمين نحيفًا، كما قيل:
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
إن من رأي الحزم وفعل أولي العزم تكاتف العقلاء على مراعاة التسهيل والتيسير وعدم التعسير، فإن التيسير يمن وبركة، فيسروا ولا تعسروا.

وإن النكاح الشرعي من سنن المرسلين ومن ضروريات بقاء حياة الآدميين، وإنه السبب في إيجاد المال والبنين، وقد أمر الله بإنكاح الأيامى في كتابه المبين، فقال تعالى: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ٣٢ [النور: 32]، والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، يقال: رجل أيم وامرأة أيمة، فأمر الله عباده بأن ينكحوا الأيامى، ولا ينبغي أن يستنكفوا عن إجابة الخاطب بما يحسونه من فقره، فإن الفقر وصف عارض يقع فيزول، فكم فقير عاد بعد الزواج غنيًّا. فمتى كان الأمر كذلك، فإن من الواجب على العقلاء فتح أبوابه وتسهيل طرقه وأسبابه، وذلك بالقضاء على التطلبات المرهقة والتكاليف الشاقة التي هي بمثابة العقبة الكؤود في طريق المعوزين والمتوسطين من أبناء المسلمين، بحيث تحول بينهم وبين من يرغبون نكاحه من بنات عمهم وأهل بلدهم.

ويجب على العقلاء أن يعقدوا الاجتماعات على إثر الاجتماعات لتبادل الآراء النافعة في سبيل ما يختصر لهم الطريق ويزيل عن شبابهم الحرج والضيق، وذلك بتخفيف مؤن تكاليف النكاح التي يذهب أكثرها في سبيل الإسراف والتبذير والتوسع في الهدايا وسوء التدبير، فيكون خسارة على الزوج وعلى أهل الزوجة.

والمرأة حرة وليست بسلعة توضع للمزايدة، والنبي ﷺ قال: «خير النكاح أيسره، وخير النكاح أقله كلفة»[303] وإنما تقاطع الناس بالتكلف.

وإن الفضلاء من الكرماء لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل رغبة أحدهم هو اختيار الكفء لموليته ليضع أمانته عنده ويتصل حبله بحبل مخطوبته في راحة ورفاهية، فهم يحاربون الإسراف الضار بالزوج وأهل الزوجة ولا يستنكف أحدهم عن خطبة الرجل الكفء لابنته أو موليته، كما عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان بن عفان، فاعتذر بعدم رغبته في النكاح، ثم عرضها على أبي بكر، فسكت، ثم خطبها رسول الله ﷺ فتزوجها، واعتذر أبو بكر بأن رسول الله ﷺ قد ذكرها، قال: فما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ.

إن التطلبات المرهقة قد تركت البنات العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة جريمة التكاليف الشاقة والتعاظم وعدم التواضع، يخطب الخاطب فيقولون: هذا ليس بتاجر، ثم يخطب الآخر فيقولون: هذا مرتبه ليس بكثير، ثم يخطب آخر فيقولون: هذا لا يدفع لنا إلا قليلاً، فتذهب نضارة البنت في سبيل هذا الترديد والتلديد، والنبي ﷺ قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِنْ لَا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[304].

والله إنه ليبلغنا عن الرجل الكريم وصاحب الخلق القويم معاملة صهره بالتسامح والتسهيل، حيث أخذه باليد التي لا توجعه، ثم سلم له زوجته في حالة راحة وعدم كلفة فيرتفع في نفوسنا قدره وينتشر بين الناس شرفه وفخره، لأن هذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة.

إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في نهيه عن المغالاة في المهور، ينظر بفراسته إلى الأجيال البعيدة المقبلة كنظره إلى الأجيال الحاضرة، وقد وقع محظور ما نهى عنه في زماننا هذا، حيث آل بالكثير من شباب المسلمين إلى التزوج بالأجنبيات الوثنيات وبالنساء العربيات الملحدات اللاتي لا دين لهن ولا خلق، واللاتي يتظاهرن بترك الصيام والصلاة ويجهرن بعدم وجوب شيء من العبادات، ومن المعلوم أن نكاح مثلهن حرام على المسلم، ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ [الممتحنة: 10]، كما أن تزويج المرأة المسلمة بمن يستبيح ترك الصلاة والصيام لا ينعقد نكاحه بها أصلاً، بل تبقى معه كشبه الزانية، قال تعالى: ﴿مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ [المائدة: 5].

* * *

[301] عِلْق القربة أي: كلفتُ كل شيء من أجلك حتى عِلْق القرابة، أي: حبلها الذي تعلق به، ويروى: عرق القربة، أي: حتى عرقت كعرق القربة وهو الماء الذي يسيل عليها من الخارج، أو حتى عرقت كعرق من يحمل القربة، وقيل المراد: حتى كلفت المستحيل. [302] ذكرها في ترجمة مصعب بن الزبير. [303] أخرجه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب. [304] رواه الدارمي من حديث أبي هريرة.

وليمة العرس

إن نهي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن المغالاة في المهور يشمل النهي عن المغالاة في سائر مؤن النكاح، إذ الاقتصاد خير كله، فهو يحب أن يبقى نشاط الشخص المتزوج لراحته وراحة أهله فلا يكلف نفسه ما يشق عليه، ومن ذلك وليمة العرس، فإن كلامه يشمل مراعاة الاقتصاد والاقتصار فيها، وقد وصفها رسول الله ﷺ بأنها شر الطعام، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها، فينبغي اجتناب التوسع فيها، ويقتصرون على قدر الكفاية عملاً بالسنة، لما في الصحيح أن النبي ﷺ رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: «مَا هَذَا؟» قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال رسول الله ﷺ: «بَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» فقوله: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» قيل: للتكثير. وقيل: للتقليل.

وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه بمدين من شعير وهو سيد الخلق أجمعين.

فما يفعله بعض الناس من كون أحدهم يذبح في وليمة العرس خمسين ذبيحة وأربعين وثلاثين وربما ذبح معها بكرًا من الإبل ويتبعها الأرز والفواكه، وغالب الناس يعتذرون عن الحضور إليها وخاصة الفضلاء فتبقى اللحوم والطعام بحالها ويضيق بها ذرعًا أهلها حتى تحمل ويقذف بها في موضع القمامة وبطون الأنعام ونفوس الكثير من الناس تحن إلى القدر.

ولا شك أن هذا مال ضائع على الزوج وعلى أهل الزوجة، كما قيل:
ولم يحفظ مضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المضاع
فهذه التكاليف التي بعضها أكبر من بعض قد أفضت بشباب المسلمين وبالشابات إلى بقائهم محجمين عن الزواج مع حاجة كل واحد منهم إلى ذلك، ولو وكل الأمر إليهم وأخذت رغبتهم واختيارهم لعملوا عملهم في التسهيل بكل سبيل والله أعلم.

والصحيح أن الآية شاملة لنهي الرجل عن الرجوع فيما ملكته زوجته عن طريقه من العطايا والصداق وغير ذلك، ثم على فرض صحة قوله: أصابت امرأة وأخطأ عمر، فإن هذا خرج منه مخرج الأدب مع الآية والتواضع مع المرأة، إذ مدلول الآية صريح وأنه يحرم على الرجل أن يأخذ من مال امرأته شيئًا مما أعطاها، فهو مع نهيه عن المغالاة يبيح لكل شخص بعد دخوله بزوجته أن يعطيها من ماله ما يشاء ولو كان كثيرًا.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أصل قول عمر: لا تغالوا في صدقات النساء. هو عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، وليس فيه قصة المرأة، انتهى.

وعلى كل حال، فإن الآية ليست مؤسسة لجواز التوسع في صدقات النساء كما أنها ليست مخصصة للرجوع فيما بذله لها من الصداق فقط، بل هي شاملة لسائر ما أعطى زوجته عن طيب نفس منه، سواء كان في صلب العقد بما يسمى صداقًا أو بعد الدخول، فكل مال آل إليها من زوجها بطريق الصداق أو العطاء فملكته ملكًا تامًّا، فإنه لا يجوز له الرجوع فيه، لقوله تعالى: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠ وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٢١ [النساء: 20-21]، وخص النهي بالاستبدال بها غيرها، جريًا على الأغلب، وإلا فإن النهي شامل، سواء استدام بقاءها أو أراد فراقها.

وفسر الإفضاء بالجماع، والميثاق الغليظ بما يؤخذ على الزوج عند العقد، من الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، ولا شك أن من أوقع الطلاق على زوجته بدون سبب يوجبه منها من ارتكابها الفاحشة أو نفرتها عن زوجها، ثم تعدى عليها بأخذ مالها، فإنه يعتبر عاصيًا مخالفًا لنظام الرب وللعدل والمروءة، وقد سرحها بحالة الإساءة لا الإحسان، حيث جمع لها بين ألم فراقه وألم أخذ مالها، وإنما خص الزوجة بالذكر لكثرة وقوع ذلك من الجُفَاةِ الظَّلَمَة، متى أراد أحدهم أن يتزوج امرأة أخرى غيرها، أخذ يضار امرأته الأولى لتفتدي منه برد ماله إليه.

نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡ‍ًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ [البقرة: 229].

ومثله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ [البقرة: 231].

وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ [النساء: 19].

وروى البخاري، قال: كانوا إذا توفي الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها. وروى أبو داود عن ابن عباس في الآية أن الرجل كان يرث امرأة من قرابته، أو يعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها.

قال ابن جرير في التفسير[305] بعد أن ذكر أقوال السلف في الآية، قال: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب؛ لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق، إذ من المعلوم أن الوليَّ ليس ممن أتاها شيئًا فيعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، فكان معلومًا أن الذي عنى الله بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه... انتهى.

فكل هذه الآيات سيقت مساق ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠ [النساء: 20].

فكلها من النظائر التي يؤكد بعضها بعضًا، وتنهى أشد النهي عن ظلم المرأة بأخذ شيء من مالها من كل ما ملكته من زوجها بطريق الصداق أو العطاء لدخوله في عموم قوله ﷺ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[306] وقوله: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[307].

لكن متى ملكت شيئًا من ماله عن غير رضى ولا طيب نفس منه، كأن تسخط عليه بدون سبب يوجبه منه ما عدا أنه تزوج عليها، ثم تفرض عليه ألا ترضى عليه ولا تعود إليه إلا بشيء تفرضه من المال، كبيت وغيره، فيوافق على ذلك حيث يرى أنه لا سبيل إلى رضاها إلا به فيكتب لها عليه. فهذا مما يجوز له الرجوع فيه لبطلان العطاء من أصله في بدايته لخروجه بدون رضى منه، والنبي ﷺ قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».

أما العطاء الخارج منه إليها بطريق الرضا والاختيار وقد تم تملكها له، فإنه لا رجوع له فيه ولو كان كثيرًا.

وفي البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» وللبخاري: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» قال قتادة: ولا أرى القيء إلا حرامًا.

وعن ابن عمر وابن عباس أن النبي ﷺ قال: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.

وفي الصحيحين في قصة المتلاعنين، لما فرّق النبي ﷺ بينهما، فقال الرجل: مالي يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: «إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كنتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا».

وحتى العُمْرى[308] والرُّقْبى[309] فقد حكم بها رسول الله ﷺ لمن أعمرها ولن تعود إلى مالكها، والعمرى: هي أن يقول: لك هي حياة عمرك أو عمري، أو حياة رقبتك أو رقبتي.

ففي البخاري عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: «الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ».

ولمسلم، قال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّتِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ».

فكل هذه الأشياء بعد قبضها هي من الإيتاء الذي لا يحل للزوج ولا لغيره الرجوع فيه بأخذ شيء لشمول الآيات والأحاديث للنهي عنه.

يبقى الكلام في التوازن بين رأي عمر في تحديد الصداق وتخفيفه وبين معارضة المرأة له في إطلاق سراحه على حالة التوسع فيه، فنقول: إنه بمقتضى العقل والنقل والحس والمشاهدة أن التغالي في المهور شؤم على كافة الجمهور، وضرره على النساء أكبر، وقد أشار عمر في نهيه عن المغالاة بأنه يورث البغضاء في قلب الرجل لامرأته، سواء كان حالًّا أو دينًا في ذمته، وقد استعمل أكثر أهل الأمصار تكثير الغالب في الصداق في ذمته مع التساهل في الحالّ ليقيدوا به الرجل عن التسرع إلى طلاق امرأته، بحيث يذكر إغرامه بمطالبته بالصداق المؤخر عند حلوله، فيمتنع عن التسرع في طلاقها، كما قيل:
مهر الفتاة إذا غلا صون لها
عن أن يبت عشيرُها تطليقَها
هوِيَ الفراق وخاف من إغرامه
فأدام في أسبابه تعليقها
ولربما ورثته أو سبقت بها
أقدار ميتتها فكان طليقها[310] إن التغالي في المهور قد صار عقبة كؤودًا في سبيل المعوزين والمتوسطين من الناس، بحيث يحول بينهم وبين من يرغبون نكاحه من بنات عمهم وأهل بلدهم، كما أنه صار شؤمًا شرًّا على بنات الأسر والأكابر وأهل البيوت الفاضلة، وأن كل امرأة تتعاظم في نفسها وتفتخر بجمالها أو نسبها أو مالها، فإنها تبقى عاطلة عن الزواج مع تمنيها له، بخلاف المرأة المتواضعة المتذللة، فإن الناس يتسابقون إلى خطبتها لسهولة الحصول عليها بدون كلفة، وبدوام استمراره يصير من أسباب قلة الزواج، وتبقى الأبكار العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة هي جريمة التكاليف الشاقة، حيث يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به، وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنا والفساد، فنحن نشك في رجوع عمر عن رأيه في تخفيفه، كما نشك في تصريحه بخطئه وتصويب رأي المرأة في معارضته، لورود الأحاديث الصحيحة في الصحاح والسنن والمسانيد، مما يدل على نهيه عن المغالاة بشدة بدون ذكر رجوعه عن رأيه، كما حقق ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري في باب الصداق.

ومن المعلوم أن معارضة المرأة لعمر قد اشتهرت وانتشرت وعم العلم بها جميع مشارق الأرض ومغاربها، فلا تجد عالمًا ولا عاميًّا إلا ويحفظها، فكانت من الضعيف المشهور، وقد استدل بها بعض العلماء على جواز التوسع في المهور أخذًا من مفهوم الآية، ولا دليل فيها على ذلك.

فنحن نتكلم عليها بناء على فرض صحتها، ونقول: إن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المضار وتقليلها، ويظهر لنا بمقتضى الدلائل العقلية والنقلية أن عمر على جانب من الصواب في رأيه ونظره، وأنه أسعد بإصابة الحق من المرأة، وأن اعتراضها عليه يعتبر بأنه واقع في غير موقعه، وهذا مما يجعلنا نستبعد رجوعه عن رأيه، إذ الأصل معه وعموم الأدلة تتبعه، والذي جعل القضية تشتهر هو نسبة تواضعه للمرأة، وإلا فإن الأحاديث متواترة في الأمر بتخفيف الصداق كما قدمنا، فقد روى مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ، قال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: «على كم تزوجتها؟» قال: على أربع أواق. فقال له النبي ﷺ: «كأنما تنحتون الفضة من عرض الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث فتصيب منه».

وروى عقبة بن عامر أن النبي ﷺ قال: «خير النكاح أيسره مؤنة» رواه أحمد، وعن عائشة بمعناه.

ثم إن جميع العقلاء قاطبة متفقون على استحسان تخفيف مؤن النكاح لشمول نفعها لجميع الرجال والنساء، وإن التقليل في المهر وفي سائر مؤن النكاح مندوب إليه، لأن المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب الزواج على الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير متزوجين، أما إذا كان المهر كثيرًا فإنه لا يتمكن من الزواج إلا أرباب الأموال الكثيرة ويكون الضرر فيه على النساء أكثر، إذ قد يؤول بهن إلى سوء الحالة فيقعن في رد الفعل فتصير النساء هن اللاتي يعطين المهور للرجال ليتزوجوهن، كما هي عادة النصارى، وقد حذر النبي ﷺ من عاقبة هذا الفعل، فقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.

ولهذا لم يجعل النبي ﷺ لأقله حدًّا محدودًا، بل أجازه بنعلين، وبخاتم من حديد، وبوزن نواة من ذهب، وبتعليم شيء من القرآن، ومن أعطى ملء كفيه من طعام فقد استحل، فليس هو من أمور العبادات، كالصيام والصلاة التي يجب التوقيف فيها، فلا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل هو من أمور الحياة الموكول تنظيمها إلى اجتهاد أهل العقول والمعرفة، كبناء البيوت وغيرها.

فمتى رأى الحاكم تحديد الصداق بقدر معلوم يتلاءم مع مصلحة جميع الناس غنيهم وفقيرهم، فإنه جائز قطعًا بلا شك، وليس في الشرع ما يمنعه، إذ هو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع كما في الحديث: «يَسِّرُوا، وَلَا تُعَسِّرُوا»[311].

ويجب طاعة ولي الأمر في ذلك وعدم مخالفته، إذ إن طاعته في هذا تعتبر من طاعة الله ورسوله، ومعصيته تعتبر من معصية الله ورسوله، وتدخل في عموم قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ [النساء: 59].

ورأيُ عمر في النهي عن المغالاة بتحديد الصداق لا يمنع من كون الرجل يتبرع لزوجته بشيء من ماله قليلاً كان أو كثيرًا متى دخل بها، إذ له التصرف التام في العطاء والمنع.

وقد فعل عمر والصحابة شيئًا من أمور الحياة مما تقتضيه المصلحة العامة، فصارت سنة متبعة، من ذلك عتق أمهات الأولاد وكن يُبعن زمن النبي ﷺ.

فعن ابن عمر قال: نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد، قال: لا تباع ولا توهب ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة. رواه مالك والبيهقي.

وكان سبب هذا ما أخرجه الحاكم وابن المنذر عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة، فقال: يا بريدة انظر ما هذا الصوت. فذهب ثم رجع فقال: هذا صوت جارية من قريش تباع أمها. فقال: ادع لي المهاجرين والأنصار. فدعوتهم له، فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة منهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فهل كان فيما جاء به محمد ﷺ القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ [محمد: 22] ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم، وقد أوسع الله لكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق: أن لا تباع أم حر. وقد انعقد الإجماع على المنع من بيعهن، فلم يبق فيه مخالف.

ومنها منعُه الصحابة عن الانتقال عن المدينة وسكناهم الشام أو العراق، لتقوى بيضة الإسلام في المدينة، فلم ينتقلوا إلا في خلافة عثمان.

ومن ذلك التسعير في حالة الحاجة والضرورة ومراعاة عموم المصلحة، متى زادت قيم الطعام على الناس زيادة غير معتادة وكان الطعام أو السلع ترد على أشخاص معينين، بحيث يستطيعون أن يتحكموا في أثمانها فوق القيمة المعتادة، فقد قال بعض العلماء بجواز التسعير عليهم، وبعضهم قال بوجوب التسعير والحالة هذه، وأول من نسب عنه هذا الأمر هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يمر بالبياع ويقول: إما أن تبيع كما يبيع الناس أو ترتفع عن سوقنا. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الحسبة (ص240): إن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الناس بأن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق، ويدل له ما روى أنس، قال: غلا السعر بالمدينة على عهد رسول الله ﷺ فقالوا: سعّر لنا يا رسول الله؟ فقال: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ» رواه أبو داود والترمذي.

وإما أن يمتنع أرباب السلع من بيعها إلا بزيادة على القيمة المعروفة والناس في حالة الحاجة والضرورة، أو أن يكون هذا الطعام وغيره لا يبيعه إلا ناس معروفون، فيجب التسعير عليهم، بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل.. انتهى.

فتحديد المهور والقول بجوازه يتمشى على القول بجواز تسعير الطعام، إذ إنه لا يقل في الضرر عنه.

وهذه كلها من التصرفات الجائزة المتعلقة بأمور الحياة، ولا علاقة لها بالعبادات.

ومنها نهيه عن التزوج بالكتابيات: نصرانيات أو يهوديات. وروى الإمام محمد ابن الحسن أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية في المدائن، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن خلّ سبيلها. فكتب إليه حذيفة: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا من يدك حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.

وهذا من حسن نظره لرعيته، وهو الحكيم في سياسته وسيادته وحسن تربيته لرعيته، فإنه لو فتح هذا الباب للشباب لاختاروا نكاحهن على نساء المسلمات ﴿مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] لكون الشباب ينظرون بعين شهواتهم، فيفضلون القبيح على الحسن. وإلا فإن النساء العربيات المسلمات هن أفضل منهن دلًّا وأدبًا وجمالاً وخلقًا، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.

ومن سوء عاقبة هذا الاستحسان ما أفادته التجارب من سوء العواقب، وأن أولاد النصرانية من المسلم يكونون نصارى محضًا، بحيث ينشؤون على عقيدة أمهم ويسلكون طريقتها حسب تربيتها لهم، لكون الغاذي شبيه بالمغتذي فيقولون بألوهية المسيح ويعلقون الصلبان على صدورهم، وهذا أمر مشهور مشهود به في مصر ولبنان والعراق وغيرها.

إنه متى تيسر قِران الشخص بامرأة ذات حسب ودين، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة عاجلة وكرامة وافرة، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة؛ التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[312].

فمن واجب شكر هذه النعمة معاشرة هذه الزوجة بكرم الأخلاق وجميل الوفاق. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» قال: «وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي».[313]

لاسيما المرأة ذات الحسب والدين، فإنها خير ما يخزنه المسلم في حياته وفي بيته، لكونها تربي بناتها على الأخلاق الحسنة والدين.

فالمرأة كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم، فمسكين رجل بلا امرأة، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات.

كما أن الزوج كرامة ونعمة للمرأة، يرفع مستوى ضعفها وينشر جناح وحدتها ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأم بنين وبنات، وقد ذكّر الله عباده بهذه النعمة، فقال: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ [الروم: 21].

فقد يجعل الله سبحانه المودة في الرجل ولا يجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق الجفاة، يحب أحدهم زوجته لكنه يعاملها معاملة المبغض من الضرب واللعن وشتم الآباء والأمهات، وقد يكلفها أعمالاً شاقة ويضيق عليها في النفقة الواجبة حتى تلجئها الحاجة وسوء الحالة إلى طلب النفقة والكسوة من أهلها، وقد يتزوج عليها فيقطع صلته بها ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يجعلها معلقة لا هي ذات زوج ولا مطلقة.

وهؤلاء يعتبرون من أراذل الناس الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، فلا أخلاق ولا إنفاق ولا كرم ولا وفاق.

وقد يجعل الله الرحمة في الشخص ولا يجعل فيه المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاشرها بكرم الأخلاق وجميل الوفاق وبالعطف واللطف والإنفاق. وأصفى السرور اجتماع المودة والرحمة، وبذلك تتم السعادة الزوجية بينهما.

إن الناس متفاوتون في الأخلاق، كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وإن الكمال التام متعذر من رجل وامرأة، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص بحسبه، غير أن الناس يتعاشرون بالشرف، وتندر البيوت المبنية على المحبة.

فقد يوجد في المرأة شيء من التقصير، إما في الحال أو في الجمال أو عدم التدبير، كما في الحديث: «لا يفرك مؤمن مؤمنة - أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة - إن كره منها خلقًا رضي منها آخر»[314] فالرجل الكريم وصاحب الخلق القويم يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فأنجبت له أولادًا كرامًا، قاموا بنفعه ونشروا فخر ذكره، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وكم من رجل فُتن بمحبة امرأة فأفسدت عليه دينه ودنياه وأهله وخلقه ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ [البقرة: 216]. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ [التغابن: 14] والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 11 رمضان سنة 1396هـ.

* * *

[305] تفسير ابن جرير جـ8/113. [306] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة. [307] أخرجه أحمد من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه. [308] العُمْرى: هبة شيء مدة عمر الموهوب - أو الواهب - بشرط الاسترداد بعد موت الموهوب له. [309] الرُّقْبي: هو أن يقول الرجل للرجل - وقد وهب له دارًا -: إن متَّ قبلي رجعَتْ إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك. [310] من شعر أبي العلاء المعري. [311] متفق عليه من حديث أنس. [312] أخرجه عبد الرزاق في الجامع عن معمر مرسلاً من حديث مجاهد. [313] أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي هريرة. [314] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

(3) التزوج بالكتابيات وعموم ضرره على البنين والبنات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ [الروم: 21]، فأخبر الله سبحانه بامتنانه على عباده، أن خلق لهم من أنفسهم أزواجًا ليسكنوا إليها ويأنسوا بها، وجعل بينهم مودة ورحمة لتتم بذلك سعادتهم وكمال أنسهم وانسجامهم، فمسكين مسكين رجل بلا امرأة، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات، وقد سمى الله الزوجة بالسكن والصاحب بالجنب، ومنه يُعلم أن الله خلق المرأة كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم، كما أن الله سبحانه جعل الزوج كرامة للمرأة، يرفع مستوى ضعفها ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُم بنين وبنات.

ولهذا أنزل الله تعالى: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32]، والأيامى: هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، والنبي ﷺ قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[315] ومفهوم الحديث: أنه إذا خطب إليكم من لا ترضون دينه ولا أمانته ولا خلقه فلا تزوجوه، ممن عرف بترك الصلاة واستباحة شرب المسكرات أو الإلحاد والنفاق، فهذا لا يجوز تزويجه بمسلمة. يقول تعالى: ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ [الممتحنة:10].

وروي: «من زوّج مولِّيته بفاجر فقد قطع رحمه منها»[316] ولأن للزوج السيادة والسلطة على زوجته، وبطول معاشرته لها يوقعها في الفتنة في دينها وعقيدتها، تبعًا لفساد عقيدته، ولتكون على حسب عقيدته وطريقته، على أنه لا ينعقد النكاح أصلاً بامرأة مسلمة على رجل فاجر لا يصلي ولا يصوم ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين دين الحق وتبقى معه كحالة الزنا، كما أنه لا يحل لمسلم أن يتزوج بامرأة كافرة لا تصوم ولا تصلي وتكذب بالقرآن وبالرسول، لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]، وقوله: ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ [الممتحنة: 10]، فمتى تيسر قِران الشخص بامرأة ذات حسب ودين، فإنها الكنز الذي يقتنى والجوهر الذي يتمنى، ففي الصحيح أن النبيﷺ قال: «الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[317] فهذه الصفات الجميلة لا تتفق إلا مع المسلمة الصالحة الجليلة، أما غير الصالحة والتي هي غير مسلمة، فإنها جديرة بأن تخون زوجها في نفسه وماله وعياله، كما تخونه في نفسها؛ لأن الدين هو أعظم وازع إلى التحلي بالفضائل وأعظم رادع عن منكرات الأخلاق والرذائل؛ ولهذا حث النبي ﷺ على نكاح ذات الدين كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ»[318]؛ لأن الدين ما كان في شخص إلا زانه، وما نزع من شخص إلا شانه.
والدين رأس المال فاستمسك به
فضياعه من أكبر الخسران
إن الزوجة مدرسة لأولادها وبناتها ولأهل بيتها، وراعية على بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، فصلاحها ينجم عنه صلاح بناتها وأولادها وأهل بيتها، إذ هي المربية بالأصالة، ولهذا ورد «تخيروا لنطفكم فإن العرق نزّاع» أو قال: «دساس»،[319] ومن وصايا بعض الحكماء: إياكم وخضراء الدمن. قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الجميلة في المنبت السوء. والله تعالى يقول: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ [النور:26]، فكل خبيث يميل بطبعه إلى من يشاكله في الخبث؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه طبعًا، فالخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وهذا هو شرع الله وقدره الذي ارتضاه لعباده، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، وفي الحديث: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»[320] وفي محكم القرآن: ﴿ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٣ [النور: 3]. ولهذا يحرم على المؤمن العفيف أن يتزوج بمسافحة. فمتى عرفنا هذا، فلن يخفى علينا سبب نزوع هذا الشباب الطائش من أبناء المسلمين بداعي شهوتهم البهيمية إلى نكاح النصرانيات اللاتي لا دين لهن ولا خلق، ويتركون نكاح بنات عمهم وأهل بلدهم وملتهم الكواعب الحسان، ﴿مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] وما ذاك إلا من ضعف الإيمان وعمى الرأي عن سوء عاقبة هذا الاستحسان، فقد أفادت التجارب أن أولاد النصرانية وبناتها من المسلم يكونون نصارى محضًا بحيث ينشؤون على عقيدة أمهم وسلوك طريقتها حسب تربيتها لهم؛ لأن المغتذي شبيه بالغاذي. ومن المعلوم أن الأولاد والبنات هم أعلق بالأم في القدوة والاحتذاء منهم بأبيهم، وقبول التعليم منها أعلق في نفوسهم، سواء كان التعليم سيئًا أو حسنًا وهذا أمر مشهور، مشهود به في مصر ولبنان وغيرهما من سائر البلدان التي يشيع فيها مثل هذا الزواج، وحتى بنات النصرانية من المسلم يستبحن النكاح بالنصارى تبعًا لرغبة أمهن، كما جرى ذلك في بعض البلدان، وهو محرم في شرع الإسلام، وخاصة إذا توفي أبوهم، فإن الأم تستولي عليهم الاستيلاء التام، فينشؤون نصارى على عقيدتها وطريقتها، يعلقون الصليب على صدورهم فيتم بذلك تنصرهم؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد والأمور منوطة بأسبابها.
تلك العصا من هذه العصيه
هل تلد الحية إلا حيه
فكأن أباهم أدخل أولاده في النصرانية على سبيل الاختيار؛ لأن الحكم منوط بالسبب في سائر الأحكام.
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
فأول راضٍ سيرة من يسيرها
لكن هؤلاء الذين يرغبون في نكاح النصرانيات يترجح من أخلاقهم أنه لا قيمة للدين في أنفسهم، وليس له أثر في أخلاقهم وأعمالهم ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ [التوبة: 67] والشباب قطعة من الجنون، وحبك الشيء يعمي ويصم، فهم لا يفكرون في العواقب أبدًا.
قالت عهدتك مجنونًا فقلت لها
إن الشباب جنون برؤه الكبر
ثم إن هذه المرأة النصرانية، متى توفيت لم يرثها زوجها، كما أنها لن ترثه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم بالنص والإجماع.

إن أكثر ما يتشدق به عشاق المرأة النصرانية قولهم: إنها متعلمة متهذبة. وخفي عليهم أن هذا التعلم والتهذيب الذي حملته من المدرسة أنه غاية في الجهل والضلال وفي الخلاعة والقباحة، والتربي على المنكرات وشرب المسكرات وترك الطاعات، ثم الكفر بالله واعتقاد ألوهية المسيح، ثم التعليم بإعطاء المرأة كمال حريتها تتصرف في نفسها كيف شاءت بدون مانع كالرجل، وغير ذلك من مساوئ التعلم والتعليم عندهم، غير أن مسلوب العقل يرى القبيح حسنًا والجهل علمًا، وبلا شك إن المرأة المسلمة الأمية أحسن دَلًّا وأدبًا ونظافةً وتهذيبًا منهن، يقول الله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ [البقرة: 221].

نعم... إنها تعرف لغة قومها وتكتب الكتابة بها، وهذا غاية ما يفتخر به عشاقها، وهو عمل حقير في جنب ما تحمله من فنون الشر الكثير، حيث تعلمت إباحة الزنا وشرب الخمر وإباحة العري وخلع سربال الحياء، بحيث تسبح عارية بمرأى من الرجال، كما تسافر للسياحة وحدها، وأن لها كمال الحرية في التصرف في نفسها، بحيث تصاحب من تحب من أخدانها وتخلو به ويخلو بها، غير محجور عليها في نفسها وتصرفها إلى حالة أن زوجها يطرق عليها الباب وعندها خدنها، فتقول لزوجها: ارجع حتى نفرغ من خلوتنا. ولا يرى في ذلك عارًا عليه ولا عليها لتربيتها على ذهاب الغيرة والمروءة والعفاف.

ومن الأخلاق السائدة بينهم كونهم لا يعدون الزنا جريمة وإن كانوا يرونه نقيصة إذا زنى بها مكرهة أو زنى بها على فراش الزوج، ثم إن من طبيعة النصرانية محاولة العلو والارتفاع على زوجها، بحيث تجعله بمثابة الخادم الذميم والتابع الذليل، ثم إن من مساوئ أخلاقها ما هو معروف ومألوف من عادتهن. وكل ما ذكرنا فإنه من العمل السائد في عرفهن وعوائدهن، فكن كما قيل:
قايست بين جمالها وفعالها
فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
فقس بينها وبين المرأة المسلمة النظيفة الظريفة المهذبة الخارجة من بيت طاهر ومنبت طيب التي تعتقد وجوب الطهارة: أي النظافة عند كل صلاة، ﴿مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله.

والله سبحانه قد فاوت بين الناس رجالاً ونساء، فجعل منهم من هو أفضل من الملائكة وجعل منهم من هو شر من الشياطين، ولهذا ورد «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ» [321] أو قال: «نَزَّاعٌ»، ومن كلام بعض الحكماء: إياكم وخضراء الدمن، قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء.

وقد يستدل بعضهم بأن نكاح النصرانية جائز في الشرع وفي القرآن، ونحن نؤمن بشرع الله ولا نكذب بكتاب الله، فقد أباح الله ذلك للتوسع والتسهيل في دخول دين الإسلام وانتشاره بين الأمم بإظهار سماحته، حيث إن النصرانية تحت المسلم متى عرفت دين الإسلام ومحاسنه، لم تلبث إلا أن تعتقده بحيث إن السيادة والسلطة في قديم الزمان للإسلام على سائر الأديان، فكانت تؤمن به طائعة مختارة، ثم تقوم بواجبها من الدعوة إليه. كما أن جميع الأمم على اختلاف أديانهم رجالهم ونساءهم دخلوا في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين رجالاً ونساء، بسبب انتشار الدعوة إليه من الرجال والنساء.

ثم إن نكاح الكتابيات مشروط بأن يكن محصنات، أي عفيفات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. يقول الله تعالى: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ [المائدة: 5]، وغالب نساء النصارى في هذا الزمان هن مسافحات أو متخذات أخدان، لكون الزنا وإن كانوا يعدونه نقصًا ورذيلة لكنه قد صار في عرفهم من الأمر الذي يجوز للمرأة أن تتمتع به بشرط ألا تفعله على فراش زوجها فقط؛ لأن النصارى في هذه الأزمنة قد تساهلوا وتوسعوا في إباحة الزنا واللواط وشرب الخمر، بما يعدونه من إعطاء الشخص كمال حريته ويفتخرون بذلك، فهم لا يعدون الزنا جريمة، فأين الإحصان المشروط في القرآن والحالة هذه؟!

وقد أثبت التاريخ الباحث عن أخلاق النصارى، أن المرأة لا تقبل خطبة الرجل إلا من بعد الاختبار والتجربة والصحبة الطويلة بينها وبينه، بحيث يخلو بها ويختبر أحدهما حالة صاحبه ويقوم بالتجربة معه، لا أقول في شيء دون شيء، بل في كل شيء، وفي الغالب أنه ينصرف عنها بعد عمل التجربة معها؛ لأنه إذا نكح الحب فسد، ثم إن الكثير منهم يختار البقاء على المخادنة والسفاح، ويفضله على عقد النكاح الشرعي، ويرى عقد النكاح ثقيلاً عليه في نفسه، من أجل أنه متى ساءت طباعها لم يمكنه القانون من طلاقها، ومن أجله صاروا يختارون السفاح على عقد النكاح. فأين العفاف وأين الإحصان المشروط في نص القرآن والحالة هذه؟! ولا تنس أن نساء الكتابيات الأُول كان لهن عوائد قديمة حسنة من العفاف والإحصان غير عوائد نساء هذا الزمان اللاتي استفاض من أخلاقهن جواز الزنا الواقع بالتراضي، لكون نظام قانونهم يبيح ذلك لهن، كما أباحوا في هذا الزمان جواز اللواط بين الرجال، وجرى الأمر بإباحته قانونًا من برلمانهم.

إنه متى سمح لشباب المسلمين من أهل البلدان العربية في زواج من يشتهونه من النصرانيات واليهوديات، فإنه يترتب عليه فتنة في الأرض وفساد كبير، فإن من لوازمه أن تبقى البنات العذارى المسلمات عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، لكون هذا الشباب الطائش يشتهي هذا الشيء الممنوع منه ويطلبه بشغف. وأحب شيء إلى الإنسان ما منع.

روى الإمام محمد بن الحسن أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية في المدائن، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن خل سبيلها. فكتب إليه حذيفة: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟! فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.

وهذا من حسن نظره لرعيته وهو الحكيم في سياسته وسيادته، حيث سد باب هذه الفتنة عن المسلمين، إذ عندهم من النساء الحسان المسلمات ما يغني شبابهم ويكفيهم عن النساء الكافرات، والمسؤولية أمام الله وأمام خلقه تقع على كاهل حكام المسلمين الذين جعلهم الله رعاة على العباد وحراسًا للبلاد عن دخول الكفر والإلحاد، ولأن من واجب الراعي الشفيق أن يمنع دخول الناقة الجرباء مع الإبل الصحاح، حذرًا من أن تعدي بدائها. ومن المعلوم أن عدوى الأخلاق أضر وأعلق من عدوى الأبدان، والوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع، ومن ابتغى الخير اتقى الشر، وقد سمى الله الزوجة بالصاحب بالجنب، والنبي ﷺ قال: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»[322].

وإنما دخلت الخلاعة والتكشف على نساء العرب المسلمات كله من أجل اختلاطهن بالنساء المتفرنجات من نصرانيات وعربيات لا دين لهن ولا خلق، فطفقن يتعلمن منهن هذه اللبسة المزرية الرذيلة لبسة العري والعار، ولبسة الذل والصغار، ولبسة المتشبهات بنساء الكفار، فكانت المرأة تبدي يديها إلى العضد أو الإبط ورجليها إلى الركبة أو إلى نصف الساق، وتمشي حاسرة الرأس والوجه والرقبة في الأسواق، لا يثنيها وجل ولا يلويها حياء ولا خجل، وهذا هو تبرج الجاهلية الأولى الذي نهى عنه القرآن بقوله: ﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ [الأحزاب:33]، وأخذت تسري هذه اللبسة في بيوت الأسر والعائلات بطريق العدوى والتقليد الأعمى، بدأت بالصغار، ثم تخلق بها الكبار.

وكلما ضعف دين المرأة وفسد خلقها أوغلت في التبرج وأخلاق التفرنج؛ لأنها ناقصة عقل ودين ومشبهة عقولهن بالقوارير، فمن واجب المسلمة التخلق بزي الإسلام والمسلمات من استعمال اللباس السابغ الساتر الذي تغطي به جميع جسمها، فللمسلمة دينها وسترها وحياؤها وشرفها، وللكافرة خلاعتها وكفرها ﴿وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ [البقرة:221].

فيا معشر شباب المسلمين، إن الله شرفكم بالإسلام وفضلكم به على سائر الأنام، متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن الشباب نعمة من الله يُسأل عن شكره كل إنسان.

فمن واجب الشاب النجيب أن يحفظ شبابه عن ذهابه في اتباع شهواته، وأن يزكي نفسه بالفضائل واجتناب الرذائل، فيختار لبيته وتربية ذريته امرأة مسلمة صالحة تحفظه في نفسها وماله وعياله، وتكون له وزير صدق في سائر أعماله. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[323].

وخير النسا من سرت الزوج منظرًا
ومن حفظته في مغيب ومشهد
قصيرة ألفاظ قعيدة بيتها
قصيرة طرف العين عن كل أبعد
حسيبة أصل من كرام تفز إذًا
بوُلْدٍ كرامٍ والبكارة فاقصد
وقد سمى الله الزوجة بالصاحب بالجنب، فمن علامة ضعف الرأي ونقص العقل، كون الشخص يختار لمصاحبته امرأة غير مؤمنة وغير أمينة لا على نفسه ولا على ماله وعياله، فكم قتلت امرأة زوجها وهو لا يشعر، وفي التاريخ عبر في كثرة الشواهد لهذا الخبر، وكل ما ذكرنا من النهي والتحذير عن نكاح النصرانيات أو اليهوديات، فإنه ينطبق من باب أولى على نكاح كل امرأة ليست بمسلمة ولو كانت عربية، فكل امرأة عربية أو غير عربية لا تحافظ على واجباتها، من طهارتها وصلاتها وصيامها، ولا تطيع زوجها إذا أمرها بذلك، فإنها تعتبر شرًّا من النصرانية ولا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يمسك بعصمتها ويستديم نكاحها، ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ[الممتحنة: 10].

لكن كثيرًا من هؤلاء الشباب على مذهب الإباحيين الذين يفضلون الإباحة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين، فهم من عشاق الصور الذين ينظرون إلى الصور بعين شهواتهم لا بعين عقولهم، فيختارون الرذيلة على الفضيلة، يظنون من رأيهم القصير وعزمهم الحقير أن الحضارة والمدنية والرقي والتقدم في معاقرة الخمور ومجاراة النصارى في الخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق ومن الغباوة إطباق وغرهم بالله الغرور.

تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة وسقطوا في هوة المذلة ورضوا بأخلاق المذمة، التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم والتأدب بأخلاق دينهم صاروا مثالاً للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين الذين شرفوا عليهم بالتمسك بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون! والله أعلم.

وصلى الله عل نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 22/ المحرم/1395هـ.

* * *

[315] رواه الترمذي من حديث أبي هريرة. [316] أخرجه ابن حبان في الضعفاء وابن الجوزي في الموضوعات. [317] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مختصرًا. [318] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [319] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة بلفظ: «وانكحوا الأكفاء». [320] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة. [321] أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة بلفظ «وانكحوا الأكفاء». [322] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. [323] أخرجه عبد الرزاق في الجامع عن معمر مرسلاً من حديث مجاهد.

(4) بطلان نكاح المتعة بمقتضى الدلائل من الكتاب والسنة

مقدمة الرسالة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

فإن النكاح الشرعي هو من سنن المرسلين ومن ضروريات بقاء الآدميين، به ينتظم العفاف والإحسان وحفظ الأنساب. والنبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[324] ولا يسمى النكاح زواجًا إلا إذا كان عن طريق شرعي. فلقد شرع الله سبحانه هذا الزواج ليكون طريقًا وحيدًا لالتقاء الرجل بالمرأة، فكل لقاء بينهما خارج نطاق الزواج الشرعي، بأركانه وشروطه، هو لقاء محرم يحاربه الإسلام أشد المحاربة.

هذا وإنه تظهر بين حين وآخر دعوات لإباحة أنواع من الأنكحة خارج نطاق الزواج الشرعي، من ذلك دعوة بعضهم في هذه الأيام إلى حلِّية نكاح المتعة وضرورة الأخذ به في الوقت الحاضر، إن نكاح المتعة وإن كان مباحًا زمن الجاهلية وبدء البعثة، كإباحة الربا وشرب الخمر، والصلاة إلى غير الكعبة، إلا أن رسول الله ﷺ حرمه بعد ذلك تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة.

وفي هذه الرسالة مناقشة هادئة مدعمة بالأدلة الشرعية والمنطقية لدعاوى القائلين بنكاح المتعة، تبين ضعف دليلهم، وزيغ قصدهم، وقصور حجتهم، بل كون هذا الدليل حجة عليهم لا لهم، إذ إن دليلهم الوحيد في ذلك هو حديث ابن عباس في هذا الموضوع، وهم يأخذون شطرًا من الحديث ويتركون الشطر الآخر، كما أنهم يأخذون قولاً ويدعون آخر ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ [البقرة: 85] إذ إن ابن عباس نفسه يصرح بأن نكاح المتعة قد حرم كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير على أن ابن عباس بشر يخطىء ويصيب، وقد سبقه القرآن الكريم بتحريمه بقوله سبحانه: ﴿إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١ [المعارج: 30-31] فاتفق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم نكاح المتعة. نسأل الله سبحانه أن يسدد خطانا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

* * *

[324] متفق عليه من حديث أنس بن مالك.

رسالة إلى الخاقاني

من عبد الله بن زيد آل محمود - رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية إلى عيسى عبد الحميد الخاقاني.

وبعد، فإنني وقفت على مقالتك المسجلة والصادرة منك في يوم الجمعة الموافق 20/2/1979م. وسمعت ما تضمنت من الحث والتحريض للشباب والشابات إلى التمتع من بعضهم مع بعض بنكاح المتعة الذي يستأجر فيها الرجل امرأة لوطئها باليوم أو الأسبوع بأجر مسمى معلوم، وقد أثرت هذه الفتنة في الشباب لتفسد بها أخلاقهم وأنكحتهم الشرعية وتدنيهم إلى الإباحة المحرمة المطلقة التي يعدها العلماء زنا من عمل الجاهلية. وقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة القطعية عن رسول الله ﷺ في تحريمها إلى يوم القيامة في أحاديث مشهورة ومنشورة في رسالتي هذه، وأصحها ما ثبت في الصحيحين عن الإمام علي رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله ﷺ عن متعة النساء عام خيبر. وفي الحديث الآخر عنه: حرم رسول الله ﷺ متعة النساء والحمر الأهلية عام خيبر. وثبت عنه أنه قال: لا أوتى بمستمتعين إلاّ رجمتهما. وثبت مثله في صحيح مسلم عن سبرة بن معبد. وعن سلمة بن الأكوع عن رسول الله ﷺ، وقد انعقد إجماع الصحابة على تحريمها كتحريم الزنا، وكلّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مجمعون على تحريمها تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، ولا عبرة بشذوذ الشيعة القائلين بإباحتها، إذ القول الشاذ لا يعتد به.. ثم إن الشيعة أنفسهم لا يعملون بها في أنفسهم ولا مع محارمهم وبناتهم، فلا نسمع برجل منهم لا من أغنيائهم ولا من فقرائهم أنه أجر ابنته أو موليته لرجل يطؤها أسبوعًا أو شهرًا باسم نكاح المتعة، فهم أبعد الناس عن هذه العملية الدنيئة، وأشدهم بغضًا لها لاعتقادهم بطلانها وعدم إباحتها.

وأنت تحاول أن تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإباحة المحرمة بزخرف القول غرورًا. وكأنك إنما قصدت هذه البلاد لقصد إثارة الفتن فيها التي هذه من جملتها، ومتى أردت بنا فتنة أبينا.

وبما أنني رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية فإنني أمنعك منعا باتًّا من التعرض لإثارة مثل هذه الفتنة التي تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تدنيهم من الإباحة المحرمة، ولو كان عن جهل منك لعذرناك ولكنه عن قصد لإثارة الفتنة بين أهل السنة فعزلناك. فمن واجبك التزام الأدب الذي هو من صالحك وصالحنا وعدم التعرض لإثارة الفتن الضارة ولا الأقوال الشاذة، إذ تحريم المتعة هو من الأمر الجلي الذي لا يخالطه غبار من الشك.

وستجد في رسالتنا ما يشفي ويروي الغليل مما لا شك في صحته. وإني أرجو أن تكون لك بمثابة العظة النافعة، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع. والسلام.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

* * *

بطلان نكاح المتعة بمقتضى الدلائل من الكتاب والسنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمّد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنّته واتبع هداه، أما بعد:

فإنني رأيت مقالة صادرة عن أحد علماء الشيعة[325] يقول فيها بإباحة متعة النساء ويحث فيها الشباب والشابات على فتح أبواب التمتع من بعضهم مع بعض بالنكاح المؤقت باليوم واليومين والأسبوع والشهر، ليشبعوا بذلك شهوتهم بدون تكلف النكاح الشرعي الذي يشق عليهم فعله وفعل ما يترتب عليه من الصداق والنفقة.

وهذه دعوة سافرة إلى فتح أبواب الزنا والتوسع فيه، مما يجعل الشباب ينصرفون عن النكاح الشرعي، وكانت هذه القضية هي مما عفا عليه الأثر ولم يبق عند علماء المسلمين كافة أي اهتمام بها ولا ذكر، لكونها معلومة البطلان بواضح الكتاب والسنة والإجماع.

ثم إنه يستدل لتأييد رأيه بالنقول الباطلة غير الصحيحة وبالأحاديث المنسوخة، فتراه يقول ذكر البخاري في كتابه كذا وذكر مسلم كذا وذكر الرازي كذا بما لا حقيقة له، ولم أجده ذكر في مقالته حديثًا واحدًا بلفظه أو معناه، لكنه عندما يسوق حديثًا كحديث الإمام علي رضي الله عنه أن رسول الله رخص في المتعة في أول الإسلام، ثم نهى عنها عام خيبر وقبل عام الفتح نهيًا عامًّا دائمًا إلى يوم القيامة، فتراه يحتج بالمنسوخ من قوله رخص النبي ﷺ في المتعة ويترك الناسخ تغريرًا وتدليسًا لأسماع الناس، مع العلم أنني لم أره ذكر حديثًا واحدًا صحيحًا بلفظه يؤيد صحة ما ذهب إليه، إلا أن يكون منسوخًا قد بطل العمل به.

إن أول كلمة بدأ بها مقالته هي قوله: (إن المتعة كانت مباحة، وإن أول من قال بتحريمها هو الخليفة الثاني) يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو يحاول إلصاقها بعمر ليستبيح بذلك حرمة تحريمها وينزه الرسول عنها، وهذا ليس محمولاً على عدم معرفته أحاديث النسخ لها وإجماع الصحابة على تحريمها، وإنّما فعله تلبيسًا على أسماع الناس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١ [آل عمران: 71].

ولَبْس الحق بالباطل هو تغطيته به، بحيث يظهر الباطل في صورة الحق، فيظهر للناس باطله في صورة الحق وهو في الحقيقة باطل.

ومن لوازم هذا التدليس كتمانُ الحق وعدم بيانه، لأنه لو بينه للناس لعرفوا حقيقة بطلان قوله كله.

وإباحته في بدء الإسلام إنما نشأت عن بقاء الناس على حالتهم في الجاهلية، وكان هذا نوعًا من أنكحتهم، ويسمى في القرآن بالمتخذات أخدان. كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرّ عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كن ينصبن على أبوابهنّ رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد ﷺ بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.

وبه يعلم أن نكاح المتعة هو من قبيل ﴿مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] حيث يختص بها واحد بدون مشارك في زمن محدود، كما هو الواقع من فعل كثير من النساء الزواني اللاتي يراعين التستر، وبذلك أنزل الله تعالى قوله: ﴿فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25] فسمى الله الصداق أجرة وأجرًا كما قال سبحانه: ﴿وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة: 5] وفي قصة موسى قول شعيب: ﴿إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرٗا فَمِنۡ عِندِكَۖ [القصص: 27]، فتزوجها موسى برعاية غنم شعيب ثماني سنين ثم كمّلها عشرًا. فليس في الشريعة الإسلامية نكاح مباح إلا نكاح الزوجة أو الأمة، فمن ابتغى نكاحًا غيرهما فأولئك هم العادون، أي: الذين يطلبون نكاحًا مؤقتا بيوم أو يومين فهم المتعدون لحدود الله والمستحلون لمحارمه.

ثم إن صاحب المقالة رد على من قال بجواز الاستمناء باليد يعني بذلك الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام حيث طرق موضوع هذه القضية، ثم قال بجواز الاستمناء باليد عند الضرورة، وليس رأيه هذا ببدع من القول والزور لجواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، وهو عمل جائز في مذهب الحنابلة، قال في الإقناع ولا يعزر من استمنى بيده، أي لقوة الخلاف فيه وضعف القول بحرمته[326].

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أبناء المهاجرين والأنصار في غزواتهم الطويلة كانوا يستريحون بالاستمناء باليد، وهذا الاستمناء هو كاسمه حقيقة ومعنى ولا يسمى نكاحًا، فإخراج هذا المني إلى التراب أو إلى الفراش أيسر من وضعه في فرج حرام. وقال شيخ الإسلام في فتاويه: إن اضطر الشخص إلى الاستمناء بيده مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن أو يخاف المرض فهذا فيه قولان مشهوران، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف[327].

هذا وإن أساطين الشيعة ورؤساءهم يتعففون عن هذا العمل، فلا نسمع بغني ولا فقير أنه سلم ابنته لرجل باستئجاره لها يومًا أو يومين أو أسبوعًا أو شهرًا باسم نكاح المتعة، فهم يترفعون عن العمل بهذا أو عدم السقوط فيه لدناءته، فهو نكاح مفسدة وتنقل في اللذات، وحتى إن جريمة الزنا قليلة فيما بينهم، وليس فيه شيء من المصالح سوى قضاء وطر الشهوة، بخلاف النكاح الدائم الشرعي، فإنه يترتب عليه مصالح كثيرة منها الإحصان ويعني أنه يحصّن الزوج عن غير زوجته ويحصّنها هي أيضًا، ومتى أشرك مع زوجته غيرها من الأخدان فإنه يفسد به نظام الزوجية الشرعية، فيبغض زوجته وتبغضه.

ومنها أن الله سمى الزوجة سكنًا، فيسكن إليها الزوج وتسكن إليه ويأنس بها، فقال سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ [الروم: 21] فالزوج سكن للمرأة يسكن إليها ويطمئن بها، فتجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم. فمسكين مسكين رجل بلا زوجة، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات. كما أن الزوج كرامة ونعمة للزوجة، يرفع مستوى ضعفها وينشر جناح وحدتها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُمّ بنين وبنات.

ومنها أن الله سمى الزوجة حرثًا، والذي هو محلٌّ لإنشاء النسل المحبوب تكثيره عند الشرع، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[328]، ولا توجد هذه الميزات في نكاح المتعة الذي غايته قضاء وطر الشهوة لا غير، ولهذا أمر النبي ﷺ بإعلان النكاح واشتهاره لشرفه، فقال ﷺ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ»[329] وقال: «فَرْقُ مَا بَيْنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ»[330] لكون النكاح الحرام يبالغ أهله في إخفائه وعدم بيانه، فنكاح المتعة غايته تفنُّن الذوق والتنقل في اللذات بدون رغبة منه ولا منها في إنجاب البنين والبنات، بل إنه من الأسباب التي ينقطع بها النسل، لأنه متى تعاقب الرجال على المرأة بحيث تكون عند أحدهم شهرًا وعند الآخر الشهر الثاني فإنه بذلك يفسد نظام الحمل من أجل اختلاط المياه في الرحم، إذ هي بهذه الصفة من قبيل المتخذات أخدان.

وفي مذهب الزيدية: أن النكاح مؤبد، فلا يجوز عندهم نكاح المتعة أو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا أو أكثر من ذلك. فقد حدث زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم: أن رسول الله ﷺ نهى عن المتعة عام خيبر.

وأخرج البخاري ومسلم والمؤيد بالله في شرح التجريد وغيرهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما عن علي ابن أبي طالب: أن رسول اللهﷺ نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسيّة[331].

وأخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.

وأخرج البيهقي أيضًا أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن المتعة فقال: حرام. قال: فإن فلانًا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله ﷺ حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين. وهذا يدل على تحريم المتعة.

ثم إن الشيعة تمسكوا في استدلالهم على نكاح المتعة بقوله سبحانه: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَ‍َٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ [النساء: 24] وهذا الاستدلال لا صحة له، فإن هذه الآية سيقت في بيان ما يحل ويحرم من نكاح النساء كما يُعلم من نظمها فيما قبلها وما بعدها، وأن يكون الغرض المقصود من النكاح هو الإحصان وطلب النسل دون التمتع بسفح الماء والتنقل في اللذات والتي يكون حظ الحيوان فيها أكثر من حظ الإنسان، ثم إن السنة تفسر القرآن وتبين ما أشكل منه، وقد فسرت السنة هذا الاستمتاع وأن المراد به النكاح الشرعي.

فقد روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت، وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا». فدل هذا الحديث على نفس ما دلت عليه الآية، وأن المراد بقوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ أي بالنكاح الشرعي الذي يتخلله الطلاق عند عدم الوفاق، كما قال: «وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» ونكاح المتعة ليس فيه طلاق ولا نفقة ولا ميراث، فيجوز عندهم أن يستأجرها بنكاح المتعة[332] فهو يتمشى على طريقة السفاح، بحيث إن الرجل يتفق مع المسافحة أسبوعًا أو شهرًا بأجر مسمى على سبيل الاختصاص بدون مشارك، ثم يتفق الثاني معها كذلك، إلا أنهم لا يذكرون فيه نكاح المتعة. ولهذا قال علي رضي الله عنه: لا أوتى بمستمتعين إلاّ رجمتهما.

فقوله: ﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ أي تمتعتم، والزوجة تسمى متاعًا كما روى الإمام أحمد والدارمي أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». ثم إن النكاح الشرعي المؤبد يخالف نكاح المتعة المقدر بيوم أو أسبوع أو شهر، فإن نكاح المتعة ليس فيه سوى قضاء وطر الشهوة فقط، بحيث يسفح ماءه في فرجها، فهو يزيد في الولوع والشغف في التنقل في اللذات، فكلما سفح ماءه في امرأة انصرف عنها إلى غيرها، لكون الحب إذا نكح فسد، ولكون المتمتع بنكاح المتعة لا يقصد الإحصان وإنما يقصد مجرد السفاح والتنقل في اللذات بين المشتهيات، فتزداد به المرأة جنونًا لا إحصانًا، بحيث تنصرف برغبتها عن النكاح الشرعي، ومن شروط النكاح الشرعي هو أن يكون عن رغبة في استدامة بقائها لإحصانه بها وطلب النسل منها، أما إذا تزوجها على عزم أن يطلقها بعد يوم أو يومين أو أسبوع، أو على نية أن يبيحها لزوجها الأول فإن هذا نكاح باطل ولا ينعقد ولا تحل به المرأة لزوجها الأول، ويسمى التيس المستعار.

عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله ﷺ المحلِّل والمحلَّل له. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.

ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١ [المعارج: 29-31] أي: المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.

إن متعة النساء في استئجار المرأة لوطئها يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا كانت من عمل الجاهلية، ثم بقيت على حالة الإباحة في أول الإسلام حيث كان الناس في شدة وحاجة، فلما وسع الله عليهم بالمال يوم فتح خيبر أي عام ستة من الهجرة حرمها رسول الله ﷺ عن الله تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، وقال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»[333].

فلقد أُبيحت متعة النساء لهم في أول الإسلام كحالتهم في الجاهلية حيث كانوا مصابين بالفقر الشديد والفاقة وبالجوع والعراء، حيث كانوا يتقاسمون في بعض أسفارهم بالتمرة الواحدة، وحيث كان يوجد من بينهم سبعون رجلاً ما منهم رجل عليه إزار ورداء، بل إما إزار وإما رداء قد ربطوها في أعناقهم. وفي الصحيحين أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي. فنظر إليها ثم صوب نظره، ثم طأطأ رسول الله ﷺ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست. فقام رجل فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فقال: لا والله. قال: «انْظُرْ، وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ» قال: والله ما عندي ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه. وليس عليه سوى إزار، فقال رسول الله ﷺ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنْ هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟» فقال: نعم، معي سورة كذا وكذا. قال: «اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». مما يدل على أن متعة النساء قد أبيحت في زمان أُبيح فيه أكل الميتة، وهذا معنى الفتوى التي قيل: إن ابن عباس أفتى بها. على أنه ليس بمعصوم، وقد زجره الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ما أراك تاركًا هنيّاتك، أما علمت أن رسول الله ﷺ قد حرمها؟!

وجاء سعيد بن جبير إليه فقال: ما هذه الفتوى التي سمعت الناس يتحدثون بها؟ فقال: ما يقولون؟ قال: يقولون: إنك أبحت متعة النساء، وقد سمعت ركاب الإبل يتغنون بها. فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون:
أقول للشيخ لما طال مجلسه
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في خصـرة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: والله ما قلت إلا أنها محرمة كحرمة الميتة والدم ولحم الخنزير.

وليس تأخير تحريم متعة النساء إلى زمن خيبر ببدع من القول للحكمة والمصلحة، فإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وكانت الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام تنزل على النبي ﷺ شيئًا بعد شيء، كما كان بعضهم يكلم بعضًا في نفس الصلاة فقال لهم النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ»[334] ويقول الله سبحانه: ﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ [البقرة: 106] فقد أُبيح للنّاس شرب الخمر في أول الإسلام، فكان أول آية نزلت في التمهيد لتحريمه هي قوله سبحانه: ﴿لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [النساء: 43]، ثم أنزل الله بعدها ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ [البقرة: 219].

ومتى كان الشيء إثمه أكبر من نفعه وجب اجتنابه، ثم أنزل الله في السنة التاسعة من الهجرة قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ [المائدة: 90]، وهذه من سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. وهذا تحريم مؤبّد يكفر مستحلُّه، حتى إن الصحابة حزنوا على من قتل شهيدًا وهي في بطنه، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ [المائدة: 93]، لكون الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها لقوله سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥ [الإسراء: 15] ومثله صلاة الصحابة إلى جهة المشرق، وهو قبلة اليهود والنصارى، حتى أنزل الله: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ [البقرة: 144] وأتى رجل إلى بني عبد الأشهل وهم يصلون الفجر مستقبلين المشرق، فقال: أشهد بالله لقد أنزل الله على رسوله قرآنًا، وأمر أن نستقبل القبلة. فاستداروا وهم في صلاتهم إلى جهة القبلة.

إن الله سبحانه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالخمر والميسر ومتعة النساء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، ولهذا أوجب العلماء إقامة الحد على من يستحل متعة النساء لإجماع الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين على تحريمها إلى يوم القيامة، ولا عبرة بشذوذ الشيعة في هذا. وما نسبوه إلى أحد الصحابة كأبيٍّ وابن مسعود من أنهما فعلا المتعة زمن النبي ﷺ فإنه - على فرض صحته - محمول على فعله قبل تحريمه. وإلا فحاشا وكلاّ أن يستبيحا فعلها بعد تحريم النبي ﷺ لها وانعقاد إجماع الصحابة عل تحريمها بالنصوص الصحيحة الصريحة. ومثله ما نسبوه إلى علي رضي الله عنه من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلا شقي. فإن هذا من الكذب المفترى صريحًا على علي وعلى عمر رضي الله عنهما بشهادة علي على ذلك، فإن له في البخاري حديثين يبين فيهما أن رسول الله ﷺ حرم المتعة والحمر الأهليّة عام خيبر، ولم يحرمها عمر من تلقاء نفسه كما يقوله أعداؤه.

فقد أخرج البيهقي عن طريق عبد الله بن لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وأما احتجاج الشيعة بما روى مسلم عن جابر بن عبد الله: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر حتى نهى عنها عمر. فدعوى إسناد إنشاء التحريم إلى عمر هو باطل قطعًا، فما كان نهي عمر إلا بمثابة التبليغ والتنفيذ لحكم رسول الله ﷺ في تحريمها، إذ هو من واجبه، والنبي ﷺ قال: «فَلْيُبَلِّغُ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».

ثم قوله: كنا نتمتع على عهد رسول الله وأبي بكر. فإن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم عن علي وعن سلمة بن الأكوع وعن ابن عمر، ولا يبعد أن يكون حديث جابر مكذوبًا عليه أو أنه دخل فيه شيء من زيادة بعض الرواة. والصحيح هو ما رواه مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا». فهذا الحديث فيه ذكر الناسخ والمنسوخ، وكون التحريم صدر عن رسول الله ﷺ عن الله ولم يقع من عمر ابتداءً إلا على سبيل التبليغ والتنفيذ عن الله سبحانه وتعالى.

ومثله الحديث الذي احتج به صاحب المقالة عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو في الصحيحين قال: كنا نغزو مع رسول الله ﷺ ليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله ألا نختصي؟. فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. ثم قرأ ابن مسعود: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٨٧ [المائدة: 87].

إن من عادة صاحب المقالة أن يحتج بالمنسوخ الذي زال حكمه وبطل العمل به ويترك الناسخ المحكم الذي يجب العمل به والحكم بموجبه.

ونحن لا ننكر إباحة متعة النساء في أول الإسلام على حسب حالتهم في الجاهلية وكونهم يستأجرون المرأة في أسفارهم الطويلة بالثوب وبالقبضة من التمر وبالقبضة من الدقيق، فابن مسعود وجابر - على فرض صحة حديثيهما - يتحدثان عن حالتيهما في الجاهلية قبل تحريمها، كما يتحدث الصحابة عن شربهم الخمر قبل أن تحرم عليهم، وكما يتحدثون عن صلاتهم إلى المشرق قبل أن يحولوا إلى جهة الكعبة، وكما يتحدثون عن كون أحدهم يكلم صاحبه بحاجته وهو في صلاته زمن النبي ﷺ حتى أنزل الله ﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ ٢٣٨ أي: ساكتين. فقال لهم النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ». لكون أحكام الشرائع من الفرائض والمحرمات تنزل شيئًا بعد شيء، وإنما يؤخذ بالأخير فالأخير من أقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحكامه، وملاك الأمر خواتمه، وكل الصحابة مجمعون على تحريمها كالزنا سوى ما نسب إلى ابن عباس للمضطر، وقد تحامل عليه الإمام علي رضي الله عنه باللوم والتعنيف وقال له: إنك امرؤ تائه، فرجع ابن عباس عن فتواه، والصحابة كغيرهم يخطىء أحدهم في فتواه ويصيب.

قال في الروضة الندية[335]:

ونكاح المتعة قال في الحجة: رخص فيها ﷺ أيامًا ثم نهى عنها. أما الترخيص أولاً فلمكان حاجة تدعو إليه، كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله. أشار ابن عباس إلى أنها لم تكن يومئذ استئجارًا على مجرد البضع، بل كان ذلك مغمورًا في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل، كيف والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ووقاحة يمجها الطبع السليم؟!

وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات، وأيضًا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب، لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه، ويكون الأمر بيدها فلا يدري ماذا تصنع؟ وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأبيد في غاية العسر فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع، فإن أكثر الراغبين في النكاح إنما غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج، وأيضًا فإن من الأمور التي يتميز بها النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس... انتهى. وفي شرح السنة اتفق العلماء على تحريم المتعة، وهو كالإجماع بين المسلمين...

* * *

[325] المقالة صادرة عن عيسى الخاقاني. [326] ذكره صاحب الإقناع في باب التعزير من كتاب الحدود من المجلد الثالث. [327] المسألة 38 ص62 من المجلد الأول لفتاوى ابن تيمية. [328] أخرجه النسائي من حديث معقل بن يسار. [329] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن الزبير. [330] أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد من حديث محمد بن حاطب. [331] أخرجه الدارمي وابن أبي شيبة من حديث علي. [332] بل إنهم يجيزون نكاح المتعة بالمرة والمرتين ومع بنت لها عشر سنين ولو بدون إذن أبيها، قاله في النهاية من كتب الشيعة: (وبهذا فهو لا يغادر من الزنا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها). [333] أخرجه مسلم من حديث سبرة الجهني. [334] أخرجه أبو يعلى من حديث عبد الله بن مسعود. [335] لصاحبها الإمام صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجى البخاري. في الجزء الأول: ص 15.

إن الحاجة إلى النكاح ليست من الضرورة التي تبيح المحظور من الزنا ونكاح المتعة

ولقد قيل: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، وتأبى الدنية ولو اضطرت إليها. إن قول صاحب المقالة:

(إن نكاح المتعة أُبيح في حالة الضرورة، وإن أكثر الشباب لا يستطيعون النكاح الشرعي لصعوبة التكاليف المترتبة عليه من الصداق وغيرها، فصاروا واقعين في هذه الضرورة التي تبيح لهم نكاح المتعة أشبه إباحة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشربة الخمر لدفع اللقمة التي يغص بها).

فالجواب أن هذا الخطاب بعيد عن الصواب.

ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، فجعل جميع المنهيات من الأشياء التي يجب اجتنابها ولا يعذر أحد بارتكابها كالربا والزنا وشرب الخمر؛ لأن هذه كلها ليست بأحمال على الجسم، وليست بأكل وشرب مما يفتقر إليه الجسم، بل كلها من التروك، بل كل المنهيّات كهذه تركها أنفع من فعلها، وإنما تحتاج إلى شدة حزم وقوة عزم في انصراف النفس عنها، بخلاف الأوامر فإنها على حسب الاستطاعة: صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب؛ لأن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

فلو فعل أحد شيئًا من المنهيات والحدود وجب أن يعاقب بما يستحقه من الحد أو التعزير الذي يرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ [النور: 2]. لأن من لا يكرم نفسه لا يكرم، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ [الحج: 18]. لأن الله سبحانه شرع الحدود للزجر بها عن مواقعة المنهيات كالزنا ونكاح المتعة وغيرها، فكما أنه لا يستجاب لمرتكب كبيرة الزنا في دعوى الضرورة، فكذلك نكاح المتعة وهو محرم كالزنا.

فقول بعضهم: إن نكاح المتعة محرم كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. فإن هذا التعريف قاصر عن حدود التعريف بتحريمها، وفيه شيء من التدليس والتلبيس على أسماع الناس.

فإن نكاح المتعة حرام إلى يوم القيامة، كما روى مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»[336]. وخطب النبي ﷺ بذلك عام الفتح. فهذا هو التعريف الكافي الشافي كما رواه الدارقطني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ليس من تحريم المؤبد إلى يوم القيامة بل له أجل ينتهي إليه وهو وجود الضرورة المقتضية لإباحته، فمتى أُصيب الإنسان بالجوع الشديد الذي أشفى منه على الهلاك أُبيح له أن يتناول من الميتة أو لحم الخنزير ما يسدّ به رمقه، ولو مات بدون أن يتناول منها عُدّ عاصيًا. وقد قال بعض العلماء: إنني لن أوتى برجل مات جوعًا ولم يأكل من الميتة، فإنني لا أُصلي عليه. لكونه قد أعان على قتل نفسه، والمطلوب منه إحياؤها ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا.

ومثله إباحة الدم للضرورة، وقد صار من أكبر العوامل والأدوية عند الأطباء في تدارك صحة المصابين بالجروح البليغة وبالرصاص الذي ينزف الدم عن الجسم، فيكون في حالة ضرورة في تدارك علاجه بالدم لسريانه في الجسم مما عسى أن تتدارك به حياته وصحته، لكونه لا بقاء للجسم بعد خروج الدم منه، بخلاف نكاح المتعة فإنه لا ضرورة إليه، وإنما يزداد صحة بتركه، وقد قال رسول الله ﷺ لرجل: «أقلِل من النكاح فإنه نور عينيك وقوة ساقيك». وقيل:
أقلل نكاحك ما استطعت فإنه
ماء الحياة يصب في الأرحام
ولو كانت شهوة النكاح التي يجدها الإنسان في نفسه تبيح له نكاح المتعة لقيل بجواز الزنا للضرورة إذ هما في الحكم سواء، بل إن نكاح المتعة أشد من الزنا، فإن الزنا يستخفي به أهله أما نكاح المتعة فيجهرون به.

وقد حدثني رجل من الثقات قال: أتيت أصفهان فوجدت نساء كثيرات صفوفًا ينادين الرجال بأصوات عالية: المتعة... المتعة!!

ومتى كان في مذهبهم وعقيدتهم أنه يجوز استئجار المرأة باليوم واليومين وبالمرّة والمرتين ويجوز مع بنت ابنة تسع سنين وعشر سنين بدون إذن أبيها أو وَليها علمت حينئذٍ أنه الزنا قطعًا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الزنا إلا أحصاها.

تبقى تسميته بالمتعة، والأسماء لا تغير المسميات عن حقائقها وأوصافها، كما أخبر النبي ﷺ عن أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها.

ومن القواعد الأُصولية أن الاعتبار في العقود بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها ومبانيها.

فدعوى عدم صبره عنها حجة داحضة، نظير إحالة ارتكابه لها على القضاء والقدر، وما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون، ولما جيء عمر بن الخطاب بسارق فقال له: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره. فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. فأمر به فقطعت يده[337].

وقد شرع الله الحدود لتكون بمثابة الزواجر عن ارتكاب الجرائم. وحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحًا؛ لأن الحدود تقلل من فشو انتشار المنكرات من الزنا وشرب الخمر، فلا يقبل من أحد دعوى ضرورته وعدم صبره عند تغلب شهوته على عقله، ولو كان كذلك لفسد باب الأمر والنهي اللذين عليهما مدار أحكام الشرع.

أفيقال: إن الزنا مباح للضرورة في حق من لا يستطيع الصبر عنه والله تعالى يقول: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٣١ [المعارج: 29-31] فجعل كل من طلب نكاحًا غير النكاح الدائم الشرعي وملك اليمين أنه من المعتدين لحدود الله. ومثله دعوى عدم الصبر عن شرب الخمر.

فكيف يقاس أكل الميتة للمضطر التي لو ترك أكلها لمات؟! وقد قال بعض العلماء: لو ترك أكلها فمات لا يصلَّى عليه، فكيف يقاس هذا على ضرورة الشهوة إلى النكاح التي لا يخشى على أحد الهلاك بتركه، وبعض الناس يؤثر البقاء على العزوبة مع توفر الشهوة. ومثله لو غص بلقمة فدفعها بشربة خمر التي هي نادرة الوقوع ولعلها لم يقع لها نظير في الدنيا.

وقد رأينا بعض العلماء من جعل هذه حجة في إباحة ربا النسيئة للمضطر الذي يكفر من قال بإباحته، ولا شك أن هذا من باب الترخص الجافي، والأحكام الشرعية يجب ألا تعارض بترخص جافٍ، ولا تشدُّد غالٍ، ولا تحمل على علة تُوهن الانقياد للحكم.

والنبي ﷺ حرم الربا بموقف جميع الناس بعرفة عام حجة الوداع فقال: «إِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[338].

فحرم الربا تحريمًا عامًّا بدون استثناء مع كونه عمدة تجارتهم، فقد اشتهرت قريش بالتجارات الواسعة من أجل رحلاتهم الصيفية والشتوية ومن أجل توسعهم في المعاملات الربوية، مع العلم أن جميع العرب سوادهم في حاجة وفقر شديد، فكانوا يقتسمون الزاد بالتمرة الواحدة في غزوة العسرة القريبة من حجة الوداع، ومع هذا فلم يبح رسول الله ﷺ تعاطي الربا للمضطر لدخوله في عموم قوله: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»[339]، لكون الشخص متى صحت نيته وصدقت عزيمته سهل عليه مفارقة المألوفات المحرمة، كما قيل:
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على
حب الرَّضاع وإن تفطمه ينفطم
ولهذا عزف الصحابة عن التعامل بالربا، فلم يبق له ذكر بينهم امتثالاً لأمر الله وطاعة لرسوله، ولم يقولوا: لا نستطيع تركه؛ لأن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ [الطلاق: 4]. ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ [الطلاق: 2-3]، ومثله عزوفهم عن الخمر التي كانوا قد شبوا على شربها ونشؤوا على حبها وإدمان شربها، ولما بلغهم تحريمها أخذوا يرمون الأوعية من أيديهم، ثم خرجوا إلى السوق وبه ظروف الخمر فجعلوا يطعنونها بالسكاكين حتى سالت بالأزقة وهم يقولون: والله إن كنا لنكرمك عن هذا المصرع وأما اليوم فقد أهانك الله. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ [الحج:18] ولم يقولوا: لا نستطيع تركها. ولم يتعالوا بدعوى الضرورة، وهكذا يقال في نكاح المتعة.

فقد كان العرب في جاهليتهم يستأجرون المرأة بالثوب وبالأتوار[340] من الأقط[341] والشعير، ولما بلغهم خبر تحريمها وخطبهم النبي ﷺ قائلاً: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» رواه مسلم. فعزفوا عنها كلهم غنيهم وفقيرهم لكونها من التحريم المؤبد إلى يوم القيامة كما يدل له لفظ الحديث، ثم إن النكاح قد يصبر عنه بعض الناس السنين الطويلة مع رجوليتهم وقوة شهوتهم خصوصًا الرؤساء والمجاهدين والمشتغلين بالعلم والتجارة والصناعة، فإنهم ينصرفون عنه الانصراف الكلي بدون أن يحسوا بشدة، وكانوا يتغربون عن أهلهم السنتين والثلاث ولا يجدون مسًّا من تعب العزوبة، وكنت ممن تغرب عن الأهل في طلب العلم أربع سنين ولم أجد مشقة في الغربة ولا في العزوبة، لكون الاشتغال بالعلم وبالأعمال الدينية والمالية يستدعي الانصراف الكلي، على حد ما قيل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
عن النساء ولو باتت بأطهار
وإن الذين يولعون بمجالسة النساء والعكوف بينهن هم الفارغون البطالون الذين ليسوا في عمل دنيا ولا دين، وكذا الذواقون الذين يتنقلون في اللذات بين المشتهيات، فلا يشبع نهمة أحدهم شيء، حتى قيل: إنه لو كان مع رجل جميع نساء أهل العراق، فقدمت امرأة من الشام، وذكر له جمالها لتمنى أن تكون زوجة له مضافة إلى نساء أهل العراق. وقد قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت بها سعة
لها إلى الشـيء لم تظفر به نظر
لكن من قرَّ عينًا بعيشه نفعه، ومن جمع الضرَّات يطلب لذة فقد بات في الأضرار غير سديد.

لهذا رأينا شعراء العرب كامرئ القيس وزهير وعمر بن أبي ربيعة وكثير عزة رأيناهم يكثرون المديح والمبالغة في أوصاف النساء وذكر محاسنهن بدقة الأوصاف الجميلة، خصوصًا عندما يريد تقديم قصيدة على فاضل، كما قدم زهير قصيدته في معشوقته سعاد، لأن عندهم متى جاد المدح في المليح فالنسيب مقدم. فبالغوا في الغوص على الأوصاف الشائعة المشتملة على الصدق والكذب، حتى قيل: أعذبه أكذبه، كله من أجل غلبة الفراغ عليهم وكثرة اختلاطهم بالنساء في البادية زمن الجاهلية.

غير أن عشقهم يُتصور على ألسنتهم، وإلا فمن المشهور اتصافهم بالعفاف والحصانة، كما في قصة بيعة النبي ﷺ للنساء حينما قال: «لَا تُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقْنَ، وَلَا تَزْنِينَ»[342] فقالت هند: أوتزني الحرة يا رسول الله؟! استنكارًا لذلك، لكون الزنا إنما يعرف في الإماء، ولسنا بهذا ننكر شدة حاجة الرجل إلى المرأة الحاجة الضرورية من جهة الناحية الجنسية أو الاجتماعية، لكن هذه الحاجة الضرورية لا ينبغي أن ترقى إلى درجة استحلال المحظورات من الزنا ونكاح المتعة لكونها من اللذات ونعيم الحياة، يقول الله سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ [آل‌عمران: 14] والمزيِّن هو الله، والنبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ».[343] وقد تكلمنا في بعض مذكراتنا على شدة حاجة الرجل إلى المرأة وحاجتها إليه عند قوله سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ [الروم: 21].

فقلنا: إن المرأة سكن للزوج، تجلب إليه الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم، فمسكين رجل بلا امرأة، والعزاب هو أراذل الأحياء وشرار الأموات، فمتى تعاملا بينهما بالمودة والرحمة فإنها السعادة الزوجية في الحياة، كما أن الزوج كرامة للمرأة، يرفع مستوى ضعفها، وينشر جناح وحدتها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُم بنين وبنات. ولا توجد هذه الميزات في المنكوحة بالمتعة لأنها ليست بزوجة.

ولما جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب تجادله في خصومة لها أنشدها:
إن النساء شياطين خلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
فقالت ليس كذلك ولكن قال الشاعر:
إن النساء رياحين خلقن لكم
وكلكم يشتهي شمَّ الرياحين
ثم رأينا صاحب المقالة يحتج بما زعم بأنه قول العلامة ابن القيم في زاد المعاد، وهو كذب منه فإن العلامة يجزم بتحريمها.

لكنه في بحثه في فتح مكة طرق موضوع تحريم متعة النساء، قال: من العلماء من قال: إنها حرمت يوم خيبر. وعليه تدل أحاديث علي في البخاري.

ومنهم من قال: إنما حرمت عام فتح مكة. ورجح هذا القول لما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع: أن النبي ﷺ نهى عن متعة النساء عام أوطاس. أي يوم حنين، وهو عام فتح مكة.

ثم طرق موضوع الخلاف وهل تحريمها كتحريم الميتة ولحم الخنزير؟ أو هو تحريم مؤبد في الحضر والسفر، وهذا هو الصحيح لحديث ربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[344] ثم قال العلامة ابن القيم: إن رسول الله رخص فيها - أي في ذلك الزمان - للضرورة والحاجة في الغزو، فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح الشرعي المعتاد فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين. انتهى.

وبه يعلم أن النصوص الصحيحة الصريحة ترد على من ادعى أن بدء تحريم متعة النساء وقع من عمر اجتهادًا منه واستجاب الصحابة له من أجل هيبته، وهذا كله من الكذب على الله ورسوله وعلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ولم نر لهذا القول سندًا صحيحًا ولا حسنًا، بل هو من نوع الكذب المفترى على عمر لكون الشيعة يبغضون عمر أشد البغض، ولهذا شددوا في الإنكار على من يقول بتحريم المتعة مع ظواهر النصوص الصريحة المؤيدة للتحريم مع الإجماع العام ولا عبرة بشذوذ المخالفين.

أما نهي عمر عن التمتع في الحج فإن له أصلاً من الصحة في الصحاح، وهو رأي رآه. والرأي يخطىء ويصيب، وليس الصحابي بمعصوم، فقد رأى أن يفرد الحج بسفرة ويفرد العمرة بسفرة، فخالفه الصحابة على ذلك، وإن رسول الله ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج في حجّة الوداع ولم ينسخها شيء وبقي العمل بها إلى الآن، وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج، فإذا طاف طواف العمرة وسعى سعي العمرة قصّر من شعره، ثم يلبس ثيابه ويتمتع بما هو مباح له من الطيب والنساء وغير ذلك من المحظورات كحالته قبل الإحرام، فإذا كان يوم الثامن يحرم بالحج، فهذه هي التي قال فيها ابن عباس - حين نهى عمر عن التمتع -: يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر. أما القول بالنهي عن متعة النساء فإنما ذكره - على فرض صحته - إبلاغًا للسنة واشتهارًا لها، ليبلغ الشاهد الغائب.

ومن الكذب أيضًا ما نسبوه إلى علي من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي[345]. فهذا مما لا صحة له وينزه الإمام علي عنه، فقد ثبت عنه في الصحيحين من طريقين أن النبي ﷺ نهى عن متعة النساء عام خيبر، وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص رسول الله ﷺ عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها. رواه مسلم. وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن المتعة عام خيبر. متفق عليه. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء وعن الحمر الأهلية يوم خيبر. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وابن حبان.

وعن ربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا». رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه. قال أبو محمد بن حزم في المحلى، الجزء الحادي عشر: ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل، وكان حلالاً على عهد رسول الله ﷺ، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ نسخًا باتًّا إلى يوم القيامة.

ثم قال بعد ذكره للخلاف بين الصحابة في بداية تحريمها: ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت وهو ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ. فذكر الحديث، وفيه: فقال: سمعت رسول الله ﷺ على المنبر يخطب ويقول: «مَنْ كَانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ فَلْيُعْطِهَا مَا سَمَّى لَهَا، وَلَا يَسْتَرْجِعْ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا، وَيُفَارِقُهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنّا نسخه.

فهذه النصوص الصحيحة المريحة تكذب ما نسبوه إلى علي من قوله: لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.

وإن من حكمة الله في شرعه وخلقه أنه لا يسد عن النفوس باب ممنوعها إلا ويفتح لها باب مشروعها، لأن من ترك شيئًا لله عوضه الله ما هو خير منه، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ [الطلاق: 2-3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ [الطلاق: 4].

لهذا حث النبي ﷺ على النكاح الشرعي لكونه من أسباب الغنى لقوله سبحانه: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32] فكم فقير عاد بعد الزواج غنيًّا.

وكذلك حث النبي ﷺ أمته على فتح أبوابه وتسهيل طرقه وأسبابه، فقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»[346] ولم يقل: ومن لم يستطع فعليه بنكاح المتعة.

وقال: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ»[347] وخير النكاح أقله[348] كلفة، وقد أجاز نكاح امرأة بنعلين، وبوزن نواة من ذهب، وبخاتم من حديد، وبتعليم سورة أو سورتين من القرآن، وكذلك التخفيف من مؤونة وليمة العرس وغيرها، فقال: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»[349]، وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه بمدين من شعير، ولم يتزوج أحدًا من نسائه ولا زوج أحدًا من بناته بأكثر من خمسمائة درهم، وهو قدر يقل عن مائة ريال، فلا يزني مع هذه التسهيلات إلا شقيّ، ولا يكلف الخاطب الزيادة في الصداق إلا بخيل[350].

ثم إن الشيعة يستدلون على رأيهم بما هو معلوم البطلان لتضليل العوام وضعفة العقول والأفهام، فهم يوردون لتأييد رأيهم ما دب ودرج من الأحاديث الموضوعة والأخبار المنكرة المكذوبة، ومن ذلك قولهم: (قلت لأبي جعفر رضي الله عنه: للتمتع ثواب؟ قال: إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى، وخلافًا على من أنكرها، لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له بها جنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنبًا، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره. قلت: بعدد الشعر؟ قال: بعدد الشعر).

وقولهم عن النبي ﷺ قال: «إني لما أُسري بي إلى السماء لحقني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى يقول: إني غفرت للمتمتعين من أُمتك من النساء».

ذكر أبو زهرة في كتابه موسوعة الفقه الإسلامي المجلد الأول ص3. قال بعد ذكره لأقوال القائلين بإباحة المتعة: وهي مذهبهم واعتقادهم وعليها جمهورهم، لكن يوجد في أعقاب هذه الأقوال من ينكر متعة النساء من علماء الشيعة وينهى عنها أشد النهي.

من ذلك أن تحريم المتعة نقل صحيحًا عن الإمامين أبي جعفر محمد بن الباقر وأبي عبد الله جعفر الصادق وهما إمامان من أئمة الإمامية: فقد رووا أن بسامًا الصيرفي سأل أبا عبد الله جعفر الصادق عن المتعة ووصفها له، قال رضي الله عنه: ذلك هو الزنى، وإنها من المخادنة التي نهى الله تعالى عنها في كثير من آيات القرآن مثل قوله: ﴿مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ [المائدة: 5]، وقوله تعالى: ﴿مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء:25]. ولقد جاء في الكافي عن الحسن بن يحيى بن زيد فقيه العراق أنه قال: أجمع آل رسول الله ﷺ على كراهية المتعة والنهي عنها. والكراهية مع النهي تقتضي التحريم.

ورأس الأئمة بالإجماع عندهم هو علي كرم الله وجهه قد نهى عن المتعة نهيًا مؤكدًا، فقد قال رضي الله عنه: لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما. وقد نقل الكافي وهو أحد المصادر الأربعة لفقههم النهي عنها. وقد وجدنا في كتب الزيدية عن أئمة آل البيت عامة، وعن الإمام جعفر الصادق خاصة ما يثبت أنه يرى المتعة من الزنا. كما نسب هذا القائل القول بإباحة المتعة إلى البخاري ومسلم وعن ابن القيم في زاد المعاد وعن ابن كثير في النهاية وغيرها من الكتب، ليوهم الناس أن هؤلاء يقولون بإباحتها إلى يوم القيامة، وهو كذب صريح عليهم، فإنهم مجمعون كغيرهم على تحريمها إلى يوم القيامة.

والحاصل: أن المتعة ليست إلا من قبيل اتخاذ الأخدان الذي هو معروف من عادات الجاهلية، وسكت عنه النبي ﷺ في أول الإسلام عفوًا حتى يجيء الوقت المعين لإعلان التحريم، وقد حان وقت تحريمه زمن خيبر - أي عام ستة من الهجرة، وقيل: عام الفتح - وإنه بلا ريب لا تتفق المتعة مع مقاصد الإسلام من العلاقة بين الرجل والمرأة التي أحلها الله سبحانه وتعالى بكلمته، ولا يمكن أن يحل الله تعالى بكلمته اتخاذ الأخدان.

ثم إن هذا القرآن الكريم النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج إليه الناس إلا جاء بما يقطع النزاع فيها ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع في شأن هذه القضية وغيرها.

فقد حكى القرآن الكريم عن الرجل المعدم الفقير الذي يشتهي النساء بشدة ولا يستطيع صداق المحصنات الحرائر فماذا يصنع؟ أيحل له أن يستأجر امرأة بأجرة زهيدة إلى أجل مسمى ليتمتع بها أم لا؟ وهي عين القضية التي نحن بصددها قال سبحانه: ﴿وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ [النساء: 25].

ولم يقل: ومن لم يستطع منكم طولاً أي صداقًا - والطول هو الغنى بالصداق - فليتمتع بامرأة بأجر معلوم إلى أجل مسمى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤ فلو كان حلالاً لما سكت عنه القرآن. ولو كانت المتعة تباح بحال لأبيحت لهذا المضطر الذي لم يجد صداقًا للمحصنات، ولكون المقام مقام ضرورة، والمقال جرى على حالة المَخرج من هذه الضرورة، فأباح الله له أن ينكح الجارية المملوكة مع علمه باسترقاق أولاده فيها تبعًا لأُمهم، أما إذا كان غنيًّا يجد صداق الحرة المحصنة فإنه لا يجوز له أن ينكح أمة مملوكة، لكونه يذل نفسه باسترقاق أولاده إلا إذا كانت ملكًا له، وقد نزلت هذه الآية في زمان كان الأرقاء فيه كثيرين، فنكاح الأمة في مثل حالة هذا المقل هو نكاح شرعي يترتب عليه لوازم النكاح الشرعي، فحصرت هذه الآية النكاح في أربعة أمور، منها: اثنان حلالان، واثنان حرامان. فإن الحلال هو نكاح الرغبة الشرعي الدائم، ومنه زواج الفقير بالمرأة المملوكة.

والثاني: النكاح بملك اليمين.

وأما النكاح الحرام فمنه: نكاح المسافحات اللاتي يزني بهن كل أحد.

والثاني: المتخذات أخدان أي التي تزني مع خليل واحد لا يشاركه فيها أحد، وقد جعل العلماء نكاح المتعة من قبيل المتخذات أخدان، وهذه الآية تشبه قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٢٩ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٣٠ [المعارج:29-30] والمستأجرة يومًا أو أسبوعًا في سبيل نكاح المتعة لا تسمى زوجة لا لغة ولا عرفًا، ولا ينطبق عليها أحكام الزوجة الشرعية من الولي والإشهاد والنفقة والطلاق والميراث.

ويدل لهذه الآية قول النبي ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» [351]. أي يكسر من حدة شهوته، ولم يقل: ومن لم يستطع فليتمتع بامرأة بأجر معلوم إلى أجل مسمى، فلو كان جائزًا لوجب بيانه ولما ساغ كتمانه لكونه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، إذ الأمر بنكاح المتعة أيسر من الصوم الذي لا يطيقه أكثر الناس وخاصة الشباب، مما يدل على عدم إباحة المتعة.

ومثله إباحة نكاح الفقير للأمة المملوكة، فإن هذه الأمة لا توجد في كل زمان ومكان وخاصة في هذا الزمان الذي تم فيه إبطال الرق العام وصار الناس كلهم أحرارًا.

ومما ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه لا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر ونكاح المتعة إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

وأنه لو انفتح للشباب والشابات إباحة نكاح المتعة الذي هو سهل وميسَّر لكل أحد بحيث يستأجر المرأة بنقد يسير في زمن قصير كيوم أو أسبوع أو مرة واحدة على مذهبهم يتمتع بها فإنه يفضل هذا على الزواج وتحمل تبعته وتكاليفه.

فلو فتح لهم إباحة هذا لانصرفوا برغبتهم عن النكاح الشرعي، وكذلك تؤثر المرأة أن تبقى خالية من الأزواج وبريئة من الحمل وأعباء مشقته وتكاليفه، لكون المسافِحة لا ترغب أن تحمل ولا رغبة لها في الزواج الشرعي الدائم لكونها مسحورة بالتنقل في اللذات، وكذا الرجل يفضل التنقل من واحدة إلى أخرى، وبذلك يقل النسل أو ينقطع، وقد لعن رسول الله ﷺ الذواقين من الرجال والذواقات من النساء، ويوجد في هذا من المضار ما يوجد في السفاح من قلة النسل واختلاط الأنساب والعداوة بين الأغيار.

ولهذا رأينا من عرفنا من الشيعة أنهم أبعد الناس عن هذا العمل، وأشدهم بغضًا له، فلا نسمع بغني ولا فقير ولا شريف ولا حقير أنه أجر ابنته أو موليته رجلاً يتمتع بنكاحها أسبوعًا أو شهرًا بأجرة معلومة، فهم يترفعون بشرفهم واحترام محارمهم عن السقوط في هذه المهانة، حتى كانت جريمة الزنا نادرة الوجود فيما بينهم، ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٢٦ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا ٢٧[النساء:26-27] والله أعلم.

* * *

[336] رواه مسلم عن ربيع بن سبرة عن أبيه. [337] أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل من حديث عمرو. [338] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.. [339] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [340] الأتوار: جمع تور، والتور هو الإناء من نحاس أو حجارة. [341] الأقط: لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. [342] أخرجه أحمد من حديث أم عطية الأنصارية. [343] أخرجه البيهقي بنحوه من حديث أنس بن مالك. [344] رواه مسلم. [345] كتاب جواهر الكلام في شرائع الإسلام للشيخ محمد حسن بن محمد باقر النجفي. [346] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [347] أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامر. [348] جاء في تحفة الأحوذي، أقله أي: أيسره. [349] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [350] ولنا رسالة في استحباب تخفيف الصداق وجواز تحديده فلتراجع. [351] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.

تقريظ الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد

صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر

أحمد إليكم الله تبارك وتعالى الذي يوفقكم دوامًا إلى الخير وصالح الأعمال، وأُصلي وأُسلم على رسوله الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه، واتبع طريقته إلى يوم الدين

وبعد:

سعدت بالاطلاع على رسالتكم بطلان نكاح المتعة بمقتضى الدلائل من الكتاب والسنة وتتبعت مصادرها.

وقد تبين لي أن الغاية من الرسالة: بيان حكم الشرع في نكاح المتعة إزاء الفتنة بإباحته في العصر الحديث على يد أحد علماء الشيعة، والتي قد تجد لها هوى بين نفوس الشباب والشابات في المجتمع القطري وغيره من المجتمعات الإسلامية، نظرًا لغلاء المهور ووجود أزمة الإسكان، وتعد من عوامل الهدم لكيان المجتمع الإسلامي.

وتبدو قيمة الرسالة في كشف التزييف والتدليس الذي اعتمد في الأدلة لإباحة نكاح المتعة، وهدم رأيهم بأقوال أئمتهم، وبالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم من ذوي العقل الراجح.

وتتميز الرسالة بأسلوب علمي هادئ ومقنع، وتدل على رجاحة عقل مؤلفها، ونقاء قلبه وإخلاصه للإسلام، ورصده لما يعتري المجتمع الإسلامي من شبهات للزيع والضلال، وتقديم الدواء الناجع بالأدلة القاطعة المعتمدة. فجزى الله الشيخ عبد الله بن زيد خيرًا عما يقدم للإسلام، وأجرى على يديه النفع للأمة الإسلامية، وبارك الله في عمره وعمله ونفع به.

الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد رئيس محكمة من الفئة الأولى بالإسكندرية ومعار خبيرًا للبحوث الإسلامية برئاسة المحاكم الشرعية 25رجب 1400 هـ - 8 يونيه 1980م

* * *

(5) الاقتصاد في مؤن النكاح ومراعاة التيسير والتسهيل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمّد رسول الله.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق آدم حين خلقه من تراب ثم قال له: كن، فكان، فصار بشرًا سويًّا فريدًا وحيدًا قبل أن يوجد في الدنيا أحد. فكان يهيم في الفلوات ويستوحش في الخلوات، لا يقرّ له قرار ولا يأوي إلى أهل ولا دار. فبينما هو كذلك إذ نام نومة فاستيقظ، فإذا حواء مخلوقة من ضلعه الأيسر، فسكن إليها وأنس بها، وسُمّي إنسانًا من أجل أنسه بغيره، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه.

يقول الله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ [الروم: 21].

وقد دل الحديث الصحيح على ما دلت عليه الآية من قول النبي ﷺ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت، وَبِهَا عِوَجٌ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» رواه مسلم، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا.

فالمرأة سكن للرجل وكرامة ونعمة له، تجلب إليه الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم، فمسكين مسكين رجل بلا امرأة، والعُزاب هم أراذل الأحياء وشِرار الأموات، كما أن الزوج كرامة ونعمة للمرأة، يرفع مستوى ضعفها، وينشر جناح وحدتها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأُم بنين وبنات. ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةً [الروم: 21].

إن أصفى السرور هو اجتماع المودة والرحمة بين الزوجين؛ لأنها هي السعادة الزوجية، بحيث يحب أحدهما الآخر، ويكرم أحدهما صاحبه، ويعيشان عيشة هنيئة مرضية بأخلاق كريمة زكية. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ.

لكن قد تجعل المودة في الشخص ولا تجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق بعض الأجلاف الجفاة، يحب أحدهم زوجته ولكنه يعاملها كمعاملة المبغض من الضرب والسب واللعن، وشتم الآباء والأُمهات، وربما يكلفها الأعمال الشاقة، ويضيق عليها في النفقة والكسوة الواجبة، حتى تلجئها الحاجة وسوء الحالة إلى الاستنفاق من أهلها.

وقد يتزوج أُخرى عليها، فيقطع صلته بها ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى تكون عنده كالمعلقة، لا هي ذات زوج ولا مطلقة. فهؤلاء يعتبرون من أراذل الناس وأشرارهم الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، فلا أخلاق ولا إنفاق ولا كرم ولا وفاق.

وقد يجعل الله الرحمة ولا يجعل المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء الكرماء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاملها معاملة المحب بالعطف واللطف، لأن الناس يتفاوتون في الأخلاق، كما أنهم يتفاوتون في الأرزاق، فما أُعطي أحد عطاء أفضل من خلق حسن.

إنه ما من أحد من الناس إلا وفيه شيء من النقص، فقد يوجد في المرأة شيء من النقص أو التقصير، إما في الجمال أو في الحال، أو عدم التدبير، لكون الكمال التام متعذرًا من كل رجل وامرأة، غير أن الكرماء يتعاشرون بالشرف، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً». أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة. «إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رواه مسلم.

فالرجل الكريم وصاحب الخلق القويم يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فصارت ناصيتها ميمونة عليه وعلى عياله وأهل بيته، فأنجبت له أولادًا كرماء قاموا بنفعه ونشروا فخر ذكره. قال تعالى: ﴿فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا ١٩ [النساء: 19].

وكم من رجل فتن بمحبة امرأة أو بجمالها فأفسدت عليه دينه ودنياه وخلقه وعياله. قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ [البقرة: 216].

إنه متى تيسر قران الشخص بامرأة صالحة ذات حسب ودين، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة عاجلة وكرامة وافرة، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع، وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[352].

فمن واجب شكر هذه النعمة معاشرة هذه الزوجة بكرم الأخلاق وجميل الوفاق. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ». وقال: «وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، لاسيما المرأة ذات الخلق الحسن والدين، فإنها من خير ما يحظى به الإنسان في حياته وفي بيته، لكونها تربي بناتها وأهل بيتها على الخلق الحسن والدين، وفي البخاري: أن النبي ﷺ قال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ»[353].

إنه متى كان النكاح الشرعي من سنن المرسلين، ومن ضرورات بقاء نوع الآدميين، فإن من الواجب على العقلاء فتح أبوابه وتسهيل طرقه وأسبابه، وذلك بالقضاء على المتطلبات المرهقة والتكاليف الشاقة، التي هي بمثابة العقبة الكؤود في طريق المعوزين والمتوسطين من أبناء المسلمين، بحيث تحول بينهم وبين الاتصال بمن يرغبون نكاحه من بنات عمّهم وأهل بلدهم، فيجب أن يعقدوا الجمعيات على أثر الجمعيات في تبادل الآراء النافعة في سبيل ما يختصر لهم الطريق، ويزيل عن شبابهم الحرج والضيق، وذلك بتخفيض مؤن تكاليف النكاح، الذي يذهب أكثرها في سبيل الإسراف والتبذير والتوسع في العطايا والهدايا وسوء التدبير، فيكون خسارة على الزوج وعلى أهل الزوجة، والمرأة ليست بسلعة توضع للمزايدة بل هي حرة، وإنما تقاطع الناس بالتكلف.

والنبي ﷺ قال: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ»[354]، ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله، فإنه ما أصدق أحدًا من نسائه، ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من خمسمائة درهم. وهو قدر يقل عن مائة ريال، لأن الفضلاء من الكرماء لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل قصدهم اتصال حبل الخاطب الكفء بالمخطوبة في حالة راحة ورفاهية، فهم يحاربون الإسراف الضار بالزوج وأهل الزوجة.

ولا يستنكفون عن خطبة الرجل الكفء لبنت أحدهم وموليته، كما عرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على عثمان بن عفان فاعتذر لعدم رغبته في النكاح، ثم عرضها على أبي بكر الصديق فسكت ولم يجب بنفي ولا إثبات، ثم خطبها رسول الله ﷺ فتزوجها.

إن المتطلبات المرهقة والتكاليف الشاقة قد تركت البنات الأبكار العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة هي جريمة التكاليف الشاقة، يخطب الخاطب فيقولون: هذا ليس بتاجر، ويخطب الآخر فيقولون: هذا مرتبه ليس بكثير، ويخطب الآخر فيقولون: هذا لا يدفع لنا إلا قليلاً. فتذهب نضارة البنت في سبيل هذا الترديد، كأنه يضع ابنته للمزايدة، ولو ترك لها الخيار لقبلت الخاطب الكفء على ما تيسر، وقالت: رزقي ورزقه على الله تعالى.

والله تعالى يقول: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32].

والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، يأمر الله عباده بأن يسهلوا ويساعدوا على تزويج الأيامى. ومعنى الآية أنه لا ينبغي لكم أن تمتنعوا عن إجابة الخاطب الكفء بما تحسونه من قلة ماله وضعف حاله، فإن الزواج من أسباب الغنى، ولأن الفقر وصف عارض يقع فيزول، وكم من فقير عاد بعد الزواج غنيا.

والنبي ﷺ قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ كَبِيْرٌ»[355] إن بعض الناس يعدون بناتهم بمثابة المتاجرة، فمتى خطب أحد منهم ابنته أو أُخته وأجاب خطبته أخذ يسن له السكين ليفصل ما بين لحمه وعظمه، بحيث يفضي إلى زوجته وهو عظم بلا لحم وجسم بلا روح، هذا كله من أجل التكاليف الشاقة التي تلجئه إلى تحمل الديون التي من لوازمها الهموم والغموم، ولم يشعروا أن راحة الزوج ورحمته هي من راحة ابنتهم ورحمتها.

فمن رأي الحزم وفعل أولي العزم تكاتف العقلاء على مراعاة التسهيل والتيسير وعدم التعسير، فإن التيسير يمن وبركة، فيسروا ولا تعسروا. والله إنه ليبلغني عن الرجل الكريم وصاحب الخلق القويم معاملة صهره بالتسامح والتسهيل، حيث يأخذه باليد التي لا توجعه، ثم يسلم إليه زوجته في حالة راحة وعدم كلفة، فيرتفع في نفوسنا قدره، وينتشر بين الناس شرفه وفخره، لأن هذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة.

ومن نصيحتي للمرأة ذات الخلق والدين أن تكون عونًا لزوجها على نوائب الدهر بما تستطيعه، فقد قيل: امرأة الصعلوك إحدى يديه. ولا ينبغي أن تطالبه بما يعجزه ويشق عليه من نفقة زائدة على الحاجة، كساعة ثمينة أو صيغة ذهب أو غير ذلك من الكماليات التي قد يعجز عنها الموظف الصغير ذو الدخل القليل، وحرام عليها أن تقلق راحة زوجها، أو تهجر فراش زوجها، أو تخرج من بيته في سبيل مطالبته بما يعجز عنه ويشق عليه. والنبي ﷺ قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»[356].

فزوجة الموظف الصغير لا ينبغي لها أن تنظر إلى زوجة التاجر أو الملوك، فإن جود الرجل من موجوده، وكل إناء ينضح بما فيه، وعادم الشيء لا يعطيه. فمن واجبها الصبر على حالته وقلته، وعسى الله أن يجعل له بعد عسر يسرًا.

ومما ينبغي أن ننصح به مراعاة الاقتصاد والاقتصار في وليمة العرس، التي وصفها رسول الله ﷺ بأنها شر الطعام يدعى إليها من يأباها ويُمنعها من يأتيها، فيتجنبون التوسع فيها، ويقتصرون على قدر الكفاية، عملا بالسنة حيث قال النبي ﷺ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ». رواه الشيخان، و «لو» قيل: للتكثير، وقيل: للتقليل.

وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه - وهي صفية بنت حيي - بمدين من شعير، وهو سيد الخلق أجمعين. فما يفعله بعض الناس من كون أحدهم يذبح في وليمة العرس خمسين ذبيحة أو أربعين ذبيحة أو أقل أو أكثر، وربما ذبح معها بكرًا من الإبل، ويتبعها الأرز والفواكه، وغالب الناس يعتذورن عن الحضور إليها خصوصًا الفضلاء، فتبقى اللحوم والطعام بحالها، بحيث تحمل ويقذف بها في مواضع القمامة وبطون الأنعام، ونفوس الكثير من الفقراء تحن إلى القدر. ولا شك أن هذا مال ضائع على الزوج وعلى أهل الزوجة كما قيل:
ولم يحفظ مُضَاعَ المجدِ شيءٌ
من الأشياء كالمالِ المضاعِ
إن هذه التكاليف قد أفضت بالكثير من شباب المسلمين إلى التزوج بالوثنيات من الهنديات أو بالنساء الكافرات اللاتي لا دين لهن ولا خلق، واللاتي يتظاهرن بترك الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام، ويجهرن بعدم وجوب ذلك عليهن.

ومن المعلوم أن نكاح مثلهن حرام على المسلم، ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ [الممتحنة: 10] ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10].

كما أنه يحرم على المسلم أن يزوج ابنته أو موليته لرجل ملحد، يعرف أنه لا يصلي ولا يصوم، أو يعرف عنه أنه يستحل فعل المنكرات وشرب المسكرات، لأن تزويج مثل هذا خطر على المرأة في دينها وعقيدتها ونسلها ونفسها، وقد قيل: من زوج موليته بفاجر فقد قطع رحمه منها. وتزويج المسلمة بمن يستبيح ترك الصلاة والصيام لا ينعقد بذلك النكاح، بل تبقى معه كشبه الزانية، والله تعالى يقول: ﴿ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ [النور: 26].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[352] رواه مسلم مختصرًا من حديث عبد الله بن عمر بلفظ: «الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ». ورواه ابن ماجه عن النبي أنه قال: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خير له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». [353] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [354] أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث عقبة بن عامر. [355] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [356] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

(6) الحكم الشرعي في الطلاق السني والبدعي

مقدمة الرسالة

الحمد لله ربّ العالمين وبه نستعين على أمور الدنيا والدين...

اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

أما بعد:

فإن من واجب العالم أن ُيبيّن للناس ما وصل إليه علمه، وغايةَ ما بلغه فهمُه من أمر الدنيا والدين، نصيحةً لله ولعباده المؤمنين. وإنني نظرت في كتاب عنوانه أضواء البيان في تفسير القرآن لمؤلفه العالم الكبير والمحدِّث الشهير الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله، وقد عرفت هذا الرجل من أزمان متطاولة، وحضرت الدرس الذي كان يلقيه بعد العشاء في مسجد فضيلة الشيخ العالم محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي المملكة العربية السعودية، فسمعت من الشيخ محمد أمين ما أعجبني جدًّا من حسن تعبيره وبلاغة تحبيره وسعة اطلاعه، وسرعة استنباطه واستشهاده، حتى تمنيت أن لو سعى هذا العالم في إنشاء تفسير ينتفع به الناس على نسق ما سمعوه من إلقائه، وقد تمنَّى هذا الشيء كثير من العلماء مثلي، وسمعت في ذلك الزمان أن سموّ الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود رحمه الله قد ألحّ على الشيخ في إنشاء هذا التفسير، وأن الشيخ محمد أمين امتثل أمرَه وبدأ بتأليفه. وفي العام الماضي وصل إلي هذا التفسير أي أضواء البيان في تفسير القرآن، وبعد أن نظرت فيه رأيته دون ما سمعت منه، وأن فيه شيئًا من المدارك عليه، كقوله بصحة الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، وكونه طلاقًا صحيحًا لازمًا، وقد صال وجال في الاستدلال على هذا المقال، يسلك لتصحيحه كل سبيل، ويأتي بفنون من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل.

وقد قال في خاتمة بحثه ممّا يدل على شدة تعصبه لمذهبه:

عن ابن العربي: اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام، على أن الطلاق الثلاث في كلمة وإن كان حرامًا في قول بعضهم، وبدعة في قول الآخرين، فإنه طلاق لازم.

فحسبُنا اعترافه بهذا الطلاق الواقع جميعًا أنه حرام وبدعة، والحرام والبدعة لا ينفذ الحكم به شرعًا. ولم نجد في شرع الإسلام حكمًا يقول فيه علماء الإسلام: إنه بدعة وحرام، ثم يحكم فيه القضاة بالصحة والإلزام إلا هذا الطلاق البدعي.

ومن عجيب ما نقدت على فضيلة الشيخ إعراضه عن الاستدلال والاستشهاد بشيء من آيات القرآن في بحثه الطويل العريض الذي يقع في خمسة وأربعين وجهًا، لعلمه أن الاستدلال به يكون حجة عليه لا له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد ضمّن القرآن جميع ما يحتاج إليه من شأن الطلاق ولوازمه وما يترتب على صحته، وقد سبق إلى بيان كل فريضة وفضيلة من الآيات المحكمات المتضمنة لبيان أصل الطلاق الشرعي وتفصيله، والأدب مع الله فيه، وبيان حلاله وحرامه، وبيان عدد النساء مع اختلاف أنواعها، وبيان الرَّجْعَة، ومن تستحق النفقة والسكنى ومن لا تستحق ذلك، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الشأن.

وكل ما ذكر الله من أحكام الطلاق فإنما يعني به الطلاق الشرعي السُّني، الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والذي هو معروف زمن النبي ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن. فمخالفة الكاتب للقرآن لا تتحمل صبرًا عليه بكتمانه وعدم بيانه.

وحسبنا سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين من الرد من بعضهم على بعض في أصول الدين وفروعه، ولا يجدون فيه غضاضة ولا هضمًا. وما من الناس إلا راد ومردود عليه إلا رسول الله ﷺ.

وملاقاة التجاوب بين الرجال تلقيح لألبابها، كما يقولون: فلان حنّكه التجاوب وحكمته التجارب. فأنا وإن رددت على هذا العالم، فإنني أعترف بعلو قدره وغزارة بحره في سائر العلوم والفنون.
فهو بسَبْقٍ حائزٌ تفضيلا
مُستوجبٌ ثنائيَ الجميلا
لكنه رحمه الله من شدة تعصبه لمذهبه لا يبتغي عنه تحويلا.

لهذا عزمت واحتزمت على رد ما عسى أن أراه مخالفة للحق، نصيحة لله وكافة الخلق، وإني أسأل الله أن يجعل سعينا مشكورًا، وعلمنا وعملنا صالحًا مبرورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

* * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله... ونستعين بالله... ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إننا في كتابتنا لهذه الرسالة نعتمد فيها وفي العمل بموجبها على الكتاب والسنة، اللذين يجب اللجوء إليهما عند التنازع، فهما الحَكم القسط، يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان خلافهم إلى مواقع الإجماع.

ولن نستغني عن سَوق أقوال الراسخين في العلم والمعرفة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والطحاوي، وابن عبد الهادي، والصنعاني، ونحوهم ممن لهم رسوخ في العلم والمعرفة، والتوسع في النصوص والأصول، والمعقول والمنقول، فنسوق أقوالهم استئناسًا لها وبها، حذرًا من دعوى الشذوذ بما قلنا؛ فقد سمعت من ألسنة بعض الناس قولهم: إن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهم أنهم مجتهدون يخطئون ويصيبون، فلا يكون قولهم حجة على غيرهم، ونقول: نعم. إنهم بشر من البشر ليسوا بمعصومين، وليسوا بأرباب ولا أنبياء ولا ملائكة، لكنهم مجتهدون، لهم أجر على خطئهم وأجران على إصابتهم.

ثم إننا مأمورون من كتاب ربنا بأن نسأل أهل الذكر وهم العلماء، قال سبحانه: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل:43-44].

وقال رسول الله ﷺ في الذي أصابته شجَّة فاغتسل فمات، فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»[357].

وقد أمرنا الله أن نقول: ربنا واجعلنا للمتقين إمامًا. أي: يُّقتدى بنا في الخير والانتهاء عن الشر.

وإن المشتغلين بالتأليف متى خاضوا المشاكل العويصة التي من شأنها أن تخفى على بعض العلماء فضلاً عن العامة، فإنهم يستعينون في خوضهم فيها بأقوال من سبقهم من العلماء إليها، استئناسًا بأقوالهم. فهم يسوقون أقوالهم مساق الاعتضاد لا الاعتماد، مع العلم أن المعترضين عليهم، والذين لا يعدون أقوالهم حجة، لن يستغنوا عن أقوالهم وقت حاجتهم إليها. إذ هم أعلم منا ومنهم بالنصوص والقصود، وبالمشاكل الغامضة والشُّبَه الزائفة. يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83] والاستنباط هو: الشيء الخفي الذي من شأنه أن يخفى على أكثر الناس، مأخوذ من استنباط الماء أي استنباعه.

ومن المعلوم أن الرجال تُعرف بالحق، لا الحق بالرجال، إذ الحق كالنهار ليله كنهاره.

والنبي ﷺ قال: «لِيُبَلِّغُ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ». وقال: «نَضَرَ الله امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»[358].

مما يدل على أن العلم واستنباطه، وبيان حكمته وحل مشاكله، ليس مخصوصًا بالأولين دون الآخرين؛ فقد يظهر للمتأخرين من نصوصه والتفقه في حكمته، ما عسى أن يغفل عنه المتقدمون، فكم ترك أول لآخر.
وتفاوتُ العلماء في أفهامهم
في العلم فوق تفاوت الأبدان
وفي البخاري عن معاوية أن النبي ﷺ قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

ولهذا فاق ابن عباس أكثر الصحابة في فهم النصوص واستنباطها، وحل مشاكل الآيات وبيانها، فكان من الطائفة الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فالناس يتمتعون باستنباطاته وكشف مشكلاته إلى يوم القيامة، ببركة دعوة النبي ﷺ له حيث قال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ».[359]

ومثله شيخ الإسلام ابن تيميّة الذي وُصف بأنه الإمام المجتهد رأس مدرسة تحرير العقول من الخرافات والبدع، والعالم الذي لا يُشق له غبار. ولا يزال الناس يتمتعون بثمار علمه وتعليمه حتى عند المعادين له من غير المسلمين، وكذا أمثاله من سائر العلماء المجتهدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

ومن المعلوم أن الحق يبدو كرهًا وله تكون العاقبة والعاقبة للتقوى..

وقد علمنا أن الناس قد تربوا على إيقاع الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، ويحسب أكثرهم أن هذا هو الطَّلاق الشرعي، لكون أكثر العلماء في بعض البلدان يحكمون بصحته ولزومه.

وإن هذا الطلاق الواقع بالثلاث جميعًا قد صار معرك جدل بين العلماء من قديم الزمان وحديثه، بحيث تتناوبه فكرة المقلدين لأئمة مذاهبهم، كما تتناوبه فكرة المجتهدين المتمسكين بالكتاب والسنة.

فالمقلدون يرون أنه متى وقع الطلاق بالثلاث جميعًا بلفظ واحد، أو بألفاظ متعددة، في طهر واحد، فإنهم يحكمون بصحة هذا الطلاق ولزومه، وكونه طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه، ولا تَحِلُّ المرأة لزوجها إلا بعد نكاح زوج غيره.

ثم هم يحكمون بسقوط نفقتها وسكناها على الزوج، لاعتبار أنها مبتوتة، فلا سُكنى لها ولا نفقة، ويستدلون لذلك بما روى مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبا حفص طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى، والحديث صحيح، لكن مطابقته للمبتوتة غير صريح ولا صحيح كما سيأتي بيانه. فهم يسرحون هذه المبتوتة إلى أهلها بخُفي حُنين، ويجمعون لها بين الحشف وسوء الكيل والتسريح بالإساءة، فلا نفقة ولا سكنى ولا رجعة.

أما المجتهدون فإنهم يقولون: نحن متبعون للكتاب والسنة ولسنا بمبتدعين، ولم نجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ طلاق المبتوتة بهذه الصفة، فمتى طلق أحد امرأته بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، لكنه في طهر واحد، فإننا نحكم في هذا الطلاق بجعله عن طلقة واحدة، تأسيًا بحكم رسول الله ﷺ في طلاق أبي ركانة حيث طلق امرأته ثلاثًا جميعًا في مجلس واحد، فحزن عليها، فقال له رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك». فراجعها. فهذا حكم رسول الله ﷺ وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

ثم إن هذه المرأة يحكم لها بالبقاء في بيت زوجها، ولا بأس أن ينظر إلى وجهها، أو أن تتجمل له رجاء مراجعتها، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1].

فإن دام على طلاقه هذا حتى خرجت من عدتها، وهي ثلاث حيض مما تحيض، أو ثلاثة أشهر في حق الآيسات، أو وضع حملها إن كانت حاملاً، فإنها تطلق من زوجها بينونة صغرى، بحيث لو ندم فيما بعد فإنه يجوز له أن يتزوجها بعقد جديد، وهذا من بركة الطلاق الشرعي؛ لأن الله سبحانه جعل لكل مطلقة عدة، يقول الله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228].

ففرض الله هذه العدة لمصلحة الزوجين رجاء مراجعتها، ولم يكن للعلم ببراءة رحمها، فإن هذا يُعرف من حيضة واحدة، كما في قضية المسلمات المهاجرات والمسبيات وهن بعصم الكوافر.

ثم إن هذه المرأة ما دامت في العدة فإن لها حكم الزوجة من النفقة والسكنى والكسوة، ولو مات الزوج في أثناء العدة ورثته، كما أنها لو ماتت لورثها؛ أما رأيت كيف فرض الله سبحانه على المطلقة الآيسة من الحمل ثلاثة أشهر، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ [الطلاق: 4].

وهذا كله لحكمة التروي والتفكر رجاء مراجعتها في عدتها، ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1]. وأما استدلالهم بسقوط النفقة عن المبتوتة بحديث فاطمة بنت قيس، فإن زوجها قد طلقها آخر ثلاث تطليقات، وقد قضت عدتها في بيته، فلم يبق لها عليه نفقة ولا سكنى، كما أنه لم يبق له رجعة عليها.

وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة على طلاق المبتوتة من رسالتنا هذه لكثرة ما يلتبس فيها الأمر على أكثر العلماء وكل العامة.

وإنني في محل قضائي وحكمي أحكم لخاصة أهل البلد، متى طلق أحدهم امرأته ثلاثًا جميعًا، بلفظ واحد، أو بألفاظ متعددة، في طهر واحد، فإنني أجعل هذا الطلاق عن طلقة واحدة إذا لم يسبقه طلاق غيره، وآمره بمراجعة زوجته متى رغب في ذلك، وأشهد على رجعتها، فتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة. فإن طلقها مرة ثانية بالثلاث، فتُجعل عن طلقة ثانية، إلى أن يطلقها الثالثة، فتبين منه بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
هذا الذي أدى إليه علمُنا
وبه ندين الله كلَّ زمان
والله أعلم.

* * *

[357] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [358] رواه أحمد والطبراني وابن ماجه عن أنس بن مالك وعن جبير بن مطعم بمعناه، وفي رواية: «نَضَرَ الله امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا». [359] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس.

الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

قال الكاتب في قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] قال - أي الشيخ محمد أمين عفا الله عنه -: ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ الآية - يؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد. وأشار البخاري بقوله: (باب من جوّز الطلاق الثلاث) لقول الله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ والظاهر: أن وجه الدلالة المراد عند البخاري هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ علمنا أن إحدى المرّتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث.

وردّ ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق؛ لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى، بخلاف الثلاث وجعل الآية دليلاً لنقيض ذلك. انتهى.

فالجواب: بدأ الكاتب بحثه بهذه الآية واستأنس لها بقول الكرماني في تفسيره أنها كما جاز وقوع الطلقتين جميعًا فكذلك وقوع الثلاث جميعًا، ولا دليل على ذلك والكرماني لا يحتج بقوله.

ويظهر من كلام الكاتب أن الطلاق من شرط صحته كونه ثلاثًا سواء كان مجتمعًا أو مفرقًا، كما أن هذا هو رأي كثير من الناس، وقد غلطوا في فهمه، فإن الطلاق يكون بواحدة متى أراد إبانتها وتسريحها، فمتى طلقها واحدة ثم تركها حتى تنقضي عدتها بغسلها من الحيضة الثالثة فإنها تبين منه وتحرم عليه إذا لم يراجعها في عدتها، فهذا هو طلاق السنة. قاله في المغني والمقنع، فإن طلقها الثانية في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضًا فإنها للسنة أيضًا.

وهاتان الطلقتان هما اللتان عناهما القرآن بقوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فإن الزوج بعد هاتين المرتين يكون بالخيار بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، ولما سئل النبي ﷺ عن هذه الآية قيل له: أين الثالثة؟ قال: «هِيَ التَّسْرِيحُ بإحْسَانٍ» لأنها من بعد غسلها من الحيضة الثالثة تَبين منه وتحرم عليه، لكنه لو ندم على فراقها جاز له أن يتزوجها بعقد جديد، لقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ [البقرة: 232].

لكنه لو طلقها الثالثة في العدة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230].

لكن الفقهاء يستحبون التحفظ بالثالثة لتكون له بمثابة الرصيد خشية أن يندم. والحاصل أن الطلقة بالواحدة تعمل عمل الطلاق بالثلاث في تسريح المرأة متى رغب في طلاقها، فلا حاجة للتكلُّف بجعل الثنتين كالثلاث، ثم إن القائلين بجواز إيقاع الثلاث جميعًا بلفظ واحد هم يخالفون صريح القرآن بجعلهم الطلاق مرة واحدة، ولم يجعلوه مرتين ولا ثلاثًا، ثم خالفوا صريح السنة حيث جعل النبي ﷺ الثلاث الواقعة جميعًا من أبي ركانة عن طلقة واحدة، وهي حجة قاطعة لموضع النزاع. وقد نص الفقهاء على أنه لو رمى الجمار السبع دفعة واحدة فإنها لا تقع إلا عن مرة واحدة، فتدخل الجمار كلها ضمن المرة الواحدة، ويلزم تكميل البقية من غيرها. وكذا يقال في الطلاق بالثلاث جميعًا وأنه لا يكون إلا عن طلقة واحدة. فقوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ يعني به الطلاق الشرعي الذي كان على عهد النبي ﷺ وأصحابه وعهد نزول القرآن، من أن أحدهم يطلق زوجته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ثم تبتدئ المرأة في دخول العدة، فمتى حاضت الحيضة الأولى واغتسلت من حيضها طلقها الطلقة الثانية، وهاتان هما الطلقتان اللتان عناهما القرآن.

ثم هو قبل حيضتها الثالثة يفكر في أمره، فإن بدا له أن يراجعها راجعها، وإن حاضت الحيضة الثالثة فإنها تخرج من العدة وتبين منه.

وأما استدلال الشيخ، رحمه الله، حيث أخذ من مفهوم الآية قول الكرماني، أنه متى جاز طلاقها بطلقتين جاز بثلاث مجتمعة، فإن هذا بعيد عن مفهوم القرآن، كما أنه بنفسه يضعفه، لكنه استأنس بقول الكرماني من أنه تعالى لما قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث أيضًا.

فهذا الحكم قد وافق هوى الشيخ وتمشى على مذهبه، وكل الآيات المذكورة في أحكام الطلاق فإنها إنما تعني الطلاق المشروع، الذي يقع مرة بعد أخرى، فالجمع بين طلقتين في مكان واحد وفي طهر واحد وبلفظ واحد، هو بدعة وزيادة في الدين، وإنما يقع منه طلقة واحدة فقط في طهر لم يمسها فيه، بحيث إنه محجور عليه عن الزيادة على الطلقة في حالة الطهر الواحد، وتبقى رجعية، والرجعية لا يلحقها طلاق. ويدل له قوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] والقرء: هو الحيض، مع كونه يُحمل على الطُّهر، فهو من ألفاظ الأضداد، ثم قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي: في زمن العدة.

وهذا معنى قول ابن عباس: الطلاق عند أول كل طهر..

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد: إنه كان يفتي بلزوم الثلاث في بداية عمره، ثم رجع عنها، وقال: إني تدبّرت القرآن والسنة فلم أجد فيهما الطلاق إلا رجعيًّا.

ثم إن القائلين بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا يناقضون قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] فمعنى (مرتين) أي مرة بعد أخرى، كل واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولم تكن حائضًا. كما في قوله سبحانه: ﴿لِيَسۡتَ‍ٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ [النور: 58].

فهذه المرات الثلاث هي مفرقة في الأوقات المذكورة، ولا يمكن جمعها في زمان ولا مكان. فلو أن رجلاً وكل آخر على طلاق زوجته بالواحدة فطلقها ثلاثًا. أو وكله بأن يطلقها ثلاث مرات في ثلاثة أشهر، إحداهن في رجب، والثانية في شعبان، والثالثة في رمضان، فطلقها بالثلاث في رجب، أفلا يكون طلاقه غير واقع لمخالفة أمر موكله، وهذا بالإجماع. فما بالك بمخالفة الشخص لأمر الله سبحانه حيث طلق في طهر جامعها فيه أو وهي حائض، أفلا يكون هذا الطلاق باطلاً لمخالفة أمر الله ورسوله؟!

ثم إن القائلين بلزوم الثلاث جميعًا وكونها بينونة كبرى لا نفقة بعدها ولا سكنى ولا رجعة، هم يجعلون قوله سبحانه: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] لا معنى له، بل يجعلونه من حشو الكلام الذي ينزه عنه القرآن، فماذا يبقى مع المطلق بالثلاث من الإمساك بالمعروف، وقد غُلب على أمره بالحكم عليه بأنها بزعمهم بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره؟! ولا أمر ولا رأي لمُكرَه، مع مناقضتها لقوله سبحانه: ﴿إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]. أي في قُبل عدتهن، والعدة هي الطهر ﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ [الطلاق: 1] أي: لا تزيدوا فيها ولا تنقصوا منها ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1].

ثم إن هذه العدة التي أمر الله بإحصائها هي ثلاث حيض في حق من تحيض، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض، أو بوضع حملهن، أو ثلاثة أشهر في حق الآيسات من الحمل والصغيرات. كما في قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ [الطلاق: 4] فلو كانت العدة تسقط عن أحد لسقطت عن هؤلاء العجائز اللاتي لا يُرجى حملهن. وقال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّ‍َٔاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥ أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ [الطلاق: 4-6] والضمير في قوله: (أسكنوهن) يعود إلى أقرب المذكور وهن الآيسات من الحمل، فكما أوجب سبحانه النفقة والسكنى لذوات المحيض مدة عدتهن، وجاز للرجل إرجاع زوجته خلالها، فكذلك أوجب السكنى والنفقة والرجعة للآيسات من الحمل، وكون الزوج له الحق في رجعتها في أثناء عدتها؛ وهذه أحكام مشروعة ومفروضة كفرض الصلاة والصيام، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، وقد استوعبتها سورة الطلاق لأنها إنما نزلت بعد سورة البقرة التي قال الله فيها: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض. وبقيت عدة المتوفى عنها زوجها، وقد ذكرها الله بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ [البقرة:234] هذا إن لم تكن حاملاً، ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ [الطلاق: 4] سواء في ذلك المطلقة أو المتوفى عنها زوجها.

قال في المغني: ولو طلق رجل امرأته طلاق بدعة، كما لو طلقها في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، فإنه يستحب له رجعتها، وعنه - أي الإمام أحمد -: أنه يجب رجعتها.

وهذه العِدَد - على اختلاف أنواعها وبيان ما يترتب عليها من وجوب النفقة والسكنى وجواز الرجعة خلالها - كلها تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرِّم شيئا من المحرمات إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ - وحدود الله محرماته - ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

ويبقى عدة المختلعة بالمال وبمعناها المفسوخة، قد ثبت في البخاري من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت إلى النبي ﷺ قالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. وفي رواية: لا أطيقه بغضًا. فقال رسول اللهﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». وفي رواية: أمرها أن تعتد بحيضة. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المختلعات والمفسوخات يكفي إحداهن أن تعتد بحيضة واحدة، لكونه لا رجعة لأزواجهن عليهن. ويستفاد من هذا الحديث أن الطلاق المشروع يقع بطلقة واحدة، فتبين المرأة إذا لم يكن لزوجها فيها رغبة، فإن طلقها ثانية فإنها للسنة أيضًا، وفيما بين الطلقة الثانية إلى الاغتسال من الحيضة الثالثة يتفكر في نفسه، فإن بدا له أن يراجعها أشهد على رجعتها وتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة، وإن بدا له أن يفارقها فإنها تبين منه بغسلها من حيضتها الثالثة، وتسمى بينونة صغرى، بمعنى أنه لو ندم على فراقها فإنه يجوز له أن يتزوجها بعقد جديد، إلا إذا طلقها الثالثة فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230].

ثم إن المقلدين في حكمهم بإلزام الطلاق بالثلاث جميعًا وكونه بينونة كبرى، فإنهم بذلك يخالفون صريح القرآن في قوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ وفي الثالثة: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] فهم يحكمون بجعل هذا الطلاق المفرق كالصادر عن مرة واحدة، فخالفوا بذلك صريح القرآن وصحيح السنة.

ودونك ما ذكره العلامة ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ قال: هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم الله على ثلاث طلقات، وأباح الرَّجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229].

قال أبو داود رحمه الله في سننه: باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث: عن عكرمة عن ابن عباس: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ [البقرة: 228] الآية، وذلك أن الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ الآية، وقال ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: إن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلكِ راجعتكِ. فأتت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره، ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء، ما دامت في العدة، وإن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته فقال: لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلّق ومن لم يكن طلّق.

وروي عن عائشة أنها قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: لأتركنّكِ لا أيِّمًا ولا ذات زوج. فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا. فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ فوقت الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره. واختار ابن جرير أن هذا تفسير هذه الآية وقوله: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردّها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتُها فتبين منك، وتطلق سراحها مُحسنًا إليها لا تظلمها من حقها شيئًا ولا تضارَّ بها.

وقال ابن أي حاتم عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ أين الثالثة؟ قال: «التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ الثَّالِثَةُ» ورواه الإمام أحمد أيضًا.

وذكر في تفسير المنار ما نصه:

صرّح جماهير العلماء ومنهم الحنفية بأن الطلاق الشرعي هو ما كان مرة بعد مرة وأن جمع الثنتين أو الثلاث بدعة وأنه حرام. وهذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة، وهم من علماء الصحابة.

قال الإمام: وهذا هو الطلاق المشروع في كتاب الله تعالى، وهو الطلاق الرجعي على هذه الصفة وبهذا العدد، أما الطلاق البائن فلم يرد في كتاب الله.. انتهى.

وذكر العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: إن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وأن هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعده.

ثم قال: ليس المراد مجادلة المقلدين، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يُبالي بها، لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم وأئمة مذاهبهم دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الطلاق من مجموع الفتاوى المجلد الثالث والثلاثين ص 154، 155 ما نصه:

والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي. قال هؤلاء: وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلاً، بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي... ولو قال لامرأته: أنتِ طالق طلقة بائنة. لم يقع بها إلا طلقة رجعية، كما هو مذهب أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. قالوا: وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله. وهذا قول أهل الحديث، وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد.

* * *

الطلاق بعد اللعان بين الزوجين لغو لا معنى له

ثم قال الكاتب:

(اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة حديث سهل بن سعد الساعدي الثابت في الصحيحين في لعان عويمر العجلاني وزوجه، فإن فيه: فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله ﷺ.

أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه[360]، ووجه الدليل منه أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة ولم ينكره رسول الله ﷺ.

ثم استدل بقول الكرماني في قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ [البقرة: 229]: فيؤخذ منه جواز الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، لكونه إذا جاز جمع الطلقتين دفعة واحدة جازت الثلاث).

فالجواب: أن فضيلة الكاتب يظهر من تعصبه لمذهبه بما نُشاهد من صرفه الكَلِم إلى غير المعنى المراد منه، فقد فسّر القرآنُ والسنةُ ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ بكونها تقع مرة في خلال العدة، وهي رحمة من الله لعباده، حيث لم يجعل الطلاق مرة واحدة، بل جعل له ميدانًا من السعة بمدة وضع الحمل، أو بحيضها ثلاث مرات، أو ببقائها في العدة ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة، لِيتَروى المطلِّق في أمره وتذهب عنه ثورة الغضب والحنَق، ثم يعاوده عقله وفكرته في خلال هذه المدة، فيراجع زوجته بدون عقد ولا ولي ولا شهود، لكون الرَّجعية زوجية، بخلاف من يرى جواز وقوع الثلاث دفعة واحدة في مكان واحد، وتُسمى المبتوتة، فهؤلاء يبطلون حكم الله فيما شرع لعباده من التربُّص والتريث مدة بقاء العدة، ويحكمون بأنه لا نفقة لها ولا كسوة ولا سُكنى، فيجمعون لها بين الحشف وسوء الكيل والفراق السيئ لا التسريح بإحسان.

وقد أبعد الكاتب النجعة في استدلاله بطلاق عويمر العجلاني بعد وقوع اللعان، والله سبحانه شرع اللعان، وهو بينونة كبرى، ولم يذكر معه طلاقًا، وكذلك حديث سهل حيث قال عويمر العجلاني: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله. فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله بطلاقها. وهذا الطلاق يعتبر فضوليًّا لكونه واقعًا في غير موقعه الصحيح، أشبه من يطلق امرأة ليست له بزوجة، وكفانا في بطلانه كون رسول الله ﷺ لم يأمره بالطلاق، وغاية ما استدل به الكاتب سكوت رسول الله ﷺ عنه.

وسكوته لا يدل على صواب طلاق عويمر، فقد كان رسول الله ﷺ يسكت دائمًا عن اللغو فلا يجيب صاحبه، بل يعرض عنه عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ ٥٥ [القصص: 55] واللغو هو رديء الكلام، أشبه طلاق عويمر العجلاني لمن ليست له بزوجة، وقد كان اليهود يدخلون على رسول الله ﷺ ويقولون له: السَّامُ عليك. فيقول لهم: «وَعَلَيْكُمْ»، وقد فطنت عائشة لتحريفهم الكلم وكونهم يدعون على رسول الله ﷺ بالموت، فلم تستطع صبرًا على سوء قولهم، فقالت لهم: عليكم السَّام واللعنة، وقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟! فقال لها الرسول ﷺ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، هَلْ تَجِدِيْنِي فَحَّاشًا؟! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ»[361].

ومثله ما وقع لأبي بكر حين تحامل عليه رجل بسبه وذمه ورسول الله ﷺ ساكت لم يرد عليه، فلما طال سَبُّه رد عليه أبو بكر، فقام رسول الله ﷺ وهو متغيّر وجهه، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إن هذا أطال في سبي وأنا ساكت، فلما كلمته قمت وأثر الغضب على وجهك. فقال: «يا أبا بكر إنه مازال الملَك ينافح دونك لمّا كنت ساكتًا، فلما انتصرت لنفسك انصرف الملك، وانصرفت بانصرافه»[362].

فسكوت الرسول ﷺ عن جواب هذا لا يدل على صوابه في قوله ولا إقرار الرسول ﷺ لقوله وفعله، فاستدلال الكاتب بحديث عويمر العجلاني هو بعيد عن موضع الحُجة، فقد حصلت الفرقة الكبرى بمجرد اللعان، فكان طلاقه لاغيًا لا معنى له؛ ووضع البخاري ترجمته على هذا لا يدل على تصويبه لهذا الطلاق الواقع من عويمر العجلاني بعد ملاعنته لزوجته، إذ مدار الشريعة على الأمر والنهي لحديث: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».[363]

ويدل له ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال للمتلاعنين: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا». قال: يا رسول الله مالي. فقال: «إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». فهذا حكم رسول الله ﷺ حيث حكم بالفرقة بعد اللعان وكونه لا سبيل للزوج عليها.

فالاستدلال بهذا الطلاق الواقع من عويمر بعد اللعان هو استدلال واقع في غير موقعه الصحيح.

ثم قال الكاتب: (إن الفرقة بنفس اللعان لا يدل عليها كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع). يريد بهذا استقامة احتجاجه بوقوع الطلاق بالثلاث من عويمر العجلاني.

فالجواب: أن النصوص الصحيحة الصريحة تثبت وقوع الفرقة بمجرد اللعان، كما سبق حديث ابن عمر بأنهما لما فرغا من تلاعنهما قال له رسول الله ﷺ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» فقال: يا رسول الله مالي. قال: «إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». وهو حديث متفق عليه.

كما أن القرآن لم يذكر مع اللعان طلاقًا، والسنة تفسر القرآن وتُبيِّن ما سكت عنه، وليس بعد هذا بيان. ثم إنه قد وقع الفراق بين الأزواج والزوجات بدون طلاق، كزوجة المرتد عن دين الإسلام، فإنها تطلق منه بدون طلاق ولا صيغة فراق، وكذلك المسلمات المهاجرات وأزواجهن باقون في الشرك، فانفسخ نكاحهن بمجرد إسلامهن بدون طلاق ولا فرقة، أشبه فسخ نكاح المتلاعنين، ومثله ما وقع في سبايا أوطاس اللائي كن مع أزواجهن، وبمجرد سبيهن انفسخ نكاحهن بدون طلاق. وقال رسول الله ﷺ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً».[364] ولم يُحدِث لهن طلاقًا.

* * *

[360] وهي: (باب من جوز الطلاق الثلاث). [361] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [362] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة. [363] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [364] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري.

نفقة المطلقة وسكناها

ثم قال الكاتب:

(إن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق، وأوضح دليل على ذلك ما صح عنه من حديث فاطمة بنت قيس، أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى. أخرجه مسلم في صحيحه وهو نص صحيح صريح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى).

فالجواب: أن هذا الكاتب يحوم حول جواز إيقاع الطلاق بالثلاث جميعًا مع سقوط النفقة والكسوة والسكنى والرجعة، لكون صحة وقوع الطلاق لا يستلزم وجوب النفقة والسكنى بزعمه. ويستدل لذلك بحديث فاطمة بنت قيس الذي رواه مسلم وأهل السنن، أنها طلقها زوجها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. فهو عند الأئمة الذين يجيزون الطلاق بالثلاث بلفظة واحدة ويسمونها مبتوتة كما قيل:
مبتوتة الطلاق لا سكنى لها
إلا على زوج إذا أحبلها
ويستدلون على ذلك بهذا الحديث.

والجواب عنه يعرف من فحوى لفظه، فإن حديث فاطمة بنت قيس يفيد أنه أرسل لها زوجها وهو باليمن آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنه الإجماع السابق في الطلاق، وهو أن يكون مرة بعد مرة في خلال الأقراء، فطلاق فاطمة بنت قيس ولو ذكره العلماء والمصنفون بلفظ الثلاث فإنه وقع دفعات حسب الطلاق الشرعي، فآخر طلقة أرسلها لها وهو باليمن، وأمر وكيله بأن يذهب لها بشعير وتمر، فسخطته وذهبت إلى رسول الله ﷺ تشكوه، فقال رسول اللهﷺ: «إِنَّهُ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» وهذا هو الواقع المطابق للحق والعدل.

فقد أصبحت فاطمة بنت قيس بائنة من زوجها بالطلقة الثالثة بينونة كبرى، فلا نفقة لها ولا سكنى، ولا تحل لزوجها الأول أبي حفص بحال إلا بعد نكاح زوج غيره. لكن بعض الفقهاء ومنهم الكاتب يتعصبون للمذهب بتصحيح وقوع الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، ويسمّونها المبتوتة، فيحرمونها من النفقة والكسوة والسكنى والرجعة من حين وقوع الطلاق، ويبطلون حكم الله في قوله:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

فالحاكمون بجواز الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، يحكمون بلزومها ولزوم ما يترتب عليها من قطع النفقة والكسوة والسكنى وسائر الحقوق التي فرضها الله، وإن مات الزوج لم ترثه زوجته بعد وقوع لفظ الطلاق، وإن ماتت الزوجة لم يرثها زوجها عندهم. ولهذا استدلت فاطمة بنت قيس على بعض الصحابة لما دخل على بعضهم الشك لما حكم رسول الله ﷺ بسقوط نفقتها وسكناها عن زوجها، فتلت عليهم هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١. قالت: وما هذا الأمر الذي يحدث بعد وقوع الطلاق الثلاث مفرقة؟[365] أي: فلا سكنى لها على زوجها ولا نفقة؛ لأنها قد أمضت نفقتها وسكناها في بيت زوجها وقت عدتها.

ونحن نسوق حديث فاطمة بنت قيس في تصريحها بأن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أن جمع الطلاق بالثلاث في لفظة واحدة أنه بدعة وغير معروف من الصحابة، والحكم بلزومه ولزوم ما يترتب عليه خطأ وظلم.

وأشارت فاطمة بنت قيس إلى أن النفقة لا تكون إلا لمن هو له حق الرجعة عليها في حالة عدتها، وبعد الثلاث المفرقة لا رجعة ولا نفقة.

وروى مسلم عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثًا «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةٌ». وفي رواية لمسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات.

فحديث فاطمة بنت قيس قد التبس على المحدثين وأئمة المذاهب وعلى الفقهاء، لوروده أحيانًا بقوله: طلقني ثلاثًا ولم يجعل لي رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. وهذا صحيح لكنها ثلاث مفرقة ليست مجتمعة، والمفسر يقدم على المبهم.

وروى الإمام أحمد من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي ﷺ قال لها: «إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَلَا نَفَقَةَ، وَلَا سُكْنَى».

ويدل لذلك: ما روى أبو داود من حديث أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، فزعمت أنها جاءت رسول الله ﷺ فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى بيت ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق حديث فاطمة في خروج المطلقة من بيتها، وفي رواية أن مروان أرسل إلى فاطمة بنت قيس فسألها فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص.

وكان النبي ﷺ قد أمّر علي بن أبي طالب على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملاً. فأتت النبي ﷺ فقال: «لَا نَفَقَةَ لَكِ، إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا».

فهذه النصوص الصحيحة الصريحة تدل على صحة حديث فاطمة بنت قيس، سواء وقع باسم الثلاث، أو وقع بآخر طلقة، إذ المعنى واحد لا يختلف، ويدل بطريق الوضوح على أن المفروض في الطلاق هو أن يقع مرة بعد أخرى في خلال العدة، وكونه لا حق للرجل أن يوقعه دفعة واحدة فيقطع نفقة زوجته زمن العدة وسكناها. كما أن النبي ﷺ غضب على الذي طلق امرأته ثلاثًا بلفظ واحد، فقام غضبان وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أقتله يا رسول الله؟ وذلك من شدة غضب الرسول عليه. رواه النسائي ورواته مُوثَّقون.

فشدة غضب الرسول ﷺ على هذا يدل على أن جمع الثلاث بلفظ واحد أنه بدعة ومنكر من القول وزور، ويدل على عدم وقوعه لمنافاته لنصوص القرآن والسنة، التي يأمر الله فيها بالطلاق في العدة أي الطهر. ولمنافاته لحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[366].

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

إن الطلاق الشرعي هو الطلاق الرجعي المستلزم لوجوب النفقة والسكنى على الزوج خلال العدة، وإن مات الزوج ورثته لكون الرجعية زوجية، وإن ماتت الزوجة ورثها. وقال: ولا نعرف أن أحدًا على عهد النبي ﷺ طلق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه النبي ﷺ بالثلاث، ولا رُوي في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا نقل أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا.

وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة، بل إن ما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله.

ومتى وقع الطلاق على خلاف ما سنه الله في كتابه وعلى لسان رسوله لم يكن لازمًا نافذًا؛ لأن الأصل الذي عليه السلف والفقهاء، أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة ولا صحيحة، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».

* * *

[365] تقصد أن المراد بالمطلقة في الآية هي الرجعية؛ لأنها هي التي يؤمل رجعتها حتى يكون لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ معنى وبذلك تكون السكنى في الآية خاصة بالرجعية. [366] متفق عليه من حديث عائشة.

غضب رسول الله ﷺ من الذي طلق ثلاثًا بلفظ واحد

ثم قال الكاتب:

(ومن أدلة وقوع الثلاث جميعًا ما رواه النسائي:

عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام غضبانًا، فقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ أي: من شدة غضبه عليه. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن المطلِّق يظن الثلاث المجموعة واقعة، فلو كانت لا تقع لبيَّن النبي ﷺ أنها لا تقع، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ويقول: إن المناسب لمرتكب الجريمة التشديد لا التخفيف).

فالجواب: أن هذا الكاتب قد حذق في قلب الحقائق، وأن الاحتجاج بهذا الحديث يعد من قبيل ذلك، فهو حُجة عليه لا له؛ فالاحتجاج به على التحريم آكد لا الإباحة، والاستدلال به على الوقوع من باب التكهن والزيادة في الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشيء من وجوه الدلالات البتة، ولكن المقلد لا يبالي في سبيل تقليده بما اتفق له، إذ كيف يُظن برسول الله ﷺ أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله تعالى وصححه واعتبره في شرعه وحكمه، ونفذه وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى؟! وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث، ولا جعله في أحكامه.

وحسبك شدة غضب رسول الله ﷺ في إنكاره، وهو لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، وإلا فإن من صفته أنه ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] ولما استبدل هذا الرجل الطلاق الرجعي الذي هو سنة الله ورسوله بالطلاق البدعي، فعند ذلك اشتد غضب رسول الله ﷺ عليه، حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ وليس من هديه أنه يقابل الإساءة بالإساءة، ولا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله. كما قال بديل بن ورقة:
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سِيمَ خسفًا وجهه تعربدا
ثم قال الكاتب:

(ويدل على صحة وقوع الطلاق بالثلاث جميعًا ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن أبا ركانة طلق أم ركانة البتة، وأن رسول الله ﷺ استحلفه ما أراد بها إلا واحدة).

وقد تعرض الكاتب لحديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى وصححه بعضهم قال: طلق أبو ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبي ﷺ: «كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟» قال: ثلاثًا في مجلس واحد. فقال النبي ﷺ: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» فارتجعها.

ثم قال الكاتب: (إن هذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه لا دليل فيه البتة على محل النزاع - على فرض صحته - لا بدلالة المطابقة، ولا بدلالة التضمن، ولا بدلالة الالتزام، لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعة في مجلس واحد ولا يلزم منها كونها بلفظ واحد).

فالجواب: أن هذا الكاتب عفا الله عنه، يظهر منه أنه لا يقبل إلا الحديث الذي يتمشى على مذهبه ولو كان ضعيفًا.

أما الحديث الصحيح الذي يثبت كون الطلاق متى وقع بالثلاث في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة كهذا وأمثاله، فإنه يقابله بالرد والإنكار وصرفه إلى غير المعنى المراد منه، وهذا الحديث موافق لحكم الله ورسوله على أن الطلاق بالثلاث إذا وقع جملة واحدة فإنه لا يكون إلا عن واحدة.

وأما دعواه بأنه لم يثبت كونها بلفظ واحد، فإنها غلطة منه وعدم فقه منه بالطلاق الشرعي، فإنه متى طلقها بالثلاث بلفظ واحد، أو بعدد ألفاظ في مجلس واحد، فإنما يقع عليها واحدة فقط، والطلقتان الباقيتان تعتبران لغوًا في الكلام، بحيث لا يعتد بهما، لكون الرجعية لا يلحقها طلاق في طهرها. ولا يحق لكل إنسان أن يطلق في الطهر الذي لم يجامع زوجته فيه إلا طلقة واحدة، سواء وقعت بلفظ الثلاث أو بواحدةٍ، وسواء أكانت في مجلس أو في مجالس، إذ الطلاق الشرعي من شرط صحته كونه رجعيًّا. فدل هذا الحديث على بطلان الطلاق بالثلاث مجتمعة وأنه لا يقع فيه إلا واحدة بالالتزام والمطابقة والتضمن.

ويكفينا في الرد عن هذا كله قول الرسول ﷺ لأبي ركانة: «إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها» [367]. وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

ونحن نسوق قول العلامة ابن القيم في إغاثة اللهفان عن حديث أبي ركانة مفصلاً قال:

ضعف حديث أبي ركانة في الطلاق البتة:

وأما حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته البتة وأن رسول الله ﷺ استحلفه: ما أراد بها إلا واحدة، فحديث لا يصح. قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب العلل: قال أحمد: حديث أبي ركانة في البتة ليس بشيء. وقال الخلال في كتاب العلل: عن الأثرم قلت لأبي عبد الله: حديث أبي ركانة في البتة، فضعفه. وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد وغيرهم ضعفوا حديث البتة، وكذلك أبو محمد بن حزم، وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل لا تعرف عدالتهم وضبطهم. قال: وقال الإمام أحمد: حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته البتة لا يثبت، وقال أيضًا: حديثٌ ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا. وأهل المدينة يسمون من طلق امرأته ثلاثًا (البتة)

فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأن أهل بيته أعلم. يعني وهم الذين رووا حديث البتة. قال شيخنا في الجواب: إنما رجّح أبو داود حديث البتة على حديث ابن جريج لأنه رُوي حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول، فقال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد البر عن ابن جريج أخبرني بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس: طلق عبد يزيد، أبو ركانة أم ركانة ثلاثًا.. الحديث. ولم يرووا الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: طلق أبو ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد.

فلهذا رجح أبو داود حديث البتة على حديث ابن جريج، ولم يتعرض لهذا الحديث ولا رواه في سننه، ولا ريب أنه أصح من الحديثين، وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها أفادت العلم اليقيني، فإنها أقوى من حديث البتة بلا شك، ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب في ذلك، فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضعفه الأئمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث الصحيحة؟! انتهى.

* * *

[367] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس.

الحكم في طلاق ابن عمر لامرأته وهي حائض

ثم قال الكاتب:

(ومن جملة الأحاديث التي استدلوا بها على الطلاق بالثلاث هو ما جاء في روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض، فاحتسبت بواحدة.

ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره).

فالجواب: أن هذا الحديث له مدخل صحيح في كون الثلاث عن واحدة، وفي كون الحائض لا يلحقها طلاق، وفي كون الطلاق الشرعي لابد أن يقع في طهر لم يمسها فيه. ولفظ الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله ﷺ، فسأل عمر رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا». وفي رواية أخرى: قال ابن عمر: فردها عليّ ولم يرها شيئًا.

وهذا الحديث هو نص من أصول الدين، ويبين بطريق الوضوح أدب الطلاق ومشروعيته وبدعته، وكل بدعة ضلالة، وعلى فرض كونه طلقها ثلاثًا أو واحدة، فقد أمره رسول الله ﷺ بارتجاعها، أي ردها لتبقى عنده كحالتها السابقة، لكون هذا الطلاق في الحيض لم يصادف محلًّا للقبول، فكان باطلاً. وهذا معنى قول ابن عمر: فردها عليَّ ولم يرها شيئًا. ولهذا كان ابن عمر يفتي بما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وبما ثبت في القرآن الكريم، ويقول لمن سأله: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين فإن رسول الله ﷺ أمرني أن أراجعها. لاعتبار أن هذا الطلاق يعتبر طلاقًا رجعيًّا ممّا يدل بطريق الوضوح أن الطلاق بالثلاث هو كالطلاق بالثنتين، الذي أفتى رسول الله ﷺ ابن عمر بأن يردها ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.

وأما قول ابن عمر: أما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. رواه مسلم.

فهذا هو الجواب الشافي الكافي والذي يجب أن يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، وأن المطلق بالثلاث جميعًا هو كالمطلق بالثنتين جميعًا.

وقد قال فيه ابن عمر: إن كنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. لكونه طلاق بدعة غير مشروع، والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [368] وكفى بمعصية الله إثمًا، ولهذا قال: فردها عليّ ولم يرها شيئًا.

وأما الرواية الأخرى التي فيها: فردها عليّ وحسبت تطليقة. فإن هذه الرواية ينفيها صحة الحديث، فإن الرسول لا يحتسب إلا الطلقة الشرعية لا البدعية، كما عليه مدار نصوصه وأصوله. ويترجح أنها من قول بعض الرواة المقلدين لمذاهبهم، ولهذا كان ابن عباس يرى أن الطلاق عند أول كل طهر.

ثم إن الأصل الذي عليه السلف والفقهاء أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقود بتحريم الشارع لها وهذا متواتر عنهم.
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشـروط فكان ذا بطلان
قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار: (باب الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا معًا) ثم ذكر حديث أبي الصهباء، ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا فقد وقعت عليها واحدة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا الوقت على صفة، فطلقوا غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً وكَّل رجلاً وأمره أن يطلق امرأته في رمضان فطلقها في شعبان، أو أمره أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثًا، فإن طلاقه لا يقع لمخالفته لما أُمر به. ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم يبرك على ركبتيه، ويفجّر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق. ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه). انتهى كلام الطحاوي.

* * *

[368] متفق عليه من حديث عائشة.

عمر بن الخطاب وإمضاء الطلاق بالثلاث

ثم قال الشيخ محمد أمين: الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هنَاتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة! فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع[369] الناس في الطلاق فأجازه عليهم. هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهذه الطريقة الأخيرة أخرجها أبو داود.

وقال بدله: عن غير واحد. ولفظ المتن: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل جعلوها واحدة على عهد رسول اللهﷺ وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناسَ، يعني عمر، قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم.

وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:

الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة، ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلاً ولا شرعًا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاث مرات في وقت واحد، فطلاقه هذا طلاق الثلاث، لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة؟ من أين أخذت كونها بكلمة واحدة؟ فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟ فإن قال: لا يقال له: الطلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة، وهو أسعد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له. وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد، سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع، مما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة. انتهى.

فالجواب: أن الشيخ - رحمه الله - في تقريره قد تهالك في تقوية رأيه ونصر مذهبه، على حسب ما يعتقد من جعل الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو ألفاظ متعددة فإنه طلاق شرعي غير بدعي، فإن قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ يريد به الطلاق الشرعي، وكونه يقع عند ابتداء كل طهر. وهذا معنى قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي في قُبل عدتهن، كما قال ابن عباس: إن الطلاق عند كل طهر[370]. ثم إنه حاول إدخال هذه الرواية الضعيفة التي فيها طلاق غير المدخول بها، فساق قول ابن عباس: إن الإنسان إذا طلق امرأته غير المدخول بها ثلاثًا جعلوها واحدة، يوهم الناس أن الإجماع السابق الذي كان على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر أنه طلاق غير المدخول بها فسبحان الله!.. كيف يتم صرف الكلام إلى غير المعنى المراد منه، فإن غير المدخول بها تَبين بواحدة بقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩ [الأحزاب: 49]. فهذه القضية لا خلاف فيها بين الصحابة ولا عند العلماء الذين ينكرون الطلاق بالثلاث كشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيّم وغيرهما. ثم إن قوله: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. فإنها تعتبر ثلاثًا. يريد أن يجعل هذا الطلاق بصفته طلاقًا شرعيًا، ونحن إنما نحمل قوله مع جلالة قدره وسعة علمه على عدم التفقه في الطلاق الشرعي، لكونه قد صرف جُلّ علمه وجلّ فهمه في الطلاق البدعي، يحاول جعله شرعيًّا، فأنى له برفع أنف جدَّعته المخالب.

والطلاق الشرعي يجب أن يكون عند ابتداء كل طهر، فمتى قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. في طهر لم يجامعها فيه، فإنها تطلق بواحدة، والثنتان تعتبران لغوًا. لأن المفروض كون الطلاق رجعيًّا فرضًا محتمًا على الناس لقوله سبحانه: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي في قبل عدتهن، والرجعية لا يلحقها طلاق.

فسنة الطلاق هي أن الإنسان متى عزم على طلاق زوجته فإنه يجب عليه أن يراعي حدود الله ومحارمَه، والله يقول: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ [الطلاق:1].

فمن واجب الإنسان أن يطلِّق في طهر لم يجامعها فيه، ثم يتركها حتى تحيض حيضة، وبعد فراغها من غسلها عن الحيض، فإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها، كما يُشهد على طلاقها، وإن لم يراجعها فإنها تمضي في سبيلها في تكميل عدتها المشروعة في حقها، إلى أن تحيض الحيضة الثالثة وتغتسل منها، وعند ذلك تَبين من زوجها بينونة صغرى، إذا لم يطلقها سوى الطلقة الأولى، سواء كانت واحدة أو الثانية، فإن راجعها في خلال عدتها قبل أن تغتسل من حيضتها الثالثة، فهي زوجته كحالته السابقة بلا عقد ولا غيره لكون الرجعية زوجية، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ والقرء هو: الحيض، ويطلق على الطهر. ثم قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي: في زمن العدة. أما إذا خرجت من العدة أي بعد أن اغتسلت من حيضتها الثالثة، فقد قلنا بأنها تبين من زوجها بينونة صغرى. بمعنى أنه إذا ندم زوجها على طلاقها، وحاول أن يخطبها من أهلها، فإنها تباح له حينئذ بعقد جديد مستوف لشروط الصحة، إذ هو كخاطب من الخطّاب، وهذا من فضائل الطلاق الشرعي، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ [البقرة: 232].

قال ابن كثير في التفسير عن علي بن طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله الأولياء أن يمنعوها.

وذلك أن الطلقة الواحدة تبين المرأة إذا لم يراجعها زوجها في عدتها، ومثله الطلقتان المفرقتان، وعند الثالثة إما أن يمسك بمعروف أو يطلق بإحسان، فإن لم يطلق فإنها تطلُق منه ولا تحل له إلا بعقد جديد. وقد روى البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في معقل بن يسار وأخته، أن أخته طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها زوجها، فأبى معقل، فنزل قول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ.

وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار، وصححه الترمذي أيضًا ولفظه: عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهواها وهوته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لُكع بن لُكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدًا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢ [البقرة:232].

فدلت هذه الآية وتفسير الحديث لها على حسن الأدب مع الله في اختيار الطلاق الشرعي، وحسن عاقبته، من كون الزوج متى ندم على طلاقه ورغب في زوجته ورغبت فيه فإنه يجوز بعقد مستأنف من جديد.

بخلاف الحكم بلزوم الطلاق بالثلاث، وكون المقلدين يحرمونها على زوجها إلا بعد زواجها بآخر. فهم كما قال شيخ الإسلام: يحرمونها على زوجها الذي هي حلال عليه، ويبيحونها للغير وهي حرام عليه، تمشيًا مع مذهبهم وعلمائهم الذين يحكمون بذلك، وعلى إثر هذا الطلاق (المبتوتة) تسعى المرأة وزوجها في سبيل توسط المحلِّل لها. وقد لعن رسول الله المحلِّل والمُحلَّل له وسماه «التيس المستعار».

وروى مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم.

وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة؟! قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم وأجازه [371].

وأقول: إن هذا الحديث يدل على ما دل عليه القرآن في قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] والمرتان من شأنها أن تكون مرة بعد أخرى، وأن تكون كل مرة عند ابتداء كل طهر، إلا أن تكون المرأة حاملاً أو آيسة. يقول ابن عباس: إن الطلاق عند ابتداء كل طهر [372]. وهذا هو الإجماع السابق الذي دل عليه هذا الحديث زمن النبي ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر. وما كان شرعًا سابقًا زمن الرسول، ولم ينسخه الرسول فإنه شرع الله الذي لا يتغير ولا يتبدل إلا بسبب يقتضيه الشرع، وعمر وابن عباس وسائر الصحابة بشر ليسوا بمعصومين، قد يقع من أحدهم الخطأ على سبيل الاجتهاد، وله على خطئه أجر وعلى صوابه أجران.

لكن لا يكون حكمه أو تأديبه شرعًا مستمرًّا دائمًا، فمع فرض كونه أدّب الناس زمن ولايته ليرتدعوا عن سوء ما يعملون من شأنهم في الطلاق بالثلاث جميعًا، وهو أمر محرّم فألزمهم به تأديبًا لهم، فإنه لا يلزم أن يستمر هذا التأديب إلى يوم القيامة، وشرع الله أوفق ودين الله أحق.

ونحن نسوق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيله لهذا الطلاق الذي ألزم عمر الناس به.

قال شيخ الإسلام تعليقًا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم. فأنفذه عليهم.

قال: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث...

وإن قُدِّر أن عمر رأى ذلك لازمًا فهو اجتهاد منه اجتهده.

ومن جعل قول عمر فيه شرعًا لازمًا قيل له:

هذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رَدّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول.

وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين فيه بعمر. ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين: من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق عليٍّ الزنادقة بالنار، ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل الله له فرجًا ومخرجًا ولم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم، ألا يطلق إلا سُنِّيًّا، فإنه من المتقين في باب الطلاق، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة بل يلزم بواحدة فيها.

والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين:

إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة، كالزيادة على أربعين في الخمر، وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازمًا.

وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعًا لازمًا كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي.

وعلى هذا فالقول الراجح لهذا الموقع أنه يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته. انتهى[373].

فمتى علمنا هذا وكون عمر قد أراد به خيرًا، وقد تربى الناس على صحة إيقاع الطلاق بالثلاث، شب عليه الصغير وهرم عليها الكبير، ولم يجدوا من العلماء من يبين للناس خطأهم فيها، وصار العوام وبعض العلماء يظنونها حقًّا، ويحكمون بموجب لزومها؛ يعمد الشخص إلى أحد القضاة أو كتاب الوثائق فيوقع طلاق امرأته عنده بالثلاث، ثم يرجع إلى بيته فيصيح بامرأته وورقة الطلاق بيده، ويقول: اخرجي عن بيتي، أنت طالق، فلا يحل لي أن أرى وجهك. فينفذ القاضي صحة قوله وطلاقه، فلا يحكم لها بنفقة ولا سكنى، لاعتبار أنها مبتوتة أي مقطوعة. واعتمد الأئمة لصحة وقوع هذا الطلاق على حديث فاطمة بنت قيس أن أبا حفص طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. وأبو حفص إنما طلقها طلقة بعد طلقة، ثم أرسل لها الثالثة وهو باليمن. وهذه قد استوفى زوجها عدد الطلقات الثلاث وهي في بيته، فلا سكنى لها ولا نفقة.

ولما استدعاها مروان بن الحكم وسألها عن الطلاق الواقع عليها، حيث استفاض بين الصحابة أنها امرأة قد تحفظ وقد تنسى، فقالت لمروان: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] فهل بعد إيقاع الثلاث ينتظر أمر يحدث.

لهذا التزم المقلدون بالاستدلال بهذا الحديث، وهو واقع في غير موقعه الصحيح، فلا يقاس عليه طلاق المبتوتة التي طلقها زوجها بالثلاث في مجلس واحد وبلفظ واحد، فإن هذه في حكم الشرع رجعية، كما قال ابن عباس: إن الطلاق في أول كل طهر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

إن الطلاق الشرعي من لوازمه أن يكون رجعيًّا، بحيث إذا ندم على طلاقه أرجع زوجته إلى عصمته ما دامت باقية في عدته.

بخلاف من يحكمون بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًّا، فإنهم يحرمونها عليه ويسقطون نفقتها وسكناها فيندم حيث لا ينفع الندم كما قيل:
ندمت وما تغني الندامة بعد ما
خرجن ثلاث ما لهن رَجيع
ثلاث يحرِّمْنَ الحلال على الفتى
ويَصْدعْنَ شمل الدار وهو جميع
يقول العلامة ابن القيّم في كتابه إغاثة اللهفان: إن الذين يفتون بإيقاع الثلاث جميعًا أعظم إثمًا من الذين يفتون بجعلها عن واحدة وكونها تحل لزوجها، فإن هؤلاء يبيحونها لزوجها فقط، أما أولئك الذين يحرمونها بالثلاث، فإنهم يحرمونها على زوجها وهي حلال له، ويبيحونها للغير وهي حرام عليه. انتهى.

* * *

[369] التتايع: هو التتابع في الشر بدون تروٍّ ولا تفكير. [370] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس. [371] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [372] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس. [373] من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية مجموعة الشيخ ابن قاسم ص96، ص97 ج33.

فتوى ابن عباس في وقوع الطلاق بالثلاث

ثم قال الكاتب:

(ومن حجتهم على إيقاع الثلاث جميعًا، ما رواه أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا. فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول يا ابن عباس. إن الله تعالى قال: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربّك، وبانت منك امرأتك. وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير ابن عباس للآية).

فالجواب: أن ابن عباس رضي الله عنه هو حبر الأمة وترجمان القرآن وفقيه الصحابة، قد انفرد بأقوال وفتاوى خالفه فيها جُلُّ الصحابة.

وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، وهذه الفتوى الصادرة منه هي رأي ويدفع بروايته، لكون الرواية مقدمة على الرأي. وقد قال طاوس: أشهد بالله لقد سمعت ابن عباس يجعل الطلاق بالثلاث واحدة.

وقد حكى شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنه كان يفتي بلزوم الثلاث في بداية عمره، ثم رَجع عن رأيه، وقال: تدبّرت الكتاب والسنة فرأيت أن الطلاق الشرعي هو الرجعي، فلا يقع بالثلاث جميعًا إلا واحدة. وأن ابن عباس في زمانه لا يستطيع أن يخالف رأي عمر، فأفتى السائل بما أنفذه عمر من بينونة زوجته، قال: يركب أحدكم الأحموقة فيطلق ثلاثًا، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! عصيت ربك وبانت منك امرأتك[374].

والله سبحانه نصب العلماء كالنجوم يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، فلو عذرنا من أفتى بذلك زمن عمر، فإن عمر رضي الله عنه قد مضى إلى رحمة الله تعالى، وعندنا كتاب الله وسنة رسوله فهما الحكم القسط يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان الخلاف إلى مواقع الإجماع. والناس في هذا الزمان وخاصة بعض العلماء وأكثر العوام، يرون أن الطلاق بالثلاث جميعًا مشروعة، فهم يسألون متى وقعوا في هذه الشبكة إلى من يخرجهم منها.

فمن واجب العالم التقي والحاكم الشرعي أن يبين للناس ما نزل إليهم من شريعة ربهم.

وعلى فرض صحة الأثر عن ابن عباس، فإنه محمول على كونه أفتى به في خلافة عمر، فلا ينبغي أن يخالفه في أمر أراد عمر أن يؤدب به رعيته، ليرجعوا إلى الطلاق الشرعي الذي يملك به الرجل عصمة امرأته. ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

لكنة انقلب الأمر بعد أمير المؤمنين عمر، حيث جعل الناس هذا الطلاق البدعي هو السُّنِّي، وأصبحوا لا يعرفون غيره، شبّ عليه الصغير وهرم عليه الكبير حتى نسوا معالم الطلاق الشرعي وآدابه.

ثم إن هذا الأثر عن ابن عباس يؤكد صحة ما قلنا، من أن الطلاق بالثلاث جميعًا هو بدعة ومنكر من القول وزور. وقد قال ابن عباس لمن سأله عنه: أنت عصيت ربك. وكفى بعصية الله إثمًا. ثم قال: وإنك لم تتق الله - أي بامتثال أمره واجتناب نهيه - فلم يجعل لك فرجًا ولا مخرجًا؛ لكون الناس زمن الرسول ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن يعرفون الطلاق الشرعي ويوقعونه على حسبه عند حاجتهم إليه، وإن أوقعوه جميعًا جعلوه عن واحدة، كما جرى لطلاق أبي ركانة، وطلاق أبي حفص لزوجته فاطمة بنت قيس، وطلاق صهر معقل بن يسار. وحيث شبّ الناس على هذا الطلاق البدعي من لدن أتباع الأئمة، وصاروا لا يعرفون غيره، فإنه ينبغي أن يجاب السائل بما أنزل إليه من ربه، لكون العامي مشتق من العمى، والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44].

ولكل مقام مقال، فهؤلاء الذين يتعجلون بإيقاع الثلاث جميعًا، هم من العوام الذين لا يعرفون أحكام الإسلام ولا شريعة الطلاق، ويضيق صدر أحدهم بامرأته، وقد عرف أن الطلاق في الشرع هو ثلاث، فأراد أن يتعجل هذه الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات في مجلس واحد، فيبت بها طلاقها حتى يسلم من نفقة عدتها وسكناها. وهي مخالفة صريحة لأمر الله وحكمه، ومثل هذه الفتيا رجل مقلّد سأله إنسان عن طلاق زوجته بالثلاث جميعًا، فحرّمها عليه إلا بعد نكاح زوج غيره، ثم أنشد شعرًا ضمنه كتابه:
يا سائلي عن رجل قد طلقا
زوجته وبالثلاث نطقا
بلفظة واحدة قد جمعا
مرتكبًا محرمًا مبتدعا
ثم أتى مستفتيًا ليرجعا
فالحكم أن يُضرب ضربًا موجعا
لأنه طلاق بدعي
وبائن في الشرع ليس رجعي

فهذا أحد علماء الأحساء ويدعى الشيخ أحمد بن مشرف وهو سلفي العقيدة، لكنه من المقلدين الذين يقيّدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، كما ترى من شعره، وقد سمعت حكمه على هذا السائل بأن يُضرب ضربًا موجعًا، مع كونه يعترف بأنه طلاق بدعي، فهذا وأمثاله كثيرون.

ومثله الشاعر الرصافي الذي طلق زوجته ثلاثًا جميعًا، فطاف على العلماء يسأل عن طلاقه، وكل واحد منهم يقول: بانت منك وحرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك. فعمل قصيدته البائية ومنها:

ألا قُل في الطلاق لموقعيه
بما في الشرع ليس له وجوبُ
غَلوتُمْ في ديانتكم غُلوًّا
يضيق ببعضه الشـرعُ الرحيبُ
وَهَى حَبلُ النكاح وصار حتى
يكاد إذا نفخت به يذوب
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
فذا ابن القيم الفقهاء كم قد
دعاهم للصواب فلم يُجيبوا
والذي جعل هذا الطلاق البدعي يستفحل أمره واتباعه بين الناس حتى لا يعرفون غيره، هو كثرة أنصاره من سائر المقلدين لأئمة المذاهب.

وحسبنا ما نقله الكاتب عن الإمام ابن العربي رحمه الله، حيث قال: اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام، بأن الطلاق بالثلاث جميعًا وإن كان في قول بعض العلماء أنه بدعة، وفي قول الآخرين أنه حرام، فإن هذا الطلاق لازم.
إذا كان هذا نص قاضٍ وحكمهُ
فمن ذا الذي منه الهدى يُتعلمُ
قال العلامة ابن القيّم في مختصر الفوائد: إن الناس لما أعرضوا عن تحكيم الكتاب والسنة، ورأوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس واستحسان أقوال الشيوخ، عرض لهم في ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم، فعمّتهم هذه الأمور وغلبت عليهم، حتى رُبِّي فيها الصغير وهرم عليها الكبير. ثم جاءت بعدهم دولة أخرى أقامت البدعة مقام السنة، والمنكر مقام المعروف، والظلم مقام العدل. وكان أهل هذه الأمور المشار إليهم بالأصابع، فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وجيوشها قد ركبت[375]، فبطن الأرض - والله - خير من ظهرها، ومخالطة الوحش خير من مخالطة الناس. انتهى.

وذكر العلامة ابن القيّم أيضًا: أنه قد صح عنه ﷺ أن الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وأن الصحابة كانوا على ذلك، وأنهم كانوا يفتون به في حياته وحياة الصديق...

وقد أفتى هو ﷺ به. فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أَخذٌ باليد[376]، ولا معارض لذلك، ورأى عمر رضي الله عنه أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرًا لهم، لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه، غايته أن يكون سائغًا لمصلحة رآها، ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله ﷺ وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته، فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء. وبالله التوفيق.

وقال في موضع آخر: هذا كتاب الله تعالى، وهذه سنة رسول الله ﷺ، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله ﷺ والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدّهم العاد بأسمائهم واحدًا واحدًا، لوَجَد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى وإما وبإقرار عليها. ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك، فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر. وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى أو إقرار أو سكوت، وقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنًا بعد قرن وإلى يومنا هذا.

فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا. بفم واحد؛ فهي واحدة[377]. وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف.

وأما التابعون فأفتى به محمد بن إسحاق وخلاس[378] بن عمرو والحارس العكلي. وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، وأفتى به بعض أصحاب مالك، وأفتى به بعض الحنفية، وأفتى به بعض أصحاب أحمد.

والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله. والذي ندين الله تعالى به ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول اللهﷺ ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان[379]. انتهى حاصله. وقال الشيخ يوسف القرضاوي:

إن عيب الكثيرين من المشتغلين بالعلم أنهم سجنوا أنفسهم في قمقم التقليد والتعصب لمذهب معين لا يخرج أحدهم عنه، وإن بدا له ضعف مأخذه أو تهافت دليله لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أرجح ميزانًا وأفصح برهانًا. هذا مع نهي الأئمة المتبوعين رضي الله عنهم عن تقليدهم وترغيبهم في العودة إلى المنابع والأخذ من حيث أخذوا.

والحق أن التقليد لا يسمى علمًا، فالعلم هو معرفة الحق بدليله لا مجرد تلقي اللاحق عن السابق والخلف عن السلف، وإذا قُبل التقليد من العوام لم يُقبل أبدًا من العلماء الذين وقفوا حياتهم على العلم والبحث، ورحم الله من قال: لا يُقلد إلا عصبي أو غبي.

ويقول: وكم من عالم خلع ربقة[380] التقليد من عنقه وانتهى به البحث إلى رأي ارتضاه، ولكنه يكتمه أو يبوح به لخاصته والقريبين منه ولا يجرؤ على إذاعته بين جمهور الناس اتقاء لثورتهم التي لا تقف عند حد، وحرصا على السلامة من ألسنة هي أحدُّ من السيوف... والعالم الشجاع إذا وصل باجتهاده إلى رأي في قضية أذاع به وأعلن عنه ولم يبال في ذلك بهياج العامة وبسخط الخاصة. انتهى.

وقد قال بعض العلماء: إن محاسن الإسلام وحقائقه تذهب بين الجاحد والجامد. وقيل:
شكا دينُ الهدى مما عراهُ
بأيدي الجاحدينا الجامدينا
فالجاحدون يحسبون الدين جهلاً والجامدون يحسبون الجهل دينا

* * *

[374] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. [375] ركبت: أي علت وظهر أمرها. [376] لعله يقصد: أي يأخذ أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم بيد بعض في القول بفتوى رسول الله ﷺ. أو لعله يقصد أن هذه أدلة كأنها تأخذ بيد المستفتي إلى أقرب الطرق لمعرفة الصحيح من المسألة. [377] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. [378] لعله يقصد حديث أبي ركانة: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» رواه أحمد وأبو يعلى، وحديث مسلم عن ابن عباس أن الطلاق ثلاثًا كان واحدة على عهد رسول الله ﷺ. [379] ذكره صاحب الروضة الندية في الجزء الثاني كتاب الطلاق. ص51 - 54. [380] الرِّبْقَة والرِّبْق بمعنى واحد، وهو حبل يشد في عنق البهيمة والمراد: خرج من دائرة المقلدين.

وجوب الالتزام بالشرع والوقوف عند حدوده

إن الله سبحانه أرسل رسوله محمدًا ﷺ يهدي إلى الهدى ودين الحق، وأنزل عليه كتابه المبين ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فجاءنا بدين كامل شامل، بيّن فيه الحلال والحرام وسائر الأحكام، فنظم حياة الناس في عباداتهم وبيعهم وشرائهم ونكاحهم وطلاقهم أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان.

فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لكانوا به سعداء، لأنه يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

وقد أكثر سبحانه من الآيات التي فيها أحكام النكاح والطلاق. فقال فيها:

﴿ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢ [البقرة: 232].

ورغب سبحانه في النكاح فقال: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32] والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة. وضَيّقَ مسالك الطلاق لكونه كريهًا عند الله، يهدم بيوت الأُسر والعائلات، ويفرق بين الأهل والبنين والبنات، ويوقع العداوة بين الأصهار والعائلات، روى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ». وقال: «إِنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ»[381] وورد: «لَعَنَ اللهُ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ»[382].

لهذا شرع سبحانه في الطلاق أمورًا توجب التمهل فيه وعدم التسرع إليه، فشرع سبحانه أن لكل مطلقة عدة ثلاث حيض ممّن تحيض، أو بوضع حملها أو ثلاثة أشهر في الآيسة والصغيرة. وفي أثناء هذه العدة شرع الله للزوج فيها الرجعة ما دامت في عدته وحباله. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ ثم قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228]. أي في زمن العدة لكون الرجعية زوجية إن ماتت في عدته ورثها وإن مات في عدتها ورثته، حكم من الله ولا تبديل لحكمه. ثم إنها ما دامت في عدته، فإنه يجب عليه نفقتها وسكناها وفي أثناء العدة ينظر في نفسه وهذه رحمة من الله لعباده، ولو ارتفع حيض ذات المحيض بسبب رضاع ونحوه فإنها تمكث في عدتها إلى حين رجوع الحيض إليها، ولا يحل لها أن تنتقل عنه إلى العدة بثلاثة أشهر لكونها من ذوات المحيض وليست من الآيسات.

ففرض العدة وجواز الرجعة زمنها هي فرائض مُحتمة من الله كفرائض الصلاة والصيام، لكن المقلدين من أهل المذاهب يستبيحون سقوط لوازم هذه العدة من النفقة والمسكن كما يحرمون الرجعة في زمنها ويسمونها المبتوتة.

﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

لهذا رأينا كاتب الرسالة لم يجعل لعدة النساء ذكرًا ولا للرجعة زمنها شأنًا؛ لأنه لو بيَّن العدة والرجعة لهدمت أُصول مذهبه، وهو إنما يتكلم في الطلاق بالثلاث سواء كان بلفظ واحد أو بألفاظ، فإن حكم الشرع لا يختلف في موضوعه، لكون المطلق لا يحق له إلا طلقة واحدة عند ابتداء كل طهر، فإن زاد عليها الثانية والثالثة اعتبرت لغوًا، لكون الرجعية لا يلحقها الطلاق زمن عدتها.

وروى البخاري من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فقالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». مما يدل على أن سنة الطلاق هو أن يطلقها تطليقة واحدة. ولأبي داود والترمذي وحسّنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت عنه، فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة واحدة. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في المختلعات والمفسوخات بأن يكتفى منهن بحيضة واحدة.

* * *

[381] رواه الترمذي والبيهقي عن ثوبان، ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، والطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر. [382] في رواية الطبراني عن أبي موسى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ».

دعوة العلماء للعمل بالسنة

فيا معشر علماء المسلمين يجب علينا أن نحاسب أنفسنا وأن نفكر في أعمالنا وأحكامنا، هل نحن فيها على هدى أو في ضلال مبين؟ وهل نحن متّبعون أو مبتدعون؟

إن الحكم بالطلاق الثلاث المجموعة بكونها طلاقًا بائنًا لا تحل المرأة فيه لزوجها إلا بعد زوج آخر، فإن هذا حكم جائر يترتب عليه فنون من المساوئ والسيئات ومن الظلم والظلمات.

فمن مساوئه: أن العلماء سمّوه طلاق البدعة، ونحن - معشر المسلمين - يجب علينا أن نحارب البدعة وأن نردها إلى السنة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء: 59].

ولحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[383].

ومنها: أن الحكم بلزوم هذا الطلاق البدعي يترتب عليه لوازمه من سقوط النفقة والسكنى، حيث إن القائلين به والمتمسكين بمذهبه، استدلوا على سقوط النفقة والسكنى بحديث فاطمة بنت قيس، حيث بلغهم بلفظ أن أبا حفص طلقها ثلاثًا ولم يجعل لها رسول اللهﷺ نفقة ولا سكنى عليه، وأمرها أن تخرج من بيته إلى بيت ابن أم مكتوم. وقد غلطوا في فهم حديث فاطمة بنت قيس، فإن طلاق فاطمة وقع مفرقًا حسب الطلاق الشرعي، وعلى صفة ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه في الإجماع السابق.

ولفظ الحديث أنه أرسل لها بآخر تطليقة من الطلقات الثلاث وهو باليمن، وطلب وكيله منها أن تخرج من بيته، وقد قال رسول الله ﷺ - فيما رواه النسائي-: إنه لا يجب للمطلقة نفقة إلا إذا كان لزوجها عليها رجعة، أما إذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى، فأئمة المذاهب أخذوا بقوله في الحديث أنه طلقها ثلاثًا ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى على زوجها، ولم ينظروا إلى تفصيل الحديث وسبب سقوط النفقة، وهو كونها خرجت من عدتها بالثالثة، فلم يبق له عليها رجعة، كما أنه لم يبق لها عليه نفقة ولا سكنى.

فالذين يحكمون بلزوم الثلاث هم يحكمون بسقوط نفقتها زمن عدتها، ويقولون: إن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، والشرع يوجب النفقة لكل مطلقة ما دامت في العدة، كما أنهم يحرمون رجوع الزوج عليها زمن عدتها، وأنها لا تحل له إلا بعد زوج آخر.

ومن مساوئ الطلاق بالثلاث مجموعة: كونهم يحكمون بانقطاع الإرث من كل واحد منهما متى مات وهي في عدتها أو ماتت وهي في العدة، لزعمهم أن المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة ولا ترث زوجها ولا يرثها.

والطلاق الذي شرعه الله من لوازمه وموجباته بقاء المرأة في عدة الزوج حتى تخرج بعد غسلها من الثالثة، أو بعد وضع حملها أو بعد ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة. وهذه العدة والرجعة في خلالها هي فرائض من الله كفريضة الصلاة والصيام لا يجوز لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. يقول الله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي في حالة العدة. لكون الرجعية زوجية، والطلاق الشرعي من لوازمه أن يكون رجعيًّا.

لقد مكثنا زمانًا ونحن نرى كبار علماء المملكة العربية السعودية يفتي بعضهم بجعل الطلاق بالثلاث واحدة، يحكمون بذلك ولا يتأثمون. منهم مشايخ آل عتيق ومنهم الشيخ ابن سالم قاضي بلدان الخرج. وكذا الشيخ عبد الكريم البكري من أهل البكيرية وسكن بعمان وتوفي فيها فكان يفتي به لأهل عمان.

وحدثني الشيخ عبد الله بن قاسم الثاني حاكم قطر سابقًا، وهو ثقة صدوق، قال: حججت أول فريضتي فزرت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشيخ رحمه الله فبحثت معه في الطلاق بالثلاث جميعًا، فقال لي: أنا أفتيت بجعلها عن طلقة واحدة ثلاث مرات مع ثلاثة أشخاص.

وآخر من سمعنا عنه بأنه يفتي بها هو فضيلة العالم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عفا الله عنه، وأن جميع علماء العرب المسلمين في الأمصار كمصر والسودان والمغرب وسورية والكويت، قد عمّم علماؤهم العمل بجعل الطلاق الواقع بالثلاث عن طلقة واحدة، فأنقذوا قومهم من التورط في هذه المشكلة وساروا في طريقهم على وفق السنة المطهرة.

ومن مساوئ الحكم بلزوم الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو في طهر واحد: أنها تفتح باب التحليل على مصراعيه، بحيث إن الرجل متى انفلتت منه هذه الكلمة في حالة الغضب أو التشاجر، ثم ندم على ما فرط منه، وحاول الرجوع إلى زوجته، وربما أنها أم عياله، ثم سأل عن طلاقها العلماء الموجودين في بلده، وكلهم أفتوه بأنها حرام عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فإنه حينئذ تضيق به الأرض بما رَحبت، ويشتد حنقه[384] وقلقه على فراقها، ويزداد تلهفه على حبها، كما أنها تبكي على فراق زوجها، وقد قيل:
مُنعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا
فإنه حينئذ يعمل حيلته في توسط المحلل بينه وبين زوجته، وقد قال النبي ﷺ: «لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»[385] وسماه «التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ» وأكثر الناس لا يبالي عند وقوعه في هذه الضرورة كما قيل:
ألا قاتل الله الضـرورة إنها
تُبيح إلى المضطر أدنى الضـرائر
وقد ذكر في التاريخ أن رجلاً من العرب طلق زوجته بالثلاث فندم عليها حيث لم يجد من يفتيه بإرجاعها فأنشد:
ظلمتُك بالطلاق بغير جرم
ألا بِيني بنفـسي أن تبِيني
فأجابته بقولها:
رحلتُ إليه من بلدي وأهلي
فجازاني جزاء الخائنينا
فمن راني فلا يغترُّ بعدي
بحُلوِ القول أو يبلُو الدفينا
ومن طبيعة النفوس أنه متى سُدَّ عنها مشروعها فإنها تقتحم منه إلى محظورها.

ومن مساوئ الإفتاء بجعل الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو في طهر واحد أنها طلاق بائن، فإن من شؤم هذا الحكم وهذا الإفتاء، أنها نقلت أمة ظاهرة قاهرة من مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة.

وذلك أن فارس في قديم الزمان غالبُ سكانه من أهل السنة، والشيعة فيه قليلون إلى عام 707هـ حيث تولى الحكم الملك خدابنده محمد بعد أخيه غازان، وقد كان أخوه غازان ميّالاً لأهل السنة، وجاء خدابنده واستمر بعض الوقت مقيمًا على السنة إلى أن كانت سنة 709هـ حينما انتقل إلى مذهب الشيعة.

يقول الخوانساري في مؤلفه روضات الجنات: إن لابن المطهر دورًا بارزًا في تحويل السلطان من مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة، ويذكر لنا رواية تظهر هذا الدور الخطير.

وهي أنه غضب يومًا السلطان خدابنده من زوجته فطلقها ثلاثًا، ثم أراد أن يردها إلى عصمته، فقال له فقهاء أهل السنة: إنه لا سبيل إلى ذلك حتى تنكح زوجًا غيره. وصعب عليه ذلك، فأشار عليه رجال حاشيته من الشيعة أن يدعو فقيهًا من علماء الحلة[386] هو ابن المطهر، وأكدوا للسلطان أن هذا العالم هو الذي يخرجه من هذه الورطة، فلما حضر ابن المطهر واستفتاه السلطان فيما وقع منه من الطلاق ثلاثًا، سأله: هل طلقت بحضور شاهدين عدلين؟ قال السلطان: لا. فأفتى له ابن المطهر بأن الطلاق لم تتحقق شروطه، ولذلك لم يقع، وله أن يعاشر زوجته كما كان يعاشرها قبل الطلاق، فسُر السلطان بهذه الفتوى، فتشيع الملك. وبتسويل ابن المطهر كتب خدابنده إلى عماله بالأمصار بأن يُخطب باسم الأئمة الاثني عشر على المنابر، ونقش أسماءهم على نقوده، وأمر بأن تنقش على جدران المساجد والمشاهد منهم. انتهى.

فعند الشيعة أن الطلاق البدعي لا يصح ولا يلزم مثل الطلاق بالثلاث جميعًا، فإنها لا تصح عن واحدة، ولا عن ثلاث! وكذلك الطلاق في طهر جامعها فيه، أو الطلاق في الحيض، أو الطلاق غير المشهود عليه، فكلّ هذا يعدونه غير صحيح وغير لازم! ويستدلون بحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[387].

[383] متفق عليه من حديث عائشة. [384] الحنق شدة الاغتياظ. [385] أخرجه أصحاب السنن، والإمام أحمد، عن علي وعن عبد الله بن مسعود. [386] الحلّة: قرية مشهورة في أطراف بغداد. [387] متفق عليه من حديث عائشة.

الطلاق الشرعي هو ما شرعه الله ورسوله

إن القرآن الكريم والذكر الحكيم قد سبق إلى بيان كل فريضة وفضيلة، فضمّن الله كتابه كثيرًا من الآيات المحكمات المتضمّنة لبيان أصل الطلاق وتفصيله والأدب مع الله فيه، وبيان حلاله وحرامه، وبيان عِِدَد النساء مع اختلاف أنواعها، وبيان الرجعة ومن تستحق النفقة والسكنى ومن لا تستحق ذلك، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الشأن، وكل ما ذكر الله من أحكام الطلاق فإنما يتمشى على الطلاق الشرعي الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والذي هو معروف زمن النبي ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن، وهو كون الطلاق بالثلاث عن واحدة رجعية، حتى نقلهم عمر - رضي الله عنه - عنها إلى الإلزام بها، ولا يزال من الصحابة من يفتي بجعل الثلاث عن واحدة كعلي والزبير وابن مسعود في كثير من الروايات عنه.

ومن العجب أن هذا الشيخ الفاضل لم يذكر في بحثه الطويل العريض شيئًا من آيات القرآن المتعلقة بالطلاق الدالة على بيان حلاله وحرامه، لعلمه أن الاستدلال بها يعود عليه بسقوط مذهبه وتفنيد رأيه، ويكون استدلاله بها حجة عليه لا له، لهذا نراه يبعد عن الاستدلال بها كل البعد، ونراه يبالغ في صرف الكلام إلى غير المعنى المراد به، ويقول: إن الطلاق الذي كان على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر والذي نقلهم عمر عنه إلى الإلزام به، هو طلاق غير المدخول بها. ويستدل لهذا بأقوال ضعيفة وموضوعة، وتارة يقول: إن الطلاق الذي نقلهم عمر عنه، هو أنهم كانوا في ذلك الزمان صحيحة نياتهم، فكان أحدهم يطلق طلقة تأسيسية ويؤكدها بطلقتين، ومن المعلوم أنه يدان بنيته حتى عند الذين يحكمون بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا.

فسبحان الله ما أجرأه على التبديل بدلاً من التعديل، فقد حاول صرف الناس عن التعلق بهذا الحديث الصحيح الصريح الثابت في صحيح مسلم وفي السنن والمسانيد، والذي حدّث به ابن عباس في الطلاق الرائج بين الناس، والذي يكثر وقوعه دائمًا زمن الصحابة ومن بعدهم، ويقول: إن المراد به طلاق غير المدخول بها. ومن المعلوم أن غير المدخول بها لم يحصل فيها خلاف بين الصحابة ولا من بعدهم إلى يومنا هذا، وأنها تبين من زوجها بطلقة واحدة، حتى ولو طلقها بالثلاث فإنها تبين بواحدة، يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩ [الأحزاب: 49].

فهذه المرأة غير المدخول بها تبين من زوجها بطلقة واحدة، ولو ندم وحاول إرجاعها إلى عصمته فإنه تجوز له بعقد جديد.

وإننا عندما نتكلم على الطلاق في رسالتنا هذه، فإنما نتمشى فيها على الطلاق السني لا البدعي، إذ البدعي زيادة في الدين، ومن شريعة البشر لا من تشريع رب العالمين، فهو يدخل في عموم قوله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ [الشورى: 21] ونحن مكلّفون من قبل الله بأن نتلقى أحكامه بالقبول والتنفيذ، فنرد الطلاق البدعي إلى الطلاق السُّني، فإن قضاء الله أحق وحكمه ألزم، وهو رحمة من الله لعباده مع كراهيته له، لكن فيه الفرج والمخرج من كل ما يقع الناس فيه من الحرج.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب

* * *

تفسير ابن كثير لآيات الطلاق

لقد قلنا: إن كل ما ذكر الله في كتابه من شأن الطلاق وأحكامه وحلاله وحرامه، فإنما يتمشى على الطلاق الشرعي السني، كقوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] وقوله: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ [البقرة: 228] ومثل قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ [البقرة: 232] وقوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ [البقرة: 231] ومثله قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

قال ابن كثير: خوطب النبي ﷺ أولاً تشريفًا وتكريمًا، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري حدثنا أسباط بن محمد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: طلق رسول الله ﷺ حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة. رواه ابن جرير عن ابن بشار عن عبد الأعلى.

وروى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب، أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله ﷺ، فتغيظ رسول الله ﷺ منه، ثم قال: «لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا عَزَّ وَجَلَّ». وفي رواية لمسلم: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» [388].

ثم ساق حديث علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها، إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة.

وقال ابن كثير: من ههنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق، وقسموه إلى طلاق السنة وطلاق البدعة، فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرة من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها. والبدعي: أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا، وطلاق ثالث لا سنة ولا بدعة وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها.

وقوله: ﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1] لكونها معتقلة لحق الزوج أيضًا. ثم قال: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ أي شرائعه ومحارمه ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها ﴿فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ أي بفعل ذلك.

وقوله تعالى: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها، ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
قال الشعبي: هي الرجعة.

وقوله: ﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ [الطلاق: 2] قال عطاء: لا يجوز في نكاح، ولا طلاق، ولا إرجاع، إلا شاهدا عدل.

وعن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا رجعتها، فقال: طَلَّقْتَ لغير سنة، وراجعت لغير سنة، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُدْ [389].

ثم قال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ [الطلاق: 4] فهذه أنواع المعتدّات على اختلاف أجناسهن. انتهـى.

* * *

[388] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [389] أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين.

في مبتوتة الطلاق

اعلم أن مبتوتة الطلاق عند الفقهاء تطلق على من وقع عليها الطلاق بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة في طهر واحد، فالكلام في سكناها وفي النفقة عليها وجوبًا ومنعًا يتمشى على صفة الطلاق الذي ذكرناه.

فالذين يحكمون بلزوم هذا الطلاق وسقوط ما يترتب عليه من النفقة والسكنى يعتمدون في حكمهم على الحديث الذي رواه مسلم ورواه أحمد عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثًا قال: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةٌ».

ويسمونها المبتوتة ويحكمون بالثلاث بأنها بينونة كبرى، ويحرمونها على زوجها حتى تنكح زوجًا غيره. وقد وهم الأئمة وأتباعهم في هذا الحديث بلفظ: أنه طلقها ثلاثًا. ولم يبلغهم التفصيل الذي ذكرته فاطمة في جدالها مع مروان أمير المدينة ومع غيره، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود ومسلم بمعناه أن زوجها أبا حفص كان باليمن مع علي بن أبي طالب، فأرسل لها آخر تطليقة لها، وأمر وكيله بأن يدفع لها شعيرًا، فسخطته فجاءت إلى رسول الله ﷺ فأخبرت الخبر، فقال الرسول ﷺ: «إنه ليس لك عليه نفقة ولا سكنى، انتقلي من بيته إلى بيت ابن أم مكتوم» وفي رواية النسائي أنه قال: «إنما لا تكون النفقة إلا لمن لزوجها عليها الرجعة، أما من لا رجعة له عليها فلا نفقة لها ولا سكنى».

ولهذا قالت لمروان عند جداله لها: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] فماذا يحدث بعد الطلقات الثلاث؟ وقد صرح الأئمة بأنه لم يثبت شيء من السُّنة يخالف قول فاطمة، وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» فقد قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر. وقال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعًا.

وقال العلامة ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه، أن هذا كذب على عمر وكذب على رسول الله ﷺ وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرطُ الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصريحة الصحيحة بالكذب البحت، فلو يكون هذا عند عمر عن النبي ﷺ لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة، ولا دعت فاطمة إلى المناظرة. انتهى.

ووقوع الخطأ دخل على العلماء من لفظة: (طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى) فإن لفظ: (طلقها ثلاثًا) تحمل على كونها مجتمعة في مجلس واحد وبلفظ واحد، وعلى كونها مفرقة بين ثلاثة أطهار أي زمن العدة. وبين الصيغتين من الفرق كما بين السماء والأرض، فإن الطلاق الواقع على فاطمة بنت قيس هي ثلاث تطليقات مفرقة.

وقد أرسل زوجها إليها آخر الثلاث وهو باليمن، وعرف وكلاؤه بأنه لا حق لها على زوجها أبي حفص، لكونها بائنة منه بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد زوج، والنفقة والسكنى إنما فرضها رسول الله ﷺ على من لزوجها عليها الرجعة.

فغلط الأئمة وأتباعهم من أكثر الفقهاء وكل العامة وأكثر القضاة الذين يجيزون إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث، وهو أول طلاق وقع من الزوج، فيحرمونها عليه من لدن وقوع الطلاق، ويحرمون عليه رجعتها. ومن لوازم حكمهم بتحريم الرجعة هو حكم منهم بنسخ الرجعة من دين الإسلام التي فرضها الله بقوله: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة:228] إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ وليس في حديث بنت قيس دليل لهم في سقوط الرجعة ولوازمها من النفقة والسكنى، فإن طلاقه وقع مفرقًا، وقد أمضت عدتها في بيته، مما يدل على أن من لوازم صحته أن يطلقها عند كل طهر، لقوله سبحانه: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ والعدة هى الطهر ويجوز أن تبقى معه في البيت، وأن ينظر إلى وجهها، بل يجوز أن تتجمل له رجاء مراجعتها. ولهذا قال سبحانه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1] لأنها بمثابة المحادة لمصلحة الزوج، فمتى مضت العدة ولم يراجعها، فإن كان طلاقه لها مرة أو مرتين فإنها تبين بينونة صغرى وتنقطع نفقتها وسكناها، لكن لو بدا له بعد بينونتها أن يتزوجها جاز ذلك بعقد جديد مستوف لشروط الصحة.

وعليه يُحمل ما روى البخاري أن معقل بن يسار زوَّج أخته على رجل فطلقها، ثم إنه ندم عليها فخطبها من أخيها، قال له معقل: يا لكع أكرمتك بها وأهنتني بطلاقها، والله لا زوجتكها أبدًا. فعلم الله ما بين الزوج والزوجة فأنزل: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ [البقرة: 232] فدعا النبي ﷺ معقلاً فتلاها عليه، قال معقل: سمعًا وطاعةً لربي. فدعا الرجل وعقد له على أخته [390].

وهذا الطلاق الواقع من الرجل هو الطلاق الشرعي الذي كانوا يستعملونه زمن النبي ﷺ وزمن نزول القرآن، ومن بركته يجوز للرجل أن يتزوج مطلقته بعقد جديد.

أما لو طلقها بالثلاث مفرقة، فإنها تحرم عليه إلا بعد نكاح زوج غيره في نكاح صحيح لا نكاح تحليل، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا - أي الثالثة - ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230] ومنه يعلم أن الصحابة قد تربوا على معرفة الطلاق الشرعي والعمل به، فهم يطلقون المرأة عند ابتداء كل طهر، كما فعل أبو حفص في طلاقه لزوجته فاطمة بنت قيس، وكما فعل هذا الرجل لأخت معقل، ومن لوازم هذا الطلاق الشرعي أنها تبقى في بيت الزوج وينفق عليها حتى تخرج من عدتها.

قال الصنعاني في سبل السلام:

واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثًا فيقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.

وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم تستند إلى دليل واضح، وعدم استفصال الرسول ﷺ لطلاق أبي ركانة هل أوقع الثلاث في مجلس واحد، لأنه كان الواقع في عهد رسول الله ﷺ عدم إرسال الثلاث، وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث، فإنه تقع عليها واحدة، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا لقبول الطلاق فكان لغوًا. انتهى.

ويدل على صحة رجوعه بالطلاق الواقع بالثلاث ما رواه ابن عباس من حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فندم عليها، فسأل النبي ﷺ فقال: إني طلقتها ثلاثًا في مجلس واحد. فقال: «قَدْ عَلِمْتُ ذلك، فَرَاجِعْهَا». رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وقال: إن هذا الحديث أصح من حديث البتة؛ لأن حديث البتة رواته مجاهيل.

فهذا حكم رسول الله ﷺ في طلاق المبتوتة وكونه يجوز رجعتها، والرجعية زوجية.

فمتى طلق زوجته واحدة أو ثلاثًا في مجلس واحد، فإنه يحكم فيها بطلقة واحدة، وتبقى عنده رجعية، والرجعية لا يلحقها الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه، لكون المحل والزمن والشرع غير قابل لزيادة على الطلقة الواحدة في الطهر الواحد، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض فسأل النبي ﷺ عن ذلك، ثم قال مرة: «فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ لِيُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».

ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطلاق الشرعي هو الرجعي. ويروى عن الإمام أحمد أنه كان يفتي بلزوم الطلاق بالثلاث في أول عمره، ثم قال الإمام أحمد: إني تدبرت كتاب الله وسنة رسوله فلم أر فيهما إلا الطلاق الرجعي. لهذا رجع عن الإفتاء بلزوم الثلاث.

وقال ابن جرير في التفسير على قوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ وتأويل الآية: عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كن مدخولاً بهن تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان لأنه لا رجعة له بعد أن طلقها الثالثة.

وقال: سنة الطلاق التي سننتها لكم وأبحتها لكم إن أردتم طلاق نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك عليكم إما أن تمسكوهن بمعروف أو تسرحوهن بإحسان.

وعن مجاهد: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحبّ أن يفعل. فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، ثم قال الله تعالى ذكره الثالثة:﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة: 229] فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع ثيابها. انتهى

قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله في الطلاق الرجعي والبائن في كتابه الأحوال الشخصية ما نصه:

كل طلاق يقع رجعيًّا إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية ولا يزيل الحل مادامت العدة قائمة. بل يكون المطلق له كل حقوق الزوج فله أن يراجعها في العدة في أي وقت شاء وأن المرأة حلال له، وحقوق الزوجية ثابتة لكل واحد منهما على صاحبه.

وإذا انتهت العدة في الطلاق الرجعي زالت الزوجية، ولكن يبقى الحل فله أن يعقد عليها في أي وقت شاء.

وفي أثناء العدة لا يمنع التوارث إذا مات أحدهما في العدة، فإذا مات الزوج في أثناء العدة ورثته الزوجة، وإذا ماتت الزوجة ورثها الزوج مادامت العدة كانت قائمة وقت الوفاة. ولا يحل بالطلاق الرجعي مؤجل المهر إذا كان مؤجلاً لأقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة. والطلاق يكون بائنًا في أربع أحوال:

1- إذا كان قبل الدخول؛ لأن الطلاق قبل الدخول يكون لغير عدة لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَا [الأحزاب: 49] وإذا كانت قبل الدخول لا عدة لها فلا يمكن مراجعتها.

2- إذا كان الطلاق على مال - الخلع - لأن الطلاق على مال هو لافتداء نفسها بما تقدمه من مال لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦ [البقرة: 229] ولا يمكن أن يتحقق افتداء مع ثبوت حق المراجعة في العدة، إذ يهدم هو بمراجعته فيها معنى الافتداء.

3- إذا كان الطلاق هو المكمل للثلاث فإذا طلقها واحدة وراجعها ثم طلقها أخرى وراجعها، ثم طلقها الثالثة، كان الطلاق بائنًا وكانت البينونة كبرى، وذلك لقوله تعالى بعد ذكر الطلقتين: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230].

فكانت الطلقة الثالثة هي نهاية ما سن له في الطلاق فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل.

4- الطلاق للعيب، والطلاق للسجن، والطلاق للتضرر بسبب الغيبة، والطلاق للضرر بسبب الإيذاء بالقول أو الفعل بما لا يليق بأمثالهما. وهذا الطلاق بائن بصورة الفسخ من قبل القاضي[391].

* * *

[390] أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي واللفظ له من حديث معقل بن يسار. [391] كتاب الأحوال الشخصية: ص 361،362،365،366.

الطلاق بالثلاث بدعة وحرام

ثم قال الكاتب رحمه الله في خاتمة بحثه نقلاً عن ابن العربي المالكي: (وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة - وإن كان حرامًا في قول بعضهم وبدعة في قول الآخرين - فإنه طلاق لازم). انتهى.

والجواب: أن هذا إنطاق من الله سبحانه بهذا الحق في هذا الطلاق الواقع بالثلاث جملة واحدة، وما كنا نتوقع نطقه به بعد أن رأينا شدة تعصبه لمذهبه، فهو يسلك في سبيل رأيه وإعلاء كلمته كل سبيل بفنون من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل، وكله يذهب جفاء ويرجع إلى الوراء.

والله تعالى يقول: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ [الرعد: 17].

فهذا الكاتب من بداية بحثه إلى نهايته وهو يدور على تصحيح الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة ويشير إلى أنه صحيح لازم.

وإننا لا نعلم في شريعة الإسلام حكمًا من الأحكام يتفق عليه علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام بأنه بدعة وحرام، ثم يتصدى قضاة المسلمين فيه بالصحة والإلزام، سوى هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، مع ما في الحكم به من الضنك والشدة والحرج والمشقة، بخلاف الطلاق الشرعي فإن فيه الراحة واليسر والسعة، فكانوا في استبدالهم به كما قال سبحانه: ﴿قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ [البقرة: 61].

وكما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

ومثله استدلاله بحديث ابن عباس في طلاق أبي ركانة ثلاثًا جميعًا في مجلس واحد، فرده النبي ﷺ فقال: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك» [392]. وهي حجة في موضع النزاع. ويقول في ترديدها: نعم، طلقها ثلاثًا في مجلس... ولم يثبت أن هذا الطلاق بلفظ واحد، يشير بهذا أنه إذا كانت الثلاث بألفاظ ثلاثة كأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنها بزعمه تطلق ثلاثًا، والكاتب - رحمه الله - لم يفقه المسألة حق الفقه، وإن كان هذا قولاً لبعض العلماء. والقول الصحيح أن الطلاق الشرعي يقع بأول طلقة من هذه الثلاث والطلقتان الزائدتان تعتبران لغوًا، لكون الطلاق لا يلحق الطلاق في طهر واحد، كما قالوا: إن الرجعية لا يلحقها الطلاق، وهي بالطلقة الأولى صارت رجعية يترتب لها لوازم الرجعية من النفقة والسكنى في المنزل، ثم إن تركها بعد هذه الطلقة الأولى ولم يراجعها حتى انقضت أقراؤها فإنها تبين منه بينونة صغرى.

ثم إنه كثر استدلاله بحديث محمود بن لبيد وأن رسول الله ﷺ أخبر أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا جميعًا فقام غضبان، وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله من شدة غضب رسول الله عليه [393].

ويقول الكاتب: إن سكوت الرسول عن هذا يدل على صحة طلاقه ولزومه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. ونقول: سبحان الله، فحسبه شدة غضب رسول الله عليه، وقوله: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، مما يدل بطريق الوضوح على تحريم هذا الطلاق الواقع بالثلاث جميعًا وعدم لزومه.

وإنما ذكرنا هذه النصوص لكثرة ما يرددها هذا الكاتب في بحثه، وهي حجة عليه لا له، وقد قال العلامة الصنعاني في سبل السلام بعد استعراضه لهذه الأحاديث التي ذكرناها ما نصه:

واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثًا: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.

وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم تستند إلى دليل واضح وعدم استفصال الرسول ﷺ لطلاق أبي ركانة هل أوقع الثلاث في مجلس واحد؛ لأنه كان الواقع في عهد رسول الله ﷺ عدم إرسال الثلاث.

وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث؛ فإنه تقع عليها واحدة، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا للطلاق فكان لغوًا. انتهى.

وقال الطحاوي وقد حكى القولين في كتابه شرح معاني الآثار، قال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثًا معًا. ثم ذكر حديث أبي الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قد وقعت عليها واحدة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً أمر أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة وطلقها على غير تلك الشريطة، أو أمره أن يُطلق في رمضان فطلقها في شعبان، أو أمره أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثًا؛ فإن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به. ثم ذكر حجج الآخرين القائلين بلزوم الثلاث معًا، وذكر الجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم يبرك على ركبتيه ويفجّر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق. ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه.

* * *

[392] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عباس. [393] أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد.

الحكم الشرعي في الطلاق السني والبدعي

قال[394] في المقنع في باب سُنة الطلاق وبدعته ج3 ص137:

السُّنة في الطلاق أن يطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. وإن طلق المدخول بها في حيضها، أو طهر أصابها فيه، فهو طلاق بدعة محرم ويقع، ويستحب رجعتها، وعنه أنها واجبة. انتهى.

والأصل في ذلك قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ [الطلاق: 1] أي إذا أردتم تطليق نسائكم فطلقوهن لعدتهن، أي في طهر دون جماع وبدون حيض. كما يفسره حديث ابن عمر في الصحيحين أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي ﷺ عن ذلك، قال له رسول الله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وفي رواية: فردّها عليّ ولم يرها شيئًا. وقوله تعالى: ﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ أي يحصر العدد لمدتها، لوقوع الخطر في الجهالة بها، فقد راجعها بدعوى أنها باقية في عدتها فله الحق في مراجعتها، ثم هي تدعي أنها خرجت من عدته فلا حق له في رجعتها، فيجري الخلاف بينهما على حساب ذلك. لهذا ورد الأمر بحصر العدة والإشهاد على الرجعة لزوال اللبس. والأمر بوجوب الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة متأكد لقوله: ﴿وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ [الطلاق: 2]. والأمر يقتضي الوجوب.

وقد ذكر الفقهاء كون الرجعة تصح بالفعل ولو بدون إشهاد، كأن يمسها أو يقبلها مما يدل على رغبته فيها، لاعتبارها زوجتة، ولا شك أن الأفضل الإشهاد على الرجعة تأسيًا بالقرآن وحذرًا من النكران. ثم قال: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1] مما يدل بطريق الوضوح على أن لكل مطلقة عدة وأن للزوج الحق في ارتجاعها في مدتها ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ [البقرة: 228] ثم قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة:228]، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [البقرة: 228] أي ثلاث حيض. أي في زمن العدة. وهذه الرجعة حق للزوج حيث جعلت امرأته بمثابة المحادة في بيته زمن عدتها رجاء مراجعتها، فإبطال هذه الرجعة فيما يسمونه المبتوتة لا صحة له، فلكل مطلقة الحق في النفقة والكسوة والسكنى، وكذا مراجعة الزوج لها مدة عدتها، فكل هذه من الحقوق التي أوجبها الله سبحانه فلا حق لأحد في أن يحتال لإسقاطها أو يحكم ببطلانها، فقضاء الله أحق وحكمه ألزم.

وحتى الآيسات من العجائز أو البنات الصغيرات اللائي لم يحضن قد أوجب الله عليهن العدة بثلاثة أشهر لقوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ [الطلاق: 4] كالبنات الصغيرات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا. وهذه العدة جعلت في مصلحة الزوجين بحيث تكون المرأة المحادَّة في بيته مدة العدة أي ثلاثة أشهر رجاء مراجعته لها، فتبقى في منزله وينفق عليها من ماله لاعتبار أن الرجعية زوجته.

وفيها أنزل الله: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ [الطلاق: 6] فتبطلوا حق الله فيما حكم به لهن.

وقد حكم رسول الله ﷺ - وحكمه حق وعدل - أن للزوجة النفقة والسكنى مادام للزوج حق الرجعة عليها، وإذا لم يكن له رجعة بأن خرجت من عدته فلا نفقة لها ولا سكنى. وحتى لو مات أحدهما في أثناء العدة فإنه يرثه الآخر.

قال في الفروع ج5 ص538:

وإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت وابتدأت عدة وفاة من حين موته، لكونها وارثة. ثم قال: ويلزم الإحداد في العدة كل متوفى عنها في نكاح صحيح فقط. انتهى.

لكون الرجعية زوجية فتدخل في عموم قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ [البقرة: 234].

إلا الحامل فإن عدتها في الطلاق وفي وفاة الزوج بوضع حملها، سواء قصرت مدتها أو طالت؛ لقوله سبحانه: ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ [الطلاق: 4] من سورة الطلاق وهي إنما نزلت بعد سورة البقرة.

وفي الصحيح أن سبيعة الأسلمية[395] نفست بعد وفاة زوجها بأربعين يومًا فتجمّلت للخطّاب. قال لها أبو السنابل بن بعكك: والله ما أنتِ بناكحة حتى يمر عليك أطول الأجلين. قالت: فأخذت عليَّ ثيابي فأخبرت رسول الله ﷺ بقول أبي السنابل، فقال: «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ، فَقَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ» [396]. متفق عليه، ولهذا كان ابن مسعود يقول: من شاء لاعنته من كون الحامل عدتها في الطلاق وفي الوفاة بوضع حملها، سواء قصر أو طال - فكيف تجعلون عليها التطويل والتثقيل ولا تجعلون لها الخفيف؟!

وقد علمنا مما سبق قول الموفّق أن من طلق زوجته في حيضها أو في طهر أصابها فيه فإنه بدعة، ويقع، ويستحب مراجعتها، وفي الرواية الثانية أنه يجب مراجعتها.

فقد عرفت من هذه الرواية للإمام أحمد أنه متى وقع الطلاق على الطريق البدعي كالطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه أو بالثلاث جميعًا، فإنه يجب رجعتها في إحدى الروايتين. وهذا هو الرأي الأخير من الإمام أحمد كما حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الإمام أحمد أفتى في أول عمره بالإلزام بالثلاث، ثم رجع عنه إلى القول بجعل الثلاث عن طلقة واحدة، وقال: إني تدبرت الكتاب والسنة فلم أر فيهما إلا الطلاق الرجعي. وصدق في ذلك فإن الإلزام بالثلاث مع ما يترب عليه من سقوط النفقة والسكنى والرجعة أنه قول مبتدع ليس له دليل من الكتاب ولا من السنة.

وبمعناه الطلاق بالثلاث جميعًا بلفظ واحد أو في ألفاظ متعددة في طهر واحد فإنه طلاق بدعة أيضًا، لما روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله ﷺ عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام رسول الله ﷺ غضبان وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ من شدة غضب رسول الله. وهو لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله.

وقد رد رسول الله ﷺ طلاق أبي ركانة الواقع منه بالثلاث في مجلس واحد فحزن عليها، فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك».

ونص الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: طلق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول اللهﷺ: «رَاجِعْ امْرَأَتَك» فقال: إني طلقتها ثلاثًا. قال: «قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا». رواه أبو داود وفي لفظ لأحمد: طلق أبو ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثًا فحزن عليها، فقال له رسول الله ﷺ: «فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ». وروى أبو داود من وجه آخر أن أبا ركانة طلق امرأته سهيمة البتة، فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة. فردها إليه النبي ﷺ. وقد أسلفنا الكلام على طلاق أبي ركانة وقضية المبتوتة من رسالتنا هذه فليراجع.

لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الإمام أحمد والبخاري وأبا عبيدة ضعفوا حديث البتة، وقالوا: إنه ليس بشيء ورواته مجاهيل فسقط الاستدلال به. وقد قيل: إن أهل المدينة يسمون الثلاث البتة، فدل الحديثان الأولان على أن الطلاق بالثلاث جميعًا إنما يرد إلى واحدة.

وقال في المغني: والرواية الثانية: أن جمع الثلاثِ طلاقُ بدعة محرمٌ اختارها أبو بكر وأبو حفص، وروي ذلك عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. قال علي رضي الله عنه: لا يطلق أحد للسنة فيندم. وفي رواية قال: يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها، وعن عمر أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثًا أوجعه ضربًا. انتهى.

وتطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه وليست بحائض هي السنة بالإجماع امتثالاً لأمر الله سبحانه، وموافقة لقول السلف، وأمنًا من الندم. فإنه متى ندم راجعها، فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها بعقد جديد. قال محمد بن سيرين: إن عليًّا كرم الله وجهه قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق، ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدًا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثًا، فمتى شاء راجعها [397].

وإذا قال: أنت طالق للسُّنة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضة فإنها تطلق طلقة واحدة، ومثله الوكيل في الطلاق فإنه يلزم الطلاق بواحدة لكون الوكيل لا يملك إلا واحدة وهي طلاق السنة.

وإن كل من تأمل نصوص الفقهاء في الطلاق وفي غير الطلاق، وجد بعضهم ينقل عن بعض القول على علاته، كما استدلوا على جواز الطلاق بالثلاث جميعًا بلفظ واحد أو بألفاظ في طهر واحد، وكونه طلاقًا بائنًا لا تحل لزوجها إلا بعد نكاح زوج غيره؛ مع اعترافهم بأنه طلاق بدعة وحرام، وكون الحكم ببينونتها يخالف حكم الله ورسوله في قوله: ﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1]. ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وفي قوله: ﴿لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ [الطلاق: 1]. وفي قوله في الآيسات: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ [الطلاق: 6].

وفي حكم النبي ﷺ على طلاق أبي ركانة الواقع منه بالثلاث جميعًا فقال له النبي ﷺ: «رَاجِعْ امْرَأَتَك» وفي قول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[398].

وكل الأحاديث التي استدلوا بها على جواز الطلاق بالثلاث كلها تدور بين صحيح ليس بصريح وبين صريح ليس بصحيح، كاستدلالهم بطلاق الملاعن عويمر العجلاني، وقد وقعت الفرقة الأبدية بمجرد اللعان فوافق طلاقه لغوًا. ومثله استدلالهم بطلاق أبي ركانة البتة. وقد حقق أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد بأن حديث البتة ليس بشيء ورواته مجاهيل فسقط الاستدلال به. وكحديث فاطمة بنت قيس فإن زوجها أبا حفص طلقها ثلاثًا تدريجيًّا مفرقة، حتى أرسل لها وهو باليمن آخر ثلاث تطليقات، وقد قضت عدتها في بيته واستوفى مطلقها غاية ما سُنَّ له، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى. وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، فليس من باب المبتوتة وإنما هو من باب الطلاق الشرعي، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه أجاز الطلاق بالثلاث.

ومن عجيب شدة التعصب للمذهب مع العلم بضعفه ما ذكره الكاتب عن الإمام ابن العربي رحمه الله في قوله:

وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد في الأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة - وإن كان حرامًا في قول بعضهم وبدعة في قول الآخرين - فإنه طلاق لازم. انتهى.

فالجواب أن نقول: إننا لا نعلم في شريعة الإسلام حكمًا من الأحكام يقول فيه علماء الإسلام بأنه بدعة وحرام، ثم يحكم فيه القضاة بالصحة والإلزام، إلا هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، مع ما فيه من الحرج والمشقة، بدلاً من الطلاق الشرعي الذي فيه الراحة والرحمة والسعة، فكانوا فيه كما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة، فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكمُ ضروب
وإنه ما من أحد من كبار العلماء إلا وقد عرف حقيقة الطلاق الشرعي والطلاق البدعي.

لكن بعضهم يختار الحكم بالطلاق البدعي لأن فيه شدة وغلظة على العوام، ممن يحبون عدم التسرع إليه والتوسع فيه، فصار العمل بهذا عقيدة لهم وطريقة، وهي نفس ما فعله عمر رضي الله عنه من إلزام الناس بالثلاث جميعًا.

لكن هنا أمر ينبغي أن يفطن له، وهو أن الصحابة كلّهم والتابعين وأئمة المذاهب والعلماء المتقدمين والمتأخرين، فكل هؤلاء ليسوا بمعصومين، فقد يقع الخطأ من بعضهم في قول مرجوح قاله، أو رأي انتحله على سبيل الاجتهاد الخطأ، وله على خطئه أجر. لكن لا يكون المنتصر لخطئه أو المقلد له في رأيه بمثابته في حصول الأجر، وحتى الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر والبحث والتفتيش عن الحق في مظانّه حتى يقف على عينه، فيأخذ به ويحكم بموجبه، لأنه لو اغتفر التقليد في حق العوام فلن يغتفر في حق العلماء الأعلام، الذين أوقفوا نفوسهم في الاشتغال بالعلم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، لكون العلم هو معرفة الحق بدليله مع بيان صحيحه من عليله، فمن علم بشيء منه فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. فما عالم بدينه كمقلده.

وقد اتفق جميع علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام على أن من استبان له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.

* * *

[394] المؤلف هو عبد الله بن أحمد بن قدامة صاحب التصانيف العظيمة، منها: عمدة الفقه، والمقنع، والكافي، والمغني في عشرة مجلدات. وقد توفي عام 620هـ. [395] سبيعة الأسلمية هي زوجة سعد بن خولة توفي بمكة عام الفتح ورثاه رسول الله ﷺ بقوله: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ غَيْرَ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ» يرثي له رسول الله أن مات بمكة. رواه البخاري. [396] متفق عليه من حديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية. [397] ذكره ابن قدامة في الشرح الكبير. [398] أخرجه مسلم من حديث عائشة.

وجوب العدة وجواز الرجعة زمنها

فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [البقرة:229] فصرحت هذه الآية بأن لكل مُطلقة عدة بحسبها، وأفادت جواز الرجعة خلالها في إمساكها بارتجاعها متى رغب فيها، أو تسريحها متى انتهت من غسلها من الحيضة الثالثة.

وهذه الآية - كنظائرها - نص في وجوب العدة لكل مطلقة تتربص فيها؛ ريثما يفكر الزوج في عزمه على رجعتها أو على فراقها فيتركها حتى تنتهي من غسلها من حيضتها الثالثة فتبين منه وتحل للأزواج.

نظيرها قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة: 132]. أي شارفن على انقضاء عدتهن ولم يحضن بعد، فعند ذلك يفكر الرجل في أمره، فإن رغبها ارتجعها وتكون عنده زوجة له كحالتها السابقة، وإن رغب عنها تركها تمضي في سبيل إكمال عدتها، فبعد غسلها من الحيضة الثالثة تحرم عليه وتحل للأزواج، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ [البقرة: 231] ونظيره من سورة الطلاق: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ [الطلاق: 2] فقوله: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّۚ أي قاربن على انقضاء عدتهن بإقبالهن على الحيضة الثالثة ولمّا يحضن بعد، في ذلك الوقت يفكر الرجل في إمساكها بارتجاعها بالمعروف أو فراقها بأن يخلي بينها وبين إكمال عدتها بفراغها من غسلها من حيضتها الثالثة؛ فعند ذلك تحرم عليه وتحل للأزواج.

فهذه الآيات تؤكد أن لكل مطلقة عدة تتربص فيها، وأن للزوج جواز الرجعة في خلالها فرضًا محتمًا، فليس في شريعة الإسلام طلاق بائن بدون عدة ولا رجعة. فالحكم بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا وكونه طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه ولا نفقة ولا سكنى هو من باب اتخاذ آيات الله هزوًا ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

وإن المقلدين من علماء الدين قد اتخذوا هذه الأحكام بمثابة المنسيات أو المنسوخات من أحكام شريعة الإسلام، وجعلوا هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا من قبيل العقوبة الصارمة أو الصاعقة النازلة على هذه المرأة الضعيفة، بحيث تحل بها ثم تنقلها إلى بيت أهلها بدون إكرام ولا احترام، وبدون رحمة ولا حنان، وبدون إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ولم ينزل الله هذه الآيات المحكمات إلا للعمل بها ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩ [البقرة: 229]. ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] والله أعلم.

أما طلاق غير المدخول بها فإنه لا عدة عليها لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩ [الأحزاب: 49] وإن فرض لها في صلب العقد مهرًا معلومًا، فإنها تستحق نصف المسمى لقوله سبحانه: ﴿وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ [البقرة: 237] أما إذا خلا بها بعد العقد فإنها تستحق المسمى بكماله، فقد قضى الخلفاء الراشدون على أن من أسبل الحجاب وأغلق الباب وخلا بامرأته قد وجب عليه جميع المسمى.

آداب عقد النكاح وإثبات الطلاق

إن من الأمر المؤكد أن يوجد مقر يجتمع فيه الناس لعقد الأنكحة وإثبات الطلاق، ويتولى هذا المجلس أناس فقهاء يعرفون أحكام النكاح والطلاق، وإن العلم بالتعلم، وكثرة المزاولات تعطي الملكات أي الحذق في المعرفة.

هذا وإن عقد النكاح أيسر في نفوسنا من إثبات الطلاق، لكون الأنكحة يعرفها كل العوام، وأنها تدور على الإيجاب والقبول، والولي وشاهدي عدل، ورضا الزوجة وإزالة الموانع، كصحة خروجها من عدة من طلقها وعدم الإكراه على زواجها، وهذا كله معروف بلا إشكال.

وإنما الأمر المشتبه على أكثر العلماء وكل العوام هو الطلاق وكيفية آدابه وحلاله وحرامه. والإسلام وإن كان يجعل الطلاق مفوضًا للزوج وحقًّا من حقوقه، لكنه لم يجعله حقًّا مطلقًا يستعمله كيفما شاء، ويوقعه في أي وقت أراد. وإنما وضع له قيودًا إذا راعاها الزوج كان إيقاع الطلاق مباحًا لا إثم فيه، وإذا فقدت أو فقد واحد منها كان إيقاعه محظورًا.

وإن من الواجب على الفقيه أن يعلّم الناس كيفية ما يجب عليهم من الطلاق عند حاجتهم إليه...

أولاً: أن الطلاق بدون سبب يوجبه يعد من الأمر المكروه عند الله وعند رسوله، والله تعالى نهى الأزواج عن التعرض للزوجات إذا استقام أمرهن وصلح حالهن في قوله سبحانه: ﴿فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ [النساء: 34] والنبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ»[399]. فلو طلق الرجل زوجته بدون سبب يدعو إلى طلاقها كان آثمًا، ولكن الطلاق الذي أوقعه يكون معتبرًا ومعتدًّا به شرعًا.

ثانيًا: يُشعر الزوج بأنه لا يحل له أن يطلق زوجته في طهر جامعها فيه، كما لا يحل للفقيه وكاتب الوثائق أن يثبت طلاقه بهذه الصفة؛ لكونه أمرًا محرمًا، فيكون شريكًا له في الإثم، فيقول: أخّر الطلاق حتى تحيض ثم تطهر.

ثالثًا: أن تكون الزوجة غير حائض، فإن الطلاق في حالة الحيض محرم لا يحل إثباته ولا الشهادة عليه حتى تزول عنها الحيضة، ثم يستقبل الطلاق في الطهر.

رابعًا: لا يجوز أن يطلقها بالثلاث مجتمعة، سواء كانت بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، كما يجب على الفقيه ألا يثبت طلاق هذا إلا عن طلقة واحدة.

وصفة الإثبات لهذا الطلاق هو أن يقول:

إنه بتاريخ يوم....../....../ من........ عام......

حضر فلان بن فلان وطلب مني سماع طلاقه لزوجته فلانة بنت فلان...... وأنه طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، وقد أشعرته بحكم الشرع بأن هذا الطلاق يقع عن طلقة واحدة بالكتاب والسنة، كما أشعرته بأن المرأة تبقى زوجة له رجعية كحالتها السابقة، ويجوز أن ينظر إليها بلا محظور وأن ينفق عليها مادامت في العدة، فإن طلقها طلقة ثانية في طهر لم يجامعها فيه فهما طلقتان، ثم يفكر في نفسه فإن رغب في إمساكها فإنه يراجعها، والأفضل أن يشهد على رجعتها، وتكون عنده زوجة له كحالتها السابقة، حتى إذا حاضت من حيضتها الثالثة بانت منه وحرمت عليه.

لكنه لو ندم عليها جاز له أن يتزوجها بعقد جديد، أما إذا طلقها الثالثة فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره...

وإن هذه الأحكام يجب تعليمها للعوام حتى يتربوا على العلم بأحكام الطلاق الشرعي.

ثم الحكمة من هذا التشريع هو رغبة المشرع الحكيم في تحاشي وقوع الطلاق، وإبقاء الزوجين على حالة الحياة الزوجية ما أمكن؛ لأن الزوج إذا أراد الطلاق ومنعه الشارع من إيقاعه في فترة الحيض وفي حالة الطهر الذي واقع زوجته فيه، وطالبه بالانتظار حتى ينتهي الحيض، ثم يوجد الطهر الذي لم يخالطها فيه، وجد أمامه مدة من الزمن يتروى فيها ويفكر في الأمر العظيم الذي سيقدم عليه، وقد يدعوه ذلك إلى العدول عن الطلاق والإبقاء على الزوجية ويحل الوفاق محل القطيعة والشقاق... وبذلك تصان الحياة الزوجية وتحفظ الأسر من التفكك والانحلال لكراهة الشارع التسرع في الطلاق والتوسع فيه.

ثم إن الطلاق الذي يجوز سماعه وإثباته هو أن يطلق زوجته طلاق السنة أو بالطلقة الواحدة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضًا، فيثبت هذا الطلاق رجعيًّا، بمعنى أن يشعر الزوج وكذا الزوجة بتريثهما إلى حين أن تحيض الحيضة الأولى، فإن طلقها ثانيًا جاز ذلك وتعتبر طلقتين، ثم هو مخير بين أن يمسكها بالمعروف وذلك بارتجاعه لها والأفضل أن يشهد على رجعتها فتبقى زوجة له كحالتها السابقة، فإن تركها ولم يراجعها حتى حاضت الحيضة فإنها تطلق منه وتحرم عليه؛ لكنه لو ندم على طلاقها جاز له ذلك بعقد مستأنف من جديد، أما إذا طلقها الثالثة فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، ويكون نكاح رغبة لا نكاح تحليل؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ [البقرة: 230] ويكون بالطلقة الثالثة كمن أغلق الباب بينه وبين الاتصال بزوجته.

وقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه: الأحوال الشخصية ص357: إن الطلاق المتعدد بلفظ الثلاث، أو بإشارة مقترنة بالثلاث، أو بثلاث طلقات متتابعات في مجلس واحد، يقع طلقة واحدة، لأن السنة أن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولا في الحيض قبله، فإذا خالف السنة وطلق اثنتين أو ثلاثًا بلفظ واحد، فإنه يمضي عليه ما أذن به الشارع وهو وقوع طلقة واحدة ويكون الباقي لغوًا. وأيضًا إن الطلاق كما هو صريح الآية الكريمة ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ [البقرة: 229] لا يقع إلا في دفعات، فلا يقع مرة واحدة، فإذا أوقعه دفعة واحدة بلفظ الثلاث، أو بالنطق ثلاث مرات، فإنه لا تقع إلا واحدة والعدد لغو، أو ما يجيء بعد ذلك لغو لا يلتفت إليه.

وقد جاء القانون المعمول به في مصر رقم25 لسنة 1929م وعالج هذه الحال باعتبار أن الطلاق المتعدد لا يقع إلا واحدة، وهو مذهب طائفة من السلف وتبعهم بعض الفقهاء، ونصت على ذلك الحكم المادة الثالثة وهي: الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلا واحدة. انتهى.

كما أن غالب بلدان العالم الإسلامي اليوم تأخذ بهذا، أي تجعل الطلاق المقترن بعدد لا يقع إلا طلقة واحدة.

وإن المقصد من الحكم الشرعي في الطلاق هو حمل المطلق على ألا يسير إلا في الطريق الذي رسمه القرآن الكريم، فلا يطلق دفعة واحدة، والطلاق في المجلس الواحد ولو متتابعًا يعد دفعة واحدة.

* * *

[399] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر.

خاتمة الرسالة

أرفع كتابي هذا لعلماء الإسلام وللرؤساء والحكام، عليهم مني السلام. إن فائدة الاستماع الاتباع وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولكونه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وإن العلماء الكرام هم قادة العوام في أحكام الإسلام وأمور الحلال والحرام.

وإننا متى قلنا: إننا متبعون لا مبتدعون، وإننا مسلمون مستسلمون للانقياد لأمر الله واجتناب نهيه والحكم بما شرعه في كتابه وعلى لسان نبيه، والعمل بموجبه، فيجب علينا أن نرد الطلاق البدعي الذي هو من شريعة البشر إلى الطلاق السُّني، فقضاء الله أحق وحكمه ألزم.

إن جميع العوام الخاص منهم والعام قد تربوا على الطلاق البدعي، حتى إنهم لا يعرفون الطلاق السُّني الشرعي.

وزيادة على ذلك فإن العلماء في بعض البلدان قد منعوا بطريق الإلزام عن الحكم بالطلاق الشرعي، ويلزمون الناس بالطلاق البدعي الذي متى طلقها زوجها ثلاثًا بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة وربما كان في طهر جامعها فيه أو في الحيض فيلزمونه بذلك، ويجعلونه طلاقًا بائنًا لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، ويمنعون عن الحكم بالطلاق الشرعي الذي متى وقع بلفظ الثلاث في طهر لم يمسها فيه وليست بحائضة فإنه يرد إلى طلقة واحدة، عملاً بحكم رسول الله ﷺ في طلاق أبي ركانة حيث طلق زوجته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك» [400].

إن الطلاق بجملته بغيض عند الله لما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أن النبيﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» لكن حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض، والشارع الحكيم قد ضيق مسالك الطلاق لمصلحة استدامة الزواج وخشية التسرع إليه والتوسع فيه، فيجب على العلماء أن يُعلموا كافة العوام الأدب مع الله في الطلاق الشرعي وكونه يجب على من احتاج إليه أن يطلق امرأته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضة، فتبقى في بيته رجعية لكون الرجعة فرضها الله كما فرض الصلاة والصيام، فمتى طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو في طهر واحد فإنها ترد إلى طلقة واحدة، فلا يخرجها من بيته لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ [الطلاق: 1] ولهذا يقول ابن عباس: إن الطلاق عند أول كل طهر ولكل مطلقة عدة لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي زمن العدة، ولا مانع ولا حرام من أن يرى وجهها كحالتها السابقة، ويجوز أن تتجمل له رجاء أن يراجعها، فإن بدا له أن يراجعها بعد الطلقة الأولى سواء كانت بالواحدة أو بالثلاث بلفظ واحد أو في طهر واحد، فإنه ينبغي أن يشهد على رجعتها كما يشهد على طلاقها.

فهذا هو الطلاق السُّني الذي شرعه الله لعباده مصلحة ورحمة لهم، وفيه السعة والفرج والمخرج مما يقعون فيه من الحرج، وفيه حسن العاقبة ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] وهو اليسر الذي أراده الله بعباده في قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] وهذا الطلاق بصفته يسمى طلاق الرجعة، والرجعية زوجية.

أما الطلاق البدعي فإنه على صفته ما يفعله بعض القضاة حيث يحكمون على الناس متى طلق أحدهم زوجته بالثلاث بلفظ واحد أو بعدد ألفاظ في طهر واحد فإنهم يلزمونه به، ويحكمون أنه طلاق بائن لا تحل لزوجها إلا بعد زوج آخر، سبحانك هذا بهتان عظيم، إن هذا الإلزام بهذا الطلاق المبتوت يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار ما لا يحصى: ففيه إبطال حكم العدة التي شرعت ليتروى الزوج في أثنائها، ويتفكر في أمره، حتى لو بدا له راجعها بسهولة وبدون عقد ولا وَلي، ولم تشرع العدة إلا لهذا. أما العلم ببراءة رَحمها فإنه يعلم من حيضة واحدة، ففي هذا الحكم الجائر المتضمن لبطلان العدة والرجعة أنه حكم بإلزام الناس بالحرج والمشقة، والله يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78] ثم هو حكم بالعسر على الناس، والله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول، لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة، فضلاً عن غيرهم، فيحكمون بخلافها تم يتبيّن لهم وجه الصواب فيها، فيعودون إليه؛ لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ فإنه قد يحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها، لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم؛ لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وأنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن، والحديث، والتفسير، وأعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق والتدقيق، وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها، بحيث يخرجها من حيز الخفاء والغموض إلى حيز التجلي والظهور، بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه - والحالة هذه - سيجد سعة لعذرنا، ومندوحة عن عذلنا فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأصول بعضها ببعض، فيخصّص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، ويربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب، مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية بالأدلة القويمة القوية والمألوفة المعروفة حيث تقبلها العقول، ويتلقاها العلماء بالقبول لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.

* * *

[400] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عباس.